الكتاب: الكامل في التاريخ
المؤلف: ابن الأثير
الجزء: ٣
الوفاة: ٦٣٠
المجموعة: مصادر التاريخ
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع: ١٣٨٦ - ١٩٦٦م
المطبعة: دار صادر - دار بيروت
الناشر: دار صادر للطباعة والنشر - دار بيروت للطباعة والنشر
ردمك:
ملاحظات:

الكامل في التاريخ
3
1

الكامل في التاريخ
تأليف
الشيخ العلامة عز الدين أبي الحسن علي بن أبي الكرم
محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني المعروف
بابن الأثير
المجلد الثالث
دار صادر
للطباعة والنشر
دار بيروت
للطباعة والنشر
بيروت
1385 ه‍ _ 1965 م
3

بسم الله الرحمن الرحيم
21
ثم دخلت سنة إحدى وعشرين
ذكر وقعة نهاوند
قيل: فيها كانت وقعة نهاوند، وقيل: كانت سنة ثمان عشرة، وقيل سنة تسع عشرة.
وكان الذي هيج أمر نهاوند أن المسلمين لما خلصوا جند العلاء من بلاد فارس وفتحوا الأهواز كاتبت الفرس ملكهم وهو بمرو فحركوه، وكاتب الملوك من بين الباب، والسند، وخراسان، وحلوان فتحركوا وتكاتبوا واجتمعوا إلى نهاوند، ولما وصلها أوائلهم بلغ سعدا الخبر فكتب إلى عمر وثار بسعد قوم سعوا به وألبوا عليه ولم يشغلهم ما نزل بالناس، وكان ممن تحرك في أمره الجراح بن سنان الأسدي في نفر فقال لهم عمر: والله ما يمنعني ما نزل بكم من النظر فيما لديكم. فبعث عمر محمد بن مسلمة والناس في الاستعداد للفرس، وكان محمد صاحب العمال يقتص آثار من شكا زمان عمر، فطاف
5

بسعد علن أهل الكوفة يسأل عنه، فمما سأل عنه جماعة إلا أثنوا عليه خيرا سوي من مالأ الجراح الأسدي فإنهم سكتوا ولم يقولوا: سوءا ولا يسوغ لهم حتى انتهى إلى بني عبس فسألهم فقال أسامة بن قتادة: اللهم إنه لا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية، ولا يغزو في السرية. فقال سعد: اللهم إن كان قالها رياء وكذبا وسمعة فأعم بصره وأكثر عياله، وعرضه لمضلات الفتن. فعمي، واجتمع عنده عشر بنات، وكان يسمع بالمرأة فيأتيها حتى يجسها فإذا عثر عليه قال: دعوة سعد الرجل المبارك. ثم دعا سعد على أولئك النفر فقال: اللهم إن كانوا خرجوا أشرا وبطرا ورياء فاجهد بلادهم فجهدوا، وقطع الجراح بالسيوف يوم بادر الحسن بن علي عليه السلام ليغتاله بساباط، وشدخ قبيصة بالحجارة، وقتل أربد بالوج. ونعال السيوف.
وقال سعد: إني أول رجل أهراق دما من المشركين، ولقد جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه وما جمعهما لأحد قبلي. ولقد رأيتني خمس الإسلام وبنو أسد تزعم أفي لا أحسن أصلي، وأن الصيد يلهيني.
وخرج محمد بسعد وبهم معه إلى المدينة فقدموا على عمر فأخبروه الخبر فقال: كيف تصلي يا سعد؟ قال: أطيل الأوليين واحذف الآخريين. فقال:
6

هكذا الظن بك يا أبا إسحاق ولولا الاحتياط لكان سبيلهم بينا. وقال: من خليفتك يا سعد على الكوفة؟ فقال: عبد الله [بن عبد الله] بن عتبان فأقره فكان سبب نهاوند وبعثها زمن سعد.
وأما الوقعة فهي زمن عبد الله فنفرت الأعاجم بكتاب يزدجرد فاجتمعوا بنهاوند على الفيرزان في خمسين ألفا ومائة ألف مقاتل، وكان سعد كتب إلى عمر بالخبر ثم شافهه به لما قدم عليه، وقال له: إن أهل الكوفة يستأذنونك في الانسياح وأن يبدأ وهم بالشدة ليكون أهيب لهم علن عدوهم.
فجمع عمر الناس واستشارهم، وقال لهم: هذا يوم له ما بعده، وقد هممت أن أسير فيمن قبلي ومن قدرت عليه فأنزل منزلا وسطا بين هذين المصرين ثم أستنفرهم وأكون لهم ردءا حتى يفتح الله عليهم ويقضي ما أحب فإن فتح الله عليهم صببتهم في بلدانهم.
فقال طلحة بن عبيد الله: يا أمير المؤمنين قد أحكمتك الأمور، وعجمتك البلابل واحتنكتك التجارب وأنت وشأنك ورأيك لا ننبو في يديك ولا نكل عليك إليك هذا الأمر فمرنا نطع وادعنا نجب واحملنا نركب وقدنا ننقد، فإنك ولي هذا الأمر وقد بلوت وجربت واختبرت فلم ينكشف شيء من عواقب قضاء الله لك إلا عن خيارهم. ثم جلس.
فعاد عمر فقام عثمان فقال: أرى يا أمير المؤمنين أن تكتب إلى أهل الشام فيسيروا من شامهم، وإلى أهل اليمن فيسيروا من يمنهم ثم تسير
7

أنت بأهل الحرمين إلى الكوفة والبصرة فتلقى جمع المشركين بجمع المسلمين فإنك إذا سرت قل عندك ما قد تكاثر من عدد القوم وكنت أعز عزا وأكثر، يا أمير المؤمنين إنك لا تستبقي بعد نفسك من العرب باقية ولا تمنع من الدنيا بعزيز ولا تلوذ منها بحريز إن هذا يوم له ما بعده من الأيام، فاشهده برأيك وأعوانك، ولا تغب عنه. وجلس.
فعاد [عمر] فقام إليه علي بن أبي طالب فقال: أما بعد يا أمير المؤمنين فإنك إن أشخصت أهل الشام من شامهم سارت الروم إلى ذراريهم، وإنك أشخصت أهل اليمن من يمنهم سارت الحبشة إلى ذراريهم، وإنك إن أشخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها حتى يكون ما تدع وراءك أهم إليك مما بين يديك من ا لعورات والعيالات. أقرر هؤلاء في أمصارهم واكتب إلى أهل البصرة فليتفرقوا فيها ثلاث فرق فرقة في حرمهم وذراريهم، وفرقة في أهل عهدهم حتى لا ينتقضوا، ولتسر فرقة إلى إخوانهم بالكوفة مددا لهم، إن الأعاجم إن ينظروا إليك غدا قالوا: هذا أمير المؤمنين أمير العرب وأصلها فكان ذلك أشد لكلبهم عليك. وأما ما ذكرت من مسير القوم فإن الله هو أكره لمسيرهم منك، وهو أقدر على تغيير ما يكره، وأما عددهم فإنا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة ولكن بالنصر.
فقال عمر: هذا هو الرأي كنت أحب أن أتابع عليه، فأشيروا علي برجل أوليه. وقيل: إن طلحة وعثمان وغيرهما أشاروا عليه بالمقام والله أعلم.
فلما قال عمر: أشيروا علي برجل أوليه ذلك الثغر وليكن عراقيا فقالوا: أنت أعلم بجندك وقد وفدوا عليك. فقال: والله لأولين أمرهم رجلا يكون
8

أول الأسنة إذا لقيها غدا. فقيل: من هو؟ فقال: هو النعمان بن مقرن المزني. فقالوا: هو لها.
وكان النعمان يومئذ معه جمع من أهل الكوفة قد اقتحموا جند يسابور، والسوس، فكتب إليه عمر يأمره بالمسير إلى ماه لتجتمع الجيوش عليه، فإذا اجتمعوا إليه سار بهم إلى الفيرزان ومن معه. وقيل بل كان النعمان بكسكر. فكتب إلى عمر يسأله أن يعزله ويبعثه إلى جيش من المسلمين، فكتب إليه عمر يأمره بنهاوند فسار.
فكتب عمر إلى عبد الله بن عبد الله بن عتبان ليستنفر الناس مع النعمان كذا وكذا ويجتمعوا عليه بماه فندب الناس فكان أسرعهم إلى ذلك الروادف ليبلوا في الدين وليدركوا حظا.
فخرج الناس منها وعليهم حذيفة بن اليمان ومعه نعيم بن مقرن حتى قدموا على النعمان، وتقدم عمر إلى الجند الذين كانوا بالأهواز ليشغلوا فارسا عن المسلمين وعليهم المقترب، وحرملة وزر، فأقاموا بتخوم أصبهان وفارس وقطعوا أمداد فارس عن أهل نهاوند، وأجتمع الناس على النعمان وفيهم حذيفة بن اليمان، وابن عمر، وجرير بن عبد الله البجلي، والمغيرة بن شعبة، وغيرهم. فأرسل النعمان طليحة بن خويلد، وعمرو بن معد يكرب، وعمرو بن ثنى - وهو ابن أبي سلمى - ليأتوه بخبرهم وخرجوا وساروا يوما إلى الليل فرجع إليه
عمرو بن ثنى فقالوا: ما رجعك؟ فقال: لم أكن في أرض العجم وقتلت أرض جاهلها وقتل أرضا عالمها. ومض طليحة. وعمرو
9

ابن معد يكرب فلما كان آخر الليل رجع عمرو فقالوا: ما رجعك؟ قال: سرنا يوما وليلة ولم نر شيئا فرجعت، ومضى طليحة حتى انتهى إلى نهاوند وبين موضع المسلمين الذي هم به ونهاوند بضة وعشرون فرسخا فقال الناس: ارتد طليحة الثانية فعلم كلام القوم ورجع، فلما رأوه كبروا فقال: ما شأنكم؟ فأعلموه بالذي خافوا عليه، فقال: والله لو لم يكن دين إلا العربي ما كنت لأجزر العجم الطماطم هذه العرب العاربة. فأعلم النعمان أنه لير بينهم وبين نهاوند شيء يكرهه ولا أحد.
فرحل النعمان وعبى أصحابه وهم ثلاثون ألفا، فجعل على مقدمته نعيم بن مقرن وعلى مجنبتيه حذيفة بن اليمان، وسويد بن مقرن، وعلى المجردة القعقاع بن عمرو، وعلى الساقة مجاشع بن مسعود، وقد توافت إليه أمداد المدينة، فيهم المغيرة بن شعبة فانتهوا إلى إسبيذهان والفرس وقوف على تعبيتهم، وأميرهم الفيرزان وعلى مجنبتيه الزردق، وبهمن جاذويه الذي جعل مكان ذي الحاجب، وقد توافى إليهم الأمداد بنهاوند كل من غاب عن القادسية ليسوا بدونهم، فلما رآهم النعمان كبر وكبر معه الناس فتزلزلت الأعاجم وحطت العرب الأثقال وضرب فسطاط النعمان فابتدر أشراف الكوفة فضربوه منهم حذيفة بن اليمان، وعقبة بن عامر والمغيرة بن شعبة، وبشير بن الخصاصية، وحنظلة الكاتب، وجرير بن عبد الله البجلي، والأشعث بن قيس، وسعيد بن قيس الهمداني، ووائل بن حجر، وغيرهم فلم ير بناء فسطاط بالعراق كهؤلاء.
10

وأنشب النعمان القتال بعد ما حط الأثقال فاقتتلوا يوم الأربعاء وبوم الخميس والحرب بينهم سجال وأنهم انجحروا في خنادقهم يوم الجمعة، وحصرهم المسلمون وأقاموا عليهم ما شاء الله والفرس بالخيار لا يخرجون إلا إذا أرادوا الخروج فخاف المسلمون أن يطول أمرهم حتى إذا كان ذات يوم في جمعة من الجمع تجمع أهل الرأي من المسلمين وقالوا: نراهم علينا بالخيار. وأتوا النعمان في ذلك فوافوه وهو يروي في الذي رووا فيه فأخبروه. فبعث إلى من بقي من أهل النجدات والرأي فأحضرهم فتكلم النعمان فقال: قد ترون المشركين واعتصامهم بخنادقهم ومدنهم وأنهم لا يخرجون إلينا إلا إذا شاؤوا ولا يقدر المسلمون على إخراجهم، وقد ترون الذي فيه المسلمون من التضايق، فما الرأي الذي به نستخرجهم إلى المناجزة وترك التطويل؟
فتكلم عمرو بن ثنى وكان أكبر الناس وكانوا يتكلمون على الأسنان فقال: التحصن عليهم أشد من المطاولة عليكم فدعهم وقاتل من أتاك منهم. فردوا عليه رأيه.
وتكلم عمرو بن معد يكرب فقال: ناهدهم وكابرهم ولا تخفهم. فردوا جميعا عليه رأيه وقالوا: إنما يناطح بنا الجدران وهي أعوان علينا.
وقال طليحة: أرى أن نبعث خيلا لينشبوا القتال فإذا اختلطوا بهم رجعوا إلينا استطرادا فإنا لم نستطرد لهم في طول ما قاتلناهم فإذا رأوا ذلك طمعوا وخرجوا فقاتلناهم حتى يقضي الله فيهم وفينا ما أحب.
فأمر [النعمان] القعقاع بن عمرو، وكان على المجردة، فأنشب القتال،
11

فأخرجهم من خنادقهم كأنهم جبال حديد قد تواثقوا أن لا يفروا وقد قرن بعضهم بعضا كل سبعة في قران وألقوا حسك الحديد خلفهم لئلا ينهزموا، فلما خرجوا نكص ثم نكص واغتنمها الأعاجم ففعلوا كما ظن طليحة وقالوا: هي هي. فلم يبق أحد إلا من يقوم على الأبواب وركبوهم، ولحق القعقاع بالناس وانقطع الفرس عن حصنهم بعض الانقطاع والمسلمون على تعبية في يوم جمعة صدر النهار، وقد عهد النعمان إلى الناس عهده وأمرهم أن يلزموا الأرض ولا يقاتلوا حتى يأذن لهم ففعلوا واستتروا بالحجف من الرمي. وأقبل المشركون عليهم يرمونهم حتى أفشوا فيهم الجراح.
وشكا بعض الناس وقالوا للنعمان: ألا تري ما نحن فيه فما تنتظر بهم؟ ائذن للناس في قتالهم. فقال: رويدا رويدا. وانتظر النعمان بالقتال أحب الساعات كانت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلقى العدو فيها وذلك عند الزوال فلما كان قريبا من تلك الساعة ركب فرسه، وسار في الناس ووقف على كل راية يذكرهم ويحرضهم ويمنيهم الظفر وقال لهم: إني مكبر ثلاثا فإذا كبرت الثالثة فإني حامل إن شاء الله فاحملوا وإن قتلت فالأمير بعدي حذيفة، فإن قتل ففلان حتى عذ سبعة آخرهم المغيرة. ثم قال: اللهم أعزز دينك، وانصر عبادك، واجعل النعمان أولى شهيد اليوم على إعزاز دينك ونصر عبادك.
وقيل: بل قال: اللهم إني أسألك أن تقر عيني اليوم بفتح يكون فيه عز الإسلام واقبضني شهيدا. فبكى الناس ورجع إلى موقفه فكبر ثلاثا والناس سامعون مطيعون مستعدون للقتال وحمل النعمان والناس معه وانقضت رايته انقضاض العقاب والنعمان معلم ببياض القباء والقلنسوة فاقتتلوا قتالا
12

شديدا لم يسمع السامعون بوقعة كانت أشد منها وما كان يسمع إلا وقع الحديد وصبر لهم المسلمون صبرا عظيما، وانهزم الأعاجم وقتل منهم ما بين الزوال والإعتام ما طبق أرض المعركة دما يزلق الناس والدواب.
فلما أقر الله عين النعمان بالفتح استجاب له فقتل شهيدا زلق به فرسه فصرع. وقيل: بل رمي بسهم في خاصرته فقتله، فسجاه أخوه نعيم بثوب، وأخذ الراية وناولها حذيفة، فأخذها وتقدم إلى موضع النعمان، ترك نعيما مكانه. وقال لهم المغيرة: اكتموا مصاب أميركم حتى ننتظر ما يصنع الله فينا وفيهم لئلا يهن الناس. فاقتتلوا، فلما أظلم الليل عليهم انهزم المشركون وذهبوا ولزمهم المسلمون، وعمي عليهم قصدهم فتركوه وأخذوا نحو اللهب الذي كانوا دونه بأسبيذهان فوقعوا فيه فكان الواحد منهم يقع فيقع عليه ستة بعضهم على بعضهم في قياد واحد فيقتلون جميعا وجعل يعقرهم حسك الحديد فمات منهم في اللهب مائة ألف أو يزيدون سوي من قتل في المعركة.
وقيل: قتل في اللهب ثمانون ألفا، وفي المعركة ثلاثون ألفا سوي من قتل في الطلب، ولم يفلت إلا الشريد، ونجا الفيرزان من الصرعى فهرب نحو همذان فاتبعه نعيم بن مقرن، وقدم القعقاع قدامه فأدركه بثنية همذان وهي إذ ذاك مشحونة من بغال وحمير موقرة عسلا، فحبسه الدواب على أجله، فلما لم يجد طريقا نزل عن دابته وصعد في الجبل فتبعه القعقاع راجل
13

فأدركه فقتله المسلمون على الثنية وقالوا: إن لله جنودا من عسل، واستاقوا العسل وما معه من الأحمال وسميت الثنية ثنية العسل.
ودخل المشركون همذان والمسلمون في آثارهم فنزلوا عليها وأخذوا ما حولها، فلما رأى ذلك خسروشنوم استأمنهم، ولما تم الظفر للمسلمين جعلوا يسألون عن أميرهم النعمان بن مقرن فقال لهم أخوه معقل: هذا أميركم قد أقر الله عينه بالفتح وختم له بالشهادة، فاتبعوا حذيفة.
ودخل المسلمون نهاوند يوم الوقعة بعد الهزيمة، واحتووا ما فيها في الأمتعة وغيرها وما حولها من الأسلاب والأثاث، وجمعوا إلى صاحب الأقباض السائب بن الأقرع وانتظر من بنهاوند ما يأتيهم من إخوانهم الذين على همذان مع القعقاع، ونعيم فأتاهم الهربذ صاحب بيت النار على أمان فأبلغ حذيفة فقال: أتؤمنني ومن شئت على أن أخرج لك ذخيرة لكسرى تركت عندي لنوائب الزمان؟ قال: نعم. فاحضر جوهرا نفيسا في سفطين فأرسلهما مع الأخماس إلى عمر، وكان حذيفة قد نفل منها وأرسل الباقي مع السائب بن الأقرع الثقفي وكان كاتبا حاسبا أرسله عمر إليهم وقال له: إن فتح الله عليكم فاقسم على المسلمين فيأهم، وخذ الخمس، وإن هلك هذا الجيش فاذهب فبطن الأرض خير من ظهرها.
قال السائب: فلما فتح الله على المسلمين وأحضر الفارسي السفطين اللذين أودعهما عنده النخيرجان فإذا فيهما اللؤلؤ، والزبرجد، والياقوت، فلما فرغت
14

من القسمة احتملتهما معي وقدمت على عمر، وكان قد قدر الوقعة فبات يتململ ويخرج ويتوقع الأخبار فبينما رجل من المسلمين قد خرج في بعض حوائجه فرجع إلى المدينة ليلا فمر به راكب فسأله من أين أقبل؟ فقال: من نهاوند. وأخبره بالفتح وقتل النعمان، فلما أصبح الرجل تحدث بهذا بعد ثلاث من الوقعة، فبلغ الخبر عمر فسأله فأخبره فقال: ذلك بريد الجن.
ثم قدم البريد بعد ذلك فأخبره بما يسره ولم يخبره بقتل النعمان. قال السائب: فخرج عمر من الغد يتوقع الأخبار قال: فأتيته فقال: ما وراءك؟ فقلت: خيرا يا أمير المؤمنين فتح الله عليك وأعظم الفتح، واستشهد النعمان بن
مقرن فقال عمر: إنا لله وإنا إليه راجعون. ثم بكى فنشج حتى بانت فروع كتفيه فوق كتده قال: فلما رأيت ذلك وما لقي قلت: يا أمير المؤمنين ما أصيب بعده رجل يعرف وجهه. فقال: أولئك المستضعفون من المسلمين ولكن الذي أكرمهم بالشهادة يعرف وجوههم وأنسابهم وما يصنع أولئك بمعرفة عمر، ثم أخبرته بالسفطين فقال: أدخلهما بيت المال حتى ننظر في شأنهما وألحق بجندك قال: ففعلت وخرجت سريعا إلى الكوفة.
وبات عمر، فلما أصبح بعث في أثري رسولا، فما أدركني حتى دخلت الكوفة فأنخت بعيري وأناخ بعيره على عرقوبي بعيري فقال: الحق بأمير المؤمنين فقد بعثني في طلبك، فلم أقدر عليك إلا الآن. قال: فركبت معه فقدمت على عمر فلما رآني قال: إلى، مالي وللسائب. قلت: ولماذا؟ قال: ويحك والله ما هو إلا أن نمت الليلة التي خرجت فيها فباتت الملائكة
15

تستحبني إلى السفطين يشتعلان نارا فيقولون: لنكوينك بهما، فأقول: إني سأقسمهما بين المسلمين، فخذهما عني فبعهما في أعطية المسلمين، أرزاقهم. قال: فخرجت بهما فوضعتهما في مسجد الكوفة فابتاعهما مني عمرو بن حريث المخزومي بألفي ألف درهم، ثم خرج بهما إلى أرض الأعاجم فباعهما بأربعة آلاف ألف فما زال أكثر أهل الكوفة مالا بعد. وكان سهم الفارس بنهاوند ستة آلاف وسهم الراجل ألفين.
ولما قدم سبي نهاوند المدينة جعل أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة لا يلقى منهم صغيرا إلا مسح رأسه وبكى وقال له: أكل عمر كبدي! وكان من نهاوند فأسرته الروم وأسره المسلمون من الروم بعد فنسب إلى حيث سبي.
وكان المسلمون يسقون فتح نهاوند فتح الفتوح لأنه لم يكن للفرس بعده اجتماع وملك المسلمون بلادهم.
ذكر فتح الدينور والصيمرة وغيرهما
لما انصرف أبو موسى من نهاوند وكان قد جاء مددا على بعث أهل البصرة فمر بالدينور فأقام عليها خمسة أيام وصالحه أهلها علن الجزية ومضى فصالحه أهل شيروان على مثل صلحهم؛ وبعث السائب بن الأقرع الثقفي إلى الصيمرة مدينة مهرجان قذق ففتحها صلحا، وقيل: إنه وجه السائب من الأهواز ففتح ولاية مهرجان قذق.
16

ذكر فتح همذان والماهين وغيرهما
لما انهزم المشركون دخل من سلم منهم همذان وحاصرهم نعيم بن مقرن، والقعقاع بن عمرو، فلما رأى ذلك خسروشنوم استأمنهم وقبل منهم الجزية على أن يضمن منهم همذان، ودستبى وأن لا يؤتى المسلمون منهم فأجابوه إلى ذلك وأمنوه ومن معه من الفرس، وأقبل كل من كان هرب، وبلغ الخبر الماهين بفتح همذان وملكها ونزول نعيم والقعقاع بها فاقتدوا بخسروشنوم فراسلوا حذيفة فأجابهم إلى ما طلبوا، وأجمعوا على القبول، وأجمعوا على إتيان حذيفة فخدعهم دينار وهو أحد أولئك الملوك وكان أشرفهم قارن وقال: لا تلقوهم في جمالكم ففعلوا وخالفهم فأتاهم في الديباج والحلي فأعطاهم حاجتهم، واحتمل المسلمون ما أرادوا وعاقدوه عليهم ولم يجد الآخرون بدا من متابعته والدخول في أمره، فقيل: ماه دينار لذلك. وكان النعمان بن مقرن قد عاقد بهراذان علن مثل ذلك فنسبت إلى بهراذان، وكان قد وكل النسير بن ثور بقلعة قد لجأ إليها قوم فجاهدهم فافتتحها فنسبت إلى النسير وهو تصغير نسر.
قيل: دخل دينار الكوفة أيام معاوية فقال: يا أهل الكوفة إنكم أول ما مررتم بنا كنتم خيار الناس فبقيتم كذلك زمن عمر وعثمان، ثم تغيرتم وفشت فيكم خصال أربع: بخل، وخب، وغدر، وضيق ولم يكن فيكم واحدة منهن. وقد رمقتكم فرأيت ذلك في مولديكم فعلمت من أين أتيتم، فإذا الخب من قبل النبط، والبخل من قبل فارس، والغدر من قبل خراسان، والضيق من قبل الأهواز.
17

ذكر دخول المسلمين بلاد الأعاجم
وفيها أمر عمر المسلمين بالانسياح في بلاد العجم وطلب الفرس أين كانوا، وقيل: كان ذلك سنة ثمان عشرة وقد تقدم ذكره.
وسبب ذلك ما كان من يزدجرد وبعثه الجنود مرة بعد أخرى، فوجه الأمراء من أهل البصرة وأهل الكوفة بعد فتح نهاوند وكان بين عمل سعد وعمل عمار بن ياسر أميران، أحدهما عبد الله بن عبد الله بن عتبان وفي زمانه كانت وقعة نهاوند، والآخر زياد بن حنظلة حليف بني عبد بن قصي، وفي زمانه أمر بالانسياح وعزل عبد الله وبعث في وجه آخر، وولى زياد وكان من المهاجرين فعمل قليلا وألح في الاستعفاء فأعفاه عمر، وولى عمار بن ياسر وكتب معه إلى أهل الكوفة: إني بعثت عمارا أميرا، وجعلت معه ابن مسعود معلما، وكان ابن مسعود بحمص فسيره عمر إلى الكوفة وأمد أهل البصرة بعبد الله بن عبد الله وأمد أهل الكوفة بأبي موسى.
وكان أهل همذان قد كفروا بعد الصلح فبعث عمر لواء إلى نعيم بن مقرن وأمره بقصد همذان فإذا فتحها سار إلى ما وراء ذلك إلى خراسان، وبعث عتبة بن فرقد، وبكير بن عبد الله إلى أذربيجان [وفرقها بينهما] يدخل أحدهما من حلوان والآخر من الموصل، وبعث عبد الله بن عبد الله إلى أصبهان وأمر عمر بن سراقة على البصرة.
ذكر فتح أصبهان
وفيها بعث عمر إليها عبد الله بن عبد الله بن عتبان وكان شجاعا من أشراف الصحابة ومن وجوه الأنصار حليفا لبني الحبلى وأمده بأبي موسى، وجعل على مجنبتيه عبد الله بن ورقاء الرياحي، وعصمة بن عبد الله، فساروا إلى نهاوند ورجع حذيفة إلى عمله على ما سقت دجلة وما وراءها، وسار
18

عبد الله فيمن كان معه ومن تبعه من جند النعمان بنهاوند نحو أصبهان، وعلى جندها الاسبيدان، وعلى مقدمته شهربراز بن جاذويه شيخ كبير في جمع عظيم. ومقدمة المشركين برستاق لأصبهان فاقتتلوا قتالا شديدا ودعا الشيخ إلى البراز فبرز له عبد الله بن ورقاء الرياحي فقتله وانهزم أهل أصبهان فسمي ذلك الرستاق رستاق الشيخ إلى اليوم وصالحهم الاسبيدان على رستاق الشيخ وهو أول رستاق أخذ من أصبهان.
ثم سار عبد الله إلى مدينة جف وهي مدينة أصبهان فانتهى إليها والملك بأصبهان الفاذوسفان فنزل بالناس على جف وحاصرها وقاتلها ثم صالحه الفاذوسفان على أصبهان وأن على من أقام الجزية وأقام علن ماله وأن يجري من أخذت أرضه عنوة مجراهم، ومن أبن وذهب كان لكم أرضه، وقدم أبو موسى على عبد الله من ناحية الأهواز وقد صالح فخرج القوم من جي ودخلوا في الذمة إلا ثلاثين رجلا من أهل أصبهان لحقوا بكرمان. ودخل عبد الله، وأبو موسى جيا، وكتب بذلك إلى عمر فقدم كتاب عمر إلى عبد الله أن سر حتى تقدم على سهيل بن عدي فتكون معه على قتال من بكرمان، فسار وأستخلف على أصبهان السائب بن الأقرع ولحق بسهيل قبل أن يصل إلى كرمان.
قيل: وقد روي عن معقل بن يسار أن الأمير كان على الجند الذين فتحوا أصبهان النعمان بن مقرن وأن عمر أرسله من المدينة إلى أصبهان وكتب إلى أهل الكوفة أن يمدوه، فسار إلى أصبهان وبها ملكها ذو الحاجبين فأرسل إليه المغيرة بن شعبة وعاد من عنده فقاتلهم وقتل النعمان ووقع ذو الحاجبين عن دابته فانشقت بطنه وأنهزم أصحابه. قال معقل: فأتيت النعمان وهو صريع
19

فجعلت عليه علما، فلما أنهزم المشركون أتيته - ومعي أداوة فيها ماء - فغسلت عن وجهه التراب فقال: ما فعل الناس؟ فقلت: فتح الله عليهم. قال: الحمد لله. ومات.
هكذا في هذه الرواية، والصحيح أن النعمان قتل بنهاوند وافتتح أبو موسى قم وقاشان.
ذكر ولاية المنيرة بن شعبة على الكوفة
وفيها ولى عمر عمار بن ياسر على الكوفة، وابن مسعود علن بيت المال، فشكا أهل الكوفة عمارا فاستعفى عمار عمر بن الخطاب فولى عمر جبير بن مطعم الكوفة وقال له: لا تذكره لأحد. فسمع المغيرة بن شعبة أن عمر خلا بجبير فأرسل امرأته إلى امرأة جبير بن مطعم لتعرض عليها طعام السفر ففعلت فقالت: نعم ما حييتي به. فلما علم المغيرة جاء إلى عمر فقال له: بارك الله لك فسمن وليت وأخبره الخبر فعزله، وولى المغيرة بن شعبة الكوفة فلم يزل عليها حتى مات عمر. وقيل: إن عمارا عزل سنة اثنتين وعشرين وولى بعده أبو موسى، وسيرد ذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر عدة حوادث
قيل: وفيها بعث عمرو بن العاص عقبة بن نافع الفهري فافتتح زويلة صلحا وما بين برقة، وزويلة سلم للمسلمين، وقيل: سنة عشرين.
وكان الأمراء في هذه السنة عمير بن سعد على دمشق، وحوران، وحمص،
20

وقنسرين، والجزيرة، ومعاوية على البلقاء، والأردن، وفلسطين والسواحل. وأنطاكية، وقلقية، ومعرة مصرين وعند دلك صالح أبو هاشم بن عتبة بن ربيعة على قلقية، وأنطاكية، ومعرة مصرين.
وفيها ولد الحسن البصري الشعبي.
وحج بالناس عمر بن الخطاب واستخلف على المدينة زيد بن ثابت، وكان عامله على مكة، والطائف، واليمن، واليمامة، ومصر، والبصرة من كان قبل ذلك، وكان على الكوفة عمار بن ياسر، وشريح على القضاء.
وفيها بعث عثمان بن أبي العاص بعثا إلى ساحل فارس فحاربوهم ومعهم الجارود العبدي، فقتل الجارود بعقبة تعرف بعقبة الجارود، وقيل بل قتل بنهاوند مع النعمان.
وفيها مات حممة وهو من الصحابة بأصبهان بعد فتحها، والعلاء بن الحضرمي وهو على البحرين فاستعمل عمر مكانه أبا هريرة. وفيها مات خالد بن الوليد بحمص وأوصى إلى عمر بن الخطاب، وقيل: مات سنة ثلاث وعشرين، وقيل: مات بالمدينة والأول أصح.
21

22
ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين
في هذه السنة افتتحت أذربيجان، وقيل. سنة ثمان عشرة بعد فتح همذان، والري، وجرجان، فنبدأ بذكر فتح هذه البلاد ثم نذكر أذربيجان بعدها.
ذكر فتح همذان ثانيا
قد تقدم مسير نعيم بن مقرن إلى همذان وفتحها على يده ويد القعقاع بن عمرو، فلما رجعا عنها كفر أهلها مع خسروشنوم فلما قدم عهد نعيم من عند عمر ودع حذيفة وسار يريد همذان، وعاد حذيفة إلى الكوفة فخرج نعيم بن مقرن على تعبية إلى همذان فاستولى على بلادها جميعا وحاصرها، فلما رأى أهلها ذلك سألوا الصلح ففعل وقبل منهم الجزية، وقد قيل: ان فتحها كان سنة أربع وعشرين بعد مقتل عمر بستة أشهر. فبينما نعيم بهمذان في اثني عشر ألفا من الجند كاتب الديلم، وأهل الري وأذربيجان إذ خرج موتا في الديلم حتى نزل بواج روذ، وأقبل الزينبي أبو الفرخان في أهل الري، وأقبل اسفنديار أخو رستم في أهل أذربيجان فاجتمعوا وتحضن منهم أمراء المسالح وبعثوا إلى
22

نعيم بالخبر، فاستخلف يزيد بن قيس الهمداني وخرج إليهم فاقتتلوا بواج روذ قتالا شديدا وكانت وقعة عظيمة تعدل نهاوند فانهزم الفرس هزيمة قبيحة وقتل منهم مقتلة كبيرة لا يحصون فأرسلوا إلى عمر مبشرا فأمر عمر نعيما بقصد الري وقتال من بها والمقام بها بعد فتحها، وقيل: إن المغيرة بن شعبة وهو عامل على الكوفة أرسل جرير بن عبد الله إلى همذان فقاتله أهلها وأصيبت عينه بسهم. فقال: احتسبتها عند الله الذي زين بها وجهي ونور لي ما شاء ثم سلبنيها في سبيله. ثم فتحها علن مثل صلح نهاوند وغلب على أرضها قسرا، وقيل. كان فتحها على يد المغيرة بنفسه وكان جرير على مقدمته، وقيل: فتحها قرظة بن كعب الأنصاري.
ذكر فتح قزوين وزنجان
لما سير المغيرة جريرا إلى همذان ففتحها ستر البراء بن عازب في جيش إلى قزوين وأمره أن يسير إليها فإن فتحها غزا الديلم منها وإنما كان مغزاهم قبل من دستبى، فسار البراء حتى أتى أبهر - وهو حصن - فقاتلوه ثم طلبوا الأمان فأمنهم وصالحهم، ثم غزا قزوين، فلما بلغ أهلها الخبر أرسلوا إلى الديلم يطلبون النصرة فوعدوهم، ووصل المسلمون إليهم فخرجوا لقتالهم والديلم وقوف علن الجبل لا يمدون يدا، فلما رأى أهل قزوين ذلك طلبوا الصلح على صلح أبهر، وقال بعض المسلمين:
قد علم الديلم إذ تحارب * حين أتن في جيشه ابن عازب
بأن ظن المشركين كاذب * فكم قطعنا في دجى الغياهب
من جبل وعر ومن سباسب
23

وغزا البراء الديلم حتى أدوا إليه الإتاوة، وغزا جيلان، والطيلسان وفتح زنجان عنوة، ولما ولى الوليد بن عقبة الكوفة غزا الديلم، وجيلان، وموقان، والببر، والطيلسان ثم انصرف.
ذكر فتح الري
ثم انصرف نعيم من واج روذ حتى قدم الري وخرج الزينبي أبو الفرخان من الرقي فلقي نعيما طالبا الصلح ومسالما له ومخالفا لملك الري وهو سياوخش ابن مهران بن بهرام جوبين، فاستمد سياوخش أهل دنباوند، وطبرستان، وقومس، وجرجان فأمدوه خوفا من المسلمين فالتقوا مع المسلمين في سفح جبل الري إلى جنب مدينتها فاقتتلوا به، وكان الزينبي قال لنعيم: إن القوم كثير وأنت في قلة فابعث معي خيلا أدخل بهم مدينتهم من مدخل لا يشعرون به وناهدهم أنت فإنهم إذا خرجنا عليهم لم يثبتوا لك فبعث معه نعيم خيلا من الليل عليهم ابن أخيه المنذر بن عمرو فأدخلهم الزينبي المدينة ولا يشعر القوم وبيتهم نعيم بياتا فشغلهم عن مدينتهم فاقتتلوا وصبروا له حتى سمعوا التكبير من ورائهم فانهزموا فقتلوا مقتلة عدوا بالقصب فيها وأفاء الله على المسلمين بالري نحوا من في المدائن وصالحه الزينبي على الري ومرزبه عليهم نعيم فلم يزل شرف الري في أهل الزينبي، وأخرب نعيم مدينتهم وهي التي يقال لها العتيقة، وأمر الزينبي فبنى مدينة الري الحدثي، وكتب نعيم إلى عمر بالفتح وانفذ الأخماس وكان البشير المضارب العجلي وراسله المصمغان في. الصلح على شيء يفتدي به منه على دنباوند فأجابه إلى ذلك.
وقد قيل: إن فتح الري كان على يد قرظة بن كعب، وقيل: كان فتحها سنة إحدى وعشرين، وقيل غير ذلك والله أعلم.
24

ذكر فتح قومس وجرجان وطبرستان
لما أرسل نعيم إلى عمر بالبشارة وأخماس الري كتب إليه عمر يأمره بإرسال أخيه سويد بن مقرن ومعه هند بن عمرو الجملي وغيره إلى قومس، فسار سويد نحو قومس فلم يقم له أحد فأخذها سلما وعسكر بها وكاتبه الذين لجأوا إلى طبرستان منهم والذين أخذوا المفاوز فأجابهم إلى الصلح والجزية، وكتب لهم بذلك، ثم سار سويد إلى جرجان فعسكر بها ببسطام، وكتب إلى ملك جرجان وهو زرنان صول وكاتبه زرنان صول وصالحه على جرجان على الجزية وكفاية حرب جرجان وأن يعينه سويد إن غلب، فأجابه سويد إلى ذلك، وتلقاه زرنان صول قبل دخوله جرجان فدخل معه وعسكر بها حتى جبى الخراج وسمى فروجها فسدها بترك دهستان. ورفع الجزية عمن قام بمنعها وأخذها من الباقين.
وقيل: كان فتحها سنة ثمان عشرة، وقيل: سنة ثلاثين زمن عثمان.
قيل: وراسل الأصبهبذ صاحب طبرستان سويدا في الصلح على أن يتوادعا وبجعل له شيئا على غير نصر ولا معونة على أحد فقبل ذلك منه وكتب له كتابا.
ذكر فتح طرابلس الغرب وبرقة
في هذه السنة سار عمرو بن العاص من مصر إلى برقة فصالحه أهلها على الجزية وأن يبيعوا من أبنائهم من أرادوا بيعه، فلما فرغ من برقة سار إلى طرابلس الغرب فحاصرها شهرا فلم يظفر بها، وكان قد نزل شرقيها فخرج رجل من
25

بني مدلج يتصيد في سبعة نفر وسلكوا غرب المدينة فلما رجعوا أشتد عليهم الحر فأخذوا على جانب البحر ولم يكن السور متصلا بالبحر وكانت سفن الروم في مرساها مقابل بيوتهم فرأى المدلجي وأصحابه مسلكا بين البحر والبلد فدخلوا منه وكبروا فلم يكن للروم ملجأ إلا سفنهم لأنهم ظنوا أن المسلمين قد دخلوا البلد، ونظر عمرو ومن معه فرأى السيوف في المدينة وسمعوا الصياح فأقبل بجيشه حتى دخل عليهم البلد فلم يفلت الروم إلا بما خف معهم في مراكبهم.
وكان أهل حصن سبرة قد تحصنوا لما نزل عمر وعلى طرابلس فلما امتنعوا عليه بطرابلس أمنوا واطمأنوا فلما
فتحت طرابلس جند عمرو عسكرا كثيفا، وسيره إلى سبرة فصبحوها، وقد فتح أهلها الباب وأخرجوا مواشيهم لتسرح لأنهم لم يكن بلغهم خبر طرابلس فوقع المسلمون عليهم ودخلوا البلد مكابرة وغنموا ما فيه وعادوا إلى عمرو، ثم سار عمرو بن العاص إلى برقة وبها لواتة وهم من البربر.
وكان سبب مسير البربر إليها وإلى غيرها من الغرب أنهم كانوا بنواحي فلسطين من الشام وكان ملكهم جالوت، فلما قتل سارت البرابر وطلبوا الغرب حتى إذا انتهوا إلى لوبية، ومراقية وهما كورتان من كور مصر الغربية تفرقوا فسارت زناتة، ومغيلة وهما قبيلتان من البربر إلى الغرب فسكنوا الجبال وسكنت لواتة أرض برقة وتعرف قديما بأنطابلس وانتشروا فيها حتى بلغوا السوس، ونزلت هوارة مدينة لبدة. ونزلت نفوسة إلى مدينة سبرة وجلا من كان بها من الروم لذلك وقام الأفارق - وهم خدم الروم - علن صلح يؤدونه إلى من غلب على بلادهم، وسار عمرو بن العاص كما ذكرنا فصالحه أهلها على ثلاثة عشر ألف دينار يؤدونها جزية وشرطوا أن يبيعوا من أرادوا من أولادهم في جزيتهم.
26

ذكر فتح أذربيجان
قال: فلما أفتتح نعيم الري بعث سماك بن خرشة الأنصاري، وليس بأبي دجانة، ممدا لبكير بن عبد الله بأذربيجان أمره عمر بذلك فسار سماك نحو بكير وكان بكير حين بعث إليها سار حتى إذا طلع بجبال جرميذان طلع عليهم اسفنديار بن فرخزاذ مهزوما من بواج روذ، فكان أول قتال لقيه بأذربيجان فاقتتلوا فهزم الفرس وأخذ بكير اسفنديار أسيرا فقال له اسفنديار: الصلح أحب إليك أم الحرب؟ قال: بل الصلح قال: أمسكني عندك فإن أهل أذربيجان إن لم أصالح عليهم أو أجيء إليهم لم يقوموا لك وجلوا إلى الجبال التي حولها ومن كان على التحصن تحصن إلى يوم ما. فأمسكه عنده وصارت البلاد إليه إلا ما كان من حصن. وقدم عليه سماك بن خرشة ممدا واسنفديار في أساره وقد افتتح ما يليه؛ وافتتح عتبة بن فرقد ما يليه.
وكتب بكير إلى عمر يستأذنه في التقدم فأذن له أن يتقدم نحو الباب، وأن يستخلف على ما افتتحه، فاستخلف عليه عتبة بن فرقد فأقر عتبة سماك بن خرشة علن عمل بكير الذي كان افتتحه وجمع عمر أذربيجان كلها لعتبة بن فرقد.
وكان بهرام بن فرخزاذ قصد طريق عتبة وأقام به في عسكره حتى قدم عليه عتبة فاقتتلوا فانهزم بهرام فلما بلغ خبره اسنفديار وهو في الأسر عند بكير قال: الآن تم الصلح وطفئت الحرب. فصالحه وأجاب إلى ذلك أهل أذربيجان كلهم وعادت أذربيجان سلما وكتب بذلك بكير، وعتبة إلى عمر وبعثا بما خمسا. ولما جمع عمر لعتبة عمل بكير كتب لأهل أذربيجان كتابا بالصلح.
وفيها قدم عتبة على عمر بالخبيص الذي كان أهدى له.
27

وكان عمر يأخذ عماله بموافاة الموسم كل سنة يمنعهم بذلك عن الظلم.
ذكر فتح الباب
في هذه السنة كان فتح الباب، وكان عمر رد أبا موسى إلى البصرة وبعث سراقة بن عمرو وكان يدعن ذا النور إلى الباب، وجعل على مقدمته عبد الرحمن بن ربيعة وكان أيضا يدعى ذا النور، وجعل علن إحدى مجنبتيه حذيفة بن أسيد الغفاري، وعلى الأخرى بكير بن عبد الله الليثي، وكان بكير سبقه إلى الباب، وجعل على المقاسم سلمان بن ربعية الباهلي فسار سراقة، فلما خرج من أذربيجان قدم بكير إلى الباب وكان عمر قد أمد سراقة بحبيب بن مسلمة من الجزيرة وجعل مكانه زياد بن حنظلة.
ولما أطل عبد الرحمن بن ربيعة على الباب والملك بها يومئذ شهريار وهو من ولد شهريار الذي أفسد بني إسرائيل وأغزى الشام بهم فكاتبه شهريار وأستأمنه على أن يأتيه، ففعل فأتاه فقال: إني بإزاء عدو كلب وأمم مختلفة ليست لهم أحساب، ولا ينبغي لذي الحسب والعقل أن يعينهم على ذي الحسب، ولست من القبج ولا الأرمن في شيء، وإنكم قد غلبتم على بلادي وأمتي فأنا [اليوم] منكم ويدي مع أيديكم وجزيتي إليكم والنصر لكم والقيام بما تحبون فلا تسوموننا الجزية فتوهنونا بعدوكم. قال: فسيره عبد الرحمن إلى سراقة فلقيه بمثل ذلك فقبل منه سراقة ذلك وقال: لا بد من الجزية ممن يقيم ولا يحارب العدو. فأجابه إلى ذلك، وكتب سراقة في ذلك إلى عمر فأجازه عمر واستحسنه.
28

ذكر فتح موقان
لما فرغ سراقة من الباب أرسل بكير بن عبد الله، وحبيب بن مسلمة، وحذيفة بن أسيد، وسلمان بن ربيعة إلى أهل تلك الجبال المحيطة بأرمينية فوجه بكيرا إلى موقان، وحبيبا إلى تفليس، وحذيفة إلى جبال اللان، وسلمان إلى الوجه الآخر. وكتب سراقة بالفتح إلى عمر وبإرسال هؤلاء النفر إلى الجهات المذكورة فأتى عمر أمر لم يظن أن
يستتم له بغير مؤنة لأنه فرج عظيم، وجند عظيم، فلما استوثقوا واستحلوا الإسلام وعدله مات سراقة. واستخلف عبد الرحمن بن ربيعة ولم يفتتح أحد من أولئك القواد إلا بكير فإنه فض أهل موقان ثم تراجعوا علن الجزية عن كل حالم دينار، وكان فتحها سنة إحدى وعشرين، ولما بلغ عمر موت سراقة واستخلافه عبد الرحمن بن ربيعة أقر عبد الرحمن على فرج الباب وأمره بغزو الترك:
(أسيد في هذه التراجم بفتح الهمزة وكسر السين، والنور في الموضعين بالراء).
ذكر غزو الترك
لما أمر عمر عبد الرحمن بن ربيعة بغزو الترك خرج بالناس حتى قطع الباب فقال له شهريار: ما تريد أن تصنع؟ قال: أريد غزو بلنجر والترك. قال: إنا لنرضى منهم أن يدعونا من دون الباب. قال عبد الرحمن: لكنا لا نرضى حتى نغزوهم في ديارهم وبالله إن معنا أقواما لو يأذن لهم أميرنا في الإمعان لبلغت بهم الروم، قال: وما هم؟ قال: أقوام صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخلوا في هذا الأمر بنية ولا يزال هذا الأمر لهم دائما
29

ولا يزال النصر معهم حتى يغيرهم من يغلبهم وحتى يلفتوا عن حالهم. فنزا بلنجر غزاة في زمن عمر فقالوا: ما اجترأ علينا إلا ومعه الملائكة تمنعهم من الموت. فهربوا منه وتحصنوا، فرجع بالغنيمة والظفر وقد بلغت خيله البيضاء على رأس مائتي فرسخ من بلنجر، وعادوا ولم يقتل منهم أحد.
ثم غزاهم أيام عثمان بن عفان غزوات فظفر كما كان يظفر حتى تبدل أهل الكوفة لاستعمال عثمان من كان ارتد استصلاحا لهم فزادهم فسادا، فغزا عبد الرحمن بن ربيعة بعد ذلك فتذامرت الترك واجتمعوا في الغياض فرمى رجل منهم رجلا من المسلمين على غرة فقتله، وهرب عنه أصحابه، فخرجوا عليه عند ذلك فاقتتلوا واشتد قتالهم، ونادى مناد من الجو: صبرا عبد الرحمن وموعدكم الجنة لما. فقاتل عبد الرحمن حتى قتل وانكشف أصحابه، وأخذ الراية سلمان بن ربيعة أخوه فقاتل بها، ونادى مناد من الجو: صبرا آل سلمان،. فقال سلمان: أو ترى جزعا! وخرج سلمان بالناس معه أبو هريرة الدوسي على جيلان فقطعوها إلى جرجان، ولم يمنعهم ذلك من اتخاذ جسد عبد الرحمن ففم يستسقون به! لن الآن.
ذكر تعديل الفتوح بين أهل الكوفة والبصرة
في هذه السنة عدل عمر فتوح أهل الكوفة والبصرة بينهم.
وسبب ذلك أن عمر بن سراقة كتب إلى عمر بن الخطاب يذكر له كثرة أهل البصرة وعجز خراجهم عنهم وسأله أن يزيدهم أحد الماهين أو ماسبذان، وبلغ أهل الكوفة ذلك وقالوا لعمار بن ياسر - وكان على الكوفة أميرا سنة وبعض أخرى: اكتب إلى عمر أن رامهرمز وإيذج لنا دونهم لم يعينونا عليهما ولم يلحقونا حتى افتتحناهما. فلم يفعل عمار فقال له عطارد:
30

أيها العبد الأجدع فعلام ناغ فيئنا؟ فقال: لقد سببت أحب أذني إلي! فأبغضوه لذلك، واختصم أهل الكوفة، وأهل البصرة وادعى أهل البصرة قرى افتتحها أبو موسى دون أصبهان أيام أمد به عمر بن الخطاب أهل الكوفة فقال لهم أهل الكوفة: أتيتمونا مددا وقد افتتحنا البلاد فأنشبناكم في المغانم، والذمة ذمتنا والأرض أرضنا. فقال عمر: صدقوا. فقال أهل الأيام والقادسية ممن سكن البصرة: فلتعطونا نصيبنا مما نحن شركاؤكم فيه من سوادهم وحواشيهم. فأعطاهم عمر مائة دينار برضا أهل الكوفة أخذها من شهد الأيام والقادسية.
ولما ولى معاوية وكان هو الذي جند قنسرين ممن أتاه من أهل العراقين أيام علي، وإنما كان قنسرين رستاقا من رساتيق حمص فأخذ لهم معاوية حين ولى بنصيبهم من فتوح العراق، وأذربيجان، والموصل، والباب لأنه من فتوح أهل الكوفة. وكان أهل الجزيرة والموصل يومئذ نافلة انتقل إليها كل من نزل بهجرته من أهل البلدين أيام علي فأعطاهم معاوية من ذلك نصيبا.
وكفر أهل أرمينية أيام معاوية وقد أمر حبيب بن مسلمة على الباب وحبيب يومئذ بجرزان، وكاتب أهل تفليس وتلك الجبال من جرزان فاستجابوا له.
ذكر عزل عمار بن ياسر عن الكوفة وولاية
أبي موسى والمغيرة بن شعبة
وفيها عزل عمر بن الخطاب عمار بن ياسر عن الكوفة واستعمل أبا موسى.
وسبب ذلك أن أهل الكوفة شكوه وقالوا له: إنه لا يحتمل ما هو فيه وإنه
31

ليس بأمين، ونزا به أهل الكوفة. فدعاه عمر فخرج معه وفد فكانوا أشد عليه ممن تخلف عنه وقالوا: إنه غير كاف وعالم بالسياسة ولا يدري علن ما استعملته، وكان منهم سعد بن مسعود الثقفي عم المختار، وجرير بن عبد الله فسعيا به فعزله عمر وقال عمر لعمار: أساءك العزل؟ قال: ما سرني حين استعملت ولقد ساءني حين عزلت. فقال له: قد علمت ما أنت بصاحب عمل ولكني تأولت: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين).
ثم أقبل عمر على أهل الكوفة فقال: من تريدون؟ قالوا: أبا موسى. فأمره عليهم بعد عمار فأقام عليهم سنة فباع غلامه العلف فشكاه الوليد بن عبد شمس وجماعة معه وقالوا: إن غلامه يتجر في جسرنا فعزله عنهم وصرفه إلى البصرة، وصرف عمر بن سراقة إلى الجزيرة.
وخلا عمر في ناحية المسجد فنام فأتاه المغيرة بن شعبة فحرسه حتى استيقظ فقال: ما فعلت هذا يا بأمير المؤمنين إلا من عظيم. فقال: وأي شيء أعظم من مائة ألف لا يرضون عن أمير؟ ولا يرضى عنهم أمير؟ وأحيطت الكوفة على مائة ألف مقاتل، وأتاه أصحابه فقالوا: ما شأنك؟ فقال:. إن أهل الكوفة قد عضلوني. واستشارهم فيمن يوليه، وقال ما تقولون في تولية رجل ضعيف مسلم أو رجل قوي مسدد؟ فقال المغيرة: أما الضعيف المسلم فإن إسلامه لنفسه وضعفه عليك، وأما القوي المسدد فإن سداده لنفسه وقوته
32

للمسلمين. فوك المغيرة الكوفة فبقي عليها حتى مات عمر وذلك نحو سنتين وزيادة، وقال له حين بعثه: يا مغيرة ليأمنك الأبرار وليخفك الفجار. ثم أراد عمر أن يبعث سعدا على عمل المغيرة فقتل عمر قبل ذلك فأوصى به.
ذكر فتح خراسان
وفي هذه السنة غزا الأحنف بن قيس خراسان في قول بعضهم، وقيل: سنة ثمان عشرة.
وسبب ذلك أن يزدجرد لما سار إلى الري بعد هزيمة أهل جلولاء وانتهى إليها وعليها أبان جاذويه وثب عليه فأخذه فقال يزدجرد: يا أبان تغدر بي؟ قال: لا، ولكن قد تركت ملكك فصار في يد غيرك فأحببت أن أكتتب على ما كان لي من شيء. وأخذ خاتم يزدجرد واكتتب الصكاك [وسجل السجلات] بكل ما أعجبه، ثم ختم عليها ورد الخاتم، ثم أتى بعد سعدا فرد عليه كل شيء في كتابه.
وسار يزدجرد من الرقي إلى أصبهان، ثم منها إلى كرمان والنار معه، ثم قصد خراسان فأتى مرو فنزلها وبنى للنار بيتا واطمأن وأمن من أن يؤتى ودان له من بقي من الأعاجم، وكاتب الهرمزان، وأثار أهل فارس فنكثوا، وأثار أهل الجبال والفيرزان فنكثوا فأذن عمر للمسلمين فدخلوا بلاد الفرس، فسار الأحنف إلى خراسان فدخلها من الطبسين فافتتح هراة عنوة واستخلف عليها صحار بن فلان العبدري، ثم سار نحو مرو الشاهجان فأرسل إلى نيسابور مطرف بن عبد الله بن الشخير وإلى سرخس الحارث بن حسان، فلما دنا الأحنف من مرو الشاهجان خرج منها يزدجرد إلى مرو الروذ حتى نزلها، ونزل الأحنف
33

مرو الشاهجان وكتب يزدجرد - وهو بمرو الروذ - إلى خاقان، وإلى ملك الصغد، وإلى ملك الصين يستمدهم.
وخرج الأحنف من مرو الشاهجان واستخلف عليها حارثة بن النعمان الباهلي بعد ما لحقت به أمداد أهل الكوفة وسار نحو مرو الروذ.
فلما سمع يزدجرد سار عنها إلى بلخ ونزل الأحنف مرو الروذ، وقدم أهل الكوفة إلى يزدجرد واتبعهم الأحنف فالتقى أهل الكوفة ويزدجرد ببلخ فانهزم يزدجرد وعبر النهر ولحق الأحنف بأهل الكوفة، وقد فتح الله عليهم، فبلخ من فتوحهم.
وتتابع أهل خراسان من هرب وشذ على الصلح فيما بين نيسابور إلى طخارستان، وعاد الأحنف إلى مرو الروذ فنزلها واستخلف على طخارستان ربعي بن عامر وكتب الأحنف إلى عمر بالفتح، فقال عمر: (وددت أن بيننا وبينها بحرا من نار. فقال علي: ولم يا أمير المؤمنين؟ قال: لأن أهلها سينقضون منها ثلاث مرات فيجتاحون في الثالثة فكان ذلك بأهلها أحب إلي من أن يكون بالمسلمين.
وكتب عمر إلى الأحنف أن يقتصر على ما دون النهر ولا يجوزه.
ولما عبر يزدجرد النهر مهزوما أنجده خاقان في الترك وأهل فرغانة والصغد فرجع يزدجرد وخاقان إلى خراسان فنزلا بلخ ورجع أهل الكوفة إلى الأحنف بمرو الروذ، ونزل المشركون عليه بمرو أيضا.
وكان الأحنف لما بلغه خبر عبور يزدجرد وخاقان النهر إليه خرج ليلا يتسمع هل يسمع برأي ينتفع به، فمر برجلين ينقيان علفا وأحدهما يقول لصاحبه: لو أسندنا الأمير إلى هذا الجبل فكان النهر بيننا وبين عدونا خندقا
34

وكان الجبل في ظهورنا فلا يأتونا من خلفنا وكان قتالنا من وجه واحد رجوت أن ينصرنا الله. فرجع، فلما أصبح جمع الناس ورحل بهم إلى سفح الجبل وكان معه من أهل البصرة عشرة آلاف ومن أهل الكوفة نحو منهم وأقبلت الترك ومن معها فنزلت وجعلوا يغادونهم القتال ويراوحونهم وفي الليل يتنحون عنهم.
فخرج الأحنف ليلة. طليعة لأصحابه حتى إذا كان قريبا من عسكر خاقان وقف، فلما كان وجه الصبح خرج فارس [من] الترك بطوقه فضرب بطبله ثم وقف من العسكر موقفا يقفه مثله فحمل عليه الأحنف فتقاتلا فطعنه الأحنف فقتله وأخذ طوق التركي ووقف، فخرج اخر من الترك ففعل فعل صاحبه فحمل عليه الأحنف فتقاتلا فطعنه فقتله. وأخذ طوقه ووقف، ثم خرج الثالث من الترك ففعل فعل الرجلين فحمل عليه الأحنف فقتله، ثم انصرف الأحنف إلى عسكره، وكانت عادة الترك أنهم لا يخرجون حتى يخرج ثلاثة من فرسانهم أكفاء كلهم يضرب بطبله ثم يخرجون بعد خروج الثالث فلما خرجوا تلك الليلة بعد الثالث فأتوا على فرسانهم مقتلين تشاءم خاقان وتطير فقال: قد طال مقامنا وقد أصيب فرساننا مالنا في قتال هؤلاء القوم خير. فرجعوا وارتفع النهار للمسلمين ولم يروا منهم أحدا وأتاهم الخبر بانصراف خاقان والترك إلى بلخ وقد كان يزدجرد ترك خاقان مقابل المسلمين بمرو الروذ وانصرف إلى مرو الشاهجان فتحصن حارثة بن النعمان ومن معه
فحصرهم واستخرج خزائنه من موضعها وخاقان مقيم ببلخ.
فلما جمع يزدجرد خزائنه وكانت كبيرة عظيمة وأراد أن يلحق بخاقان قال له أهل فارس: أي شيء تريد أن تصنع؟ قال: أريد اللحاق بخاقان فأكون معه أو بالصين. قالوا له: إن هذا رأي سوء أرجع بنا إلى
35

هؤلاء القوم فنصالحهم فإنهم أوفياء هم أهل دين وإن عدوا يلينا في بلادنا أحب إلينا مملكة من عدو لينا في بلاده ولا دين لهم ولا ندري ما وفاؤهم. فأبن عليهم فقالوا: دع خزائننا نردها إلى بلادنا ومن يلينا لا تخرجها من بلادنا. فأبى فاعتزلوه وقاتلوه فهزموه وأخذوا الخزائن واستولوا عليها وانهزم منهم، ولحق بخاقان، وعبر النهر من بلخ إلى فرغانة، وأقام يزدجرد ببلد الترك فلم يزل مقيما زمن عمر كله إلى أن كفر أهل خراسان زمن عثمان وكان يكاتبهم. ويكاتبونه وسيرد ذكر ذلك في موضعه.
ثم أقبل أهل فارس بعد رحيل يزدجرد على الأحنف فصالحوه ودفعوا إليه تلك الخزائن والأموال وتراجعوا إلى بلدانهم وأموالهم علن أفضل ما كانوا عليه زمن الأكاسرة، واغتبطوا بملك المسلمين، وأصاب الفارس يوم يزدجرد كسهمه يوم القادسية، وسار الأحنف إلى بلخ فنزلها بعد عبور خاقان النهر منها ونزل أهل الكوفة في
كورها الأربع، ثم رجع إلى مرو الروذ فنزلها وكتب بفتح خاقان ويزدجرد إلى عمر.
ولما عبر خاقان ويزدجرد النهر لقوا رسول يزدجرد الذي أرسله إلى ملك الصين فأخبرهما أن ملك الصين قال له: صف لي هؤلاء القوم الذين أخرجوكم من بلادكم فإني أراك تذكر قلة منهم وكثرة منكم ولا يبلغ أمثال هؤلاء القليل منكم مع كثرتكم إلا بخير عندهم وشر فيكم. فقلت: سلني عما أحببت؟ فقال: أيوفون بالعهد؟ قلت نعم. قال: وما يقولون لكم قبل القتال؟ قال: قلت يدعوننا إلى واحدة من ثلاث إما دينهم فإن أجبنا أجرونا مجراهم، أو الجزية والمنعة، أو المنابذة. قال: فكيف طاعتهم أمراءهم؟ قلت: أطوع قوم وأرشدهم. قال: فما يحلون وما يحرمون؟ فأخبرته.
36

قال: هل يحلون ما حرم عليهم أو يحرمون ما حلل لهم؟ قلت: لا. قال: فإن هؤلاء القوم لا يزالون على ظفر حتى يحلوا حرامهم أو يحرموا حلالهم. ثم قال: أخبرني عن لباسهم؟ فأخبرته، وعن مطاياهم؟ فقلت: الخيل العراب ووصفتها له فقال: نعمت الحصون. ووصفت له الإبل وبروكها وقيامها بحملها فقال: هذه صفة دواب طوال الأعناق، وكتب معه إلى يزدجرد: إنه لم يمنعني أن أبعث إليك بجند أوله بمرو وآخره بالصين الجهالة بما يحق على ولكن هؤلاء القوم الذين وصف لي رسولك لو يحاولون الجبال لهدوها ولو خلالهم سربهم أزالوني ما داموا على [ما] وصف، فسالمهم وارض منهم بالمسالمة ولا تهيجهم ما لم يهيجوك. فأقام يزدجرد بفرغانة ومعه آل كسرى بعهد من خاقان.
ولما وصل خبر الفتح إلى عمر بن الخطاب جمع الناس وخطبهم وقرأ عليهم كتاب الفتح وحمد الله في خطبته على إنجاز وعده ثم قال: ألا وإن ملك المجوسية قد هلك فليسوا يملكون من بلادهم شبرا يضر بمسلم. ألا وإن الله قد أورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأبناءهم لينظر كيف تعملون فلا تبدلوا فيستبدل الله بكم غيركم فإني لا أخاف على هذه الأمة أن تؤتى إلا من قبلكم.
وقيل: إن فتح خراسان كان زمن عثمان وسيرد هناك.
37

ذكر فتح شهرزور والصامغان
لما استعمل عمر عزرة بن قيس على حلوان حاول فتح شهرزور فلم يقدر عليها فغزاها عتبة بن فرقد ففتحها بعد قتال على مثل صلح حلوان، فكانت العقارب تصيب الرجل من المسلمين فيموت، وصالح أهل الصامغان وداراباذ على الجزية والخراج وقتل خلقا كثيرا من الأكراد، وكتب إلى عمر أن فتوحي قد بلغ أذربيجان فولاه إياها، وولى هرثمة بن عرفجة الموصل، ولم يزل شهرزور وأعمالها مضمومة إلى الموصل حتى أفردت عنها اخر خلافة الرشيد.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة غزا معاوية بلاد الروم، ودخلها في عشرة آلاف فارس من
المسلمين. وفيها ولد يزيد بن معاوية، وعبد الملك بن مروان، وحج بالناس في هذه السنة عمر بن الخطاب وكان عماله على الأمصار فيها عماله في السنة قبلها إلا الكوفة فإن عامله كان عليها المغيرة بن شعبة، وإلا البصرة فإن عامله عليها صار أبا موسى الأشعري.
38

23
ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين
قال بعضهم: كان فتح إصطخر سنة ثلاث وعشرين. وقيل: كان فتحها بعد توج الآخرة.
ذكر الخبر عن فتح توج
لما خرج أهل البصرة الذين توجهوا إلى فارس أمراء عليها وكان معها سارية بن زنيم الكناني فساروا وأهل فارس مجتمعون بتوج فلم يقصدهم المسلمون بل توجه [كل] أمير إلى الجهة التي أمر بها وبلغ ذلك أهل فارس فافترقوا إلى بلدانهم كما افترق المسلمون فكانت تلك هزيمتهم وتشتت أمورهم. فقصد مجاشع بن مسعود لسابور واردشيرخره فالتقى هو والفرس بتوج، فاقتتلوا ما شاء الله ثم انهزم الفرس وقتلهم المسلمون كيف شاؤوا كل قتلة، وغنموا ما في عسكرهم، وحصروا توج فافتتحوها وقتلوا منهم خلقا كثيرا وغنموا ما فيها وهذه توج الآخرة، والأولى هي التي استقدمتها جنود العلاء بن الحضرمي أيام طاوس ثم دعوا إلى الجزية فرجعوا وأقروا بها، وأرسل مجاشع بن مسعود السلمي بالبشارة. والأخماس إلى عمر بن الخطاب.
39

ذكر فتح إصطخر وجور وغيرهما
وقصد عثمان بن أبي العاص الثقفي لإصطخر فالتقى هو وأهل إصطخر بجور فاقتتلوا وانهزم الفرس وفتح المسلمون جور ثم إصطخر وقتلوا ما شاء الله، ثم فر منهم من فر فدعاهم عثمان إلى الجزية والذمة، فأجابه الهربذ إليها فتراجعوا، وكان عثمان قد جمع الغنائم لما هزمهم فبعث بخمسها إلى عمر وقسم الباقي في الناس.
وفتح عثمان كازرون والنوبندجان وغلب على أرضها، وفتح هو وأبو موسى مدينة شيراز وأرجان وفتحا سينيز على الجزية والخراج، وقصد ئ هان أيضا جنابا ففتحها ولقيه جمع الفرس بناحية جهرم فهزمهم وفتحها.
ثم إن شهرك خلع في آخر خلافة عمر وأول خلافة عثمان. فوجه إليه عثمان بن أبي العاص وأتته الأمداد من البصرة وأميرهم عبيد الله بن معمر، وشبل بن معبد فالتقوا بأرض فارس فقال شهرك لابنه وهما في المعركة وبينهما وبين قرية لهما تدعى شهرك ثلاثة فراسخ: يا بني أين يكون غداؤنا ها هنا أم بشهرك؟ قال له: يا أبت إن تركونا فلا يكون غداؤنا ها هنا ولا بشهرك ولا نكون إلا في المنزل [ولكن والله] ما أراهم يتركوننا فما فرغا من كلامهما حتى شعت المسلمون الحرب فاقتتلوا قتالا شديدا وقتل شهرك وابنه وخلق عظيم، والذي قتل شهرك الحكم بن أبي العاص أخو عثمان، وقيل: قتله سوار بن همام العبدي حمل عليه فطعنه فقتله. وحمل ابن شهرك على سوار فقتله.
40

وقيل: إن إصطخر كانت سنة ثمان وعشرين وكانت فارس الآخرة سنة تسع وعشرين.
وقيل: إن عثمان بن م بي العاص أرسل أخاه الحكم من البحرين في ألفين إلى فارس ففتح جزيرة بركاوان في طريقه ثم سار إلى توج، وكان كسري أرسل شهرك فالتقوا مع شهرك وكان الجارود، وأبو صفرة على مجنبتي المسلمين، وأبو صفرة هذا هو والد المهلب فحمل الفرس على المسلمين فهزموهم فقال الجارود: أيها الأمير فرد الجند. فقال: ستري أمرك. فقال: فما لبثوا حتى رجعت خيل لهم ليس عليها فرسانها والمسلمون يتبعونهم يقتلونهم فنثرت الرؤوس فرأى المكعبر رأسا ضخما فقال: أيها الأمير هذا رأس الازدهاق، يعني شهرك، وحوصر الفرس بمدينة سابور فصالح عليها ملكها ارزنبان فاستعان به الحكم على قتال أهل إصطخر، ومات عمر وبعث عثمان بن عفان عبيد الله بن معمر مكانه فبلغ عبيد الله أن أرزنبان يريد الغدر به، فقال له: أحب أن تتخذ لأصحابي طعاما وتذبح لهم بقرة وتجعل عظامها في الجفنة التي تليني فإني أحب أن أتمشش العظام ففعل وجعل يأخذ العظم الذي لا يكسر إلا بالفؤوس فيكسره بيده، ويأخذ منه وكان من أشد الناس، فقام ارزنبان فأخذ برجله وقال: هذا مقام العائذ بك وأعطاه عهدا، وأصابت
41

عبيد الله، منجنيق فأوصاهم. وقال: إنكم ستفتحون هذه المدينة إن شاء الله فاقتلوهم بني ساعة فيها ففعلوا فقتلوا منهم بشرا كثيرا ومات عبيد الله بن معمر.
وقيل: إن قتله كان سنة تسع وعشرين.
ذكر فتح فسا ودار ابجرد
وقصد سارية بن زنيم الدئلي فسا، ودار ابجرد حتى انتهى إلى عسكرهم فنزل عليهم وحاصرهم ما شاء الله ثم إنهم استمدوا وتجمعوا وتجمعت إليهم أكراد فارس فدهم المسلمين أمر عظيم، وجمع كثير، وأتاهم الفرس من كل جانب فرأى عمر فيما يرى النائم تلك الليلة معركتهم وعددهم في ساعة من النهار، فنادى من الغد الصلاة جامعة حتى إذا كان في الساعة التي رأي فيها ما رأي خرج إليهم، وكان ابن زنيم والمسلمون بصحراء إن أقاموا فيها أحيط بهم وإن استندوا إلى جبل من خلفهم لم يؤتوا إلا من وجه واحد فقام فقال: يا أيها الناس إني رأيت هذين الجمعين وأخبر بحالهما وصاح عمر وهو يخطب: يا سارية بن زنيم الجبل الجبل! ثم أقبل عليهم وقال: إن لله جنودا ولعل بعضها أن تبلغهم. فسمع سارية ومن معه الصوت فلجأوا إلى الجبل ثم قاتلوهم فهزمهم الله وأصاب المسلمون مغانمهم، وأصابوا في الغنائم سفطا فيه جوهر فاستوهبه منهم سارية وبعث به
وبالفتح مع رجل إلى عمر. فقدم على عمر وهو يطعم الطعام فأمره فجلس وأكل، فلما انصرف عمر
42

اتبعه الرسول فظن عمر أنه لم يشبع، فأمره فدخل بيته فلما جلس أتي عمر بغدائه خبز وزيت وملح جريش فأكلا، فلما فرغ قال الرجل: أنا رسول سارية يا أمير المؤمنين. قال: مرحبا وأهلا ثم أدناه حتى مس ركبته وسأله عن المسلمين فأخبره بقصة الدرج، فنظر إليه وصاح به: لا ولا كرامة، حتى يقدم علي ذلك الجند فيقسمه بينهم فطرده. فقال: يا أمير المؤمنين إني قد انضيت جملي واستقرضت في جائزتي فأعطني ما أتبلغ به. فما زال به حتى أبدله بعيرا من إبل الصدقة وجعل بعيره في إبل الصدقة، ورجيم الرسول مغضوبا عليه محروما وسأل أهل المدينة الرسول: هل سمعوا شيئا يوم الوقعة؟ قال: نعم سمعنا يا سارية الجبل الجبل وقد كدنا نهلك فلجأنا إليه ففتح الله علينا.
ذكر فتح كرمان
ثم قصد سهيل بن عدي كرمان، ولحقه أيضا عبد الله بن عبد الله بن عتبان، وحشد لهم أهل كرمان واستعانوا عليهم بالقفص فاقتتلوا في أداني أرضهم ففض الله تعالى المشركين وأخذ المسلمون عليهم الطريق. وقتل النسير بن عمرو العجلي مرزبانها فدخل النسير من قبل طريق القرى اليوم إلى جيرفت وعبد الله بن عبد الله من مفازة شير فأصابوا ما أرادوا من بعير
43

أو شاء فقوموا الإبل والغنم فتحاصوها بالأثمان لعظم البخت على العراب، وكرهوا أن يزيدوا وكتبوا إلى عمر بذلك فأجابهم إذا رأيتم أن في البخت فضلا فزيدوا، وقيل: إن الذي فتح كرمان عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي في خلافة عمر ثم أتى الطبسين من كرمان، ثم قدم على عمر فقال: أقطعني الطبسين فأراد أن يفعل فقيل: إنهما رستاقان، فامتنع عمر من ذلك.
ذكر فتح سجستان
وقصد عاصم بن عمرو سجستان، ولحقه عبد الله بن عمير فاستقبلهم أهلها فالتقوا هم وأهل سجستان في أداني أرضهم فهزمهم المسلمون ثم اتبعوهم حتى حصروهم بزرنج ومخروا أرض سجستان ما شاؤوا، ثم إنهم طلبوا الصلح على زرنج وما احتازوا من الأرضين فأعطوا وكانوا قد اشترطوا في صلحهم أن فدافدها حمى فكان المسلمون يتجنبونها خشية أن يصيبوا منها شيئا فيخفروا، وأقيم أهل سجستان على الخراج وكانت سجستان أعظم من خراسان وأبعد فروجا يقاتلون القندهار، والترك، وأمما كثيرة فلم يزل كذلك حتى كان زمن معاوية فهرب الشاه من أخيه رتبيل إلى بلد فيها يدعن آمل ودان لسلم بن زياد وهو يومئذ على سجستان [ففرح بذلك] وعقد لهم
44

وأنزلهم البلاد وكتب إلى معاوية بذلك يري أنه فتح عليه، فقال معاوية: إن ابن أخي ليفرح بإمارته ليحزنني [وينبغي له أن يحزنه] قال: ولم يا أمير المؤمنين؟ قال: إن آمل بلدة بينها وبين زرنج صعوبة وتضايق وهؤلاء قوم غدر فإذا أضطرب الجبل غدرا فأهون ما يجيء منهم أنهم يغلبون على بلاد آمل بأسرها وأقرهم على عهد سلم بن زياد. فلما وقعت الفتنة بعد معاوية كفر الشاه وغلب على آمل واعتصم منه رتبيل بمكانه ولم يرضه ذلك حين تشاغل عنه الناس حتى طمع في زرنج فغزاها وحصر من بها حتى أتتهم الأمداد من البصرة وصار رتبيل والذين معه عصبة، وكانت تلك البلاد مذللة إلى أن مات معاوية.
وقيل في فتح سجستان غير هذا، وسيرد ذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر فتح مكران
وقصد الحكم بن عمرو التغلبي مكران حتى انتهى إليها ولحق به شهاب بن المخارق، وسهيل بن عدي، وعبد الله بن عبد الله بن عتبان فانتهوا إلى دوين النهر وأهل مكران على شاطئه فاستمد ملكهم ملك السند، فأمده بجيش كثيف فالتقوا مع المسلمين فانهزموا وقتل منهم في المعركة مقتلة عظيمة واتبعهم المسلمون يقتلونهم أياما حتى انتهوا إلى النهر، ورجع المسلمون إلى مكران فأقاموا بها وكتب الحكم إلى عمر بالفتح وبعث إليه بالأخماس مع صحار العبدي. فلما قدم المدينة سأل عمر عن مكران، فقال: يا أمير المؤمنين، هي
45

أرض سهلها جبل، وماؤها وشل، وثمرها دقل، وعدوها بطل، وخيرها قليل، وشرها طويل، والكثير فيها قليل، والقليل فيها ضائع، وما وراءها شر منها. فقال: أسجاع أنت أم مخبر؟ لا والته لا يغزوها جيش لي أبدا. وكتب إلى سهيل والحكم بن عمرو أن لا يجوزن مكران أحد من جنودكما [واقتصرا على ما دون النهر] وأمرهما ببيع الفيلة التي غنمها المسلمون ببلاد الاسلام، وقسم أثمانها على الغانمين:
(مكران بضم الميم وسكون الكاف).
ذكر خبر بيروذ من الأهواز
ولما فصلت الخيول إلى الكور أجتمع ببيروذ جمع عظيم من الأكراد، وغيرهم، وكان عمر قد عهد إلى أبي موسى أن يسير إلى أقصى ذمة البصرة حتى لا يؤتى المسلمون من خلفهم وخشي أن يهلك بعض جنوده أو يخلفوا في أعقابهم، فاجتمع الأكراد ببيروذ وأبطأ أبو موسى حتى تجمعوا ثم سار فنزل بهم ببيروذ، فالتقوا في رمضان بين نهر تيرى ومناذر، فقام المهاجر بن زياد وقد تحنط واستقتل وعزم أبو موسى على الناس فأفطروا، وتقدم المهاجر فقاتل قتالا شديدا حتى قتل. ووهن الله المشركين حتى تحصنوا في قلة وذلة، واشتد جزع الربيع بن زياد علن أخيه المهاجر وعظم عليه فقده فرق له أبو موسى فاستخلفه عليهم في جند، وخرج أبو موسى حتى بلغ أصبهان واجتمع
46

بها بالمسلمين الذين يحاصرون جيا، فلما فتحت رجع أبو موسى إلى البصرة وفتح الربيع بن زياد الحارثي بيروذ من نهر تيرى وغنم ما معهم.
ووفد أبو موسى وفدا معهم الأخماس فطلب ضبة بن محصن العنزي أن يكون في الوفد فلم يجبه أبو موسى، وكان أبو موسى قد اختار من سبي بيروذ ستين غلاما فانطلق ضبة إلى عمر شاكيا، وكتب أبو موسى إلى عمر خبره فلما قدم ضبة على عمر سلم عليه فقال: من أنت؟ فأخبره. فقال: لا مرحبا ولا هلا. فقال: أما المرحب فمن الله وأما الأهل فلا أهل.
ثم سأله عمر عن حاله فقال: إن أبا موسى انتقى ستين غلاما من أبناء الدهاقين لنفسه، وله جارية تغدى جفنة وتعشى جفنة تدعى عقيلة، وله قفيزان وله خاتمان وفوض إلى زياد بن أبي سفيان أمور البصرة، وأجاز الحطيئة بألف فاستدعى عمر أبا موسى، فلما قدم عليه حجبه أياما، ثم استدعاه فسأل عمر ضبة عما قال فقال: أخذ ستين غلاما لنفسه فقال أبو موسى: دللت عليهم وكان لهم فداء ففديتهم وقسمته بين المسلمين. فقال ضبة: ما كذب ولا كذبت. فقال: له قفيزان فقال أبو موسى: قفيز لأهلي أقوتهم به وقفيز للمسلمين في أيديهم يأخذون به أرزاقهم. فقال ضبة: ما كذب ولا كذبت، فلما ذكر عقيلة سكت أبو موسى ولم يعتذر فعلم أن ضبة قد صدقه. قال: وولى زيادا. قال: رأيت له رأيا ونبلا فأسندت إليه عملي. قال: وأجاز الحطيئة بألف. قال: سددت فمه بمالي أن يشتمني فرده عمر وأمره أن يرسل إليه زيادا، وعقيلة ففعل، فلما قدم عليه زياد سأله عن حاله، وعطائه، والفرائض، والسنن، والقرآن فرآه فقيها فرده، وأمر أمراء البصرة أن يسيروا برأيه، وحبس عقيلة بالمدينة.
وقال عمر: ألا إن ضبة غضب على أبي موسى وفارقه مراغما إن فاته أمر من
47

أمر الدنيا فصدق عليه وكذب فأفسد كذبه صدقه فإياكم والكذب فإنه يهدي إلى النار:
(بيروذ بفتح الباء الموحدة وسكون الياء تحتها نقطتان وضم الراء وسكون الواو وآخره ذال معجمة).
ذكر خبر سلمة بن قيس الأشجعي والأكراد
كان عمر إذا اجتمع إليه جيش من المسلمين أش عليهم أميرا من أهل العلم والفقه فاجتمع إليه جيش من المسلمين فبعث عليهم سلمة بن قيس الأشجعي فقال: سر باسم الله قاتل في سبيل الله من كفر بالله فإذا لقيتم عدوكم فادعوهم إلى الإسلام فإن أجابوا وأقاموا بدارهم فعليهم الزكاة وليس لهم من الفيء نصيب، وإن ساروا معكم فلهم مثل الذي لكم وعليهم مثل الذي عليكم وإن أبوا فادعوهم إلى الجزية فإن أجابوا فاقبلوا منهم، وإن أبوا فقاتلوهم، وإن تحصنوا منكم وسألوكم أن ينزلوا على حكم الله ورسوله أو ذمة الله ورسوله فلا تجيبوهم فإنكم لا تدرون أتصيبون حكم الله ورسوله وذمتهما أم لا، ولا تغدروا، ولا تقتلوا وليدا، ولا تمثلوا.
قال: فساروا حتى لقوا عدوا من الأكراد المشركين فدعوهم إلى الإسلام، أو الجزية فلم يجيبوا فقاتلوهم
فهزموهم، وقتلوا المقاتلة، وسبوا الذرية فقسمه بينهم، ورأى سلمة جوهرا في سفط فاسترضى عنه المسلمين، وبعث به إلى عمر.
48

فقدم الرسول بالبشارة وبالسفط على عمر فسأله عن أمور الناس وهو يخبره، حتى أخبره بالسفط فغضب غضبا شديدا، وأمر به فوجئ به في عنقه، ثم إنه قال: إن تفرق الناس قبل أن تقدم عليهم، ويقسمه سلمة فيهم لأسوأنك. فسار حتى قدم على سلمة فباعه وقسمه في الناس. وكان الفص يباع بخمسة دراهم وقيمته عشرون ألفا.
وحج بالناس هذه السنة عمر بن الخطاب وحج معه أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وهي آخر حجة حجها، وفيها قتل عمر رضي الله عنه.
ذكر الخبر عن مقتل عمر رضي الله عنه
قال المسور بن مخرمة: خرج عمر بن الخطاب يطوف يوما في السوق فلقيه أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة وكان نصرانيا فقال: يا أمير المؤمنين أعدني علن المغيرة بن شعبة فإن علي خراجا كثيرا. قال: وكم خراجك؟ قال: درهمان كل يوم. قال: وأيش صناعتك؟ قال: نجار، نقاش، حداد قال: فما أرى خراجك كثيرا على ما تصنع من الأعمال، قد بلغني أنك تقول: لو أردت أن أصنع رحن تطحن بالريح لفعلت قال: نعم قال: فاعمل لي رحى قال: لئن سلمت لأعملن لك رحى يتحدث بها من بالمشرق والمغرب، ثم انصرف عنه فقال عمر: لقد أوعدني العبد الآن.
49

ثم انصرف عمر إلى منزله فلما كان الغد جاءه كعب الأحبار فقال له: يا أمير المؤمنين اعهد فإنك ميت في ثلاث ليال. قال: وما يدريك؟ قال: أجده في كتاب التوراة. قال عمر: [آ لله! إنك] أتجد عمر بن الخطاب في التوراة؟ قال: اللهم لا، ولكني أجد حليتك وصفتك وأنك قد فني أجلك قال: وعمر لا يحس وجعا، فلما كان الغد جاءه كعب فقال: بقي يومان، فلما كان الغد جائه كعب فقال: مضى يومان وبقي يوم. فلما أصبح خرج عمر إلى الصلاة وكان يوكل بالصفوف رجالا فإذا استوت كبر، ودخل أبو لؤلؤة في الناس وبيده خنجر له رأسان نصابه في وسطه، فضرب عمر ست ضربات إحداهن تحت سرته وهي التي قتلته، وقتل معه كليب بن أبي البكير الليثي وهو خليفة؛ وقتل جماعة غيره.
فلما وجد عمر حر السلاح سقط، وأمر عبد الرحمن بن عوف فصلى بالناس وعمر طريح؛ فاحتمل فأدخل بيته، ودعا عبد الرحمن فقال له: إني أريد أن أعهد إليك. قال: أتشير علي بذلك؟ قال: اللهم لا. قال: والله لا أدخل فيه أبدا. قال: فهبني صمتا حتى أعهد إلى النفر الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض. ثم دعا عليا، وعثمان، والزبير، وسعدا فقال: انتظروا أخاكم طلحة ثلاثا فإن جاء وإلا فاقضوا أمركم، أنشدك الله يا على إن وليت من أمور الناس شيئا أن تحمل بني هاشم على رقاب الناس، أنشدك الله يا عثمان إن وليت من أمور الناس أن تحمل بني أبي معيط على رقاب الناس، أنشدك الله يا سعد إن وليت من أمور الناس شيئا أن تحمل أقاربك على رقاب الناس. قوموا فتشاوروا، ثم اقضوا أمركم وليصل بالناس صهيب.
50

ثم دعا أبا طلحة الأنصاري. فقال: قم على بابهم فلا تدع أحدا يدخل إليهم، وأوصي الخليفة من بعدي بالأنصار الذين تبوأوا الدار والإيمان أن يحسن إلى محسنهم ويعفو عن مسيئهم، وأوصي الخليفة بالعرب فإنهم مادة الاسلام أن يؤخذ من صدقاتهم حقها فتوضع في فقرائهم، وأوصى الخليفة بذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوفى لهم بعهدهم اللهم هل بلغت؟ لقد تركت الخليفة من بعدي علن أنقى من الراحة، يا عبد الله بن عمر اخرج فانظر من قتلني.
قال: يا أمير المؤمنين قتلك أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة. قال: الحمد لله الذي لم يجعل منيتي بيد رجل سجد لله سجدة واحدة يا عبد الله بن عمر أذهب إلى عائشة فسلها أن تأذن لي أن أدفن مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر يا عبد الله إن اختلف القوم فكن مع الأكثر، فإن تشاوروا فكن مع الحزب الذي فيه عبد الرحمن بن عوف، يا عبد الله ائذن للناس فجعل يدخل عليه المهاجرون والأنصار فيسلمون عليه ويقول لهم: أهذا عن ملأ منكم؟ فيقولون: معاذ الله قال: ودخل كعب الأحبار مع الناس، فلما رآه عمر قال:
توعدني كعب ثلاثا أعدها * ولا شك أن القول ما قال لي كعب
وما بي حذار الموت إني لميت، * ولكن حذار الذنب يتبعه الذنب
ودخل عليه علي يعوده فقعد عند رأسه، وجاء ابن عباس فأثنى عليه فقال له عمر: أنت لي بهذا يا بن عباس؟ فأومأ إلى علي أن قل نعم. فقال ابن عباس: نعم. فقال عمر: لا تغرني أنت وأصحابك؟ ثم قال: يا عبد الله
51

خذ رأسي عن الوسادة فضعه في التراب لعل الله جل ذكره ينظر إلي فيرحمني. والله لو أن لي ما طلعت عليه الشمس لافتديت به من هول المطلع، ودعي له طبيب من بني الحارث بن كعب فسقاه نبيذا فخرج غير متغير فسقاه لبنا فخرج كذلك أيضا ثقال له: أعهد يا أمير المؤمنين. قال: قد فرغت.
ولما احتضر ورأسه في حجر ولده عبد الله قال:
ظلوم لنفسي غير أني مسلم * أصلي الصلاة كلها وأصوم
ولم يزل يذكر الله تعالى ويديم الشهادة إلى أن توفي ليلة الأربعاء لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين. وقيل: طعن يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة ودفن يوم الأحد هلال محرم سنة أربع وعشرين.
وكانت ولايته عشر سنين وستة أشهر وثمانية أيام، وبويع عثمان لثلاث مضين من المحرم وقيل: كانت وفاته لأربع بقين من ذي الحجة وبويع عثمان لليلة بقيت من ذي الحجة واستقبل بخلافته هلال محرم سنة أربع وعشرين. وكانت خلافة عمر على هذا القول عشر سنين وستة أشهر وأربعة أيام، وصلى عليه صهيب، وحمل إلى بيت عائشة، ودفن عند النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، ونزل في قبره عثمان، وعلي، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد، وعبد الله بن عمر.
52

ذكر نسب عمر وصفته وعمره
فأما نسبه: فهو عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي، وكنيته أبو حفص، وأمه حنتمة بنت هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم وهي ابنة عم أبي جهل وقد زعم من لا معرفة له أنها أخت أبي جهل وليس بشيء.
وسماه النبي صلى الله عليه وسلم، الفاروق، وقيل: بل سماه أهل الكتاب.
وأما صفته: فكان طويلا آدم، أصلع، أعسر، يسر يعني يعمل بيديه، وكان لطوله كأنه راكب، وقيل: كان أبيض أبهق يعني شديد البياض تعلوه حمرة طوالا أصلع أشيب وكان يصفر لحيته ويرجل رأسه وكان مولده قبل الفجار بأربع سنين؛ وكان عمره خمسا وخمسين سنة، وقيل: ابن ستين سنة، وقيل: ابن ثلاث وستين سنة وأشهر. وهو الصحيح، وقيل: ابن إحدى وستين سنة:
(رياح بكسر الراء وبالياء تحتها نقطتان).
ذكر أسماء ولده ونسائه
تزوج عمر في الجاهلية زينب بنت مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح فولدت له: عبد الله، وعبد الرحمن الأكبر، وحفصة. وتزوج مليك بنت جرول الخزاعي في الجاهلية فولدت له: عبيد الله بن عمر، ففارقها في الهدنة، فخلفه عليها أبو جهم بن حذيفة وقتل عبيد الله بصفين
53

مع معاوية. وقيل: كانت أمه أم زيد الأصغر أم كلثوم بنت جرول الخزاعي وكان الاسلام فرق بينها وبين عمر. وتزوج قريبة بنت أبي أبية المخزومي في الجاهلية ففارقها في الهدنة أيضا، فتزوجها بعده عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق فكانا سلفي رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن قريبة أخت أج سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم. وتزوج أم حكيم بنت الحارث بن هشام المخزومي في الاسلام فولدت له: فاطمة فطلقها. وقيل: لم يطلقها. وتزوج جميلة أخت عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح الأوسي الأنصاري في الاسلام فولدت له عاصما فطلقها. ثم تزوج أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب وأمها فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصدقها أربعين ألفا فولدت له: رقية، وزيدا. وتزوج فكيهة امرأة من اليمن فولدت له عبد الرحمن الأوسط، وقيل: الأصغر. وقيل: كانت عنده فكيهة أم ولد فولدت له زينب وهي أصغر ولد عمر. وتزوج عاتكة بنت زيد بن
عمرو بن نفيل وكانت قبله عند عبد الله بن أبي بكر الصديق فقتل عنها، فلما مات عمر تزوجها الزبير بن العوام فقتل عنها أيضا فخطبها علي فقالت: لا أفعل، إني أضن بك عن القتل فإنك بقية الناس. فتركها.
وخطب أم كلثوم ابنة أبي بكر الصديق إلى عائشة فقالت أم كلثوم: لا حاجة لي فيه إنه خشن العيش شديد على النساء.
فأرسلت عائشة إلى عمرو
54

ابن العاص فقال: أنا أكفيك. فأتى عمر فقال: بلغني خبر أعيذك بالله منه. قال: ما هو؟ قال: خطبت أم كلثوم بنت أبي بكر. قال: نعم، أفرغبت بي عنها أم رغبت بها عني؟ قال: ولا واحدة ولكنها حدثة نشأت تحت كنف أمير المؤمنين في ليني ورفق، وفيك غلظة، ونحن نهابك وما نقدر أن نردك عن خلق من أخلاقك فكيف بها إن خالفتك في شيء فسطوت بها كنت قد خلفت أبا بكر في ولده بغير ما يحق عليك. وقال: فكيف بعائشة وقد كلمتها؟ قال: أنا لك بها وأدلك على خير منها، أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب تعلق منها بنسب من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وخطب أم أبان بنت عتبة بن ربيعة فكرهته وقالت: يغلق بابه، ويمنع خيره، ويدخل عابسا ويخرج عابسا.
ذكر بعض سيرته رضي الله عنه
قال عمر: إنما مثل العرب مثل جمل أنف اتبع قائده فلينظر قائده حيث يقوده، فأما أنا فورب الكعبة لأحملنهم على الطريق. قال نافع العبسي: دخلت حير الصدقة مع عمر بن الخطاب، وعلي بن أقي طالب قال: فجلس عثمان في الظل يكتب، وقام علي على رأسه يملي عليه ما يقول عمر، وعمر قائم في الشمس في يوم شديد الحر عليه بردان أسودان اتزر بأحدهما ولف الآخر على رأسه يعد إبل الصدقة يكتب ألوانها وأسنانها. فقال علي لعثمان: في كتاب الله:
55

(يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين) ثم أشار ين بيده إلى عمر وقال: هذا القوي الأمين.
وقال عبد الله بن عامر بن ربيعة: رأيت عمر أخذ بتبنة من الأرض فقال: يا ليتني هذه التبنة، يا ليتني لم أك شيئا، يا ليت أمي لم تلدني، يا ليتني كنت نسيا منسيا. وقال الحسن: قال عمر: لئن عشت إن شاء الله لأسيرن في الرعية حولا فإني أعلم أن للناس حوائج تقطع دوني، أما عمالهم فلا يرفعونها إلي، وأما هم فلا يصلون إلي فأسير إلى الشام فأقيم شهرين، وبالجزيرة شهرين، وبمصر شهرين، وبالبحرين شهرين، وبالكوفة شهرين، وبالبصرة شهرين، والله لنعم الحول هذا. وقيل لعمر: إن ها هنا رجلا من الأنبار له بصر بالديوان لو اتخذته كاتبا فقال: لقد اتخذت إذن بطانة من دون المؤمنين.
قيل: خطب عمر الناس فقال: والذي بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق لو أن جملا هلك ضياعا بشط الفرات لخشيت أن يسألني الله عنه.
وقال أبو فراس: خطب عمر الناس فقال: أيها الناس إني ما أرسل إليكم عمالا ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم، وإنما أرسلهم إليكم ليعلموكم دينكم وسنتكم فمن فعل به شيء سوي ذلك فليرفعه إلي، فوالذي نفس عمر بيده لأقصنه منه. فوثب عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين أرأيتك إن كان رجل من [أمراء] المسلمين على رعية فأدب بعض رعيته إنك لتقضه منه؟ قال: أي والذي نفس عمر بيده إذن لأقصنه منه، وكيف لا أقصه منه وقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقص من نفسه، ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم ولا تحمدوهم فتفتنوهم، ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم ولا تنزلوهم الغياض فتضيعوهم.
56

قال بكر بن عبد الله جاء عمر بن الخطاب إلى عبد الرحمن بن عوف وهو يصلي قي بيته ليلا، فقال له: ما جاء بك في هذه الساعة؟ قال: رفقة نزلت في ناحية السوق خشيت عليهم سراق المدينة فانطلق فلنحرسهم. فأتيا السوق فقعدا عك نشز من الأرض يتحدثان فرفع لهما مصباح فقال عمر. ألم أنه عن المصابيح بعد النوم؟ فانطلقا فإذا قوم عك شراب لهم قال: انطلق فقد عرفته، فلما م صبح أرسل إليه، قال: يا فلان كنت وأصحابك البارحة على شراب. قال: وما أعلمك يا أمير المؤمنين؟ قال: شيء شهدته. قال: أو لم ينهك الله عن التجسس؟ فتجاوز عنه.
وإنما نهى عمر عن المصابيح لأن الفأرة تأخذ الفتيلة فترمي بها في سقف البيت فتحرقه، وكانت السقوف من جريد، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك قبله.
وقال أسلم: وخرج عمر إلى حرة وأقم وأنا معه حتى إذا كنا بصرار إذ نار تسعر فقال: انطلق بنا إليهم. فهرولنا حتى دنونا منهم فإذا بامرأة معها صبيان لها وقدر منصوبة عك نار وصبيانها يتضاغون فقال عمر: السلام عليكم يا أصحاب الضوء وكره أن يقول: يا أصحاب النار. قالت: وعليك السلام. قال: أدنو؟ قالت: ادن بخير أو دع. فدنا فقال: ما بالكم؟ قالت: قصر بنا الليل والبرد. قال: فما بال هؤلاء الصبية يتضاغون؟ قالت: [من] الجوع. قال: وأي شيء في هذه القدر؟ قالت: مالي ما أسكتهم حتى يناموا فأنا أعللهم وأوهمهم أني أصلح لهم شيئا حتى يناموا، الله بيننا وبين عمر. قال: أي رحمك الله ما يدري بكم عمر؟ قالت: يتولى أمرنا وينفل عنا؟ فأقبل على وقال: انطلق بنا فخرجنا نهرول حتى أتينا دار الدقيق فأخرج عدلا فيه كبة شحم فقال: أحمله على ظهري. قال أسلم: فقلت: أنا أحمله عنك، مرتين أو ثلاثا فقال آخر ذلك: أنت تحمل عني وزري يوم القيامة لا أم لك! فحملته
57

عليه، فأنطلق وانطلقت معه نهرول حتى انتهينا إليها. فألقى ذلك عندها، وأخرج من الدقيق شيئا فجعل يقول لها: ذري علي وأنا أحرك لك. وجعل ينفخ تحت القدر، وكان ذا لحية عظيمة، فجعلت أنظر إلى الدخان من خلل لحيته حتى أنضج، ثم أنزل القدر فأتته بصحفة فأفرغها [فيها]، ثم قال: أطعميهم وأنا اسطح لك، فلم يزل حتى شبعوا، ثم خلى عندها فضل ذلك، وقام وقمت معه فجعلت تقول: جزاك الله خيرا أنت أولى بهذا الأمر من أمير المؤمنين! فيقول: قولي خيرا فإنك إذا جئت أمير المؤمنين وجدتني هناك إن شاء الله! لم تنحى ناحية، ثم استقبلها وربض لا يكلمني حتى رأى الصبية يضحكون ويصطرعون ثم ناموا وهدأوا، فقام وهو يحمد الله فقال: يا أسلم الجوع أسهرهم وأبكاهم فأحببت أن لا أنصرف حتى أرى ما رأيت منهم:
(صرار بكسر الصاد المهملة ورائين).
قال سالم بن عبد الله بن عمر: وكان عمر إذا نهى الناس عن شيء جمع أهله فقال: إني نهيت الناس عن كذا وكذا وإن الناس ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم، وأقسم بالله لا أجذ أحدا [منكم] فعله إلا أضعفت عليه العقوبة. قال سلام بن مسكين: وكان عمر إذا احتاج أتن صاحب بيت المال فاستقرضه فربما أعسر فيأتيه صاحب بيت المال يتقاضاه فيلزمه فيحتال له عمر، وربما خرج عطاؤه فقضاه.
قال: وهو أول من دعي بأمير المؤمنين وذلك أنه لما ولي قالوا له: يا خليفة خليفة رسول الله فقال عمر: هذا أمر يطول، كلما جاء خليفة قالوا: يا خليفة
58

خليفة خليفة رسول الله! بل أنتم المؤمنون وأنا أميركم، فسمي أمير المؤمنين.
وهو أول من كتب التاريخ، وقد تقدم.
وهو أول من اتخذ بيت مال، وأول من عس الليل، وأول من عاقب علن الهجاء، وأول من نهى عن بيع أمهات الأولاد، وأول من جمع الناس في صلاة الجنازة على أربع تكبيرات وكانوا قبل ذلك يصلون أربعا وخمسا وستا.
قال الواقدي:
وهو أول من جمع الناس على إمام يصلي بهم التراويح في شهر رمضان وكتب به إلى البلدان وأمرهم به، وهو أول من حمل الذرة وضرب بها، وأول من دون في الاسلام.
قال زاذان: قال عمر لسلمان: أملك أنا أم خليفة؟ قال له سلمان: إن أنت جبيت من أرض المسلمين درهما أو أقل أو أكثر ووضعته في غير حقه فأنت ملك غير خليفة فبكى عمر.
وقال أبو هريرة: يرحم الله ابن حنتمة لقد رأيته عام الرمادة وإنه ليحمل على ظهره جرابين وعكة زيت في يده، وإنه ليعتقب هو وأسلم، فلما رآني قال: من أين يا أبا هريرة؟ قلت: قريبا. فأخذت أعقبه فحملناه حتى انتهينا إلى صرار فإذا نحو من عشرين بيتا من محارب فقال، لهم: ما أقدمكم؟ قالوا: الجهد، وأخرجوا لنا جلد
الميتة مشويا كانوا يأكلونه، ورمة العظام مسحوقة كانوا يستفونها، فرأيت عمر طرح رداءه، ثم أتزر، فما زال يطبخ حتى أشبعهم، ثم أرسل أسلم إلى المدينة فجاءنا بأبعرة فحملهم عليها حتى أنزلهم الجبانة ثم كساهم، وكان يختلف إليهم وإلى غيرهم حتى رفع الله ذلك.
قال أبو خيثمة: رأت الشفاء بنت عبد الله فتيانا يقصدون في المشي ويتكلمون
59

رويدا فقالت: ما هذا؟ قالوا: نساك. فقالت: كان والله عمر إذا تكلم أسمع، وإذا مشى أسرع، ط ذا ضرب أوجع وهو والله ناسك حقا.
قال الحسن: خطب عمر الناس وعليه إزار فيه اثنتا عشرة رقعة منها أدم. قال أبو عثمان النهدي: رأيت عمر يرمي الجمرة وعليه إزار مرقع بقطعة جراب. وقال علي: رأيت عمر يطوف بالكعبة وعليه إزار فيه إحدى وعشرون رقعة فيها أدم.
وقال الحسن: كان عمر يمر بالآية من ورده فيسقط حتى يعاد كما يعاد المريض، وقيل: إنه سمع قارئا يقرأ (والطور) فلما انتهى إلى قوله تعالى: (إن عذاب ربك لواقع ماله من دافع) سقط، ثم تحامل إلى منزله فمرض شهرا من ذلك. قال الشعبي: كان عمر يطوف في الأسواق، ويقرأ القرآن، ويقضي بين الناس حيث أدركه الخصوم.
قال موسى بن عقبة: أن رهط إلى عمر فقالوا له: كثر العيال واشتدت المؤنة فزدنا في عطائنا. قال: فعلتموها! جمعتم بين الضرائر، واتخذتم الخدم من مال الله لوددت أني وإياكم في سفينة في لجة البحر تذهب بنا شرقا وغربا فلن يعجز الناس أن يولوا رجلا منهم فإن استقام أتبعوه، وإن جنف قتلوه. فقال طلحة: وما عليك لو قلت: وإن تعوج عزلوه؟ قال: لا القتل أنكل لمن بعده، احذروا فتى من قريش وابن كريمها الذي لا ينام إلا على الرضا، ويضحك عند الغضب، وهو يتناول من فوقه ومن تحته.
60

قال مجالد: ذكر رجل عند عمر فقيل يا أمير المؤمنين فاضل لا يعرف من الشر شيئا. قال: ذاك أوقع له فيه. قال صالح بن كيسان: قال المغيرة بن شعبة لما دفن عمر: أتيت عليا وأنا أحب أن أسمع منه في عمر شيئا، فخرج ينفض رأسه ولحيته وقد اغتسل وهو ملتحف بثوب لا يشك أن الأمر يصير اليه فقال: يرحم الله ابن الخطاب لقد صدقت ابنة أبي حنتمة ذهب بخيرها ونجا من شرها أو والله ما قالت ولكن قولت. وقالت عاتكة بنت زيد بن عمرو في عمر:
وفجعني فيروز لا در دره * بأبيض تال للكتاب منيب
رؤوف على الأدنى غليظ على العدا * أخي ثقة في النائبات مجيب
متى ما يقل لا يكذب القول فعله * سريع إلى الخيرات غير قطوب
وقال أيضا:
عين جودي بعبرة ونحيب * لا تملي على الإمام النجيب
فجعتني المنون بالفارس المع‍ * ‍لم يوم الهياج والتلبيب
عصمة الناس والمعين على الده‍ * ‍ر وغيث المنتاب والمحروب
قل لأهل الثراء والبؤس موتوا * قد سقته المنون كأس شعوب
قال ابن المسيب: وحج عمر فلما كان بضجنان قال: لا إله إلا الله العظيم، العلي، المعطي. ما شاء من شاء. كنت أرعى إبل الخطاب في هذا الوادي في مدرعة صوف وكان فظا، يتعبني إذا عملت، ويضربني إذا قصرت، وقد أمسيت وليس بيني وبين الله أحد. ثم تمثل:
61

لا شيء فيما ترى تبقى بشاشته * يبقى الإله ويودي المال والولد
لم تغن عن هرمز يوما خزائنه * والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا
ولا سليمان إذ تجري الرياح به * والإنس والجن فيما بينها برد
أين الملوك التي كانت نوافلها * من كل أوب إليها راكب يفد
حوضا هنالك مورودا بلا كذب * لابد من ورده يوما كما وردوا
قال أسلم: إن هند بنت عتبة استقرضت عمر من بيت المال أربعة آلاف تتجر فيها وتضمنها فأقرضها، فخرجت فيها إلى بلاد كلب فاشترت وباعت، فبلغها أن أبا سفيان وابنه عمرا أتيا معاوية فعدلت إليه، وكان أبو سفيان قد طلقها فقال لها معاوية: ما أقدمك أي أمة؟ قالت: النظر إليك أي بني، إنه عمر، وإنما يعمل لله، وقد أتاك أبوك فخشيت أن تخرج إليه من كل شيء وأهل ذلك هو ولا يعلم الناس من أين أعطيته فيؤنبوك ويؤنبك عمر فلا تستقيلها أبدا. فبعث إلى أبيه وإلى أخيه بمائة دينار وكساهما وحملها، فتسخطها عمرو، فقال أبو سفيان: لا تسخطها، فإن هذا عطاء لم تنب عنه هند. ورجعوا جميعا، فقال أبو سفيان لهند: أربحت؟ قالت: الله أعلم. فلما أتت المدينة وباعت شكت الوضيعة، فقال لها عمر: لو كان مالي لتركته لك، ولكنه مال المسلمين. وقال لأبي سفيان: بكم أجازك معاوية. قال: بمائة دينار.
قال ابن عباس: بينما عمر بن الخطاب وأصحابه يتذاكرون الشعر فقال بعضهم: فلان أشعر، وقال بعضهم: بل فلان أشعر. قال: فأقبلت، فقال
62

عمر: قد جاءكم أعلم الناس بها. من أشعر الشعراء؟ قال: قلت: زهير بن أبي سلمى. فقال: هلم من شعره ما نستدل به على ما ذكرت. فقلت: امتدح قوما من غطفان فقال:
لو كان يقعد فوق الشمس من كرم * قوم بأولهم أو مجدهم قعدوا
قوم أبوهم سنان حين تنسبهم * طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا
جن إذا فزعوا إنس إذا أمنوا * ممردون بهاليل إذا جهدوا
محسدون علن ما كان من نعم * لا ينزع الله منهم ماله حسدوا
فقال عمر: أحسن والله، وما أعلم أحدا أولى بهذا الشعر من هذا الحي من بني هاشم لفضل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرابتهم منه. فقلت: وفقت يا أمير المؤمنين، ولم تزل موفقا. فقال: يا بن عباس أتدري ما منع قومكم منكم بعد محمد صلى الله عليه وسلم؟ فكرهت أن أجيبه فقلت: إن لم أكن أدري فإن أمير المؤمنين يدريني! فقال عمر: كرهوا أن يجمعوا لكم النبوة والخلافة فتبجحوا على قومكم بجحا بجحا فاختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفقت. فقلت: يا أمير المؤمنين إن تأذن لي في الكلام وتمط عني الغضب
63

تكلمت. قال: تكلم. قلت: أما قولك يا أمير المؤمنين: اختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفقت: فلو أن قريشا اختارت لأنفسها اختار الله لها لكان الصواب بيدها غير مردود ولا محسود. وأما قولك: إنهم أبوا أن تكون لنا النبوة والخلافة فإن الله عز وجل وصف قوما بالكراهة فقال:) ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم). فقال عمر: هيهات والله يا بن عباس قد كانت تبلغني عنك أشياء كنت أكره أن أقرك عليها لتزيل منزلتك مني. فقلت: ما هي يا أمير المؤمنين فإن كانت حقا فما ينبغي أن تزيل منزلتي منك، وإن كانت باطلا فمثلي أماط الباطل عن نفسه؟ فقال عمر: بلغني أنك تقول: إنما صرفوها عنك حسدا وبغيا وظلما. فقلت: أما قولك يا أمير المؤمنين، ظلما: فقد تبين للجاهل؛ والحليم، وأما قولك حسدا: فإن آدم حسد ونحن ولده المحسودون. فقال عمر: هيهات هيهات أبت والله قلوبكم يا بني هاشم إلا حسدا [ما يحول وضغنا وغشا] لا يزول. فقلت: مهلا يا أمير المؤمنين لا تصف قلوب قوم أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا بالحسد والنش. فإن قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من قلوب بني هاشم. فقال عمر: إليك مني يا بن عباس. فقلت: افعل. فلما ذهبت أقوم استحيا مني فقال: يا بن عباس،
64

مكانك! فوالله إني لراع لحقك، محب لما سرك. فقلت: يا أمير المؤمنين إن لي عليك حقا، وعلى كل مسلم، فمن حفظه فحظه أصاب، ومن أضاعه فحظه أخطأ ثم قام فمضى.
ذكر قصة الشورى
قال عمر بن ميمون الأودي: إن عمر بن الخطاب لما طعن قيل له: يا أمير المؤمنين لو استخلفت. فقال: لو كان أبو عبيدة حيا لاستخلفته وقلت لربي إن سألني: سمعت نبيك يقول: إنه أمين هذه الأمة، ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا استخلفته وقلت لربي إن سألني: سمعت نبيك يقول: إن سالما شديد الحب لله تعالى. فقال
له رجل: أدلك عليه: عبد الله بن عمر. فقال: قاتلك الله. والله ما أردت الله بهذا، ويحك! كيف أستخلف رجلا عجز عن طلاق امرأته؟ لا إرب لنا في أموركم، فما حمدتها فأرغب فيها لأحد من أهل بيتي، إن كان خيرا فقد أصبنا منه، وإن كان شرا فقد صرف عنا. بحسب آل عمر أن يحاسب منهم رجل واحد ويسأل عن أمر أمة محمد. أما لقد جهدت نفسي، وحرمت أهلي، وإن نجوت كفافا لا وزر ولا أجر إني لسعيد، أنظر فإن استخلف فقد استخلف من هو خير مني، وإن أترك فقد ترك من هو خير مني، ولن يضيع الله دينه.
فخرجوا، ثم راحوا فقالوا: يا أمير المؤمنين لو عهدت عهدا. فقال: قد كنت
65

أجمعت بعد مقالتي أن انظر فأولي رجلا أمركم هو أحراكم أن يحملكم على الحق. وأشار إلى علي، فرهقتني غشية فرأيت رجلا دخل جنة فجعل يقطف كل غضة ويانعة فيضمه إليه ويصيره تحته، فعلمت أن الله غالب [على] أمره، فما أردت أن أتحملها حيا وميتا. عليكم هؤلاء الرهط الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنهم من أهل الجنة وهم: علي، وعثمان، وعبد الرحمن، وسعد، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله فليختاروا منهم رجلا، فإذا ولوا واليا فأحسنوا موازرته، وأعينوه.
فخرجوا فقال العباس لعلي: لا تدخل معهم. قال: إني أكره الخلاف. قال: إذن تري ما تكره. فلما أصبح عمر دعا عليا، وعثمان، وسعدا، وعبد الرحمن، والزبير فقال لهم: إني نظرت فوجدتكم رؤساء الناس وقادتهم، ولا يكون هذا الأمر إلا فيكم، وقد قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنكم راض، وإني لا أخاف الناس عليكم إن استقمتم، ولكني أخافكم فيما بينكم فيختلف الناس، فانهضوا إلى حجرة عائشة بإذنها فتشاوروا فيها. ووضع رأسه وقد نزفه الدم.
فدخلوا فتناجوا حتى ارتفعت أصواتهم، فقال عبد الله بن عمر: سبحان الله إن أمير المؤمنين لم يمت بعد. فسمعه عمر فانتبه وقال: [ألا] أعرضوا عن هذا، فإذا مت فتشاوروا ثلاثة أيام، وليصل بالناس صهيب، ولا يأتين اليوم الرابع إلا وعليكم أمير منكم، ويحضر عبد الله بن عمر مشيرا ولا شيء له من الأمر، وطلحة شريككم في الأمر فإن قدم في الأيام الثلاثة فأحضروه أمركم. وإن مضت الأيام الثلاثة قبل قدومه فأمضوا أمركم ومن لي بطلحة؟ فقال سعد بن أبي وقاص: أنا لك به ولا يخالف إن شاء الله تعالى. فقال عمر: أرجو أن لا يخالف إن شاء الله، وما أظن يلي إلا أحد هذين الرجلين علي أو عثمان،
66

فإن ولى عثمان فرجل فيه لين، وإن ولي علي ففيه دعابة وأحرى به أن يحملهم على طريق الحق، وإن تولوا سعدا فأهله هو وإلا فليستعن به الوالي فإني لم أعزله عن ضعف ولا خيانة، ونعم ذو الرأي عبد الرحمن بن عوف، فاسمعوا منه وأطيعوا.
وقال لأبي طلحة الأنصاري: يا أبا طلحة إن الله طالما أعز بكم الاسلام فاختر خمسين رجلا من الأنصار فاستحث هؤلاء الرهط حتى يختاروا رجلا منهم. وقال للمقداد بن الأسود: إذا وضعتموني في حفرتي فاجمع هؤلاء الرهط في بيت حتى يختاروا رجلا.
وقال لصهيب: صل بالناس ثلاثة أيام وأدخل هؤلاء الرهط بيتا وقم على رؤوسهم، فإن اجتمع خمسة وأبن واحد فاشدخ رأسه بالسيف، وإن اتفق أربعة وأبن اثنان فاضرب رؤوسهما، وإن رضي ثلاثة رجلا وثلاثة رجلا فحكموا عبد الله بن عمر، فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف واقتلوا الباقين إن رغبوا عما اجتمع فيه الناس.
فخرجوا فقال علي لقوم معه من بني هاشم: إن أطيع فيكم قومكم لم تؤمروا أبدا. وتلقاه عمه العباس فقال: عدلت عنا. فقال: وما علمك؟ قال: قرن بني عثمان وقال: كونوا مع الأكثر فإن رضي رجلان رجلا ورجلان رجلا فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن فسعد لا يخالف ابن عمه، وعبد الرحمن صهر عثمان لا يختلفون فيوليها أحدهما الآخر، فلو كان الآخران معي لم ينفعاني. فقال له العباس: لم أرفعك في شيء إلا رجعت إلي مستأخرا لما أكره، أشرت عليك عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسأله فيمن هذا الأمر فأبيت، فأشرت
67

عليك بعد وفاته أن تعاجل الأمر فأبيت، وأشرت عليك حين سماك عمر في الشورى من لا تدخل معهم فأبيت. احفظ عني واحدة: كل ما عرض عليك القوم فقل ة لا، إلا أن يولوك، وأحذر هؤلاء الرهط فإنهم لا يبرحون يدفعوننا عن هذا الأمر حتى يقوم به لنا غيرنا، وأيم الله لا يناله إلا بشر لا ينفع معه خير. فقال علي: أما لئن بقي عثمان لأذكرنه ما أتى، ولئن مات ليتداولونها بينهم، ولئن فعلوا لتجدني حيث يكرهون. ثم تمثل:
حلفت برب الراقصات عشية * غدون خفافا فابتدرن المحصبا
ليختلين رهط ابن يعمر قارنا * نجيعا بنو الشداخ وردا مصلبا
والتفت فرأى أبا طلحة فكره مكانه فقال أبو طلحة: لن تراع أبا الحسن.
فلما مات عمر وأخرجت جنازته صلى عليه صهيب، فلما دفن عمر جمع المقداد أهل الشورى في بيت المسور بن مخرمة، وقيل: في بيت المال، وقيل: في عائشة بإذنها وطلحة غائب وأمروا أبا طلحة أن يحجبهم، وجاء عمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة فجلسا بالباب فحصبهما سعد وأقامهما وقال: تريدان أن تقولا: حضرنا وكنا في أهل الشورى، فتنافس القوم في الأمر، وكثر فيهم الكلام فقال أبو طلحة: أنا كنت لأن تدفعوها أخوف مني لأن تتنافسوها، والذي ذهب بنفس عمر لا أزيدكم على الأيام الثلاثة التي أمر، ثم أجلس في بيتي فانظر ما تصنعون. فقال عبد الرحمن: أيكم يخرج منها نفسه ويتقلدها علن أن يوليها أفضلكم؟ فلم يجبه أحد، فقال: فأنا أنخلع منها. فقال عثمان: أنا أول من رضي فقال القوم: قد رضينا. علي ساكت فقال: ما تقول يا أبا الحسن؟ قال: أعطني موثقا لتؤثرن الحق، ولا تتبع الهوى
68

ولا تخص ذا رحم، ولا تألوا الأمة [نصحا]. فقال: أعطوني مواثيقكم علن أن تكونوا معي على من بدل وغير، وأن ترضوا من اخترت لكم وعلي ميثاق الله أن لا أخص ذا رحم لرحمه، ولا آلو المسلمين. فأخذ منهم ميثاقا وأعطاهم مثله، فقال لعلي: تقول إني أحق مض حضر بهذا الأمر لقرابتك، وسابقتك، وحسن أثرك في الدين، ولم تبعد في نفسك ولكن أرأيت لو صرف هذا الأمر عنك فلم تحضر: من كنت تري من هؤلاء الرهط أحق به؟ قال: عثمان. وخلا بعثمان فقال: تقول شيخ من بني عبد مناف، وصهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن عمه، ولي سابقة وفضل، فأين يصرف هذا الأمر عني، ولكن لو لم تحضر أي هؤلاء الرهط تراه أحق به؟ قال: علي.
ولقي علي سعدا فقال له: اتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام، أسألك برحم ابني هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وبرحم عمي حمزة منك أن تكون مع عبد الرحمن لعثمان ظهيرا. ودار عبد الرحمن لياليه يلقى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن وافى المدينة من أمراء الأجناد، وأشراف الناس يشاورهم حتى إذا كان الليلة التي صبيحتها تستكمل الأجل
أتى منزل المسور بن مخرمة فأيقظه وقال له: لم أذق في هذه الليلة كبير غمض. أنطلق فادع الزبير وسعدا. فدعاهما فبدأ بالزبير فقال له: خل بني عبد مناف وهذا الأمر. قال: نصيبي لعلي وقال لسعد: أجعل نصيبك لي فقال: إن اخترت نفسك فنعم، وإن
69

اخترت عثمان فعلي أحب إلي أيها الرجل بايع لنفسك وأرحنا وارفع رؤوسنا. فقال له: قد خلعت نفسي على أن اختار، ولو لم أفعل لم أردها، إني رأيت روضة خضراء كثيرة العشب فدخل فحل ما رأيت أكرم منه، فمر، كأنه سهم له لم يلتفت إلى شيء منها حتى قطعها لم يعرج ودخل بعير يتلوه فاتبع أثره حتى خرج منها، ثم دخل فحل عبقري يجر خطامه ومضى قصد الأولين، ثم دخل بعير رابع فرتع في الروضة ولا والله لا أكون الرابع ولا يقوم مقام أبي بكر وعمر بعدهما أحد فيرضى الناس عنه.
قال: وأرسل المسور فاستدعى عليا فناجاه طويلا وهو: لا يشك أنه صاحب الأمر، ثم نهض، ثم أرسل إلى عثمان فتناجيا حتى فرق بينهما الصبح. قال عمرو بن ميمون: قال لي عبد الله بن عمر: من أخبرك أنه يعلم ما كلم به عبد الرحمن بن عوف عليا وعثمان فقد قال بغير علم، فوقع قضاء ربك على عثمان. فلما صلوا الصبح جمع الرهط وبعث إلى من حضره من المهاجرين وأهل السابقة والفضل من الأنصار وإلى أمراء الأجناد فاجتمعوا حتى التج المسجد بأهله فقال: أيها ا الناس إن الناس قد أجمعوا أن يرجع أهل الأمصار إلى أمصارهم
، فأشيروا علي فقال عمار: إن أردت أن لا يختلف المسلمون فبايع عليا. فقال المقداد بن الأسود: صدق عمار إن بايعت عليا قلنا: سمعنا وأطعنا. وقال أبن أبي سرح: إن أردت أن لا تختلف قريش فبايع عثمان. فقال عبد الله بن أبي ربيعة: صدقت إن بايعت عثمان قلنا: سمعنا وأطعنا. فشتم عمار ابن أبي سرح. فقال عمار: متى كنت تنصح المسلمين؟ فتكلم
70

بنو هاشم وبنو أمية فقال عمار: أيها الناس إن الله أكرمنا بنبيه وأعزنا بدينه فأنى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيكم.
فقال رجل من بني مخزوم: لقد عدوت طورك يا بن سمية، وما أنت وتأمير قريش لأنفسها. فقال سعد بن أبي وقاض: يا عبد الرحمن أفرغ قبل أن يفتتن الناس. فقال عبد الرحمن: إني قد نظرت وشاورت فلا تجعلن أيها الرهط على أنفسكم سبيلا، ودعا عليا وقال: عليك عهد الله وميثاقه لتعملن بكتاب الله وسنة رسوله وسيره الخليفتين من بعده؟ قال: أرجو أن أفعل فأعمل بمبلغ علمي وطاقتي. ودعا عثمان فقال له مثل ما قال لعلي فقال: نعم نعمل. فرفع رأسه إلى سقف المسجد ويده في يد عثمان فقال: اللهم أسمع وأشهد إني قد جعلت ما في رقبتي من ذلك في رقبة عثمان. فبايعه.
فقال علي: ليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علينا. فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون، والله ما وليت عثمان إلا ليرد الأمر إليك، والله كل يوم في شأن. فقال عبد الرحمن: يا علي لا تجعل علن نفسك حجة وسبيلا. فخرج علي وهو يقول: سيبلغ الكتاب أجله. فقال المقداد: يا عبد الرحمن أما والله لقد تركته لأنه من الذين يقضون بالحق وبه يعدلون. فقال: يا مقداد والله لقد اجتهدت للمسلمين. قال: إن كنت أردت الله فأثابك الله ثواب المحسنين. فقال المقداد: ما رأيت مثل ما أتى إلى أهل هذا البيت بعد نبيهم إني لأعجب من قريش أنهم تركوا رجلا ما أقول ولا أعلم أن رجلا أقضى بالعدل ولا أعلم منه، أما والته لو أجد أعوانا عليه. فقال عبد الرحمن: يا مقداد اتق الله فإني خائف عليك الفتنة. فقال
71

رجل للمقداد: رحمك الله من أهل هذا البيت ومن هذا الرجل؟ قال: أهل البيت بنو عبد المطلب والرجل علي بن أبي طالب. فقال علي: إن الناس ينظرون إلى قريش وقريش تنظر بينها فتقول: إن ولى عليكم بنو هاشم لم تخرج منهم أبدا وما كانت في غيرهم تتداولونها بينكم.
وقدم طلحة في اليوم الذي بويع فيه لعثمان فقيل له: بايعوا لعثمان. فقال: كل قريش راض به؟ قالوا: نعم. فأتى عثمان فقال له عثمان: أنت على رأس أمرك وإن أبيت رددتها. قال: أتردها؟ قال: نعم. قال: أكل الناس بايعوك؟ قال: نعم. قال: قد رضيت. لا أرغب عما أجمعوا عليه. وبايعه.
وقال المغيرة بن شعبة لعبد الرحمن: يا أبا محمد قد أصبت أن بايعت عثمان. وقال لعثمان: ولو بايع عبد الرحمن غيرك ما رضينا. فقال عبد الرحمن: كذبت يا أعور لو بايعت غيره لبايعته ولقلت هذه المقالة. قال: وكان المسور يقول: ما رأيت أحدا بذ قوما فيما دخلوا فيه بمثل ما بذهم عبد الرحمن. قلت قوله: إن عبد الرحمن صهر عثمان، يعني أن عبد الرحمن تزوج أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وهي أخت عثمان لأمه خلف عليها عقبة بعد عثمان.
وقد ذكر أبو جعفر رواية أخرى في الشورى عن المسور بن مخرمة وهي تمام حديث مقتل عمر وقد تقدم، والذي ذكره ها هنا قريب من الذي تقدم آنفا غير أنه قال: لما دفن عمر جمعهم عبد الرحمن وخطبهم وأمرهم بالاجتماع وترك التفرق، فتكلم عثمان فقال: الحمد لله الذي اتخذ محمدا نبيا، وبعثه رسولا، وصدقه وعده، ووهب له نصره على كل من بعد نسبا أو قرب رحما،
72

صلى الله عليه جعلنا الله له تابعين، وبأمره مهتدين، فهو لنا نور، ونحن بأمره نقوم عند تفرق الأهواء، ومجادلة الأعداء، جعلنا الله بفضله أئمة، وبطاعته أمراء، لا يخرج أمرنا منا، ولا يدخل علينا غيرنا إلا من سفه الحق، ونكل عن القصد، وأحر بها يا بن عوف أن تترك، وأجدر بها أن يكون إن خولف أمرك وترك دعاؤك، فأنا أول مجيب [لك]، وداع إليك، وكفيل بما أقول زعيم وأستغفر الله لي ولكم.
ثم تكلم الزبير بعده فقال: أما بعد فإن داعي الله لا يجهل، ومجيبه لا يخذل عند تفرق الأهواء ولي الأعناق ولن يقصر عما قلت إلا غوي، ولن يترك ما دعوت إليه إلا شقي، ولولا حدود الله فرضت، وفرائض الله حدت، تراح على الله أهلها وتحيا ولا تموت لكان الموت من الإمارة نجاة، والفرار من الولاية عصمة ولكن لله علينا إجابة الدعوة وإظهار السنة لئلا نموت ميتة عمية، ولا نعمى عمي الجاهلية، فإنا مجيبك إلى ما دعوت، ومعينك على ما أمرت، ولا حول ولا قوة إلا بالله وأستغفر الله لي ولكم.
ثم تكلم سعد فقال بعد حمد الله: وبمحمد صلى الله عليه وسلم أنارت الطرق واستقامت السبل، وظهر كل حق ومات كل باطل، إياكم أيها النفر وقول الزور، وأمنية أهل الغرور، وقد سلبت الأماني قوما قبلكم ورثوا ما ورثتم، ونالوا ما نلتم فاتخذهم الله عدوا، ولعنهم لعنا كبيرا، قال الله تعالى:
73

(لعن الذين كفروا من بني إسرائيل) إلى قوله: (لبئس ما كانوا يفعلون) إني نكبت قرني، وأخذت سهمي الفالج، وأخذت لطلحة بن عبيد الله ما ارتضيت لنفسي، فأنا به كفيل، وبما أعطيت عنه زعيم، والأمر إليك يا بن عوف بجهد النفس، وقصد النصح، وعلى الله قصد السبيل، وإليه الرجوع، وأستغفر الله لي ولكم، وأعوذ بالله من مخالفتكم.
ثم تكلم علي بن أبي طالب فقال: الحمد لله الذي بعث محمدا منا نبيا، وبعثه إلينا رسولا فنحن بيت النبوة، ومعدن الحكمة، وأمان أهل الأرض، ونجاة لمن طلب، لنا حق إن نعطه نأخذه، وإن نمنعه نركب أعجاز الإبل ولو طال السري، لو عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدا لأنفذنا عهده، ولو قال لنا قولا لجادلنا علمه حتى نموت، لن يسرع أحد قبلي إلى دعوة حق وصلة رحم، لا حول ولا قوة إلا بالله، اسمعوا كلامي وعوا منطقي، عسى أن تروا هذا الأمر بعد هذا المجمع تنتضي فيه السيوف، وتخان فيه العهود، حتى تكونوا جماعة ويكون بعضكم أئمة لأهل الضلالة، وشيعة لأهل الجهالة. ثم قال:
فإن تك جاسم هلكت فإني * بما فعلت بنو عبد بن ضخم
مطيع في الهواجر كل غي * بصير بالنوى من كل نجم
74

فقال عبد الرحمن: أيكم يطيب نفسا أن يخرج نفسه من هذا الأمر؟ وذكر قريبا مما تقدم.
* * *
ثم جلس عثمان في جانب المسجد بعد بيعته، ودعا عبيد الله بن عمر بن الخطاب وكان قتل قاتل أبيه أبا لؤلؤة، وقتل جفينة رجلا نصرانيا من أهل الحيرة كان ظهيرا لسعد بن مالك، وقتل الهرمزان فلما ضربه بم السيف قال: لا إله إلا الله، فلما قتل هؤلاء أخذه سعد بن أبي وقاص وحبسه في داره وأخذ سيفه وأحضره عند عثمان، وكان عبيد الله يقول: والله لأقتلن رجالا ممن شرك في دم أبي يعرض بالمهاجرين والأنصار. وإنما قتل هؤلاء النفر لأن عبد الرحمن بن أبي بكر قال: غداة عمر رأيت عشية أمس الهرمزان، وأبا لؤلؤة، وجفينة وهم يتناجون، فلما رأوني ثاروا وسقط منهم خنجر له رأسان نصابه في وسطه وهو الخنجر الذي ضرب به عمر، فقتلهم عبيد الله، فلما أحضره عثمان قال: أشيروا على في هذا الرجل الذي فتق في الاسلام ما فتق فقال علي: أرى أن تقتله. فقال بعض المهاجرين: قتل عمر أمس ويقتل ابنه اليوم؟ فقال عمرو بن العاص: إن الله قد أعفاك أن يكون هذا الحدث ولك على المسلمين سلطان. فقال عثمان: أنا وليه وقد جعلتها دية وأحتملها نجي مالي، وكان زياد بن لبيد البياضي الأنصاري إذا رأى عبيد الله [بن عمر] يقول:
ألا يا عبيد الله مالك مهرب * ولا ملجأ من ابن أروى ولا خفر
أصبت دما والله في غير حله * حراما وقتل الهرمزان له خطر
على غير شيء غير أن قال قائل * أتتهمون الهرمزان على عمر
فقال سفيه والحوادث جمة: * نعم أتهمه قد أشار وقد أمر
75

وكان سلاح العبد في جوف بيته * يقلبها والأمر بالأمر يعتبر
فشكا عبيد الله إلى عثمان زياد بن لبيد فنهى عثمان زيادا فقال في عثمان:
أبا عمرو عبيد الله رهن * فلا تشكك بقتل الهرمزان
فإنك إن عفوت الجرم عنه * وأسباب الخطا فرسا رهان
أتعفو إذ عفوت بغير حق * فما لك بالذي تحكي يدان
فدعا عثمان زيادا فنهاه وشذبه.
وقيل في فداء عبيد الله غير ذلك، قال الغماذبان بن الهرمزان كانت العجم بالمدينة يستروح بعضها إلى بعض فمر فيروز أبو لؤلؤة بالهرمزان ومعه خنجر له رأسان فتناوله منه وقال: ما تصنع به؟ قال: أسن به، فرآه رجل فلما أصيب عمر قال رأيت الهرمزان دفعه إلى فيروز فأقبل عبيد الله فقلته. فلما ولي عثمان أمكنني منه فخرجت به وما في الأرض أحد إلا معي إلا إنهم يطلبون إلي فيه. فقلت لهم: إلى قتله؟ قالوا: نعم وسبوا عبيد الله. قلت لهم: أفلكم منعه؟ قالوا: لا. وسبوه، فتركته لله ولهم فحملوني فوالله ما بلغت المنزل إلا على رؤوس الناس.
والأول أصح في إطلاق عبيد الله لأن عليا لما ولى الخلافة أراد قتله فهرب منه إلى معاوية بالشام، ولو كان إطلاقه بأمر ولي الدم لم يتعرض له علي.
76

ذكر عدة حوادث
كان العمال فيها على مكة: نافع بن عبد الحرث الخزاعي، وعلى الطائف: سفيان بن عبد الله الثقفي، وعلى صنعاء يعلى بن أمية، وعلى الجند: عبد الله بن أبي ربيعة، وعلى الكوفة: المغيرة ين شعبة، وعلى البصرة: أبو موسى الأشعري، وعلى مصر: عمرو بن العاص، وعلى حمص: عمير بن سعد، وعلى دمشق: معاوية، وعلى البحرين وما والاها: عثمان بن أبي العاص الثقفي.
وفيها غزا معاوية الصائفة ومعه عبادة بن الصامت. وأبو أيوب الأنصاري، وأبو ذر، وشداد بن أوس.
وفيها فتح معاوية عسقلان على صلح، وكان على قضاء الكوفة: شريح، وعلى قضاء البصرة: كعب بن سور، وقيل: إن أبا بكر وعمر لم يكن لهم قاض. وفي هذه السنة: توفي قتادة بن النعمان الأنصاري وهو الذي رد رسول الله صلى الله عليه وسلم عينه وصلى عليه عمر بن الخطاب وهو بدري، وقيل: توفي سنة أربع وعشرين، وفي خلافة عمر توفي الحباب بن المنذر بن الجموح الأنصاري وهو بدري. وربيعة بن الحارث بن عبد المطلب وهو أسن من العباس. وعمير، بن عوف مولى سهيل بن عمرو وهو بدري. وعمير بن وهب بن خلف الجمحي شهد أحدا. وعتبة بن مسعود أخو عبد الله بن مسعود وهو من مهاجرة الحبشة شهد أحدا. وعدي بن أبي الزغباء الجهني وهو عين رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم بدر وشهد غيرها أيضا. وفيها مات عويم بن ساعدة الأنصاري وهو عقبي بدري. وقيل:
77

إنه من بلى وله حلف في الأنصار. وفيها مات سهيل بن رافع الأنصاري شهد بدرا. ومسعود بن أوس بن زيد الأنصاري. وقيل: بل عاش بعد ذلك وشهد صفين مع علي. وفيها توفي واقد بن عبد الله التميمي حليف الخطاب، وهو أول من قاتل في سبيل الله في الإسلام. وقتل عمرو بن الحضرمي وكان إسلامه قبل دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم.
وفيها مات أبو جندل بن سهيل بن عمرو، وأخوه عبد الله، وكان عبد الله بدريا ولم يشهدها أبو جندل لأن أباه سجنه بمكة، ومنعه من الهجرة إلى يوم الحديبية، وقد تقدم كيف خلص. وفيها مات أبو خالد الحارث بن قيس بن خالد، وكان أصابه جرح باليمامة فاندمل ثم انتقض عليه فمات منه وهو عقبي بدري. وفيها مات أبو خراش الهذلي الشاعر، وخبر موته مشهور.
وفيها توفي غيلان بن سلمة الثقفي وهو الذي أسلم وتحته عشر نسوة. وفيها في آخرها مات الصعب بن جثامة بن القيس الليثي.
78

24
ثم دخلت سنة أربع وعشرين
ذكر بيعة عثمان بن عفان بالخلافة
في المحرم منها لثلاث مضين منه بويع عثمان بن عفان، وقيل غير ذلك على ما تقدم، وكان هذا العام يسمى عام الرعاف لكثرته فيه بالناس، واجتمع أهل الشورى عليه وقد دخل وقت العصر فأذن مؤذن صهيب واجتمعوا بين الأذان والإقامة، فخرج فصلى بالناس وزادهم مائة مائة، ووفد أهل الأمصار وهو أول من صنع ذلك وقصد المنبر وهو أشدهم كآبة فخطب الناس ووعظهم وأقبلوا يبايعونه.
ذكر عزل المغيرة عن الكوفة وولاية سعد بن أبي وقاص
وفيها عزل عثمان المغيرة بن شعبة عن الكوفة وأستعمل سعد بن أبي وقاص عليها بوصية عمر فإنه قال: أوصي الخليفة بعدي أن يستعمل سعدا فإني لم أعزله عن سوء ولا خيانة لما فكان أول عامل بعثه فعمل عليها سعد سنة وبعض أخرى. وقيل: بل أقر عثمان عمال عمر جميعهم سنة لأن عمر أوصى بذلك، ثم عزل المغيرة بعد سنة وأستعمل سعدا، فعلى هذا القول تكون
79

إمارة سعد سنة خمس وعشرين.
* * *
وحج بالناس في هذه السنة عثمان، وقيل: عبد الرحمن بن عوف بأمر عثمان.
وقد تقدم ذكر الفتوح التي ذكر بعض العلماء أنها كانت زمن عثمان وذكرت الخلاف هنالك.
وفي هذه السنة مات عبد الرحمن بن كعب الأنصاري وهو بدري وهو أحد البكائين في غزوة تبوك. وسراقة بن مالك بن جعشم المدلجي وقيل: مات بعد ذلك وهو الذي أدرك النبي صلى الله عليه وسلم في هجرته.
80

ثم دخلت سنة خمس وعشرين
ذكر خلاف أهل الإسكندرية
في هذه السنة خالف بم هل الإسكندرية ونقضوا صلحهم، وكان سبب ذلك أن
الروم عظم عليهم فتح المسلمين الإسكندرية وظنوا أنهم لا يمكنهم المقام ببلادهم بعد خروج الإسكندرية عن ملكهم، فكاتبوا من كان فيها من الروم ودعوهم إلى نقض الصلح، فأجابوهم إلى ذلك فسار إليهم من القسطنطينية جيش كثير وعليهم منويل الخصي فأرسوا بها واتفق معهم من بها من الروم ولم يوافقهم المقوقس بل ثبت على صلحه، فلما بلغ الخبر إلى عمرو بن العاص سار إليهم وسار الروم إليه فالتقوا واقتتلوا قتالا شديدا فانهزم الروم وتبعهم المسلمون إلى أن أدخلوهم الإسكندرية وقتلوا منهم في البلد مقتلة عظيمة منهم منويل الخصي، وكان الروم لما خرجوا من الإسكندرية قد اخذوا أموال أهل تلك القري من وافقهم ومن خالفهم، فلما ظفر بهم المسلمون جاء أهل القري الذين خالفوهم فقالوا لعمرو بن العاص: إن الروم أخذوا دوابنا وأموالنا ولم نخالف نحن عليكم وكنا على الطاعة فرد عليهم ما عرفوا من أموالهم بعد إقامة البينة، وهدم عمر سور الإسكندرية وتركها بغير سور.
وفيها بلغ سعد بن أبي وقاص عن أهل الري عزم علن نقض الهدنة والغدر فأرسل إليهم وأصلحهم، وغزا الديلم ثم انصرف.
81

ذكر عزل سعد عن الكوفة وولاية الوليد بن عقبة
في هذه السنة عزل عثمان بن عفان سعد بن أبي وقاص عن الكوفة في قول بعضهم وأستعمل الوليد بن عقبة بن أبي معيط، واسم أبي معيط أبان بن أبي عمرو واسمه ذكوان بن أمية بن عبد شمس وهو أخو عثمان لأمه أمهما أروي بنت كريز، وأمها البيضاء بنت عبد المطلب.
وسبب ذلك أن سعدا اقترض من عبد الله بن مسعود من بيت المال قرضا فلما تقاضاه ابن مسعود لم يتيسر له قضاؤه فارتفع بينهما الكلام فقال له سعد: ما أراك إلا ستلقى شرا هل أنت إلا ابن مسعود عبد من هذيل؟ فقال: أجل والله إني لابن مسعود وإنك لابن حمينة. وكان هاشم بن عتبة بن أبي وقاص حاضرا فقال: إنكما لصاحبا رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليكما. فرفع سعد يده ليدعو على ابن مسعود، وكان فيه حدة، فقال: اللهم رب السماوات والأرض. فقال ابن مسعود: ويلك قل خيرا ولا تلعن. فقال سعد عند ذلك: أما والله لولا اتقاء الله لدعوت عليك دعوة لا تخطئك. فولى عبد الله سريعا حتى خرج، ثم استعان عبد الله بأناس على استخراج المال، واستعان سعد بأناس على إنظاره فافترقوا وبعضهم يلوم بعضا يلوم هؤلاء سعدا وهؤلاء عبد الله
، فكان ذلك أول ما نزغ به بين أهل الكوفة، وأول مصر نزغ الشيطان بين أهل الكوفة. وبلغ الخبر عثمان فغضب عليهما فعزل سعدا وأقر عبد الله، واستعمل الوليد بن عقبة بن أبي معيط. مكان سعد، وكان على عرب الجزيرة
82

عاملا لعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان بعده، فقدم الكوفة واليا عليها، وأقام عليها خمس سنين وهو من أحب الناس إلى أهلها. فلما قدم قال له سعد: أكست بعدنا أم حمقنا بعدك! فقال: لا تجزعن يا أبا إسحاق كل ذلك لم يكن، وإنما هو الملك يتغداه قوم ويتعشاه آخرون، فقال سعد: أراكم جعلتموها ملكا. وقال له ابن مسعود: ما أدري أصلحت بعدنا أم فسد الناس!
ذكر أهل أرمينية وأذربيجان
لما استعمل عثمان الوليد على الكوفة عزل عتبة بن فرقد عن أذربيجان فنقضوا، فغزاهم الوليد سنة خمس وعشرين، وعلى مقدمته عبد الله بن شبيل الأحمسي فأغار على أهل موقان، والببر، والطيلسان ففتح، وغنم، وسبى، فطلب أهل كور أذربيجان الصلح فصالحهم علن صلح حذيفة وهو ثمانمائة ألف درهم وقبض المال، ثم بث سراياه، وبعث سلمان بن ربيعة الباهلي إلى أهل أرمينية في اثني عشر ألفا فسار في أرمينية يقتل ويسبي ويغنم، ثم انصرف وقد ملأ يديه حتى أتن الوليد، فعاد الوليد وقد ظفر وغنم وجعل طريقه على الموصل، ثم أتن الحديثة فنزلها، فاتاه بها كتاب عثمان فيه أن معاوية بن أبي سفيان كتب إلي يخبرني أن الروم قد أجلبت على المسلمين في جموع كثيرة، وقد رأيت أن يمدهم إخوانهم من أهل الكوفة، فابعث إليهم رجلا له نجدة وبأس في ثمانية آلاف أو تسعة آلاف من المكان الذي يأتيك كتابي فيه والسلام.
فقام الوليد في الناس وأعلمهم الحال وندبهم مع سلمان بن ربيعة الباهلي فانتدب معه ثمانية آلاف فمضوا حتى دخلوا مع أهل الشام إلى أرض الروم،
83

فشنوا الغارات على أرض الروم فأصاب الناس ما شاؤوا وافتتحوا حصونا كثيرة.
وقيل: إن الذي أمد حبيب بن مسلمة بسلمان بن ربيعة كان سعيد بن العاص، وكان سبب ذلك أن عثمان كتب إلى معاوية يأمره أن يغزي حبيب بن مسلمة في أهل الشام أرمينية فوجهه إليها فأتى قاليقلا فحصرها وضيق على من بها فطلبوا الأمان على الجلاء أو الجزية فجلا كثير منهم فلحقوا ببلاد الروم، وأقام حبيب بها فيمن معه أشهرا.
وإنما سميت قاليقلا لأن امرأة بطريق أرميناقس كان اسمها قالي بنت هذه المدينة فسمتها قالي قلة تعني إحسان قالي فعربتها العرب فقالت: قاليقلا.
ثم بلغه أن بطريق أرميناقس وهي البلاد التي هي الآن بيد أولاد السلطان قلج أرسلان وهي ملطية، وسيواس، واقصرا، وقونية، وما والاها من البلاد إلى خليج القسطنطينية واسمه الموريان قد توجه نحوه في ثمانين ألفا من الروم. فكتب حبيب إلى معاوية يخبره، فكتب معاوية إلى عثمان، فأرسل عثمان إلى سعيد بن العاص يأمره بإمداد حبيب، فأمده بسلمان في ستة آلاف وأجمع حبيب على تبييت الروم فسمعته امرأته أم عبد الله بنت يزيد الكلبية فقالت: أين موعدك؟ فقال: سرادق الموريان. ثم بيتهم فقتل من وقف له، ثم أتن السرادق فوجد امرأته. له قد سبقته إليه فكانت أول امرأة من العرب ضرب عليها حجاب سرادق، ومات عنها، حبيب فخلفه، عليها الضحاك بن قيس فهي أم ولده.
ولما انهزمت الروم عاد حبيب إلى قاليقلا، ثم سار منها فنزل مربالا فأتاه بطريق خلاط بكتاب عياض بن غنم بأمانه فأجراه عليه وحمل اليه البطريق ما عليه من المال ونزل حبيب خلاط، ثم سار منها فلقيه صاحب مكس وهي من البسفرجان فقاطعه على بلاده، ثم سار منها إلى أزدشاط،
84

وهي القرية التي يكون فيها القرمز الذي يصبغ به فنزل على نهر دبيل وسرح الخيول إليها فحصرها فتحصن أهلها، فنصب عليهم منجنيقا فطلبوا الأمان فأجابهم إليه، وبث السرايا فبلغت خيله ذات اللجم وإنما سميت ذات اللجم لأن المسلمين أخذوا لجم خيولهم فكبسهم الروم قبل أن يلجموها ثم ألجموها وقاتلوهم فظفروا بهم، ووجه سرية إلى سراج طير وبغروند فصالحه بطريقها على إتاوة فقدم عليه بطريق البسفرجان فصالحه على جميع بلاده.
وأتى السيسجان فحاربه أهلها فهزمهم وغلب على حصونهم، وسار إلى جرزان فأتاه رسول بطريقها يطلب الصلح فصالحه. وسار إلى تفليس فصالحه أهلها وهي من جرزان. وفتح عدة حصون ومدن تجاورها صلحا. وسار سلمان بن ربيعة الباهلي إلى أران ففتح البيلقان صلحا على أن أمنهم على دمائهم وأموالهم وحيطان مدينتهم واشترط عليهم الجزية والخراج.
ثم أتى سلمان مدينة برذعة فعسكر على الثرثور نهر بينه وبينها نحو فرسخ فقاتله أهلها أيامآ، وشن الغارات في قراها فصالحوه على مثل صلح البيلقان ودخلها؛ ووجه خيله ففتحت رساتيق الولاية، ودعا أكراد البلاشجان إلى الإسلام فقاتلوه فظفر بهم فأقر بعضهم على الجزية وأدي بعضهم الصدقة وهم قليل، ووجه سرية إلى شمكور ففتحوها وهي مدينة قديمة ولم تزل معمورة حتى أخربها السناوردية وهم قوم تجمعوا لما انصرف يزيد بن أسد عن أرمينية فعظم أمرهم فعمرها بغا سنة أربعين ومائتين وسماها المتوكلية نسبة إلى المتوكل.
وسار سلمان إلى مجمع أرس والكر ففتح قبلة وصالحه صاحب سكر
85

وغيرها على الإتاوة وصالحه ملك شروان وسائر ملوك الجبال وأهل مسقط والشابران ومدينة الباب ثم امتنعت بعده.
ذكر غزوة معاوية الروم
وفيها غزا معاوية الروم فبلغ عمورية فوجد الحصون التي بين أنطاكية، وطرطوس خالية فجعل عندها جماعة كثيرة من أهل الشام والجزيرة حتى انصرف من غزاته ثم أغزى بعد ذلك يزيد بن الحر العبسي الصائفة وأمره ففعل مثل ذلك، ولما خرج هدم الحصون إلى أنطاكية.
ذكر غزوة إفريقية
في هذه السنة سير عمرو بن العاص عبد الله بن سعد بن أبي سرح إلى أطراف إفريقية غازيا بأمر عثمان، وكان عبد الله من جند مصر فلما سار إليها أمده عمرو بالجنود فغنم هو وجنده، فلما عاد عبد الله كتب إلى عثمان يستأذنه في غزو إفريقية فأذن له في ذلك.
ذكر عدة حوادث
وفيها أرسل عثمان عبد الله بن عامر إلى كابل وهي عمالة سجستان فبلغها في قول فكانت أعظم من خراسان حتى مات معاوية وامتنع أهلها.
وفيها ولد يزيد بن معاوية. وفيها كانت [غزوة] سابور الأولة، وقيل: سنة ست وعشرين وقد تقدم ذلك، وحج بالناس عثمان.
86

26
ثم دخلت سنة ست وعشرين
ذكر الزيادة في الحرم
في هذه السنة أمر عثمان بتجديد أنصاب الحرم، وفيها زاد عثمان في المسجد الحرام، ووسعه، وابتاع من قوم فأبن آخرون فهدم عليهم ووضع الأثمان في بيت المال، فصاحوا بعثمان فأمر بهم فحبسوا، وقال لهم: قد فعل هذا بكم عمر فلم تصيحوا به. فكلمه فيهم عبد الله بن خالد بن أسيد فأطلقهم:
(أسيد بفتح الهمزة وكسر السين).
87

26
[ثم دخلت سنة سبع وعشرين]
ذكر ولاية عبد الله بن سعد بن أبي سرح مصر
وفتح إفريقية
في هذه السنة عزل عمرو بن العاص عن خراج مصر، واستعمل عليه عبد الله بن سعد بن أبي سرح وكان أخا
عثمان من الرضاعة فتياغيا فكتب عبد الله إلى عثمان يقول: إن عمرا كسر علي الخراج، وكتب عمرو يقول: إن عبد الله قد كسر على مكيدة الحرب. فعزل عثمان عمرا، واستقدمه، واستعمل بدله عبد الله علن حرب مصر وخراجها فقدم عمرو مغضبا فدخل على عثمان وعليه جبة محشوة [قطنا]. فقال له: ما حشو جبتك؟ قال: عمرو قال: قد علمت [أن حشوها عمرو] ولم أرد هذا، [إنما سألت أقطن هو أم غيره؟].
وكان عبد الله من جند مصر، وكان قد أمره عثمان بغزو إفريقية سنة خمس وعشرين وقاك له عثمان: إن فتح الله عليك فلك من الفيء خمس الخمس نفلا. وأمر عبد الله بمت نافع بن عبد القيس وعبد الله بن نافع بن الحارث على جند وسرحهما [إلى الأندلس] وأمرهما بالاجتماع مع عبد الله بن سعد علن صاحب إفريقية وثم يقيم عبد الله في عمله. فخرجوا حتى قطعوا أرض مصر
88

ووطئوا أرض إفريقية، وكانوا في جيش كثير عدتهم عشرة آلاف من شجعان المسلمين، ة صالحهم أهلها على مال يؤدونه، ولم يقدموا على دخول إفريقية والتوغل فيها لكثرة أهلها.
ثم إن عبد الله بن سعد لما ولي أرسل إلى عثمان في غزو إفريقية والاستكثار من الجموع عليها وفتحها، فاستشار عثمان من عنده من الصحابة فأشار أكثرهم بذلك، فجهز إليه العساكر من المدينة وفيهم جماعة من أعيان الصحابة منهم عبد الله بن عباس وغيره، فسار بهم عبد الله بن سعد إلى إفريقية، فلما وصلوا إلى برقة لقيهم، عقبة بن نافع فيمن معه من المسلمين وكانوا بها وساروا إلى طرابلس الغرب فنهبوا من عندها من الروم، وسار نحو إفريقية، وبث السرايا في كل ناحية، وكان ملكهم اسمه جرجير وملكه من طرابلس إلى طنجة، وكان هرقل ملك الروم قد ولاه إفريقية فهو يحمل إليه الخراج كل سنة، فلما بلغه خبر المسلمين تجهز وجمع العساكر وأهل البلاد فبلغ عسكره مائة ألف وعشرين ألف فارس، والتقى هو والمسلمون بمكان بينه وبين مدينة سبيطلة يوم وليلة وهذه المدينة كانت ذلك الوقت دار الملك فأقاموا هناك يقتتلون كل يوم، وراسله عبد الله بن سعد يدعوه إلى الإسلام أو الجزية فامتنع منهما وتكبر عن قبول أحدهما، وانقطع خبر المسلمين عن عثمان فسير عبد الله بن الزبير في جماعة إليهم ليأتيه بأخبارهم فسار مجدا، ووصل إليهم، وأقام معهم، ولما وصل كثر الصياح والتكبير في المسلمين، فسأل جرجير عن الخبر، فقيل: قد أتاهم عسكر، ففت ذلك في عضده. ورأى عبد الله بن الزبير قتال المسلمين كل يوم من بكرة إلى الظهر فإذا أذن بالظهر عاد كل فريق إلى خيامه، وشهد القتال من الغد فلم ير
89

ابن أبي سرح معهم فسال عنه فقيل إنه سمع منادي جرجير يقول: من قتل عبد الله بن سعد فله مائة ألف دينار وأزوجه ابنتي وهو يخاف، فحضر عنده وقال له: تأمر مناديا ينادي: من أتاني برأس جرجير نفلته مائة ألف وزوجته ابنته واستعملته على بلاده ففعل ذلك فصار جرجير يخاف أشد من عبد الله.
ثم إن عبد الله بن الزبير قال لعبد الله بن سعد: إن أمرنا يطول مع هؤلاء وهم في أمداد متصلة وبلاد هي لهم ونحن منقطعون عن المسلمين وبلادهم وقد رأيت أن نترك غدا جماعة صالحة من أبطال المسلمين في خيامهم متأهبين ونقاتل نحن والروم في باقي العسكر إلى أن يضجروا ويملوا، فإذا رجعوا إلى خيامهم، ورجع المسلمون ركب من كأن في الخيام من المسلمين ولم يشهدوا القتال وهم مستريحون ونقصدهم على غرة فلعل الله ينصرنا عليهم، فأحضر جماعة من أعيان الصحابة واستشارهم فوافقوه على ذلك.
فلما كان الغد فعل عبد الله ما اتفقوا عليه، وأقام جميع شجعان المسلمين في خيامهم وخيولهم عندهم مسرجة ومضى الباقون فقاتلوا الروم إلى الظهر قتالا شديدا. فلقا أذن بالظهر هم الروم بالانصراف على العادة فلم يمكنهم ابن الزبير وألح عليهم بالقتال حتى أتعبهم ثم عاد عنهم هو والمسلمون فكل من الطائفتين ألقى سلاحه ووقع تعبا، فعند ذلك أخذ عبد الله بن الزبير من كان مستريحا من شجعان المسلمين وقصد الروم فلم يشعروا بهم حتى خالطوهم وحملوا حملة. رجل واحد وكبروا فلم يتمكن الروم من لبس سلاحهم حتى غشيهم المسلمون وقتل جرير قتله ابن الزبير، وانهزم الروم، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وأخذت ابنة الملك جرجير سبية، ونازل عبد الله بن سعد المدينة فحصرها حتى فتحها ورأي فيها من الأموال ما لم يكن في غيرها فكان سهم الفارس ثلاثة آلاف دينار وسهم الراجل ألف دينار.
90

ولما فتح عبد الله مدينة سبيطلة بث جيوشه في البلاد فبلغت قفصة فسبوا وغنموا وسير عسكرا إلى حصن الأجم، وقد احتمى به أهل تلك البلاد فحصره وفتحه بالأمان فصالحه أهل إفريقية على ألفي ألف وخمسمائة ألف دينار، ونفل عبد الله بن الزبير ابنة الملك وأرسله إلى عثمان بالبشارة بفتح إفريقية. وقيل: إن ابنة الملك وقعت لرجل من الأنصار فأركبها بعيرا وارتجز بها يقول:
يا ابنة جرجير تمشي عقبتك * إن عليك بالحجاز ربتك
لتحملن من قباء قربتك
ثم إن عبد الله بن سعد عاد من إفريقية إلى مصر وكان مقامه بإفريقية سنة وثلاثة أشهر ولم يفقد من المسلمين إلا ثلاثة نفر قتل منهم أبو ذؤيب الهذلي الشاعر فدفن هناك، وحمل خمس إفريقية إلى المدينة فاشتراه مروان بن الحكم بخمسمائة ألف دينار فوضعها عنه عثمان، وكان هذا مما أخذ عليه.
وهذا أحسن ما قيل في خمس إفريقية فإن بعض الناس يقول: أعطن عثمان خمس إفريقية عبد الله بن سعد، وبعضهم يقول: أعطاه مروان بن الحكم، وظهر بهذا أنه أعطى عبد الله خمس الغزوة الأولى وأعطى مروان خمس الغزوة الثانية التي افتتحت فيها جميع إفريقية والله أعلم.
ذكر انتقاض إفريقية وفتحها ثانية
كان هرقل ملك القسطنطينية يؤدي إليه كل ملك من ملوك النصارى الخراج من إفريقية، ومصر، والأندلس، وغير ذلك فلما صالح أهل إفريقية
91

عبد الله بن سعد أرسل هرقل إلى أهلها بطريقا له وأمره أن يأخذ منهم مثل ما أخذ المسلمون، فنزل البطريق في قرطاجنة وجمع أهل إفريقية وأخبرهم بما أمره الملك فانجوا عليه، وقالوا: نحن نؤدي ما كان يؤخذ منا، وقد كان ينبغي له أن يسامحنا لما ناله المسلمون منا وكان قد قام بأمر إفريقية بعد قتل جرجير رجل آخر من الروم فطرده البطريق بعد فتن كثيرة، فسار إلى الشام وبه معاوية وقد استقر له الأمر بعد قتل علي، فوصف له إفريقية، وطلب أن يرسل معه جيشا، فستر معه معاوية بن أبي سفيان معاوية بن حديج السكوني فلما وصلوا إلى الإسكندرية هلك الرومي ومضى ابن حديج فوصل إلى إفريقية وهي نار تضطرم وكان معه عسكر عظيم فنزل عند قمونية، وأرسل البطريق إليه ثلاثين ألف مقاتل، فلقا سمع بهم معاوية سير إليهم جيشا من المسلمين فقاتلوهم فانهزمت الروم، وحصر حصن جلولاء فلم يقدر عليه فانهدم سور الحصن فملكه المسلمون وغنموا ما فيه، وبث السرايا فسكن الناس وأطاعوا وعاد إلى مصر:
(حديج بضم الحاء وفتح الدال المهملتين وآخره جيم).
ثم لم يزل أهل إفريقية من أطوع أهل البلدان وأسمعهم إلى زمان هشام بن عبد الملك حتى دبى إليهم أهل العراق فاستشاروهم وشقوا العصا وفرقوا بينهم إلى اليوم، وكانوا يقولون: لا نخالف الأئمة بما تجني العمال. فقالوا لهم: أنما يعمل هؤلاء بأمر أولئك. فقالوا: حتى نخبرهم فخرج ميسرة في بضعة وعشرين رجلا فقدموا على هشام فلم يؤذن لهم، فدخلوا علن الأبرش فقالوا: أبلغ أمير المؤمنين أن أميرنا يغزو بنا وبجنده، فإذا غنمنا نفلهم ويقول: هذا أخلص لجهادنا، وإذا حاصرنا مدينة قدمنا وأخرهم ويقول: هذا ازدياد في الأجر، ومثلنا كفى إخوانه، ثم إنهم عمدوا إلى ماشيتنا فجعلوا يبقرون
92

بطونها عن سخالها يطلبون الفراء البيض لأمير المؤمنين فيقتلون ألف شاة في جلد فاحتملنا ذلك، ثم إنهم سامونا أن يأخذوا كل جميلة من بناتنا، فقلنا لم نجد هذا في كتاب ولا سنة، ونحن مسلمون فأحببنا أن نعلم أعن رأي أمير المؤمنين هذا أم لا؟ فطال عليهم المقام ونفدت نفقاتهم، فكتبوا أسماءهم ودفعوها إلى وزرائه وقالوا:: إن سأل عنا أمير المؤمنين فأخبروه، ثم رجعوا إلى. إفريقية فخرجوا على عامل هشام فقتلوه واستولوا على إفريقية، وبلغ الخبر هشاما فسأل عن النفر [فرفعت إليه]، فعرف أسماءهم فإذا هم الذين صنعوا ذلك.
ذكر غزوة الأندلس
لما افتتحت إفريقية أمر عثمان عبد الله بن نافع بن الحصين، وعبد الله بن نافع بن عبد القيس أن يسيرا إلى
الأندلس فأتياها من قبل البحر، وكتب عثمان إلى من انتدب معهما: أما بعد فإن القسطنطينية إنما تفتح من قبل الأندلس.
فخرجوا ومعهم البربر، ففتح الله على المسلمين وزاد في سلطان المسلمين مثل إفريقية، ولما عزل عثمان عبد الله بن سعد عن إفريقية ترك في عمله عبد الله بن نافع بن عبد القيس فكان عليها، ورجع عبد الله إلى مصر وبعث عبد الله إلى عثمان مالا قد حشد فيه، فدخل عمرو على عثمان فقال له: يا عمرو هل تعلم أن تلك اللقاح درت بعدك؟ قال عمرو: إن فصالها قد هلكت.
93

ذكر عدة حوادث
حج بالناس هذه السنة عثمان. وفيها كان فتح إصطخر الثاني على يد عثمان بن أبي العاص. وفيها غزا معاوية بن أبي سفي ان قنسرين. وفيها مات أبو ذؤيب الهذلي الشاعر بمصر منصرفا من إفريقية، وقيل: بل مات بطريق مكة في البادية، وقيل: مات ببلاد الروم وكلهم قالوا: مات في خلافة عثمان. وفيها مات أبو رمثة البلوي
بإفريقية له صحبة. وفيها ماتت حفصة بنت عمر بن الخطاب زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: ماتت سنة إحدى وأربعين، وقيل: سنة خمس وأربعين.
94

28
ثم دخلت سنة ثمان وعشرين
ذكر فتح قبرس
قيل: في سنة ثمان وعشرين كان فتح قبرس علن يد معاوية، وقيل: سنة تسع وعشرين، وقيل: سنة ثلاث وثلاثين، وقيل: إنما غزيت سنة ثلاث وثلاثين لأن أهلها غدروا على ما نذكره فغزاها المسلمون، ولما غزاها معاوية هذه السنة غزا معه جماعة من الصحابة فيهم أبو ذر، وعبادة بن الصامت ومعه زوجته أم حرام، وأبو الدرداء، وشداد بن أوس. وكان معاوية قد لج على عمر في غزو البحر وقرب الروم من حمص وقال: إن قرية من قرى حمص ليسمع أهلها نباح كلابهم وصياح دجاجهم. فكتب عمر إلى عمرو بن العاص صف لي البحر وراكبه. فكتب إليه عمرو بن العاص: إني رأيت خلقا كبيرا يركبه خلق صغير، ليس إلا السماء والماء إن ركد خرق القلوب، وإن تحرك أزاغ العقول، يزداد فيه اليقين قلة، والشك كثرة هم فيه كدود على عود، إن مال غرق،. وإن نجا برق. فلما قرأه كتب إلى معاوية والذي بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق لا أحمل فيه مسلما مبدا، وقد بلغني أن بحر الشام يشرف على أطول شيء من الأرض فيستأذن الله في كل يوم وليلة في أن يغرق الأرض، فكيف أحمل بالجنود على هذا الكافر! وبالله
95

لمسلم أحب إلي مما حوت الروم. وإياك أن تعرض إلي، فقد علمت ما لقي العلاء مني.
قال: وترك ملك الروم الغزو، وكاتب عمر وقاربه، وبعثت أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب زوج عمر بن الخطاب إلى امرأة ملك الروم بطيب وشئ يصلح للنساء مع البريد فأبلغه إليها، فأهدت امرأة الملك إليها هدية منها عقد فاخر، فلما رجع البريد أخذ عمر ما معه ونادى الصلاة جامعة فاجتمعوا، وأعلمهم الخبر. فقال القائلون: هو لها بالذي كان لها وليست امرأة الملك بذمة فتصانعك [به، ولا تحت يدك فتتقيك]. وقال آخرون: قد كنا نهدي لنستثيب فقال عمر: لكن الرسول رسول، المسلمين والبريد بريدهم، والمسلمون عظموها في صدرها. فأمر بردها إلى بيت المال، وأعطاها بقدر نفقتها.
فلما كان زمن عثمان كتب إليه معاوية يستأذنه في غزو البحر مرارا، فأجابه عثمان بأخرة إلى ذلك وقال له: لا تنتخب الناس ولا تقرع بينهم خيرهم فمن اختار الغزو طائعا فاحمله وأعنه ففعل، واستعمل عبد الله بن قيس الجاسي حليف بني فزاوة، وسار المسلمون من الشام إلى قبرس، وسار إليها عبد الله بن سعد من مصر فاجتمعوا عليها فصالحهم أهلها على جزية سبعة آلاف دينار كل سنة يؤدون إلى الروم مثلها لا يمنعهم المسلمون عن ذلك، وليس على المسلمين منعهم ممن أرادهم ممن وراءهم، وعليهم أن يؤذنوا المسلمين بمسير عدوهم من الروم إليهم، ويكون طريق المسلمين إلى العدو عليهم.
قال جبير بن نفير: ولما فتحت قبرس ونهب منها السبي نظرت إلى أبي الدرداء يبكي فقلت: ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الاسلام وأهله قال: فضرب منكبي بيده وقال: ما أهون الخلق على الله إذا تركوا أمره بينما هي أمة
96

ظاهرة قاهرة للناس لهم الملك إذ تركوا أمر الله فصاروا إلى ما تري فسلط عليهم السباء وإذا سلط السباء على قوم فليس له فيهم حاجة.
وفي هذه الغزاة ماتت أم حرام بنت ملحان الأنصارية ألقتها بغلتها بجزيرة قبرس فاندقت عنقها فماتت تصديقا للنبي صلى الله عليه وسلم حيث أخبرها أنها في أول من يغزو في البحر، وبقى عبد الله بن قيس الجاسي على البحر فغزا خمسين غزاة من بين شاتية وصائفة في البر والبحر لم يغرق أحد ولم ينكب، فكان يدعو الله أن يعافيه في جنده فأجابه، فلما أراد الله أن يصيبه في جسده خرج في قارب طليعة فانتهى إلى المرفأ من أرض الروم وعليه مساكين يسألون فتصدق عليهم، فرجعت امرأة منهم إلى قريتها فقالت للرجال: هذا عبد الله بن قيس في المرفإ فثاروا إليه فهجموا عليه فقتلوه بعد أن قاتلهم فأصيب وحده؛ ونجا الملاح حتى أتق أصحابه فأعملهم فجاؤوا حتى أرسوا بالمرفا والخليفة عليهم سفيان بن عوف الأزدي فخرج إليهم فقاتلهم فضجر فجعل يشتم أصحابه فقالت جارية عبد الله: ما هكذا كان يقول حين يقاتل. فقال سفيان: فكيف كان يقول؟ قالت: الغمرات ثم ينجلينا. فلزمها يقولها، وأصيب في المسلمين يومئذ وقيل: لتلك المرأة بعد: بأي شيء عرفتيه؟ قالت: كان كالتاجر، فلما سألته أعطاني كالملك فعرفته بهذا.
* * *
وفي هذه السنة غزا حبيب بن مسلمة سورية من أرض الروم.
97

وفيها تزوج عثمان نائلة بنت الفرافصة، وكانت نصرانية فأسلمت قبل أن يدخل بها. وفيها بنى عثمان الزوراء وحج بالناس عثمان هذه السنة:
(حرام بالحاء المهملة والراء. والجاسي بالجيم والسين المهملة. والفرافصة بفتح الفاء إلا الفرافصة بن الأحوص الكلبي الذي من ولده نائلة زوج عثمان).
98

29
ثم دخلت سنة تسع وعشرين
ذكر عزل أبي موسى عن البصرة واستعمال ابن عامر عليها
قيل: في هذه السنة عزل عثمان أبا موسى الأشعري عن البصرة، واستعمل عبد الله بن عامر بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس وهو ابن خال عثمان، وقيل: كان ذلك لثلاث سنين مضت من خلافة عثمان.
وكان سبب عزله أن أهل أيذج، والأكراد كفروا في السنة الثالثة من خلافة عثمان، فنادى أبو موسى في الناس وحضهم على الجهاد، وذكر من فضل الجهاد ماشيا فحمل نفر على دوابهم وأجمعوا على أن يخرجوا رجالة، وقال آخرون: لا نعجل بشيء حتى ننظر ما يصنع فإن أشبه قوله فعله فعلنا كما يفعل، فلما خرج أخرج ثقله من قصره على أربعين بغلا فتعلقوا بعنانه وقالوا: احملنا على بعض هذه الفضول، وارغب في المشي كما رغبتنا. فضرب القوم بسوطه، فتركوا دابته فمضى وأتوا عثمان فاستعفوه منه وقالوا: ما كل ما نعلم نحب أن تسألنا عنه؟ فأبدلنا به فقال: من تحبون؟ فقالوا: غيلان بن خرشة في كل أحد عوض من هذا العبد الذي قد أكل أرضنا، أما منكم خسيس فترفعونه؟ أما منكم
99

فقير فتجبرونه؟ يا معشر قريش حتى متى يأكل هذا الشيخ الأشعري هذه البلاد؟ فانتبه لها عثمان فعزل أبا موسى، وولى عبد الله بن عامر بن كريز. فلما سمع أبو موسى قال: يأتيكم غلام خراج ولاج كريم الجدات والخالات والعمات يجمع له الجندان، وكان عمر ابن عامر خمسا وعشرين سنة وجمع له جند أبي موسى، وجند عثمان بن أبي العاص الثقفي من عمان والبحرين، واستعمل على خراسان عمير بن عثمان بن سعد، وعلى سجستان عبد الله بن عمير الليثي وهو من ثعلبة فأثخن فيها إلى كابل، وأثخن عمير في خراسان حتى بلغ فرغانة لم يدع دونها كورة إلا أصلحها؛ وبعث إلى مكران عبيد الله بن معمر فأثخن فيها حتى بلغ النهر، وبعث
على كرمان عبد الرحمة بن عبيس، وبعث إلى الأهواز، وفارس نفرا، ثم عزل عبد الله بن عمير، وأستعمل عبد الله بن عامر فأقره عليها سنة ثم عزله، وأستعمل عاصم بن عمرو وعزل عبد الرحمن بن عبيس، وأعاد عدي بن سهيل بن عدي، وصرف عبيد الله بن معمر إلى فارس، واستعمل مكانه عمير بن عثمان، وأستعمل على خراسان أمير بن أحمر اليشكري، واستعمل على سجستان سنة أربع عمران بن الفضيل البرجمي، ومات عاصم بن عمرو بكرمان:
(عبيس بضم العين المهملة وفتح الباء الموحدة ثم الياء المثناة من تحتها وآخره سين مهملة. وأمير بضم الهمزة وفتح الميم وآخره راء، وكريز بن ربيعة بضم الكاف وفتح الراء).
100

ذكر انتقاض أهل فارس
ثم ان أهل فارس انتقضوا ونكثوا بعبيد الله بن معمر فسار إليهم فالتقوا على باب إصطخر فقتل عبيد الله وانهزم المسلمون، وبلغ الخبر عبد الله بن عامر فاستنفر أهل البصرة وسار بالناس إلى فارس فالتقوا بإصطخر، وكان على ميمنته أبو بزرة الأسلمي، وعلى ميسرته معقل بن يسار، وعلى الخيل عمران بن الحصين ولكلهم صحبة، واشتد القتال فانهزم الفرس، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وفتحت إصطخر عنوة، وأتى دار ابجرد وقد غدر أهلها ففتحها، وسار إلى مدينة جور وهي اردشيرخره فانتقضت إصطخر فلم يرجع وتمم السير إلى جور وحاصرها وكان هرم بن حيان محاصرا لها، وكان المسلمون يحاصرونها وينصرفون عنها فيأتون إصطخر ويغزون نواحي كانت تنتقض عليهم، فلما نزل ابن عامر عليها فتحها.
وكان سبب فتحها أن بعض المسلمين قام يصلي ذات ليلة وإلى جانبه جراب له فيه خبز ولحم فجاء كلب فجره وعدا به حتى دخل المدينة من مدخل لها خفي، فلزم المسلمون ذلك المدخل حتى دخلوها منه وفتحوها عنوة.
فلما فرغ منها ابن عامر عاد إلى إصطخر ففتحها عنوة بعد أن حاصرها واشتد القتال عليها؛ ورميت بالمجانيق قتل بها خلقا كثيرا من الأعاجم وأفنى أكثر أهل البيوتات، ووجوه الأساورة وكانوا قد لجأوا إليها. وقيل: إن أهل إصطخر لما نكثوا عاد إليها ابن عامر قبل وصوله إلى جور فملكها عنوة وعاد إلى جور، فأتى دار ابجرد فملكها وكانت منتقضة أيضا، ووطىء أهل فارس وطأة لم يزالوا منها في ذل، وكتب إلى عثمان بالخبر فكتب اليه أن يستعمل
101

على بلاد فارس هرم بن حيان اليشكري، وهرم بن حيان العبدي، والخريت بن راشد، والمنجاب بن راشد، والترجمان الهجيمي وأمره أن يفرق كور خراسان على جماعة فيجعل الأحنف على المروبن، وحبيب بن قرة اليربوعي على بلخ، وخالد بن عبد الله بن زهير على هراة، وأمير بن أحمر على طوس، وقيس بن هبيرة السلمي علن نيسابور، وبه تخرج عبد الله بن خازم وهو ابن عمه، ثم جمعها عثمان قبل موته لقيس، واستعمل أمير بن أحمر على سجستان، ثم جعل عليها عبد الرحمن بن سمرة وهو من آل حبيب بن عبد شمس فمات عثمان وهو عليها، ومات وعمران على مكران، وعمير بن عثمان بن سعد على فارس، وابن كندير القشيري على كرمان.
ثم أوفد قيس بن هبيرة عبدا لله بن خازم إلى ابن عامر في زمن عثمان وكان أبن عامر يكرمه. فقال لابن عامر: اكتب لي على خراسان عهدا إن خرج عنها قيس. ففعل، فرجع إلى خراسان فلما قتل عثمان وجاش العدو قال ابن خازم لقيس: الرأي أن تخلفني وتمضي حتى تنظر فيما ينظرون فيه. ففعل فأخرج ابن خازم بعده عهدا بخلافته وثبت على خراسان إلى أن قام علي بن أبي طالب، وغضب قيس من صنيع ابن خازم:
(الخريت بكسر الخاء المعجمة والراء المشددة وسكون الياء تحتها نقطتان وآخره تاء فوقها نقطتان).
102

ذكر الزيادة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم
في هذه السنة زاد عثمان في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول، وكان ينقل الجص من بطن نخل، وبناه بالحجارة المنقوشة، وجعل عمده من حجارة فيها رصاص، وجعل طوله ستين ومائة ذراع، وعرضه خمسين ومائة ذراع، وجعل أبوابه على ما كانت أيام عمر ستة أبواب.
ذكر إتمام عثمان الصلاة بجمع وأول ما تكلم الناس فيه
حج بالناس هذه السنة عثمان وضرب فسطاطه بمنى، وكان أول فسطاط ضربه عثمان بمنى، وأتم الصلاة بها وبعرفة فكان أول ما تكلم به الناس في عثمان ظاهرا حين أتم الصلاة بمنن فعاب ذلك غير واحد من الصحابة، وقال له علي: ما حدث أمر ولا قدم عهد، ولقد عهدت النبي صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر، وعمر يصلون ركعتين، وأنت صدرا من خلافتك فما أدري ما يرجع إليه؟ فقال: رأى رأيته، وبلغ الخبر عبد الرحمن بن عوف لم وكان معه فجاءه وقال له: ألم تصل في هذا المكان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وعمر ركعتين وصليتها أنت ركعتين؟ قال: بلى، ولكني أخبرت أن بعض من حج من اليمن وجفاة الناس قالوا: إن الصلاة للمقيم ركعتان، واحتجوا بصلاتي وقد اتخذت بمكة أهلا ولى بالطائف مال. فقال عبد الرحمن: ما في هذا عذر. أما قولك: اتخذت بها أهلا فإن زوجك بالمدينة تخرج بها إذا
103

شئت وإنما تسكن بسكناك، وأما مالك بالطائف فبينك وبينه مسيرة ثلاث ليال، وأما قولك: عن حاج اليمن وغيرهم فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحي والإسلام قليل، ثم أبو بكر، وعمر فصلوا ركعتين وقد ضرب الاسلام بجرانه. فقال عثمان: هذا رأي رأيته.
فخرج عبد الرحمن فلقي ابن مسعود فقال: أبا محمد غير ما تعلم قال: فما أصنع قال: اعمل بما تري وتعلم، فقال ابن مسعود: الخلاف شر وقد صليت بأصحابي أربعا فقال عبد الرحمن: قد صليت بأصحابي ركعتين وأما الآن فسوف أصلي أربعا.
وقيل: كان ذلك سنة ثلاثين.
104

30
ثم دخلت سنة ثلاثين
ذكر عزل الوليد عن الكوفة وولاية سعيد
في هذه السنة عزل عثمان الوليد بن عقبة عن الكوفة وولاها سعيد بن العاص وقد تقدم سبب ولاية الوليد على الكوفة في السنة الثانية من خلافة عثمان وأنه كان محبوبا إلى الناس فبقي كذلك خمس سنين وليس لداره باب، ثم أن شبابا من أهل الكوفة نقبوا على ابن الحيسمان الخزاعي وكاثروه فندر بهم وخرج عليهم بالسيف وصرخ فأشرف عليهم أبو شريح الخزاعي وكان قد انتقل من المدينة إلى الكوفة للقرب من الجهاد فصاح بهم أبو شريح فلم يلتفتوا وقتلوا ابن الحيسمان وأخذهم الناس وفيهم زهير بن جندب الأزدي ومورع بن أبي مورع الأسدي وشبيل بن أبي الأزدي وغيرهم فشهد عليهم أبو شريح وابنه فكتب فيهم الوليد إلى عثمان فكتب عثمان بقتلهم فقتلهم على باب القصر ولهذا السبب أخذ في القسامة بقول ولي المقتول عن ملأ من الناس ليفطم الناس عن القتل.
وكان أبو زبيد الشاعر في الجاهلية والاسلام في بني تغلب وكانوا أخواله فظلموه دينا لهم فأخذ له الوليد حقه إذ كان عاملا عليهم فشكر أبو زبيد ذلك له وانقطع إليه وغشيه بالمدينة والكوفة وكان نصرانيا فأسلم عند الوليد
105

وحسن إسلامه فبينما هو عنده أتي آت أبا زينب وأبا مورع وجندبا وكانوا يحفرون للوليد منذ قتل أبناءهم ويضعون له العيون فقال لهم إن الوليد وأبا زبيد يشربان الخمر فثاروا وأخذوا معهم نفرا من أهل الكوفة فاقتحموا عليه فلم يروا فأقبلوا يتلاومون وسبهم الناس وكتم الوليد ذلك عن عثمان.
وجاء جندب ورهط معه إلى ابن مسعود فقالوا له إن الوليد معتكف على الخمر وأذاعوا ذلك فقال ابن مسعود من استتر عنا بشيء لم نتبع عورته ولم نهتك ستره فعاتبه الوليد على قوله حتى تغاضبا ثم أتي الوليد بساحر فأرسل إلى ابن مسعود يسأله عن حده واعترف الساحر عند ابن مسعود وكان يخيل إلى الناس أنه يدخل في دبر الحمار ويخرج من فيه فأمره ابن مسعود بقتله فلما أراد الوليد قتله أقبل الناس ومعهم جندب فضرب الساحر فقتله فحبسه الوليد وكتب إلى عثمان فيه وأمره بإطلاقه وتأديبه فغضب لجندب أصحابه وخرجوا إلى عثمان يستعفون من الوليد فردهم خائبين. فلما رجعوا أتاهم كل موتور فاجتمعوا معهم على رأيهم ودخل أبو زينب وأبو مورع وغيرهما على الوليد فتحدثوا عنده فنام فأخذا خاتمه وسارا إلى المدينة واستيقظ الوليد فلم ير خاتمه فسأل نساءه عن ذلك فأخبرنه أن آخر من بقي عنده رجلان صفتهما كذا وكذا فاتهمهما وقال هما أبو زينب وأبو مورع وأرسل
يطلبهما فلم يوجدا.
فقدما على عثمان ومعهما غيرهما وأخبراه أنه شرب الخمر فأرسل إلى الوليد فقدم المدينة ودعا بهما عثمان فقال أتشهدان أنكما رأيتماه يشرب فقالا لا قال فكيف قالا اعتصرناها من لحيته وهو يقىء الخمر. فأمر سعيد بن العاص فجلده فأورث ذلك عداوة بين أهليهما فكان على الوليد خميصة فأمر علي بن أبي طالب بنزعها لما جلد.
هكذا في هذه الرواية والصحيح أن الذي جلده عبد الله بن جعفر بن أبي طالب لأن عليا أمر ابنه الحسن أن يجلده فقال الحسن ول حارها من تولي
106

قارها! فأمر عبد الله بن جعفر فجلده أربعين فقال علي أمسك جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر أربعين وجلد عمر ثمانين وكل سنة وهذا أحب إلى وقيل إن الوليد سكر وصلي الصبح بأهل الكوفة أربعا ثم التفت إليهم وقال أزيدكم فقال له ابن مسعود ما زلنا معك في زيادة منذ اليوم وشهدوا عليه عند عثمان فأمر عليا بجلده فأمر علي عبد الله بن جعفر فجلده وقال الحطيئة:
(شهد الحطيئة يوم يلقي ربه * أن الوليد أحق بالعذر)
(نادى وقد تمت صلاتهم * أأزيدكم سكرا وما يدري)
(فأبوا أبا وهب ولو أذنوا * لقرنت بين الشفع والوتر)
(كفوا عنانك إذ جريت ولو * تركوا عنانك لم تزل تجري)
فلما علم عثمان من الوليد شرب الخمر عزله وولى سعيد بن العاص بن أمية وكان سعيد قد ربي في جحر عثمان فلما فتح الشام قدمه فأقام مع معاوية فذكر عمر يوما قريشا فسأله عنه فأخبر أنه بالشام فاستقدمه فقدم عليه فقال له قد بلغني عنك بلاء وصلاح فازدد يزدك الله خيرا وقال له هل لك من زوجة قال لا وجاء عمر بنات سفيان بن عويف ومعهن أمهن فقالت أمهن هلك رجالنا وإذا هلك الرجال ضاع النساء فضعن في أكفائهن فزوج سعيد إحداهن وزوج عبد الرحمن بن عوف الأخرى والوليد بن عقبة الثالثة وأتاه بنات مسعود بن نعيم النهشلي فقلن له قد هلك رجالنا وبقي الصبيان فضعنا في أكفائنا فزوج سعيدا إحداهن وجبير بن مطعم الأخرى فشارك سعيد هؤلاء وهؤلاء وكان عمومته ذوي بلاء في الإسلام وسابقة فلم يمت عمر حتى كان سعيد من رجال قريش فلما استعمله عثمان سار حتى أتي الكوفة أميرا ورجع معه
107

الأشتر وأبو خشة الغفاري وجندب بن عبد الله [وجثامة] بن صعب بن جثامة وكانوا ممن شخص مع الوليد يعينونه فصاروا عليه فقال بعض شعراء الكوفة:
(فررت من الوليد إلي سعيد * كاهل الحجر إذ جزعوا فباروا)
(يلينا من قريش كل عام * أمير محدث أو مستشار)
(لنا نار نخوفها فنخشى * وليس لهم فلا يخشون نار)
فلما وصل سعيد الكوفة صعد المنبر فحمد الله وأثني عليه ثم قال والله لقد بعثت إليكم وأني لكاره ولكني لم أجد بدا إذا أمرت أن أتمر إلا أن الفتنة قد أطلعت خطمها وعينيها ووالله لأضربن وجهها حتى أقمعها وتعييني وإني لرائد نفسي اليوم.
ثم نزل وسأل عن أهل الكوفة فعرف حال أهلها فكتب إلى عثمان أن أهل الكوفة قد اضطرب أمرهم وغلب أهل الشرف منهم والبيوتات والسابقة والغالب على تلك البلاد روادف قدمت وأعراب لحقت حتى لا ينظر إلى ذي شرف وبلاء من نابتتها ولا نازلتها.
فكتب إليه عثمان أما بعد ففضل أهل السابقة والقدمة ومن فتح الله عليه تلك البلاد وليكن من نزلها من غيرهم تبعا لهم إلا أن يكونوا تثاقلوا عن الحق وتركوا القيام به وقام به هؤلاء واحفظ لكل منزلته وأعطهم جميعا بقسطهم من الحق فإن المعرفة بالناس بها يصاب العدل.
108

فأرسل سعيد إلى أهل الأيام والقادسية فقال أنتم وجوه الناس والوجه ينبئ عن الجسد فأبلغونا حاجة ذي الحاجة وخلة ذي الخلة. وأدخل معهم من يحتمل من اللواحق والروادف وجعل القراء في سمره فكأنما كانت الكوفة يبسا شملته نار فانقطع إلى ذلك الضرب ضربهم ففشت القالة في أهل الكوفة فكتب سعيد إلى عثمان بذلك فجمع الناس وأخبرهم بما كتب إليه فقالوا له أصبت فلا تسعفهم في ذلك ولا تطمعهم فيما ليسوا له بأهل فإنه إذا نهض في الأمور من ليس بأهل لها لم يحتملها وأفسدها فقال عثمان يا أهل المدينة استعدوا واستمسكوا فقد دبت إليكم الفتن وإني والله لأتخلصن لكم الذي لكم حتى أنقله إليكم إن رأيتم حتى يأتي من شهد مع أهل العراق سهمه فيقيم معه في بلاده فقالوا كيف تنقل إلينا سهمنا من الأرضين فقال يبيعها من شاء بما كان له بالحجاز واليمن وغيرهما من البلاد ففرحوا وفتح الله لهم أمرا لم يكن في حسابهم وفعلوا ذلك واشتراه رجال من كل قبيلة وجاز لهم عن تراض منهم ومن الناس وإقرار بالحقوق.
ذكر غزو سعيد بن العاص طبرستان
في هذه السنة غزا سعيد بن العاص طبرستان فإنها لم يغزها أحد إلى هذه السنة وقد تقدم في أيام عمر الخلاف في ذلك وأن أصبهبذها صالح سويد بن مقرن أيام عمر على مال بذله وأما على هذا القول فإن سعيدا غزاها من الكوفة سنة ثلاثين ومعه الحسن والحسين وابن عباس وابن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمرو بن العاص وحذيفة بن اليمان وابن الزبير وناس من أصحاب النبي وخرج ابن عامر من البصرة يريد خراسان
109

فسبق سعيدا ونزل نيسابور ونزل سعيد قومس وهي صلح صالحهم حذيفة بعد نهاوند فأتي جرجان فصالحوه على مائتي ألف ثم أتي طميسة وهي كلها من طبرستان متاخمة جرجان وهي مدينة على ساحل البحر فقاتله أهلها فصلي صلاة الخوف أعلمه حذيفة كيفيتها وهم يقتتلون وضرب سعيد يومئذ رجلا بالسيف على حبل عاتقه فخرج السيف من تحت مرفقه وحاصرهم فسألوا الأمان فأعطاهم على أن لا يقتل منهم رجلا واحدا ففتحوا الحصن فقتلوا أجمعين إلا رجلا واحدا ففتحوا الحصن وحوي ما في الحصن فأصاب رجل من بني فهد سفطا عليه قفل فظن أن فيه جوهرا وبلغ سعيدا فبعث إلى النهدي فأتاه بالسفط فكسروا قفله فوجدوا فيه سفطا ففتحوه فوجدوا خرقة سوداء مدرجة فنشروها فوجدوا خرقة حمراء فنشروها فإذا خرقة صفراء وفيها إيران كميت وورد فقال شاعر يهجو بني نهد:
(آب الكرام بالسبايا غنيمة * وآب بنو نهد بأيرين في سفط)
(كميت وورد وافرين كلاهما * فظنوهما غنما فناهيك من غلط)
وفتح سعيد نامية وليست بمدينة هي صحاري ومات مع سعيد محمد بن الحكم بن أبي عقيل جد يوسف بن عمر ثم رجع سعيد إلى الكوفة فمدحه كعب بن جعيل فقال:
فنعم الفتي إذ حال جيلان دونه * وإذا هبطوا من دستبى وأبهرا
110

في أبيات. ولما صالح سعيد أهل جرجان كانوا يجبون أحيانا مائة ألف وأحيانا مائتي ألف وأحيانا ثلاثمائة ألف ويقولون هذا صلح صلحنا وربما منعوه ثم امتنعوا وكفروا فانقطع طريق خراسان من ناحية قومس إلا على خوف شديد منهم كان الطريق إلى خراسان من فارس إلى كرمان إلى خراسان وأول من صير الطريق من قومس قتيبة بن مسلم حين ولي خراسان وقدمها يزيد بن المهلب فصالح صولا وفتح البحيرة ودهستان وصالح أهل جرجان على صلح سعيد.
ذكر غزو حذيفة الباب وأمر المصاحف
وفيها صرف حذيفة عن غزو الري إلى غزو الباب مددا لعبد الرحمن بن ربيعة وخرج معه سعيد بن العاص فبلغ معه أذربيجان وكانوا يجعلون الناس ردا فأقام حتى عاد حذيفة ثم رجعا فلما عاد حذيفة قال لسعيد بن العاص لقد رأيت في سفرتي هذه أمرا لئن ترك الناس ليختلفن في القرآن ثم لا يقومون عليه أبدا قال وما ذاك قال رأيت أناسا من أهل حمص يزعمون أن قراءتهم خيرا من قراءة غيرهم وأنهم أخذوا القرآن عن المقداد ورأيت أهل دمشق يقولون إن قراءتهم خير من قراءة غيرهم ورأيت أهل الكوفة يقولون مثل ذلك وأنهم قرأوا على ابن مسعود، وأهل البصرة يقولون مثل ذلك وأنهم قرأوا على أبي موسى ويسمون مصحفه لباب القلوب. فلما وصلوا إلى الكوفة أخبر حذيفة الناس بذلك وحذرهم ما يخاف فرافقه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكثير من التابعين وقال له أصحاب ابن مسعود:
111

ما تنكر؟ ألسنا نقرأه على قراءة ابن مسعود فغضب حذيفة ومن وافقه وقالوا إنما أنتم أعراب فاسكتوا فإنكم على خطأ وقال حذيفة والله لئن عشت لآتين أمير المؤمنين ولأشيرن عليه أن يحول بين الناس وبين ذلك فأغلظ له ابن مسعود فغضب سعي وقام وتفرق الناس وغضب حذيفة وسار إلى عثمان فأخبره بالذي رأى وقال أنا النذير العريان فأدركوا الأمة. فجمع عثمان الصحابة وأخبرهم الخبر فأعظموه ورأوا جميعا ما رأى حذيفة.
فأرسل عثمان إلى [من] حفصة بنت عمر أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها وكانت هذه الصحف هي التي كتبت في أيام أبي بكر فإن القتل لما كثر في الصحابة يوم اليمامة قال عمر لأبي بكر إن القتل قد كثر واستحر بقراء القرآن يوم اليمامة وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء فيذهب من القرآن كثير وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن؛ فأمر أبو بكر زيد بن ثابت فجمعه من الرقاع والعسب وصدور الرجال فكانت الصحف عند أبي بكر ثم عند عمر فلما توفي عمر أخذتها حفصة فكانت عندها فأرسل عثمان إليها أخذها منها وأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف وقال عثمان إذا اختلفتم فاكتبوها بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم. ففعلوا فلما نسخوا الصحف ردها عثمان إلى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف وحرق ما سوي ذلك وأمر أن يعتمدوا عليها ويدعوا ما سوي ذلك فكل الناس عرف فضل هذا الفعل إلا ما كان من أهل الكوفة فإن المصحف لما قدم عليهم فرح به أصحاب النبي وإن أصحاب عبد الله ومن وافقهم امتنعوا من ذلك وعابوا الناس فقام فيهم ابن مسعود وقال ولا كل ذلك فإنكم والله قد سبقتم سبقا بينا فاربعوا على ظلعكم ولما قدم على الكوفة قام إليه رجل فعاب عثمان يجمع الناس على المصحف فصاح وقال أسكت فعن ملأ منا فعل ذلك فلو وليت منه ما ولي عثمان لسلكت سبيله.
112

ذكر سقوط خاتم النبي في بئر أريس
وفيها وقع خاتم النبي من يد عثمان في بئر أريس وهي على ميلين من المدينة وكانت قليلة الماء فما أدرك قعرها بعد وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذه لما أراد أن يكاتب الأعاجم يدعوهم إلى الله تعالى فقيل له إنهم لا يقبلون كتابا إلا مختوما فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعمل له خاتم من حديد فلما عمل جعله في إصبعه فأتاه جبريل فنهاه عنه فنبذه وأمر فعمل له خاتم من نحاس وجعله في إصبعه فقال [له] جبريل: أنبذه، فنبذه، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بخاتم من فضة فصنع له فجعله في إصبعه فأمره جبريل أن يقره فأقره وكان نقشه ثلاثة أسطر محمد سطر ورسول سطر والله سطر فتختم به رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفي ثم تختم به أبو بكر حتى توفي ثم عمر حتى توفي ثم تختم به عثمان ست سنين فحفروا بئرا بالمدينة شرابا للمسلمين فقعد على رأس البئر فجعل يعبث بالخاتم ويديره بإصبعه فسقط من يده في البئر فطلبوه فيها ونزحوا ما فيها من الماء فلم يقدروا عليه فجعل فيه مالا عظيما لمن جاء به واغتم لذلك غما شديدا فلما يئس منه صنع خاتما آخر على مثاله ونقشه فبقي في إصبعه حتى هلك فلما قتل ذهب الخاتم فلم يدر من أخذه.
ذكر تسيير أبي ذر إلى الربذة
وفي هذه السنة كان ما ذكر في أمر أبي ذر وإشخاص معاوية إياه من الشام إلى المدينة، وقد ذكر في سبب ذلك أمور كثيرة من سب معاوية إياه وتهديده
113

بالقتل وحمله إلى المدينة من الشام بغير وطاء ونفيه من المدينة على الوجه الشنيع لا يصح النقل به ولو صح لكان ينبغي أن يعتذر عن عثمان فإن للإمام أن يؤدب رعيته وغير ذلك من الأعذار لا أن يجعل ذلك سببا للطعن عليه كرهت ذكرها.
وأما العاذرون فإنهم قالوا لما ورد ابن السوداء إلى الشام لقي أبا ذر فقال يا أبا ذر ألا تعجب من معاوية يقول المال مال الله إلا إن كل شيء لله كأنه يريد أن يحتجنه دون الناس ويمحو اسم المسلمين فأتاه أبو ذر فقال ما يدعوك إلى أن تسمي مال المسلمين مال الله الساعة قال يرحمك الله يا أبا ذر ألسنا عباد الله والمال ماله والخلق خلقه والأمر أمره قال فلا تقله قال سأقول مال المسلمين وأتى ابن السوداء أبا الدرداء فقال له مثل ذلك فقال له من أنت أظنك والله يهوديا فأتي عبادة بن الصامت فتعلق به عبادة وأتى به معاوية فقال هذا والله الذي بعث عليك أبا ذر.
وكان أبو ذر يذهب إلى أن المسلم لا ينبغي له أن يكون في ملكه أكثر من قوت يومه وليلته أو شيء ينفقه في سبيل الله أو يعده لكريم ويأخذ بظاهر القرآن (الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) فكان يقوم بالشام ويقول يا معشر الأغنياء واسوا الفقراء بشر الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله بمكاو من نار تكوي بها جباههم وجنوبهم وظهورهم فما زال حتى ولع الفقراء بمثل ذلك وأوجبوه على الأغنياء وشكا الأغنياء ما يلقون منهم فأرسل معاوية إليه بألف دينار في جنح الليل فأنفقها فلما صلى معاوية الصبح دعا رسوله الذي أرسله إليه فقال اذهب إلى أبي ذر فقل له أنقذ جسدي من
114

عذاب معاوية فإنه أرسلني إلى غيرك وإني أخطأت بك ففعل ذلك فقال له أبو ذر يا بني قل له والله ما أصبح عندنا من دنانيرك دينار ولكن أخرنا ثلاثة أيام حتى نجمعها فلما رأى معاوية أن فعله يصدق قوله كتب إلى عثمان أن أبا ذر قد ضيق علي وقد كان كذا وكذا للذي يقوله الفقراء فكتب إليه عثمان أن الفتنة قد أخرجت خطمها وعينيها ولم يبق إلا أن تثب فلا تنكأ القرح وجهز أبا ذر إلي وابعث معه دليلا وزوده وارفق به وكفكف الناس ونفسك ما استطعت. وبعث إليه بابني ذر.
فلما قدم المدينة ورأي المجالس في أصل جبل سلع قال بشر أهل المدينة بغارة شعواء وحرب مذكار. ودخل على عثمان فقال له ما لأهل الشام يشكون ذرب لسانك فأخبره فقال يا أبا ذر على أن أقضي ما علي وأن أدعو الرعية إلى الاجتهاد والاقتصاد وما علي أن أجبرهم على الزهد فقال أبو ذر لا ترضوا من الأغنياء حتى يبذلوا المعروف ويحسنوا إلى الجيران والاخوان ويصلوا القرابات فقال كعب الأحبار وكان حاضرا من أدى الفريضة فقد قضي ما عليه فضربه أبو ذر فشجه وقال له يا بن اليهودية ما أنت وما ها هنا فاستوهب عثمان كعبا فوهبه فقال أبو ذر لعثمان تأذن لي في الخروج من المدينة فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني بالخروج منها إذا بلغ البناء سلعا. فإذن له فنزل الربذة وبني بها مسجدا وأقطعه عثمان صرمة من الإبل وأعطاه مملوكين وأجري عليه كل يوم عطاء وكذلك على رافع بن خديج وكان قد خرج أيضا عن المدينة لشيء سمعه.
وكان أبو ذر يتعاهد المدينة مخافة أن يعود أعرابيا وأخرج معاوية إليه أهله فخرجوا ومعهم جراب مثقل يد الرجل فقال انظروا إلى هذا الذي يزهد في الدنيا ما عنده فقالت امرأته والله ما هو دينار ولا درهم ولكنها
115

فلوس كان إذا خرج عطاؤه ابتاع منه فلوسا لحوائجنا ولما نزل الربذة أقيمت الصلاة وعليها رجل يلي الصدقة فقال تقدم يا أبا ذر فقال لا تقدم أنت فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي أسمع وأطع وإن كان عليك عبد مجدع فأنت عبد ولست بأجدع وكان من رقيق الصدقة اسمه مجاشع.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة زاد عثمان النداء الثالث يوم الجمعة على الزوراء وفيها مات حاطب بن أبي بلتعة اللخمي وهو من أهل بدر.
(حاطب بالحاء المهملة وبلتعة بالباء الموحدة ثم التاء المثناة من فوق بوزن مقرعة).
وفيها مات عمرو بن أبي سرح الفهري وكان بدريا وفيها مات مسعود بن الربيع وقيل ابن ربيعة بن عمرو القاري من القارة أسلم قبل دخول النبي دار الأرقم وشهد بدرا وكان عمره قد جاوز الستين وفيها مات عبد الله بن كعب بن عمرو الأنصاري شهد بدرا وكان على غنائم النبي فيها وفي غيرها وفيها مات عبد الله بن مظعون أخو عثمان وكان بدريا؛ وجبار بن صخر وهو بدري أيضا.
(جبار بالجيم وآخره راء).
116

31
ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين
ذكر غزوة الصواري
قيل وفي هذه السنة كانت غزوة الصواري وقيل كانت سنة أربع وثلاثين وقيل في سنة إحدى وثلاثين كانت غزوة الأساورة وقيل كانتا معا سنة إحدى وثلاثين، وكان على المسلمين معاوية وكان قد جمع الشام له أيام عثمان.
وسبب جمعه له أن أبا عبيدة بن الجراح لما حضر استخلف على عمله عياض بن غنم وكان خاله وابن عمه وكان جوادا مشهورا وقيل استخلف معاذ بن جبل على ما تقدم فمات عياض واستخلف عمر بعده سعيد بن حذيم الجمحي ومات سعيد بعد وأمر عمر مكانه عمير بن سعيد الأنصاري ومات عمر وعمير على حمص وقنسرين ومات يزيد بن أبي سفيان فجعل عمر مكانه أخاه معاوية ونعاه لأبي سفيان فقال من جعلت على عمله يا أمير المؤمنين فقال معاوية فقال وصلتك رحم. فاجتمعت لمعاوية الأردن ودمشق ومرض عمير بن سعد فاستعفي عثمان واستأذنه في الرجوع إلى أهله فإذن له وضم عثمان حمص وقنسرين إلى معاوية ومات عبد الرحمن بن علقمة وكان على فلسطين فضم عثمان عمله إلى معاوية فاجتمع الشام لمعاوية لسنتين من إمارة عثمان فهذا كان سبب اجتماع الشام له.
وأما سبب هذه الغزوة فإن المسلمين لما أصابوا من أهل إفريقية وقتلوهم وسبوهم خرج قسطنطين بن هرقل في جمع له لم تجمع الروم مثله مذ كان
117

الإسلام، فخرجوا في خمسمائة مركب أو ستمائة وخرج المسلمون وعلي أهل الشام معاوية بن أبي سفيان وعلي البحر عبد الله بن سعد بن أبي سرح وكانت الريح على المسلمين لما شاهدوا الروم فأرسى المسلمون والروم وسكنت الريح فقال المسلمون الأمان بيننا فباتوا ليلتهم والمسلمون يقرأون القرآن ويصلون ويدعون والروم يضربون بالنواقيس وقربوا من الغد سفنهم وقرب المسلمون سفنهم فربطوا بعضها مع بعض واقتتلوا بالسيوف والخناجر وقتل من المسلمين بشر كثير وقتل من الروم ما لا يحصي وصبروا يومئذ صبرا لم يصبروا في موطن قط مثله ثم أنزل الله نصره على المسلمين فانهزم قسطنطين جريحا ولم ينج من الروم إلا الشريد وأقام عبد الله بن سعد بذات الصواري بعد الهزيمة أياما ورجع فكان أول ما تكلم به محمد بن أبي حذيفة ومحمد بن أبي بكر في أمر عثمان في هذه الغزوة وأظهرا عيبه وما غير وما خالف به أبا بكر وعمر ويقولان استعمل عبد الله بن سعد رجلا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أباح دمه ونزل القرآن بكفره وأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما أدخلهم ونزع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واستعمل سعيد بن العاص وابن عامر. فبلغ ذلك عبد الله بن سعد فقال لا تركبا معنا فركبا في مركب ما معهما إلا القبط فلقوا العدو فكانا أقل المسلمين نكاية وقتالا فقيل لهما في ذلك فقالا كيف نقاتل مع عبد الله بن سعد استعمله عثمان وعثمان فعل كذا وكذا فأرسل إليهما عبد الله ينهاهما ويتهددهما ففسد الناس بقولهما وتكلموا ما لم يكونوا ينطقون به.
وأما قسطنطين فإنه سار في مركبه إلى صقلية فسأله أهلها عن حاله فأخبرهم فقالوا أهلكت النصرانية وأفنيت رجالها لو أتانا العرب لم يكن عندنا من
118

يمنعهم ثم أدخلوه الحمام وقتلوه وتركوا من كان معه في المركب وأذنوا لهم في المسير إلى القسطنطينية.
وقيل في هذه السنة فتحت أرمينية على يد حبيب بن مسلمة وقد تقدم ذكر ذلك
ذكر مقتل يزدجرد بن شهريار
في هذه السنة هرب يزدجرد من فارس إلى خراسان في قول بعضهم وقد تقدم الخلاف فيه وكان ابن عامر قد خرج من البصرة حين وليها إلى فارس فافتتحها وهرب يزدجرد من جور وهي أردشير خره في سنة ثلاثين فوجه ابن عامر في أثره مجاشع بن مسعود وقيل هرم بن حيان العبدي وقيل هرم بن حيان اليشكري فاتبعه إلى كرمان فهرب يزدجرد إلى خراسان وأصاب مجاشع بن مسعود ومن معه الثلج والدمق واشتد البرد وكان الثلج قيد رمح فهلك الجند وسلم مجاشع ورجل معه جارية فشق بطن بعير فأدخلها فيه وهرب فلما كان الغد جاء فوجدها حية فحملها فسمي ذلك القصر قصر مجاشع لأن جيشه هلكوا فيه وهو على بعد خمسة فراسخ أو ستة من الشيرجان من أعمال كرمان.
هذا على قول من يقول إن هرب يزدجرد من فارس كان هذه السنة.
119

وأما سبب قتله، على ما تقدم ذكره من فتح فارس وخراسان فقد اختلف الناس في سبب قتله فقيل إنه هرب من كرمان في جماعة يسيرة إلى مرو ومعه خرزاد أخو رستم فرجع عنه إلى العراق ووصي به ماهويه مرزبان مرو فسأله يزدجرد مالا فمنعه فخافه أهل مرو على أنفسهم فأرسلوا إلى الترك يستنصروهم عليه فأتوه فبيتوه فقتلوا أصحابه فهرب يزدجرد ماشيا إلى شط المرغاب فأوى إلى بيت رجل ينقر الأرحاء فلما نام قتله، وقيل: بل بيته أهل مرو ولم يستنصروا بالترك فقتلوا أصحابه وهرب منهم فقتله النقار وتبعوا أثره إلى بيت الذي ينقر الأرحاء فأخذوه وضربوه فأقر بقتله فقتلوه وأهله.
وكان يزدجرد قد وطئ امرأة بها فولدت له غلاما ذاهب الشق ولدته بعد قتله فسمي المخدج فولد له أولاد بخراسان فوجد قتيبة بن مسلم حين افتتح الصعد وغيرها جاريتين من ولد المخدج فبعث بهما أو بإحداهما إلى الحجاج فبعث بها إلى الوليد بن عبد الملك فولدت للوليد يزيد بن الوليد الناقص. وأخرج يزدجرد من النهر وجعل في تابوت وحمل إلى إصطخر فوضع في ناووس هناك.
وقيل إن يزدجرد هرب بعد وقعة نهاوند إلى أرض أصبهان وبها رجل يقال له مطيار كان قد أصاب من العرب شيئا يسيرا فصار له بها محل كبير فأتي مطيار يزدجرد ذات يوم زائرا فحجبه بوابه ليستأذن له فضربه وشجه أنفة وحمية لحجبه إياه فدخل البواب على يزدجرد مدمي فلما نظر إليه أفظعه ذلك فرحل عن أصبهان من ساعته فأتي الري فخرج إليه صاحب طبرستان وعرض عليه بلاده وأخبره بحصانتها وقال له إن أنت لم تجبني يومك هذا ثم أتيتني بعد ذلك فلم أقبلك ولم أراك فلم يجبه.
وقيل مضي من فوره ذلك إلى سجستان ثم سار إلى مرو في ألف فارس،
120

وقيل: بل قصد فارس فأقام بها أربع سنين ثم أتي كرمان فأقام بها سنتين أو ثلاثا فطلب إليه دهقانه شيئا فلم يجبه فجره برجله وطرده عن بلاده فسار إلى سجستان فأقام بها نحوا من خمس سنين ثم عزم على قصد خراسان ليجمع الجموع ويسير بهم إلى العرب فسار إلى مرو ومعه الرهن من أولاد الدهاقين ومعه في رؤسائهم فزخزاد فلما قدم مرو كاتب ملوك الصين وملك فرغانة وملك كابل وملك الخرز يستمدهم وكان الدهقان يومئذ بمرو ماهوية أبو براز فوكل ماهويه بمرو ابنه براز ليحفظهما ويمنع عنها يزدجرد خوفا من مكره فركب يزدجرد يوما وطاف بالمدينة وأراد دخولها من بعض أبوابها فمنعه براز فصاح به أبوه ليفتح الباب فلم يفعل وأومأ إليه أبوه أن لا يفعل ففطن له رجل من أصحاب يزدجرد فأعلمه بذلك واستأذنه في قتله وقال إن فعلت صفت لك الأمور بهذه الناحية فلم يأذن له.
وقيل: أراد يزدجرد صرف الدهقنة عن ماهوية إلى صنجان ابن أخيه فبلغ ذلك ماهويه فعمل في هلاك يزدجرد فكتب إلى نيزك طرخان يخبره أن يزدجرد وقع إليه مفلولا يدعوه إلى القدوم عليه ليتفقا على قتله ومصالحة العرب عليه وضمن له إن فعل أن يعطيه كل يوم ألف درهم فكتب نيزك إلى يزدجرد يعده المساعدة على العرب وأنه يقدم عليه بنفسه إن أبعد عسكره وفرخزاد عنه فاستشار يزدجرد أصحابه فقال له سنجان لست أرى أن تبعد عنك أصحابك وفرخزاد وقال أبو براز أرى أن تتألف نيزك وتجيبه إلى ما سأل فقبل رأيه وفرق عنه جنده وأمر فرخزاد أن يأتي أجمة سرخس فصاح فرخزاد وشق جيبه وتناول عمودا بين يديه يريد ضرب أبي براز به وقال يا قتلة الملوك قتلتم ملكين وقال أظنكم قاتلي هذا. ولم يبرح فرخزاد حتى كتب له يزدجرد بخط يده أنه آمن وأنه قد أسلم يزدجرد وأهله وما معه إلى ماهويه وأشهد بذلك. وأقبل نيزك فلقيه يزدجرد بالمزامير والملاهي أشار عليه بذلك أبو براز فلما لقيه تأخر عنه أبو براز فاستقبله نيزك ماشيا، فأمر له يزدجرد
121

بجنيبة من جنائبه، فركبها، فلما توسط عسكره توافقا فقال له نيزك فيما يقول زوجني إحدى بناتك حتى أناصحك في قتال عدوك. فسبه يزدجرد فضربه نيزك بمقرعته وصاح يزدجرد غدر الغادر وركض منهزما وقتل أصحاب نيزك أصحاب يزدجرد وانتهي يزدجرد من هزيمته إلى مكان من نواحي مرو فنزل عن فرسه ودخل إلى بيت طحان فمكث فيه ثلاثة أيام لم يأكل طعاما فقال له الطحان أخر أيها الشقي فكل طعاما فقد جعت. فقال لست أصل إلى ذلك إلا بزمزمة. وكان عند الطحان رجل يزمزم فكلمه الطحان في ذلك ففعل وزمزم له فأكل فلما رجع المزمزم سمع بذكر يزدجرد فسأل عن حليته فوصفوه له فأخبرهم به وبحليته فأرسل إليه أبو براز رجلا من الأساورة وأمره بخنقه وإلقائه في النهر وأتى الطحان فضربه ليدله عليه فلم يفعل وجحده فلما أراد الانصراف عنه قال له بعض أصحابه إني لأجد ريح مسك ونظر إلى طرف ثوبه من ديباج في الماء فجذبه فإذا
هو يزدجرد فسأله أن لا يقتله ولا يدل عليه وجعل له خاتمه ومنطقته وسواره فقال له أعطني أربعة دراهم وأخلي عنك فلم يكن معه وقال إن خاتمي لا يحصي ثمنه فخذه فأبي عليه فقال له يزدجرد قد كنت أخبر أني سأحتاج إلى أربعة دراهم واضطر إلى أن يكون أكلي أكل الهر فقد رأيت ذلك ثم نزع أحد قرطيه فأعطاه الطحان ليستر عليه وأرادوا قتله فقال ويحكم إنا نجد في كتبنا أنه من قتل الملوك عاقبه الله بالحريق في الدنيا فلا تقتلوني واحملوني إلى الدهقان أو إلى العرب فإنهم يستبقون مثلي.
فأخذوا ما عليه من الحلي وخنقوه بوتر القوس وألقوه في الماء فجري به الماء حتى انتهي إلى فوهة الرزيق فتعلق بعود فأخذه أسقف مرو وجعله في تابوت ودفنه. وسأل أبو براز عن أحد القرطين وأخذ الذي دل عليه فضربه حتى أتي على نفسه.
وقيل: بل سار يزدجرد من كرمان قبل ورود العرب إليها نحو مرو على الطبسين وقهستان في أربعة آلاف فلما قارب مرو لقيه قائدان يقال لأحدهما براز وللآخر سنجان وكانا متباغضين، فسعي براز بسنجان حتى هم يزدجرد
122

بقتله وأفشي ذلك إلى امرأة من نسائه ففشا الحديث فجمع سنجان أصحابه وقصد قصر يزدجرد فهرب براز وخاف يزدجرد فهرب براز وخاف يزدجرد فهرب أيضا إلى رحى على فرسخين من مرو فدخل بيت نقار الرحى فأطعمه الطحان فطلب منه شيئا فأعطاه منطقته فقال إنما يكفيني أربعة دراهم فلم يكن معه ثم نام يزدجرد فقتله الطحان بفأس كان معه وأخذ ما عليه وألقي جيفته في الماء وشق بطنه وثقله.
وسمع بقتله مطران كان بمرو فجمع النصارى وقال قتل ابن شهريار وإنما شهريار بن شيرين المؤمنة التي قد عرفتم حقها وإحسانها إلى أهل ملتنا مع ما نال النصارى في ملك جده أنوشروان من الشرف فينبغي أن نحزن لقتله ونبني له ناووسا فأجابوه إلى ذلك وبنوا له ناووسا وأخرجوا جثته وكفنوها ودفنوها في الناووس.
وكان ملكه عشرين سنة منها أربع سنين في دعة وست عشرة سنة في تعب من محاربة العرب إياه وغلظتهم عليه وكان آخر من ملك من آل أردشير بن بابك وصفا الملك بعده للعرب.
ذكر مسير ابن عامر إلى خراسان وفتحها
لما قتل عمر بن الخطاب نقض أهل خراسان وغدروا فلما افتتح ابن عامر فارس قام إليه حبيب بن أوس التميمي فقال له أيها الأمير إن الأرض
123

بين يديك ولم يفتح منها إلا القليل فسر فإن الله ناصرك. قال أو لم نؤمر بالمسير وكره أن يظهر أنه قبل رأيه. وقيل إن ابن عامر لما فتح فارس عاد إلى البصرة واستخلف على إصطخر شريك بن الأعور الحارثي فبني شريك مسجد إصطخر فلما دخل البصرة أتاه الأحنف بن قيس وقيل غيره فقال له إن عدوك منك هارب ولك هائب والبلاد واسعة فسر فإن الله ناصرك ومعز دينه فتجهز وسار واستخلف على البصرة زيادا وسار إلى كرمان فاستعمل عليها مجاشع بن مسعود السلمي وله صحبة وأمره بمحاربة أهلها وكانوا قد نكثوا أيضا واستعمل على سجستان الربيع بن زياد الحرثي وكانوا أيضا قد غدروا ونقضوا الصلح وسار ابن عامر إلى نيسابور وجعل على مقدمته الأحنف بن قيس فأتي الطبسين وهما حصنان وهما بابا خراسان فصالحه أهلهما وسار إلى قهستان فلقيه أهلها وقاتلهم حتى ألجأهم إلى حصنهم وقدم عليها ابن عامر فصالحه أهلها على ستمائة ألف درهم وقيل كان المتوجه إلى قهستان أمير بن أحمر اليشكري وهي بلاد بكر بن وائل وبعث ابن عامر سرية إلى رستاق زام من أعمال نيسابور ففتحه عنوة وفتح باخرز من أعمال نيسابور أيضا وفتح جوين من أعمال نيسابور أيضا.
ووجه ابن عامر الأسود بن كلثوم العدوي من عدي الرباب وكان ناسكا إلى بيهق من أعمالها أيضا فقصد قصبته ودخل حيطان البلد من ثلمة كانت فيه ودخلت معه طائفة من المسلمين فأخذ العدو عليهم تلك الثلمة فقاتل الأسود حتى قتل هو وطائفة ممن معه وقام بأمر الناس بعده أخوه أدهم بن كلثوم فظفر وفتح بيهق وكان الأسود يدعو الله أن يحشره من بطون السباع والطير فلم يواره أخوه ودفن من استشهد من أصحابه وفتح ابن عامر بشت من نيسابور.
124

(وهذه بشت بالشين المعجمة وليست ببست التي بالسين المهملة تلك من بلاد الداون وهذه من خراسان من نيسابور).
وافتتح خواف وأسفرايين وارغيان، ثم قصد نيسابور بعدما استولى على أعمالها وافتتحها فحصر أهلها أشهرا وكان على كل ربع منها مرزبان للفرس يحفظه فطلب صاحب ربع من تلك الأرباع الأمان على أن يدخل المسلمين المدينة فأجيب إلى ذلك فأدخلهم ليلا ففتحوا الباب وتحصن مرزبانها الأكبر في حصنها ومعه جماعة وطلب الأمان والصلح على جميع نيسابور فصالحه على ألف ألف درهم وولى نيسابور قيس بن الهيثم السلمي، وسير جيشا إلى نسا وأبيورد فافتتحوها صلحا وسير سرية أخرى إلى سرخس مع عبد الله بن خازم السلمي فقاتلوا أهلها ثم طلبوا الأمان والصلح على أمان مائة رجل فأجيبوا إلى ذلك فصالحهم مرزبانها على ذلك وسمي مائة رجل ولم يذكر نفسه فقتله ودخل سرخس عنوة.
وأتى مرزبان طوس إلى ابن عامر فصالحه عن طوس على ستمائة درهم وسير جيشا إلى هراة عليهم عبد الله بن خازم وقيل غيره فبلغ مرزبان هراة ذلك فسار إلى ابن عامر فصالحه عن هراة وباذغيس وبوشنج. وقيل بل سار ابن عامر في الجيش إلى هراة فقاتله أهلها ثم صالحه مرزبانها على ألف ألف درهم ولما غلب ابن عامر على هذه البلاد أرسل إليه مرزبان مرو فصالحه على ألفي ألف ومائتي ألف درهم وقيل غير ذلك؛ وأرسل ابن عامر حاتم بن النعمان الباهلي إلى مرزبانها وكانت مرو كلها صلحا إلا قرية منها يقال لها سنج فإنها أخذت عنوة (وهي بكسر السين المهملة والنون الساكنة وآخرها جيم). ووجه ابن عامر الأحنف بن قيس إلى طخارستان فمر برستاق يعرف برستاق الأحنف ويدعي سونجرد فحصرها أهلها فصالحوه
125

على ثلاثمائة ألف درهم، فقال الأحنف أصالحكم على أن يدخل رجل منا القصر فيؤذن فيه ويقيم فيكم حتى ينصرف. فرضوا بذلك ومضى الأحنف إلى مرو الروذ فقاتله أهلها فقتلهم وهزمهم وحصرهم وكان مرزبانها من أقارب باذان صاحب اليمن فكتب إلى الأحنف أنه دعاني إلى الصلح إسلام باذان فصالحه على ستمائة ألف وسير الأحنف سرية فاستولت على رستاق بغ واستاقت منه مواشي ثم صالحوا أهله وجمع له أهل طخارستان فاجتمع أهل الجوزجان والطالقان والفارياب ومن حولهم في خلق كثير فالتقوا واقتتلوا وحمل ملك الصغانيان على الأحنف فانتزع الأحنف الرمح من يده وقاتل قتالا شديدا فانهزم المشركون وقتلهم المسلمون قتلا ذريعا كيف شاؤوا وعاد إلى مرو الروذ ولحق بعض العدو بالجوزجان فوجه إليهم الأحنف الأقرع بن حابس التميمي في خيل وقال يا بني تميم تحابوا وتباذلوا تعدل أموركم وابدأوا بجهاد بطونكم وفروجكم يصلح لكم دينكم ولا تغلوا يسلم لكم جهادكم.
فسار الأقرع فلقي العدو بالجوزجان فكانت بالمسلمين جولة ثم عادوا فهزموا المشركين وفتحوا الجوزجان عنوة فقال ابن الغريزة النهشلي:
(سقي صوب السحاب إذا استهلت * مصارع فتية بالجوزجان)
(إلى القصرين من رستاق خوت * أقادهم هناك الأقرعان)
وفتح الأحنف الطالقان صلحا وفتح الفارياب وقيل بل فتحها أمير بن أحمر ثم سار الأحنف إلى بلخ وهي مدينة طخارستان فصالحه أهلها على أربعمائة ألف وقيل سبعمائة ألف واستعمل على بلخ أسيد بن المتشمس،
126

ثم سار إلى خوارزم وهي على نهر جيحون فلم يقدر عليها فاستشار أصحابه، فقال له حضين بن المنذر: قال عمرو بن معد يكرب:
(إذا لم تستطع أمرا فدعه * وجاوزه إلى ما تستطيع)
فعاد إلى بلخ وقد قبض أسيد صلحها ووافق وهو يجيبهم المهرجان فأهدوا له هدايا كثيرة من دراهم ودنتنير ودواب وأواني وثياب وغير ذلك، فقال لهم ما صالحناهم على هذا فقالوا لا ولكن هذا نفعله في هذا اليوم بأمرائنا فقال ما أدري ما هذا ولعله من حقي ولكن أقبضه حتى أنظر، فقبضه حتى قدم الأحنف فأخبره فسألهم عنه فقالوا ما قالوا لأسيد فحمله إلى ابن عامر وأخبره عنه فقال خذه يا أبا بحر. قال لا حاجة لي فيه. فأخذه ابن عامر قال الحسن البصري فضمه القرشي وكان مضما.
ولما تم لابن عامر هذا الفتح قال له الناس ما فتح لأحد ما فتح عليك فارس وكرمان وسجستان وخراسان. فقال
لا جرم لأجعلن شكري لله على ذلك أن أخرج محرما من موقفي هذا. فأحرم بعمرة من نيسابور وقدم على عثمان واستخلف على خراسان قيس بن الهيثم فسار قيس بعد شخوصه في أرض طخارستان فلم يأت بلدا منها إلا صالحه أهله وأذعنوا له حتى أتى سمنجان فامتنعوا عليه فحصرهم حتى فتحها عنوة.
(أسيد بفتح الهمزة وكسر السين حضين بن المنذر بالضاد المعجمة).
ذكر فتح كرمان
لما سار ابن عامر عن كرمان إلى خراسان واستعمل مجاشع بن مسعود السلمي على كرمان على ما ذكرناه قبل أمره أن يفتحها وكان أهلها قد نكثوا
127

وغدروا. ففتح هميد عنوة واستبقي أهلها وأعطاهم أمانا وبني بها قصرا يعرف بقصر مجاشع وأتى السيرجان وهي مدينة كرمان فأقام عليها أياما يسيرة وأهلها متحصنون فقاتلهم وفتحها عنوة فجلا كثيرا من أهلها وفتح جيرفت عنوة وسار في كرمان فدوخ أهلها وأتى القفص وقد تجمع له خلق كثير من الأعاجم الذين جلوا فقاتلهم فظفر بهم وظهر عليهم وهرب كثير من أهل كرمان فركبوا البحر ولحق بعضهم بمكران وبعضهم بسجستان فأقطعت العرب منازلهم وأراضيهم فعمروها واحتفروا لها القني في مواضع منها وأدوا العشر منها.
ذكر فتح سجستان وكابل وغيرهما
قد تقدم ذكر فتح سجستان أيام عمر بن الخطاب ثم أن أهلها نقضوا بعده فلما توجه ابن عامر إلى خراسان سير إليها من كرمان الربيع بن زياد الحارثي فقطع المفازة حتى أتي حصن زالق فأغار على أهله يوم مهرجان وأخذ الدهقان فافتدى نفسه بأن غرز عنزة وغمرها ذهبا وفضة وصالحه على صلح فارس ثم أتي بلدة يقال لها كركويه فصالحه أهلها وسار إلى زرنج فنزل على مدينة روشت بقرب زرنج فقاتله أهلها وأصيب رجال من المسلمين ثم انهزم المشركون وقتل منهم مقتلة عظيمة وأتى الربيع ناشروذ ففتحها ثم أتي شرواذ فغلب عليها وسار منها إلى زرنج فنازلها وقاتله أهلها فهزمهم وحصرهم فأرسل إليه مرزبانها ليصالحه واستأمنه على نفسه ليحضر عنده فأمنه وجلس له الربيع على جسد من أجساد القتلى واتكأ على آخر وأمر أصحابه ففعلوا مثله فلما رآهم المرزبان هاله ذلك فصالحه على ألف وصيف مع كل وصيف جام من ذهب ودخل المسلمين المدينة ثم سار منها إلى سناروذ وهي واد فعبره وأتى القرية التي بها مربط فرس رستم الشديد فقاتله أهلها فظفر بهم
128

ثم عاد إلى زرنج وأقام بها نحو سنة وعاد إلى ابن عامر واستخلف عليها عاملا فأخرج أهلها العامل وامتنعوا.
فكانت ولاية الربيع سنة ونصفا. وسبي فيها أربعين ألف رأس وكان كاتبه الحسن البصري فاستعمل ابن عامر عبد الرحمن بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس على سجستان فسار إليها فحصر زرنج فصالحه مرزبانها على ألفي ألف درهم وألفي وصيف. وغلب عبد الرحمن على ما بين زرنج والكش من ناحية الهند وغلب من ناحية الرخج على ما بينه وبين الداون فلما انتهي إلى بلد الداون حصرهم في جبل الزوز ثم صالحهم ودخل على الزوز وهو صنم من ذهب عيناه ياقوتتان فقطع يده وأخذ الياقوتتان ثم قال للمرزبان دونك الذهب والجوهر وإنما أردت أن أعلمك أنه لا يضر ولا ينفع وفتح كابل وزابلستان وهي ولاية غزنة ثم عاد إلى زرنج فأقام بها حتى اضطرب أمر عثمان فاستخلف عليها أمير بن أحمر اليشكري وانصرف فأخرج أهلها أمير بن أحمر وامتنعوا؛ ولأمير يقول زياد بن الأعجم:
(لولا أمير هلكت يشكر * ويشكر هلكى على كل حال)
/ صفحة 24 /
ذكر عدة حوادث
وحج بالناس في هذه السنة عثمان. وفيها مات أبو الدرداء الأنصاري وهو بدري وقيل سنة اثنتين وثلاثين وفيها مات أبو طلحة الأنصاري،
129

وهو بدري، وقيل سنة اثنتين وثلاثين وقيل سنة إحدى وخمسين وفيها مات أبو أسيد الساعدي وقيل مات سنة ستين وهو على هذا القول آخر من مات من البدريين.
(أسيد بضم الهمزة).
وفيها مات أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم، وأخوه الطفيل. وأبو سفيان بن حرب بن أمية وهو ابن ثمان وثمانين وسنة.
130

32
ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين
قيل في هذه السنة غزا معاوية بن أبي سفيان مضيق القسطنطينية ومعه زوجته عاتكة بنت قرظة وقيل فاختة
ذكر ظفر الترك وقتل عبد الرحمن بن ربيعة
في هذه السنة انتصرت الخرز والترك على المسلمين. وسببه أن الغزوات لما تتابعت عليهم تذامروا وتعايروا وقالوا كنا أمة لا يقرن بنا أحد حتى جاءت هذه الأمة القليلة فصرنا لا نقوم لها فقال بعضهم إن هؤلاء لا يموتون وما أصيب منهم أحد في غزوهم وقد كان المسلمون غزوهم قبل ذلك فلم يقتل منهم أحد فلهذا ظنوا أنهم لا يموتون فقال بعضهم أفلا تجربون؟ فكمنوا لهم في الغياض فمر بالكمين نفر من الجند فرموهم منها فقتلوهم فتواعد رؤوسهم إلى حربهم ثم اتعدوا يوما وكان عثمان قد كتب إلى عبد الرحمن بن ربيعة وهو على الباب أن الرعية قد أبطرها البطنة فلا تقتحم بالمسلمين فإني أخشى أن يقتلوا. فلم يرجع ذلك عبد الرحمن عن مقصده فغزا نحو بلنجر وكان الترك قد اجتمعت مع الخزر فقاتلوا المسلمين قتالا شديدا وقتل عبد الرحمن،
131

وكان يقال له ذو النور، وهو اسم سيفه فأخذ أهل بلنجر جسده وجعلوه في تابوت فهم يستسقون به ويستنصرون به فلما قتل انهزم الناس وافترقوا فرقتين فرقة نحو الباب فلقوا سلمان بن ربيعة أخا عبد الرحمن كان قد سيره سعيد بن العاص مددا للمسلمين بأمر عثمان فلما لقوه نجوا معه وفرقة نحو جيلان وجرجان فيهم سلمان الفارسي وأبو هريرة وكان في ذلك العسكر يزيد بن معاوية النخعي وعلقمة بن قيس ومعضد الشيباني وأبو مفرز التميمي في خباء واحد وعمرو بن عتبة وخالد بن ربيعة والحلحال بن دري والقرثع في خباء فكانوا متجاورين في ذلك العسكر وكان القرثع يقول ما أحسن لمع الدماء على الثياب.
وكان عمرو بن عتبة يقول لقباء عليه ما أحسن حمرة الدماء على بياضك!
ورأي يزيد بن معاوية أن غزالا جيء به إلى خبائه لم ير أحسن منه فلف في ملحفة ثم دفن في قبر لم ير أحسن منه عليه ثلاثة نفر قعود فلما أستيقظ واقتتل الناس رمي بحجر فهشم رأسه فمات فكأنما زين ثوبه بالدماء وليس بتلطيخ فدفن في قبر على الصورة التي رأى.
وقال معضد لعلقمة أعرني بردك أعصب به رأسي ففعل فأتي برج بلنجر الذي أصيب فيه يزيد فرماهم فقتل منهم وأتاه حجر عرادة ففضح هامته فأخذه أصحابه فدفنوه إلى جنب يزيد وأخذ علقمة البرد فكان يغسله فلا يخرج أثر الدم منه وكان يشهد فيه الجمعة ويقول يحملني على هذا أن دم معضد فيه. وأصاب عمرو بن عتبة جراحة فرأى قباءة كما أشتهي ثم قتل. وأما القرثع فإنه قاتل حتى خرق بالحراب وما زال الناس ثبوتا حتى أصيب وكانت هزيمة الناس مع مقتله فبلغ الخبر بذلك عثمان فقال إنا لله وإنا إليه راجعون أنتكث أهل الكوفة اللهم تب عليهم واقبل بهم!
132

وكان عثمان قد كتب إلى سعيد بن العاص أن ينفذ سلمان إلى الباب للغزو فسيره فلقي المهزومين على ما تقدم فنجاهم الله به فلما أصيب عبد الرحمن استعمل سعيد سلمان بن ربيعة على الباب واستعمل على الغزو بأهل الكوفة حذيفة بن اليمان وأمدهم عثمان في سنة عشر بأهل الشام عليهم حبيب بن مسلمة فتأمر عليهم سلمان وأبو حبيب حتى قال أهل الشام لقد هممنا بضرب سلمان.
فقال الكوفيون إذن والله نضرب حبيبا ونحبسه وإن أبيتم كثرة القتلى فينا وفيكم وقال أوس بن مغراء في ذلك:
(إن تضربوا سليمان نضرب حبيبكم * وإن ترحلوا نحو ابن عفان نرحل)
(وإن تقسطوا فالثغر ثغر أميرنا * وهذا أمير في الكتائب مقبل)
(ونحن ولاة الأمر كنا حماته * ليالي نرمي كل ثغر ونعكل)
وأراد حبيب أن يتأمر على صاحب الباب كما يتأمر أمير الجيش إذا جاء من الكوفة فكان ذلك أول اختلاف وقع
بين أهل الكوفة والشام. وغزا حذيفة ثلاث غزوات فقتل عثمان في الثالثة ولقيهم مقتل عثمان فقال حذيفة بن اليمان اللهم العن قتلته وشتامه اللهم إنا كنا نعاتبه ويعاتبنا فاتخذوا ذلك سلما إلى الفتنة اللهم لا تمتهم إلا بالسيوف!
ذكر وفاة أبي ذر
وفيها مات أبو ذر وكان قد قال لابنته استشرفي يا بنية هل ترين أحدا؟ قالت لا قال فما جاءت ساعتي بعد. ثم أمرها فذبحت شاه ثم طبختها
133

ثم قال إذا جاءك الذين يدفنونني فإنه سيشهدني قوم صالحون فقولي لهم يقسم عليكم أبو ذر أن لا تركبوا حتى تأكلوا. فلما نضجت قدرها قال لها انظري هل ترين أحد قالت نعم هؤلاء ركب مقبلون قال استقبلي بي الكعبة ففعلت فقال بسم الله وبالله وعلي ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مات فخرجت ابنته فتلقتهم وقالت رحمكم الله اشهدوا أبا ذر قالوا وأين هو فأشارت إليه قالوا نعم ونعمة عين لقد أكرمنا الله بذلك وكان فيهم ابن مسعود وقال صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم يموت وحده ويبعث وحده. فغسلوه وكفنوه وصلوا عليه ودفنوه وقالت لهم ابنته إن أبا ذر يقرأ عليكم السلام وأقسم عليكم أن لا تركبوا حتى تأكلوا؛ ففعلوا وحملوا أهله معهم حتى أقدموهم مكة ونعوه إلى عثمان فضم ابنته إلى عياله وقال يرحم الله أبا ذر ويغفر له نزوله الربذة.
ولما حضروا شموا من الخباء ريح مسك فسألوها عنه فقالت إنه لما حضر قال إن الميت يحضره شهود يجدون الريح لا يأكلون فدوفي لهم مسكا بماء ورش به الخباء.
وكان النفر الذين شهدوه ابن مسعود وأبا مفرز وبكر بن عبد الله التميميين والأسود بن يزيد وعلقمة بن قيس ومالك الأشتر النخعيين والحلحال الضبي والحارث بن سويد التميمي وعمرو بن عتبة السلمي وابن ربيعة السلمي وأبا رافع المزني وسويد بن شعبة التميمي ويزيد بن معاوية النخعي وأخا القرثع الضبي وأخا معضد الشيباني. وقيل كان موته إحدى وثلاثين.
وقيل إن ابن مسعود لم يحمل أهل أبي ذر معه إنما تركهم حتى قدم على عثمان بمكة فأعلمه بموته فجعل عثمان طريقه عليهم فحملهم معه.
134

ذكر خروج قارن
ثم جمع قارن جمعا كثيرا من ناحية الطبسين وأهل باذغيس وهراة وقهستان وأقبل في أربعين ألفا فقال قيس لابن خازم ما تري؟ قال أرى أن تخلي البلاد فإني أميرها ومعي عهد من ابن عامر إذا كانت حرب بخراسان فأنا أميرها وأخرج كتابا كان قد افتعله عمدا فكره قيس منازعته وخلاه والبلاد وأقبل إلى ابن عامر فلامه ابن عامر وقال قد تركت البلاد خرابا وأقبلت قال جاءني بعهد منك قال فصار ابن خازم إلى قارن في أربعة آلاف وأمر الناس فحملوا الودك فلما قرب من قارن أمر الناس أن يدرج كل رجل منهم على زج رمحه خرقة أو قطنا ثم يكثروا دهنه ثم سار حتى أمسي فقدم مقدمته ستمائة ثم اتبعهم وأمر الناس فأشعلوا النيران في أطراف الرماح فانتهت مقدمته إلى معسكر قارن نصف الليل فناوشوهم وهاج الناس على دهش وكانوا آمنين من البيات. ودنا ابن خازم منهم فرأوا النيران يمنة ويسرة تتقدم وتتأخر وتنخفض وترتفع ولا يرون أحدا فهالهم ذلك ومقدمة ابن خازم يقاتلونهم ثم غشيهم ابن خازم بالمسلمين فقتل قارن فانهزم المشركون واتبعوهم يقتلونهم كيف شاؤوا وأصابوا سبيا كثيرا وكتب ابن خازم بالفتح إلى ابن عامر فرضي وأقره على خراسان فلبث عليها حتى انقضي أمر الجمل وأقبل إلى البصرة فشهد وقعة ابن الحضرمي وكان معه في دار سنبل.
وقيل لما جمع قارن استشار قيس بن الهيثم عبد الله بن خازم فيما يصنع فقال أرى أنك لا تطيق كثرة من قد أتانا فأخرج بنفسك إلى ابن عامر فتخبره بكثرة العدو ونقيم نحن في الحصون ونطاولهم ويأتينا مددكم. فخرج قيس، فلما أمعن أظهر ابن خازم عهدا وقال قد ولاني ابن عامر خراسان وسار إلى
135

قارن فظفر به وكتب بالفتح إلى ابن عامر فأقره على خراسان ولم يزل أهل البصرة يغزون من لم يكن صالح من أهل خراسان فإذا عادوا تركوا أربعة آلاف نجدة.
ذكر عدة حوادث
وفي هذه السنة مات العباس عم النبي وكان عمره يوم مات ثمانيا وثمانين سنة كان أسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين. وفيها مات عبد الرحمن بن عوف وعمره خمس وسبعون سنة. وعبد الله بن مسعود وصلي عليه عمار بن ياسر وقيل عثمان وتوفي عبد الله بن زيد بن عبد ربه الذي أرى الأذان.
136

33
ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين
في هذه السنة كانت غزوة معاوية حصن المرأة من أرض الروم بناحية ملطية. وفيها كانت غزوة عبد الله بن سعد أفريقية الثانية حين نقض أهلها العهد وفيها كان مسير الأحنف إلى خراسان وفتح المروين ومسير ابن عامر إلى نيسابور وفتحها في قول بعضهم وقد تقدم ذكر ذلك وفيها كانت غزوة قبرس في قول بعضهم وقد تقدم ذكرها مستوفي وقيل إن فتحها كان سنة ثمان وعشرين فلما كان سنة اثنتين وثلاثين أعان أهلها الروم على الغزاة في البحر بمراكب أعطوهم إياها فغزاهم معاوية سنة ثلاث وثلاثين ففتحها عنوة فقتل وسبي ثم أقرهم على صلحهم وبعث إليهم اثني عشر ألفا فبنوا المساجد وبني مدينة. وقيل كانت غزوته الثانية سنة خمس وثلاثين.
ذكر تسيير من سير من أهل الكوفة إلى الشام
وفي هذه السنة سير عثمان نفرا من أهل الكوفة إلى الشام. وكان السبب في ذلك أن سعيد بن العاص لما ولاه عثمان الكوفة حين شهد على الوليد بشرب الخمر أمره أن يسير الوليد إليه فقدم سعيد الكوفة وسير الوليد وغسل المنبر فنهاه رجال من بني أمية كانوا قد خرجوا معه عن ذلك، فلم يجبهم واختار سعيد
137

وجوه الناس وأهل القادسية وقراء أهل الكوفة فكان هؤلاء دخلته داخلا وأما إذا خرج فكل الناس يدخل عليه فدخلوا عليه يوما فبيناهم يتحدثون قال حبيش بن فلان الأسدي ما أجود طلحة بن عبيد الله! فقال سعيد إن من له مثل النشاستج لحقيق أن يكون جوادا والله لو أن لي مثله لأعاشكم الله به عيشا رغيدا فقال عبد الرحمن بن حبيش وهو حدث والله لو وددت أن هذا الملطاط لك يعني سعيد وهو ما كان للأكاسرة على جانب الفرات الذي يلي الكوفة فقالوا فض الله فاك! والله لقد هممنا بك! فقال أبوه غلام فلا تجاوزه فقالوا يتمنى له سوادنا قال ويتمنى لكم أضعافه. فثار به الأشتر وجندب وابن ذي الحنكة وصعصعة وابن الكواء وكميل وعمير بن ضابيء فأخذوه فثار أبوه ليمنع عنه فضربوهما حتى غشي عليهما وجعل سعيد يناشدهم ويأبون حتى قضوا منهما وطرا فسمعت بذلك بنو أسد فجاؤوا وفيهم طليحة فأحاطوا بالقصر وركبت القبائل فعاذوا بسعيد فخرج سعيد إلى الناس فقال أيها الناس قوم تنازعوا وقد رزق الله العافية فردهم. فتراجعوا وأفاق الرجلان فقالا قاتلنا غاشيتك. فقال لا يغشوني أبدا فكفا ألسنتكما ولا تحزبا الناس ففعلا وقعد أولئك النفر في بيوتهم وأقبلوا يقعون في عثمان.
وقيل بل كان السبب في ذلك أنه كان يسمر عند سعيد بن العاص وجوه أهل الكوفة منهم مالك بن كعب الأرحبي والأسود بن يزيد وعلقمة بن قيس
138

النخعيان ومالك الأشتر وغيرهم فقال سعيد إنما هذا السواد بستان قريش فقال الأشتر أتزعم أن السواد الذي أفاءه الله علينا بأسيافنا بستان لك ولقومك وتكلم القوم معه فقال عبد الرحمن الأسدي وكان على شرطة سعيد أتردون على الأمير مقالته وأغلظ لهم. فقال الأشتر من ها هنا لا يفوتنكم الرجل. فوثبوا عليه فوطؤه وطأ شديدا حتى غشي عليه ثم جروا برجله فنضج بماء فأفاق فقال قتلني من انتخبت. فقال والله لا يسمر عندي أحد أبدا. فجعلوا يجلسون في مجالسهم يشتمون عثمان وسعيدا واجتمع إليهم الناس حتى كثروا فكتب سعيد وأشراف أهل الكوفة إلى عثمان في إخراجهم فكتب إليهم أن يلحقوهم بمعاوية وكتب إلى معاوية إن نفرا قد خلقوا للفتنة فأقم عليهم وانههم فإن آنست منهم رشدا فاقبل وإن أعيوك فارددهم علي.
فلما قدموا على معاوية أنزلهم كنيسة مريم وأجري عليهم ما كان لهم بالعراق بأمر عثمان وكان يتغذى ويتعشى معهم فقال لهم يوما:
إنكم قوم من العرب لكم أسنان وألسنة وقد أدركتم بالإسلام شرفا وغلبتم الأمم وحويتم مواريثهم وقد بلغني أنكم نقمتم قريشا ولو لم تكن قريش كنتم أذلة إن أئمتكم لكم جنة فلا تفترقوا عن جنتكم وإن أئمتكم يصبرون لكم على الجور ويحتملون منكم المؤنة والله لتنتهن أو ليبتلينكم الله بمن يسومكم السوء ولا يحمدكم على الصبر ثم تكونون
شركاءهم فيما جررتم على الرعية في حياتكم وبعد وفاتكم.
فقال رجل منهم وهو صعصعة أما ما ذكرت من قريش فإنها لم تكن
139

أكثر العرب ولا أمنعها في الجاهلية فتخوفنا وأما ما ذكرت من الجنة فإن الجنة إذا اخترقت خلص إلينا.
فقال معاوية: عرفتكم الآن وعلمت أن الذي أغراكم على هذا قلة العقول وأنت خطيبهم ولا أرى لك عقلا أعظم عليك أمر الإسلام وأذكرك به وتذكرني بالجاهلية أخزى الله قوما عظموا أمركم افقهوا عني ولا أظنكم تفقهون إن قريشا لم تعز في جاهلية ولا إسلام إلا بالله تعالى لم تكن بأكثر العرب ولا أشدهم ولكنهم كانوا أكرمهم أحسابا وأمحضهم أنسابا وأكملهم مروءة ولم يمتنعوا في الجاهلية والناس يأكل بعضهم بعضا إلا بالله فبوأهم حرما آمنا يتخطف الناس من حولهم هل تعرفون عربيا أو عجميا أو أسود أو أحمر إلا وقد أصابه الدهر في بلده وحرمته إلا ما كان من قريش فإنهم لم يردهم أحد من الناس بكيد إلا جعل الله خده الأسفل حتى أراد الله أن يستنقذ من أكرم واتبع دينه من هوان الدنيا وسوء مرد الآخرة فارتضي لذلك خير خلقه ثم ارتضي له أصحابا فكان خيارهم قريشا ثم بني هذا الملك عليهم وجعل هذه الخلافة فيهم فلا يصلح ذلك إلا عليهم فكان الله يحوطهم في الجاهلية وهم على كفرهم افتراء لا يحوطهم وهم على دينه أف لك ولأصحابك!
أما أنت يا صعصعة فإن قريتك شر القرى أنتنها بيتا وأعمقها واديا وأعرفها بالشر وألأمها جيرانا لم يسكنها شريف قط ولا وضيع إلا سب بها ثم كانوا ألأم العرب ألقابا وأصهارا نزاع الأمم وأنتم جيران الخط وفعلة
140

فارس، حتى أصابتكم دعوة النبي لم تسكن البحرين فتشركهم في دعوة النبي فأنت شر قومك حتى إذا أبرزك الإسلام وخلطك بالناس أقبلت تبتغي دين الله عوجا وتنزع إلى الذلة ولا يضر ذلك قريشا ولا يضعهم وإن يمنعهم من تأدية ما عليهم إن لشيطان عنكم غير غافل قد عرفكم بالشر فأغرى بكم الناس وهو صارعكم ولا تدركون بالشر أمرا أبدا إلا فتح الله عليكم شرا منه وأخزى.
ثم قام وتركهم فتقاصرت إليهم أنفسهم فلما كان بعد ذلك أتاهم فقال إني قد أذنت لكم فاذهبوا حيث شئتم لا ينفع الله بكم أحدا ولا يضره ولا أنتم برجال منفعة ولا مضرة فإن أردتم النجاة فالزموا جماعتكم ولا يبطرنكم الأنعام فإن البطر لا يعتري الخيار اذهبوا حيث شئتم فسأكتب إلى أمير المؤمنين فيكم.
فلما خرجوا دعاهم وقال لهم إني معيد لكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معصوما فولاني وأدخلني في أمره ثم استخلف أبو بكر فولاني ثم استخلف عمر فولاني ثم استخلف عثمان فولاني ولم يولني أحد إلا وهو عني راض وإنما طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم للأعمال أهل الجزاء من المسلمين والغناء وإن الله ذو سطوات ونقمات يمكر بمن مكر به فلا تعرضوا الأمر وأنتم تعلمون من أنفسكم غير ما تظهرون فإن الله غير تارككم حتى يختبركم ويبدي للناس سرائركم.
وكتب معاوية إلى عثمان إنه قدم على أقوام ليست لهم عقول ولا أديان أضجرهم العدل لا يريدون الله بشيء ولا يتكلمون بحجة إنما همهم الفتنة وأموال أهل الذمة والله مبتليهم ومختبرهم ثم فاضحهم ومخزيهم وليسوا بالذين
141

ينكون أحدا إلا مع غيرهم فإنه سعيدا ومن عنده عنهم فإنهم ليسوا لأكثر من شغب ونكر.
فخرجوا من دمشق فقالوا لا ترجعوا بنا إلى الكوفة فإنهم يشتمون بنا ولكن ميلوا إلى الجزيرة فسمع بهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد وكان على حمص فدعاهم فقال: يا آلة الشيطان لا مرحبا بكم ولا أهلا قد رجع الشيطان محسورا وأنتم بعد نشاط خسر الله عبد الرحمن إن لم يؤدبكم يا معشر من لا أدري أعرب هو أم عجم لا تقولوا لي ما بلغني أنكم قلتم لمعاوية أنا ابن خالد بن الوليد أنا ابن من قد عجمته العاجمات أنا ابن فاقئ الردة والله لئن بلغني يا صعصعة أن أحدا ممن معي دق أنفك ثم أمصك لأطيرن بك طيرة بعيدة المهوى! فأقامهم شهرا كلما ركب أمشاهم فإذا مر به صعصعة قال يا بن الخطيئة أعلمت أن من لم يصلحه الخير أصلحه الشر مالك لا تقول كما بلغني أنك قلت لسعيد ومعاوية فيقولون نتوب إلى الله أقلنا أقالك الله فما زالوا به حتى قال تاب الله عليكم وسرح الأشتر إلى عثمان فقدم إليه تائبا فقال له عثمان أحلل حيث شئت. فقال مع عبد الرحمن بن خالد فقال ذلك إليك فرجع إليه.
قيل: وقد روي أيضا نحو ما تقدم وزادوا فيه أن معاوية لما عاد إليهم من القابلة وذكرهم كان مما قال لهم وإني والله لا آمركم بشيء إلا وقد بدأت فيه بنفسي وأهل بيتي وقد عرفت قريش أن أبا سفيان كان أكرمها وابن أكرمها إلا ما جعل الله لنبيه فإنه انتخبه وأكرمه وإني لأظن أن أبا سفيان لو ولد الناس لم يلد إلا حازما. فقال صعصعة: قد
142

كذبت قد ولدهم خير من أبي سفيان من خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وأمر الملائكة فسجدوا له وكان فيهم البر والفاجر والأحمق والكيس. فخرج تلك الليلة من عندهم ثم أتاهم القابلة فتحدث عنده طويلا ثم قال أيها القوم ردوا خيرا أو اسكتوا وتفكروا وانظروا فيما ينفعكم وينفع أهاليكم والمسلمين فاطلبوه. فقال صعصعة: لست بأهل ذلك ولا كرامة لك أن تطاع في معصية الله فقال أليس أول ما ابتدأتم به أن أمرتكم بتقوى الله وطاعة نبيه وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا قالوا بل أمرت بالفرقة وخلاف ما جاء به النبي فقال إني آمركم الآن إن كنت فعلت فأتوب إلى الله وآمركم بتقواه وطاعته وطاعة نبيه ولزوم الجماعة وأن توقروا أئمتكم وتدلوهم على أحسن ما قدرتم عليه فقال صعصعة فإنا نأمرك أن تعتزل عملك فإن في المسلمين من هو أحق به منك من كان أبوه أحسن قدما في الإسلام من أبيك وهو أحسن في الإسلام قدما منك فقال والله إن لي في الإسلام قدما ولغيري كان أحسن قدما مني ولكنه ليس في زماني أحد أقوي علي ما أنا فيه مني ولقد رأى ذلك عمر بن الخطاب فلو كان غيري أقوي مني لم تكن عند عمر هوادة لي ولا لغيري ولم أحدث من الحدث ما ينبغي لي أن أعتزل عملي ولو رأى ذلك أمير المؤمنين لكتب إلى فاعتزلت عمله فمهلا فإن في ذلك وأشباهه ما يتمنى الشيطان ويأمر ولعمري لو كانت الأمور تقضي على رأيكم وأمانيكم ما استقامت لأهل الإسلام يوما ولا ليلة فعاودوا الخير وقولوه وإن لله لسطوات وإني لخائف عليكم
143

أن تتابعوا في مطاوعة الشيطان ومعصية الرحمن فيحلكم ذلك دار الهوان في العاجل والآجل. فوثبوا عليه وأخذوا رأسه ولحيته. فقال مه هذه ليست بأرض الكوفة والله لو رأى أهل الشام ما صنعتم بي ما ملكت أن أنهاهم عنكم حتى يقتلوكم فلعمري إن صنيعكم ليشبه بعضه بعضا!
ثم قام من عندهم وكتب إلى عثمان نحو الكتاب المتقدم فكتب إليه عثمان يأمره أن يردهم إلى سعيد بن العاص بالكوفة فردهم فأطلقوا ألسنتهم فضج سعيد منهم إلى عثمان فكتب إليه عثمان أن يسيرهم إلى عبد الرحمن بن خالد بحمص فسيرهم إليه فأنزلهم عبد الرحمن وأجري عليهم رزقا وكانوا الأشتر وثابت بن قيس الهمداني وكميل بن زياد وزيد بن صوحان وأخاه صعصعة وجندب بن زهير الغامدي وجندب بن كعب الأزدي وعروة بن الجعد وعمرو بن الحمق الخزاعي وابن الكواء.
قيل سأل معاوية ابن الكواء عن نفسه فقال أنت بعيد الثرى كثير المرعى طيب البديهة بعيد الغوري الغالب عليك الحلم ركن من أركان الإسلام سدت بك فرجة مخوفة. قال فأخبرني عن أهل الأحداث من الأمصار فإنك أعقل أصحابك قال أما أهل المدينة فهم أحرص الأمة على الشر وأعجزهم عنه وأما أهل الكوفة فإنهم يردون جميعا ويصدرون شتى وأما أهل مصر فهم أوفي الناس بشر وأسرعهم ندامة وأما أهل الشام فهم أطوع الناس لمرشدهم وأعصاهم لمغويهم.
ذكر تسيير من سير من أهل البصرة إلى الشام
ولما مضت ثلاث سنين من إمارة عبد الله بن عامر بلغه أن [في عبد القيس] رجلا نزل على حكيم بن جبلة العبدي، وكان عبد الله بن سبأ المعروف
144

بابن السوداء، هو الرجل النازل عليه واجتمع إليه نفر فطرح إليهم ابن السوداء ولم يصرح فقبلوا منه فأرسل إليه ابن عامر فسأله من أنت؟ فقال رجل من أهل الكتاب رغبت في الإسلام وفي جوارك فقال ما يبلغني ذلك اخرج عني. فخرج حتى أتي الكوفة فأخرج منها فقصد مصر فاستقربها وجعل يكاتبهم ويكاتبونه وتختلف الرجال بينهم.
وكان أحمر بن أبان قد تزوج امرأة في عدتها ففرق عثمان بينهما وضربه وسيره إلى البصرة فلزم ابن عامر فتذاكروا يوما المرور بعامر بن عبد القيس فقال حمران ألا أسبقكم فأخبره؟ فخرج فدخل عليه وهو يقرأ في
المصحف فقال الأمير يريد المرور بك فأحببت أن أعلمك فلم يقطع قراءته فقام من عنده فلما انتهي إلى الباب لقيه ابن عامر فقال: [جئتك من عند امرىء] لا يري لآل إبراهيم عليه فضلا؛ ودخل عليه ابن عامر فأطبق المصحف وحدثه فقال له ابن عامر ألا تغشانا؟ فقال سعد بن أبي القرحاء يحب الشرف. فقال: ألا نستعملك؟ فقال: حصين بن الحر يحب العمل. فقال: ألا نزوجك؟ فقال ربيعة بن عسل يعجبه النساء فقال إن هذا يزعم أنك لا تري لآل إبراهيم عليك فضلا! ففتح المصحف فكان أول ما وقع عليه (إن الله اصطفي آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين).
فسعي حمران وأقام بالبصرة ما شاء الله وأذن له عثمان فقدم المدينة ومعه قوم فسعوا بعامر بن عبد القيس أنه لا يري التزويج ولا يأكل اللحم ولا يشهد الجمعة، فألحقه بمعاوية فلما قدم عليه رأى عنده ثريدا فأكل
145

أكلا عربيا فعرف أن الرجل مكذوب عليه فعرفه معاوية سبب إخراجه فقال أما الجمعة فإني أشهدها في مؤخر المجلس ثم أرجع في أوائل الناس وأما التزويج فإني خرجت وأنا يخطب علي وأما اللحم فقد رأيت ولكني لا آكل ذبائح القصابين منذ رأيت قصابا يجر شاة إلى مذبحها ثم وضع السكين علي حلقها فما زال يقول النفاق النفاق حتى ذبحها قال فارجع قال لا أرجع إلى بلد استحل أهله مني ما استحلوا فكان يكون في السواحل فكان يلقي معاوية فيكثر معاوية أن يقول ما حاجتك فيقول لا حاجة لي فلما أكثر عليه قال ترد على من حر البصرة شيئا لعل الصوم أن يشتد علي فإنه يخف علي في بلادكم.
ذكر عدة حوادث
وحج بالناس عثمان. وفيها مات المقداد بن عمرو المعروف بالمقداد بن الأسود صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوصي أن يصلي عليه الزبير وفيها توفي الطفيل والحصين ابنا الحارث بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف شهدا بدرا واحدا وقيل ماتا سنة إحدى وثلاثين وقيل اثنتين وثلاثين.
146

34
ثم دخلت سنة أربع وثلاثين
قيل فيها كانت غزوة الصواري في قول بعضهم وقد تقدم ذكرها.
وفيها تكاتب المنحرفون عن عثمان للاجتماع لمناظرته فيما كانوا يذكرون أنهم نقموا عليه.
ذكر الخبر عن ذلك وعن يوم الجرعة
قد ذكرنا خبر المسير من الكوفة ومقامهم عند عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ووفد سعيد بن العاص إلى عثمان سنة إحدى عشرة من خلافة عثمان وكان سعيد قد ولي قبل مخرجه إلى عثمان بسنة وبعض أخرى الأشعث بن قيس أذربيجان وسعيد بن قيس الري والنسير العجلي همذان والسائب بن الأقرع أصبهان ومالك بن حبيب ماه وحكيم بن سلام الخزامي الموصل وجرير بن عبد الله قرقيسيا وسلمان بن ربيعة الباب وجعل القعقاع بن عمرو على الحرب وعلي حلوان عتيبة بن النهاس وخلت الكوفة من الرؤساء فخرج يزيد بن قيس وهو يريد خلع عثمان ومعه الذين كانوا ابن السوداء يكاتبهم فأخذه القعقاع بن عمرو فقال إنما نستعفي من سعيد فقال أما هذا فنعم فتركه وكاتب يزيد المسيرين في القدوم عليه فسار الأشتر والذين عند عبد الرحمن
147

ابن خالد فسبقهم الأشتر فلم يفجأ الناس يوم الجمعة إلا والأشتر على باب المسجد يقول جئتكم من عند أمير المؤمنين عثمان وتركت سعيدا يريده على نقصان نسائكم على مائة درهم، ورد أهل البلاء منكم إلى ألفين، ويزعم أن فيئكم بستان قريش. فاستخف النس وجعل أهل الرأي ينهونهم فلا يسمع منهم.
فخرج يزيد وأمر مناديا ينادي من شاء أن يلحق بيزيد لرد سعيد فليفعل فبقي أشراف الناس وحلماؤهم في المسجد وعمرو بن حريث يومئذ خليفة سعيد فصعد المنبر فحمد الله وأثني عليه وأمرهم بالاجتماع والطاعة فقال له القعقاع أترد السيل عن أدراجه هيهات لا والله لا يسكن الغوغاء إلا المشرفية ويوشك أن تنتضى ويعجون عجيج العدان ويتمنون ما هم فيه اليوم فلا يرده الله عليهم أبدا فاصبر. قال أصبر وتحول إلى منزله وخرج يزيد بن قيس فنزل الجرعة وهي قريب من القادسية ومعه الأشتر فوصل إليهم سعيد بن العاص فقالوا لا حاجة لنا بك قال إنما كان يكفيكم أن تبعثوا إلى أمير المؤمنين رجلا وإلي رجلا وهل يخرج الألف لهم عقول إلى رجل واحد. ثم انصرف عنهم وأحسوا بمولى له على بعير قد حسر فقال والله ما كان ينبغي لسعيد أن يرجع فقتله الأشتر ومضي سعيد حتى قدم على عثمان فأخبره بما فعلوا وأنهم يريدون البدل وأنهم يختارون أبا موسى فجعل أبا موسى الأشعري أميرا وكتب إليهم:
أما بعد فقد أمرت عليكم من اخترتم وأعفيتكم من سعيد ووالله لأقرضنكم عرضي ولأبذلن لكم صبري ولأستصلحنكم جهدي فلا تدعوا شيئا أحببتموه لا يعصي الله فيه إلا سألتموه، ولا شيئا كرهتموه لا يعصي الله فيه الا ما
148

استعفيتم منه انزل فيه عندما أحببتم حتى لا يكون لكم على الله حجة ولنصبرن كما أمرنا حتى تبلغوا ما تريدون. ورجع من الأمراء من قرب من الكوفة، فرجع جرير من قرقيسيا وعتيبة بن النهاس من حلوان وخطبهم أبو موسى وأمرهم بلزوم الجماعة وطاعة عثمان فأجابوا إلى ذلك وقالوا صل بنا. فقال لا إلا على السمع والطاعة لعثمان قالوا نعم فصلي بهم وأتاه ولايته فوليهم.
وقيل سبب يوم الجرعة أنه كان قد اجتمع ناس من المسلمين فتذاكروا أعمال عثمان فأجمع رأيهم فأرسلوا إليه عامر بن عبد الله التميمي ثم العنبري وهو الذي يدعي عامر بن عبد القيس فأتاه فدخل عليه فقال له إن ناسا من المسلمين اجتمعوا ونظروا في أعمالك فوجدوك قد ركبت أمورا عظاما فاتق الله عز وجل وتب إليه فقال عثمان انظروا إلى هذا فإن الناس يزعمون أنه قارئ ثم هو يجئ يكلمني في المحقرات ووالله ما يدري أين الله فقال عامر إني لأدري أين الله قال نعم واله ما تدري أين الله قال عامر بلي والله إني لأدري إن الله لبالمرصاد!
فأرسل عثمان إلى معاوية وعبد الله بن سعد وإلي سعيد بن العاص وعمرو بن العاص وعبد الله بن عامر فجمعهم فشاورهم وقال لهم. إن لكل امرئ وزراء ونصحاء وإنكم وزرائي ونصحائي وأهل ثقتي وقد صنع الناس ما قد رأيتم وطلبوا إلى أن أعزل عمالي وأن أرجع عن جميع ما يكرهون إلى ما يحبون فاجتهدوا رأيكم وأشيروا على. فقال له ابن عامر أرى لك يا أمير المؤمنين أن تشغلهم بالجهاد عنك حتى يذلوا لك ولا يكون همة أحدهم إلا في نفسه وما هو فيه من دبر دابته وقمل فروته وقال سعيد احسم عنك الداء فاقطع عنك الذي تخاف إن لكل قوم قادة متي تهلك يتفرقوا ولا يجتمع لهم أمر فقال عثمان إن هذا هو الرأي لولا ما فيه وقال معاوية أشير عليك أن تأمر أمراء الأجناد
149

فيكفيك كل رجل منهم ما قبله وأكفيك أنا أهل الشام وقال عبد الله بن سعد إن الناس أهل طمع فاعطهم من هذا المال تعطف عليك قلوبهم. ثم قام عمرو بن العاص فقال يا أمير المؤمنين إنك قد ركبت الناس بمثل بني أمية فقلت وقالوا وزغت وزاغوا فاعتدل أو اعتزل فإن أبيت فاعتزم عزما واقدم قدما. فقال له عثمان مالك قمل فروك هذا الجد منك. فسكت عمرو حتى تفرقوا فقال والله يا أمير المؤمنين لأنت أكرم على من ذلك ولكني علمت أن بالباب من يبلغ الناس قول كل رجل منا فأردت أن يبلغهم قولي فيثقوا بي فأقود إليك خيرا وأدفع عنك شرا.
فرد عثمان عماله إلى أعمالهم وأمرهم بتجهيز الناس في البعوث وعزم على تحريم أعطياتهم ليطيعوه ورد سعيدا إلى الكوفة فلقيه الناس من الجرعة وردوه كما سبق ذكره. قال أبو ثور الحدائي جلست إلى حذيفة وأبي مسعود الأنصاري بمسجد الكوفة يوم الجرعة فقال أبو مسعود ما أرى أن ترد على عقبيها حتى يكون فيها دماء. فقال حذيفة والله لتردن على عقبيها ولا يكون فيها محجمة دم وما أرى اليوم شيئا إلا وقد علمته والنبي حي فرجع سعيد إلى عثمان ولم يسفك دم وجاء أبو موسى أميرا.
وأمر عثمان حذيفة بن اليمان أن يغزو الباب فسار نحوه.
ذكر ابتداء قتل عثمان
في هذه السنة تكاتب نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم بعضهم إلى بعض أن أقدموا فإن الجهاد عندنا وعظم الناس على
150

عثمان ونالوا منه أقبح ما نيل من أحد وليس أحد من الصحابة ينهي ولا يذب إلا نفر منهم زيد بن ثابت وأبو أسيد
الساعدي وكعب بن مالك وحسان بن ثابت فاجتمع الناس فكلموا علي بن أبي طالب فدخل على عثمان فقال له الناس ورائي وقد كلموني فيك والله ما أدري ما أقول لك ولا أعرف شيئا تجهله ولا أدلك على أمر لا تعرفه إنك لتعلم ما أعلم ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه ولا خلونا بشيء فنبلغكه وما خصصنا بأمر دونك وقد رأيت وصحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعت منه ونلت صهره وما ابن أبي قحافة بأولي بالعمل منك بالحق ولا ابن الخطاب بأولي شيء من الخير منك وأنت أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رحما ولقد نلت من صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم ينالاه وما سبقناك إلى شيء فالله الله في نفسك فإنك والله ما تبصر من عمي ولا تعلم من جهالة وإن الطريق لواضح بين وإن أعلام الدين لقائمة اعلم يا عثمان أن أفضل عباد الله عند الله إمام عادل هدي وهدي فأقام سنة معلومة وأمات بدعة متروكة فوالله إن كلا لبين وإن السنن لقائمة لها أعلام وإن البدع قائمة لها أعلام وإن شر الناس عند الله إمام جائر ضل وأضل فأمات سنة معلومة وأحيا بدعة متروكة وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يؤتي يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر فيلقي في جهنم فيدور في جهنم كما تدور الرحى ثم يرتطم في غمرة جهنم وإني أحذرك الله وسطواته ونقماته فإن عذابه شديد أليم وأحذرك أن تكون إمام هذه الأمة الذي يقتل فيفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة ويلبس أمورها عليها ويتركها شيعا لا يبصرون الحق لعلو الباطل يموجون فيها موجا ويمرجون فيها مرجا.
فقال عثمان قد علمت والله ليقولن الذي قلت أما والله لو كنت مكاني ما عنفتك ولا أسلمتك ولا عبت عليك ولا جئت منكرا أن وصلت رحما
151

وسددت خلة وآويت ضائعا ووليت شبيها بمن كان عمر يولي أنشدك الله يا علي هل تعلم أن المغيرة بن شعبة ليس هناك قال نعم قال فتعلم أن عمر ولاه قال نعم قال فلم تلومني أن وليت ابن عامر في رحمه وقرابته قال علي إن عمر كان يطأ على صماخ من ولي إن بلغه عنه حرف جلبة ثم بلغ به أقصي العقوبة وأنت لا تفعل ضعفت ورققت على أقربائك. قال عثمان وهم أقرباؤك أيضا قال أجل إن رحمهم مني قريبة ولكن الفضل في غيرهم قال عثمان هل تعلم أن عمر ولي معاوية فقد وليته فقال علي أنشدك الله هل تعلم أن معاوية كان أخوف لعمر من يرفأ غلام عمر له قال نعم قال علي فإن معاوية يقتطع الأمور دونك ويقول للناس هذا أمر عثمان وأنت تعلم ذلك فلا تغير عليه.
ثم خرج علي من عنده وخرج عثمان على أثره فجلس على المنبر ثم قال أما بعد فإن لكل شيء آفة ولكل أمر عاهة وإن آفة هذه الأمة وعاهة هذه النعمة عيابون طعانون يرونكم ما تحبون ويسترون عنكم ما تكرهون يقولون لكم ويقولون أمثال النعام يتبعون أول ناعق أحب مواردهم إليهم البعيد لا يشربون إلا نغصا ولا يردون إلا عكرا [لا] يقوم لهم رائد وقد أعيتهم الأمور ألا فقد عبتم على ما أقررتم لابن الخطاب بمثله ولكنه وطئكم برجله وضربكم بيده وقمعكم بلسانه فدنتم له على ما أحببتم وكرهتم ولنت لكم وأوطأتكم كتفي وكففت يدي ولساني عنكم فاجترأتم علي أما والله لأنا أعز نفرا وأقرب ناصرا وأكثر عددا وأحرى إن قلت هلم أتي إلى ولقد عددت لكم أقرانا وأفضلت عليكم فضولا وكشرت
152

لكم عن نابي وأخرجتم مني خلقا لم أكن أحسنه ومنطقا لم أنطق به فكفوا عني ألسنتكم وعيبكم وطعنكم ولاتكم فإني كففت عنكم من لو كان هو الذي يكلمكم لرضيتم منه بدون منطقي هذا ألا فما تفقدون من حقكم والله ما قصرت عن بلوغ ما بلغ من كان قبلي ولم تكونوا تختلفون عليه فقام مروان بن الحكم فقال إن شئتم حكمنا والله ما بيننا وبينكم السيف نحن وأنتم والله كما قال الشاعر:
(فرشنا لكم أعراضنا فنبت بكم * مغارسكم تبنون في دمن الثري)
فقال عثمان اسكت لا سكت دعني وأصحابي ما منطقك في هذا ألم تقدم إليك أن لا تنطق فسكت مروان ونزل عثمان عن المنبر فاشتد قوله على الناس وعظم وزاد تألبهم عليه.
ذكر عدة حوادث
وحج هذه السنة بالناس عثمان وفي هذه السنة توفي كعب الأحبار وهو كعب بن ماتع وأسلم أيام عمر وفيها مات أبو عبس عبد الرحمن بن جبر الأنصاري شهد بدرا وفيها مات مسطح بن أثاثة المطلبي وهو ابن ست وخمسين سنة وقيل بل عاش وشهد صفين مع علي وهو الأكثر وكان بدريا وفيها توفي عبادة بن الصامت الأنصاري وهو ممن شهد العقبة وكان نقيبا بدريا وعاقل بن البكير وهو بدري أيضا.
153

35
ثم دخلت سنة خمس وثلاثين
ذكر مسير من سار إلى حصر عثمان
قيل في هذه السنة كان مسير من سار من أهل مصر إلى ذي خشب ومسير من سار من أهل العراق إلى ذي المروة.
وكان سبب ذلك أن عبد الله بن سبأ كان يهوديا، من أهل صنعاء أمة سوداء وأسلم أيام عثمان ثم تنقل في الحجاز ثم بالبصرة ثم بالكوفة ثم بالشام يريد إضلال الناس فلم يقدر منهم على ذلك، فأخرجه أهل الشام فأتي مصر فأقام فيهم وقال لهم: العجب ممن يصدق إن عيسى يرجع ويكذب أن محمدا يرجع، فوضع لهم الرجعة فقبلت منه. ثم قال بعد ذلك إنه كان لكل نبي وصي وعلي وصي محمد فمن أظلم ممن لم يجز وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ووثب على وصيه وإن عثمان أخذها بغير حق فانهضوا في هذا الأمر وابدأوا الطعن على أمرائكم وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا به الناس.
وبث دعاته وكاتب من استفسد في الأمصار وكاتبوه ودعوا في السر إلى ما عليه رأيهم وصاروا يكتبون إلى الأمصار بكتب يضعونها في عيب ولاتهم ويكتب أهل مصر منهم إلى مصر آخر بما يصنعون حتى تناولوا بذلك المدينة وأوسعوا بذلك الأرض إذاعة فيقول أهل كل مصر إنا لفي عافية
154

مما ابتلي منه به هؤلاء، إلا أهل المدينة فإنهم جاءهم ذلك عن جميع الأمصار فقالوا إنا لفي عافية مما فيه الناس فأتوا عثمان فقالوا يا أمير المؤمنين أيأتيك عن الناس الذي يأتينا فقال لا والله ما جاءني إلا السلامة وأنتم شركائي وشهود المؤمنين فأشيروا علي قالوا نشير عليك أن تبعث رجالا من تثق بهم إلى الأمصار حتى يرجعوا إليك بأخبارهم.
فدعا محمد بن مسلمة فأرسله إلى الكوفة وأرسل أسامة بن زيد إلى البصرة وأرسل عمار بن ياسر إلى مصر وأرسل عبد الله بن عمر إلى الشام وفرق رجالا سواهم فرجعوا جميعا قبل عمار فقالوا ما أنكرنا شيئا أيها الناس ولا أنكره أعلام المسلمين ولا عوامهم وتأخر عمار حتى ظنوا أنه قد أغتيل فوصل كتاب من عبد الله بن أبي سرح يذكر سرح يذكر سرح يذكر سرح يذكر سرح يذكر سرح يذكر أن عمارا قد استماله قوم وانقطعوا إليه منهم عبد الله بن السوداء وخالد بن ملجم وسودان بن حمران وكنانة بن بشر.
فكتب عثمان إلى أهل الأمصار: [أما بعد] فإني آخذ عمالي بموافاتي كل موسم وقد رفع إلى أهل المدينة أن أقواما يشتمون ويضربون فمن ادعي شيئا من ذلك فليواف الموسم يأخذ حقه حيث كان مني أو من عمالي أو تصدقوا فالله يجزي المتصدقين.
فلما قرئ في الأمصار بكي الناس ودعوا لعثمان وبعث إلى عمال الأمصار فقدموا عليه في الموسم عبد الله بن عامر وعبد الله بن سعد ومعاوية وأدخل معهم في المشورة سعيد بن العاص وعمرا فقال ويحكم ما هذه الشكاية والإذاعة؟ إني والله لخائف أن تكونوا مصدوقا عليكم وما يعصب هذا إلا بي فقالوا له: ألم نبعث؟ ألم يرجع إليك الخبر عن العوام ألم يرجع رسلك ولم يشافههم أحد بشيء والله ما صدقوا ولا بروا ولا نعلم لهذا الأمر أصلا
155

ولا يحل الأخذ بهذه الإذاعة! فقال: أشيروا علي. فقال سعيد هذا أمر مصنوع يلقي في السر فيتحدث به الناس ودواء ذلك طلب هؤلاء وقتل الذين يخرج هذا من عندهم وقال عبد الله بن سعد خذ من الناس الذي عليهم إذا أعطيتهم الذي لهم فإنه خير من أن تدعهم وقال معاوية قد وليتني فوليت قوما ولا يأتيك عنهم إلا الخير والرجلان أعلم بناحيتيهما والرأي حسن الأدب وقال عمرو أرى أنك قد لنت لهم ورخيت عليهم وزدتهم على ما كان يصنع عمر فأري أن تلزم طريقة صاحبيك فتشتد في موضع الشدة وتلين في موضع اللين.
فقال عثمان قد سمعت كل ما أشرتم به علي ولكل أمر باب يؤتي منه إن هذا الأمر الذي يخاف على هذه الأمة
كائن وإن بابه الذي يغلق عليه ليفتحن فنكفكفه باللين والمؤاتاة إلا في حدود الله فإن فتح فلا يكون لأحد على حجة وقد علم الله أني لم آل الناس خيرا وإن رحى الفتنة لدائرة فطوبى لعثمان إن مات ولم يحركها سكنوا الناس وهبوا لهم حقوقهم فإذا تعوطيت حقوق الله فلا تدهنوا فيها فلما نفر عثمان وشخص معاوية والأمراء معه واستقل على الطريق رجز به الحادي فقال:
(قد علمت ضوامر المطي * وضامرات عوج القسي)
(أن الأمير بعده علي * وفي الزبير خلف رضي)
(طلحة الحامي لها ولي)
فقال كعب: كذبت بل يلي بعده صاحب البغلة الشهباء يعني معاوية فطمع فيها من يومئذ.
فلما قدم عثمان المدينة دعا عليا وطلحة والزبير وعنده معاوية فحمد
156

الله معاوية ثم قال أنتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخيرته من خلقه وولاة أمر هذه الأمة لا يطمع فيه أحد غيركم اخترتم صاحبكم عن غير غلبة ولا طمع وقد كبر وولى عمره ولو انتظرتم به الهرم لكان قريبا مع أني أرجو أن يكون أكرم علي الله أن يبلغه ذلك وقد فشت مقالة خفتها عليكم فما عتبتم فيه من شيء فهذه يدي لكم به ولا تطمعوا الناس في أمركم فوالله إن طمعوا فيه لا رأيتم منها أبدا إلا إدبارا.
قال علي مالك ولذلك لا أم لك قال دع أمي فإنها ليست بشر أمهاتكم وقد أسلمت وبايعت النبي وأجبني عما أقول لك.
فقال عثمان صدق ابن أخي أنا أخبركم عني وعما وليت إن صاحبي اللذين كانا قبلي ظلما أنفسهما ومن كان منهما بسبيل احتسابا وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعطي قرابته وأنا في رهط أهل عيلة وقلة معاش فبسطت يدي في شيء من ذلك المال لما أقوم به فيه فإن رأيتم ذلك خطأ فردوه فأمري لأمركم تبع فقالوا له قد أصبت وأحسنت قد أعطيت عبد الله بن خالد بن أسيد خمسين ألفا وأعطيت مروان خمسة عشر ألفا فأخذ منهما ذلك فرضوا وخرجوا راضيين.
وقال معاوية لعثمان اخرج معي إلى الشام فإنهم على الطاعة قبل أن يهجم عليك من لا قبل لك به فقال لا أبيع جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء وإن كان فيه خبط عنقي قال إن بعثت إليك جندا منهم يقيم معك لنائبة إن نابت قال لا أضيق على جيران رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال والله لتغتالن ولتغزين فقال حسبي الله ونعم الوكيل!
ثم خرج معاوية فمر على نفر من المهاجرين فيهم علي وطلحة والزبير وعليه
157

ثياب السفر. فقام عليهم وقال: إنكم قد علمتم أن هذا الأمر كان الناس يتغالبون عليه حتى بعث الله نبيه وكانوا يتفاضلون بالسابقة والقدمة والاجتهاد فإن أخذوا بذلك فالأمر أمرهم والناس لهم تبع وإن طلبوا الدنيا بالتغالب سلبوا ذلك ورده الله إلى غيرهم وإن الله على البدل لقادر وإني قد خلفت فيكم شيخا فاستوصوا به خيرا وكاتفوه تكونوا أسعد منه بذلك ثم ودعهم ومضي. فقال علي: [ما] كنت أرى في هذا خيرا فقال الزبير والله ما كان قط أعظم في صدرك وصدورنا منه اليوم.
واتعد المنحرفون عن عثمان يوما يخرجون فيه بالأمصار جميعها إذا سار عنها الأمراء فلم يتهيأ لهم ذلك ولما رجع الأمراء ولم يتم لهم الوثوب [صاروا] يكاتبون في القدوم إلى المدينة لينظروا فيما يريدون ويسألوا عثمان عن أشياء لتطير في الناس وكان بمصر محمد بن أبي بكر ومحمد بن أبي حذيفة يحرضان على عثمان.
فلما خرج المصريون خرج فيهم عبد الرحمن بن عديس البلوي في خمسمائة وقيل في ألف وفيهم كنانة بن بشر الليثي وسودان بن حمران السكوني وقتيرة بن فلان السكوني وعليهم جميعا الغافقي بن حرب العكي وخرج أهل الكوفة وفيهم زيد بن صوحان العبدي والأشتر النخعي وزياد بن النضر الحارثي وعبد الله بن الأصم العامري وهم في عداد أهل مصر وعليهم جميعا عمرو بن الأصم وخرج أهل البصرة فيهم حكيم بن جبلة العبدي وذريح بن عباد وبشر بن شريح القيسي وابن المحترش وهم بعداد أهل مصر وأميرهم حرقوص بن زهير السعدي فخرجوا
158

جميعا في شوال وأظهروا أنهم يريدون الحج فلما كانوا من المدينة علي ثلاث تقدم ناس من أهل البصرة فنزلوا ذا خشب وكان هواهم في طلحة وتقدم ناس من أهل الكوفة وكان هواهم في الزبير ونزلوا الأعوص وجاءهم ناس من أهل مصر وكان هواهم في علي ونزلوا عامتهم بذي المروة ومشي فيما بين أهل مصر وأهل البصرة زياد بن النضر وعبد الله بن الأصم وقالا لهم لا تعجلوا حتى ندخل المدينة ونرتاد لكم فقد بلغنا أنهم عسكروا لنا فوالله إن كان هذا حقا واستحلوا قتالنا بعد علم حالنا إن أمرنا لباطل وإن كان الذي بلغنا رجعنا إليكم بالخبر. قالوا اذهبا فذهبا فدخل المدينة فلقيا أزواج النبي وعليا وطلحة والزبير فقالا إنما نريد هذا البيت ونستعفي من بعض عمالنا واستأذناهم في الدخول فكلمهما أبي ونهاهما فرجعا إلى أصحابهما فاجتمع نفر من أهل مصر فأتوا عليا ونفر من أهل البصرة فأتوا طلحة ونفر من أهل الكوفة فأتوا الزبير وقال كل فريق منهم إن بايعنا صاحبنا وإلا كذبناهم وفرقنا جماعتهم ثم رجعنا عليهم حتى نبغتهم. فأتي المصريون عليا وهو في عسكر عند أحجار الزيت متقلدا سيفه وقد أرسل ابنه الحسن إلى عثمان فيمن اجتمع إليه فسلموا عليه وعرضوا عليه فصاح بهم وطردهم وقال لقد علم الصالحون أن جيش ذي المروة وجيش ذي خشب والأعوص ملعونون على لسان محمد فانصرفوا عنه وأتى البصريون طلحة فقال لهم مثل ذلك وكان قد أرسل ابنيه إلى عثمان وأتى الكوفيون الزبير فقال لهم مثل ذلك وكان قد أرسل ابنه عبد الله إلى عثمان.
159

فرجعوا وتفرقوا عن ذي خشب وذي المروة والأعوص إلى عسكرهم ليتفرق أهل المدينة ثم يرجعوا إليهم فلما بلغوا عسكرهم تفرق أهل المدينة فرجعوا بهم فلم يشعر أهل المدينة إلا والتكبير في نواحيها ونزلوها وأحاطوا بعثمان وقالوا من كف يده فهو آمن. وصلي عثمان بالناس أياما ولزم الناس بيوتهم ولم يمنعوا الناس من كلامه وأتاهم أهل المدينة وفيهم علي فقال لهم ما ردكم بعد ذهابكم فقالوا أخذنا مع بريد كتابا بقتلنا وأتى طلحة الكوفيين فسألهم عن عودهم فقالوا مثل ذلك وأتى الزبير البصريين فقالوا مثل ذلك وكل منهم يقول نحن نمنع إخواننا وننصرهم كأنما كانوا على ميعاد فقال لهم علي كيف علمتم يا أهل الكوفة ويا أهل البصرة بما لقي أهل مصر وقد سرتم مراحل حتى رجعتم علينا هذا والله أمر أبرم بليل فقالوا ضعوه كيف شئتم ولا حاجة لنا في هذا الرجل ليعتزل عنا وعثمان يصلي بهم وهو يصلون خلفه وهم أدق في عينه من التراب وكانوا لا يمنعون الناس من الاجتماع.
وكتب عثمان إلى أهل الأمصار يستنجدهم ويأمرهم بالحث للمنع عنه ويعرفهم ما الناس فيه فخرج أهل الأمصار على الصعب والذلول فبعث معاوية حبيب بن مسلمة الفهري وبعث عبد الله بن سعد معاوية بن حديج وخرج من الكوفة القعقاع بن عمرو وقام بالكوفة نفر يحضون على إعانة أهل المدينة منعم عقبة بن عامر وعبد الله بن أبي أوفي وحنظلة الكاتب وغيرهم من أصحاب النبي ومن التابعين مسروق والأسود وشريح وعبد الله بن عكيم وغيرهم وقام بالبصرة عمران بن حصين وأنس بن مالك وهشام بن عامر وغيرهم من الصحابة ومن التابعين كعب بن سور وهرم بن حيان وغيرهما وقام بالشام جماعة من الصحابة والتابعين وكذلك بمصر.
ولما جاءت الجمعة التي على أثر دخولهم المدينة خرج عثمان فصلي بالناس
160

ثم قام على المنبر فقال يا هؤلاء الله الله فوالله إن أهل المدينة ليعلمون أنكم ملعونون على لسان محمد فامحوا الخطأ بالصواب فقام محمد بن مسلمة فقال أنا أشهد بذلك فأقعده حكيم بن جبلة وقام زيد بن ثابت فأقعده محمد بن أبي قتيرة وثار القوم بأجمعهم فحصبوا الناس حتى أخرجوهم من المسجد وحصبوا عثمان حتى صرع عن المنبر مغشيا عليه فأدخل داره واستقتل نفر من أهل المدينة مع عثمان منهم سعد بن أبي وقاص والحسين بن علي وزيد بن ثابت وأبو هريرة فأرسل إليهم عثمان يعزم عليهم بالانصراف فانصرفوا وأقبل علي وطلحة والزبير فدخلوا على عثمان يعودونه من صرعته ويشكون إليه ما يجدون وكان عند عثمان نفر من بني أمية فيهم مروان بن الحكم فقالوا كلهم لعلي أهلكتنا وصنعت هذا الصنيع والله لئن بلغت الذي تريد لتمرن عليك الدنيا فقام مغضبا وعاد هو والجماعة إلى منازلهم وصلي عثمان بالناس بعد ما نزلوا به في المسجد ثلاثين يوما ثم منعوه الصلاة وصلي بالناس أميرهم الغافقي ودان له المصريون والكوفيون والبصريون وتفرق أهل المدينة في حيطانهم ولزموا بيوتهم لا يجلس أحد ولا يخرج إلا بسيفه ليتمنع به وكان الحصار أربعين يوما ومن تعرض لهم وضعوا فيه السلاح.
وقد قيل إن محمد بن أبي بكر ومحمد بن أبي حذيفة كانا بمصر يحرضان على عثمان وسار محمد بن أبي بكر مع من سار إلى عثمان وأقام ابن أبي حذيفة بمصر وغلب عليها لما سار عنها عبد الله بن سعد على ما يأتي فلما خرج المصريون إلى قصد عثمان أظهروا أنهم يريدون العمرة وخرجوا في رجب وعليهم عبد الرحمن بن عديس البلوي وبعث عبد الله بن سعد رسولا إلى عثمان
161

يخبره بحالهم وأنهم قد أظهروا العمرة وقصدهم خلعه أو قتله فخطب عثمان الناس وأعلمهم حالهم وقال لهم إنهم قد أسرعوا إلى الفتنة واستطالوا عمري والله لئن فارقتهم ليتمنون أن عمري كان عليهم مكان كل يوم سنة بما يرون من الدماء المسفوكة والإحن والأثرة الظاهرة والأحكام المغيرة.
وكان عبد الله بن سعد خرج إلى عثمان في أثار المصريين بإذنه له فلما كان بأيلة بلغه أن المصريين رجعوا إلى عثمان فحصروه وأن محمد بن أبي حذيفة غلب على مصر واستجابوا له فعاد عبد الله إلى مصر فمنع عنها فأتي فلسطين فأقام بها حتى قتل عثمان.
فلما نزل القوم ذا خشب يريدون قتل عثمان إن لم ينزع عما يكرهون ولما رأى عثمان ذلك جاء إلى علي فدخل عليه بيته فقال له يا بن عم إن قرابتي قريبة ولي عليك حق عظيم وقد جاء ما تري من هؤلاء القوم وهم مصبحي ولك عند الناس قدر وهم يسمعون منك وأحب أن تركب إليهم فتردهم عني فإن في دخولهم على توهينا لأمري وجرأة علي فقال علي على أي شيء أردهم عنك قال على أن أصير إلى ما أشرت إليه ورأيته لي فقال علي إني قد كلمتك مرة بعد أخرى فكل ذلك نخرج ونقول ثم ترجع عنه وهذا من فعل مروان وابن عامر ومعاوية وعبد الله بن سعد فإنك أطعتهم وعصيتني قال عثمان فأنا أعصيهم وأطيعك.
فأمر الناس فركب معه من المهاجرين والأنصار ثلاثون رجلا فيهم سعيد بن زيد وأبو جهم العدو وجبير بن مطعم وحكيم بن حزام ومروان وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن عتاب بن أسيد ومن الأنصار أبو أسيد الساعدي وأبو حميد وزيد بن ثابت وحسان بن ثابت وكعب بن مالك ومن العرب نيار بن
162

مكرز فكلموهم وكان الذي يكلمهم علي ومحمد بن مسلمة فسمعوا مقالتهما ورجعوا إلى مصر فقال ابن عديس لمحمد بن مسلمة أتوصينا بحاجة قال نعم تتقي الله وترد من قبلك عن إمامهم فإنه قد وعدنا أن يرجع وينزع قال ابن عديس أفعل إن شاء الله ورجع علي ومن معه إلى المدينة فدخل على عثمان فأخبره برجوعهم وكلمه بما في نفسه ثم خرج من عنده فمكث عثمان ذلك اليوم وجاء مروان بكرة الغد فقال له تكلم وأعلم الناس أن أهل مصر قد رجعوا وأن ما بلغهم عن إمامهم كان باطلا قبل أن يجيء الناس إليك من أمصارهم ويأتيك ما لا تستطيع دفعه ففعل عثمان فلما خطب الناس قال له عمرو بن العاص اتق الله يا عثمان فإنك قد ركبت أمورا وركبناها معك فتب إلى الله نتب فناداه عثمان وإنك هنا يا بن النابغة قملت والله جبتك منذ عزلتك عن العمل. فنودي من ناحية أخرى تب إلى الله فرفع يديه وقال اللهم إني أول تائب!
ورجع إلى منزله وخرج عمرو بن العاص إلى منزله بفلسطين وكان يقول والله إني كنت لألقي الراعي فأحرضه على عثمان وأتى عليا وطلحة والزبير فحرضهم على عثمان فبينما هو بقصره بفلسطين ومعه ابناه محمد وعبد الله وسلامة بن روح الجذامي إذ مر بهم راكب من المدينة فسأله عمرو عن عثمان فقال هو محصور قال عمرو أنا عبد الله قد يضرط العير والمكواة في النار. ثم مر به راكب آخر فسأله فقال قتل عثمان فقال عمرو أنا أبو عبد الله إذا حككت قرحة نكأتها فقال له سلامة بن روح يا معشر قريش كان بينكم وبين العرب باب وثيق فكسرتموه فما عملكم على ذلك فقال أردنا أن نخرج الحق من
163

خاصرة الباطل ليكون الناس في الحق شرعا سواء.
وقيل إن عليا لما رجع من عند المصريين بعد رجوعهم إلى عثمان فقال له تكلم كلاما يسمعه الناس منك ويشهدون عليك ويشهد الله على ما قلبك من النزوع والأمانة فإن البلاد قد تمخضت عليك فلا آمن أن يجيء ركب آخر من الكوفة والبصرة فتقول يا علي اركب إليهم فإن لم أفعل رأيتني قد قطعت رحمك واستخففت بحقك فخرج عثمان فخطب الخطبة التي نزع فيها وأعطي الناس من نفسه التوبة وقال أنا أول من اتعظ استغفر الله مما فعلت وأتوب إليه فمثلي نزع وتاب فإذا نزلت فليأتني أشرافكم فليروا في رأيهم فوالله لئن ردني الحق عبدا لأستن بسنة العبد ولأذلن ذل العبد وما عن الله مذهب إلا إليه فوالله لأعطينكم الرضا ولأنحين مروان وذويه ولا احتجب عنكم فرق الناس وبكوا حتى أخضلوا لحاهم وبكي هو أيضا.
فلما نزل عثمان وجد مروان وسعيدا ونفرا من بني أمية في منزله لم يكونوا شهدوا خطبته فلما جلس قال مروان يا أمير المؤمنين أتكلم أم أسكت فقالت نائلة بنت الفرافصة امرأة عثمان لا بل أصمت فإنهم والله قاتلوه ومؤثموه إنه قد قال مقالة لا ينبغي له أن ينزع عنها فقال لها مروان ما أمن وذاك فوالله قد مات أبوك وما يحسن يتوضأ فقالت مهلا يا مروان عن ذكر الآباء تخبر عن أبي وهو غائب تكذب عليه وإن أباك لا يستطيع أن يدفع عن نفسه أما والله لولا أنه عمه وأنه يناله غمه لأخبرتك عنه ما لن أكذب عليه قالت فأعرض عنها مروان فقال يا أمير المؤمنين أتكلم أم أسكت؟
164

قال: تكلم. فقال مروان: بأبي أنت وأمي والله لوددت أن مقالتك هذه كانت وأنت ممتنع فكنت أول من رضي بها وأعان عليها ولكنك قلت ما قلت وقد بلغ الحزام الطبيين وبلغ السيل الزبي وحين أعطي الخطة الذليلة الذليل والله لإقامة على خطيئة ويستغفر منها أجمل من توبة يخوف عليها، وأنت إن شئت تقربت بالتوبة ولم تقرر بالخطيئة وقد اجتمع بالباب أمثال الجبال من الناس فقال عثمان فأخرج إليهم فكلمهم فإني أستحي أن أكلمهم فخرج مروان إلى الباب والناس يركب بعضهم بعضا فقال ما شأنكم قد اجتمعتم كأنكم قد جئتم لنهب شاهت الوجوه إلى من أريد جئتم تريدون أن تنزعوا ملكنا من أيدينا أخرجوا عنا والله لئن رمتمونا ليمون عليكم منا أمر لا يسركم ولا تحمدوا غب رأيكم ارجعوا إلى منازلكم فإنا والله ما نحن بمغلوبين على ما في أيدينا. فرجع الناس وأتى بعضهم عليا فأخبره الخبر.
فأقبل علي على عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث فقال أحضرت خطبة عثمان قال نعم قال أفحضرت مقالة مروان للناس قال نعم فقال علي أي عباد الله يا للمسلمين إني إن قعدت في بيتي قال لي تركتني وقرابتي وحقي وإني إن تكلمت فجاء ما يريد يلعب به مروان فصار سيقة له يسوقه حيث يشاء بعد كبر السن وصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام مغضبا حتى دخل على عثمان فقال له أما رضيت من مروان ولا رضي منك إلا بتحرفك عن دينك وعن عقلك مثل جمل الظعينة يقاد حيث يسار به؟
165

والله ما مروان بذي رأي في دينه ولا نفسه وأيم الله لأراه يوردك ولا يصدرك وما أنا عائد بعد مقامي هذا لمعاتبتك أذهبت شرفك وغلبت على رأيك.
فلما خرج علي دخلت عليه امرأته نائلة بنت الفرافصة فقالت قد سمعت قول علي لك وليس يعاودك وقد أطعت مروان يقودك حيث شاء قال فما أصنع قالت تتقي الله وتتبع سنة صاحبيك من قبلك فإنك متي أطعت مروان قتلك ومروان ليس له عند الناس قدر ولا هيبة ولا محبة وإنما تركك الناس لمكانه فأرسل إلى علي فاستصلحه فإن له قرابة منك وهو لا يعصي فأرسل عثمان إلى علي فلم يأته وقال قد أعلمته أني غير عائد فبلغ مروان مقالة نائلة فيه فجلس بين يدي عثمان فقال يا ابنة الفرافصة فقال عثمان لا تذكرنها بحرف فأسود وجهك فهي والله أنصح لي منك فكف مروان.
وأتى عثمان إلى علي بمنزله ليلا وقال له إني غير عائد وإني فاعل فقال له علي بعد ما تكلمت على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطيت من نفسك ثم دخلت بيتك فخرج مروان إلى الناس يشتمهم على بابك ويؤذيهم. فخرج عثمان من عنده وهو يقول قطعت رحمي وخذلتني وجرأت الناس علي فقال علي والله إني لأكثر الناس دبا عنك ولكني كلما جئت بشيء أظنه لك رضا جاء مروان بأخرى فسمعت قوله وتركت قولي.
ولم يعد علي يعمل ما كان يعمل إلى أن منع عثمان الماء فقال علي لطلحة أريد أن تدخل عليه الروايا وغضب غضبا شديدا حتى دخلت الروايا على عثمان.
166

قال وقد قيل إن عليا كان عند حصر عثمان بخيبر فقدم المدينة والناس مجتمعون عند طلحة وكان ممن له فيه أثر فلما قدم علي أتاه عثمان وقال له أما بعد فإن لي حق الإسلام وحق الإخاء والقرابة والصهر ولو لم يكن من ذلك شيء وكنا في الجاهلية لكان عارا على بني عبد مناف أن ينتزع أخو بني تيم يعني طلحة أمرهم فقال له علي
سيأتيك الخبر ثم خرج إلى المسجد فرأى أسامة فتوكأ على يده حتى دخل دار طلحة وهو [في] خلوة من الناس فقال له يا طلحة ما هذا الأمر الذي وقعت فيه فقال يا أبا الحسن بعد ما مس الحزام الطبيين. فانصرف علي حتى أتي بيت المال فقال افتحوه فلم يجدوا المفاتيح فكسر الباب وأعطي الناس فانصرفوا من عند طلحة حتى بقي وحده وسر بذلك عثمان وجاء طلحة فدخل على عثمان وقال له يا أمير المؤمنين أردت أمرا فحال الله بيني وبينه فقال عثمان والله ما جئت تائبا ولكن جئت مغلوبا الله حسيبك يا طلحة!
ذكر مقتل عثمان
قد ذكرنا سبب مسير الناس إلى قتل عثمان وقد تركنا كثيرا من الأسباب التي جعلها الناس ذريعة إلى قتله لعلل دعت إلى ذلك ونذكر الآن كيف قتل وما كان بدء ذلك وابتداء الجرأة عليه قبل قتله.
فكان من ذلك أن أبلا من إبل الصدقة قدم بها على عثمان فوهبها لبعض بني الحكم فبلغ ذلك عبد الرحمن بن عوف فأخذوها وقسمها بين الناس وعثمان في الدار.
167

قيل: وكان أول من اجترأ على عثمان بالمنطق جبلة بن عمرو الساعدي مر به عثمان وهو في نادى قومه وبيده جامعه فسلم فرد القوم فقال جبلة لم تردون على رجل فعل كذا وكذا ثم قال لعثمان والله لأطرحن هذه الجامعة في عنقك أو لتتركن بطانتك هذه الخبيثة مروان وابن عامر وابن سعد منهم من نزل القرآن بذمه وأباح رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه فاجترأ الناس عليه وقد تقدم قول عمرو بن العاص له في خطبته.
قيل وخطب يوما وبيده عصا كان النبي وأبو بكر وعمر يخطبون عليها فأخذها جهجهاه الغفاري من يده وكسرها على ركبته اليمني فرمي في ذلك المكان بأكلة.
وقيل كتب جمع من أهل المدينة من الصحابة وغيرهم إلى من بالآفاق منهم إن أردتم الجهاد فهلموا إليه فإن دين محمد قد أفسده خليفتكم فأقيموه فاختلفت قلوب الناس على ما تقدم ذكره وجاء المصريون كما ذكرنا إلى المدينة فخرج إليهم علي ومحمد بن مسلمة كما تقدم فكلماهم فعادوا ثم رجعوا فلما رجعوا انطلق إليهم محمد بن مسلمة يسألهم عن سبب عودهم فأخرجوا صحيفة في أنبوبة رصاص وقالوا وجدنا غلام عثمان بالبويب على بعير من إبل الصدقة ففتشنا متاعه فوجدنا فيه هذه الصحافة يأمر فيها بجلد عبد الرحمن بن عديس وعمرو بن الحمق وعروة بن البياع وحبسهم وحلق رؤوسهم ولحاهم وصلب بعضهم. وقيل إن الذي أخذت منه الصحيفة أبو الأعور السلمي فلما رأوه سألوه عن مسيره وهل معه كتاب فقال لا فسألوه في أي شيء هو فتغير كلامه فأنكروه وفتشوه وأخذوا الكتاب منه وعادوا وعاد الكوفيون والبصريون. فلما عاد أهل مصر أخبروا بذلك محمد بن سلمة وقالوا له قد كلمنا عليا ووعدنا أن يكلمه وكلمنا
168

سعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد فقالا لا ندخل في أمركم وقالوا لمحمد بن مسلمة لتحضر مع علي عند عثمان بعد الظهر فوعدهم بذلك فدخل علي ومحمد بن مسلمة على عثمان فاستأذنا للمصريين عليه وعنده مروان فقال دعني أكلمهم فقال عثمان اسكت فض الله فاك ما أنت وهذا الأمر أخرج عني فخرج مروان وقال علي ومحمد لعثمان ما قال المصريون فأقسم بالله ما كتبته ولا علم [لي] به فقال محمد صدق هذا من عمل مروان.
ودخل عليه المصريون فلم يسلموا عليه بالخلافة فعرفوا الشر فيهم وتكلموا فذكر ابن عديس ما فعل عبد الله بن سعد بالمسلمين وأهل الذمة والاستئثار في الغنائم فإذا قيل له في ذلك قال هذا كتاب أمير المؤمنين إلى وذكروا شيئا مما أحدث بالمدينة وقال له وخرجنا من مصر ونحن نريد قتلك فردنا علي ومحمد بن مسلمة وضمنا لنا النزوع عن كل ما تكلمنا فيه فرجعنا إلى بلادنا فرأينا غلامك وكتابك وعليه خاتمك تأمر عبد الله بجلدنا والمثلة بنا وطول الحبس.
فحلف عثمان أنه ما كتب ولا أمر ولا علم فقال علي ومحمد صدق عثمان قال المصريون فمن كتبه قال لا أدري قالوا فيجترأ عليك ويبعث غلامك وجمل من الصدقة وينقش على خاتمك ويبعث إلى عاملك بهذه الأمور العظيمة وأنت لا تعلم قال نعم قال ما أنت إلا صادق أو كاذب فإن كنت كاذبا فقد استحققت الخلع لما أمرت به من قتلنا بغير حق وإن كنت صادقا فقد استحققت أن تخلع نفسك لضعفك عن هذا الأمر وغفلتك وخبث بطانتك ولا ينبغي لنا أن نترك هذا الأمر بيد من تقطع الأمور دونه لضعفه وغفلته فاخلع نفسك منه كما خلعك الله فقال لا أنزع قميصا ألبسنيه الله ولكني أتوب وأنزع قالوا: لو كان هذا أول ذنب تبت منه قبلنا ولكنا رأيناك تتوب ثم تعود ولسنا منصرفين حتى نخلعك أو نقتلك أو تلحق أرواحنا بالله تعالى،
169

وإن منعك أصحابك وأهلك قاتلناهم حتى نخلص إليك فقال أما أن أتبرأ من خلافة الله فالقتل أحب إلى من ذلك وأما قولكم تقاتلون من منعني فإني لا آمر أحدا بقتالكم فمن قاتلكم فبغير أمري قاتل ولو أردت قتالكم لكتبت إلى الأجناد فقدموا علي أو لحقت بعض أطرافي. وكثرت الأصوات واللغط.
فقام علي فخرج وأخرج المصريين ومضي علي إلى منزله وحصر المصريون عثمان وكتب إلى معاوية وابن عامر وأمراء الأجناد يستنجدهم ويأمرهم بالعجل وإرسال الجنود إليه فتربص به معاوية فقام في أهل الشام يزيد بن أسد القسري جد خالد بن عبد الله القسري فتبعه خلق كثير فسار بهم إلى عثمان فلما كانوا بوادي القري بلغهم قتل عثمان فرجعوا.
وقيل بل سار من الشام حبيب بن مسلمة الفهري وسار من البصرة مجاشع بن مسعود السلمي فلما وصلوا الربذة ونزلت مقدمتهم صرارا بناحية المدينة أتاهم قتل عثمان فرجعوا وكان عثمان قد استشار نصحاءه في أمره فأشاروا عليه أن يرسل إلى علي يطلب إليه أن يردهم ويعطيهم ما يرضيهم ليطاولهم حتى يأتيه إمداده فقال إنهم لا يقبلون التعلل وقد كان مني في المرة الأولي ما كان فقال مروان أعطهم ما سألوك وطاولهم ما طاولوك فإنهم قوم بغوا عليك ولا عهد لهم فدعا عليا فقال له قد تري ما كان من الناس ولست آمنهم على دمي فارددهم عني فإني أعطيهم ما يريدون من الحق من نفسي وغيري فقال علي الناس إلى عدلك أحوج منهم إلى قتلك ولا يرضون إلا بالرضا وقد كنت أعطيتهم أولا عهدا فلم تف به فلا تغرني هذه المرة فإني معطيهم عليك الحق فقال:
170

أعطهم فوالله لأفين لهم. فخرج علي إلى الناس فقال لهم إنما طلبتم الحق وقد أعطيتموه وقد زعم أنه منصفكم من نفسه فقال الناس قبلنا فاستوثق منه لنا فإنا لا نرضي بقول دون فعل فدخل عليه علي فأعلمه فقال اضرب بيني وبينهم أجلا فإني لا أقدر على أن أرد ما كرهوا في يوم واحد فقال علي أما ما كان بالمدينة فلا أجل فيه وما غاب فأجله وصول أمرك قال نعم فأجلني فيما في المدينة ثلاثة أيام فأجابه إلى ذلك وكتب بينهم كتابا على رد كل مظلمة وعزل كل عامل كرهوه.
فكف الناس عنه، فجعل يتأهب للقتال ويستعد بالسلاح واتخذ جندا. فلما مضت الأيام الثلاثة ولم يتغير شيئا ثار به الناس وخرج عمرو بن حزم الأنصاري إلى المصريين فأعلمهم الحال وهم بذي خشب فقدموا المدينة وطلبوا منه عزل عماله ورد مظالمهم فقال إن كنت مستعملا من أردتم وعازلا من كرهتم فلست في شيء والأمر أمركم فقالوا والله لتفعلن أو لتخلعن أو لتقتلن فأبي عليهم وقال لا أنزع سربالا سربلنيه الله فحصروه واشتد الحصار عليه فأرسل إلى علي وطلحة والزبير فحضروا فأشرف عليهم فقال يا أيها الناس اجلسوا فجلسوا المحارب والمسالم فقال لهم يا أهل المدينة استودعكم الله وأسأله أن يحسن عليكم الخلافة من بعدي. ثم قال أنشدكم بالله هل تعلمون أنكم دعوتم الله عند مصاب عمر أن يختار لكم ويجمعكم علي خيركم أتقولون أن الله لم يستجب لكم وهنتم عليه وأنتم أهل حقه أم تقولون هان على الله دينه فلم يبال من ولي والدين لم يتفرق أهله يومئذ أم تقولون لم يكن أخذ عن مشورة إنما كان مكابرة فوكل الله الأمة إذا عصته ولم يشاوروا في الإمامة أم تقولون إن الله لم يعلم عاقبة أمري وأنشدكم بالله
171

أتعلمون لي من سابقة خير وقدم خير قدمه الله لي يحق على كل من جاء بعدي أن يعرفوا لي فضلها فمهلا لا تقتلوني فإنه لا يحل إلا قتل ثلاثة رجل زني بعد إحصانه أو كفر بعد إيمانه أو قتل نفسا بغير حق فإنكم إن قتلتموني وضعتم السيف على رقابكم ثم لم يرفع الله عنكم الاختلاف أبدا.
قالوا أما ما ذكرت من استخارة الناس بعد عمر ثم ولوك فإن كل ما صنع الله خيرة ولكن الله جعلك بلية ابتلي بها عباده وأما ما ذكرت من قدمك وسلفك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كنت كذلك وكنت أهلا للولاية ولكن أحدثت ما علمته ولا نترك إقامة الحق عليك مخافة الفتنة عاما قابلا وأما قولك إنه لا يحل إلا قتل ثلاثة فإنا نجد في كتاب الله قتل غير الثلاثة الذين سميت قتل من سعي في الأرض فسادا وقتل من بغي ثم قاتل على بغيه وقتل
من حال دون شيء من الحق ومنعه وقاتل دونه وقد بغيت ومنعت وحلت دونه وكابرت عليه ولم تقد من نفسك من ظلمت وقد تمسكت بالإمارة علينا فإن زعمت أنك لم تكابرنا عليها فإن الذين قاموا دونك ومنعوك منا إنما يقاتلون لتمسكك بالإمارة فلو خلعت نفسك لانصرفوا عن القتال معك!
فسكت عثمان ولزم الدار وأمر أهل المدينة بالرجوع وأقسم عليهم فرجعوا إلا الحسن بن علي وابن عباس ومحمد بن طلحة وعبد الله بن الزبير وأشباها لهم واجتمع إليه ناس كثير فكانت مدة الحصار أربعين يوما، فلما مضت ثمان عشرة ليلية قدم ركبان من الأمصار فأخبروا بخبر من تهيأ إليهم من الجنود وشجعوا الناس فعندها حالوا بين الناس وبين عثمان ومنعوه كل شيء حتى الماء. فأرسل
172

عثمان إلى علي سرا وإلي طلحة وإلي الزبير وأزواج النبي أنهم قد منعوني الماء فإن قدرتم أن ترسلوا إلينا ماءا فافعلوا فكان أولهم إجابة علي وأم حبيبة زوج النبي فجاء علي في الغلس فقال يا أيها الناس إن الذي تفعلون لا يشبه أمر المؤمنين ولا أمر الكافرين فلا تقطعوا عن هذا الرجل الماء ولا المادة فإن الروم وفارس لتأسر فتطعم وتسقي فقالوا لا والله ولا نعمة عين فرمي بعمامته في الدار بأني قد نهضت ورجعت وجاءت أم حبيبة على بغلة لها مشتملة على إدواة فضربوا وجه بغلتها فقالت إن وصايا بني أمية عند هذا الرجل فأحببت أن أسأله عنها لئلا تهلك أموال الأيتام والأرامل. فقالوا كاذبة وقطعوا حبل البغلة بالسيف فنفرت وكادت تسقط عنها فتلقاها الناس فأخذوها وذهبوا بها إلى بيتها.
فأشرف عثمان يوما فسلم عليهم ثم قال أنشدكم بالله هل تعلمون إني قد اشتريت بئر رومة بمالي ليستعذب بها فجعلت رشائي فيها كرجل من المسلمين قالوا نعم قال فلم تمنعوني أن أشرب منها حتى أفطر على ماء البحر؟ ثم قال أنشدكم بالله هل تعلمون أني قد اشتريت أرض كذا فزدتها في المسجد قيل نعم قال فهل علمتم أن أحدا منع أن يصلي فيه قبلي ثم قال أنشدكم بالله أتعلمون أن النبي قال عني كذا وكذا أشياء في شأنه ففشي النهي في الناس يقولون مهلا عن أمير المؤمنين فقام الأشتر فقال لعله مكر به وبكم. وخرجت عائشة إلى الحج واستتبعت أخاها محمدا فأبي فقالت ووالله لئن استطعت أن يحرمهم الله ما يحاولون لأفعلن فقال له حنظلة الكاتب تستتبعك أم المؤمنين فلا تتبعها وتتبع ذؤبان العرب إلى ما [لا] يحل؟ وإن هذا الأمر إن صار إلى التغالب غلبك عليه بنو عبد مناف ثم رجع حنظلة إلى الكوفة وهو يقول:
173

(عجبت لما يخوض الناس فيه * يرومون الخلافة أن تزولا)
(ولو زالت لزال الخير عنهم * ولاقوا بعدها ذلا ذليلا)
(وكانوا كاليهود والنصاري * سواء كلهم ضلوا السبيلا)
وبلغ طلحة والزبير ما لقي علي وأم حبيبة فلزموا بيوتهم وبقي عثمان يسقيه آل حزم في الغفلات فأشرف عثمان على الناس فاستدعي ابن عباس فأمره أن يحج بالناس وكان ممن لزم الباب فقال جهاد إلى أحب إلى من الحج فأقسم عليه فانطلق.
قال عبد الله بن عباس بن أبي ربيعة دخلت على عثمان فأخذ بيدي فأسمعني كلام من على بابه فمنهم من يقول ما تنتظرون به ومنهم من يقول أنظروا عسي أن يراجع قال فبينما نحن واقفون إذ مر طلحة فقال أين ابن عديس فقام إليه فناجاه ثم رجع ابن عديس فقال لأصحابه لا تتركوا أحدا يدخل على عثمان ولا يخرج من عنده فقال لي عثمان هذا ما أمر به طلحة اللهم اكفني طلحة فإنه حمل على هؤلاء وألبهم علي والله إني لأرجو أن يكون منها صفرا وأن يسفك دمه قال فأردت أن أخرج فمنعوني حتى أمرهم محمد بن أبي بكر فتركوني أخرج. وقيل إن الزبير خرج من المدينة قبل أن يقتل عثمان وقيل أدرك قتله.
ولما رأى المصريون أن أهل الموسم يريدون قصدهم وأن يجمعوا ذلك إلى حجهم مع ما بلغهم من مسير أهل الأمصار قالوا لا يخرجنا من هذا الأمر الذي وقعنا فيه إلا قتل هذا الرجل فيشتغل الناس عنا بذلك فراموا الباب فمنعهم الحسن وابن الزبير ومحمد بن طلحة ومروان وسعيد بن العاص ومن معهم من أبناء الصحابة واجتلدوا فزجرهم عثمان وقال أنتم في حل من نصرتي فأبوا ففتح الباب لمنعهم فلما خرج ورآه المصريون رجعوا فركبهم هؤلاء وأقسم عثمان على أصحابه ليدخلن فدخلوا فأغلق الباب دون المصريين، فقام
174

رجل من أسلم يقال له نيار بن عياض وكان من الصحابة فنادى عثمان فبينا هو يناشده أن يعتزلهم إذ رماه كثير بن الصلت الكندي بسهم فقتله.
فقالوا لعثمان عند ذلك ادفع إلينا قاتله لنقتله به قال لم أكن لأقتل رجلا نصرني وأنتم تريدون قتلي فلما رأوا ذلك ثاروا إلى الباب فلم يمنعهم أحد منه والباب مغلق لا يقدرون على الدخول منه فجاؤوا بنار فأحرقوه والسقيفة التي على الباب وثار أهل الدار وعثمان يصلي قد افتتح طه فما شغله ما سمع ما يخطئ وما يتتعتع حتى أتي عليها فلما فرغ جلس إلى المصحف يقرأ فيه وقرأ (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل) فقال لمن عنده بالدار إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عهد عهدا فأنا صابر عليه ولم يحرقوا الباب إلا وهم يطلبون ما هو أعظم منه فأحرج علي رجل أن يستقتل أو يقاتل وقال للحسن إن أباك الآن لفي أمر عظيم من أمرك فأقسمت عليك لما خرجت إليه فتقدموا فقاتلوا ولم يسمعوا قوله فبرز المغيرة بن الأخنس بن شريق وكان قد تعجل من الحج في عصابة لينصروا عثمان وهو معه في الدار وارتجز يقول:
(قد علمت ذات القرون الميل * والحلي والأنامل الطفول)
(لتصدقن بيعتي خليلي * بصارم ذي رونق مصقول)
(لا أستقيل إذا أقلت قيلي)
175

وخرج الحسن بن علي وهو يقول:
(لا دينهم ديني ولا أنا منهم * حتى أسير إلى طمار شمام)
وخرج محمد بن طلحة وهو يقول:
(أنا ابن من حامي عليه بأحد * ورد أحزابا على رغم معد)
وخرج سعيد بن العاص وهو يقول:
(صبرنا غداة الدار والموت واقف * بأسيافنا دون ابن أروي نضارب)
(وكنا غداة الروع في الدار نصرة * نشافههم بالضرب والموت نائب)
وكان آخر من خرج عبد الله بن الزبير فكان يحدث عن عثمان بأخر ما كان عليه وأقبل أبو هريرة والناس محجمون فقال هذا يوم طاب فيه الضرب ونادى يا قوم مالي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار وبرز مروان وهو يقول:
(قد علمت ذات القرون الميل * والكف والأنامل الطفول)
(أني أروع أول الرعيل * بغارة مثل القطا الشليل)
فبرز إليه رجل من بني ليث يدعي البياع فضربه مروان وضرب هو مروان على رقبته فأثبته وقطع أحد علباويه فعاش مروان بعد ذلك أوقص وقام
176

إليه عبيد بن رفاعة الزرقي ليدفف عليه فقامت فاطمة أم إبراهيم بن عدي وكانت أرضعت مروان وأرضعت له فقالت إن كنت تريد قتله فقد قتل وإن كنت تريد أن تلعب بلحمه فهذا قبيح وأدخلته بيتها فعرف لها بنوه ذلك واستعملوا ابنها إبراهيم بعد ونزل إلى المغيرة بن الأخنس بن شريق رجل فقتل المغيرة قال فلما سمع الناس يذكرونه قال إنا لله وإنا إليه لراجعون. فقال له عبد الرحمن بن عديس مالك فقال رأيت فيما يري النائم هاتفا يهتف فقال بشر قاتل المغيرة بن الأخنس بالنار فابتليت به.
واقتحم الناس الدار من الدور التي حولها ودخلوا من دار عمرو بن حزم إلى دار عثمان حتى ملؤها ولا يشعر من بالباب وغلب الناس على عثمان وندبوا رجلا يقتله فانتدب له رجل فدخل عليه البيت فقال اخلعها وندعك فقال ويحك والله ما كشفت امرأة في جاهلية ولا إسلام ولا تغنيت ولا تمنيت ولا وضعت يميني على عورتي منذ بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولست خالعا قميصا كسانيه الله تعالى وأنا على مكاني حتى يكرم الله أهل السعادة ويهين أهل الشقاوة فخرج عنه فقالوا ما صنعت فقال والله لا ينجينا من الناس إلا قتله ولا يحل لنا قتله.
فأدخلوا عليه رجلا من بني ليث فقال ممن الرجل فقال ليثي فقال له لست بصاحبي لأن النبي دعا لك أن تحفظ يوم كذا وكذا ولن تضيع فرجع عنه وفارق القوم ودخل عليه رجل من قريش فقال له إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استغفر لك يوم كذا وكذا فلن تقارف دما حراما فرجع وفارق أصحابه وجاء عبد الله بن سلام ينهاهم عن قتله
177

فقال يا قوم لا تسلوا سيف الله فيكم فوالله إن سللتموه لا تغمدوه ويلكم إن سلطانكم اليوم يقوم بالدرة فإن قتلتموه لا يقوم إلا بالسيف ويلكم إن مدينتكم محفوفة بالملائكة فإن قتلتموه لتتركنها فقالوا يا بن اليهودية ما أنت وهذا فرجع عنهم. وكان آخر من دخل عليه ممن رجع محمد بن أبي بكر فقال له عثمان ويلك أعلي الله تغضب هل لي إليك جرم إلا حقة أخذتها منك؟
فأخذ محمد لحيته وقال قد أخزاك الله يا نعثل فقال لست بنعثل ولكني عثمان وأمير المؤمنين وكانوا يلقبون به عثمان فقال محمد ما أغني عنك معاوية وفلان وفلان فقال عثمان يا بن أخي فما كان أبوك ليقبض عليها فقال محمد لو رآك أبي تعمل هذه الأعمال أنكرها عليك والذي أريد بك أشد من قبضي عليها فقال عثمان أستنصر الله عليك وأستعين به فتركه وخرج.
وقيل بل طعن جبينه بمشقص كان في يده والأول أصح.
قال فلما خرج محمد وعرفوا انكساره ثار قتيرة وسودان بن حمران والغافقي فضربه الغافقي بحديدة معه وضرب المصحف برجله فاستدار المصحف واستقر بين يديه وسالت عليه الدماء وجاء سودان ليضربه فأكبت عليه امرأته واتقت السيف بيدها فنفح أصابعها فأطن أصابع يديها وولت فغمز أوراكها وقال إنها لكبيرة العجز وضرب عثمان فقتله.
وقيل الذي قتله كنانة بن بشر التجيبي وكان عثمان رأى النبي تلك الليلة يقول له إنك تفطر الليلة عندنا فلما قتل سقط
178

من دمه على قوله تعالى (فسيكفيكهم الله). ودخل غلمة لعثمان مع القوم لينصروه وكان عثمان قد أعتق من كف يده منهم فلما ضربه سودان ضرب بعض الغلمان رقبة سودان فقتله ووثب قتيرة على الغلام فقتله وانتهبوا ما في البيت وخرجوا ثم أغلقوه على ثلاثة قتلي فلما خرجوا وثب غلام لعثمان على قتيرة فقتله وثار القوم فأخذوا ما وجدوا حتى أخذوا ما على النساء وأخذ كلثوم التجيبي ملاءة من على نائلة فضربه غلام لعثمان فقتله وتنادوا أدركوا بيت المال ولا تسبقوا إليه فسمع أصحاب بيت المال كلامهم وليس فيه إلا غرارتان فقالوا النجاة فإن القوم إنما يحاولون الدنيا فهربوا وأتوا بيت المال فانتهبوه وماج الناس.
وقيل إنهم ندموا على قتله وأما عمرو بن الحمق فوثب على صدره وبه رمق فطعنه تسع طعنات قال فأما ثلاث منها فإني طعنتهن إياه لله تعالى وأما ست فلما كان في صدري عليه وأرادوا قطع رأسه فوقعت نائلة عليه وأم البنين فصحن وضربن الوجوه فقال ابن عديس اتركوه وأقبل عمير بن ضابيء فوثب عليه فكسر ضلعا من أضلاعه وقال سجنت أبي حتى مات في السجن.
وكان قتله لثماني عشرة خلت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين يوم الجمعة وكانت خلافته اثنتي عشرة سنة إلا أثني عشر يوما وقيل إلا ثمانية أيام وقيل بل كان قتله سنة ست وثلاثين لثماني عشرة خلت من ذي الحجة سنة ست وثلاثين وقيل بل قتل أيام التشريق وكان عمره اثنتين وثمانين سنة وقيل ثمانيا وثمانين سنة وقيل تسعين سنة وقيل خمسا وسبعين سنة وقيل ستا وثمانين سنة.
179

ذكر الموضع الذي دفن فيه ومن صلى عليه
قيل بقي عثمان ثلاثة أيام لا يدفن ثم أن حكيم بن حزام القرشي وجبير بن مطعم كلما عليه في أن يأذن في دفنه ففعل فلما سمع من قصده بذلك قعدوا له في الطريق بالحجارة وخرج به ناس يسير من أهله وغيرهم وفيهم الزبير والحسن وأبو جهم بن حذيفة ومروان بين المغرب والعشاء فأتوا به حائطا من حيطان المدينة يسمي حش كوكب وهو خارج البقيع فصلي عليه جبير بن مطعم وقيل حكيم بن حزام وقيل مروان وجاء ناس من الأنصار ليمنعوا من الصلاة عليه ثم تركوهم خوفا من الفتنة وأرسل علي إلى من أراد أن يرجم سريره ممن جلس على الطريق لما سمع بهم فمنعهم عنه ودفن في حش كوكب فلما ظهر معاوية بن أبي سفيان على الناس أمر بذلك الحائط فهدم وأدخل في البقيع وأمر الناس فدفنوا موتاهم حول قبره حتى اتصل الدفن بمقابر المسلمين وقيل إنما دفن بالبقيع مما يلي حش كوكب وقيل شهد جنازته علي وطلحة وزيد بن ثابت وكعب بن مالك وعامة من ثم من أصحابه قال وقيل لم يغسل وكفن في ثيابه.
ذكر بعض سيرة عثمان
قال الحسن البصري دخلت المسجد فإذا أنا بعثمان متكئا على ردائه فأتاه سقاءان يختصمان إليه فقضي بينهما وقال الشعبي لم يمت عمر بن الخطاب حتى ملته قريش وقد كان حصرهم بالمدينة فامتنع عليهم وقال أخوف ما أخاف على هذه الأمة انتشاركم في البلاد فإن جاء الرجل منهم ليستأذنه في الغزو فيقول: قد
180

كان لك في غزوك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يبلغك وخير لك من غزوك اليوم أن لا تري الدنيا ولا تراك وكان يفعل هذا بالمهاجرين من قريش ولم يكن يفعله بغيرهم من أهل مكة فلما ولي عثمان خلي عنهم فانتشروا في البلاد وانقطع إليهم الناس وكان أحب إليهم من عمر قيل وحج عثمان بالناس سنوات خلافته كلها وحج بأزواج النبي كما كان يصنع عمر وكتب إلى الأمصار أن يوافيه العمال في الموسم ومن يشكو منهم وأن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر وأنه مع الضعيف على القوي ما دام مظلوما.
وقيل: كان أول منكر ظهر بالمدينة حين فاضت الدنيا طيران الحمام والرمي على الجلاهقات وهي قوس البندق واستعمل عليها عثمان رجلا من بني ليث سنة ثمان من خلافته فقص الطيور وكسر الجلاهقات.
قيل وسأل رجل سعيد بن المسيب عن محمد بن أبي حذيفة ما دعاه إلى الخروج على عثمان فقال كان يتيما في حجر عثمان وكان والي أيتام أهل بيته ومحتملا كلهم فسأل عثمان العمل فقال يا بني لو كنت رضا لاستعملتك قال فاذن لي فأخرج فأطلب الرزق قال اذهب حيث شئت وجهزه من عنده وحمله وأعطاه فلما وقع إلى مصر كان فيمن أعان عليه حيث منعه الإمارة قيل وعمار بن ياسر كان بينه وبين عباس بن عتبة بن أبي لهب كلام فضربهما عثمان فأورث ذلك تعاديا بين أهل عمار وأهل عباس وكان تقاذفا.
قيل سئل سالم بن عبد الله عن محمد بن أبي بكر ما دعاه إلى ركوب عثمان قال الغضب والطمع كان من الإسلام بمكان فغره أقوام فطمع وكانت له دالة فلزمه حق فأخذه عثمان من ظهره فاجتمع هذا إلى ذلك فصار مذمما
181

بعد أن كان محمدا قيل واستخف رجل بالعباس بن عبد المطلب فضربه عثمان فاستحسن منه ذلك وقال أيفخم رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه وأرخص في الاستخفاف به لقد خالف رسول الله صلى الله عليه وسلم من فعل ذلك ورضي به قيل وكان كعب بن ذي الحبكة النهدي يلعب بالنارنجيات فبلغ عثمان فكتب إلى الوليد أن يوجعه ضربا فعزره وأخبر الناس خبره وقرأ عليهم كتاب عثمان وفيه إنه قد جد بكم فجدوا وإياكم والهزل فغضب كعب وكان في الذين خرجوا عليه وكان سيره إلى دنباوند فقال في ذلك للوليد:
(لعمري لئن طردتني ما إلى التي * طمعت بها من سقطتي لسبيل)
(رجوت رجوعي يا ابن أروي ورجعتي * إلى الحق دهرا غال ذلك غول)
(فإن اغترابي في البلاد وجفوتي * وشتمي في ذات الإله قليل)
وإن دعائي كل يوم وليلة * عليك بدنباوندكم لطويل)
قال وأما ضابئ بن الحارث البرجمي فإنه استعار في زمن الوليد بن عقبة من قوم من الأنصار كلبا يدعي قرحان يصيد الضباء فحبسه عنهم فانتزعه الأنصاريون منه قهرا فهجاهم وقال:
(تجشم دوني وفد فرحان خطة * تضل لها الوجناء وهي حسير)
182

(فباتوا شباعا طامعين كأنما * حباهم بيت المرزبان أمير)
(فكلبكم لا تتركوا فهو أمكم * فإن عقوق الأمهات كبير)
فاستعدوا عليه عثمان فعزره وحبسه فما زال في السجن حتى مات فيه وقال في الفتك معتذرا إلى أصحابه:
(هممت ولم أفعل وكدت وليتني * تركت على عثمان تبكي حلائله)
(وقائلة قد مات في السجن ضابئ * ألا من لخصم لم يجد من يحاوله)
فلذلك صار ابنه عمير سبئيا قال وأما كميل بن زياد وعمير بن ضابئ فإنهما سارا إلى المدينة لقتل عثمان فأما عمير فإنه نكل عنه وأما كميل فإنه جسر وثاوره فوجأ عثمان وجهه فوقع على استه فقال أوجعتني يا أمير المؤمنين قال أولست بفاتك قال لا والله فقال عثمان فاستقد مني فقال عثمان ودونك فعفا عنه وبقيا إلى أيام الحجاج فقتلهما وسيرد ذكر ذلك إن شاء الله تعالى.
قيل: وكان لعثمان على طلحة بن عبيد الله خمسون ألفا فقال له يوما قد تهيأ مالك فاقبضه قال هو لك معونة على مروءتك قيل فلما حصر عثمان قال علي لطلحة أنشدك الله إلا رددت الناس عن عثمان قال لا والله حتى تعطيني بنو أمية الحق من أنفسها.
183

وكان عثمان يلقب بذي النورين لأنه جمع بين ابنتي النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الأصمعي: استعمل عبد الله بن عامر قطن بن عبد عوف على كرمان فأقبل جيش للمسلمين فمنعهم سيل في واد من العبور وخشي قطن الفوات فقال من عبر له ألف درهم فحملوا أنفسهم وعبروا وكانوا أربعة آلاف فأعطاهم أربعة آلاف درهم فأبي ابن عامر أن يجري ذلك وكتب إلى عثمان فكتب عثمان أن أحسبها له فإنه إنما أعان في سبيل الله فلذلك سميت الجوائز لإجازة الوادي.
وقال حسان بن زيد سمعت عليا وهو يخطب الناس ويقول بأعلى صوته يا أيها الناس أنكم تكثرون في وفي عثمان فإن مثلي ومثله كما قال الله تعالى (ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين) وقال أبو حميد الساعدي وهو بدري وكان مجانبا لعثمان فلما قتل عثمان قال والله ما أردنا قتله اللهم لك علي أن لا أفعل كذا وكذا ولا أضحك حتى ألقاك.
ذكر نسبه وصفته وكنيته
أما نسبه فهو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف وأمه أروي بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف وأمها أم حكيم بنت عبد المطلب.
وأما صفته فإنه كان رجلا ليس بالطويل ولا بالقصير حسن الوجه،
184

رقيق البشرة بوجهه أثر جدري كبير اللحية عظيمها أسمر اللون أصلع عظيم الكراديس عظيم ما بين المنكبين يصفر لحيته وقيل كان كثير شعر الرأس أروح الرجلين.
وأما كنيته فإنه كان يكني أبا عبد الله بولد جائه من رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه عبد الله توفي وعمره ست سنين نقره ديك في عينه فمرض فمات في جمادى الأولي سنة أربع من الهجرة وقيل كان يكني أبا عمرو.
ذكر وقت إسلامه وهجرته
ذكر أزواجه وأولاده
تزوج رقية وأم كلثوم ابنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فولدت له رقية عبد الله وتزوج فاختة بنت غزوان فولدت له عبد الله الأصغر هلك وتزوج أم عمرو بنت جندب بن عمرو بن حممة الدوسية ولدت له
185

عمرا وخالدا وأبانا وعمر ومريم وتزوج فاطمة بنت الوليد بن المغيرة المخزومية ولدت له الوليد وسعيدا وأم سعيد وتزوج أم البنين بنت عيينة بن حصن الفزارية ولدت له عبد الملك هلك وتزوج رملة بنت شيبة بن ربيعة ولدت له عائشة وأم أبان وأم عمرو وتزوج نائلة بنت الفرافصة الكلبية ولدت له مريم بنت عثمان وقيل ولدت له أم البنين بنت عيينة عبد الملك وعتبة وولدت له نائلة عنبسة وكان له منها ابنه تدعي أم البنين وكانت عند عبد الله بن يزيد بن أبي سفيان وقتل عثمان وعنده رملة بنت شيبة ونائلة وأم البنين ابنة عيينة وفاختة بنت غزوان غير أنه طلق أم البنين وهو محصور.
فهؤلاء أزواجه في الجاهلية والإسلام وأولاده.
ذكر أسماء عماله في هذه السنة
كان عماله في هذه السنة على مكة: عبد الله بن الحضرمي وعلي الطائف القاسم بن ربيعة الثقفي وعلي صنعاء يعلي بن منية وعلي الجند عبد الله بن ربيعة وعلي البصرة عبد الله بن عامر خرج منها ولم يول عثمان عليها أحدا وعلي الشام معاوية بن أبي سفيان وعامل معاوية على حمص عبد الرحمن بن خالد بن الوليد وعلي قنسرين حبيب بن مسلمة الفهري وعلي الأردن أبو الأعور السلمي وعلي فلسطين علقمة بن حكيم الكناني وعلي البحر عبد الله بن قيس الفزاري وعلي القضاء أبو الدرداء في قول بعضهم والصحيح أنه كان قد توفي قبل قتل عثمان وكان عامل عثمان على الكوفة أبو موسى على الصلاة وعلي خراج السواد جابر بن فلان المزني وهو صاحب المسناة إلى جانب الكوفة وسماك الأنصاري وعلي حربها القعقاع بن عمرو وعلي قرقيسيا جرير بن عبد الله وعلي أذربيجان الأشعث بن قيس الكندي وعلي حلوان عتيبة بن
186

النهاس وعلي ماه مالك بن حبيب وعلي همذان النسير وعلى الري سعد بن قيس وعلي أصبهان السائب بن الأقرع وعلى ماسبذان حبيش وعلي بيت المال عقبة بن عامر وكان على قضاء عثمان زيد بن ثابت.
(عتبة بن النهاس بالتاء فوقها نقطتان وبعدها ياء تحتها نقطتان وآخره باء موحدة عيينة بن حصن بالياء تحتها نقطتان وياء ثانية وآخره نون تصغير عين والنسير بالنون والسين المهملة تصغير نسر).
ذكر الخبر عمن كان يصلي في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، حين حصر عثمان
قيل وجاء ذلك اليوم الذي منع فيه عثمان الصلاة سعد القرظ وهو المؤذن إلى علي بن أبي طالب فقال من يصلي بالناس فقال ادع خالد بن زيد فدعاه يصلي بالناس فهو أول يوم عرف أن اسم أبي أيوب الأنصاري خالد بن زيد فصلي أياما ثم صلى بعد ذلك بالناس وقيل بل أمر على سهل بن حنيف فصلي بالناس من أول ذي الحجة إلى يوم العيد ثم صلى علي بالناس العيد ثم صلى بهم حتى قتل عثمان وقد تقدم غير ذلك في ذكر قتله.
187

ذكر ما قيل فيه من الشعر
قال حسان بن ثابت الأنصاري:
(أتركتم غزو الدروب وراءكم * وغزوتمونا عند قبر محمد)
(فلبئس هدي المسلمين هديتم * ولبئس أمر الفاجر المتعمد)
(إن تقدموا نجعل قرى سرواتكم * حول المدينة كل لين مذود)
(أو تدبروا فلبئس ما سافرتم * ولمثل أمر أميركم لم يرشد)
(وكأن أصحاب النبي عشية * بدن تذبح عند باب المسجد)
(أبكي أبا عمرو لحسن بلائه * أمسي ضجيعا في بقيع الغرقد)
وقال أيضا:
(إن تمس دار ابن أروي اليوم خاوية * باب صريع وباب محرق خرب)
(فقد يصادف باغي الخير حاجته * فيها ويهوي إليها الذكر والحسب)
(يا أيها الناس أبدوا ذات أنفسكم * لا يستوي الصدق عند الله والكذب)
(قوموا بحق مليك الناس تعترفوا * بغارة عصب من خلفها عصب)
(فيهم حبيب شهاب الموت يقدمهم * مستلئما قد بدا في وجهه الغضب)
وقال أيضا:
(من سره الموت صرفا لا مزاج له * فليأت مأسدة في دار عثمانا)
188

(مستشعري حلق الماذي قد شفعت * قبل المخاطم بيض زان أبدانا)
(صبرا فدي لكم أمي وما ولدت * قد ينفع الصبر في المكروه أحيانا)
(لقد رضينا بأهل الشام نافرة * وبالأمير وبالإخوان إخوانا)
(إني لمنهم وإن غابوا وإن شهدوا * ما دمت حيا وما سميت حسانا)
(لتسمعن وشيكا في ديارهم * الله أكبر يا ثارات عثمانا)
(ضحوا بأشمط عنوان السجود به * يقطع الليل تسبيحا وقرآنا)
وقال أبو عمر بن عبد البر وقد ذكر بعض هذه الأبيات وقد زاد فيها أهل الشام ولم أر لذكره وجها يعني ما فيها من ذكر علي وهو:
(يا ليت شعري وليت الطير تخبرني * ما كان بين علي وابن عفانا)
وقال الوليد بن عقبة بن أبي معيط يحرض أخاه عمارة:
(ألا إن خير الناس بعد ثلاثة * قتيل التجيبي الذي جاء من مصر)
(فإن يك ظني بابن أمي صادقا * عمارة لا يطلب بذحل ولا وتر)
(يبيت أوتار ابن عفان عنده * مخيمة بين الخورنق والقصر)
فأجابه الفضل بن العباس:
(أتطلب ثأرا لست منه ولا له * وأين ابن ذكوان الصفوري من عمرو)
(كما اتصلت بنت الحمار بأمها * وتنسي أباها إذ تسامي أولي الفخر)
(ألا أن خير الناس بعد ثلاثة * وصي النبي المصطفى عند ذي الذكر)
189

(وأول من صلى وصنو نبيه * وأول من أردى الغواة لدى بدر)
(فلو رأت الأنصار ظلم ابن أمكم * بزعمكم كانوا له حاضري النصر)
(كفي ذاك عيبا أن يشيروا بقتله * وأن يسلموه للأحابيش من مصر)
قوله وأين ابن ذكوان فإن الوليد بن عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو اسمه ذكوان بن أمية بن عبد شمس ويذكر جماعة من النسابين أن ذكوان مولي لأمية فتبناه وكناه أبا عمرو ويعني أنك مولي لست من بني أمية حتى تكون ممن يطلب بثأر عثمان وقال بعضهم من الشعراء أيضا غيرهم بعد مقتله فمن بين مادح وهاج ومن ناع وباك ومن سار فرح فممن مدحه حسان كما تقدم وكعب بن مالك في آخرين غيرهم كذلك.
ذكر بيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
وفي هذه السنة بويع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وقد اختلفوا في كيفية بيعته فقيل إنه لما قتل عثمان اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار وفيهم طلحة والزبير فأتوا عليا فقالوا له إنه لا بد للناس من إمام قال لا حاجة لي في أمركم فمن اخترتم رضيت به. فقالوا ما نختار غيرك وترددوا إليه مرارا وقالوا له في آخر ذلك إننا لا نعلم أحدا أحق به منك ولا أقدم سابقة ولا أقرب قرابة من رسول الله صلى
190

الله عليه وسلم. فقال لا تفعلوا فإني أكون وزيرا خيرا من أن أكون أميرا. فقالوا والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك قال ففي المسجد فإن بيعتي لا تكون خفية ولا تكون إلا في المسجد وكان في بيته وقيل في حائط لبني عمرو بن مبذول فخرج وعليه إزار وطاق وعمامة خز ونعلاه في يده متوكئا على قوس فبايعه الناس وكان أول من بايعه من الناس طلحة بن عبيد الله فنظر إليه حبيب بن ذؤيب فقال إنا لله أول من بدأ بالبيعة يد له شلاء لا يتم هذا الأمر وبايعه الزبير وقال لهما علي إن أحببتما أن تبايعاني وإن أحببتما بايعتكما فقالا بل نبايعك وقالا بعد ذلك إنما فعلنا ذلك خشية علي على نفوسنا وعرفنا أنه لا يبايعنا وهربا إلى مكة بعد قتل عثمان بأربعة أشهر. وبايعه الناس وجاؤوا بسعد بن أبي وقاص فقال علي بايع فقال حتى يبايع الناس والله ما عليك مني بأس فقال خلوا سبيله. وجاؤوا بابن عمر فقالوا بايع قال لا حتى يبايع الناس قال ائتني بكفيل قال لا أرى كفيلا قال الأشتر دعني أضرب عنقه قال علي دعوه أنا كفيله إنك ما علمت لسئ الخلق صغيرا وكبيرا.
وبايعت الأنصار إلا نضرا يسيرا منهم حسان بن ثابت وكعب بن مالك ومسلمة بن مخلد وأبو سعيد الخدري ومحمد بن مسلمة والنعمان بن بشير وزيد بن ثابت ورافع بن خديج وفضالة بن عبيد وكعب بن عجرة وكانوا عثمانية فأما حسان فكان شاعرا لا يبالي ما يصنع وأما زيد بن ثابت فولاه عثمان الديوان وبيت المال فلما حصر عثمان قال يا معشر الأنصار كونوا أنصار الله مرتين فقال له أبو أيوب ما تنصره إلا لأنه أكثر لك من العبدان. وأما كعب بن مالك فاستعمله علي صدقة مزينة وترك له ما أخذ منهم ولم يبايعه عبد الله بن سلام وصهيب بن سنان وسلمة بن سلامة
191

ابن وقش وأسامة بن زيد وقدامة بن مظعون والمغيرة بن شعبة.
فأما النعمان بن بشير فإنه أخذ أصابع نائلة امرأة عثمان التي قطعت وقميص عثمان الذي قتل فيه وهرب به فلحق بالشام فكان معاوية يعلق قميص عثمان وفيه الأصابع فإذا رأى ذلك أهل الشام ازدادوا غيظا وجدا في أمرهم ثم رفعه فإذا أحس بفتور يقول له عمرو بن العاص حرك لها حوارها تحن، فيعلقها.
وقد قيل إن طلحة بن الزبير إنما بايعا عليا كرها وقيل لم يبايعه الزبير ولا صهيب ولا سلمة بن سلامة بن وقش وأسامة بن زيد.
فأما علي قول من قال أن طلحة والزبير بايعا كرها فقال إن عثمان لما قتل بقيت المدينة خمسة أيام وأميرها الغافقي بن حرب يلتمسون من يجيبهم إلى القيام بالأمر فلا يجدونه ووجدوا طلحة في حائط له ووجدوا سعدا والزبير قد خرجا من المدينة ووجدوا بني أمية قد هربوا إلا من لم يطق الهرب وهرب سعيد والوليد ومروان إلى مكة وتبعهم غيرهم. فأتي المصريون عليا فباعدهم وأتى الكوفيون لزبير فباعدهم وأتى المصريون طلحة فباعدهم وكانوا مجتمعين على قتل عثمان مختلفين فيمن يلي لخلافة فأرسلوا إلى سعد يطلبونه فقال إني وابن عمر لا حاجة لنا فيها فأتوا ابن عمر فلم يجبهم فبقوا حيارى قال بعضهم لبعض لئن رجع الناس إلى أمصارهم بغير إمام لم نأمن الاختلاف وفساد الأمة فجمعوا أهل المدينة فقالوا لهم يا أهل المدينة أنتم أهل الشورى وأنتم تعقدون الإمامة وحكمكم جائز على الأمة فانظروا رجلا تنصبونه ونحن لكم تبع وقد أجلناكم يومكم فوالله لئن لم تفرغوا لنقتلن غدا عليا وطلحة والزبير وأناسا كثيرا فغشي الناس عليا فقالوا:
192

نبايعك فقد تري ما نزل بالإسلام وما ابتلينا به من بين القرى. فقال علي دعوني والتمسوا غيري فإنا مستقبلون أمرا له وجوه وله ألوان لا تقوم به القلوب ولا تثبت عليه العقول فقالوا: ننشدك الله ألا تري ما نحن فيه ألا تري الإسلام ألا تري الفتنة ألا تخاف الله فقال قد أجبتكم وأعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم وإن تركتموني فإنما أنا كأحدكم إلا أني من أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه ثم افترقوا على ذلك واتعدوا الغد.
وتشاور الناس فيما بينهم وقالوا إن دخل طلحة والزبير فقد استقامت فبعث البصريون إلى الزبير حكيم بن جبلة وقالوا احذر لا تحابه ومعه نفر فجاؤوا به يحدونه بالسيف فبايع وبعثوا إلى طلحة الأشتر ومعه نفر فأتي طلحة فقال دعني أنظر ما يصنع الناس فلم يدعه فجاء به يتله تلا عنيفا وصعد المنبر فبايع وكان الزبير يقول جاءني لص من لصوص عبد القيس فبايعت والسيف على عنقي وأهل مصر فرحون فلما اجتمع عليه أهل المدينة وقد خشع أهل الكوفة والبصرة أن كانوا اتباعا لأهل مصر وازدادوا بذلك علي طلحة والزبير غيظا.
ولما أصبحوا يوم البيعة وهو يوم الجمعة حضر الناس المسجد وجاء علي فصعد المنبر وقال أيها الناس عن ملأ وإذن إن هذا أمركم ليس لأحد فيه حق إلا من أمرتم وقد افترقنا بالأمس على أمر وكنت كارها لأمركم فأبيتم إلا أن أكون عليكم ألا وإنه ليس لي دونكم إلا مفاتيح مالكم معي وليس
193

لي أن آخذ درهما دونكم فإن شئتم قعدت لكم وإلا فلا آخذ على أحد. فقالوا نحن على ما فارقناك عليه بالأمس فقال اللهم أشهد.
ولما جاؤوا بطلحة ليبايع فقال إنما أبايع كرها فبايع وكان به شلل فقال رجل يعتاف إنا لله وإنا إليه راجعون أول يد بايعت يد شلاء لا يتم هذا الأمر. ثم جيء بالزبير فقال مثل ذلك وبايع وفي الزبير اختلاف ثم جيء بعده بقوم كانوا قد تخلفوا فقالوا نبايع على إقامة كتاب الله في القريب والبعيد والعزيز والذليل فبايعهم ثم قام العامة فبايعوا وصار الأمر أمر أهل المدينة وكأنهم كما كانوا فيه وتفرقوا إلى منازلهم.
وبويع يوم الجمعة لخمس بقين من ذي الحجة والناس يحسبون بيعته من [يوم] قتل عثمان.
وأول خطبة خطبها على حين استخلف حمد الله وأثني عليه ثم قال إن الله أنزل كتابا هاديا يبين فيه الخير والشر فخذوا بالخير ودعوا الشر الفرائض أدوها إلى الله تعالى يؤدكم إلى الجنة إن الله حرم حرمات غير مجهولة وفضل حرمة المسلم على الحرم كلها وشد بالإخلاص والتوحيد حقوق المسلمين فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده إلا بالحق لا يحل دم امرئ مسلم إلا بما يجب بادروا أمر العامة وخاصة أحدكم الموت فإن الناس أمامكم وإن ما [من] خلفكم الساعة تحدوكم فخففوا تلحقوا فإنما ينتظر بالناس أخراهم اتقوا الله عباد الله في بلاده
وعباده إنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم أطيعوا الله عز وجل فلا تعصوه وإذا رأيتم الخير فخذوا به وإذا
194

رأيتم الشر فدعوه، (واذكروا إذا أنتم قليل مستضعفون في الأرض). ولما فرغ من الخطبة وهو على المنبر قالت السبئية:
(خذها إليك واحذرن أبا حسن * إنا نمر الأمر إمرار الرسن)
(صولة أقوام كأشداد السفن * بمشرفيات كغدران اللبن)
(ونطعن الملك بلين كالشطن * حتى يمرن على غير عنن)
فقال علي:
(إني عجزت عجزة لا أعتذر * سوف أكيس بعدها وأستمر)
(أرفع من ذيلي ما كنت أجر * وأجمع الأمر الشتيت المنتشر)
(إن لم يشاغبني العجول المنتصر * أن تتركوني والسلاح يبتدر)
ورجع علي إلى بيته فدخل عليه طلحة والزبير في عدد من الصحابة فقالوا يا علي إنا قد اشترطنا إقامة الحدود وإن هؤلاء القوم قد اشتركوا في قتل هذا الرجل وأحلوا بأنفسهم. فقال يا أخوتاه إني لست أجهل ما تعلمون ولكن كيف أصنع بقوم يملكوننا ولا نملكهم ها هم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم وثابت إليهم أعرابكم وهم خلاطكم يسومونكم ما شاؤوا فهل ترون موضعا لقدرة على شيء مما تريدون قالوا لا. قال فلا والله أرى إلا رأيا ترونه أبدا إلا أن يشاء الله إن هذا الأمر أمر جاهلية وإن لهؤلاء القوم مادة وذلك أن الشيطان لم يشرع شريعة قط فيبرح الأرض [من] آخذ بها أبدا إن الناس
195

من هذا الأمر إن حرك على أمور فرقة تري ما ترون وفرقة تري ما لا ترون وفرقة لا تري هذا ولا هذا حتى يهدأ الناس وتقع القلوب مواقعها وتؤخذ الحقوق فاهدأوا عني وانظروا ماذا يأتيكم ثم عودوا. واشتد على قريش وحال بينهم وبين الخروج وتركها على حالها وإنما هيجه على ذلك هرب بني أمية وتفرق القوم فبعضهم يقول ما قال علي وبعضهم يقول نقضي الذي علينا ولا نؤخره والله أن عليا لمستغن برأيه وليكونن أشد على قريش من غيره.
فسمع ذلك بخطبهم وذكر فضلهم وحاجته إليهم ونظره لهم وقيامه دونهم وأنه ليس له من سلطانهم إلا ذاك والأجر من الله عليه ونادى برئت الذمة من عبد لا يرجع إلى مولاه فتذامرت السبئية والأعراب وقالوا لنا إذا مثلها ولا نستطيع نحتج فيهم بشئ وقال أيها الناس أخرجوا عنكم الأعراب فليلحقوا بمياههم فأبت السبئية وأطاعهم الأعراب فدخل على بيته ودخل عليه طلحة والزبير وعدة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال دونكم ثأركم فاقتلوه فقالوا عتوا عن ذلك فقال هم والله بعد اليوم أعتى وقال:
(ولو أن قومي طاوعتني سراتهم * امرتهم أمرا يديخ الأعاديا)
وقال طلحة دعني آتي البصرة فلا يفجؤك إلا وأنا في خيل وقال الزبير دعني آتي الكوفة فلا يفجؤك إلا وأنا في خيل فقال حتى أنظر في ذلك.
196

قيل وقال ابن عباس أتيت عليا بعد قتل عثمان عند عودي من مكة فوجدت المغيرة بن شعبة مستخليا به فخرج من عنده فقلت له ما قال لك هذا.
فقال قال لي قبل مرته هذه إن لك حق الطاعة والنصيحة وإن الرأي اليوم تحرز به ما في غد وإن الضياع اليوم يضيع به ما في غد أقرر معاوية وابن عامر وعمال عثمان على أعمالهم حتى تأتيك بيعتهم ويسكن الناس ثم اعزل من شئت فأبيت عليه ذلك وقلت لا أداهن في ديني ولا أعطي في الدنية أمري قال فإن كنت أبيت علي فانزع من شئت واترك معاوية فإن في معاوية جرأة وهو في أهل الشام يستمع منه ولك حجة في إثباته كان عمر بن الخطاب قد ولاه الشام. فقلت لا والله لا أستعمل معاوية يومين ثم انصرف من عندي وأنا أعرف فيه أنه يود أني مخطئ ثم عاد إلى الآن فقال إني أشرت عليك أول مرة بالذي أشرت خالفتني فيه ثم رأيت بعد ذلك أن تصنع الذي رأيت فتعزلهم وتستعين بمن تثق به فقد كفي الله وهو أهون شوكة مما كان قال ابن عباس فقلت لعلي أما المرة الأولي فقد نصحك وأما المرة الثانية فقد غشك قال ولم نصحني؟ قلت لأن معاوية وأصحابه أهل دنيا فمتي ثبتهم لا يبالون من ولي هذا الأمر ومتي تعزلهم يقولون أخذ هذا الأمر بغير شوري وهو قتل صاحبنا ويؤلبون عليك فتنتقض عليك الشام وأهل العراق مع أني لا آمن طلحة والزبير أن يكرا عليك وأنا أشير عليك أن تثبت معاوية فإن بايع لك فعلي أن أقلعه من منزله وقال علي والله لا أعطيه إلا السيف ثم تمثل:
(وما ميتة أن متها غير عاجز * بعار إذا ما غالت النفس غولها)
197

فقلت يا أمير المؤمنين أنت رجل شجاع لست صاحب رأي في الحرب أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الحرب خدعة فقال بلي فقلت أما والله لئن أطعتني لأصدرنهم بعد ورد ولأتركنهم ينظرون في دبر الأمور لا يعرفون ما كان وجهها في غير نقصان عليك ولا إثم لك فقال يا بن عباس لست من هناتك ولا من هنات معاوية في شيء. قال ابن عباس فقلت له أطعني والحق بمالك بينبع وأغلق بابك عليك فإن العرب تجول جولة وتضطرب ولا تجد غيرك فإنك والله لئن نهضت مع هؤلاء اليوم ليحملنك الناس دم عثمان غدا. فأبي علي فقال تشير علي وأرى فإذا عصيتك فأطعني قال فقلت أفعل إن أيسر مالك عندي الطاعة فقال له علي تسير إلى الشام فقد وليتكها. فقال ابن عباس ما هذا برأي معاوية رجل من بني أمية وهو ابن عم عثمان وعامله ولست آمن أن يضرب عنقي بعثمان وإن أدني ما هو صانع أن يحبسني فيتحكم علي لقرابتي منك وإن كل ما حمل عليك حمل علي ولكن أكتب إلى معاوية فمنه وعده فقال لا والله لا كان هذا أبدا!
وكان المغيرة يقول نصحته فلما لم يقبل غششته وخرج فلحق بمكة.
198

ذكر عدة حوادث
وفي هذه السنة، أعني سنة خمس وثلاثين سار قسطنطين بن هرقل في ألف مركب يريد أرض المسلمين قبل قتل عثمان فسلط الله عليهم ريحا عاصفا فغرقهم ونجا قسطنطين فأتي صقلية فصنعوا له حماما فقتلوه فيه وقالوا قتلت رجالنا. هكذا قال أبو جعفر.
وهذا قسطنطين هو الذي هزمه المسلمون في غزوة الصواري سنة إحدى وثلاثين وقتله أهل صقلية في الحمام وإن كانوا قد اختلفوا في السنة التي كانت الوقعة فيها فلولا قوله إن المراكب غرقت لكانت هذه الحادثة هي تلك فإنها في قول بعضهم كانت خمس وثلاثين.
وفي خلافة عثمان مات أوس بن خولي الأنصاري وفي خلافة عثمان أيضا مات الجلاس بن سويد الأنصاري وكان من المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسنت توبته؛ وفيها مات الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب وهو الملقب ببه وفي آخرها مات الحكم بن أبي العاص وهو والد مروان وعم عثمان وفيها مات حبان بن منقذ الأنصاري وهو والد يحيى بن حبان بفتح الحاء المهملة وبالباء الموحدة وفيها مات عبد الله بن قيس بن خالد الأنصاري وقيل بل قتل بأحد شهيدا؛ وفي خلافته مات قطبة بن عامر الأنصاري وهو عقبي بدري وفي خلافته مات زيد بن خارجة بن زيد الأنصاري وهو الذي تكلم بعد موته؛ وفيها قتل معبد بن العباس بن عبد المطلب بإفريقية في آخر خلافة عثمان؛ وفيها مات معيقيب بن أبي فاطمة وكان من مهاجرة الحبشة وكان علي خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم
199

وقيل بل مات سنة أربعين في خلافة علي وفيها مات مطيع بن الأسود العدوي وكان إسلامه يوم الفتح؛ وفي خلافته مات نعيم بن مسعود الأشجعي وقيل بل قتل في وقعة الجمل مع مجاشع بن مسعود وفي خلافته مات عبد الله بن حذافة السهمي وهو بدري وكان فيه دعابة؛ وفيها مات عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي والد عمر الشاعر وكان قد جاء من اليمن لينصر عثمان لما حصر فسقط عن راحلته فمات؛ وأبو رافع مولي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل مات في خلافة علي وهو أصح وفي خلافته توفي أبو سبرة بن أبي رهم العامري من عامر بن لؤي وهو بدري؛ وفيها مات هاشم بن عتبة بن ربيعة خال معاوية أسلم يوم الفتح وكان صالحا وفيها مات أبو الدرداء وقيل عاش بعده والأول أصح.
200

36
ثم دخلت سنة ست وثلاثين
ذكر تفريق علي عماله وخلاف معاوية
وفي هذه السنة فرق علي عماله على الأمصار فبعث عثمان بن حنيف على البصرة وعمارة بن شهاب على الكوفة وكان له هجرة وعبيد الله بن عباس على اليمن وقيس بن سعد على اليمن وسهل بن حنيف على الشام.
فأما سهل فإنه خرج حتى إذا كان بتبوك لقيته خيل فقالوا من أنت قال أمير. قالوا على أي شيء قال على الشام قالوا إذا كلن بعثك عثمان فحيهلا بك وإن كان بعثك غيره فارجع قال أو ما سمعتم بالذي كان قالوا بلي فرجع إلى علي. وأما قيس بن سعد فإنه لما انتهي إلى أيلة لقيته خيل فقالوا له من أنت؟ قال من فالة عثمان فأنا أطلب من آوي إليه فأنتصر به لله قالوا من أنت؟ قال قيس بن سعد قالوا امض. فمضي حتى دخل مصر فافترق أهل مصر فرقا فرقة دخلت في الجماعة فكانوا معه وفرقة اعتزلت بخرنبا وقالوا إن قتل قتلة عثمان فنحن معكم وإلا فنحن على جديلتنا حتى نحرك أو نصيب حاجتنا وفرقة قالوا نحن مع علي ما لم يقد من إخواننا وهم في ذلك مع الجماعة وكتب قيس إلى علي بذلك.
وأما عثمان بن حنيف فسار ولم يرده أحد عن دخول البصرة ولم يجد لابن عامر
201

في ذلك رأيا ولا استقلالا بحرب، وافترق الناس بها فاتبعت فرقة القوم ودخلت فرقة في الجماعة وقالت فرقة ننظر ما يصنع أهل المدينة فنصنع كما صنعوا وأما عمارة بن شهاب فلما بلغ زبالة لقيه طليحة بن خويلد وكان خرج يطلب بثأر عثمان وهو يقول لهفي على أمر لم يسبقني ولم أدركه وكان خروجه عند عود القعقاع من إغاثة عثمان فلما لقي عمارة قال له ارجع فإن القوم لا يريدون بأميرهم بدلا فإن أبيت ضربت عنقك فرجع عمارة إلى علي بالخبر. وانطلق عبيد الله بن عباس إلى اليمن فجمع يعلي بن منية كل شيء من الجباية وخرج به إلى مكة فقدمها بالمال ودخل عبيد الله اليمن.
ولما رجع سهل بن حنيف من الشام وأتت عليا الأخبار دعا طلحة والزبير فقال إن الأمر الذي كنت أحذركم قد وقع وإن الذي وقع لا يدرك إلا بإماتته وإنها فتنة كالنار كلما سعرت ازدادت واستشارت. فقالا له ائذن لنا نخرج من المدينة فإما إن نكاثر وإما أن تدعنا فقال سأمسك الأمر ما استمسك فإذا لم أجد بدا فآخر الداء الكي.
وكتب إلى معاوية وإلي أبي موسى فكتب إليه أبو موسى بطاعة أهل الكوفة وبيعتهم وبين الكاره منهم للذي كان والراضي ومن بين ذلك حتى كان علي كأنه يشاهدهم وكان رسول علي إلى أبى موسى معبدا الأسلمي وكان رسوله إلى معاوية سبرة الجهني فقدم عليه فلم يجبه معاوية بشيء كلما تنجز جوابه لم يزد على قوله:
(أدم إدامة حصن أو خذ بيدي * حربا ضروسا تشب الجزل والضرما)
202

(في جاركم وابنكم إذ كان مقتله * شنعاء شيبت الأصداغ واللمما)
(أعيا المسود بها والسيدون فلم * يوجد لنا غيرنا مولي ولا حكما)
حتى إذا كان الشهر الثالث من مقتل عثمان في صفر دعي معاوية رجلا من بني عبس يدعي قبيصة فدفع إليه طومارا مختوما عنوانه من معاوية إلى علي وقال له إذا دخلت المدينة فاقبض على أسفل الطومار ثم أوصاه بما يقول وأعاد رسول علي معه فخرجا فقدما المدينة في ربيع الأول بغرته فدخلها العبسي كما أمره قد رفع الطومار فتبعه الناس ينظرون إليه وعلموا أن معاوية معترض ودخل الرسول على علي فدفع إليه الطومار ففض ختمه فلم يجد فيه كتابا فقال للرسول ما وراءك قال آمن أنا قال نعم إن الرسول لا يقتل. قال ورائي أني تركت قوما لا يرضون إلا بالقود قال ممن قال من خيط رقبتك وتركت ستين ألف شيخ تبكي تحت قميص عثمان وهو منصوب لهم قد ألبسوه منبر دمشق قال أمني يطلبون دم عثمان ألست موتورا كترة عثمان اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان نجا والله قتلة عمان إلا أن يشاء الله فإنه إذا أراد أمرا أصابه أخرج قال وإني آمن قال وأنت آمن.
فخرج العبسي وصاحت السبئية وقالت هذا الكلب رسول الكلاب اقتلوه! فنادى يا آل مضر يا آل قيس الخيل والنبل أقسم بالله ليردنها عليكم أربعة آلاف خصي فانظروا كم الفحول والركاب! وتعاونوا عليه فمنعته مضر فجعلوا يقولون له اسكت فيقول لا والله لا يفلح هؤلاء أبدا أتاهم ما يوعدون لقد حل بهم ما يجدون انتهت
203

والله أعمالهم وذهبت ريحهم فوالله ما أمسوا حتى عرف الذل فيهم.
وأحب أهل المدينة أن يعلموا رأي علي في معاوية وقتاله أهل القبلة أيجسر عليه أم ينكل عنه وقد بلغهم أن ابنه الحسن دعاه إلى القعود وترك الناس فدسوا زياد بن حنظلة التميمي وكان منقطعا إلى علي فجلي إليه ساعة فقال له علي يا زياد تيسر.
فقال لأي شيء فقال لغزو الشام فقال زياد الأناة والرفق أمثل وقال:
(ومن لم يصانع في أمور كثيرة * يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم)
فتمثل علي وكأنه لا يريده:
(متي تجمع القلب الزكي وصارما * وأنفا حميا تجتنبك المظالم)
فخرج زياد والناس ينتظرونه وقالوا ما وراءك فقال السيف يا قوم فعرفوا ما هو فاعل. واستأذنه طلحة والزبير في العمرة فإذن لهما فلحقا بمكة. ودعا علي محمد بن الحنفية فدفع إليه اللواء وولى عبد الله بن عباس ميمنته وعمرو بن أبي سلمة أو عمرو بن سفيان بن عبد الأسد ولاه ميسرته ودعا أبا ليلي بن عمر بن الجراح ابن أخي أبي عبيدة بن الجراح فجعله علي مقدمته واستخلف على المدينة قثم بن العباس ولم يول ممن خرج على عثمان أحدا وكتب إلى قيس بن سعد وإلي عثمان بن حنيف وإلي أبي موسى أن يندبوا الناس إلى أهل الشام ودعا أهل المدينة إلى قتالهم وقال لهم إن في سلطان الله عصمة أمركم فأعطوه طاعتكم غير ملوية ولا مستكره بها والله لتفعلن أو لينقلن الله عنكم سلطان الإسلام ثم لا ينقله إليكم أبدا حتى يأزر الأمر إليها.
انهضوا إلى هؤلاء القوم الذين يريدون تفريق جماعتكم لعل الله يصلح بكم ما أفسد أهل
204

الآفاق وتقضون الذي عليكم.
(خرنبا بفتح الخاء المعجمة وسكون الراء وفتح النون والباء الموحدة وآخره ألف).
ذكر ابتداء وقعة الجمل
فبينما هم كذلك على التجهز لأهل الشام أتاهم الخبر عن طلحة والزبير وعائشة وأهل مكة بنحو آخر وأنهم على الخلاف فأعلم على الناس ذلك وأن عائشة وطلحة والزبير قد سخطوا على إمارته ودعوا الناس إلى الإصلاح وقال لهم سأصبر ما لم أخف على جماعتكم وأكف إن كفوا واقتصر على ما بلغني.
ثم أتاه أنهم يريدون البصرة فسره ذلك وقال إن الكوفة فيها رجال العرب وبيوتاتهم. فقال له ابن عباس إن الذي سرك من ذلك ليسوءني إن الكوفة فسطاط فيه [أعلام] من أعلام العرب، ولا يحملهم عدة القوم ولا يزال فيها من يسمو إلى أمر لا يناله فإذا كان كذلك شغب على الذي قد نال ما يريد حتى تكسر حدته.
فقال علي إن الأمر ليشبه ما تقول وتهيأ للخروج إليهم فندب أهل المدينة للمسير معهم فتثاقلوا فبعث إلى عبد الله بن عمر كميلا النخعي فجاء به فدعاه إلى الخروج معه فقال إنما أنا من أهل المدينة وقد دخلوا في هذا الأمر فدخلت معهم فإن يخرجوا أخرج معهم وإن يقعدوا أقعد. قال فأعطني كفيلا قال لا أفعل. فقال له علي: لولا ما أعرف من سوء خلقك صغيرا
205

وكبيرا لأنكرتني، دعوه فأنا كفيله فرجع ابن عمر إلى المدينة وهم يقولون والله ما ندري كيف نصنع إن الأمر لمشتبه علينا ونحن مقيمون حتى يضئ لنا.
فخرج من تحت ليلته وأخبر أم كلثوم ابنة علي وهي زوجة عمر بالذي سمع وأنه يخرج معتمرا مقيما على طاعة علي ما خلا النهوض فأصبح علي فقيل له حدث الليلة حدث هو أشد من طلحة والزبير وعائشة ومعاوية.
قال وما ذاك قالوا خرج ابن عمر إلى الشام فأتي السوق وأعد الظهر والرجال وأخذ لكل طريق طلابا وماج الناس فسمعت أم كلثوم فأتت عليا فأخبرته الخبر فطابت نفسه وقال انصرفوا والله ما كذبت ولا كذب والله إنه لعندي ثقة فانصرفوا.
وكان سبب اجتماعهم بمكة أن عائشة كانت خرجت إليها وعثمان محصور ثم خرجت من مكة تريد المدينة فلما كانت بسرف لقيها رجل من أخوالها من بني ليث يقال له عبيد بن أبي سلمة وهو ابن أم كلاب فقالت له مهيم.
قال قتل عثمان وبقوا ثمانيا قالت ثم صنعوا ماذا قال اجتمعوا على بيعة علي فقالت ليت هذه انطبقت على هذه إن تم الأمر لصاحبك ردوني ردوني فانصرفت إلى مكة وهي تقول قتل والله عثمان مظلوما والله لأطلبن بدمه فقال
لها ولم والله إن أول من أمال حرفه لأنت ولقد كنت تقولين اقتلوا نعثلا فقد كفر قالت إنهم استتابوه ثم قتلوه وقد قلت وقالوا وقولي الأخير خير من قولي الأول فقال لها ابن أم كلاب:
(فمنك البداء ومنك الغير * ومنك الرياح ومنك المطر)
(وأنت أمرت بقتل الإمام * وقلت لنا إنه قد كفر)
(فهبنا أطعناك في قتله * وقاتله عندنا من أمر)
206

(ولم يسقط السقف من فوقنا * ولم ينكسف شمسنا والقمر)
(وقد بايع الناس ذا تدرأ * يزيل الشبا ويقيم الصغر)
(ويلبس للحرب أثوابها * وما من وفي مثل ما قد غدر)
فانصرفت إلى مكة فقصدت الحجر فسترت فيه فاجتمع الناس حولها، فقالت: أيها الناس إن الغوغاء من أهل الأمصار وأهل المياه وعبيد أهل المدينة اجتمعوا علي هذا الرجل المقتول ظلما بالأمس ونقموا عليه استعمال من حدثت سنه وقد استعمل أمثالهم قبله ومواضع من الحمي حماها لهم فتابعهم ونزع لهم عنها فلما لم يجدوا حجة ولا عذرا بادروا بالعدوان فسفكوا الدم الحرام واستحلوا البلد الحرام والشهر الحرام وأخذوا المال الحرام والله لأصبع من عثمان خير من طباق الأرض أمثالهم ووالله لو أن الذي اعتدوا به عليه كان ذنبا لخلص منه كما يخلص الذهب من خبثه أو الثوب من درنه إذ ماصوه كما يماص الثوب بالماء أي يغسل.
فقال عبد اله بن عامر الحضرمي وكان عامل عثمان على مكة ها أنا أول طالب فكان أول مجيب وتبعه بنو أمية على ذلك وكانوا هربوا من المدينة بعد قتل عثمان إلى مكة ورفعوا رؤوسهم وكان أول ما تكلموا بالحجاز وتبعهم سعيد بن العاص والوليد بن عقبة وسائر بني أمية وقدم عليهم عبد الله بن عامر من البصرة بمال كثير ويعلي بني أمية وهو ابن منية من اليمن ومعه ستمائة بعير وستمائة ألف درهم فأناخ بالأبطح وقدم طلحة والزبير من المدينة فلقيا عائشة فقالت ما وراءكما؟ فقالا إنا تحملنا هرابا من المدينة من غوغاء
207

وأعراب وفارقنا قوما حيارى لا يعرفون حقا ولا ينكرون باطلا ولا يمنعون أنفسهم فقالت انهضوا إلى هذه الغوغاء فقالوا نأتي الشام فقال ابن عامر قد كفاكم الشام معاوية فأتوا البصرة فإن لي بها صنائع ولهم في طلحة هوى. قالوا قبحك الله فوالله ما كنت بالمسالم ولا بالمحارب فهلا أقمت كما أقام معاوية فنكفى بك ثم نأتي الكوفة فنسد على هؤلاء القوم المذاهب فلم يجدوا عنده جوابا مقبولا فاستقام الرأي على البصرة وقالوا لها نترك المدينة فإنا خرجنا فكان معنا من لا يطيق من بها من الغوغاء ونأتي بلدا مضيعا سيحتجون علينا ببيعة علي فتنهضينهم كما أنهضت أهل مكة ثم تقعدين فإن أصلح الله الأمر كان الذي أردنا وإلا دفعنا بجهدنا حتى يقضي الله ما أراد.
فأجابتهم إلى ذلك ودعوا عبد الله بن عمر ليسير معهم فأبي وقال أنا من أهل المدينة أفعل ما يفعلون فتركوه.
وكان أزواج النبي معها على قصد المدينة فلما تغير رأيها إلى البصرة تركن ذلك وأجابتهم حفصة إلى المسير معهم فمنعها أخوها عبد الله بن عمر وجهزهم يعلي بن منية بستمائة بعير وستمائة ألف درهم وجهزهم ابن عامر بمال كثير ونادى مناديها إن أم المؤمنين وطلحة والزبير شاخصون إلى البصرة فمن أراد إعزاز الإسلام وقتال المحلين والطلب بثأر عثمان ومن ليس له مركب وجهاز فليأت! فحملوا ستمائة على ستمائة بعير وساروا في ألف وقيل في تسعمائة من أهل المدينة ومكة ولحقهم الناس فكانوا في ثلاثة آلاف رجل وبعثت أم الفضل بنت الحارث أم عبد الله بن عباس رجلا
208

من جهينة يدعي ظفرا فاستأجرته على أن يأتي عليا بالخبر فقدم على علي بكتابها.
وخرجت عائشة ومن معها من مكة فلما خرجوا منها أذن مروان بن الحكم ثم جاء حتى وقف على طلحة والزبير فقال علي أيكما أسلم بالأمرة وأؤذن بالصلاة؟ فقال عبد الله بن الزبير على أبي عبد الله يعني أباه الزبير وقال محمد بن طلحة علي أبي محمد يعني أباه طلحة فأرسلت عائشة إلى مروان وقالت له أتريد أن تفرق أمرنا ليصل بالناس ابن أختي تعني عبد الله بن الزبير.
وقيل بل صلى بالناس عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد حتى قتل فكان معاذ بن عبيد الله يقول والله لو ظفرنا لاقتتلنا ما كان الزبير يترك طلحة والأمر ولا كان طلحة يترك الزبير والأمر.
وتبعها أمهات المؤمنين إلى ذات عرق فبكوا على الإسلام فلم ير يوم كان أكثر باكيا وباكية من ذلك اليوم فكان يسمي يوم النحيب فلما بلغوا ذات عرق لقي سعيد بن العاص مروان بن الحكم وأصحابه بها فقال أيت تذهبون وتتركون ثأركم على أعجاز الإبل وراءكم؟ يعني عائشة وطلحة والزبير اقتلوهم ثم ارجعوا إلى منازلكم. فقالوا نسير فلعلنا نقتل قتلة عثمان جميعا فخلا سعيد بطلحة والزبير فقال إن ظفرتما لمن تجعلان الأمر أصدقاني قالا نجعله لأحدنا أينا اختاره الناس قال بل تجعلونه لولد عثمان فإنكم خرجتم تطلبون بدمه فقالا ندع شيوخ المهاجرين ونجعلها لأيتام قال فلا أراني أسعى إلا لإخراجها من بني عبد مناف فرجع ورجع عبد الله بن خالد بن أسيد وقال المغيرة بن شعبة الرأي ما قال سعيد من كان ههنا من ثقيف فليرجع فرجع ومضي القوم ومعهم أبان والوليد ابنا عثمان.
209

وأعطي يعلي بن منية عائشة جملا اسمه عسكر اشتراه بثمانين دينارا فركبته وقيل بل كان جملها لرجل من عرينة.
قال العرني: بينما أنا أسير على جمل إذ عرض لي راكب فقال أتبيع جملك قلت نعم قال بكم قلت بألف درهم قال أمجنون أنت قلت ولم والله ما طلبت عليه أحدا إلا أدركته ولا طلبني وأنا عليه أحد إلا فته قال لو تعلم لمن نريده إنما نريده لأم المؤمنين عائشة فقلت خذه بغير ثمن قال بل ترجع معنا إلى الرحل فنعطيك ناقة ودراهم قال فرجعت معه فأعطوني ناقة مهرية وأربعمائة درهم أو ستمائة وقالوا لي يا أخا عرينة هل لك دلالة بالطريق قلت أنا من أدل الناس. قالوا فسر معنا فسرت معهم فلا أمر على واد ولا ماء إلا سألوني عنه حتى طرقنا الحوأب وهو ماء فنبحتنا كلابه فقالوا أي ماء هذا فقلت هذا ماء الحوأب فصرخت عائشة بأعلى صوتها ثم ضربت عضد بعيرها فأناخته وقالت إنا لله وإنا إليه راجعون إني لهية سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وعنده نساؤه ليت شعري أيتكن تنبحها كلاب الحوأب ثم ضربت عضد بعيرها فأناخته وقالت ردوني أنا والله صاحبة ماء الحوأب.
فأناخوا حولها يوما وليلة فقال لها عبد الله بن الزبير إنه كذب ولم يزل بها وهي تتمنع فقال لها النجاء النجاء فقد أدرككم علي بن أبي طالب. فارتحلوا نحو البصرة فلما كانوا بفنائها لقيهم عمير بن عبد الله التميمي وقال يا أم المؤمنين أنشدك الله أن تقدمي اليوم على قوم لم تراسلي منهم أحد فعجلي ابن عامر فإن له بها صنائع فليذهب إليهم ليلقوا الناس إلى أن تقدمي ويسمعوا ما جئتم به فأرسلته فاندس إلى البصرة فأتي القوم وكتبت عائشة إلى رجال من أهل البصرة وإلي الأحنف بن قيس وصبرة بن شيمان وأمثالهم وأقامت بالحفير تنتظر الجواب.
210

ولما بلغ ذلك أهل البصرة دعا عثمان بن حنيف عمران بن حصين وكان رجل عامة وألزمه بأبي الأسود الدؤلي وكان رجل خاصة وقال لهما انطلقا إلى هذه المرأة فاعلما علمها وعلم من معها. فخرجا فانتهيا إليها بالحفير فأذنت لهما فدخلا وسلما وقالا إن أميرنا بعثنا إليك لنسألك عن مسيرك فهل أنت مخبرتنا. فقالت والله ما مثلي يغطي لبنيه الخبر إن الغوغاء ونزاع القبائل غزوا حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحدثوا فيه وآووا المحدثين فاستوجبوا لعنة الله ولعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ما نالوا من قتل إمام المسلمين بلا ترة ولا عذر فاستحلوا الدم الحرام وسفكوه وانتهبوا المال الحرام وأحلوا البلد الحرام والشهر الحرام فخرجت في المسلمين أعلمهم ما أتي هؤلاء وما الناس فيه وراءنا وما ينبغي لهم من إصلاح هذه القصة وقرأت (لا خير في كثير من نجواهم) الآية فهذا شأننا إلى معروف نأمركم به ومنكر ننهاكم عنه.
فخرج عمران وأبو الأسود من عندها فأتيا طلحة وقالا ما أقدمك فقال الطلب بدم عثمان فقالا ألم تبايع عليا فقال بلي والسيف على عنقي وما أستقيل عليا البيعة إن هو لم يحل بيننا وبين قتلة عثمان.
ثم أتيا الزبير فقالا له مثل قولهما لطلحة وقال لهما مثل قول طلحة فرجعا إلى عثمن بن حنيف ونادى مناديها بالرحيل فدخلا على عثمان فبادر أبو الأسود عمران فقال:
(يا بن حنيف قد أتيت فانفر * وطاعن القوم وجالد واصبر)
(وابرز لهم مستلئما وشمر)
211

فقال عثمان: إنا لله وإنا إليه راجعون دارت رحي الإسلام ورب الكعبة فانظروا بأي زيفان تزيف فقال عمران أي والله لتعركنكم عركا طويلا فقال فأشر علي يا عمران فقال اعتزل فإني قاعد قال عثمان بل أمنعهم حتى يأتي أمير المؤمنين.
فانصرف عمران إلى بيته وقام عثمان في أمره فأتاه هشام بن عامر فقال إن هذا الأمر الذي تريده يسلم إلى شر مما تكره إن هذا فتق لا يرتق وصدع لا يجبر فارفق بهم وسامحهم حتى يأتي أمر علي فأبي ونادى عثمان في الناس وأمرهم بلبس السلاح فاجتمعوا إلى المسجد وأمرهم بالتجهز وأمر رجلا دسه إلى الناس خدعا كوفيا قيسيا فقام فقال أيها الناس أنا قيس بن العقدية الحميسي إن هؤلاء القوم إن كانوا جاءوا خائفين فقد أتوا من بلد يأمن فيه الطير وإن كانوا جاءوا يطلبون بدم عثمان فما نحن بقتلة عثمان فأطيعوني وردوهم من حيث جاءوا. فقام الأسود بن سريع السعدي فقال أو زعموا أنا قتلة إنما أتوا يستعينون بنا على قتلة عثمان منا ومن غيرنا. فحصبه الناس فعرف عثمان أن لهم بالبصرة ناصرا فكسره ذلك.
فأقبلت عائشة فيمن معها حتى انتهوا إلى المربد فدخلوا من أعلاه ووقفوا حتى خرج عثمان فيمن معه وخرج إليها من أهل البصرة من أراد أن يكون معها فاجتمع القوم بالمربد فتكلم طلحة وهو في ميمنة المربد وعثمان في ميسرته فأنصتوا له فحمد الله وأثني عليه وذكر عثمان وفضله وما استحل منه ودعا إلى الطلب بدمه وحثهم عليه وكذلك الزبير فقال من في ميمنة المربد صدقا وبرا وقال من في ميسرته فجرا وغدرا وأمرا بالباطل
212

فقد بايعا عليا ثم جاءا يقولان وتحاثى الناس وتحاصبوا وأرهجوا.
فتكلمت عائشة وكانت جهورية الصوت فحمدت الله وقالت كان الناس يتجنون على عثمان ويزرون على عماله ويأتوننا بالمدينة فيستشيرونا فيما يخبروننا عنهم فننظر في ذلك فنجده بريئا تقيا وفيا ونجدهم فجرة غدرة كذبة وهم يحاولون غير ما يظهرون فلما قووا كاثروه واقتحموا عليه داره واستحلوا الدم الحرام والشهر الحرام والبلد الحرام بلا ترة ولا عذر ألا أن مما ينبغي لا ينبغي لكم غيرة أخذ قتلة عثمان وإقامة كتاب الله وقرأت: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله)
فافترق أصحاب عثمان فرقتين فرقة قالت صدقت وبرت وقال الآخرون كذبتم والله ما نعرف ما جئتم به! فتحاثوا وتحاصبوا فلما رأت عائشة ذلك انحدرت وانحدر أهل الميمنة مفارقين لعثمان بن حنيف حتى وقفوا في المربد في موضع الدباغين وبقي أصحاب عثمان على حالهم ومال بعضهم إلى عائشة وبقي بعضهم مع عثمان.
وأقبل جارية بن قدامة السعدي وقال يا أم المؤمنين والله لقتل عثمان أهون من خروجك من بيتك على هذا الجمل الملعون عرضة للسلاح إنه قد كان لك من الله ستر وحرمة فهتكت سترك وأبحت حرمتك إنه من رأى قتالك يري قتلك لئن كنت أتيتنا طائعة فارجعي إلى منزلك وإن كنت أتيتنا مكرهة فاستعيني بالناس.
وخرج غلام شاب من بني سعد إلى طلحة والزبير فقال أما أنت يا زبير فحواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما أنت يا طلحة فوقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدك وأرى أمكما معكما فهل
213

جئتما بنسائكما قالا لا. قال فما أنا منكم في شيء؛ واعتزل وقال في ذلك:
(صنتم حلالكم وقدتم أمكم * هذا لعمرك قلة الإنصاف)
(أمرت بجر ذيولها في بيتها * فهوت تشق البيد بالإيجاف)
(غرضا يقاتل دونها أبناؤها * بالنبل والخطي والأسياف)
(هتكت بطلحة والزبير ستورها * هذا المخبر عنهم والكافي
وأقبل حكيم بن جبلة العبدي وهو على الخيل فأنشب القتال وأشرع أصحاب عائشة رماحهم وأمسكوا ليمسك حكيم وأصحابه فلم ينته وقاتلهم أصحاب عائشة كافون يدفعون عن أنفسهم وحكيم يذمر خيله ويركبهم بها فاقتتلوا على فم السكة وأمرت عائشة أصحابها فتيامنوا إلى مقبرة بني مازن وحجز الليل بينهم ورجع عثمان إلى القصر وأتى أصحاب عائشة إلى ناحية دار الرزق وباتوا يتأهبون وبات الناس يأتونهم واجتمعوا بساحة دار الرزق فغاداهم حكيم بن جبلة وهو يسب وبيده الرمح فقال له رجل من عبد القيس من هذا الذي تسبه قال عائشة قال يا بن الخبيثة ألأم المؤمنين تقول هذا فطعنه حكيم فقتله ثم مر بامرأة وهو يسبها أيضا فقالت له ألأم المؤمنين تقول هذا يا بن الخبيثة فطعنها فقتلها ثم سار فاقتتلوا بدار الرزق قتالا شديدا إلى أن زال النهار وكثر القتل في أصحاب عثمان بن حنيف وكثر الجراح في الفريقين فلما عضتهم الحرب تنادوا إلى الصلح وتوادعوا فكتبوا بينهم كتابا على أن يبعثوا رسولا إلى المدينة يسأل أهلها فإن كان طلحة والزبير أكرها خرج عثمان بن حنيف عن البصرة وأخلاها لهما وإن لم يكونا أكرها خرج طلحة والزبير،
214

وكتبوا بينهم كتابا بذلك. وسار كعب بن سور إلى أهل المدينة يسألهم فلما قدمها اجتمع الناس إليه وكان يوم جمعة فقام وقال يا أهل المدينة أنا رسول أهل البصرة نسألكم هل أكره طلحة والزبير على بيعة علي أم أتياها طائعين فلم يجبه أحد إلا أسامة بن زيد فإنه قام وقال إنهما بايعا وهما مكرهان فأمر به تمام بن العباس فواثبه سهل بن حنيف والناس وثار صهيب وأبو أيوب في عدة من أصحاب النبي فيهم محمد بن مسلمة حين خافوا أن يقتل أسامة فقالوا اللهم نعم فتركوه وأخذ صهيب أسامة بيده إلى منزله وقال له أما وسعك ما وسعنا من السكوت قال ما كنت أظن أن الأمر كما أرى. فرجع كعب وبلغ عليا الخبر فكتب إلى عثمان يحجزه وقال والله ما أكرها على فرقة ولقد أكرها على جماعة وفضل فإن كانا يريدان الخلع فلا عذر لهما وإن كانا يريدان غير ذلك نظرنا ونظروا.
فقدم الكتاب على عثمان وقدم كعب بن سور فأرسلوا إلى عثمان ليخرج فاحتج بالكتاب وقال هذا أمر آخر غير ما كنا فيه فجمع طلحة والزبير الرجال في ليلة مظلمة ذات رياح ومطر ثم قصدا المسجد فوافقا صلاة العشاء وكانوا يؤخرونها فأبطأ عثمان فقدما عبد الرحمن بن عتاب فشهر الزط والسيابجة السلاح ثم وضعوها فيهم فأقبلوا عليهم فاقتتلوا في المسجد فقتلوا وهو أربعون رجلا فأدخلا الرجال على عثمان فأخرجوه إليهما فما وصل إليهما وقد بقي في وجهه شعرة فاستعظما ذلك وأرسلا إلى عائشة يعلمانها الخبر فأرسلت إليهما أن خلوا سبيله.
وقيل لما أخذ عثمان أرسلوا إلى عائشة يستشيرونها في أمره، فقالت:
215

اقتلوه فقلت لها امرأة نشدتك الله في عثمان وصحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت لهم احبسوه فقال لهم مجاشع بن مسعود اضربوه ونتفوا لحيته وحاجبيه وأشفار عينيه. فضربوه أربعين سوطا ونتفوا لحيته وحاجبيه وأشفار عينيه وحبسوه ثم أطلقوه وجعلوا على بيت المال عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق.
وقد قيل في إخراج عثمان غير ما تقدم وذلك أن عائشة وطلحة والزبير لما قدموا البصرة كتبت عائشة إلى زيد بن صوحان من عائشة أم المؤمنين حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ابنها الخالص زيد بن صوحان أما بعد فإذا أتاك كتابي هذا فاقدم فانصرنا فإن لم تفعل فخذل الناس عن علي فكتب إليها أما بعد فأنا ابنك الخالص إن اعتزلت ورجعت إلى بيتك وإلا فأنا أول من نابذك.
وقال زيد رحم الله أمير المؤمنين أمرت أن تلزم بيتها وأمرنا أن تقاتل فتركت ما أمرت به وأمرتنا به وصنعت ما أمرنا به ونهتنا عنه.
وكان على البصرة عند قدومها عثمان بن حنيف فقال لهم ما نقمتم على صاحبكم؟ فقالوا لم نره أولي بها منا وقد صنع ما صنع قال فإن الرجل أمرني فاكتب إليه فأعلمه ما جئتم به على أن أصلي أنا بالناس حتى يأتينا كتابه.
فوقفوا عنه فكتب فلم يلبث إلا يومين أو ثلاثة حتى وثبوا على عثمان عند مدينة الرزق فظفروا به وأرادوا قتله ثم خشوا غضب الأنصار فنتفوا شعر رأسه ولحيته وحاجبيه وضربوه وحبسوه وقام طلحة والزبير خطيبين فقالا يا أهل البصرة توبة لحوبة إنما أردنا أن نستعتب أمير المؤمنين عثمان فغلب السفهاء الحلماء فقتلوه! فقال الناس لطلحة يا أبا محمد قد كانت كتبك تأتينا بغير هذا.
216

فقال الزبير: هل جاءكم مني كتاب في شأنه ثم ذكر قتل عثمان وأظهر عيب علي فقام إليه رجل من عبد القيس فقال أيها الرجل انصت حتى نتكلم فأنصت فقال العبدي: يا معشر المهاجرين أنتم أول من أجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان لكم بذلك فضل ثم دخل الناس في الإسلام كما دخلتم فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بايعتم رجلا منكم فرضينا وسلمنا ولم تستأمرونا في شيء من ذلك فجعل الله للمسلمين في إمارته بركة ثم مات واستخلف عليكم رجلا فلم تشاورونا في ذلك فرضينا وسلمنا فلما توفي جعل أمركم إلى ستة نفر فاخترتم
عثمان وبايعتموه عن غير مشورتنا ثم أنكرتم منه شيئا فقتلتموه عن غير مشورة منا ثم بايعتم علي عن غير مشورة منا فما الذي نقمتم عليه فنقاتله هل استأثر بفيء أو عمل بغير الحق أو أتي شيئا تنكرونه فنكون معكم عليه وإلا فما هذا فهموا بقتل ذلك الرجل فمنعته عشيرته فلما كان الغد وثبوا عليه وعلي من معه فقتلوا منهم سبعين وبقي طلحة والزبير بعد أخذ عثمان بالبصرة ومعهم بيت المال والحرس والناس معهما ومن لم يكن معهما استتر.
وبلغ حكيم بن جبلة ما صنع بعثمان بن حنيف فقال لست أخاف الله إن لم أنصره فجاء في جماعة من عبد القيس ومن تبعه من ربيعة وتوجه نحو دار الرزق وبها طعام أراد عبد الله بن الزبير أن يرزقه أصحابه فقال له عبد الله مالك يا حكيم؟ قال نريد أن نرتزق من هذا الطعام وأن تخلوا عثمان فيقيم في دار الإمارة على ما كتبتم بينكم حتى يقدم علي وأيم الله لو أجد أعوانا عليكم ما رضيت بهذه منكم حتى أقتلكم بمن قتلتم ولقد أصبحتم وإن دماءكم لنا لحلال بمن قتلتم أما تخافون الله بم تستحلون الدم الحرام قال بدم عثمان قال فالذين قتلتم هم قتلوا عثمان أما تخافون مقت الله؟ فقال له عبد الله لا نرزقكم
217

من هذا الطعام ولا نخلي سبيل عثمان حتى تخلع عليا فقال حكيم اللهم إنك حكم عدل فاشهد وقال لأصحابه لست في شك من قتال هؤلاء القوم فمن كان في شك فلينصرف وتقدم فقاتلهم فقال طلحة والزبير الحمد لله الذي جمع لنا ثأرنا من أهل البصرة اللهم لا تبق منهم أحدا! فاقتتلوا قتالا شديدا ومع حكيم أربعة قواد فكان حكيم بحيال طلحة وذريح بحيال الزبير وابن المحترش بحيال عبد الرحمن بن عتاب وحرقوص بن زهير بحيال عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فزحف طلحة لحكيم وهو في ثلاثمائة وجعل حكيم يضرب بالسيف ويقول:
(أضربتم باليابس * ضرب غلام عابس)
(من الحياة آيس * في الغرفات نافس)
فضرب رجل رجله فقطعها فحبا حتى أخذها فرمي بها صاحبه فصرعه وأتاه فقتله ثم اتكأ عليه وقال:
(يا ساقي لن تراعي * إن معي ذراعي)
(أحمي بها كراعي)
وقال أيضا:
(ليس على أن أموت عار * والعار في الناس هو الفرار)
(والمجد لا يفضحه الدمار)
فأتي عليه رجل وهو رثبث رأسه على آخر فقال مالك يا حكيم؟
قال قتلت قال من قتلك قال وسادتي فاحتمله وضمه في سبعين من
218

أصحابه وتكلم يومئذ حكيم وإنه لقائم على رجل واحدة وإن السيوف لتأخذهم وما يتعتع ويقول إنا خلقنا هذان وقد بايعا عليا وأعطياه الطاعة ثم أقبلا مخالفين محاربين يطلبان بدم عثمان ففرقا بينهما ونحن أهل دار وجوار اللهم إنهما لم يريدا عثمان!
فناداه مناد يا خبيث جزعت من نصبك وأصحابك حين عضك نكال الله بما ركبتم من الإمام المظلوم وفرقتم [من] الجماعة وأصبتم من الدماء فذق وبال الله وانتقامه. وقتلوا وقتل معهم قتله يزيد بن الأسحم الحداني فوجد حكيم قتيلا بين يزيد وأخيه كعب.
وقيل قتله رجل يقال له ضخيم وقتل معه ابنه الأشرف وأخوه الرعل بن جبلة. ولما قتل حكيم أرادوا قتل عثمان بن حنيف فقال لهم أما إن سهلا بالمدينة فإن قتلتموني انتصر فخلوا سبيله فقصد عليا وقتل ذريح ومن معه وأفلت حرقوص بن زهير في نفر من أصحابه فلجأوا إلى قومهم فنادى منادي طلحة والزبير من كان فيهم أحد ممن غزا المدينة فليأتنا بهم فجيء بهم فقتلوا ولم ينج منهم إلا حرقوص بن زهير فإن عشيرته بني سعد منعوه وكان منهم فنالهم منذ لك أمر شديد وضربوا فيه أجلا وخشنوا صدور بني سعد وكانوا عثمانية فاعتزلوا وغضبت عبد القيس حين غضبت سعد لمن قتل منهم بعد الوقعة ومن كان هرب إليهم إلى ما هم عليه من لزوم الطاعة لعلي فأمر طلحة والزبير للناس بأعطياتهم وأرزاقهم وفضلا أهل السمع والطاعة فخرجت عبد القيس وكثير من بكر بن وائل حيت منعوهم الفضول فبادروهم إلى بيت المال وأكب عليهم الناس فأصابوا منهم وخرجوا حتى نزلوا على طريق علي وأقام طلحة والزبير وليس معهم ثار إلا حرقوص بن زهير وكتبوا إلى أهل الشام بما صنعوا وصاروا إليه.
وكتبت عائشة إلى أهل الكوفة بما كان منهم
219

وتأمرهم أن يثبطوا الناس عن علي وتحثهم على طلب قتلة عثمان وكتبت إلى أهل اليمامة وإلي أهل المدينة بما كان منهم أيضا وسيرت الكتب.
وكانت هذه الوقعة لخمس ليال بقين من شهر ربيع الآخر سنة ست وثلاثين.
وبايع أهل البصرة طلحة والزبير فلما بايعوهما قال الزبير إلا ألف فارس أسير بهم إلى علي أقتله بياتا أو صباحا قبل أن يصل إلينا فلم يجبه أحد فقال إن هذه للفتنة التي كنا نحدث عنها فقال له مولاه أتسميها فتنة وتقاتل فيها؟ قال ويلك إنا نبصر ولا تبصر ما كان أمر قط إلا وأنا أعلم موضع قدمي فيه غير هذا الأمر فإني لا أدري أمقبل أنا فيه أم مدبر. وقال علقمة بن وقاص الليثي لما خرج طلحة والزبير وعائشة رأيت طلحة وأحب المجالس إليه أخلاها وهو ضارب بلحيته على صدره فقلت يا أبا محمد أرى أحب المجالس إليك أخلاها وأنت ضارب بلحيتك على صدرك إن كرهت شيئا فاجلس قال فقال لي يا علقمة بينا نحن يد واحدة على من سوانا إذا صرنا جبلين من حديد يطلب بعضنا بعضا إنه كان مني في عثمان شيء ليس توبتي إلا أن يسفك دمي في طلب دمه قال فقلت فرد ابنك محمدا فإن لك ضيعة وعيالا فإن يك شئ يخلفك قال فامنعه قال فأتيت محمدا ابنه فقلت له لو أقمت فإن حدث به حدث كنت تخلفه في عياله وضيعته قال ما أحب أن أسأل عنه الركبان.
(يعلي بن منية بضم الميم وسكون النون والياء المعجمة باثنتين من تحتها وهي أمه واسم أبيه أمية. عبد الله بن خالد بن أسيد بفتح همزة أسيد. جارية بن قدامة بالجيم. حكيم بن جبلة بضم الحاء، وفتح الكاف وكسر الكاف. وصوحان بضم الصاد وآخره نون).
220

ذكر مسير علي إلى البصرة والوقعة
قد ذكرنا فيما تقدم تجهز علي إلى الشام فبينما هو على ذلك أتاه الخبر عن طلحة والزبير وعائشة من مكة بما عزموا عليه فلما بلغه ذلك دعا وجوه أهل المدينة وخطبهم فحمد الله وأثني عليه ثم قال. إن آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح [به] أوله، فانصروا الله ينصركم ويصلح لكم أمركم فتثاقلوا فلما رأى زياد بن حنظلة تثاقل الناس انتدب إلى علي وقال له من تثاقل عنك فإنا نخف معك فنقاتل دونك وقام رجلان صالحان من أعظم الأنصار أحدهما أبو الهيثم بن التيهان وهو بدري والثاني خزيمة بن ثابت قيل هو [ذو الشهادتين]. وقال الحكيم ليس بذي الشهادتين أيام عثمان فأجابه إلى نصرته.
قال الشعبي ما نهض في تلك الفتنة إلا ستة نفر بدريون ما لهم سابع وقال سعيد بن زيد ما اجتمع أربعة من أصحاب النبي لخير يعملونه إلا وعلي أحدهم قيل وقال أبو قتادة الأنصاري لعلي يا أمير المؤمنين إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قلدني هذا السيف وقد أغمدته زمانا وقد حان تجريده على هؤلاء القوم الظالمين الذين [لا] يألون الأمة غشا وقد أحببت أن تقدمني فقدمني. وقالت أم سلمة يا أمير المؤمنين لولا أن أعصي الله وأنك لا تقبله مني لخرجت معك وهذا ابن عمي وهو والله أعز علي من نفسي يخرج معك ويشهد مشاهدك فخرج معه واستعمله
221

علي على البحرين ثم عزله واستعمل النعمان بن عجلان الزرقي. فلما أراد على المسير إلى البصرة وكان يرجو أن يدرك طلحة والزبير فيردهما قبل وصولهما إلى البصرة أو يوقع بهما فلما سارا استخلف على المدينة تمام بن العباس وعلي مكة قثم بن العباس وقيل أمر على المدينة سهل بن حنيف، وسار علي من المدينة في تعبئته التي تعبأها لأهل الشام آخر شهر ربيع الآخر سنة ست وثلاثين فقالت أخت علي بن عدي من بني عبد شمس:
(لا هم فاعقر بعلي جملة * ولا تبارك في بعير حمله)
(ألا على بن عدي ليس له)
وخرج معه من نشط من الكوفيين والبصريين متخففين في تسعمائة وهو يرجو أن يدركهم فيحول بينهم وبين
الخروج أو يأخذهم فلقيه عبد الله بن سلام فأخذ بعنانه وقال يا أمير المؤمنين لا تخرج منها فالله إن خرجت منها لا يعود إليها سلطان المسلمين أبدا فسبوه فقال دعوا الرجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
وسار حتى انتهي إلى الربذة فلما انتهي إليها أتاه خبر سبقهم فأقام بها يأتمر ما يفعل وأتاه ابنه إلى الربذة فلما انتهي إليها أتاه خبر سبقهم فأقام بها يأتمر ما يفعل وأتاه ابنه الحسن في الطريق فقال له لقد أمرتك فعصيتني فتقتل إذا بمضيعة لا ناصر لك فقال له علي إنك لا تزال تخن خنين الجارية وما الذي أمرتني فعصيتك قال أمرتك يوم أحيط بعثمان أن تخرج من المدينة قيقتل ولست بها ثم أمرتك يوم قتل أن لا تبايع حتى تأتيك وفود العرب وبيعة أهل مصر فإنهم لن يقطعوا أمرا دونك فأبيت علي، وأمرتك حين
222

خرجت هذه المرأة وهذان الرجلان أن تجلس في بيتك حتى يصطلحوا فإن كان الفساد كان على يد غيرك فعصيتني في ذلك كله.
فقال أي بني! أما قولك لو خرجت من المدينة حين أحيط بعثمان فوالله لقد أحيط بنا كما أحيط به وأما قولك لا تبايع أهل الأمصار فإن الأمر أمر أهل المدينة وكرهنا أن يضيع هذا الأمر ولقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أرى أحدا أحق بهذا الأمر مني فبايع الناس أبو بكر الصديق فبايعته ثم أن أبا بكر انتقل إلى رحمة الله وما أرى أحدا أحق بهذا الأمر مني فبايع الناس عمر فبايعته ثم أنن عمر انتقل إلى رحمة الله وما أرى أحدا أحق بهذا الأمر مني فجعلني سهما من ستة أسهم فبايع الناس عثمان فبايعته ثم سار الناس إلى عثمان فقتلوه وبايعوني طائعين غير مكرهين فأنا مقاتل من خالفني بمن أطاعني حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين وأما قولك أن أجلس في بيتي حين خرج طلحة والزبير فكيف لي بما قد لزمني أو من تريدني أتريدني أن أكون كالضبع التي يحاط بها ويقال دباب دباب ليست ههنا حتى يحل عرقوباها حتى يخرج وإذا لم أنظر فيما يلزمني من هذا الأمر ويعنيني فمن ينظر فيه فكف عنك يا بني.
ولما قدم علي الربذة وسمع بها خبر القوم أرسل منها إلى الكوفة محمد بن أبي بكر الصديق ومحمد بن جعفر وكتب إليهم إني اخترتكم على الأمصار وفزعت إليكم لما حدث فكونوا لدين الله أعوانا وأنصارا وانهضوا إلينا فالإصلاح نريد لتعود هذه الأمة إخوانا فمضينا وبقي على بالربذة يتهيأ وأرسل إلى المدينة فأتاه ما يريده من دابة وسلاح وأمر أمره وقام في الناس فخطبهم وقال: إن الله تبارك وتعالي أعزنا بالإسلام ورفعنا به وجعلنا به إخوانا بعد ذلة وقلة وتباغض وتباعد،
223

فجري الناس على ذلك ما شاء الله الإسلام دينهم والحق فيهم والكتاب إمامهم حتى أصيب هذا الرجل بأيدي هؤلاء القوم الذين نزغهم الشيطان لينزع بين هذه الأمة ألا إن هذه الأمة لا بد مفترقة كما افترقت الأمم قبلها فنعوذ بالله من شر ما هو كائن.
ثم عاد ثانية وقال إنه لا بد مما هو كائن أن يكون ألا وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة شرها فرقة تنتحلني ولا تعمل بعملي وقد أدركتهم ورأيتهم فالزموا دينكم وأهدوا بهديي فإنه هدي نبيكم واتبعوا سنته واعرضوا عما أشكل عليكم حتى تعرضوه على القرآن فما عرفه القرآن فالزموه وما أنكره فردوه وارضوا بالله ربا وبالإسلام دينا ومحمد نبيا وبالقرآن حكما وإماما.
فلما أراد المسير من الربذة إلى البصرة قام إليه ابن لرفاعة بن رافع فقال يا أمير المؤمنين أي شيء تريد وأين تذهب بنا فقال أما الذي نريد وننوي فالإصلاح إن قبلوا منا وأجابونا إليه قال فإن لم يجيبونا إليه قال ندعهم بعذرهم ونعطيهم الحق ونصبر قال فإن لم يرضوا قال ندعهم ما تركونا قال فإن لم يتركونا قال امتنعنا منهم قال فنعم إذن وقام الحجاج بن غزية الأنصاري فقال لأرضينك بالفعل كما أرضيتني بالقول وقال:
(دراكها دراكها قبل الفوت * فانفر بنا واسم بنا نحو الصوت)
(لا وألت نفسي إن تكرهت الموت)
والله لننصرن الله كما سمانا أنصارا! ثم أتاه جماعة من طيئ وهو بالربذة
224

فقيل لعلي هذه جماعة قد أتتك منهم من يريد الخروج معك ومنهم من يريد التسليم عليك قال جزي الله كليهما خيرا وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما. فلما دخلوا عليه قال لهم ما شهدتمونا به قالوا شهدناك بكل ما تحب فقال جزاكم الله خيرا فقد أسلمتم طائعين وقاتلتم المرتدين ووافيتم بصدقاتكم المسلمين فنهض سعيد بن عبيد الطائي فقال يا أمير المؤمنين إن من الناس من يعبر لسانه عما في قلبه وإني والله ما أجد لساني يعبر عما في قلبي وسأجهد وبالله التوفيق أما أنا فسأنصح لك في السر والعلانية وأقاتل عدوك في كل موطن وأرى من الحق لك ما لا أراه لأحد غيرك من أهل زمانك لفضلك وقرابتك فقال رحمك الله قد أدي لسانك عما يجن ضميرك فقتل معه بصفين.
وسار علي من الربذة وعلي مقدمته أبو ليلي بن عمر بن الجراح والراية مع محمد بن الحنفية وعلي على ناقة حمراء يقود فرسا كميتا.
فلما نزل بفيد أتته أسد وطيئ فعرضوا عليه أنفسهم فقال الزموا قراركم في المهاجرين كفاية وأتاه رجل بفيد من الكوفة فقال له من الرجل قال عامر بن مطر الشيباني قال أخبر عما وراءك فأخبره فسأله عن أبي موسى فقال إن أردت الصلح فأبو موسى صاحبه وإن أردت القتال فليس بصاحبه فقال علي والله ما أريد إلا الصلح حتى يرد علينا.
ولما نزل علي الثعلبية أتاه الذي لقي عثمان بن حنيف وحرسه فأخبر
225

أصحابه الخبر فقال اللهم عافني مما ابتليت به طلحة والزبير فلما انتهي إلى الإساد أتاه ما لقي حكيم بن جبلة وقتلة عثمان فقال الله أكبر ما ينجيني من طلحة والزبير إن أصابا ثأرهما! وقال:
(دعا حكيم دعوة الزماع * حل بها منزلة النزاع)
فلما انتهي إلى ذي قار أتاه فيها عثمان بن حنيف وليس في وجهه شعرة وقيل أتاه بالربذة وكانوا قد نتفوا شعر رأسه ولحيته على ما ذكرناه فقال يا أمير المؤمنين بعثتني ذا لحية وقد جئتك أمرد فقال أصبت أجرا وخيرا إن الناس وليهم قبلي رجلان فعملا بالكتاب والسنة ثم وليهم ثالث فقالوا وفعلوا ثم بايعوني وبايعني طلحة والزبير ثم نكثا بيعتي وألبا الناس علي ومن العجب انقيادهما لأبي بكر وعمر وعثمان وخلافهما علي والله إنهما ليعلمان أني لست بدون رجل ممن تقدم اللهم فاحلل ما عقدا ولا تبرم ما أحكما في أنفسهما وأرهما المساءة فيما قد عملا وأقام بذي قار ينتظر محمدا ومحمدا فأتاه الخبر بما لقيت ربيعة وخروج عبد القيس فقال عبد القيس خير ربيعة وفي كل ربيعة خير وقال:
(يا لهف نفسي على ربيعة * ربيعة السامعة المطيعة)
(قد سبقتني فيهم الوقيعة * دعا على دعوة سميعة)
(حلوا بها المنزلة الرفيعة)
وعرضت عليه بكر بن وائل فقال لها ما قال لطيئ وأسد. وأما محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر فأتيا أبا موسى بكتاب على وقاما في الناس بأمره فلم يجابا إلى شيء فلما أمسوا دخل ناس من أهل الحجى علي أبي موسى
226

فقالوا ما ترى في الخروج فقال كان الرأي بالأمس ليس اليوم إن الذي تهاونتم به فيما مضي هو الذي جر عليكم ما ترون إنما هما أمران القعود سبيل الآخرة والخروج سبيل الدنيا فاختاروا فلم ينفر إليه أحد فغضب محمد ومحمد وأغلظا لأبى موسى فقال لهما والله إن بيعة عثمان لفي عنقك وعنق صاحبكما فإن لم يكن بد من قتال لا نقاتل أحدا حتى نفرغ من قتلة عثمان حيث كانوا.
فانطلقا إلى علي فأخبراه الخبر وهو بذي قار فقال للأشتر وكان معه أنت صاحبنا في أبي موسى والمعترض في كل شيء اذهب أنت وابن عباس فأصلح ما أفسدت فخرجا فقدما الكوفة فكلما أبا موسى واستعانا عليه بنفر من أهل الكوفة فقام لهم أبو موسى وخطبهم وقال أيها الناس إن أصحاب النبي الذين صحبوه أعلم بالله وبرسوله ممن لم يصحبه وإن لكم علينا لحقا وأنا مؤد إليكم نصيحة كان الرأي أن لا تستخفوا بسلطان الله وأن لا تجترئوا على الله وأن تأخذوا من قدم عليكم من المدينة فتردوهم إليها حتى يجتمعوا فهم أعلم بمن تصلح له الإمامة وهذه فتنة صماء النائم فيها خير من اليقظان واليقظان خير من القاعد والقاعد خير من القائم والقائم خير من الراكب
والراكب خير من الساعي فكونوا جرثومة من جراثيم العرب فأغمدوا السيوف وانصلوا الأسنة واقطعوا الأوتار وآووا المظلوم والمضطهد حتى يلتئم هذا الأمر وتنجلي هذه الفتنة.
فرجع ابن عباس والأشتر إلى علي فأخبراه الخبر فأرسل ابنه الحسن وعمار بن يسار وقال لعمار انطلق فأصلح ما أفسدت فأقبلا حتى دخلا المسجد
227

وكان أول من أتاهما المسروق بن الأجدع فسلم عليهما وأقبل على عمار فقال يا أبا اليقظان علام قتلتم عثمان قال علي شتم أعراضنا وضرب أبشارنا قال فوالله ما عاقبتم بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لكان خيرا للصابرين فخرج أبو موسى فلقي الحسن فضمه إليه وأقبل على عمار فقال يا أبا اليقظان أعدوت علي أمير المؤمنين فيمن عدا فأحللت نفسك مع الفجار فقال لم أفعل ولم يسؤني. فقطع الحسن عليهما الكلام وأقبل علي أبى موسى فقال له لم تثبط الناس عنا فوالله ما أردنا إلا الإصلاح ولا مثل أمير المؤمنين يخاف على شيء فقال صدقت بأبي أنت وأمي ولكن المستشار مؤمن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إنها ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم والقائم خير من الماشي والماشي خير من الراكب وقد جعلنا الله إخوانا وقد حرم علينا دماءنا وأموالنا فغضب عمار وسبه وقام وقال يا أيها الناس إنما قال له وحده أنت فيها قاعد خير منك قائما. فقام رجل من بني تميم فسب عمارا وقال أنت أمس مع الغوغاء واليوم تسافه أميرنا وثار زيد بن صوحان وطبقته وثار الناس وجعل أبو موسى يكفكف الناس ووقف زيد على باب المسجد ومعه كتاب إليه من عائشة تأمره فيه بملازمة بيته أو نصرتها وكتاب إلى أهل الكوفة بمعناه فأخرجهما فقرأهما على الناس فلما فرغ منهما قال أمرت أن تقر في بيتها وأمرنا أن نقاتل حتى لا تكون فتنة فأمرتنا بما أمرت به وركبت ما أمرنا به. فقال له شبث بن ربعي يا عماني لأنه من عبد القيس وهم يسكنون عمان سرقت بجلولاء فقطعت يدك وعصيت أم المؤمنين فقتلك الله وتهاوي الناس.
وقام أبو موسى وقال أيها الناس أطيعوني وكونوا جرثومة من جراثيم العرب يأوي إليكم المظلوم ويأمن فيكم الخائف إن الفتنة إذا أقبلت فقد شبهت
228

فإذا أدبرت بينت وإن هذه الفتنة فاقرة كداء البطن تجري بها الشمال والجنوب والصبا والدبور تذر الحليم وهو حيران كابن أمس شيموا سيوفكم وقصدوا رماحكم وقطعوا أوتاركم والزموا بيوتكم خلوا قريشا إذا أبوا إلا الخروج من دار الهجرة وفراق أهل علم بالأمراء استنصحوني ولا تستغشوني أطيعوني يسلم لكم دينكم ودنياكم ويشقى بحر هذه الفتنة من جناها.
فقام زيد فشال يده المقطوعة فقال يا عبد الله بن قيس رد الفرات على أدراجه أردده من حيث يجيء حتى يعود كما بدأ فإن قدرت على ذلك فستقدر على ما تريد فدع عنك ما لست مدركه سيروا إلى أمير المؤمنين وسيد المسلمين انفروا إليه أجمعين تصيبوا الحق.
فقام القعقاع بن عمرو فقال إني لكم ناصح وعليكم شفيق أحب لكم أن ترشدوا ولأقولن لكم قولا وهو الحق أما ما قال الأمير فهو الحق لو أن إليه سبيلا وأما ما قال زيد فزيد عدو هذا الأمر فلا تستنصحوه والقول الذي هو الحق أنه لا بد من إمارة تنظم الناس وتنزع الظالم وتعز المظلوم وهذا أمير المؤمنين ولي بما ولي وقد أنصف في الدعاء وإنما يدعو إلى الإصلاح فانفروا وكونوا من هذا الأمر بمرأى ومسمع.
وقال عبد الخير الخيواني يا أبا موسى هل بايع طلحة والزبير قال نعم قال هل أحدث على ما يحل به نقض بيعته قال لا أدري قال لا دريت نحن نتركك حتى تدري هل تعلم أحدا خارجا من هذه الفتنة إنما الناس أربع فرق علي بظهر الكوفة وطلحة والزبير بالبصرة ومعاوية بالشام
229

وفرقة بالحجاز لا غناء بها ولا يقاتل بها عدو فقال أبو موسى أولئك خير الناس وهي فتنة فقال عبد الخير غلب عليك غشك يا أبا موسى فقال سيحان بن صوحان أيها الناس لا بد لهذا الأمر وهؤلاء الناس من وال يدفع الظالم ويعز المظلوم ويجمع الناس وهذا واليكم يدعوكم لتنظروا فيما بينه وبين صاحبيه وهو المأمون على الأمة الفقيه في الدين فمن نهض إليه فإنا سائرون معا.
فلما فرغ سيحان قال عمار هذا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم يستنفركم إلى زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلي طلحة والزبير وإني أشهد أنها زوجته في الدنيا والآخرة فانظروا ثم انظروا في الحق فقاتلوا معه فقال له رجل أنا مع من شهدت له بالجنة على من لم تشهد له فقال له الحسن اكفف عنا فإن للإصلاح أهلا وقام الحسن بن علي فقال أيها الناس أجيبوا دعوة أميركم وسيروا إلى إخوانكم فإنه سيوجد لهذا الأمر من ينفر إليه ووالله لأن يليه أولوا النهى أمثل في العاجل والآجل وخير في العاقبة فأجيبوا دعوتنا وأعينونا على ما ابتليتم به وابتليتم وإن أمير المؤمنين يقول قد خرجت مخرجي هذا ظالما أو ظالما وإني أذكر الله رجلا رعي حق الله إلا نفر فإن كنت مظلوما أعانني وإن كنت ظالما أخذ مني والله إن طلحة والزبير لأول من بايعني وأول من غدر فهل استأثرت بمال أو بدلت حكما فانفروا فمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر فسامح الناس وأجابوا ورضوا. وأتى قوم من طيئ عدي بن حاتم فقالوا ماذا تري وما تأمر فقال قد بايعنا هذا الرجل وقد دعانا إلى جميل وإلي هذا الحدث العظيم لننظر فيه ونحن سائرون وناظرون
230

فقام هند بن عمرو فقال إن أمير المؤمنين قد دعانا وأرسل إلينا رسله حتى جاءنا ابنه فاسمعوا إلى قوله وانتهوا إلى أمره وانفروا إلى أميركم فانظروا معه في هذا الأمر وأعينوه برأيكم.
وقام حجر بن عدي فقال أيها الناس أجيبوا أمير المؤمنين وانفروا خفافا وثقالا مروا وأنا أولكم فأذعن الناس للمسير فقال الحسن أيها الناس إني غاد فمن شاء منكم أن يخرج معي على الظهر ومن شاء في الماء فنفر معه قريب [من] تسعة آلاف أخذ في البر ستة آلاف ومائتان وأخذ في الماء ألفان وأربعمائة.
وقيل إن عليا أرسل الأشتر بعد ابنه الحسن وعمار إلى الكوفة فدخلها والناس في المسجد وأبو موسى يخطبهم ويثبطهم والحسن وعمار معه في منازعة وكذلك سائر الناس كما تقدم فجعل الأشتر لا يمر بقبيلة فيها جماعة إلا دعاهم ويقول اتبعوني إلى القصر فانتهى إلى القصر في جماعة الناس فدخله وأبو موسى في المسجد يخطبهم ويثبطهم والحسن يقول له اعتزل عملنا لا أم لك وتنح عن منبرنا وعمار ينازعه فأخرج الأشتر غلمان أبو موسى فدخل القصر فصاح به الأشتر اخرج لا أم لك أخرج الله نفسك فقال أجلني هذه العشية فقال هي لك ولا تبيتن في القصر الليلة ودخل الناس ينهبون متاع أبي موسى فمنعهم الأشتر وقال أنا له جار فكفوا عنه فنفر الناس في العدد المذكور.
وقيل إن عدد من سار إلى الكوفة اثنا عشر ألف رجل ورجل قال أبو الطفيل سمعت عليا يقول ذلك قبل وصولهم فقعدت فأحصيتهم فما زادوا رجلا ولا نقصوا رجلا وكان على كنانة وأسد وتميم والرباب ومزينة معقل
231

ابن يسار الرياحي وكان على سبع قيس سعد بن مسعود الثقفي عم المختار وعلي بكر وتغلب وعلة بن محدوج الذهلي وكان على مذحج والأشعريين حجر بن عدي وعلي بجيلة وأنمار وخثعم والأزد مخنف بن سليم الأزدي فقدموا على أمير المؤمنين بذي قار فلقيهم في ناس معه فيهم ابن عباس فرحب بهم وقال يا أهل الكوفة أنتم قاتلتم ملوك العجم وفضضتم جموعهم حتى صارت إليكم مواريثهم فمنعت حوزتكم وأعنتم الناس على عدوهم وقد دعوتكم لتشهدوا معنا إخواننا من أهل البصرة فإن يرجعوا فذاك الذي نريد وإن يلجوا داويناهم بالرفق حتى يبدأونا بظلم ولم ندع أمرا فيه صلاح إلا آثرناه على ما فيه الفساد إن شاء الله واجتمعوا عنده بذي قار وعبد القيس بأسرها في الطريق بين علي [وأهل] البصرة ينتظرونه وهم ألوف.
وكان رؤساء الجماعة من الكوفيين القعقاع بن عمرو وسعر بن مالك وهند بن عمرو والهيثم بن شهاب وكان رؤساء النفار زيد بن صوحان والأشتر وعدي بن حاتم والمسيب بن نجبة ويزيد بن قيس وأمثال لهم ليسوا دونهم إلا أنهم لم يؤمروا منهم حجر بن عدي فلما نزلوا بذي قار دعا على القعقاع فأرسله إلى أهل البصرة وقال ألق هذين الرجلين وكان القعقعاع من أصحاب النبي فادعهما إلى الألفة والجماعة وعظم عليهما الفرقة وقال له كيف تصنع فيما جاءك منهما وليس عندك فيه وصاة قال نلقاهم بالذي أمرت به فإذا جاء منهم ما ليس عندنا منك فيه رأي اجتهدنا رأينا
232

وكلمناهم كما نسمع ونري أنه ينبغي قال أنت لها فخرج القعقاع حتى قدم البصرة فبدأ بعائشة فسلم عليها وقال أي أمة ما أشخصك وما أقدمك هذه البلدة قالت أي بني الإصلاح بين الناس قال فابعثي إلى طلحة حتى تسمعي
كلامي وكلامها. فبعثت إليهما فجاءا فقال لهما إني سألت أم المؤمنين ما أقدمها فقالت الإصلاح بين الناس فما تقولان أنتما أمتابعان أم مخالفان قالا متابعان قال فأخبراني ما وجه هذا الإصلاح فوالله لئن عرفناه لنصلحن ولئن أنكرناه لا يصلح قالا قتلة عثمان فإن هذا إن ترك كان تركا للقرآن قال قد قتلتما قتلة عثمان من أهل البصرة وأنتم قبل قتلهم أقرب إلى الإستقامة منكم اليوم قتلتم ستمائة رجل فغضب لهم ستة آلاف واعتزلوكم وخرجوا من بين أظهركم وطلبتم حرقوص بن زهير فمنعه ستة آلاف فإن تركتموهم كنتم تاركين لما تقولون وإن قاتلتموهم والذي اعتزلوكم فأديلوا عليكم فالذي حذرتم وقويتم به هذا الأمر أعظم مما أراكم تكرهون وإن أنتم منعتم مضر وربيعة من هذه البلاد اجتمعوا على حربكم وخذلانكم نصرة لهؤلاء كما اجتمع هؤلاء لأهل هذا الحدث العظيم والذنب الكبير.
قالت عائشة فماذا تقول أنت قال أقول إن هذا الأمر دواؤه التسكين فإذا سكن اختلجوا فإن أنتم بايعتمونا فعلامة خير وتباشير رحمة ودرك بثأر وإن أنتم أبيتم إلا مكابرة هذا الأمر واعتسافه كانت علامة شر وذهاب هذا المال فآثروا العافية ترزقوها وكونوا مفاتيح الخير كما كنتم ولا تعرضونا للبلاء فتعرضوا له فيصرعنا وإياكم وأيم الله إني لأقول هذا القول وأدعوكم إليه وإني لخائف أن لا يتم حتى يأخذ الله حاجته من هذه الأمة التي قل متاعها ونزل بها ما نزل فإن هذا الأمر الذي حدث أمر ليس
233

يقدر وليس كقتل الرجل الرجل ولا النفر الرجل ولا القبيلة الرجل قالوا قد أصبت وأحسنت فارجع فإن قدم علي وهو على مثل أمرك صلح هذا الأمر.
فرجع إلى على فأخبره فأعجبه ذلك وأشرف القوم على الصلح كره ذلك من كرهه ورضيه من رضيه وأقبلت وفود العرب من أهل البصرة نحو علي بذي قار قبل رجوع القعقاع لينظروا ما رأى إخوانهم من أهل الكوفة وعلي أي حال نهضوا إليهم وليعلموهم أن الذي عليه رأيهم الإصلاح ولا يخطر لهم قتالهم على بال فلما لقوا عشائرهم من أهل الكوفة قال لهم الكوفيون مثل مقالتهم وأدخلوهم على علي فأخبروه بخبرهم وسأل علي جرير بن شرس عن طلحة والزبير فأخبره بدقيق أمرهما وجليلة وقال له أما الزبير فيقول بايعنا كرها وأما طلحة فيتمثل الأشعار ويقول:
(ألا أبلغ بني بكر رسولا * فليس إلى بني كعب سبيل)
(سيرجع ظلمكم منكم عليكم * طويل الساعدين له فضول)
فتمثل علي عندها:
(ألم تعلم أبا سمعان أنا * نرد الشيخ مثلك ذا الصداع)
(ويذهل عقله بالحرب حتى * يقوم فيستجيب لغير داع)
(فدافع عن خزاعة جمع بكر * وما بك يا سراقة من دفاع)
ورجعت وفود أهل البصرة برأي أهل الكوفة ورجع القعقاع من البصرة فقام علي خطيبا فحمد الله وذكر الجاهلية وشقاءها والإسلام والسعادة وإنعام الله
234

على الأمة بالجماعة بالخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الذي يليه ثم الذي يليه ثم حدث هذا الحدث الذي جره على هذه الأمة أقوام طلبوا هذه الدنيا حسدوا من أفاءها الله عليه وعلي الفضيلة وأرادوا رد الإسلام والأشياء على أدبارها والله بالغ أمره ألا وإني راحل إذا فارتحلوا ولا يرتحلن أحد أعان على عثمان بشيء من أمور الناس وليغن السفهاء عني أنفسهم.
فاجتمع نفر منهم علباء بن الهيثم وعدي بن حاتم وسالم بن ثعلبة القيسي وشريح بن أوفي والأشتر في عدة ممن سار إلى عثمان ورضي بيسير من سار وجاء معهم المصريون وابن السوداء وخالد بن ملجم فتشاوروا فقالوا ما الرأي وهذا علي وهو والله أبصر بكتاب الله ممن يطلب قتلة عثمان وأقرب إلى العمل بذلك وهو يقول ما يقول ولم ينفر إليه سواهم والقليل من غيرهم فكيف به إذا شام القوم وشاموه ورأوا قلتنا في كثرتهم وأنتم والله ترادون وما أنتم بالحي من شيء!
فقال الأشتر: قد عرفنا رأي طلحة والزبير فينا وأما علي فلم نعرف رأيه إلى اليوم ورأي الناس فينا واحد فإن يصطلحوا مع علي فعلي دمائنا فهلموا بنا نثب على علي وطلحة فنلحقهما بعثمان فتعود فتنة يرضي منا فيها بالسكون فقال عبد الله بن السوداء بئس الرأي رأيت أنتم يا قتلة بذي قار ألفان وخمسمائة أو نحو من ستمائة وهذا ابن الحنظلية يعني طلحة وأصحابه في نحو من خمسة آلاف بالأشواق إلى أن يجدوا إلى قتالكم سبيلا فقال علباء بن الهيثم انصرفوا بنا عنهم ودعوهم فإن قلوا كان أقوي لعدوهم عليهم وإن كثروا كان أحرى أن يصطلح عليكم دعوهم وارجعوا فتعلقوا ببلد من البلدان حتى يأتيكم فيه من تقوون به وامتنعوا من الناس فقال ابن السوداء بئس ما رأيت ود والله الناس أنكم انفردتم ولم تكونوا مع أقوام براء ولو انفردتم
235

لتخطفكم الناس كل شيء فقال عدي بن حاتم والله ما رضيت ولا كرهت ولقد عجبت من تردد من تردد عن قتله في خوض الحديث فإما إذا وقع ما وقع ونزل من الناس بهذه المنزلة فإن لنا عتادا من خيول وسلاح فإن أقدمتم أقدمنا وإن أمسكتم أمسكنا.
فقال ابن السوداء أحسنت وقال سالم بن ثعلبة من كان أراد بما أتي الدنيا فإني لم أرد ذلك والله لئن لقيتهم غدا لا أرجع إلى شيء وأحلف بالله إنكم لتفرقن السيف فرق قوم لا تصير أمورهم إلا إلى السيف فقال ابن السوداء قد قال قولا وقال شريح بن أوفي أبرموا أموركم قبل أن تحرجوا ولا تؤخروا أمرا ينبغي لكم تعجيله ولا تعجلوا أمرا ينبغي لكم تأخيره فإنا عند الناس بشر المنازل وما أدري ما الناس صانعون إذا ما هم التقوا وقال ابن السوداء يا قوم إن عزكم في خلطة الناس، فإذا التقي الناس فأنشبوا القتال ولا تفرغوهم للنظر فمن أنتم معه لا يجد بدا من أن يمتنع ويشغل الله عليا وطلحة والزبير ومن رأي رأيهم عما تكرهون فأبصروا الرأي وتفرقوا عليه والناس لا يشعرون.
وأصبح على علي ظهر ومضي ومضي معه الناس حتى نزل على عبد القيس فانضموا إليه وسار من هناك فنزل الزاوية وسار من الزاوية يريد البصرة وسار طلحة والزبير وعائشة من الفرضة فالتقوا عند موضع قصر عبيد الله بن زياد فلما نزل الناس أرسل شقيق بن ثور إلى عمرو بن مرحوم العبدي أن أخرج فإذا خرجت فمل بنا إلى عسكر علي فخرجا في عبد القيس وبكر بن وائل فعدلوا إلى عسكر علي فقال الناس من كان هؤلاء معه غلب وأقاموا ثلاثة أيام لم يكن بينهم قتال فكان يرسل علي إليهم يكلمهم ويدعوهم وكان نزولهم في النصف من جمادي الآخرة سنة ست وثلاثين ونزل بهم علي وقد
236

سبق أصحابه وهو يتلاحقون به فلما نزل قال أبو الجرباء للزبير إن الرأي أن تبعث ألف فارس إلى علي قبل أن يوافي إليه أصحابه فقال إنا لنعرف أمور الحرب ولكنهم أهل دعوتنا وهذا أمر حدث لم يكن قبل اليوم من لم يلق الله فيه بعذر انقطع عذره يوم القيامة وقد فارقنا وفدهم على أمر وأنا أرجو أن يتم لنا الصلح فأبشروا واصبروا. وأقبل صبرة بن شيمان فقال لطلحة والزبير انتهزا بنا هذا الرجل فإن الرأي في الحرب خير من الشدة فقالا إن هذا أمر لم يكن قبل اليوم فينزل فيه قرآن أو يكون فيه سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد زعم قوم أنه لا يجوز تحريكه وهم علي ومن معه وقلنا نحن إنه لا ينبغي لنا أن نتركه ولا نؤخره وقد قال علي ترك هؤلاء القوم شر وهو خير من شر منه وقد كاد يتبين لنا وقد جاءت الأحكام بين المسلمين بأعمها منفعة وقال كعب بن سور يا قوم اقطعوا هذا العنق من هؤلاء القوم فأجابوه بنحو ما تقدم. وقام علي فخطب الناس.
فقام إليه الأعور بن بنان المنقري فسأله عن إقدامهم على أهل البصرة فقال له علي على الإصلاح وإطفاء النائرة لعل الله يجمع شمل هذه الأمة بنا ويضع حربهم قال فإن لم يجيبونا قال تركناهم ما تركونا قال فإن لم يتركونا قال دفعناهم على أنفسنا قال فهل لهم من هذا مثل الذي عليهم قال نعم وقام إليه أبو سلامة الدالاني فقال أترى لهؤلاء القوم حجة فيما طلبوا من هذا الدم إن كانوا أرادوا الله بذلك قال نعم قال أفتري لك حجة بتأخير ذلك قال نعم إن الشيء إذا كان لا يدرك إن الحكم فيه أحوطه وأعمه
237

نفعا. قال فما حالنا وحالهم إن ابتلينا غدا قال إني لأرجو أن لا يقتل منا ومنهم أحد نقي قلبه لله إلا أدخله الله الجنة.
وقال في خطبته أيها الناس املكوا عن هؤلاء القوم أيديكم وألسنتكم وإياكم أن تسبقونا فإن المخصوم غدا من خصم
اليوم وبعث إليهم حكيم بن سلامة ومالك بن حبيب إن كنتم على ما فارقتم عليه القعقاع فكفوا حتى ننزل وننظر في هذا الأمر وخرج إليه الأحنف بن قيس وبنو سعد مشمرين قد منعوا حرقوص بن زهير وهم معتزلون، وكان الأحنف قد بايع عليا بعد قتل عثمان لأنه كان قد حج وعاد من الحج فبايعه قال الأحنف ولم أبايع عليا حتى لقيت طلحة والزبير وعائشة بالمدينة وأنا أريد الحج وعثمان محصور فقلت لكل منهم إن الرجل مقتول فمن تأمرونني أبايع فكلهم قال بايع عليا فقلت أترضونه لي فقالوا نعم فلما قضيت حجي ورجعت إلى المدينة رأيت عثمان قد قتل فبايعت عليا ورجعت إلى أهلي ورأيت الأمر قد استقام فبينما أنا كذلك إذ أتاني آت فقال هذه عائشة وطلحة والزبير بالخريبة يدعونك فقلت ما جاء بهم قال يستنصرونك على قتال علي في دم عثمان فأتاني أفظع أمر فقلت إن خذلاني أم المؤمنين وحواري رسول الله صلى الله عليه وسلم لشديد وإن قتال ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أمروني ببيعته أشد.
فلما أتيتهم قالوا جئنا لكذا وكذا قال فقلت يا أم المؤمنين ويا زبير ويا طلحة نشدتكم الله أقلت لكم من تأمرونني أبايع فقلتم بايع عليا فقالوا نعم ولكنه بدل وغير فقلت والله لا أقاتلكم ومعكم أم المؤمنين ولا أقاتل ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أمرتموني ببيعته ولكني أعتزل فأذنوا له في ذلك فاعتزل بالجلحاء ومعه زهاء ستة آلاف وهي من البصرة على فرسخين فلما قدم علي أتاه الأحنف
238

فقال له إن قومنا بالبصرة يزعمون إنك إن ظهرت عليهم غدا قتلت رجالهم وسبيت نساءهم قال ما مثلي يخاف هذا منه وهل يحل هذا إلا لمن تولي وكفر وهم قوم مسلمون قال اختر مني واحدة من اثنتين إما أن أقاتل معك وإما أن أكف عنك عشرة آلاف سيف قال فكيف بما أعطيت أصحابك من الاعتزال قال إن من الوفاء لله قتالهم قال فاكفف عنا عشرة آلاف سيف فرجع إلى الناس فدعاهم إلى القعود ونادى يا آل خندف فأجابه ناس ونادى يا آل تميم فأجابه ناس ثم نادى يا آل سعد فلم يبق سعدي إلا أجابه فاعتزل بهم ونظر ما يصنع الناس فلما كان القتال وظفر علي دخلوا فيما دخل فيه الناس وافرين.
فلما تراءى الجمعان خرج الزبير على فرس عليه سلاح فقيل لعلي هذا الزبير فقال أما إنه أحرى الرجلين إن ذكر بالله تعالى أن يذكر.
وخرج طلحة فخرج إليهما علي حتى اختلفت أعناق دوابهم فقال علي لعمري قد أعددتما سلاحا وخيلا ورجالا إن كنتما أعددتما عند الله عذرا فاتقيا الله ولا تكونا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا ألم أكن أخاكما في دينكما تحرمان دمي وأحرم دمكما فهل من حدث أحل لكما دمي قال طلحة ألبت الناس على عثمان قال علي يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق يا طلحة تطلب بدم عثمان فلعن الله قتلة عثمان يا طلحة أجئت بعرس رسول الله صلى الله عليه وسلم تقاتل بها وخبأت عرسك في البيت أما بايعتني قال بايعتك والسيف على عنقي. فقال علي للزبير يا زبير ما أخرجك قال أنت ولا أراك لهذا الأمر أهلا
239

ولا أولي به منا فقال له علي ألست له أهلا بعد عثمان قد كنا نعدك من بني عبد المطلب حتى بلغ ابنك ابن السوء ففرق بيننا وذكره أشياء وقال له تذكر يوم مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني غنم فنظر إلى وضحك وضحكت له فقلت له لا يدع ابن أبي طالب زهوة فقال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بمزة لتقاتلنه وأنت ظالم له قال اللهم نعم ولو ذكرت ما سرت مسيري هذا والله لا أقاتلك أبدا فانصرف علي إلى أصحابه فقال أما الزبير فقد أعطي الله عهدا أن لا يقاتلكم ورجع الزبير إلى عائشة فقال لها ما كنت في موطن عقلت إلا وأنا أعرف فيه أمري غير موطني هذا قالت فما تريد أن تصنع قال أريد أن أدعهم وأذهب قال له ابنه عبد الله جمعت بين هذين الفئتين حتى إذا حدد بعضهم لبعضهم أردت أن تتركهم وتذهب لكنك خشيت رايات ابن أبي طالب وعلمت أنها تحملها فتية أنجاد وأن تحتها الموت الأحمر فجبنت فأحفظه ذلك وقال إني حلفت أن لا أقاتله قال كفر عن يمينك وقاتله فأعتق غلامه مكحولا وقيل سرجس فقال عبد الرحمن بن سليمان التميمي:
(لم أر كاليوم أخا إخوان * أعجب من مكفر الإيمان)
الأبيات.
وقيل إنما عاد الزبير عن القتال لما سمع أن عمار بن ياسر
240

مع علي فخاف أن يقتل عمارا وقد قال النبي يا عمار تقتلك الفئة الباغية فرده ابنه عبد الله كما ذكرناه. وافترق أهل البصرة ثلاث فرق فرقة مع طلحة والزبير وفرقة مع علي وفرقة لا تري القتال منهم الأحنف وعمران بن حصين وغيرهما وجاءت عائشة فنزلت في مسجد الحدان في الأزد ورأس الأزد يومئذ صبرة بن شيمان فقال له كعب بن سور إن الجموع إذا تراءت لم تستطع إنما هي بحور تدفق فأطعني ولا تشهدهم واعتزل بقومك فإني أخاف أن لا يكون صلح ودع مضر وربيعة فهما أخوان فإن اصطلحا فالصلح أردنا وإن اقتتلا كنا حكاما عليهم غدا.
وكان كعب في الجاهلية نصرانيا فقال له صبرة أخشى أن يكون فيك شيء من النصرانية أتأمرني أن أغيب عن إصلاح بين الناس وأن أخذل أم المؤمنين وطلحة والزبير إن ردوا عليهم الصلح وأدع الطلب بدم عثمان والله لا أفعل هذا أبدا فأطبق أهل اليمن على الحضور. وحضر مع عائشة المنجاب بن راشد في الرباب وهم تيم وعدي وثور وعكل بنو عبد مناف بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر وضبة بن أد بن طابخة وحضر أيضا أبو الجرباء في بني عمرو بن تميم وهلال بن وكيع في بني حنظلة وصبرة بن شيمان على الأزد ومجاشع بن مسعود السلمي على سليم وزفر بن الحارث في بني عامر وغطفان ومالك بن مسمع على بكر والخريت بن راشد علي بني ناجية وعلي اليمن ذو الآجرة الحميري.
ولما خرج طلحة والزبير نزلت مضر جميعا وهو لا يشكون في الصلح ونزلت ربيعة فوقهم وهم لا يشكون في الصلح ونزلت اليمن أسفل منهم ولا يشكون في الصلح وعائشة في الحدان والناس بالزابوقة على رؤسائهم هؤلاء وهم ثلاثون ألفا وردوا حكيما ومالكا إلى علي إننا ما فارقنا عليه
241

القعقاع، ونزل علي بحيالهم فنزلت مضر إلى مضر وربيعة إلى ربيعة واليمن إلى اليمن فكان بعضهم يخرج إلى بعض لا يذكرون إلا الصلح وكان أصحاب علي عشرين ألفا وخرج علي وطلحة والزبير فتوافقوا فلم يروا أمثل من الصلح ووضع الحرب فافترقوا على ذلك. وبعث علي من العشي عبد الله بن عباس إلى طلحة والزبير وبعثاهما محمد بن أبي طلحة إلى علي وأرسل علي إلى رؤساء أصحابه وطلحة والزبير إلى رؤساء أصحابهما بذلك فباتوا بليلة لم يبيتوا بمثلها للعافية التي أشرفوا عليها والصلح، وبات الذين أثاروا أمر عثمان بشر ليلة وقد أشرفوا على الهلكة وباتوا يتشاورون ليلتهم فاجتمعوا على إنشاب الحرب في السر فغدوا مع الغلس وما يشعر بهم فخرجوا متسللين وعليهم ظلمة فقصد مضرهم إلى مضرهم وربيعتهم إلى ربيعتهم ويمنهم إلى يمنهم فوضعوا فيهم السلاح فثار أهل البصرة وثار كل قوم في وجوه أصحابهم الذين أتوهم وبعث طلحة والزبير إلى الميمنة وهم ربيعة أميرا عليها عبد الرحمن بن الحارث وإلي الميسرة عبد الرحمن بن عتاب وثبتا في القلب وقالا ما هذا قالوا طرقنا أهل الكوفة ليلا فقالا قد علمنا أن عليا غير منته حتى يسفك الدماء وأنه لن يطاوعنا فرد أهل البصرة أولئك الكوفيين إلى عسكرهم.
فسمع علي وأهل الكوفة الصوت وقد وضع السبئية رجلا قريبا منه يخبره بما يريد فلما قال علي ما هذا؟ قال ذلك الرجل ما شعرنا إلا وقوم منهم قد بيتونا فرددناهم فوجدنا القوم على رجل فركبونا وثار الناس فأرسل علي صاحب الميمنة إلى الميمنة وصاحب الميسرة إلى الميسرة وقال لقد علمت أن طلحة والزبير غير منتهين حتى يسفكا الدماء وأنهما لن يطاوعانا والسبئية لا تفتر [إنشابا]، ونادى علي في الناس: كفوا فلا شيء، وكان من رأيهم
242

جميعا في تلك الفتنة أن لا يقتتلوا حتى يبدأون يطلبون بذلك الحجة وأن لا يقتلوا مدبرا ولا يجهزوا على جريح ولا يستحلوا سلبا ولا يرزأوا بالبصرة سلاحا ولا ثيابا ولا متاعا. وأقبل كعب بن سور حتى أتي عائشة فقال أدركي فقد أبي القوم ألا القتال لعل الله أن يصلح بك.
فركبت وألبسوا هودجها الأدراع فلما برزت من البيوت وهي على الجمل بحيث يسمع الغوغاء وقفت واقتتل الناس وقاتل الزبير فحمل عليه عمار بن ياسر فجعل يحوزه بالرمح والزبير كاف عنه ويقول أتقتلني يا أبا اليقظان؟ فيقول لا يا أبا عبد الله وإنما كف الزبير عنه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم تقتل عمارا الفئة الباغية
ولولا ذلك لقتله. وبينما عائشة واقفة إذ سمعت ضجة شديدة فقالت ما هذا قالوا ضجة العسكر قالت بخير أو بشر؟ قالوا بشر فما فجأها إلا الهزيمة فمضي الزبير من وجهه إلى وادي السباع وإنما فارق المعركة لأنه قاتل تعذيرا لما ذكر له علي.
وأما طلحة فأتاه سهم غرب فأصابه فشك رجله بصفحة الفرس وهو ينادي إلى إلى عباد الله الصبر الصبر! فقال له القعقاع بن عمرو يا أبا محمد إنك لجريح وإنك عما تريد لعليل فأدخل البيوت فدخل ودمه يسيل وهو يقول اللهم خذ لعثمان مني حتى ترضي فلما امتلأ خفه دما وثقل قال لغلامه أردفني وأمسكني وأبلغني مكانا أنزل فيه. فدخل البصرة فأنزله في دار خربة فمات فيها. وقيل إنه اجتاز به رجل من أصحاب علي فقال له أنت من أصحاب أمير المؤمنين قال نعم قال أمدد يدك أبايعك له فبايعه فخاف أن يموت وليس في عنقه بيعة ولما قضي دفن في بني سعد وقال لم أر
243

شيخا أضيع دما مني وتمثل عند دخول البصرة مثله ومثل الزبير:
(فإن تكن الحوادث أقصدتني * وأخطأهن سهمي حين أرمي)
(فقد ضيعت حين تبعت سهما * سفاها ما سفهت وضل حلمي)
(ندمت ندامة الكسعي آل لأي * فألقوا للسباع دمي ولحمي)
وكان الذي رمي طلحة مروان بن الحكم وقيل غيره. وأما الزبير فإنه مر بعسكر الأحنف بن قيس فقال والله ما هذا انحياز جمع بين المسلمين حتى ضرب بعضهم بعضا لحق بيته. وقال الأحنف للناس من يأتيني بخبره فقال عمرو بن جرموز لأصحابه أنا فاتبعه فلما لحقه نظر إليه الزبير قال ما وراءك قال إنما أريد أن أسألك فقال غلام للزبير اسمه عطية إنه معد قال ما يهولك من رجل وحضرت الصلاة فقال ابن جرموز الصلاة فقال الزبير الصلاة. فلما نزلا استدبره ابن جرموز فطعنه في جربان درعه فقتله وأخذ فرسه وسلاحه وخاتمه وخلي عن الغلام فدفنه بوادي السباع ورجع إلى الناس بالخبر وقال الأحنف لابن جرموز والله ما أدري أحسنت أم أسأت.
فأتي ابن جرموز عليا فقال لحاجبه استأذن لقاتل الزبير. فقال علي ائذن له وبشره بالنار. وأحضر سيف الزبير عند علي فأخذه فنظر إليه وقال طالما جلي به الكرب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث به إلى عائشة لما انجلت الوقعة وانهزم الناس يريدون البصرة فلما رأوا الخيل أطافت بالجمل عادوا قلبا كما كانوا حيث التقوا وعادوا في أمر جديد ووقفت ربيعة بالبصرة
244

ميمنة وبعضهم ميسرة وقالت عائشة لما انجلت الوقعة وانهزم الناس لكعب بن سور خل عن الجمل وتقدم بالمصحف فادعهم إليه وناولته مصحفا فاستقبل القوم والسبئية أمامهم فرموه رشقا واحدا فقتلوه ورموا أم المؤمنين في هودجها فجعلت تنادي البقية البقية يا بني ويعلو صوتها كثرة الله الله اذكروا الله والحساب فيأبون إلا إقداما فكان أول شيء أحدثته حين أبوا أن قالت أيها الناس العنوا قتلة عثمان! وأشياعهم وأقبلت تدعو وضج الناس بالدعاء فسمع علي فقال ما هذه الضجة؟ قالوا عائشة تدعو على قتلة عثمان وأشياعهم فقال علي اللهم ألعن قتلة عثمان! فأرسلت إلى عبد الرحمن بن عتاب وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن أثبتا مكانكما وحرضت الناس حين رأت القوم يريدونها ولا يكفون فحملت مضر البصرة حتى قصفت مضر الكوفة حتى زحم علي فنخس على قفا ابنه محمد وكانت الراية معه وقال له احمل فتقدم حتى لم يجد متقدما إلا على سنان رمح فأخذ علي الراية من يده وقال يا بني بين يدي.
وحملت مضر الكوفة فاجتلدوا قدام الجمل حتى ضرسوا والمجنبتان على حالهما لا تصنع شيئا ومع على قوم من غير مضر منهم زيد بن صوحان طلبوا ذلك منه فقال له رجل تنح إلى قومك مالك ولهذا الموقف الست تعلم أن مضر بحيالك والجمل بين يديك وأن الموت دونه؟ فقال الموت خير من الحياة الموت أريد، فأصيب هو وأخوه سيحان وأرتث صعصعة أخوهما واشتدت الحرب فلما رأى على ذلك بعث إلى ربيعة وإلي اليمن أن أجمعوا من يليكم فقام رجل من عبد القيس من أصحاب علي فقال ندعوكم إلى كتاب الله فقالوا وكيف يدعونا إليه من لا يستقيم ولا يقيم حدود الله وقد قتل كعب بن سور داعي الله ورمته ربيعة رشقا واحدا فقتلوه فقام مسلم بن
245

عبد الله العجلي مكانه فرشقوه رشقا واحدا فقتلوه ودعت يمن الكوفة يمن البصرة فرشقوهم وأبي أهل الكوفة إلا القتال ولم يريدوا إلا عائشة فذكرت أصحابها فاقتتلوا حتى تنادوا فتحاجزوا ثم رجعوا فاقتتلوا وتزاحف الناس وظهرت يمن البصرة على يمن الكوفة فهزمتهم وربيعة البصرة على ربيعة الكوفة فهزمتهم ثم عاد يمن الكوفة فقتل علي رايتهم عشرة خمسة من همدان وخمسة من سائر اليمن فلما رأى ذلك يزيد بن قيس أخذها فثبتت في يده وهو يقول:
(قد عشت يا نفسي وقد عشيت * دهرا فقدك اليوم ما بقيت)
(أطلب طول العمر ما حييت)
وإنما تمثلها وقال ابن أبي نمران الهمداني:
(جردت سيفي في رجال الأزد * أضرب في كهولهم والمرد)
(كل طويل الساعدين نهد)
ورجعت ربيعة الكوفة فاقتتلوا قتالا شديدا فقتل علي رايتهم وهم في الميسرة زيد وعبد الله بن رقبة وأبو عبيدة بن راشد بن سلمي وهو يقول اللهم أنت هديتنا من الضلالة واستنقذتنا من الجهالة وابتليتنا بالفتنة فكنا في شبهة وعلي ريبة وقتل.
واشتد الأمر حتى لزقت ميمنة أهل الكوفة بقلبهم وميسرة أهل البصرة بقلبهم ومنعوا ميمنة أهل الكوفة أن يختلطوا بقلبهم وإن كانوا إلى جنبهم وفعل مثل ذلك ميسرة أهل الكوفة بميمنة أهل البصرة فلما رأى الشجعان من مضر الكوفة والبصرة الصبر تنادوا طرفوا إذا فرغ الصبر فجعلوا يقصدون الأطراف الأيدي والأرجل رؤي وقعة كانت أعظم منها قبلها ولا بعدها ولا أكثر ذراعا مقطوعة ولا رجلا مقطوعة وأصيبت يد عبد الرحمن
246

ابن عتاب قبل قتله فنظرت عائشة من يسارها فقالت من القوم عن يساري قال صبرة بن شيمان بنوك الأزد فقالت يا آل غسان حافظوا اليوم [على] جلادكم الذي كنا نسمع به وتمثلت:
(وجالد من غسان أهل حفاظها * وكعب وأوس جالدت وشبيب)
فكان الأزد يأخذون بعر الجمل يشمونه ويقولون بعر جمل أمنا ريحه ريح المسك وقالت لمن عن يمينها من القوم عن يميني قال بكر بن وائل قالت لكم يقول القائل:
(وجاؤوا إلينا في الحديد كأنهم * من العزة القعساء بكر بن وائل)
إنما بإزائكم عبد القيس فاقتتلوا أشد من قتالهم قبل ذلك. وأقبلت على كتيبة بين يديها فقالت من القوم؟ قالوا بنو ناجية قالت بخ بخ سيوف أبطحية قرشية! فجالدوا جلادا يتفادى منه. ثم أطافت بها بنو ضبة فقالت ويها جمرة الجمرات! فلما رقوا خالطهم بنو عدي بن عبد مناة وكثروا حولها فقالت من أنتم قالوا بنو عدي خالطنا إخوتنا فأقاموا رأس الجمل وضربوا ضربا شديدا ليس بالتعذير ولا يعدلون بالتطريف حتى إذا كثر ذلك وظهر في العسكرين جميعا راموا الجمل وقالوا لا يزال القوم أو يصرع الجمل وصار مجنبتا علي إلى القلب وفعل ذلك أهل البصرة وكره القوم بعضهم بعضا وأخذ عميرة بن يثربي برأس الجمل وكان قاضي البصرة قبل كعب بن سور فشهد الجمل هو وأخوه عبد الله فقال على من يحمل على الجمل؟ فانتدب
247

له هند بن عمرو الجملي المرادي فاعترضه ابن يثربي فاختلفا ضربتين فقتله ابن يثربي ثم حمل علباء بن الهيثم فاعترضه ابن يثربي فقتله وقتل سيحان بن صوحان وارتث صعصعة وقال ابن يثربي:
(أنا لمن ينكرني ابن يثربي * قاتل علباء وهند الجملي)
(وابن لصوحان على دين علي)
وقال ابن يثربي أيضا:
(أضربهم ولا أرى أبا حسن * كفي بهذا حزنا من الحزن)
(إنا نمر الأمر إمرار الرسن)
فناداه عمار لقد عذت بحريز وما إليك من سبيل فإن كنت صادقا فأخرج من هذه الكتيبة إلى. فترك الزمام في يد رجل من بني عدي حتى إذا كان بين الصفين تقدم عمار وهو ابن تسعين سنة وقيل أكثر من ذلك عليه فرو قد شد
وسطه بحبل ليف وهو أضعف من مبارزة واسترجع الناس وقالوا هذا لاحق بأصحابه وضربه ابن يثربي فاتقاه عمار بدرقته فنشب سيفه فيها فعالجه فلم يخرج وأسف عمار لرجليه فضربه فقطعهما فوقع على استه وأخذ أسيرا فأتي به إلى علي فقال استبقني فقال أبعد ثلاثة تقتلهم وأمر به فقتل وقيل إن المقتول عمرو بن يثربي وأن عميرة بقي حتى ولي قضاء البصرة مع معاوية ولما قتل ابن يثربي تولي ذلك العدوي الزمام فتركه بيد رجل من بني عدي وبرز فخرج إليه ربيعة العقيلي يرتجز ويقول:
(يا أمنا أعق أم نعلم * والأم تغذو ولدا وترحم)
(ألا ترين كم شجاع يكلم * وتختلي منه يد ومعصم)
248

كذب فهي من أبر أم نعلم ثم اقتتلا فأثخن كل واحد منهما صاحبه فماتا جميعا وقام مقام العدوي الحارث الضبي فما رؤي أشد منه وجعل يقول:
(نحن بنو ضبة أصحاب الجمل * نبارز القرن إذا القرن نزل)
(ننعي ابن عفان بأطراف الأسل * الموت أحلي عندنا من العسل)
(ردوا علينا شيخنا ثم بجل)
وقيل إن هذه الأبيات لوسيم بن عمرو الضبي وكان عمرو يحرض أصحابه يوم الجمل وقد أخذ الخطام ويقول:
(نحن بنو ضبة لا نفر * حتى نرى جماجما تخر)
(يخر منها العلق المحمر)
ويقول:
(يا أمتا يا عيش لن تراعي * كل بنيك بطل شجاع)
ويقول:
(يا أمتا يا زوجة النبي * يا زوجة المبارك المهدي)
ولم يزل الأمر كذلك حتى قتل على الخطام أربعون رجلا قالت عائشة ما زال جملي معتدلا حتى فقدت أصوات بني ضبة.
قال وأخذ الخطام سبعون رجلا من قريش كلهم يقتل وهو آخذ بخطام الجمل وكان ممن أخذ بزمام الجمل محمد بن طلحة وقال يا أمتاه مريني بأمرك قالت آمرك أن تكوني خير بني آدم إن تركت، فجعل لا يحمل عليه أحد إلا حمل [عليه]، وقال
249

حاميم لا ينصرون واجتمع عليه نفر كلهم ادعي قتله المكعبر الأسدي والمكعبر الضبي ومعاوية بن شداد العبسي وعفار السعدي النصري فأنفذه بعضهم بالرمح ففي ذلك يقول:
(وأشعث قوام بآيات ربه * قليل الأذى فيما ترى العين مسلم)
(هتكت له بالرمح جيب قميصه * فخر صريعا لليدين والفم)
(يذكرني حاميم والرمح شاجر * فهلا تلا حاميم قبل التقدم)
(على غير شيء غير أن ليس تابعا * عليا ومن لا يتبع الحق يندم)
وأخذ الخطام عمرو بن الأشرف فجعل لا يدنو منه أحد إلا خبطه بالسيف فأقبل إليه الحارث بن زهير الأزدي وهو يقول:
(يا أمنا يا خير أم نعلم * أما ترين كم شجاع يكلم)
(وتختلي هامته والمعصم)
فاختلفا ضربتين فقتل كل واحد منهما صاحبه وأحدق أهل النجدات والشجاعة بعائشة فكان لا يأخذ الخطام أحد إلا قتل وكان لا يأخذه والراية إلا معروف عند المطيفين بالجمل فينتسب أنا فلان بن فلان فوالله إن كان ليقاتلون عليه وإنه للموت لا يوصل إليه إلا بطلبة وعنت وما رامه أحد من أصحاب علي إلا قتل أو أفلت ثم لم يعد وحمل عدي بن حاتم الطائي عليهم ففقئت عينه.
وجاء عبد الله بن الزبير ولم يتكلم فقالت من أنت فقال ابنك ابن أختك قالت واثكل أسماء.
وانتهي إليه الأشتر فاقتتلا فضربه الأشتر على رأسه فجرحه جرحا شديدا وضربه عبد الله ضربة خفيفة واعتنق كل رجل منهما صاحبه وسقطا إلى الأرض يعتركان فقال ابن الزبير:
250

(اقتلوني ومالكا * واقتلوا مالكا معي)
فلو يعلمون من مالك لقتلوه إنما كان يعرف بالأشتر فحمل أصحاب علي وعائشة فخلصوهما. قال الأشتر: لقيت عبد الرحمن بن عتاب فلقيت أشد الناس وأخرقه ما لبثته أن قتلته ولقيت الأسود بن عوف فلقيت أشد الناس وأشجعه فما كدت أنجو منه فتمنيت أني لم أكن لقيته ولحقني جندب بن زهير الغامدي فضربته وقتلته قال ورأيت عبد الله بن حكيم بن حزام وعنده راية قريش وهو يقاتل عدي بن حاتم وهما يتصاولان تصاول الفحلين فتعاورناه فقتلناه يعني عبد الله قال وأخذ الخطام الأسود بن أبي البختري فقتل وهو قرشي أيضا وأخذه عمرو بن الأشرف فقتل وقتل معه ثلاثة عشر رجلا من أهل بيته وهو أزدي وجرح مروان بن الحكم وجرح عبد الله بن الزبير سبعا وثلاثين جراحة من طعنة ورمية قال وما رأيت مثل يوم الجمل ما ينهزم منا أحد وما نحن إلا كالجبل الأسود وما يأخذ بخطام الجمل أحد إلا قتل حتى ضاع الخطام ونادى علي اعقروا الجمل فإنه إن عقر تفرقوا فضربه رجل فسقط فما سمعت صوتا أشد من عجيج الجمل وكانت راية الأزد من أهل الكوفة مع محنف بن سليم فقتل وأخذها الصقعب وأخوه عبد الله بن سليم فقتل وأخذها العلاء بن عروة فكان الفتح وهي بيده. وكانت راية عبد القيس من أهل الكوفة مع القاسم بن سليم فقتل وقتل معه زيد وسيحان ابنا صوحان وأخذها عدة نفر فقتلوا منهم عبد الله بن رقية ثم أخذها
251

منقذ بن النعمان فدفعها إلى ابنه مرة بن منقذ فانقضي الحرب وهي في يده وكانت راية بكر بن وائل في بني ذهل مع الحارث بن حسان الذهلي فأقدم وقال يا معشر بكر لم يكن أحد له من رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل منزلة صاحبكم [فانصروه]، فتقدم وقاتلهم فقتل ابنه وخمسة من بني أهله وقتل الحارث فقيل فيه:
(أنعى الرئيس الحارب بن حسان * لآل ذهل ولآل شيبان.
وقال رجل من بني ذهل:
(تنعى لنا خير امرئ من عدنان * عند الطعان ونزال الأقران)
وقال أخوه بشر بن حسان:
(أنا ابن حسان بن خوط وأبي * رسول بكر كلها إلى النبي)
وقتل رجل من بني محدوج وقتل من بني ذهل خمسة وثلاثون رجلا.
وقال رجل لأخيه وهو يقاتل يا أخي ما أحسن قتالنا إن كنا على الحق قال فإنا على الحق إن الناس أخذوا يمينا وشمالا وإنا تمسكنا بأهل بيت نبينا فقاتلا حتى قتلا.
وجرح يومئذ عمير بن الأهلب الضبي فمر به رجل من أصحاب علي وهو في الجرحى يفحص برجليه ويقول:
(لقد أوردتنا حومة الموت أمنا * فلم ننصرف إلا ونحن رواء)
(لقد كان في نصر ابن ضبة أمه * وشيعتها مندوحة وغناء)
(أطعنا قريشا ضلة من حلومنا * ونصرتنا أهل الحجاز عناء)
252

(أطعنا بني تيم بن مرة شقوة * وهل تيم إلا أعبد وإماء)
فقال له الرجال قل لا إله إلا الله قال ادن مني فلقني فبي صمم فدنا منه الرجل فوثب عليه فعض أذنه فقطعها.
وقيل في عقر الجمل إن القعقاع لقي الأشتر وقد عاد من القتال عند الجمل فقال هل لك في العود فلم يجبه فقال يا أشتر بعضنا أعلم بقتال بعض منك وحمل القعقاع والزمام مع زفر بن الحارث وكان آخر من أخذ الخطام فلم يبق شيخ من بني عامر إلا أصيب قدام الجمل وزفر بن الحارث يرتجز ويقول:
(يا أمتا مثلك لا يراع * كل بنيك بطل شجاع)
(ليس بوهواه ولا براع)
وقال القعقاع:
(إذا وردنا آجنا جهرناه * ولا يطاق ورد ما منعناه)
وزحف إلى زفر بن الحارث الكلاعي وتسرعت عامر إلى حربه فأصيبوا فقال القعقاع لبجير بن دلجة وهو من أصحاب علي يا بجير بن دلجة صح بقومك فليعقروا الجمل قبل أن تصابوا وتصاب أم المؤمنين. فقال بجير: يا آل ضبة يا عمرو بن دلجة ادع بي إليك فدعاه فقال أنا آمن حتى أرجع عنكم قال نعم فاجتث ساق البعير فرمي نفسه على شقه وجرجر البعير فقال القعقاع لمن يليه أنتم آمنون واجتمع هو وزفر على قطع بطان البعير وحملا الهودج فوضعاه وإنه كالقنفذ لما فيه من السهام ثم أطافا به وفر من وراء ذلك من الناس. فلما انهزموا أمر على مناديا فنادى ألا لا تتبعوا
253

مدبرا ولا تجهزوا على جريح ولا تدخلوا الدور. وأمر على نفرا أن يحملوا الهودج من بين القتلى وأمر أخاها محمد بن أبي بكر أن يضرب عليها قبة وقال انظر هل وصل إليها شيء من جراحة. فأدخل رأسه في هودجها فقالت من أنت فقال أبغض أهلك إليك قالت ابن الخثعمية قال نعم قالت الحمد لله الذي عافاك!
وقيل لما سقط الجمل أقبل محمد بن أبي بكر إليه ومعه عمار فاحتملا الهودج فنحياه فأدخل محمد يده فيه فقالت من هذا فقال أخوك البر قالت عقق قال يا أخية هل أصابك شيء قالت ما أنت وذاك قال فمن إذا الضلال قالت بل الهداة وقال لها عمار كيف رأيت ضرب بنيك اليوم يا أمه قالت لست لك بأم قال بلي وإن كرهت قالت فخرتم إن ظفرتم وأتيتم مثل الذي نقمتم هيهات والله لن يظفر من كان هذا دأبه!
فأبرزوا هودجها فوضعوها ليس قربها أحد، وأتاها علي فقال كيف أنت يا أمه قالت بخير قال يغفر الله لك قالت ولك. وجاء أعين بن ضبيعة بن أعين المجاشعي حتى اطلع في الهودج فقالت إليك لعنك الله! فقال والله ما أرى إلا حميراء فقالت له هتك الله سترك وقطع يدك وأبدي عورتك فقتل بالبصرة وقطعت يده ورمي به عريانا في خربة من خرابات الأزد. ثم أتي وجوه الناس عائشة وفيهم القعقاع بن عمرو فسلم عليها فقالت إني رأيت بالأمس رجلين اجتلدا وارتجزا بكذا فهل تعرف كوفيك.
قال نعم ذاك الذي قال أعق أم نعلم وكذب إنك لأبر أم نعلم ولكن لم تطاعي قالت والله لوددت أني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة.
وخرج من عندها فأتي عليا فقال له علي والله لوددت أني مت
254

من قبل هذا اليوم بعشرين سنة وكان علي يقول ذلك اليوم بعد الفراغ من القتال:
(إليك أشكو عجزي وبجري * ومعشرا أغشوا على بصري)
(قتلت منهم مضرا بمضري * شفيت نفسي وقتلت معشري)
فلما كان الليل أدخلها أخوها محمد بن أبي بكر البصرة فأنزلها في دار عبد الله بن خلف الخزاعي على صفية بنت الحارث بن أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار وهي أم طلحة الطلحات بن عبد الله بن خلف وتسلل الجرحى من بين القتلى ليلا فدخلوا البصرة فأقام علي بظاهر البصرة ثلاثا وإذن للناس في دفن موتاهم فخرجوا إليهم فدفنوهم وطاف علي في القتلى فلما أتي علي كعب بن سور قال أزعمتم أنه خرج معهم السفهاء وهذا الحبر قد ترون! وأتى على عبد الرحمن بن عتاب فقال هذا يعسوب القوم يعني أنهم كانوا يطيفون به واجتمعوا على الرضا به لصلاتهم، ومر على طلحة بن عبيد الله وهو صريع فقال لهفي عليك يا أبا محمد إنا لله وإنا إليه راجعون والله لقد كنت أكره أن أرى قريشا صرعى أنت والله كما قال الشاعر:
(فتي كان يدنيه الغنى من صديقه * إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر)
وجعل كلما مر برجل فيه خير قال زعم من زعم أنه لم يخرج إلينا إلا الغوغاء وهذا العابد المجتهد فيهم. وصلي على على القتلى من أهل البصرة والكوفة وصلي على قريش من هؤلاء وهؤلاء وأمر فدفنت الأطراف في قبر عظيم وجمع ما كان في العسكر شيء وبعث به إلى مسجد البصرة وقال من عرف شيئا فليأخذه إلا سلاحا كان في الخزائن عليه سمة السلطان. وكان جميع القتلى عشرة آلاف نصفهم من أصحاب على ونصفهم من أصحاب عائشة
255

وقيل غير ذلك، وقتل من ضبة ألف رجل وقتل من بني عدي حول الجمل سبعون رجلا كلهم قد قرأ القرآن سوى الشباب ومن لم يقرأ. ولما فرغ على من الوقعة أتاه الأحنف بن قيس في بني سعد وكانوا قد اعتزلوا القتال فقال له على تربصت فقال ما كنت أراني إلا وقد أحسنت وبأمرك كان ما كان يا أمير المؤمنين فأرفق فإن طريقك الذي سلكت بعيد وأنت إلى غدا أحوج منك فاعرف إحساني واستصف مودتي لغد ولا تقل مثل هذا فإني بم أزل لك ناصحا.
ثم دخل على البصرة يوم الاثنين فبايعه أهلها على راياتهم حتى الجرحى والمستأمنة وأتاه عبد الرحمن بن أبي بكرة في المستأمنين أيضا فقال له على و [ما] عمل المتربص المتقاعد بي أيضا يعني أباه أبا بكرة فقال والله إنه لمريض وإنه على مسرتك لحريص. فقال على امش أمامي فمشي معه إلى أبيه فلما دخل عليه على قال له تقاعدت بي وتربصت ووضع يده على صدره وقال هذا وجع بين واعتذر إليه فقبل عذره وأراده على البصرة فامتنع وقال رجل من أهلك يسكن إليه الناس وسأشير عليه فافترقا على ابن عباس، وولى زيادا على الخراج وبيت المال، وأمر ابن عباس أن يسمع منه ويطيع وكان زياد معتزلا ثم راح إلى عائشة وهي في دار عبد الله بن خلف وهي أعظم دار بالبصرة فوجد النساء يبكين على عبد الله وعثمان ابني خلف وكان عبد الله قتل مع عائشة وعثمان قتل مع علي وكانت صفية زوجة عبد الله مختمرة تبكي فلما رأته قالت له يا علي يا قاتل الأحبة يا مفرق الجمع أيتم الله منك بنبيك كما أيتمت ولد عبد الله منه فلم يرد عليها شيئا ودخل
256

على عائشة فسلم عليها وقعد عنها ثم قال جبهتنا صفية أما إني لم أرها منذ كانت جارية.
فلما خرج علي أعادت عليه القول فكف بغلته وقال لقد هممت أن أفتح هذا الباب وأشار إلى باب في الدار وأقتل من فيه وكان فيه ناس من الجرحى فأخبر علي بمكانهم فتغافل عنهم فسكت وكان مذهبه أن لا يقتل مدبرا ولا يذفف على جريح ولا يكشف سترا ولا يأخذ مالا.
ولما خرج علي من عند عائشة قال له رجل من أزد والله لا تغلبنا هذه المرأة فغضب وقال مه لا تهتكن سترا ولا تدخلن دارا ولا تهيجن امرأة بأذى وإن شتمن أعراضكم وسفهن أمراءكم وصلحاءكم فإن النساء ضعيفات ولقد كنا نؤمر بالكف عنهن وهن مشركات فكيف إذا هن مسلمات؟
ومضى علي فلحقه رجل فقال له يا أمير المؤمنين قام رجلان على الباب فتناولا من هو امض شتيمة لك من صفية. قال ويحك لعلها عائشة! قال نعم قال أحدهما جزيت عنا أمنا عقوقا وقال الآخر يا أمي توبي فقد أخطأت. فبعث القعقاع بن عمرو إلى الباب فأقبل بمن كان عليه فأحالوا على رجلين من أزد الكوفة وهم عجلان وسعد ابنا عبد الله فضربهما مائة سوط وأخرجهما من ثيابهما.
وسألت عائشة يومئذ عمن قتل من الناس منهم معها ومنهم عليها والناس عندها فكلما نعي واحد من الجميع قالت يرحمه الله فقيل لها كيف ذلك. قالت كذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلان في الجنة وفلان
257

في الجنة وقال علي إني لأرجو أن لا يكون أحد نقي قلبه لله من هؤلاء إلا أدخله الله الجنة.
ثم جهز على عائشة بكل ما ينبغي لها من مركب وزاد ومتاع وغير ذلك وبعث معها كل من نجا ممن خرج معها إلا من أحب المقام واختار لها أربعين امرأة من نساء البصرة المعروفات وسير معها أخاها محمد بن أبي بكر فلما كان اليوم الذي ارتحلت فيه أتاها علي فوقف لها وحضر الناس فخرجت وودعتهم وقالت يا بني لا يعتب بعضنا على بعض إنه والله ما كان بيني وبين علي في القديم إلا ما يكون بين المرأة وبين أحمائها وإنه على معتبتي لمن الأخيار. وقال علي صدقت والله ما كان بيني وبينها إلا ذاك وإنها لزوجة نبيكم في الدنيا والآخرة.
وخرجت يوم السبت غرة رجب وشيعها أميالا وسرح بنيه معها يوما فكان وجهها إلى مكة فأقامت إلى الحج ثم رجعت إلى المدينة وقال لها عمار حين ودعها ما أبعد هذا المسير من العهد الذي عهد إليك! قالت والله إنك ما علمت لقوال الحق قال الحمد لله الذي قضي على لسانك لي.
وأما المنهزمون فقد ذكرنا حالهم وكان منهم عتبة بن أبي سفيان فخرج هو وعبد الرحمن ويحيي ابنا الحكم فساروا في البلاد فلقيهم عصمة بن أبير التيمي فقال لهم هل لكم في الجوار فقالوا نعم فأجارهم وأنزلهم حتى برأت جراحهم وسيرهم نحو الشام في أربعمائة راكب فلما وصلوا إلى دومة الجندل قالوا قد وفيت ذمتك وقضيت ما
عليك فرجع. وأما ابن عامر
258

فإنه خرج أيضا فلقيه رجل من بني حرقوص يدعي مري فأجاره وسيره إلى الشام. وأما مروان بن الحكم فاستجار بمالك بن مسمع فأجاره ووفي له وحفظ له بنو مروان ذلك في خلافتهم وانتفع بهم وشرفوه بذلك. وقيل إن مروان نزل مع عائشة بدار عبد الله بن خلف وصحبها إلى الحجاز فلما سارت إلى مكة سار إلى المدينة. وأما عبد الله بن الزبير فإنه نزل بدار رجل من الأزد يدعي وزيرا فقال له ائت أم المؤمنين فأعلمها بمكاني ولا يعلم محمد بن أبي بكر فأتي عائشة فأخبرها فقالت علي بمحمد.
فقال لها إنه قد نهاني أن يعلم محمد فلم تسمع قوله وأرسلت إلى محمد وقالت اذهب مع هذا الرجل حتى تأتيني بابن أختك فانطلق معه وخرج عبد الله ومحمد حتى انتهيا إلى دار عائشة في دار عبد الله بن خلف.
ولما فرغ علي من بيعة أهل البصرة نظر في بيت المال فرأى فيه ستمائة ألف وزيادة فقسمها على من شهد معه فأصاب كل رجل منهم خمسمائة خمسمائة فقال لهم أن أظفركم الله بالشام فلكم مثلها إلى أعطياتكم فخاض في ذلك السبئية وطعنوا على علي من وراء وراء وطعنوا فيه أيضا حين نهاهم عن أخذ أموالهم فقالوا [ما] يحل لنا دماءهم ويحرم علينا أموالهم؟ فقال لهم علي القوم أمثالكم من صفح عنا فهو منا ومن لج حتى يصاب فقتاله مني على الصدر والنحر.
وقال القعقاع ما رأيت شيئا أشبه بشيء من قتال القلب يوم الجمل بقتال صفين لقد رأيتنا ندافعهم بأسنتنا ونتكئ على أزجتنا وهم مثل ذلك حتى لو أن الرجال مشت عليها لاستقلت بهم وقال عبد الله بن سنان الكاهلي لما كان يوم الجمل ترامينا بالنبل حتى فنيت وتطاعنا بالرماح حتى تكسرت وتشبكت في صدورنا وصدورهم حتى لو سيرت عليها الخيل لسارت ثم قال على السيوف يا بني المهاجرين فما شبهت أصواتها إلا بضرب القصارين.
259

وعلم أهل المدينة بالوقعة يوم الحرب قبل أن تغرب الشمس من نسر مر بماء حول المدينة ومعه شيء معلق فسقط منه فإذا كف فيه خاتم نقشه عبد الرحمن بن عتاب وعلم من بين مكة والمدينة والبصرة بالوقعة بما ينقل إليهم النسور من الأيدي والأقدام.
وأراد على المقام بالبصرة لإصلاح حالها فأعجلته السبئية عن المقام فإنهم ارتحلوا بغير إذنه فارتحل في آثارهم ليقطع عليهم أمرا إن أرادوه.
[رواية أخرى في وقعة الجعل]
وقد قيل في سبب القتال يوم الجمل غير ما تقدم مع الاتفاق على مسير أصحاب عائشة ونزولهم البصرة والوقعة الأولي مع عثمان بن حنيف وحكيم.
وأما مسير علي وعزل أبي موسى فقال فيه إن عليا لما أرسل محمد بن أبي بكر إلى أبي موسى وجري له ما تقدم سار هاشم بن عتبة بن أبي وقاص إلى علي بالربذة فأعلمه الحال فأعاده علي إلى أبي موسى يقول له أرسل الناس فإني لم أولك إلا لتكون من أعواني على الحق فامتنع أبو موسى فكتب هاشم إلى على إني قدمت على رجل غال مشاقق ظاهر الشنئان وأرسل الكتاب مع المحل بن خليفة الطائي فبعث علي الحسن ابنه وعمار بن ياسر يستنفران الناس وبعث قرظة بن كعب الأنصاري أميرا وكتب معه إلى أبى موسى إني قد بعثت الحسن وعمارا يستنفران الناس وبعثت قرظة
260

ابن كعب واليا على الكوفة فاعتزل عملنا مذموما مدحورا وإن لم تفعل فإني قد أمرته أن ينابذك فإن نابذته فظفر بك يقطعك أربا فلما قدم الكتاب على أبي موسى اعتزل واستنفر الحسن الناس فنفروا نحو ما تقدم وسار علي عن نحو البصرة فقال جون بن قتادة كنت مع الزبير فجاء فارس يسير فقال السلام عليك أيها الأمير فرد عليه فقال إن هؤلاء القوم قد أتوا مكان كذا وكذا فلم أر أرث سلاحا ولا أقل عددا ولا أرعب قلوبا منهم ثم انصرف عنه وجاء فارس آخر فقال له إن القوم قد بلغوا مكان كذا وكذا فسمعوا بما جاء الله لكم من العدد والعدة فخافوا فولوا مدبرين. فقال الزبير أيها عنك فوالله لو لم يجد علي بن أبي طالب إلا العرفج لدب إلينا فيه فانصرف.
وجاء فارس وقد كادت الخيل تخرج من الرهج فقال هؤلاء القوم قد أتوك فلقيت عمار فقلت له وقال لي فقال للزبير إنه ليس فيهم فقال الرجل بلي والله إنه لقيهم فقال الزبير والله ما جعله الله فيهم فقال الرجل بلي والله فلما كرر عليه أرسل الزبير رجلين ينظران فانطلقا ثم رجعا فقالا صدق الرجل فقال الزبير يا جدع أنفاه! يا قطع ظهراه ثم أخذته رعدة فجعل السلاح ينتفض قال جون فقلت ثكلتني أمي هذا الذي كنت أريد أن أموت معه أو أعيش ما أخذه هذا الأمر إلا لشيء سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وانصرف جون فاعتزل وجاء علي فلما تواقف الناس دعا الزبير وطلحة فتوافقوا وذكر من أمر الزبير وعوده وتكفيره عن يمينه مثل ما تقدم فلما أبوا إلا القتال قال علي أيكم يأخذ هذا المصحف يدعوهم إلى ما فيه فإن قطعت يده أخذه بيده الأخرى فإن قطعت أخذه بأسنانه وهو مقتول فقال شاب أنا فطاف به على أصحابه فلم يجبه إلا ذلك الشاب،
261

ثلاث مرات فسلمه إليه فدعاهم فقطعت يده اليمني فأخذه باليسرى فقطعت فأخذه بصدره والدماء تسيل على قبائه فقتل فقال علي الآن حل قتالهم فقالت أم الفتي:
(لا هم إن مسلما دعاهم * يتلو كتاب الله لا يخشاهم)
(وأمهم قائمة تراهم * تأمرهم بالقتل لا تنهاهم)
(قد خضبت من علق لحاهم)
وحملت ميمنة علي على ميسرتهم فاقتتلوا فلاذ الناس بعائشة وكان أكثرهم من ضبة والأزد وكان قتالهم من ارتفاع النهار إلى قريب من العصر ثم انهزموا ونادى رجل من الأزد كروا فضربه محمد بن علي فقطع يده فقال يا معشر الأزد فروا، واستحر القتل في الأزد فنادوا نحن على دين علي فقال رجل من بني ليث:
(سائل بنا حين لقينا الأزدا * والخيل تعدو أشقرا ووردا)
(لما قطعنا كبدهم والزندا * سحقا لهم في رأيهم وبعدا)
وحمل عمار بن ياسر على الزبير فجعل يحوزه بالرمح فقال أتريد أن تقتلني يا أبا اليقظان؟ فقال لا يا أبا عبد الله انصرف فانصرف، وجرح عبد الله بن الزبير فألقي نفسه في الجرحى ثم برأ. وعقر الجمل واحتمل محمد بن أبي بكر عائشة فأنزلها وضرب عليها قبة فوقف علي عليها وقال لها استنفرت الناس وقد فروا وألبت بينهم حتى قتل بعضهم بعضا في كلام كثير.
فقالت عائشة ملكت فاسجح نعم ما ابتليت قومك اليوم فسرحها وأرسل
262

معها جماعة من رجال ونساء وجهزها بما تحتاج.
* * *
لم أذكر في وقعة الجمل إلا ما ذكره أبو جعفر إذ كان أوثق من نقل التاريخ فإن الناس قد حشوا تواريخهم بمقتضى أهوائهم.
وممن قتل يوم الجمل عبد الرحمن بن عبيد الله أخو طلحة له صحبة، وعمرو بن عبد الله بن أبي قيس بن عامر بن لؤي له صحبة، وفيها قتل المحرز بن حارثة بن ربيعة بن عبد العزى بن عبد شمس له صحبة واستعمله عمر على مكة ثم عزله وفيها قتل معرض بن علاط السلمي أخو الحجاج بن علاط قتل مع علي وفيها قتل مجاشع ومجالد ابنا مسعود السليمان مع عائشة لهما صحبة فأما مجاشع فلا شك أنه قتل في الجمل، وقتل عبد الله بن حكيم بن حزام الأسدي القرشي مع عائشة وكان إسلامه يوم الفتح وفيها قتل هند بن أبي هالة الأسيدي أمه خديجة بنت خويلد زوج النبي مع علي وقيل مات بالبصرة والأول أصح.
(الأسيدي بضم الهمزة منسوب إلى أسيد بتشديد الياء وهم بطن من تيم).
وقتل هلال بن وكيع بن بشر التميمي مع عائشة له صحبة وفيها قتل معاذ بن عفراء أخو معوذ وهما ابنا الحارث بن رفاعة الأنصاريان وشهدا بدرا وقتل مع علي وقيل عاش وقتل في وقعة الحرة.
(التيهان بفتح التاء فوقها نقطتان وتشديد الياء تحتها نقطتان وآخره نون وشبث بفتح الشين المعجمة والباء الموحدة وآخره ثاء مثلثة وسيحان بفتح السين المهملة وسكون الياء تحتها نقطتان وفتح الحاء المهملة وآخره نون
263

ونجبة بفتح النون والجيم والباء الموحدة وعميرة بفتح العين وكسر الميم وأبير بضم الهمزة وفتح الباء الموحدة والخريت بكسر الخاء المعجمة والراء المشددة وسكون الياء المثناة من تحتها نقطتان وفي آخره تاء فوقها نقطتان
).
ذكر قصد الخوارج سجستان
في هذه السنة بعد الفراغ من وقعة الجمل خرج حسكة بن عتاب الحبطي وعمران بن الفضيل البرجمي في صعاليك من العرب حتى نزلوا زالق من سجستان وقد نكث أهلها فأصابوا منها مالا ثم أتوا زرنج وقد خافهم مرزبانها فصالحهم ودخلوها فقال الراجز:
(بشر سجستان بجوع وحرب * بابن الفضيل وصعاليك الحرب)
(لا فضة تغنيهم ولا ذهب)
فبعث على عبد الرحمن بن جرو الطائي فقتله حسكة فكتب علي إلى عبد الله بن العباس يأمره أن يولي سجستان قاتلهم حسكة وقتلوه وضبط ربعي البلاد وكان فيروز حصين ينسب إلى الحصين بن أبي الحر هذا وهو من سجستان
264

ذكر قتل محمد بن أبي حذيفة
في هذه السنة قتل محمد بن أبي حذيفة وكان أبوه أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس قد قتل يوم اليمامة وترك ابنه محمدا هذا فكفله عثمان بن عفان وأحسن تربيته وكان فيما قيل أصاب شرابا فحده عثمان ثم تنسك محمد وأقبل على العبادة وطلب من عثمان أن يوليه عملا فقال لو كنت أهلا لذلك لوليتك فقال له إني قد رغبت في غزو البحر فأذن [لي] في إتيان مصر فأذن له وجهزه فلما قدمها رأي الناس عبادته فلزموه وعظموه وغزا مع عبد الله بن سعد غزوة الصواري.
وكان محمد يعيبه ويعيب عثمان بتوليته ويقول استعمل رجلا أباح رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه فكتب عبد الله إلى عثمان إن محمدا قد أفسد على البلاد هو ومحمد بن أبي بكر. فكتب إليه أما أبن أبي بكر فإنه يوهب لأبيه ولعائشة وأما ابن أبي حذيفة فإنه ابني وابن أخي وتربيتي وهو فرخ قريش فكتب إليه إن هذا الفرخ قد استوي ريشه ولم يبق إلا أن يطير. فبعث عثمان إلى ابن أبي حذيفة بثلاثين ألف درهم وبجمل عليه كسوة فوضعها محمد في المسجد ثم قال يا معشر المسلمين ألا ترون إلى عثمان يخادعني عن ديني ويرشوني عليه فازداد أهل مصر تعظيما له وطعنا على عثمان وبايعوه على رياستهم فكتب إليه عثمان يذكره بره به وتربيته إياه وقيامه بشأنه ويقول إنك كفرت إحساني أحوج ما كنت إلى شكرك فلم يرده ذلك عن ذمه وتأليب الناس عليه وحثهم على المسير إلى حصره ومساعدة من يريد ذلك.
فلما سار المصريون إلى عثمان أقام هو بمصر وخرج عنها عبد الله بن
265

سعد بن أبي سرح فاستولى عليها وضبطها فلم يزل بها مقيما حتى قتل عثمان وبويع علي واتفق معاوية وعمرو بن العاص على خلاف علي فسارا إلى مصر قبل قدوم قيس بن سعد إليها أميرا فأراد دخولها فلم يقدر على ذلك فخدع محمدا حتى خرج منها إلى العريش في ألف رجل فتحصن بها فنصب عليه المنجنيق حتى نزل في ثلاثين من أصحابه فقتل.
وهذا القول ليس بشيء لأن عليا استعمل قيسا علي مصر أول ما بويع له ولو أن ابن أبي حذيفة قتله معاوية وعمرو قبل وصول قيس إلى مصر لاستوليا عليها لأنه لم يكن بها أمير يمنعهما عنها ولا خلاف أن استيلاء معاوية وعمرو عليها كان بعد صفين والله أعلم.
وقيل غير ذلك وهو أن محمد بن أبي حذيفة سير المصريين إلى عثمان فلما حصروه أخرج محمد بن عبد الله بن سعد عن مصر وهو عامل عثمان واستولى عليها فنزل عبد الله على تخوم مصر وانتظر أمر عثمان فطلع عليه راكب فسأله فأخبره بقتل عثمان فاسترجع وسأله عما صنع الناس بعده فأخبره ببيعة علي فاسترجع فقال له كأن إمرة علي تعدل عندك قتل عثمان! قال نعم قال أظنك عبد الله بن سعد فقال نعم فقال له إن كانت لك في نفسك حاجة فالنجاء النجاء فإن رأي أمير المؤمنين علي فيك وفي أصحابك إن ظفر بكم أن يقتلكم أو ينفيكم وهذا بعدي أمير يقدم عليك فقال من هو قال قيس بن سعد بن عبادة قال عبد الله بن سعد أبعد الله محمد بن أبي حذيفة فإنه بغي على ابن عمه وسعي عليه وقد كفله ورباه وأحسن إليه فأساء جواره وجهز إليه الرجال حتى قتل ثم ولي عليه من هو أبعد منه ومن عثمان ولم يمتعه بسلطان بلاده شهرا ولم يره لذلك أهلا. وخرج عبد الله
266

هاربا حتى قدم على معاوية.
وهذا القول يدل على أن قيسا ولي مصر ومحمد بن أبي حذيفة حي وهو الصحيح.
وقيل: إن عمرا سار إلى مصر بعد صفين فلقيه محمد بن أبي حذيفة في جيش فلما رأى عمرو كثرة من معه أرسل إليه فالتقيا واجتمعا فقال له عمرو إنه قد كان ما تري وقد بايعت هذا الرجل يعني معاوية وما أنا براض بكثير من أمره وإني لأعلم أن صاحبك عليا أفضل من معاوية نفسا وقديما وأولي بهذا الأمر فواعدني موعدا ألتقي معك فيه في غير جيش تأتي في مائة وآتي في مثلها وليس معنا إلا السيوف في القرب فتعاهدا وتعاقدا على ذلك واتعدا العريش ورجع عمرو إلى معاوية فأخبره الخبر فلما جاء الأجل سار كل واحد منهما إلى صاحبه في مائة وجعل عمرو له جيشا خلفه لينطوي خبره فلما التقيا بالعريش قدم جيش عمرو على أثره فعلم محمد أنه قد غدر به فدخل قصرا بالعريش فتحصن به فحصره عمرو ورماه بالمنجنيق حتى أخذ أسيرا وبعث به عمرو إلى معاوية فسجنه وكانت ابنة قرظة امرأة معاوية ابنة عمه محمد بن أبي حذيفة أمها فاطمة بنت عتبة فكانت تصنع له طعاما ترسله إليه فأرسلت إليه يوما في الطعام مبارد فبرد بها قيوده وهرب فاختفى في غار فأخذ وقتل والله أعلم.
وقيل إنه بقي محبوسا إلى أن قتل حجر بن عدي ثم إنه هرب فطلبه مالك بن هبيرة السكوني فظفر به فقتله غضبا لحجر وكان مالك قد شفع إلى معاوية في حجر فلم يشفعه وقيل إن محمد بن أبي حذيفة لما قتل محمد بن أبي بكر خرج في جمع كثير إلى عمرو فأمنه عمرو ثم غدر به وحمله إلى معاوية
267

بفلسطين فحبسه ثم إنه هرب فأظهر معاوية للناس أنه كره هربه وأمر بطلبه فسار في إثره عبد الله بن عمرو بن ظلام الخثعمي فأدركه بحوران في غار وجاءت حمر تدخل الغار فلما رأت محمدا نفرت منه وكان هناك ناس يحصدون فقالوا والله إن لنفرة هذه الحمر لشأنا فذهبوا إلى الغار فرأوه فخرجوا من عنده فوافقهم عبيد الله فسألهم عنه ووصفه لهم فقالوا هو في الغار فأخرجه وكره أن يأتي به معاوية فيخلي سبيله فضرب عنقه وكان ابن خال معاوية
ذكر ولاية قيس بن سعد مصر
وفي هذه السنة في صفر بعث على قيس بن سعد أميرا على مصر وكان صاحب راية الأنصار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان من ذوي الرأي والبأس فقال له سر إلى مصر فقد وليتكها واخرج إلى رحلك وأجمع إليك ثقاتك ومن أحببت أن يصحبك حتى تأتيها ومعك جند فإن ذلك أرعب لعدوك وأعز لوليك وأحسن إلى المحسن واشتد على المريب وأرفق بالعامة فإن الرفق يمن. فقال له قيس: أما قولك أخرج إليها بجند فوالله لئن لم أدخلها إلا بجند آتيها به من المدينة لا أدخلها أبدا فأنا أدع ذلك الجند لك فإن كنت احتجت إليهم كانوا منك قريبا وإن أردت أن تبعثهم إلى وجه من وجوهك كانوا عدة. فخرج قيس حتى دخل مصر في سبعة من أصحابه على الوجه الذي تقدم ذكره فصعد المنبر فجلس عليه وأمر بكتاب أمير المؤمنين
268

فقرئ على أهل مصر بإمارته ويأمرهم بمبايعته ومساعدته وإعانته على الحق، ثم قام قيس خطيبا وقال:
الحمد لله الذي جاء بالحق وأمات الباطل وكب الظالمين أيها الناس إنا بايعنا خير من نعلم بعد نبينا فقوموا أيها الناس فبايعوه على كتاب الله وسنة رسوله فإن نحن لم نعمل لكم بذلك فلا بيعة لنا عليكم.
فقام الناس فبايعوا واستقامت له مصر وبعث عليها عماله إلا قرية منها يقال لها خربتا فيها ناس قد أعظموا قتل عثمان عليهم رجل من بني كنانة ثم من بني مدلج اسمه يزيد بن الحارث فبعث إلى قيس يدعو إلى الطلب بدم عثمان وكان مسلمة بن مخلد قد أظهر الطلب أيضا بدم عثمان فأرسل إليه قيس ويحك أعلي تثب فوالله ما أحب أن لي ملك الشام إلى مصر وأني قتلتك فبعث إليه مسلمة إني كاف عنك ما دمت وأنت والي مصر.
وبعث قيس وكان حازما إلى أهل خربتا إني لا أكرهكم على البيعة وإني كاف عنكم فهادنهم وجبي الخراج ليس أحد ينازعه وخرج أمير المؤمنين إلى الجمل ورجع وهو بمكانه فكان أثقل خلق الله على معاوية مخافة أن يقبل علي في أهل العراق وقيس في أهل مصر فيقع بينهما معاوية فكتب معاوية إلى قيس:
سلام عليك، أما بعد فإنكم نقمتم على عثمان ضربة بسوط أو شتيمة رجل أو تسيير آخر واستعمال فتي وقد علمتم أن دمه لا يحل لكم فقد ركبتم عظيما
269

وجئتم أمرا إدا فتب إلى الله يا قيس فإنك من المجلبين علي عثمان فأما صاحبك فإنا استيقنا أنه الذي أغري [به] الناس وحملهم حتى قتلوه وأنه لم يسلم من دمه عظم قومك فإن استطعت يا قيس أن تكون ممن يطالب بدم عثمان فافعل وتابعنا علي أمرنا ولك سلطان العراقيين إذا ظهرت ما بقيت ولمن أحببت من أهلك سلطان الحجاز ما دام لي سلطان وسلني ما شئت فإني أعطيك واكتب إلى برأيك.
فلما جاءه الكتاب أحب أن يدافعه ولا يبدي له أمره ولا يتعجل إلى حربه فكتب إليه أما بعد فقد فهمت ما ذكرته من قتلة عثمان فذلك شيء لم أقاربه وذكرت أن صاحبي هو الذي أغري به حتى قتلوه وهذا مما لم أطلع عليه وذكرت أن عظم عشيرتي لم تسلم [من دم عثمان]، فأول الناس كان فيه قياما عشيرتي وأما ما عرضته من متابعتك فهذا أمر لي فيه نظر وفكرة وليس هذا مما يسرع إليه وأنا كاف عنك وليس يأتيك من قبلي شيء تكرهه حتى تري ونري إن شاء الله تعالى.
فلما قرأ معاوية كتابه رآه مقاربا مباعدا فكتب إليه:
أما بعد فقد قرأت كتابك فلم أرك تدنو فأعدك سليما ولا متباعدا فأعدك حربا وليس مثلي يصانع المخادع وينخدع للمكايد ومعه عدد الرجال وبيده [أعنة الخيل]، والسلام.
فلما رأى قيس كتابه ورأي أنه لا يفيد معه المدافعة والمماطلة أظهر له ما في نفسه فكتب إليه أما بعد فالعجب من اغترارك بي وطمعك في واستسقاطك إياي أتسومني الخروج عن طاعة أولي الناس بالإمارة وأقولهم بالحق وأهداهم
270

سبيلا وأقربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيلة وتأمرني بالدخول في طاعتك كطاعة أبعد الناس من هذا الأمر وأقولهم بالزور وأضلهم سبيلا وأبعدهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيلة ولد ضالين مضلين طاغوت من طواغيت إبليس! وأما قولك إني مالئ عليك مصر خيلا ورجالا فوالله إن لم أشغلك بنفسك حتى تكون أهم إليك إنك لذو جد والسلام.
فلما رأى معاوية كتابه أيس منه وثقل عليه مكانه ولم تنجح حيله فيه فكاده من قبل علي فقال لأهل الشام لا تسبوا قيس بن سعد ولا تدعوا إلى غزوة فإنه لنا شيعة قد تأتينا كتبه ونصيحته سرا ألا ترون ما يفعل بإخوانكم الذين عنده من أهل خربتا يجري عليهم أعطياتهم وأرزاقهم ويحسن إليهم وافتعل كتابا عن قيس إليه بالطلب بدم عثمان والدخول معه في ذلك وقرأه علي أهل الشام.
فبلغ ذلك عليا أبلغه ذلك محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر بن أبي طالب وأعلمته عيونه بالشام فأعظمه وأكبره فدعا ابنيه وعبد الله بن جعفر فأعلمهم ذلك فقال ابن جعفر يا أمير المؤمنين دع ما يريبك إلى ما لا يريبك اعزل قيسا عن مصر فقال علي إني والله ما أصدق بهذا عنه فقال عبد الله اعزله فإن كان هذا حقا لا يعتزل لك. فبينا هم كذلك إذ جاءهم كتاب من قيس يخبر أمير المؤمنين بحال المعتزلين وكفه عن قتالهم فقال ابن جعفر ما أخوفني أن يكون ذلك ممالأة منه فمره بقتالهم. فكتب إليه يأمره بقتالهم فلما قرأ الكتاب كتب جوابه أما بعد فقد عجبت لأمرك تأمرني بقتال قوم كافين عنك مفرغيك لعدوك ومتى حاددناهم ساعدوا عليك عدوك فأطعني يا أمير المؤمنين واكفف عنهم فإن الرأي تركهم، والسلام. فلما قرأ علي الكتاب قال
271

ابن جعفر يا أمير المؤمنين ابعث محمد بن أبي بكر علي مصر واعزل قيسا فقد بلغني أن قيسا يقول إن سلطانا لا يستقيم إلا بقتل مسلمة بن خالد لسلطان سوء.
وكان ابن جعفر أخا محمد بن أبي بكر لأمه فبعث علي محمد بن أبي بكر إلى مصر وقيل بعث الأشتر النخعي فمات بالطريق فبعث محمدا فقدم محمد علي قيس بمصر فقال له قيس ما بال أمير المؤمنين؟ ما غيره؟ أدخل أحد بيني وبينه؟ قال لا وهذا السلطان سلطانك قال لا والله لا أقيم وخرج منها مقبلا إلى المدينة وهو غضبان لعزله فجاءه حسان بن ثابت وكان عثمانيا يشمت به فقال له قتلت عثمان ونزعك علي فبقي عليك الإثم ولم يحسن لك الشكر فقال له قيس يا أعمي القلب والبصر والله لو ألقي بين رهطي ورهطك حربا لضربت عنقك! أخرج عني! ثم أخاف مروان بن الحكم قيسا بالمدينة فخرج منها هو وسهل بن حنيف إلى علي فشهدا معه صفين فكتب معاوية إلى مروان يتغيظ عليه ويقول له لو أمددت عليا بمائة ألف مقاتل لكان أيسر عندي من قيس بن عند في رأيه ومكانه.
فلما قدم قيس علي علي وأخبره الخبر علم أنه كان يقاسي أمورا عظاما من المكايدة وجاءهم خبر قتل محمد بن أبي بكر فعظم محل قيس عنده وأطاعه في الأمر كله، ولما قدم محمد مصر قرأ كتاب علي علي أهل مصر ثم قام فخطب فقال:
الحمد لله الذي هدانا وإياكم لما اختلف فيه من الحق وبصرنا وإياكم
272

كثيرا مما كان عمي عنه الجاهلون ألا أن أمير المؤمنين ولاني أمركم وعهد إلى ما سمعتم وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب فإن يكن ما ترون من إمارتي وأعمالي طاعة لله فاحمدوا الله علي ما كان من ذلك فإنه هو الهادي له وإن رأيتم عاملا لي بغير الحق فارفعوه لي وعاتبوني فيه فإني بذلك أسعد وأنتم [بذلك] جديرون وفقنا الله وإياكم لصالح الأعمال برحمته.
ثم نزل ولبث شهرا كاملا حتى بعث إلى أولئك القوم المعتزلين الذين كانوا قد وادعهم قيس فقال لهم إما أن تدخلوا في طاعتنا وإما أن تخرجوا عن بلادنا فأجابوه إنا لا نفعل فدعنا حتى ننظر إلى ما يصير إليه أمرنا فلا تعجل لحربنا فأبي عليهم فامتنعوا [منه] وأخذوا حذرهم فكانت وقعة صفين وهم هائبون لمحمد.
فلما رجع علي عن معاوية وصار الأمر إلى التحكيم طمعوا في محمد وأظهروا له المبارزة فبعث محمد الحارث بن جمهان الجعفي إلى أهل خربتا وفيها يزيد بن الحارث مع بني كنانة ومن معه فقاتلهم وقتلوه.
فبعث محمد إليهم أيضا ابن مضاهم الكلبي فقتلوه وقد قيل إنه جري بين محمد ومعاوية مكاتبات كرهت ذكرها فإنها مما لا يحتمل سماعها العامة.
وفيها قدم ابراز بن مرزبان مرو إلى علي بعد الجمل مقرا بالصلح فكتب له كتابا إلى دهاقين مرو والأساورة ومن بمرو ثم إنهم كفروا وأغلقوا نيسابور فبعث علي خليد بن قرة وقيل ابن طريف اليربوعي إلى خراسان.
273

ذكر قدوم عمرو بن العاص على معاوية ومتابعته له
قيل كان عمرو بن العاص قد سار عن المدينة قبل أن يقتل عثمان نحو فلسطين.
وسبب ذلك أنه لما أحيط بعثمان قال يا أهل المدينة لا يقيم أحد فيدركه قتل هذا الرجل إلا ضربه الله بذل من لم يستطع نصره فليهرب فسار وقيل غير ذلك وقد تقدم، وسار معه ابناه عبد الله ومحمد فسكن فلسطين فمر به راكب من المدينة فقال له عمرو ما اسمك؟ قال حصيرة قال عمرو حصر الرجل فما الخبر قال تركت عثمان محصورا ثم مر به آخر بعد أيام فقال له عمرو ما اسمك قال قتال قال قتل الرجل فما الخبر قال قتل عثمان ولم يكن معه شيء إلى أن سرت. ثم مر به راكب من المدينة فقال له عمرو ما اسمك قال حرب قال عمرو ليكون حرب وقال له ما الخبر فقال بايع الناس عليا فقال سلم بن زنباع يا معشر العرب كان بينكم وبين العرب باب فكسر فاتخذوا بابا غيره فقال عمرو ذلك الذي نريده ثم ارتحل عمرو راجلا معه ابناه يبكي كما تبكي المرأة وهو يقول واعثماناه أنعى الحياء والدين حتى قدم دمشق وكان قد علم الذي يكون فعمل عليه لأن النبي كان قد بعثه إلى عمان فسمع من حبر هناك شيئا عرف مصداقه فسأله عن وفاة النبي ومن يكون بعده فأخبره بأبي بكر وأن مدته قصيرة،
274

ثم يلي بعده رجل من قومه مثله تطول مدته ويقتل غيلة ثم يلي بعده رجل من قومه تطول مدته ويقتل عن ملأ قال ذلك أشد ثم يلي بعده رجل من قومه ينتشر الناس عليه ويكون علي رأسه حرب شديدة ثم يقتل قبل أن يجتمع الناس عليه ثم يلي بعده أمير الأرض المقدسة فيطول ملكه وتجتمع عليه أهل تلك الفرقة ثم يموت.
وقيل أن عمرا لما بلغه قتل عثمان قال أنا عبد الله أنا قتلته وأنا بوادي السباع إن يل هذا الأمر طلحة فهو فتي العرب سيبا وإن يله ابن أبي طالب فهو أكره من يليه لي فبلغه بيعة علي فاشتد عليه وأقام ينتظر ما يصنع الناس فأتاه مسير عائشة وطلحة والزبير فأقام ينتظر ما يصنعون فأتاه الخبر بوقعة الجمل فارتج عليه أمره فسمع أن
معاوية بالشام لا يبايع عليا وأنه يعظم شأن عثمان وكان معاوية أحب إليه من علي فدعا ابنيه عبد الله ومحمدا فاستشارهما وقال ما تريان أما علي فلا خير عنده وهو يدل بسابقته وهو غير مشركي في شيء من أمره فقال له ابنه عبد الله توفي النبي وأبو بكر وعمر وهم عنك راضون فأري أن تكف يدك وتجلس في بيتك حتى يجتمع الناس [علي إمام فتبايعه]. وقال له ابنه محمد أنت ناب من أنياب العرب ولا أرى أن يجتمع هذا الأمر وليس لك فيه صوت.
فقال عمرو أما أنت يا عبد الله فأمرتني بما هو خير لي [في آخرتي وأسلم لي] في ديني، وأما أنت يا محمد فأمرتني بما هو خير لي في دنياي وشر لي في آخرتي ثم خرج ومعه ابناه حتى قدم علي معاوية فوجد أهل الشام يحضون معاوية علي
275

الطلب بدم عثمان وقال عمرو أنتم علي الحق اطلبوا بدم الخليفة المظلوم ومعاوية لا يلتفت إليه فقال لعمرو ابناه ألا تري معاوية لا يلتفت إليك فانصرف إلى غيره فدخل عمرو علي معاوية فقال له والله لعجب لك أني أرفدك بما أرفدك وأنت معرض عني، [أما والله] إن قاتلنا معك نطلب بدم الخليفة إن في النفس [من ذلك] ما فيها حيث تقاتل من تعلم سابقته وفضله وقرابته ولكنا إنما أردنا هذه الدنيا فصالحه معاوية وعطف عليه.
ذكر ابتداء وقعة صفين
لما عاد علي من البصرة بعد فراغه من الجمل قصد الكوفة وأرسل إلى جرير بن عبد الله البجلي وكان عاملا علي همذان استعمله عثمان وإلي الأشعث بن قيس وكان علي أذربيجان استعمله عثمان أيضا يأمرهما بأخذ البيعة والحضور عنده فلما حضرا عنده أراد علي أن يرسل رسولا إلى معاوية قال جرير أرسلني إليه فإني له ود فقال الأشتر لا تفعل فإن هواه مع معاوية فقال علي دعه حتى ننظر ما الذي يرجع إلينا به. فبعثه وكتب معه كتابا إلى معاوية يعلمه فيه باجتماع المهاجرين والأنصار علي بيعته ونكث طلحة والزبير وحربه إياهما ويدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه المهاجرون والأنصار من طاعته.
فسار جرير إلى معاوية فلما قدم عليه ماطله واستنظره واستشار عمر فأشار عليه أن يجمع أهل الشام ويلزم عليا دم عثمان ويقاتله بهم ففعل
276

معاوية ذلك وكان أهل الشام لما قدم عليهم النعمان بن بشير بقميص عثمان الذي قتل فيه مخضوبا بالدم بأصابع زوجته نائلة إصبعان منها وشئ من الكف وإصبعان مقطوعتان من أصولهما ونصف الإبهام وضع معاوية القميص علي المنبر وجمع الأجناد إليه فبكوا علي القميص مدة وهو علي المنبر والأصابع معلقة فيه وأقسم رجال من أهل الشام أن لا يمسهم الماء إلا للغسل من الجنابة وأن لا يناموا علي الفرش حتى يقتلوا قتلة عثمان ومن قام دونهم قتلوه فلما عاد جرير إلى أمير المؤمنين علي وأخبره خبر معاوية واجتماع أهل الشام معه علي قتالهم وأنهم يبكون علي عثمان ويقولون إن عليا قتله وآوي قتلته وأنهم لا ينتهون عنه حتى يقتلهم أو يقتلوه قال الأشتر لعلي قد كنت نهيتك أن ترسل جريرا وأخبرتك بعداوته وغشه ولو كنت أرسلتني لكان خيرا من هذا الذي أقام عنده حتى لم يدع بابا يرجو فتحه إلا فتحه ولا بابا يخاف منه إلا أغلقه فقال جرير لو كنت ثم لقتلوك لقد ذكروا أنك من قتلة عثمان فقال الأشتر والله لو أتيتهم لم يعييني جوابهم ولحملت معاوية علي خطة أعجله فيها عن الفكر ولو أطاعني [فيك] أمير المؤمنين لحبسك وأشباهك حتى يستقيم هذا الأمر فخرج جرير إلى قرقيسيا وكتب إلى معاوية فكتب إليه معاوية يأمره بالقدوم عليه.
وقيل كان الذي حمل معاوية علي رد جرير البجلي غير مقضي الحاجة شرحبيل بن السمط الكندي.
277

وكان سبب ذلك إن شرحبيل كان قد سيره عمر بن الخطاب إلى العراق إلى سعد بن أبي وقاص وكان معه فقدمه سعد وقربه فحسده الأشعث بن قيس الكندي لمنافسة بينهما فوفد جرير البجلي علي عمر فقال له الأشعث إن قدرت أن تنال شرحبيل عند عمر فافعل فلما قدم علي عمر سأله عمر عن الناس فأحسن الثناء علي سعد قال وقد قال شعرا:
(ألا ليتني والمرء سعد بن مالك * وزبرا وابن السمط في لجة البحر)
(فيغرق أصحابي وأخرج سالما * علي ظهر قرقور أنادي أبا بكر)
فيكتب عمر إلى سعد يأمره بإرساله زبرا وشرحبيلا إليه فأرسلهما فأمسك زبرا بالمدينة وسير شرحبيلا إلى الشام فشرف وتقدم وكان أبوه السمط من غزة الشام فلما قدم جرير بكتاب علي إلى معاوية في البيعة انتظر معاوية قدوم شرحبيل فلما قدم عليه أخبره معاوية بما قدم فيه جرير فقال كان أمير المؤمنين عثمان خليفتنا فإن قويت علي الطلب بدمه وإلا فاعتزلنا فانصرف جرير فقال النجاشي:
(شرحبيل ما للدين فارقت أمرنا * ولكن لبغض المالكي جرير)
(وقولك ما قد قلت عن أمر أشعث * فأصبحت كالحادي بغير بعير)
(جرير بن عبد الله بن جابر بن مالك فنسب إلى جده مالك).
وخرج علي فعسكر بالنخيلة وتخلف عنه نفر من أهل الكوفة منهم:
278

مرة الهمداني ومسروق أخذا أعطياتهما وقصدا قزوين فأما مسروق فإنه كان يستغفر الله من تخلفه عن علي بصفين وقدم عليه عبد الله بن عباس فيمن معه من أهل البصرة وبلغ ذلك معاوية فاستشار عمرا فقال أما إذا سار علي فسر إليه بنفسك ولا تغب عنه برأيك ومكيدتك فتجهز معاوية وتجهز الناس وحضهم عمرو وضعف عليا وأصحابه وقال إن أهل العراق قد فرقوا جمعهم ووهنوا شوكتهم وفلوا حدهم وأهل البصرة مخالفون لعلي بمن قتل منهم وقد تفانت صناديدهم وصناديد أهل الكوفة يوم الجمل وإنما سار علي في شرذمة قليلة وقد قتل خليفتكم والله الله في حقكم إن تضيعوه وفي دمكم إن تطلبوه وكتب معاوية إلى أهل الشام وعقد لواء لعمرو ولواء لابنيه عبد الله ومحمد ولواء لغلامه وردان وعقد علي لواء لغلامه قنبر فقال عمرو:
(هل يغنين وردان عني قنبرا * أو تغني السكون عني حميرا)
(إذا الكمأة لبسوا السنورا)
فبلغ ذلك عليا فقال:
(لأصبحن العاصي ابن العاصي * سبعين ألفا عاقدي النواصي)
(مجنبين الخيل بالقلاص * مستحقبين حاق الدلاص)
فلما سمع معاوية ذلك قال ما أرى عليا إلا وقد وفي ذلك وسار معاوية وتأني في مسيره فلما رأى ذلك الوليد بن عقبة بعث إليه يقول:
279

(ألا أبلغ معاوية بن حرب * فإنك من أخي ثقة مليم)
(قطعت الدهر كالسدم المعني * تهدر في دمشق فما تريم)
(وإنك والكتاب إلى علي * كدابغة وقد حلم الأديم)
(يمنيك الإمارة كل ركب * لأنقاض العراق بها رسيم)
(وليس أخو الترات بمن تواني * ولكن طالب الترة الغشوم)
(ولو كنت القتيل وكان حيا * لجرد لا ألف ولا غشوم)
(ولا نكل عن الأوتار حتى * يبئ بها ولا برم جثوم)
(وقومك بالمدينة قد أبيروا * فهم صرعى كأنهم الهشيم)
فكتب إليه معاوية:
(ومستعجب ما يري من أناتنا * ولو زبنته الحرب لم يترمرم)
وبعث علي زياد بن النضر الحارثي طليعة في ثمانية آلاف وبعث مع شريح بن هانئ أربعة آلاف وسار علي من النخيلة وأخذ معه من بالمدائن من المقاتلة وولى علي المدائن سعد بن مسعود عم المختار بن أبي عبيد الثقفي لما سار علي كان معه نابغة بني جعدة فحدا به يوما فقال:
280

(قد علم المصران والعراق * أن عليا فحلها العتاق)
(أبيض جحجاح له رواق * إن الأولي جاروك لا أفاقوا)
(لكم سباق ولهم سباق * قد علمت ذلكم الرفاق)
ووجه علي من المدائن معقل بن قيس في ثلاثة آلف وأمره أن يأخذ علي الموصل حتى يوافيه علي الرقة فلما وصل إلى الرقة قال لأهلها ليعملوا له جسرا يعبر عليه إلى الشام فأبوا وكانوا قد ضموا سفنهم إليهم فنهض من عندهم ليعبر علي جسر منبج وخلف عليهم الأشتر فناداهم الأشتر وقال أقسم الله لئن لم تعملوا جسرا يعبر عليه أمر المؤمنين لأجردن فيكم السيف ولأقتلن الرجال ولآخذن الأموال فلقي بعضهم بعضا وقالوا إنه الأشتر وإنه قمن أن يفي لكم بما حلف عليه أو يأتي بأكثر منه فنصبوا له جسرا وعبر عليه علي وأصحابه وازدحموا عليه فسقطت قلنسوة عبد الله بن أبي الحصين الأزدي فنزل فأخذها ثم ركب وسقطت قلنسوة عبد الله بن الحجاج الأزدي فنزل فأخذها ثم قال لصاحبه:
(فإن يك ظن الزاجري الطير صادقا * كما زعموا أقتل وشيكا ويقتل)
فقال ابن أبي الحصين ما شيء أحب إلى مما ذكرت فقتلا جميعا بصفين.
ولما بلغ علي الفرات دعا زياد بن النضر الحارثي وشريح بن هانئ فسرحهما أمامه في اثني عشر ألفا نحو معاوية علي حالهما التي خرجا عليها من الكوفة وكان سبب عودهما إليه أنهما حيث سيرهما علي من الكوفة أخذا
281

علي شاطئ الفرات مما يلي البر فلما بلغا عانات بلغهما أن معاوية قد أقبل في جنود الشام فقالا لا والله ما هذا لنا برأي نسير وبيننا وبين المسلمين وأمير المؤمنين هذا البحر وما لنا خير في أن نلقي جنود الشام بقلة من معنا فذهبوا ليعبروا من عانات فمنعهم أهلها فرجعوا فعبروا من هيت فلحقوا عليا دون قرقيسيا فلما لحقوا عليا قال مقدمتي تأتيني من ورائي فأخبره شريح وزياد بما كان فقال سددتما فلما عبر الفرات سيرهما أمامه فلما انتهيا إلى سور الروم لقيهما أبو الأعور السلمي في جند من أهل الشام فأرسلا إلى علي فأعلماه فأرسل علي إلى الأشتر وأمره بالسرعة وقال له. إذا قدمت فأنت عليهم وإياك أن تبدأ القوم بقتال إلا أن يبدؤك حتى تلقاهم فتدعوهم وتسمع منهم ولا يحملك بغضهم علي قتالهم قبل دعائهم والإعذار إليهم مرة بعد مرة واجعل علي ميمنتك زيادا وعلي ميسرتك شريحا ولا تدن منهم دنو من يريد أن ينشب الحرب ولا تباعد منهم تباعد من يهاب البأس حتى اقدم عليك فإني حثيث المسير في أثرك إن شاء الله تعالى. وكتب علي إلى شريح وزياد بذلك وأمرهما بطاعة الأشتر.
فسار الأشتر حتى [إذا] قدم عليهم واتبع ما أمره وكف عن القتال ولم يزالوا متوافقين حتى كان عند المساء حمل عليهم أبو الأعور السلمي فثبتوا له واضطربوا ساعة ثم أنصرف أهل الشام وخرج إليهم من الغد هاشم بن عتبة المرقال وخرج إليه أبو الأعور فاقتتلوا يومهم وصبر بعضهم علي لبعض ثم انصرفوا وحمل عليهم الأشتر وقال أروني أبا الأعور وتراجعوا ووقف أبو الأعور وراء المكان الذي كان فيه أول مرة وجاء الأشتر فصف أصحابه بمكان أبي الأعور بالأمس فقال الأشتر لسنان بن مالك النخعي انطلق إلى أبي الأعور فادعه إلى البراز فقال إلى مبارزتي أو مبارزتك؟ فقال الأشتر:
282

لو أمرتك بمبارزته لفعلت قال نعم والله لو أمرتني أن أعترض صفهم بسيفي لفعلت فدعا له وقال إنما تدعوه لمبارزتي. فخرج إليهم فقال أمنوني فإني رسول فأمنوه فانتهى إلى أبي الأعور وقال له إن الأشتر يدعوك إلى أن تبارزه فسكت طويلا ثم قال إن خفة الأشتر وسوء رأيه حملاه علي إجلاء عمال عثمان عن العراق وتقبيح محاسنه وعلي أن سار إليه في داره حتى قتله فأصبح متعبا بدمه لا حاجة لي في مبارزته قال له الرسول قد قلت فاسمع مني أجبك قال لا حاجة لي في جوابك اذهب عني فصاح به أصحابه فانصرف عنه ورجع إلى الأشتر فأخبره فقال لنفسه نظر فوقفوا حتى حجز الليل بينهم وعاد الشاميون من الليل.
وأصبح علي غدوة عند الأشتر وتقدم الأشتر ومن معه فانتهى إلى معاوية فواقفه ولحق بهم علي فتواقفوا طويلا.
ثم أن عليا طلب لعسكره موضعا ينزل فيه وكان معاوية قد سبق فنزل منزلا اختاره بسيطا واسعا أفيح وأخذ شريعة الفرات وليس في ذلك الصقع شريعة غيرها وجعلها في حيزه وبعث عليها أبا الأعور السلمي يحميها ويمنعها فطلب أصحاب علي شريعة غيرها فلم يجدوا فأتوا عليا فأخبروه بفعلهم وبعطش الناس فدعا صعصعة بن صوحان فأرسله إلى معاوية يقول له إنا سرنا مسيرنا هذا ونحن نكره قتالكم قبل الإعذار إليكم فقدمت إلينا خيلك ورجالك فقاتلتنا قبل أن نقاتلك ونحن من رأينا الكف حتى ندعوك ونحتج عليك وهذه أخرى قد فعلتموها منعتم الماء عن الماء والناس غير منتهين فابعث إلى أصحابك فليخلوا بين الناس وبين الماء وليكفوا لننظر فيما بيننا وبينكم وفيما
283

قدمنا له فإن أردت أن نترك ما جئنا له ونقتتل علي الماء حتى يكون الغالب هو الشارب فعلنا.
فقال معاوية لأصحابه ما ترون فقال الوليد بن عقبة وعبد الله بن سعد امنعهم الماء كما منعوه ابن عفان اقتلهم عطشا قتلهم الله فقال عمرو بن العاص خل بين القوم وبين الماء وإنهم لن يعطشوا وأنت ريان ولكن بغير الماء فانظر فيما بينك وبين الله فأعاد الوليد وعبد الله بن سعد مقالتهما وقالا امنعهم الماء إلى الليل فإنهم إن لم يقدروا عليه رجعوا وكان رجوعهم هزيمة امنعهم الماء منعهم الله [إياه] يوم القيامة قال صعصعة إنما يمنعه الله الفجرة وشربة الخمر لعنك الله ولعن هذا الفاسق يعني الوليد بن عقبة فشتموه وهددوه.
وقد قيل إن الوليد وابن أبي سرح لم يشهدا صفين.
فرجع صعصعة فأخبره بما كان وأن معاوية قال سيأتيكم رأيي، فسرب الخيل إلى أبي الأعور ليمنعهم الماء فلما سمع علي ذلك قال قاتلوهم علي الماء فقال الأشعث بن قيس الكندي أنا أسير إليهم فلما دنوا منهم ثاروا في وجوههم فرموهم بالنبل فتراموا ساعة ثم تطاعنوا بالرماح ثم صاروا إلى السيوف فاقتتلوا ساعة وأرسل معاوية يزيد بن أسد البجلي القسري جد خالد بن عبد الله القسري في الخيل إلى أبي الأعور فأقبلوا فأرسل علي شبث بن ربعي الرياحي فازداد القتال فأرسل معاوية عمرو بن العاص في جند كثير فأخذ يمد أبا الأعور ويزيد بن أسد وأرسل علي الأشتر في جمع
284

عظيم وجعل يمد الأشعث وشيئا فاشتد القتال فقال عبد الله بن عوف الأزدي الأحمري:
(خلوا لنا ماء الفرات الجاري * أو أثبتوا لجحفل جرار)
(لكل قرم مستميت شاري * مطاعن برمحه كرار)
(ضراب هامات العدى مغوار * لم يخش غير الواحد القهار)
وقاتلوهم حتى خلوا بينهم وبين الماء وصار في أيدي أصحاب علي فقالوا والله لا نسقيه أهل الشام فأرسل علي إلى أصحابه أن خذوا من الماء حاجتكم وخلوا عنهم فإن الله نصركم ببغيهم وظلمهم ومكث علي يومين لا يرسل إليهم أحدا ولا يأتيه أحد ثم أن عليا دعا أبا عمرو وبشير بن عمرو بن محصن الأنصاري وسعيد بن قيس الهمداني وشبث بن ربعي التميمي فقال لهم ائتوا هذا الرجل وادعوه إلى الله وإلي الطاعة والجماعة فقال له شبث يا أمير المؤمنين ألا تطمعه في سلطان توليه إياه أو منزلة تكون له بها أثرة عندك إن هو بايعك قال انطلقوا إليه واحتجوا عليه وانظروا ما رأيه وهذا في أول ذي الحجة فأتوه فدخلوا عليه فابتدأ بشير بن عمرو الأنصاري فحمد الله وأثني عليه وقال يا معاوية إن الدنيا عنك زائلة وإنك راجع إلى الآخرة إن الله محاسبك بعملك ومجازيك عليه وإني أنشدك الله أن لا تفرق جماعة هذه الأمة وأن لا تسفك دماءها بينها.
فقطع عليه معاوية الكلام وقال هلا أوصيت بذلك صاحبك فقال أبو عمرو إن صاحبي ليس مثلك إن صاحبي أحق البرية كلها بهذا الأمر في الفضل والدين والسابقة في الإسلام والقرابة بالرسول قال فماذا يقول؟ قال يأمرك بتقوي الله وأن تجيب ابن عمك إلى ما
285

يدعوك إليه من الحق فإنه أسلم لك في دنياك وخير لك في عاقبة أمرك. قال معاوية ونترك دم ابن عفان لا والله لا أفعل ذلك أبدا.
قال فذهب سعيد بن قيس يتكلم فبادره شبث بن ربيعي فحمد الله وأثني عليه ثم قال يا معاوية قد فهمت ما رددت علي ابن محصن إنه والله لا يخفي علينا ما تطلب إنك لم تجد شيئا تستغوي به الناس وتستميل به أهوائهم وتستخلص به طاعتهم إلا قولك قتل إمامكم مظلوما فنحن نطلب بدمه فاستجاب لك سفهاء طغام وقد علمنا أنك أبطأت عنه بالنصر وأحببت له القتل لهذه المنزلة التي أصبحت تطلب ورب متمني وطالبه يحول الله دونه وربما أوتي المتمني أمنيته وفوق أمنيته ووالله ما لك في واحدة منهما خير ووالله أخطأك ما ترجو إنك لشر العرب حالا ولئن أصبت ما تتمناه لا تصيبه حتى تستحق من ربك صلى النار فاتق الله يا معاوية ودع ما أنت عليه ولا تنازع
الأمر أهله.
قال فحمد الله معاوية ثم قال أما بعد فإن أول ما عرفت به سفهك وخفة حلمك إن قطعت علي هذا الحسيب الشريف سيد قومه منطقه ثم اعترضت بعد فيما لا علم لك به فقد كذبن ولؤمت أيها الأعرابي الجلف الجاف في كل ما ذكرت ووصفت انصرفوا من عندي فليس بيني وبينكم إلا السيف وغضب وخرج القوم فقال له شبث بن ربيعي أتهول بالسيف أقسم بالله لنعجلنها إليك.
فأتوا عليا فأخبروه بذلك فأخذ علي يأمر الرجل ذا الشرف فيخرج ومعه جماعة من أصحابه ويخرج إليه آخر من أصحاب معاوية ومعه جماعة فيقتتلان في خيلهما ثم ينصرفان وكرهوا أن يلقوا جمع أهل العراق بجمع أهل الشام لما خافوا أن يكون فيها من الاستئصال والهلاك فكان علي يخرج مرة الأشتر ومرة
286

حجر بن عدي الكندي ومرة شبث بن ربيعي ومرة خالد بن المعمر ومرة زياد بن النضر الحارثي ومرة زياد بن خصفة التيمي ومرة سعيد بن قيس الهمداني ومرة معقل بن قيس الرياحي ومرة قيس بن سعد الأنصاري وكان الأشتر أكثرهم خروجا. وكان معاوية يخرج إليهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد وأبو الأعور السلمي وحبيب بن مسلمة الفهري وابن ذي الكلاع الحميري وعبيد الله بن عمر بن الخطاب وشرحبيل بن السمط الكندي وحمزة بن مالك الهمذاني فاقتتلوا أيام ذي الحجة كلها وربما اقتتلوا في اليوم الواحد مرتين
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة مات حذيفة بن اليمان بعد قتل عثمان بيسير ولم يدرك الجمل وقتل ابناه صفوان وسعيد مع علي بصفين بوصية أبيهما وقيل مات سنة خمس وثلاثين والأول أصح وفيها مات سلمان الفارسي في قول بعضهم وكان عمره مائتين وخمسين سنة هذا أقل ما قيل فيه وقيل ثلاثمائة وخمسون سنة وكان قد أدرك بعض أصحاب المسيح عليه السلام وعبد الله بن سعد بن أبي سرح مات بعسقلان حيث خرج مع معاوية إلى صفين وكره الخروج معه ومات فيها عبد الرحمن بن عديس البلوي أمير القادمين من مصر لقتل عثمان وكان ممن بايع النبي تحت الشجرة وقيل بل قتل بالشام وفيها مات قدامة بن مظعون الجمحي وهو من مهاجرة الحبشة وشهد بدرا وفيها توفي عمرو بن أبي عمرو بن ضبة الفهري أبو شداد شهد بدرا وفيها استعمل علي علي الري يزيد بن حجة التيمي تيم
287

اللات، فكسر من خراجها ثلاثين ألفا فكتب إليه علي يستدعيه فحضر فسأله عن المال قال أين ما غللته من المال قال ما أخذت شيئا فخفقه بالدرة خفقات وحبسه ووكل به سعدا مولاه فهرب منه يزيدا إلى الشام فسوغه معاوية المال فكان ينال من علي وبقي بالشام إلى أن اجتمع الأمر لمعاوية فسار معه إلى العراق فولاه الري وقيل إنه شهد مع علي الجمل وصفين والنهروان ثم ولاه الري وهو الصحيح فكان ما تقدم ذكره.
288

37
ثم دخلت سنة سبع وثلاثين
ذكر تتمة أمر صفين
في هذه السن في المحرم منها جرت موادعة بين علي ومعاوية توادعا علي ترك الحرب بينهما حتى ينقضي المحرم طمعا في الصلح واختلفت بينهم الرسل فبعث علي عدي بن حاتم ويزيد بن قيس الأرحبي وشبث بن ربيعي وزياد بن خصفة.
فتكلم عدي بن حاتم فحمد الله وقال أما بعد فإنا أتيناك ندعوك إلى أمر يجمع الله به كلمتنا وأمتنا ونحقن به الدماء ونصلح ذات البين إن ابن عمط سيد المسلمين أفضلها سابقة وأحسنها في الإسلام أثرا وقد استجمع له الناس ولم يبقي أحد غيرك وغير من معك فأحذر يا معاوية لا يصيبك وأصحابك مثل يوم الجمل فقال له معاوية كأنك إنما جئت متهددا لم تأت مصلحا هيهات يا عدي كلا والله إني لابن حرب لا يقعقع له بالشنان وإنك والله من المجلبين علي عثمان وإنك من قتلته وإني لأرجو أن تكون ممن يقتله الله به! فقال له شبث وزياد بن خفصة جوابا واحدا أتيناك فيما يصلحنا وإياك فأقبلت تضرب لنا الأمثال دع ما لا ينفع وأجبنا فيما يعم نفعه وقال يزيد بن قيس إنا لم نأت إلا لنبلغك ما أرسلنا به إليك ونؤدي عنك ما سمعنا منك
289

ولن ندع أن نصحح لك وأن نذكر ما يكون به الحجة عليك ويرجع إلى الألفة والجماعة إن صاحبنا من قد عرف المسلمون فضله ولا يخفي عليك فاتق الله يا معاوية ولا تخالفه فإنا والله ما رأينا في الناس رجلا قط أعمل بالتقوى ولا أزهد في الدنيا ولا أجمع لخصال الخير كلها منه.
فحمد الله معاوية ثم قال أما بعد فإنكم دعوتم إلى الطاعة والجماعة فأما الجماعة التي دعوتم إليها فمعنا هي وأما الطاعة لصاحبكم فإنا لا نراها لأن صاحبكم قتل خليفتنا وفرق جماعتنا وآوي ثارنا وصاحبكم يزعم أنه لم يقتله فنحن لا نرد عليه ذلك فليدفع إلينا قتلة عثمان لنقتلهم ونحن نجيبكم إلى الطاعة والجماعة فقال شبت بن ربعي أيسرك يا معاوية أن تقتل عمارا فقال وما يمنعني من ذلك لو تمكنت من ابن سمية لقتلته بمولى عثمان فقال شبث والذي لا إله غيره لا تصل إلى ذلك حتى تندر الهام عن الكواهل وتضيق الأرض الفضاء عليك فقال معاوية لو كان ذلك لكانت عليك أضيق!
وتفرق القوم عن معاوية وبعث معاوية إلى زياد بن خصفة فخلا به وقال له يا أخا ربيعة إن عليا قطع أرحامنا وقتل إمامنا وآوي قتلة صاحبنا وإني أسألك النصر عليه بعشيرتك ثم لك عهد الله وميثاقه أني أوليك إذا ظهرت أي المصريين أحببت فقال زياد أما بعد فإني علي بينة من ربي وما أنعم الله علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين وقام فقال معاوية لعمرو بن العاص ليس نكلم رجلا منهم فيجيب إلى خيرا منهم فيجيب إلى خير ما قلوبهم إلا كقلب واحد!
290

وبعث معاوية إلى علي حبيب بن مسلمة الفهري وشرحبيل بن السمط ومعن بن يزيد بن الأخنس فدخلوا عليه فحمد الله حبيب وأثني عليه ثم قال أما بعد فإن عثمان كان خليفة مهديا يعمل بكتاب الله وينيب إلى أمره فاستثقلتم حياته واستبطأتم وفاته فعدوتم عليه فقتلتموه فادفع إلينا قتلة عثمان إن زعمت أنك لم تقتله [نقتلهم به]، ثم اعتزل أمر الناس فيكون أمرهم شوري بينهم يولونه من أجمعوا عليه فقال له علي ما أنت لا أم لك والعزل وهذا الأمر اسكت [فإنك] لست هناك ولا بأهل له فقال والله لتريني بحيث تكره فقال له علي وما أنت؟ لا أبقي الله إن أبقيت علينا اذهب فصوب وصعد ما بدا لك وقال شرحبيل ما كلامي إلا مثل كلام صاحبي فهل عندك جواب غير هذا فقال علي ليس عندي جواب غيره.
ثم حمد الله وأثني عليه وقال: أما بعد فإن الله تعالى بعث محمدا بالحق فأنقذ به من الضلالة والهلكة وجمع به من الفرقة ثم قبضه الله إليه فاستخلف الناس أبا بكر واستخلف أبو بكر عمر فأحسنا السيرة وعدلا وقد وجدنا عليهما أن توليا الأمور ونحن آل رسول الله صلى الله عليه وسلم فغفرنا ذلك لهما وولى الناس عثمان فعمل بأشياء عابها الناس فساروا إليه فقتلوه ثم أتاني الناس وأنا معتزل أمورهم فقالوا لي بايع فأبيت فقالوا بايع فإن الأمة لا ترضي إلا بك وإنا نخاف إن لم تفعل أن يتفرق الناس فبايعتهم فلم يرعني إلا شقاق رجلين قد بايعاني وخلاف معاوية الذي لم يجعل له سابقة في الدين ولا سلف صدق في الإسلام، طليق ابن طليق، حزب من الأحزاب، لم يزل حربا لله ورسوله هو وأبوه حتى دخلا في الإسلام كارهين ولا عجب
291

إلا من اختلافكم معه وانقيادكم له وتتركون آل بيت نبيكم الذين لا ينبغي لكم شقاقهم ولا خلافهم ألا إني أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه وإماتة الباطل وإحياء الحق ومعالم الدين أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم وللمؤمنين فقالا تشهد أن عثمان قتل مظلوما فقالا لهما لا أقول إنه قتل مظلوما ولا ظالما قالا فمن لم يزعم أنه قتل مظلوما فنحن منه براء وانصرفا، فقال [علي]، عليه السلام: (إنك لا تسمع الموتى)، إلى قوله: (فهم مسلمون) ثم قال لأصحابه لا يكن هؤلاء في الجد في ضلالهم أجد منكم في الجد في حقكم وطاعة ربكم.
فتنازع عامر بن قيس الحذمري ثم الطائي وعدي بن حاتم الطائي في الراية بصفين وكانت حذمر أكثر من بني عدي رهط حاتم فقال عبيد الله بن خليفة البولاني عند علي يا بني حذمر أعلي عدي تتوثبون وهل فيكم وفي آبائكم مثل عدي وأبيه؟ أليس بحامي القرية ومانع الماء يوم روية؟ أليس ابن ذي المرباع وابن جواد العرب وابن المنهب ماله ومانع جاره ومن لم يغدر ولم يفجر ولم يبخل ولم يمنن ولم يجبن هاتوا في آبائكم مثل أبيه أوفيكم مثله أليس أفضلكم في الإسلام ووافدكم إلى النبي أليس برأسكم يوم النخيلة ويوم القادسية ويوم المدائن ويوم
جلولاء ويوم نهاوند ويوم تستر فقال علي حسبك يا بن خليفة وقال علي لتحضر جماعة طيء فأتوه فقال من كان رأسكم في هذه المواطن قالوا عدي فقال ابن خليفة سلهم يا أمير المؤمنين أليسوا راضين برياسة عدي ففعل فقالوا بلي فقال علي فعدي أحقكم بالراية وأخذها فلما كان أيام حجر بن عدي طلب زياد عبد الله بن خليفة ليبعثه مع حجر فسار إلى الجبلين ووعده عدي أن يرده
292

وأن يسأل فيه فطال عليه ذلك فقال شعرا منه:
(أتنسى بلائي سادرا يا بن حاتم * عشية ما أغنت عديك حذمرا)
(فدافعت عنك القوم حتى تخاذلوا * وكنت أنا الخصم الألد العذورا)
(فولوا وما قاموا مقامي كأنما * رأوني ليثا بالأباءة مخدرا)
(نصرتك إذ خام القريب وأبعد ال * بعيد وقد أفردت نصرا مؤزرا)
(فكان جزائي أن أجرر بينكم * سحيبا وأن أولي الهوان وأوسرا)
(وكم عدة لي منك أنك راجعي * فلم تغن بالميعاد عني حبترا)
وسترد قصته بتمامها إن شاء الله تعالى.
فلما انسلخ المحرم أمر علي مناديا فنادى يا أهل الشام يقول لكم أمير المؤمنين قد استدمتكم لتراجعوا الحق وتنيبوا إليه فلم تنتهوا عن طغيانكم ولم تجيبوا إلى الحق وإني قد نبذت إليكم علي سواء إن الله لا يحب الخائنين!
فاجتمع أهل الشام إلى أمرائهم ورؤسائهم وخرج معاوية وعمر يكتبان الكتائب ويعبينان الناس وكذلك فعل أمير المؤمنين وقال للناس لا تقاتلوهم حتى يقاتلوكم فأنتم بحمد الله علي حجة وترككم قتالهم حجة أخرى فإذا هزمتموهم فلا تقتلوا مدبرا ولا تجهزوا علي جريح ولا تكشفوا عورة ولا تمثلوا بقتيل وإذا وصلتم إلى رحال القوم فلا تهتكوا سرا ولا تدخلوا دارا ولا تأخذوا شيئا من أموالهم ولا تهيجوا امرأة وإن شتمن أعراضكم وسبين أمراءكم وصلحاءكم فإنهن ضعاف القوي والأنفس وكان يقول بهذا المعني
293

لأصحابه في كل موطن وحرض أصحابه فقال عباد الله اتقوا الله وغضوا الأبصار واخفضوا الأصوات وأقلوا الكلام ووطنوا أنفسكم علي المنازلة والمجاولة والمزاولة والمناضلة والمعانقة والمكادمة والملازمة، (فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون)، (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين)، اللهم ألهمهم الصبر وأنزل عليهم النصر وأعظم لهم الأجر!
وأصبح علي فجعل علي خيل الكوفة الأشتر وعلي جند البصرة سهل بن حنيف وعلي رجالة الكوفة عمار بن ياسر وعلي رجالة البصرة قيس بن سعد وهاشم بن عتبة المرقال معه الراية وجعل مسعر بن فدكي علي قراء الكوفة وأهل البصرة. وبعث معاوية علي ميمنته ابن ذي الكلاع الحميري وعلي ميسرته حبيب بن مسلمة الفهري وعلي مقدمته أبا الأعور السلمي وعلي خيل دمشق عمرو بن العاص وعلي رجالة دمشق مسلم بن عقبة المري وعلي الناس كلهم الضحاك بن قيس وبايع رجال من أهل الشام علي الموت فعقلوا أنفسهم بالعمائم وكانوا خمسة صفوف وخرجوا أول يوم من صفر فاقتتلوا وكان علي الذين خرجوا من أهل الكوفة الأشتر وعلي من خرج من أهل الشام حبيب بن مسلمة فاقتتلوا يومهم هذا قتالا شديدا معظم النهار ثم تراجعوا وقد انتصف بعضهم من بعض. ثم خرج في اليوم الثاني هاشم بن عتبة في خيل ورجال وخرج من أهل الشام أبو الأعور السلمي فاقتتلوا يومهم ذلك ثم انصرفوا وخرج في اليوم الثالث عمار بن ياسر وخرج إليه عمرو بن العاص فاقتتلوا أشد قتال وقال عمار يا أهل العراق أتريدون أن تنظروا إلى من عادي الله ورسوله وجاهدهما وبغي علي المسلمين وظاهر المشركين؟
294

فلما رأى الله يعز دينه ويظهر رسوله أتي النبي وهو فيما نري راهب غير راغب ثم قبض النبي فوالله إن زال بعده معروفا بعداوة المسلم واتباع المجرم فاثبتوا له وقاتلوه.
وقال عمار لزياد بن النضر وهو علي الخيل احمل علي أهل الشام فحمل وقاتله الناس وصبروا له وحمل عمار فأزال عمرو بن العاص عن موضعه وبارز يومئذ زياد بن النضر أخاه لأمه واسمه عمرو بن معاوية من بني المنتفق فلما التقيا تعارفا فانصرف كل واحد منهما عن صاحبه وتراجع الناس. وخرج من الغد محمد بن علي وهو ابن الحنفية وخرج إليه عبيد الله بن عمر بن الخطاب في جمعين عظيمين فاقتتلوا أشد القتال وأرسل عبيد الله إلى ابن الحنفية يدعوه إلى المبارزة فخرج إليه فحرك علي دابته ورد ابنه وبرز علي إلى عبيد الله فرجع عبيد الله وقال محمد لأبيه لو تركتني لرجوت قتله فقال علي يا بني لا تقل في أبيه إلا خيرا وتراجع الناس وخرج عبد الله بن عباس في اليوم الخامس وخرج إليه الوليد بن عقبة فاقتتلوا قتالا شديدا فسب الوليد بني عبد المطلب فطلبه ابن عباس ليبارزه فأبي وقاتل ابن عباس قتالا شديدا وخرج في اليوم السادس قيس بن سعد الأنصاري وخرج إليه ابن ذي الكلاع الحميري فاقتتلوا قتالا شديدا ثم انصرفوا ثم عاد يوم الثلاثاء وخرج الأشتر وخرج إليه حبيب فاقتتلوا قتالا شديدا وانصرفوا عند الظهر.
ثم إن عليا قال حتى متى لا نناهض هؤلاء القوم بأجمعنا فقام في الناس عشية الثلاثاء ليلة الأربعاء خطيبا فحمد الله وأثني عليه فقال الحمد لله الذي لا يبرم ما نقض وما أبرم لم ينقضه الناقضون ولو شاء الله ما اختلف اثنان من
295

خلقه ولا اختلفت الأمة في شيء ولا جحد المفضول ذا الفضل فضله وقد ساقنا وهؤلاء القوم الأقدار فنحن بمرأى من ربنا ومسمع فلو شاء الله عجل النقمة وكان منه التغيير حتى يكذب الظالم ويعلم الحق أين مصيره ولكنه جعل الدنيا دار الأعمال وجعل الآخرة دار القرار (ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى)، ألا وإنكم لاقو القوم غدا فأطيلوا الليلة القوم وأكثروا تلاوة القرآن واسألوا الله النصر والصبر وألقوهم بالجد والحزم وكونوا صادقين فقام القوم يصلحون سلاحهم فمر بهم كعب بن جعيل فقال:
(أصبحت الأمة في أمر عجب * والملك مجموع غدا لمن يغلب)
(فقلت قولا صادقا غير كذب * إن غدا تهلك أعلام العرب)
وعبأ علي الناس ليلته حتى الصباح وزحف بالناس وخرج إليه معاوية في أهل الشام فسأل علي عن القبائل من أهل الشام فعرف مواقفهم قال للأزد اكفونا الأزد وقال لخثعم اكفونا خثعم وأمر كل قبيلة أن تكفيه أختها من الشام إلا أن تكون قبيلة ليس منها بالشام أحد فيصرفها إلى قبيلة أخرى من الشام ليس بالعراق منهم أحد مثل بجيلة لم يكن بالشام منهم إلا القليل صرفهم إلى لخم.
فتناهض الناس يوم الأربعاء فاقتتلوا قتالا شديدا ثم انصرفوا عند المساء وكل غير غالب، فلما كان يوم الخميس صلى علي بغلس وخرج بالناس إلى أهل الشام فزحف إليهم وزحفوا معه، وكان علي ميمنة علي عبد الله
296

ابن بديل بن ورقاء الخزاعي وعلي ميسرته عبد الله بن عباس والقراء مع ثلاثة نفر عمار وقيس بن سعد وعبد الله بن بديل والناس علي راياتهم ومراكزهم وعلي في القلب في أهل المدينة بين أهل الكوفة والبصرة وأكثر من معه من أهل المدينة الأنصار ومعه عدد من خزاعة وكنانة وغيرهم أكثر أهل الشام علي الموت وأحاط بقبته خيل دمشق وزحف عبد الله بن بديل في الميمنة نحو حبيب بن مسلمة وهو في ميسرة معاوية فلم يزل يحوزه ويكشف خيله حتى اضطرهم إلى قبة معاوية عند الظهر وحرض عبد الله بن بديل أصحابه فقال ألا إن معاوية ادعي ما ليس له ونازع الحق أهله وعاند من ليس مثله وجادل بالباطل ليدحض به الحق وصال عليكم بالأعراب والأحزاب الذين قد زين لهم الضلالة وزرع في قلوبهم حب الفتنة ولبس عليهم الأمر وزادهم عليهم الأمر وزادهم رجسا إلى رجسهم فقاتلوا الطغام الجفاة ولا تخشوهم، (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين).
وحرض علي أصحابه فقال في كلام له فسووا صفوفكم كالبنيان المرصوص وقدموا الدارع وأخروا الحاسر وعضوا علي الأضراس فإنه أنبي للسيوف عن الهام والتووا في الأطراف فإنه أصون للأسنة وغضوا الأبصار فإنه أربط للجأش وأسكن للقلب وأميتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل وألوي بالوقار راياتكم فلا تميلوها ولا تزيلوها ولا تجعلوها إلا بأيدي شجعانكم، واستعينوا
297

بالصدق والصبر فإن بعد الصبر ينزل عليكم النصر.
وقام يزيد بن قيس الأرحبي يحرض الناس فقال إن المسلم من سلم في دينه ورأيه وإن هؤلاء القوم والله لا يقاتلونا علي إقامة دين ضيعناه وإحياء حق أمتناه إن يقاتلوننا إلا علي هذه الدنيا ليكونوا جبارين فيها ملوكا فلو
ظهروا عليكم لا أراهم الله ظهورا ولا سرورا ألزموكم بمثل سعيد والوليد وابن عارم السفيه الضال يجيز أحدهم بمثل ديته ودية أبيه وجده في جلسة ثم يقول هذا لي ولا إثم علي كأنما أعطي تراثه عن أبيه وأمه وإنما هو مال الله أفاءه علينا بأرماحنا وسيوفنا فقاتلوا عباد الله القوم الظالمين فإنهم إن يظهروا عليكم يفسدوا عليكم دينكم ودنياكم وهم من قد عرفتم وخبرتم والله ما ازدادوا إلى يومهم إلا شرا!
وقاتلهم عبد الله بن بديل في الميمنة قتالا شديدا حتى انتهي إلى قبة معاوية وأقبل الذين تبايعوا علي الموت إلى معاوية فأمرهم أن يصمدوا لابن بديل في الميمنة وبعث إلى حبيب بن مسلمة في الميسرة فحمل بهم وبمن كان معه علي ميمنة الناس فهزمهم وانكشف أهل العراق من قبل الميمنة حتى لم يبق منهم إلا ابن بديل في مائتين أو ثلاثمائة من القراء قد أسند بعضهم إلى بعض وانجفل الناس، وأمر علي سهل بن حنيف فاستقدم فيمن كان معه من أهل المدينة فاستقبلتهم جموع لأهل الشام عظيمة فاحتملتهم حتى أوقفتهم في الميمنة وكان فيما بين الميمنة إلى موقف علي في القلب أهل اليمن فلما انكشفوا انتهت الهزيمة إلى علي فانصرف علي يمشي نحو الميسرة فانكشفت عنه مضر من
298

الميسرة وثبتت ربيعة وكان الحسن والحسين ومحمد بنو علي معه حين قصد الميسرة والنبل يمر بين عاتقيه ومنكبيه وما من بنيه أحد إلا يقيه بنفسه فيرده فبصر به أحمر مولي أبي سفيان أو عثمان فأقبل نحوه فخرج إليه كيسان مولي علي فاختلفا بينهما ضربتان فقتله أحمر فأخذ علي بجيب درع أحمر فجذبه وحمله علي عاتقه ثم ضرب به الأرض فكسر منكبيه وعضديه ودنا منه أهل الشام فما زاده قربهم إلا إسراعا فقال له ابنه الحسن ما ضرك لو سعيت حتى تنتهي إلى هؤلاء القوم من أصحابك فقال يا بني إن لأبيك يوما لا يعدوه ولا يبطئ به عنه السعي ولا يعجل به إليه المشي وإن أباك والله لا يبالي أوقع علي الموت أم وقع الموت عليه. فلما وصل إلى ربيعة نادى بصوت عالي كغير المكترث لما فيه الناس لمن هذه الرايات قالوا رايات ربيعة قال بل رايات عصم الله أهلها فصبرهم وثبت أقدامهم وقال للحضين بن المنذر يا فتي ألا تدني رأيتك هذه ذراعا قال بلي والله عشرة أذرع فأدناها حتى قال حسبك مكانك ولما انتهي علي إلى ربيعة تنادوا بينهم يا ربيعة إن أصيب فيكم أمير المؤمنين وفيكم رجل حي افتضحتم في العرب فقاتلوا قتالا شديدا ما قاتلوا مثله فلذلك قال علي:
(لمن راية سوداء يخفق ظلها * إذا قيل قدمها حضين تقدما)
(ويقدمها في الموت حتى يزيرها * حياض المنايا تقطر الموت والدما)
(أذقنا ابن حرب طعننا وضرابنا * بأسيافنا حتى تولي وأحجما)
(جزي الله قوما صابروا في لقائهم * لدى الموت قوما ما أعف وأكرما)
299

(وأطيب أخبارا وأكرم شيمة * إذا كان أصوات الرجال تغمغما)
(ربيعة أعني أنهم أهل نجدة * وبأس إذا لاقوا خميسا عرمرما)
ومر به الأشتر وهو يقصد الميسرة والأشتر يركض نحو الفزع قبل الميمنة فقال له علي يا مالك قال لبيك يا أمير المؤمنين قال ائت هؤلاء القوم فقل لهم أين فراركم من الموت الذي لن تعجزوه إلى الحياة التي لا تبقي لكم فمضي الأشتر فاستقبل الناس منهزمين فقال لهم ما قال علي ثم قال أيها الناس أنا الأشتر إلى فأقبل إليه بعضهم وذهب البعض فنادى أيها الناس ما أقبح ما قاتلتم مذ اليوم أخلصوا لي مذحجا فأقبلت مذحج إليه فقال لهم ما أرضيتم ربكم ولا نصحتم له في عدوكم وكيف ذلك وأنتم أبناء الحرب وأصحاب الغارات وفتيان الصباح وفرسان الطراد وحتوف الأقران ومذحج الطعان الذين لم يكونوا يسبقون بثأرهم ولا تطل دماؤهم وما تفعلون هذا اليوم فإنه مأثور بعده فانصحوا واصدقوا عدوكم اللقاء فإن الله مع الصادقين والذي نفسي بيده ما من هؤلاء وأشار إلى أهل الشام رجل علي مثل جناح بعوضة من دين أجلوا سواد وجهي يرجع فيه دمه عليكم بهذا السواد الأعظم فإن الله [لو] قد فضة فتبعه من بجانبيه قالوا تجدنا حيث أحببت فقصد نحو عظمهم مما يلي الميمنة يزحف إليهم ويردهم واستقبله شباب من همدان وكانوا ثمانمائة مقاتل يومئذ وكانوا صبروا في الميمنة حتى أصيب منهم ثمانون ومائة رجل وقتل منهم أحد عشر رئيسا كان أولهم ذؤيب بن شريح ثم شرحبيل ثم مرثد ثم هبيرة ثم يريم ثم سمير أولاد شريح فقتل ثم أخذ الراية عميرة ثم الحارث ابنا بشير فقتلا جميعا ثم أخذ الراية سفيان وعبد الله
300

وبكر بنو زيد فقتلوا جميعا، ثم أخذ الراية وهب بن كريب فانصرف هو وقومه وهم يقولون ليت لنا عدتنا من العرب يحالفوننا علي الموت ثم نرجع فلا ننصرف أو نقتل أو نظفر فسمعهم الأشتر يقولون هذا فقال لهم أنا أحالفكم علي أن لا نرجع أبدا حتى نظفر أو نهلك فوقفوا معه وفي هذا قال كعب بت جعيل:
وهمدان زرق تبتغي من تحالف
وزحف الأشتر نحو الميمنة وثاب إليه الناس وتراجعوا من أهل البصرة وغيرهم فلم يقصد كتيبة إلا كشفها ولا جمعا إلا جازه ورده فإنه كذلك إذ مر به زياد بن النضر الحارثي يحمل إلى العسكر وقد صرع وسببه أنه كان استلحم عبد الله بن بديل وأصحابه في الميمنة فتقدم زياد إليهم ورفع رايته لأهل الميمنة فصبروا وقاتل حتى صرع. ثم مروا بيزيد بن قيس الأرحبي محمولا نحو العسكر وكان قد رفع رايته لأهل الشام الميمنة لما صرع زياد وقاتل حتى صرع فقال الأشتر حين رآه هذا والله الصبر الجميل والفعل الكريم ألا يستحي الرجل أن ينصرف ولا يقتل أو يشفي به علي القتل وقاتلهم الأشتر قتالا شديدا ولزمه الحارث بن جمهان الجعفي يقاتل معه فما زال هو ومن رجع إليه يقاتلون حتى كشف أهل الشام وألحقهم بمعاوية والصف الذي معه بين صلاة العصر والمغرب وانتهي إلى عبد الله بن بديل وهو في عصابة من القراء
+ + +
301

+ + + فأبصروا إخوانهم فقالوا ما فعل أمير المؤمنين قال حي صالح في الميسرة يقاتل الناس أمامه فقالوا الحمد لله قد كنا ظننا أنه قد هلك وهلكتم. وقال عبد الله بن بديل [لأصحابه]: استقدموا بنا فقال الأشتر لا تفعل وأثبت مع الناس فإنه خير لهم وأبقي لك ولأصحابك فأبي ومضي كما هو نحو معاوية وحوله كأمثال الجبال وبيده سفيان وخرج عبد الله أمام أصحابه يقتل كل من دنا منه حتى قتل جماعة ودنا من معاوية فنهض إليه الناس من كل جانب وأحيط به وبطائفة من أصحابه فقاتل حتى قتل وقتل ناس من أصحابه ورجعت طائفة منهم مجرحين فبعث الأشتر الحارث بن جمهان الجعفي فحمل علي أهل الشام الذين يتبعون من انهزم من أصحاب عبد الله حتى نفسوا عنهم وانتهوا إلى الأشتر وكان معاوية قد رأى ابن بديل وهو يضرب قدما قال أترونه كبش القوم فلما قتل أرسل إليه لينظروا من هو فلم يعرفه أهل الشام فجاء إليه فلما رآه عرفه فقال هذا عبد الله بن بديل والله لو استطاعت نساء خزاعة لقاتلتنا فضلا عن رجالها وتمثل بقول حاتم:
(أخو الحرب إذ عضت به الحرب عضها * وإن شمرت يوما به الحرب شمرا)
وزحف الأشتر بعك والأشعريين وقال لمذحج اكفونا عكا ووقف في همدان وقال لكندة اكفونا الأشعريين فاقتتلوا قتالا شديدا إلى المساء وقاتلهم الأشتر في همدان وطوائف من الناس فأزال أهل الشام عن مواضعهم حتى ألحقهم بالصفوف الخمسة المعلقة بالعمائم حول معاوية ثم حمل عليهم حملة أخرى فصرع أربعة صفوف من المعلقين بالعمائم [حتى انتهوا إلى الخامس
302

الذي حول معاوية]، ودعا معاوية بفرسه فركب وكان يقول أردت أن انهزم فذكرت قول ابن الأطنابة الأنصاري وكان جاهليا:
(أبت لي عفتي فأبي بلائي * وإقدامي علي البطل المشيح)
(وإعطائي علي المكروه مالي * وأخذي الحمد بالثمن الربيح)
(وقولي كلما جشأت وجاشت * مكانك تحمدي أو تستريحي)
قال فمنعني هذا القول من الفرار ونظر إلى عمرو وقال اليوم صبر وغدا فخر فقلت صدقت.
وتقدم جندب بن زهير فبارز رأس أزد الشام فقتله الشامي وقتل من رهطه عجل وسعد ابنا عبد الله وقتل أبو زينب بن عوف وخرج عبد الله بن أبي الحصين الأزدي في القراء الذين مع عمار بن ياسر فأصيب معه وتقدم عقبة بن حديد النميري وهو يقول ألا إن مرعي الدنيا أصبح هشيما وشجرها خضيدا وجديدها سملا وحلوها مر المذاق إني قد سئمت الدنيا وعزفت نفسي عنها وإني أتمنى الشهادة وأتعرض لها في كل جيش وغارة فأبي الله إلا أن يبلغني هذا اليوم وإني متعرض لها من ساعتي هذه وقد طمعت أن لا أحرمها فما تنظرون عباد الله بجهاد من
عادي الله في كلام طويل وقال يا أخوتي قد بعت هذه الدار بالتي أمامها وهذا وجهي إليها فتبعه أخوته عبيد الله وعوف ومالك وقالوا لا نطلب رزق الدنيا بعدك فقاتلوا حتى قتلوا. وتقدم شمر بن ذي الجوشن فبارز أدهم بن محرز الباهلي بالسيف وجهه وضربه شمر فلم يضره فعاد شمر [إلى رحله]
303

فشرب ماء وكان ظمآن ثم أخذ الرمح ثم حمل علي أدهم فصرعه وقال هذه بتلك.
وكانت راية بجيلة مع أبي شداد قيس بن هبيرة الأحمسي وهو قيس بن مكشوح ومكشوح لقب فقال لقومه والله لأنتهين بكم إلى صاحب الترس المذهب وكان صاحبه عبد الرحمن بن خالد فقاتل الناس قتالا شديدا وشد بسيفه نحو صاحب الترس فعرض له مولي رومي لمعاوية فضرب قدم أبي شداد فقطعها وضربه أبو شداد فقتله وأشرعت إليه الرماح فقتل وأخذ الراية عبد الله بن قلع الأحمسي فقاتل حتى قتل ثم أخذها عفيف بن إياس فلم تزل في يده حتى تحاجز الناس وقتل حازم بن أبي حازم أخو قيس بن أبي حازم يومئذ وقتل أبوه أيضا له صحبة ونعيم بن صهيب بن العيلة البجليون مع علي.
فلما رأى علي ميمنة أصحابه قد عادت إلى مواضعها ومواقفها وكشفت من بإزائها من عدوها حتى ضاربوهم في مواقفهم ومراكزهم أقبل حتى انتهي إليهم فقال إني قد رأيت جولتكم عن صفوفكم يحوزكم الجفاة الطغام وأعراب الشام وأنتم لهاميم العرب والسنام الأعظم وعمار الليل بتلاوة القرآن وأهل دعوة الحق فلولا إقبالكم بعد إدباركم وكركم بعد انحيازكم لوجب عليكم ما يجب علي المولي يوم الزحف [دبره] وكنتم من الهالكين ولكن هون وجدي وشفي أحاح نفسي أني رأيتكم بأخرة حزتموهم كما حازوكم وأزلتموهم عن
304

مصافهم كما أزالوكم تركب أولاهم أخراهم كالإبل المطردة الهيم فالآن فاصبروا فقد نزلت عليكم السكينة وثبتكم الله باليقين ليعلم المنهزم أنه مسخط ربه وموبق نفسه في كلام طويل وكان بشر بن عصمة المري قد لحق بمعاوية فلما اقتتل الناس بصفين نظر بشر إلى مالك بن العقدية الجشمي وهو يفتك بأهل الشام فاغتاظ لذلك فحمل علي مالك وتجاولا ساعة ثم طعنه بشر بن عصمة فصرعه ولم يقتله وانصرف عنه وقد ندم علي طعنته إياه وكان جبارا فقال:
(وإني لأرجو من مليكي تجاوزا * ومن صاحب الموسوم في الصدر هاجس)
(دلفت له تحت الغبار بطعنة * علي ساعة فيها الطعان تخالس)
فبلغت مقالته ابن العقدية فقال:
(ألا أبلغا بشر بن عصمة أنني * شغلت وألهاني الذين أمارس)
(وصادفت مني غرة وأصبتها كذ * لك والأبطال ماض وحابس)
وحمل عبد الله بن الطفيل البكائي علي أهل الشام فلما انصرف حمل عليه رجل من بني تميم يقال له قيس بن مرة ممن لحق بمعاوية من أهل العراق فوضع الرمح بين كتفي عبد الله واعترضه ابن عم لعبد الله اسمه يزيد بن معاوية فوضع الرمح بين كتفي التميمي فقال له والله لئن طعنته لأطعننك فقال له عليك عهد الله وميثاقه إن رفعت الرمح عن ظهر صاحبك لترفعن سنانك
305

عني قال نعم فرفع التميمي سنانه ورفع يزيد سنانه فلما رجع الناس إلى الكوفة عتب علي يزيد بن الطفيل فقال [له]:
(ألم ترني حاميت عنك مناصحا * بصفين إذ خلاك كل حميم)
(ونهنهت عنك الحنظلي وقد أتي * علي سابح ذي ميعة وهزيم)
وخرج رجل من آل عك من أهل الشام يسأل المبارزة فبرز إليه قيس بن فهدان الكندي فحمل عليه وتجاولا ساعة ثم طعنه عبد الرحمن فقتله وقال:
(ونحمل رايات الطعان بحقها * فنوردها بيضا ونصدرها حمرا)
وخرج قيس بن يزيد وهو ممن فر إلى معاوية فخرج إليه أبو العمر طه بن يزيد فتعارفا فتوافقا ثم انصرفا وأخبر كل واحد منهما أنه لقي أخاه وقاتلت طيئ يومئذ قتالا شديدا فعبيت لهم جموع فأتاهم حمرة بن مالك الهمداني فقال من القوم فقال له عبد الله بن خليفة وكان شيعيا شاعرا خطيبا نحن طيئ السهل وطيئ الرمل وطيئ الجبل الممنوع ذي النخل نحن طيئ الرماح وطيئ البطاح فرسان الصباح فقال حمرة بن مالك إنك لحسن الثناء علي قومك واقتتل الناس قتالا شديدا فناداهم يا معشر طيئ فدا لكم طارفي وتالدي قاتلوا علي الدين والأحساب وحمل بشر بن العسوس فقاتل ففقئت عينه يومئذ فقال في ذلك:
(ألا ليت عيني هذه مثل هذه * ولم أمش في الأحياء إلا بقائد)
306

(ويا ليت رجلي ثم طنت بنصفها * ويا ليت كفي ثم طاحت بساعدي)
(ويا ليتني لم أبق بعد مطرف * وسعد وبعد المستنير بن خالد)
(فوارس لم تغذ الحواضن مثلهم * إذا الحرب أبدت عن خدام الخرائد)
وقاتلت النخع يومئذ قتالا شديدا فأصيب منهم حيان وبكر ابنا هوذة وشعيب بن نعيم وربيعة بن مالك بن وهبيل وأبي أخو علقمة بن قيس الفقيه وقطعت رجل علقمة يومئذ فكان يقول ما أحب أن رجلي أصح مما كانت وإنها لمما أرجو بها الثواب وحسن الجزاء من ربي قال ورأيت أخي في المنام فقلت له ماذا قدمتم عليه فقال لي إنا التقينا نحن والقوم عند الله تعالى فاحتججنا فحججناهم فمما سررت بشيء سروري بتلك الرؤيا وكان يقال لأبي أبي الصلاة لكثرة صلاته. وخرجت حمير في جمعها ومن انضم إليها من أهل الشام ومقدمهم ذو الكلاع ومعه عبيد الله بن عمر بن الخطاب وهم ميمنة أهل الشام فقصدوا ربيعة من أهل العراق وكانت ربيعة ميسرة أهل العراق وفيهم ابن عباس علي الميسرة فحملوا علي ربيعة حملة شديدة فتضعضعت راية ربيعة وكانت الراية مع أبي ساسان حضين بن المنذر فانصرف أهل الشام عنهم ثم كر عبيد الله بن عمر وقال يا أهل الشام إن هذا الحي من أهل العراق قتلة عثمان وأنصار علي فشدوا علي الناس شدة عظيمة فثبتت ربيعة وصبروا صبرا حسنا إلا قليلا من الضعفاء والفشلة وثبت أهل الرايات وأهل الصبر والحفاظ وقاتلوا قتالا حسنا وانهزم خالد بن المعمر مع من انهزم وكان علي ربيعة فلما رأى أصحاب الرايات قد صبروا رجع وصاح بمن انهزم وأمرهم بالرجوع فرجعوا وكان خالد قد سعي به إلى علي أنه كاتب معاوية فأحضره علي ومن معه ربيعة فسأله عما قيل وقال له إن كنت فعلت ذلك
307

فالحق بأي بلد شئت لا يكون لمعاوية عليه حكم فأنكر ذلك.
وقالت ربيعة يا أمير المؤمنين لو نعلم أنه فعل ذلك لقتلناه فاستوثق منه علي بالعهود فلما فر اتهمه بعض الناس واعتذر هو بأني لما رأيت رجالا منا قد انهزموا استقبلتهم لأردهم إليكم فأقبلت بمن أطاعني إليكم ولما رجع إلى مقامه حرض ربيعة فاشتد قتالهم مع حمير وعبيد الله بن حمير حتى كثرت بينهم القتلى فقتل سمير بن الريان العجلي وكان شديد البأس وأتى زياد بن عمر بن خصفة بن عبد القيس فأعلمهم بما لقيت بكر بن وائل من حمير وقال يا عبد القيس لا بكر بعد اليوم فأتت عبد القيس بني بكر فقاتلوا معهم فقتل ذو الكلاع الحميري وعبيد الله بن عمر قتله محرز بن الصحصح من تميم الله بن ثعلبة من أهل البصرة وأخذ سيفه ذا الوشاح وكان لعمر فلما ملك معاوية العراق أخذه منه وقيل بل قتله هانئ بن خطاب الأرحبي وقيل قتله مالك بن عمرو التنعي الحضرمي
وخرج عمار بن ياسر علي الناس فقال اللهم إنك تعلم أني لو أعلم أن رضاك في أن أقذف بنفسي في هذا البحر لفعلته اللهم إنك تعلم أني لو أعلم أن رضاك في أن أضع ظبة سيفي في بطني ثن أنحني عليها حتى تخرج من ظهري لفعلته وإني لا أعلم اليوم عملا هو أرضي لك من جهاد هؤلاء الفاسقين ولو أعلم عملا هو أرضي لك منه لفعلته والله إني لأري قوما ليضربنكم ضربا يرتاب منه المبطلون وأيم الله لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمت أنا علي الحق وأنهم علي الباطل. ثم قال من يبتغي رضوان الله ربه ولا
308

يرجع إلى مال ولا ولد فأتاه عصابة فقال اقصدوا بنا هؤلاء القوم الذين يطلبون دم عثمان والله ما أرادوا الطلب بدمه ولكنهم ذاقوا الدنيا واستحبوها وعلموا أن الحق إذا لزمهم حال بينهم وبين ما يتمرغون فيه منها ولم يكن لهم سابقة يستحقون بها طاعة الناس والولاية عليهم فخدعوا أتباعهم وقالوا إمامنا قتل مظلوما ليكونوا بذلك جبابرة ملوكا فبلغوا ما ترون فلولا هذا ما تبعهم من الناس رجلان اللهم إن تنصرنا فطالما نصرت وإن تجعل لهم الأمر فادخر لهم بما أحدثوا في عبادك العذاب الأليم.
ثم مضي ومعه تلك العصابة فكان لا يمر بواد من أودية صفين إلا تبعه من كان هناك من أصحاب النبي ثم جاء هاشم بن عتبة بن أبي وقاص وهو المرقال وكان صاحب راية علي وكان أعور فقال يا هاشم أعور وجبنا لا خير في أعور لا يغشي البأس اركب يا هاشم فركب ومضي معه وهو يقول:
(أعور يبغي أهله محلا * قد عالج الحياة حتى ملأ)
(لا بد أن يفل أو يفلا * يتلهم بذي الكعوب تلا)
وعمار يقول تقدم يا هاشم الجنة تحت ظلال السيوف والموت تحت أطراف الأسل وقد فتحت أبواب السماء وتزينت الحور العين: (اليوم ألقي الأحبة * محمدا وحزبه)، وتقدم حتى دنا من عمرو بن العاص فقال له يا عمرو بعت دينك بدنياك بمصر تبا لك فقال له لا ولكن أطلب بدم عثمان قال أنا أشهد علي علمي فيك أنك لا تطلب بشيء من فعلك وجه الله وإنك إن لم تقتل اليوم تمت غدا فانظر إذا أعطي الناس علي قدر نياتهم ما نيتك لقد قاتلت صاحبك هذه الراية ثلاثا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه الرابعة ما هي بأبر وأتقي ثم قاتل عمار فلم يرجع وقتل.
309

وقال حبة بن جوين العرني قلت لحذيفة بن اليمان حدثنا فإنا نخاف الفتن فقال عليكم بالفئة التي فيها ابن سمية فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: تقتله الفئة الباغية الناكبة عن الطريق وإن آخر رزقه ضياح من لبن وهو الممزوج بالماء من اللبن قال حبة فشهدته يوم قتل وهو يقول أئتوني بآخر رزق لي في الدنيا فأتي بضياح من لبن في قدح أروح له حلقة حمراء فما أخطأ حذيفة مقياس شعره فقال: (اليوم ألقي الأحبة * محمدا وحزبه)، والله لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمت أننا علي الحق وأنهم علي الباطل ثم قتله قتله أبو الغازية واحتز برأسه ابن حوي السكسكي وقيل قتله غيره.
وقد كان ذي الكلاع سمع عمرو بن العاص يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمار بن ياسر تقتلك الفئة الباغية وآخر شربة تشربها ضياح من لبن فكان ذو الكلاع يقول لعمرو ما هذا ويحك يا عمرو فيقول عمرو إنه سيرجع إلينا فقتل ذو الكلاع قبل عمار مع معاوية وأصيب عمار بعده مع علي فقال عمرو لمعاوية ما أدري بقتل أيهما أنا أشد فرحا بقتل عمار أو بقتل ذي الكلاع والله لو بقي ذو الكلاع بعد قتل عمار لمال بعامة أهل الشام إلى علي فأتي جماعة إلى معاوية كلهم يقول أنا قتلت عمارا فيقول عمرو فما سمعته يقول فيخلطون فأتاه ابن حوي فقال أنا قتلته فسمعته يقول: (اليوم ألقي الأحبة * محمدا وحزبه). فقال له عمرو أنت صاحبه ثم قال رويدا والله ما ظفرت يداك ولقد أسخطت ربك.
قيل: إن أبا الغازية قتل عمارا وعاش إلى زمن الحجاج ودخل عليه فأكرمه
310

الحجاج وقال له أنت قتلت ابن سمية؟ يعني عمارا. قال نعم. فقال من سره أن ينظر إلى عظيم الباع يوم القيامة فلينظر إلى هذا الذي قتل ابن سمية ثم سأله أبو الغازية حاجته فلم يجبه إليها فقال نوطئ لهم الدنيا ولا يعطونا منها ويزعم أني عظيم الباع يوم القيامة! [فقال الحجاج]: أجل والله من كان ضرسه مثل أحد وفخذه مثل جبل ورقان ومجلسه مثل المدينة والربذة إنه لعظيم الباع يوم القيامة والله لو أن عمارا قتله أهل الأرض كلهم لدخلوا كلهم النار.
وقال عبد الرحمن السلمي: لما قتل عمار دخلت عسكر معاوية لأنظر هل بلغ منهم قتل عمار ما بلغ منا وكنا إذا تركنا القتال تحدثوا إلينا وتحدثوا إليهم فإذا معاوية وعمرو وأبو الأعور وعبد الله بن عمرو يتسايرون فأدخلت فرسي بينهم لئلا يفوتني ما يقولون فقال عبد الله لأبيه يا أبت هذا الرجل في يومكم هذا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال قال وما قال قال ألم يكن المسلمون ينقلون في بناء مسجد النبي لبنة لبنة وعمار لبنتين لبنتين فغشي عليه فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يمسح التراب عن وجهه ويقول ويحك يا ابن سمية الناس ينقلون لبنة لبنة وأنت تنقل لبنتين لبنتين رغبة في الأجر وأنت ذلك تقتلك الفئة الباغية فقال عمرو لمعاوية أما تسمع ما يقول عبد الله قال وما يقول فأخبره فقال معاوية أنحن قتلناه إنما قتله من جاء به فخرج الناس من فساطيطهم وأخبيتهم يقولون إنما قتل عمارا من جاء به فلا أدري من كان أعجب أهو أم هم.
فلما قتل عمار قال علي لربيعة وهمدان أنتم درعي ورمحي فانتدب له نحو من اثني عشر وتقدمهم علي علي بغلة فحملوا معه حملة رجل واحد فلم
311

يبق لأهل الشام صف إلا انتقض وقتلوا كل من انتهوا إليه حتى بلغوا معاوية وعلي يقول:
(أقتلهم ولا أرى معاوية * الجاحظ العين العظيم الحاوية)
ثم نادى معاوية فقال علام يقتتل الناس بيننا هلم أحاكمك إلى الله فأينا قتل صاحبه استقامت له الأمور فقال له عمرو أنصفك فقال له معاوية ما أنصفت إنك لتعلم أنه لم يبرز له أحد إلا قتله فقال له عمر ما يحسن بك ترك مبارزته فقال له معاوية طمعت فيها بعدي وكان أصحاب علي قد وكلوا به رجلين يحافظانه لئلا يقاتل وكان يحمل إذا غفلا فلا يرجع حتى يخضب سيفه وإنه حمل مرة فلم يرجع حتى أنثني سيفه فألقاه إليهم وقال لولا أنه أنثني ما رجعت إليكم فقال الأعمش لأبي عبد الرحمن هذا والله ضرب غير مرتاب فقال أبو عبد الرحمن سمع القوم شيئا فأدوه ما كانوا بكاذبين.
وأسر معاوية جماعة من أصحاب علي فقال له عمرو اقتلهم فقال عمرو بن أوس الأودي لا تقتلني فإنك خالي قال من أين أنا خالك ولم يكن بيننا أود مصاهرة قال إن أخبرتك فهو أماني عندك قال نعم قال أليست أختك أم حبيبة زوج النبي قال بلي قال فإني ابنها وأنت أخوها فأنت خالي فقال معاوية ما له لله أبوه أما كان في هؤلاء من يفطن لها غيره وخلي سبيله وكان قد أسر علي أساري كثيرة فخلي سبيلهم فجاؤوا معاوية وإن عمرا ليقول له وقد أسر أيضا أساري كثيرة اقتلهم فلما وصل أصحابهم قال معاوية يا عمرو لو أطعناك في هؤلاء الأسارى لوقعنا في قبيح من الأمر وخلي سبيل من عنده.
312

وأما هاشم بن عتبة فإنه دعا الناس عند المساء وقال ألا من كان يريد الله والدار الآخرة فإلي فأقبل إليه ناس كثير فحمل علي أهل الشام مرارا ويصبرون له وقاتل قتالا شديدا وقال لأصحابه لا يهولنكم ما ترون من صبرهم فوالله ما هو إلا حمية العرب وصبرها تحت راياتهم وإنهم لعلي الضلال وإنكم لعلي الحق ثم حرض أصحابه وحمل في عصابة من القراء فقاتل قتالا شديدا حتى رأوا بعض ما يسرون به فبينما هم كذلك إذ خرج عليهم شاب وهو يقول:
(أنا ابن أرباب الملوك غسان * والدائن اليوم بدين عثمان)
(نبأنا قراؤنا بما كان * أن عليا قتل ابن عفان)
ثم يحمل فلا يرجع حتى يضرب بسيفه ويشتم ويلعن فقال له هاشم يا هذا إن هذا الكلام بعده الخصام وإن هذا القتال بعده الحساب فاتق الله فإنه سائلك عن هذا الموقف وما أردت به قال فإني أقاتلكم لأن صاحبكم لا يصلي وأنتم لا تصلون وإن صاحبكم قتل خليفتنا وأنتم ساعدتموه علي قتله فقال له هاشم ما أنت وعثمان أقتله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبناء أصحابه وقراء الناس وهم أهل الدين والعلم وما أهملوا أمر هذا الدين طرفة عين وأما قولك إن صاحبنا لا يصلي فإنه أول من صلى وأفقه خلق الله في دين الله وأولي بالرسول صلى الله عليه وسلم وأما كل من تري معي فكلهم قارئ لكتاب الله لا ينام الليل تهجدا فلا يغوينك هؤلاء الأشقياء فقال الفتي فهل لي من توبة قال نعم تب إلى الله يتب عليك فإنه يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات فرجع الفتي فقال له أهل الشام خدعك العراقي فقال كلا ولكن نصح لي وقاتل هاشم وأصحابه قتالا شديدا حتى رأوا الظفر فأقبلت عليهم عند المغرب كتيبة لتنوخ فقاتلهم هاشم وهو يقول:
313

(أعور يبغي أهله محلا * لا بد أن يفل أو يفلا)
(قد عالج الحياة حتى ملأ * يتلهم بذي الكعوب تلا)
فقتل يومئذ تسعة أو عشرة وحمل عليه الحارث بن المنذر التنوخي فطعنه فسقط فأرسل إليه علي أن قدم لواءك فقال لرسوله انظر إلى بطني فإذا هو [قد] انشق فقال الحجاج بن غزية الأنصاري:
(فإن تفخروا بابني بديل وهاشم * فنحن قتلنا ذا الكلاع وحوشبا)
(ونحن تركنا عند معترك القنا * أخاك عبيد الله لحما ملحبا)
(ونحن أحطنا بالبعير وأهله * ونحن سقيناك سماما مقشبا)
ومر علي بكتيبة من أهل الشام فرآهم لا يزولون وهم غسان فقال إن هؤلاء لا يزولون إلا بطعن وضرب يفلق الهام ويطيح العظام تسقط منه المعاصم والأكف وحتى يقرع جباههم بعمد الحديد أين أهل النصر والصبر طلاب الأجر فأتاه عصابة من المسلمين فدعا ابنه محمدا فقال له تقدم نحو هذه الراية مشيا رويدا علي هينتك حتى إذا أشرعت في صدورهم الرماح فأمسك حتى يأتيك أمري ففعل وأعد لهم علي مثلهم وسيرهم إلى ابنه محمد وأمره بقتالهم فحملوا عليهم فأزالوهم عن مواقفهم وأصابوا منهم رجالا. ومر الأسود بن قيس المرادي بعبد الله بن كعب المرادي وهو صريع فقال عبد الله يا أسود! قال لبيك وعرفه وقال له عز علي مصرعك ثم نزل إليه وقال له إن كان جارك ليأمن بوائقك وإن كنت لمن الذاكرين الله كثيرا أوصني رحمك الله فقال أوصيك بتقوى الله وأن تناصح أمير المؤمنين وأن تقاتل معه المحلين
314

حتى تظهر أو تلحق بالله وأبلغه عني السلام وقل له قاتل علي المعركة حتى تجعلها خلف ظهرك فإنه من أصبح غدا والمعركة خلف ظهره كان العالي ثم لم يلبث أن مات فأقبل الأسود إلى علي فأخبره فقال رحمه الله جاهد عدونا في الحياة ونصح لنا في الوفاة.
وقيل إن الذي أشار علي أمير المؤمنين علي بهذا عبد الرحمن بن الحنبل الجمحي قال فاقتتل الناس تلك الليلة كلها إلى الصباح وهي ليلة الهرير فتطاعنوا حتى تقصفت الرماح وتراموا حتى نفد النبل وأخذوا السيوف وعلي يسير فيما بين الميمنة والميسرة ويأمر كل كتيبة أن تقدم علي التي تليها فلم يزل يفعل ذلك حتى أصبح والمعركة كلها خلف ظهره والأشتر في الميمنة وابن عباس في الميسرة وعلي في القلب والناس يقتتلون من كل جانب وذلك يوم الجمعة، وأخذ الأشتر يزحف بالميمنة ويقاتل فيها وكان قد تولاها عشية الخميس وليلة الجمعة إلى ارتفاع الضحى ويقول لأصحابه ازحفوا قيد هذا الرمح وهو يزحف بهم نحو أهل الشام فإذا فعل ذلك بهم قال ازحفوا قيد هذا القوس فإذا فعلوا سألهم مثل ذلك حتى مل أكثر الناس الإقدام فلما رأى الأشتر ذلك قال أعيذكم بالله أن ترضوا الغنم سائر اليوم ثم دعا بفرسه فركبه وترك رايته مع حيان بن هوذة النخعي وخرج يسير في الكتائب ويقول من يشتري نفسه ويقاتل مع الأشتر [حتى] يظهر أو يلحق بالله فاجتمع إليه ناس كثير فيهم حيان بن هوذة النخعي وغيره فرجع إلى المكان الذي فيه وقال لهم شدوا شدة فدا لكم خالي وعمي ترضون بها الرب وتعزون بها الدين! ثم نزل وضرب وجه دابته وقال لصاحب رايته أقدم بها وحمل علي القوم وحملوا معه فضرب أهل الشام حتى انتهي بهم إلى عسكرهم ثم قاتلوه عند العسكر قتالا شديدا وقتل صاحب رايته ولما رأى علي الظفر من ناحيته
315

أمده بالرجال، فقال عمرو بن العاص لوردان مولاه أتدري ما مثلي ومثلك ومثل الأشتر قال لا قال كالأشقر إن تقدم عقر وإن تأخر عقر لئن تأخرت لأضربن عنقك قال أما والله يا أبا عبد الله لأوردنك حياض الموت ضع يدك علي عاتقي ثم جعل يتقدم ويتقدم ويقول لأوردنك حياض الموت واشتد القتال.
[رفع المصاحف والدعوة إلى الحكومة]
فلما رأى عمرو أن أمر أهل العراق قد اشتد وخاف الهلاك قال لمعاوية هل لك في أمر أعرضه عليك لا يزيدنا إلا اجتماعا ولا يزيدهم إلا فرقة قال نعم قال نرفع المصاحف ثم نقول لما فيها هذا حكم بيننا وبينكم فإن أبي بعضهم أن يقبلها وجدت فيهم من يقول ينبغي لنا أن نقبل فتكون فرقة بينهم وإن قبلوا ما فيها رفعنا القتال عنا إلى أجل.
فرفعوا المصاحف بالرماح وقالوا هذا حكم كتاب الله عز وجل بيننا وبينكم من لثغور الشام بعد أهله من لثغور العراق بعد أهله فلما رآها الناس قالوا نجيب إلى كتاب الله فقال لهم علي عباد الله أمضوا علي حقكم وصدقكم وقتال عدوكم فإن معاوية وعمرا وابن أبي معيط وحبيبا وابن أبي سرح والضحاك ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن أنا أعرف بهم منكم قد صحبتهم أطفالا ثم رجالا فكانوا شر أطفال وشر رجال ويحكم والله ما رفعوها إلا خديعة ووهنا ومكيدة فقالوا له لا يسعنا أن ندعي إلى كتاب الله فنأبى أن تقبله فقال لهم علي فإني إنما أقاتلهم ليدينوا بحكم الكتاب فإنهم
316

قد عصوا الله فيما أمرهم ونسوا عهده ونبذوا كتابه فقال له مسعر بن فدكي التميمي وزيد بن حصين الطائي في عصابة من القراء الذين صاروا خوارج بعد ذلك يا علي أجب إلى كتاب الله عز وجل إذا دعيت إليه وإلا دفعناك برمتك إلى القوم أو نفعل بك ما فعلنا بابن عفان قال فاحفظوا عني نهي إياكم واحفظوا مقالتكم لي فإني تطيعوني فقاتلوا وإن تعصوني فاصنعوا ما بدا لكم قالوا ابعث إلى الأشتر فليأتك. فبعث علي يزيد بن هانئ إلى الأشتر يستدعيه فقال الأشتر ليست هذه الساعة بالساعة التي ينبغي لك أن تزيلني [فيها] عن موقفي إني قد رجوت أن يفتح الله لي فرجع يزيد فأخبره وارتفعت الأصوات وارتفع الرهج من ناحية الأشتر فقالوا والله ما نراك إلا أمرته أن يقاتل فقال علي هل رأيتموني ساررته أليس كلمته علي رؤوسكم وأنتم تسمعون قالوا فابعث إليه فليأتك وإلا والله اعتزلناك فقال له ويلك يا يزيد قل له أقبل إلى فإن الفتنة قد وقعت فأبلغه ذلك فقال الأشتر ألرفع المصاحف قال نعم قال والله لقد ظننت أنها ستوقع اختلافا وفرقة إنها مشوره ابن العاهر ألا تري إلى الفتح ألا تري ما يلقون ألا تري ما صنع الله لنا لن ينبغي أن أدع هؤلاء! وانصرف عنهم فقال له يزيد أتحب أن تظفر وأمير المؤمنين يسلم إلى عدوه أو يقتل قال لا والله سبحان اله فأعلمه فأقبل إليهم الأشتر وقال يا أهل العراق يا أهل الذل والوهن أحين علوتم القوم وظنوا أنكم لهم قاهرون رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها وهم والله قد تركوا ما أمر الله به فيها وسنة من أنزلت عليه فأمهلوني فواقا فإني قد أحسست بالفتح قالوا لا قال أمهلوني عدو الفرس فإني قد
317

طمعت في النصر قالوا إذن ندخل معك في خطيئتك قال فخبروني عنكم متي كنتم محقين أحين تقاتلون وخياركم يقتلون فأنتم الآن إذا أمسكتم عن القتال مبطلون أم أنتم الآن محقون فقتلاكم الذين لا تنكرون فضلهم وهم خير منكم في النار قالوا دعنا منك يا أشتر قاتلناهم لله وندع قتالهم لله قال خدعتم وانخدعتم ودعيتم إلى وضع الحرب فأجبتم يا أصحاب الجباه السود كنا نظن صلاتكم زهادة في الدنيا وشوقا إلى لقاء الله فلا أرى مرادكم إلا الدنيا ألا قبحا يا أشباه النيب الجلالة ما أنتم برائين بعدها عزا أبدا فأبعدوا كما بعد القوم الظالمون. فسبوه وسبهم وضربوا وجه دابته بسياطهم وضرب وجوه دوابهم بسوطه فصاح به وبهم علي فكفوا وقال الناس قد قبلنا أن نجعل القرآن بيننا وبينهم حكما.
فجاء الأشعث بن قيس إلى علي فقال أرى الناس قد رضوا بما دعوهم إليه من حكم القرآن فإن شئت أتيت معاوية فسألته ما يريد قال ائته فأتاه فقال لمعاوية لأي شيء رفعتم هذه المصاحف قال لنرجع نحن وأنتم إلى ما أمر الله به في كتابه تبعثون رجلا ترضون به ونبعث نحن رجلا نرضي به نأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله لا يعدوانه ثم نتبع ما اتفقا عليه قال له الأشعث هذا الحق فعاد إلى علي فأخبره فقال الناس قد رضينا وقبلنا فقال أهل الشام قد رضينا عمرا وقال الأشعث وأولئك القوم الذين صاروا خوارج إنا قد رضينا بأبي موسى الأشعري فقال علي قد عصيتموني في أول الأمر فلا تعصوني الآن لا أرى أن أولي أبا موسى فقال الشعث وزيد بن حصين ومسعر بن فدكي لا نرضى إلا به فإنه قد حذرنا ما وقعنا فيه فقال علي فإنه ليس بثقة قد فارقني وخذل الناس عني ثم هرب مني حتى
318

آمنته بعد أشهر ولكن هذا ابن عباس أوليه ذلك قالوا واله لا نبالي أنت كنت أم ابن عباس لا نريد إلا رجلا هو منك ومن معاوية سواء قال علي إني أجعل الأشتر قالوا وهل سعر الأرض غير الأشتر فقال قد أبيتم إلا أبا موسى قالوا نعم قال فاصنعوا ما أردتم.
فبعثوا إليه وقد اعتزل القتال وهو بعرض فأتاه مولي له فقال إن الناس قد اصطلحوا فقال الحمد لله قال قد جعلوك حكما قال إنا لله وإنا إليه راجعون وجاء أبو موسى حتى دخل العسكر وجاء الأشتر عليا فقال ألزني بعمرو بن العاص فوالله لئن ملئت عيني منه لأقتلنه وجاء الأحنف بن قيس فقال يا أمير المؤمنين إنك قد رميت بحجر الأرض وإني قد عجمت أبا موسى وحلبت أشطره فوجدته كليل الشفرة قريب القعر وإنه لا يصلح لهؤلاء القوم إلا رجل يدنو منهم حتى يصير في أكفهم ويبعد حتى يصير بمنزلة النجم منهم فإن أبيت أن تجعلني حكما فاجعلني ثانيا أو ثالثا فإنه لن يعقد عقدة إلا حللتها ولا يحل عقدة أعقدها لك إلا عقدت أخرى أحكم منها.
فأبي الناس إلا أبا موسى والرضا بالكتاب فقال الأحنف إن أبيتم إلا أبا موسى فأدفئوا ظهره بالرجال.
وحضر عمرو بن العاص عند علي ليكتب القضية بحضوره فكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما تقاضي عليه
أمير المؤمنين فقال عمرو: [اكتب اسمه واسم أبيه]، هو أميركم وأما أميرنا فلا فقال الأحنف لا تمح اسم أمير المؤمنين فإني أخاف إن محوتها أن لا ترجع إليك أبدا لا تمحها
319

وإن قتل الناس بعضهم بعضا فأبي ذلك علي مليا من النهار ثم أن الأشعث بن قيس قال امح هذا الأشم فمحاه فقال علي الله أكبر سنة بسنة والله إني لكاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية فكتبت محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا لست برسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن اكتب اسمك واسم أبيك فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بمحوه فقلت لا أستطيع فقال أرنيه فأريته فمحاه بيده وقال إنك ستدعي إلى مثلها فتجيب فقال عمرو سبحان الله أتشبه بالكفار ونحن مؤمنون فقال علي يا بن النابغة ومتى لم تكن للفاسقين وليا وللمؤمنين عدو فقال عمرو والله لا يجمع بين وبينك مجلس بعد هذا اليوم أبدا فقال علي إني لأرجو أن يطهر الله مجلسي منك ومن أشباهك وكتب الكتاب هذا ما تقاضي عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان قاضي علي علي أهل الكوفة ومن معهم وقاضي معاوية أهل الشام ومن معهم أننا ننزل علي حكم الله وكتابه وأن لا يجمع بيننا غيره وإن كتاب الله بيننا من فاتحته إلى خاتمته نحيي ما أحيا ونميت ما أمات فما وجد الحكمان في كتاب الله وهما أبو موسى عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص عملا به وما لم يجداه في كتاب الله فالسنة العادلة الجامعة غير المفرقة وأخذ الحكمان من علي ومعاوية ومن الجندين من العهود والمواثيق أنهما آمنان علي أنفسهما وأهليهما والأمة لهم أنصار علي الذي يتقاضيان عليه وعلي عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص عهد الله وميثاقه أن يحكما بين هذه الأمة لا يردانها في حرب ولا فرقة حتى يعصيا وأجل القضاء إلى رمضان وإن أحبا أن يؤخر ذلك أخراه وإن مكان قضيتهما مكان عدل بين أهل الكوفة وأهل الشام.
وشهد الأشعث بن قيس وسعيد بن قيس الهمداني وورقاء بن سمي البجلي
320

وعبد الله بن محل العجلي وحجر بن عدي الكندي وعبد الله بن الطفيل العامري وعقبة بن زياد الحضرمي ويزيد بن حجية التميمي ومالك بن كعب الهمداني ومن أصحاب معاوية أبو الأعور السلمي وحبيب بن مسلمة وزمل بن عمرو العذري وحمرة بن مالك الهمداني وعبد الرحمن بن خالد المخزومي وسبيع بن يزيد الأنصاري وعتبة بن أبي سفيان ويزيد بن الحر العبسي.
وقيل للأشتر ليكتب فيها فقال لا صحبتني يميني ولا نفعتني بعدها شمالي إن خط لي في هذه الصحيفة [اسم علي صلح ولا موادعة]، أولست علي بينة من ربي من ضلال عدوي أولستم قد رأيتم الظفر؟ فقال له الأشعث والله ما رأيت ظفرا هلم إلينا لا رغبة بك عنا فقال بلي والله الرغبة عنك في الدنيا للدنيا وفي الآخرة للآخرة لقد سفك الله بسيفي دماء رجال ما أنت خير عندي منهم ولا أحرم دما قال فكأنما قصع الله علي أنف الأشعث الحمم. وخرج الأشعث بالكتاب يقرأه علي الناس حتى مر علي طائفة من بني تميم فيهم عروة بن أدية أخو أبي بلال فقرأه عليهم فقال عروة تحكمون في أمر الله الرجال لا حكم إلا لله ثم شد بسيفه فضرب به عجز دابة الأشعث ضربة خفيفة واندفعت الدابة وصاح به أصحاب الأشعث فرجع وغضب للأشعث قومه وناس كثير من أهل اليمن فمشي إليه الأحنف بن قيس ومسعر بن فدكي وناس من تميم فاعتذروا فقبل وشكر.
وكتب الكتاب يوم الأربعاء لثلاث عشر خلت من صفر سنة سبع وثلاثين واتفقوا علي أن يوافي أمير المؤمنين علي موضع الحكمين بدومة الجندل أو بأذرح في شهر رمضان. وقيل لعلي إن الأشتر لا يقر بما في الصحيفة ولا يري إلا
321

قتال القوم. فقال علي وأنا والله ما رضيت ولا أحببت أن ترضوا فإذا أبيتم إلا أن ترضوا فقد رضيت وإذا رضيت فلا يصلح الرجوع بعد الرضا ولا التبديل بعد الإقرار إلا أن يعصي الله ويتعدى كتابه فقاتلوا من ترك أمر الله وأما الذي ذكرتم من تركه أمري وما أنا عليه فليس من أولئك فلست أخاف علي ذلك يا ليت فيكم مثله اثنين! يا ليت فيكم مثله واحدا يري من عدوي ما أرى إذا لخفت علي مؤنتكم ورجوت أن يستقيم لي بعض أودكم وقد نهيتكم فعصيتموني فكنت أنا وأنتم كما قال أخو هوازن:
(وهل أنا إلا من غزية إن غوت * غويت وإن ترشد غزية أرشد)
والله لقد فعلتم فعلة ضعضعت قوة وأسقطت منة وأورثت منة وأورثت وهنا وذلة ولما كنتم الأعلين وخاف عدوكم الاجتياح واستحر بهم القتل ووجدوا ألم الجراح رفعوا المصاحف فدعوكم إلى ما فيها ليفتنوكم عنهم ويقطعوا الحرب ويتربصوا بكم المنون خديعة ومكيدة فأعطيتموهم ما سألوا وأبيتم إلا أن تدهنوا وتجيروا.
وأيم الله ما أظنكم بعدها توفقون الرشد ولا تصيبون باب الحزم.
ثم رجع الناس عن صفين فلما رجع علي خالفت الحرورية وخرجت وكان ذلك أول ما ظهرت وأنكرت تحكيم الرجال ورجعوا علي غير الطريق الذي أقبلوا فيه أخذوا علي طريق البر وعادوا وهم أعداء متباغضون وقد فشا فيهم التحكيم يقطعون الطريق بالتشاتم والتضارب بالسياط يقول الخوارج يا أعداء الله أدهنتم في أمر الله ويقول الآخرون فارقتم إمامنا وفرقتم جماعتنا.
وساروا حتى جاوزوا النخيلة ورأوا بيوت الكوفة فإذا بشيخ في ظل بيت
322

عليه أثر المرض فسلم عليه أمير المؤمنين فرد عليه أمير المؤمنين ردا حسنا فقال له علي أرى وجهك متغيرا أمن مرض؟ قال: نعم. قال لعلك كرهته قال ما أحب أنه بغيري فقال أليس احتسابا للخير فيما أصابك قال بلي قال فأبشر برحمة ربك وغفران ذنبك من أنت يا عبد الله قال صالح بن سليم قال ممن أنت قال أما الأصل فمن سلامان طيء وأما الدعوة والجوار ففي سليم بن منصور. فقال سبحان الله ما أحسن اسمك واسم أبيك ومن اعتزيت إليه واسم ادعائك هل شهدت معنا غزاتنا هذه قال لا والله ولقد أردتها ولكن ما تري من أثر الحمي منعني عنها فقال (ليس علي الضعفاء ولا علي المرضي) الآية خبرني ما يقول الناس فيما كان بيننا وبين أهل الشام؟ قال فيهم المسرور وهم أغشاء الناس وفيهم المكبوت الآسف بما كان بينك وبينهم وأولئك نصحاء الناس لك قال صدقت جعل الله ما كان من شكواك حطا لسيئاتك فإن المرض لا أجر فيه ولكن لا يدع علي العبد ذنبا إلا حطه وإنما الأجر في القول باللسان والعمل باليد والرجل وإن الله عز وجل ليدخل بصدق النية والسريرة الصالحة عالما من عبادة الجنة. ثم مضي غير بعيد فلقيه عبد الله بن وديعة الأنصاري فدنا منه وسلم عليه وسايره فقال له ما سمعت الناس يقولون في أمرنا؟ قال منهم المعجب به ومنهم الكاره له قال فما قول ذوي الرأي قال يقولون إن عليا كان له جمع عظيم ففرقه وكان له حصن حصين فهدمه فمتي يبني ما هدم ويجمع ما فرق ولو كان مضي بمن أطاعه إذ عصاه من عصاه فقاتل حتى يظفر أو يهلك كان ذلك الحزم قال علي أنا هدمت أم هم هدموا أنا فرقت أم هم فرقوا؟ أما قولهم: لو كان مضي بمن أطاعه فقاتل حتى يظفر أو يهلك فوالله ما خفي هذا عني،
323

وإن كنت لسخيا بنفسي عن الدنيا طيب النفس بالموت ولقد هممت بالإقدام علي القوم فنظرت إلى هذين قد ابتدراني يعني الحسن والحسين ونظرت إلى هذين استقدماني يعني عبد الله بن جعفر ومحمد بن علي فعلمت أن هذين إن هلكا انقطع نسل رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الأمة وكرهت ذلك وأشفقت علي هذين أن يهلكا وأيم الله لئن لقيتهم بعد يومي هذا لألقينهم وليسوا معي في عسكر ولا دار.
ثم مضي وإذا علي يمينه قبور سبعة أو ثمانية فقال علي ما هذه فقيل يا أمير المؤمنين إن خباب بن الأرت توفي بعد مخرجك وأوصي بأن يدفن في الظهر وكان الناس إنما يدفنون في دورهم وأفنيتهم وكان أول من دفن بظاهر الكوفة ودفن الناس إلى جنبه فقال علي رحم الله خبابا فلقد أسلم راغبا وهاجر طائعا وعاش مجاهدا وابتلي في جسمه أحوالا ولن يضيع الله أجر من أحسن عملا ووقف عليها وقال السلام عليكم أهل الديار الموحشة والمحال المقفرة من المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات أنتم لنا سلف فارط ونحن لكم تبع وبكم عما قليل لاحقون اللهم اغفر لنا ولهم وتجاوز بعفوك عنا وعنهم طوبي لمن ذكر المعاد وعمل للحساب وقنع بالكفاف ورضي عن الله عز وجل! ثم أقبل حتى حاذي سكة الثوريين فسمع البكاء فقال ما هذه الأصوات؟ فقيل البكاء علي قتلي صفين فقال أما أني أشهد لمن قتل منهم صابرا محتبسا بالشهادة. ثم مر بالفائشيين فسمع مثل ذلك ثم مر بالشباميين فسمع رجة شديدة فوقف فخرج إليه حرب بن شرحبيل الشبامي فقال له علي أيغلبكم نساؤكم ألا تنهونهن عن هذا الرنين. قال يا أمير
324

المؤمنين لو كانت دارا أو دارين أو ثلاثا قدرنا علي ذلك ولكن قتل من هذا الحي ثمانون ومائة قتيل فليس فيها دار إلا وفيها البكاء فأما نحن معشر الرجال فإنا لا نبكي ولكن نفرح بالشهادة قال علي رحم الله قتلاكم وموتاكم!
فأقبل يمشي معه وعلي راكب فقال له علي ارجع ووقف ثم قال له ارجع فإن مشي مثلك مع مثلي فتنة للوالي ومذلة للمؤمن. ثم مضي حتى مر بالناعطيين وكان جلهم عثمانية فسمع بعضهم يقول والله ما صنع علي شيء ذهب ثم انصرف في غير شيء فلما رأوه أبلسوا فقال علي لأصحابه وجوه قوم ما رأوا الشام ثم قال لأصحابه: [قوم] فارقناهم آنفا خير من هؤلاء ثم قال:
(أخوك الذي إن أجرضتك ملمة * من الدهر لم يبرح لبثك واجما)
(وليس أخوك بالذي إن تشعبت * عليك الأمور ظل يلحاك لائما)
ثم مضي فلم يزل يذكر الله حتى دخل القصر فلما دخل الكوفة لم يدخل الخوارج معه فأتوا حرورا فنزلوا بها وقتل أويس القرني بصفين وقيل بل مات بدمشق وقيل بأرمينية وقيل بسجستان وفيها قتل جندب بن زهير الأزدي وهو من الصحابة مع علي.
وقتل بصفين أيضا حابس بن سعد الطائي مع معاوية وهو خال يزيد بن عدي بن حاتم فقتل يزيد قاتله غدرا فأراد عدي إسلامه إلى أولياء المقتول فهرب إلى معاوية. وممن شهد صفين مع علي خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين ولم يقاتل فلما قتل عمار بن ياسر جرد سيفه وقاتل حتى قتل وقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (تقتل عمارا الفئة الباغية)، وقتل مع علي سهيل بن عمرو بن أبي عمر الأنصاري وهو بدري. وممن شهد وقتل فيها مع
325

علي من المهاجرين خالد بن الوليد وله صحبة.
(شريح بن هانئ بضم الشين وآخره حاء مهملة الهمداني بفتح الهاء وسكون الميم وفتح الدال المهملة نسبة إلى همدان قبيلة كبيرة من اليمن. حمرة بن مالك بضم الحاء المهملة وسكون الميم وآخره راء. حضين بن المنذر بضم الحاء المهملة وفتح الضاد المعجمة. يريم بفتح الياء تحتها نقطتان وكسر الراء وسكون الياء الثانية وآخره ميم. بديل بن ورقاء بضم الباء الموحدة وفتح الدال المهملة، حازم بن أبي حازم بالحاء المهملة. حبة بن جوين بفتح الحاء المهملة والباء المشددة الموحدة. والعرني بضم العين المهملة وفتح الراء وآخره نون).
ذكر استعمال جعدة بن هبيرة علي خراسان
وفي هذه السنة بعث علي جعدة بن هبيرة المخزومي إلى خراسان بعد عوده من صفين فانتهى إلى نيسابور وقد كفروا وامتنعوا فرجع إلى علي فبعث خليد بن قرة اليربوعي فحاصر أهلها حتى صالحوه وصالحه أهل مرو.
ذكر اعتزال الخوارج عليا ورجوعهم إليه
ولما رجع علي من صفين فارقه الخوارج وأتوا حروراء فنزل بها منهم اثنا عشر ألفا ونادى مناديهم أن أمير القتال شبث بن ربعي التميمي وأمير الصلاة عبد الله بن الكواء اليشكري والأمر شوري بعد الفتح، والبيعة
326

لله، عز وجل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلما سمع علي ذلك وأصحابه قامت الشيعة فقالوا له في أعناقنا بيعة ثانية نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت فقالت الخوارج استبقتم أنتم وأهل الشام إلى الكفر كفرسي رهان بايع أهل الشام معاوية علي ما أحبوا وكرهوا وبايعتم أنتم عليا علي أنكم أولياء من والي وأعداء من عادي. فقال لهم زياد بن النضر والله ما بسط علي يده فبايعناه قط إلا علي كتاب الله وسنة نبيه ولكنكم لما خالفتموه جاءته شيعة فقالوا له نحن أولياء الله من واليت وأعداء من عاديت ونحن كذلك وهو علي الحق ومن خالفه ضال مضل.
وبعث علي عبد الله بن عباس إلى الخوارج وقال لا تعجل إلى جوابهم وخصومتهم حتى آتيك. فخرج إليهم فأقبلوا يكلمونه فلم يصبر حتى راجعهم فقال ما نقمتم من الحكمين وقد قال الله تعالى (إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما) فكيف بأمة محمد.
فقالت الخوارج أما ما جعل الله حكمه إلى الناس وأمرهم بالنظر فيه فهو إليهم وما حكم فأمضاه فليس للعباد أن ينظروا فيه حكم في الزاني مائة جلدة وفي السارق القطع فليس للعباد أن ينظروا في هذا. قال ابن عباس فإن اله تعالى يقول (يحكم به ذوا عدل منكم). فقالوا أو تجعل الحكم في الصيد والحرث وبين المرأة وزوجها كالحكم في دماء المسلمين؟ وقالوا له: أعدل عندك عمرو بن العاص وهو بالأمس يقاتلنا فإن كان عدلا فلسنا بعدول وقد حكمتم في أمر الله الرجال وقد أمضي الله حكمه في معاوية وأصحابه أن يقتلوا أو يرجعوا وقد كتبتم بينكم وبينهم كتابا وجعلتم بينكم الموادعة وقد قطع الله الموادعة بين المسلمين وأهل الحرب مذ نزلت براءة إلا من أقر بالجزية.
327

وبعث علي زياد بن النضر فقال انظر بأي رؤوسهم [هم] أشد إطاعة. فأخبره بأنه لم يرهم عند رجل أكثر منهم عند يزيد بن قيس.
فخرج علي في الناس حتى دخل إليهم فأتي فسطاط يزيد بن قيس فدخله فصلي فيه ركعتين وأمره علي أصبهان والري ثم خرج حتى انتهي إليهم وهم يخاصمون ابن عباس فقال ألم أنهك عن كلامهم ثم تكلم فقال اللهم هذا مقام من يفلح فيه كان أولي بالفلاح يوم القيامة قال لهم من زعيمكم قالوا ابن الكواء قال فما أخرجكم علينا قالوا حكومتك يوم صفين. قال أنشدكم الله أتعلمون أنهم حيث رفعوا المصاحف وقلتم نجيبهم قلت لكم إني أعلم بالقوم منكم إنهم ليسوا بأصحاب دين وذكر ما كان قاله لهم ثم قال لهم قد اشترطت علي الحكمين أن يحييا ما أحيا القرآن ويميتنا ما أمات القرآن فإن حكما بحكم القرآن فليس لنا أن نخالف وإن أبيا فنحن عن حكمهما براء.
قالوا فخبرنا أتراه عدلا تحكيم الرجال في الدماء؟ فقال إنا لسنا حكمنا الرجال إنما حكمنا القرآن وهذا القرآن إنما هو خط مسطور بين دفتين لا ينطق إنما يتكلم به الرجال قالوا فخبرنا عن الأجل لم جعلته بينكم؟ قال ليعلم الجاهل ويثبت العالم ولعل الله يصلح في هذه الهدنة هذه الأمة ادخلوا مصركم رحمكم الله فدخلوا من عند آخرهم.
قيل والخوارج يزعمون أنهم قالوا له صدقت قد كنا كما ذكرت وكان ذلك كفرا منا وقد تبنا إلى الله فتب كما تبنا نبايعك وإلا فنحن مخالفون.
328

فبايعنا علي وقال ادخلوا فلنمكث ستة أشهر حتى نجبي المال ويسمن الكراع ثم نخرج إلى عدونا وقد كذب الخوارج فيما زعموا.
ذكر اجتماع الحكمين
ولما جاء وقت اجتماع الحكمين أرسل علي أربعمائة رجل عليهم شريح بن هانئ وأوصاه أن يقول لعمر بن العاص إن عليا يقول لك: إن أفضل الناس عند الله عز وجل من كان العمل بالحق أحب إليه وإن نقصه من الباطل وإن زاده يا عمرو والله إنك لتعلم أين موضع الحق فلم تتجاهل إن أوتيت طمعا يسيرا كنت لله به ولأوليائه عدوا وكأن والله ما أوتيت قد زال عنك ويحك فلا تكن للخائنين خصيما وللظالمين ظهيرا أما إني أعلم بيومك الذي أنت فيه نادم وهو يوم وفاتك تتمنى أنك لم تظهر لمسلم عداوة ولم تأخذ علي حكم رشوة.
فلما بلغه تغير وجهه ثم قال متى كنت أقبل مشورة علي أو أنتهي إلى أمره أو أعتد برأيه؟ فقال له وما يمنعك يا بن النابغة أن تقبل من مولاك وسيد المسلمين بعد نبيهم مشورته فقد كان من هو خير منك أبو بكر وعمر يستشيرانه ويعملان برأيه فقال له إن مثلي لا يكلم مثلك. قال شريح بأي أبويك ترغب عني يا بن النابغة أبأبيك الوشيظ أم بأمك النابغة؟ فقام عنه.
وأرسل علي أيضا معهم عبد الله بن عباس ليصلي بهم ويلي أمورهم، معهم أبو موسى الأشعري.
329

وأرسل معاوية عمرو بن العاص في أربعمائة من أهل الشام حتى توافوا في دومة الجندل بأذرح وكان عمرو إذا أتاه كتاب من معاوية لا يدري بما جاء فيه ولا يسأله أهل الشام عن شيء وكان أهل العراق يسألون ابن عباس عن كتاب يصله من علي فإن كتمهم ظنوا به الظنون وقالوا أتراه كتب بكذا وكذا فقال لهم ابن عباس أما تعقلون أما ترون رسول معاوية يجيء لا يعلم أحد بما جاء به ولا يسمع لهم صياح وأنتم عندي كل يوم تظنون في الظنون؟
وحضر معهم ابن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وابن الزبير وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام وعبد الرحمن بن عبد يغوث الزهري وأبو جهم بن حذيفة العدوي والمغيرة بن شعبة.
وكان سعد بن أبي وقاص علي ماء لبني سليم بالبادية فأتاه ابنه عمر فقال له إن أبا موسى وعمرا قد شهدهما نفر من قريش فاحضر معهم فإنك صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد الشورى ولم تدخل في شيء كرهته
هذه الأمة وأنت أحق الناس بالخلافة فلم يفعل وقيل بل حضرهم سعد وندم علي حضوره فأحرم بعمرة من بيت المقدس.
وقال المغيرة بن شعبة لرجال من قريش أترون أحدا يستطيع أن يأتي برأي يعلم به أيجتمع الحكمان أم لا فقالوا لا؟ فقال: إني أعلمه منهما فدخل علي عمرو بن العاص فقال كيف ترانا معشر من اعتزل الحرب فإنا قد شككنا في الأمر الذي استبان لكم فيها فقال له عمرو: أراكم خلف الأبرار وأمام الفجار فانصرف المغيرة إلى أبي موسى فقال له مثل قوله لعمرو فقال له أبو موسى أراكم أثبت الناس رأيا فيكم بقية الناس فعاد المغيرة إلى أصحابه وقال لهم لا يجتمع هذان علي أمر واحد.
330

فلما اجتمع الحكمان قال عمرو يا أبا موسى ألست تعلم أن عثمان قتل مظلوما قال أشهد قال ألست تعلم أن معاوية وآل معاوية أولياؤه قال بلي قال فما يمنعك منه وبيته في قريش كما قد علمت فإن خفت أن يقول الناس ليست له سابقة فقل وجدته ولي عثمان الخليفة المظلوم والطالب بدمه الحسن السياسة والتدبير وهو أخو أم حبيبة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم وكاتبه وقد صحبه وعرض له بسلطان.
فقال أبو موسى: يا عمرو اتق الله! فأما ما ذكرت من شرف معاوية فإن هذا ليس علي الشرف تولاه أهله ولو كان علي الشرف لكان لآل أبرهة بن الصباح إنما هو لأهل الدين والفضل مع أني لو كنت معطيه أفضل قريش شرفا أعطيته علي بن أبي طالب وأما قولك إن معاوية ولي دم عثمان فوله هذا الأمر فلم أكن لأوليه وأدع المهاجرين الأولين وأما تعريضك لي بالسلطان فوالله لو خرج معاوية لي من سلطانه كله لما وليته وما كنت أرتشي في حكم الله ولكنك إن شئت أن تحيي اسم عمر بن الخطاب، رحمه الله.
قال له عمرو فما يمنعك من ابني وأنت تعلم فضله وصلاحه؟ فقال: إن ابنك رجل صدق ولكنك قد غمسته في هذه الفتنة فقال عمرو إن هذا الأمر لا يصلح إلا لرجل له ضرس يأكل ويطعم وكانت في ابن عمر غفلة فقال له ابن الزبير افطن فانتبه فقال والله لا أرشو عليها شيئا أبدا. وقال يا بن العاص إن العرب قد أسندت إليك أمرها بعد ما تقارعوا بالسيوف فلا تردنهم في فتنة.
331

وكان عمرو قد عود أبا موسى أن يقدمه في الكلام يقول له أنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسن مني فتكلم وأتكلم وتعود ذلك أبو موسى وأراد عمرو بذلك كله أن يقدمه في خلع علي فلما أراده عمرو علي ابنه أو علي معاوية فأبي وأراد أبو موسى ابن عمر فأبي عمرو قال له عمرو خبرني ما رأيك قال أرى أن نخلع هذين الرجلين ونجعل الأمر شوري فيختار المسلمون لأنفسهم من أحبوا. فقال عمرو الرأي ما رأيت فأقبلا إلى الناس وهم مجتمعون فقال عمرو يا أبا موسى أعلمهم أن رأينا قد اتفق فتكلم أبو موسى فقال إن رأينا قد اتفق علي أمر نرجو أن يصلح الله به هذه الأمة فقال عمرو صدق وبر تقدم يا أبا موسى فتكلم. فتقدم أبو موسى ليتكلم فقال له ابن عباس ويحك والله إني لأظنه قد خدعك إن كنتما اتفقتما علي أمر فقدمه ليتكلم به قبلك ثم تكلم به بعده فإنه رجل غادر ولا آمن أن يكون قد أعطاك الرضا بينكما فإذا قمت في الناس خالفك.
وكان أبو موسى مغفلا فقال إنا قد اتفقنا وقال أيها الناس إنا قد نظرنا في أمر هذه الأمة فلم نر أصلح لأمرها ولا ألم لشعثها من أمر قد أجمع رأيي ورأي عمرو عليه وهو أن نخلع عليا ومعاوية ويولي الناس أمرهم من أحبوا وإني قد خلعت عليا ومعاوية فاستقبلوا أمركم وولوا عليكم من رأيتموه أهلا. ثم تنحي.
وأقبل عمرو فقام وقال إن هذا قد قال ما سمعتموه وخلع صاحبه وأنا أخلع صاحبه كما خلعه وأثبت صاحبي معاوية فإنه ولي ابن عفان والطالب بدمه وأحق الناس بمقامه.
فقال سعد ما أضعفك يا أبا موسى عن عمرو ومكائده فقال أبو موسى فما أصنع وافقني علي أمر ثم نزع عنه فقال ابن عباس لا ذنب لك يا أبا موسى الذنب لمن قدمك في هذا المقام قال غدر فما أصنع فقال ابن عمر
332

انظروا إلى ما صار أمر هذه الأمة صار إلى رجل ما يبالي ما صنع وإني آخر ضعيف.
وقال عبد الرحمن بن أبي بكر لو مات الأشعري قبل هذا اليوم لكان خيرا له.
وقال أبو موسى الأشعري لعمرو لا وفقك الله غدرت وفجرت إنما مثلك (كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث). قال عمرو إنك مثلك (كمثل الحمار يحمل أسفارا). فحمل شريح بن هانئ علي عمرو فضربه بالسوط وحمل ابن لعمرو علي شريح فضربه بالسوط أيضا وحجز الناس بينهما وكان شريح يقول بعد ذلك ما ندمت علي شيء ندامتي علي ضرب عمرو بالسوط ولم أضربه بالسيف.
والتمس أهل الشام أبا موسى فهرب إلى مكة ثم انصرف عمرو وأهل الشام إلى معاوية فسلموا عليه بالخلافة ورجع ابن عباس وشريح إلى علي وكان علي إذا صلى الغداة يقنت فيقول اللهم العن معاوية وعمرا وأبا الأعور وحبيبا وعبد الرحمن بن خالد والضحاك بن قيس والوليد فبلغ ذلك معاوية فكان إذا قنت سب عليا وابن عباس والحسن والحسين والأشتر.
وقد قيل إن معاوية حضر الحكمين وإنه قام عشية في الناس فقال أما بعد من كان متكلما في هذا الأمر فليطلع لنا قرنه قال ابن عمر فأطلقت حبوتي فأردت أن أقول يتكلم فيه رجال قاتلوك وأباك علي الإسلام فخشيت أن أقول كلمة تفرق الجماعة ويسفك فيها دم، وكان ما وعد الله فيه
333

الجنان أحب إلى من ذلك فلما انصرفت إلى المنزل جاءني حبيب بن مسلمة فقال ما منعك أن تتكلم حين سمعت هذا الرجل يتكلم قلت أردت ذلك ثم خشيت فقال حبيب وفقت وعصمت وهذا أصح لأنه ورد في الصحيح.
ذكر خبر الخوارج عند توجيه الحكمين وخبر يوم النهر
لما أراد علي أن يبعث موسى للحكومة أتاه رجلان من الخوارج زرعة بن البرج الطائي وحرقوص بن زهير السعدي فقالا له لا حكم إلا لله فقال علي لا حكما إلا لله! وقال حرقوص بن زهير تب من خطيئتك وارجع عن قضيتك واخرج بنا إلى عدونا فقاتلهم حتى نلقي ربنا. فقال علي قد أردتكم علي ذلك فعصيتموني وقد كتبنا بيننا وبين القوم كتابا وشرطنا شروطا وأعطينا عليها عهودا وقد قال الله تعالى (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم). فقال حرقوص: ذلك ذنب ينبغي أن تتوب عنه فقال علي ما هو ذنب ولكنه عجز عن الرأي وقد نهيتكم فقال زرعة يا علي لئن لم تدع تحكيم الرجال لأقاتلنك أطلب وجه الله تعالى فقال علي بؤسا لك ما أشقاك كأني بك قتيلا تسفي عليك الرياح.
قال وددت لو كان ذلك فخرجا من عنده يحكمان.
وخطب علي ذات يوم فحكمت المحكمة في جوانب المسجد فقال علي الله أكبر كلمة حق أريد بها باطل إن سكتوا غممناهم، وإن
334

تكلموا حججناهم وإن خرجوا علينا قاتلناهم. فوثب يزيد بن عاصم المحاربي فقال الحمد لله غير مودع ربنا ولا مستغن عنه اللهم إنا نعوذ بك من إعطاء الدنية في ديننا فإن إعطاء الدنية في الدين إدهان في أمر الله وذل راجع بأهله إلى سخط الله يا علي أبالقتل تخوفنا أما والله إني لأرجو أن نضربكم بها عما قليل غير مصفحات ثم لتعلم أينا أولي بها صليا. ثم خرج هو وأخوة له ثلاثة فأصيبوا مع الخوارج بالنهر وأصيب أحدهم بعد ذلك بالنخيلة.
ثم خطب علي يوما آخر فقام رجل فقال لا حكم إلا لله ثم توالي عدة رجال يحكمون فقال علي الله أكبر كلمة حق أريد بها باطل أما إن لكم عندنا ثلاثا ما صحبتمونا لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا ولا نقاتلكم حتى تبدأونا وإنما فيكم أمر الله ثم رجع إلى مكانه من الخطبة.
ثم أن الخوارج لقي بعضهم بعضا واجتمعوا في منزل عبد الله بن وهب الراسبي فخطبهم فزهدهم في الدنيا وأمرهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثم قال اخرجوا بنا من هذه القرية الظالم أهلها إلى بعض كور الجبال أو إلى بعض هذه المدائن منكرين لهذه البدع المضلة. فقال له حرقوص بن زهير إن المتاع بهذه الدنيا قليل وإن الفراق لها وشيك فلا تدعونكم زينتها وبهجتها إلى المقام بها ولا تلفتنكم عن طلب الحق وإنكار الظلم ف‍ (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون). فقال حمزة بن سنان الأسدي يا قوم إن الرأي ما رأيتم فولوا أمركم رجلا منكم فإنكم
335

لا بد لكم من عماد وسناد وراية تحفون بها وترجعون إليها فعرضوها علي زيد بن حصين الطائي فأبي وعرضوها علي حرقوص بن زهير فأبي وعلي حمزة بن سنان وشريح بن أوفي العبسي فأبيا وعرضوها علي عبد الله بن وهب فقال هاتوها أما والله لا آخذها رغبة في الدنيا ولا أدعها فرقا من الموت فبايعوه لعشر خلون من
شوال وكان يقال له ذو الثفنات.
ثم اجتمعوا في منزل شريح بن أوفي العبسي فقال ابن وهب اشخصوا بنا إلى بلدة نجتمع فيها لإنفاذ حكم الحق فإنكم أهل الحق. قال شريح نخرج إلى المدائن فننزلها ونأخذها بأبوابها ونخرج منها سكانها ونبعث إلى إخواننا من أهل البصرة فيقدمون علينا. فقال زيد بن حصين إنكم إن خرجتم مجتمعين أتبعتم ولكن اخرجوا وحدانا مستخفين فأما المدائن فإن بها من يمنعكم ولكن سيروا حتى ننزل جسر النهروان وتكاتبوا إخوانكم من أهل البصرة قالوا هذا الرأي.
وكتب عبد الله بن وهب إلى من بالبصرة منهم يعلمونهم ما اجتمعوا عليه ويحثونهم علي اللحاق بهم وسير الكتاب إليهم فأجابوه أنهم علي اللحاق به فلما عزموا علي المسير تعبدوا ليلتهم وكانت ليلة الجمعة ويوم الجمعة وساروا يوم السبت فخرج شريح بن أوفي العبسي وهو يتلو قول الله تعالى (فخرج منها خائفا يترقب) إلى (سواء السبيل) وخرج معهم طرفة بن عدي بن حاتم الطائي فاتبعه أبوه فلم يقدر عليه فانتهى إلى المدائن ثم رجع فلما بلغ ساباط لقيه عبد الله بن وهب الراسبي في نحو عشرين فارسا فأراد عبد الله قتله فمنعه عمرو بن مالك التيهاني وبشر بن زيد البولاني وأرسل عدي إلى سعد بن مسعود عامل علي علي المدائن يحذره أمرهم فأخذ أبواب
336

المدائن وخرج في الخيل واستخلف بها ابن أخيه المختار بن أبي عبيد وسار في طلبهم فأخبر عبد الله بن وهب خبره فرابأ طريقه وسار علي بغداد ولحقهم سعد بن مسعود بالكرخ في خمسمائة فارس عند المساء فانصرف إليهم عبد الله في ثلاثين فارسا فاقتتلوا ساعة وامتنع القوم منهم.
وقال أصحاب سعد لسعد ما تريد من قتال هؤلاء ولم يأتك فيهم أمر خلهم فليذهبوا واكتب إلى أمير المؤمنين فإن أمرك باتباعهم اتبعتهم وإن كفاكهم غيرك كان في ذلك عافية لك فأبي عليهم فلما جن عليهم الليل خرج عبد الله بن وهب فعبر دجلة إلى أرض جوخى وسار إلى النهروان فوصل إلى أصحابه وقد أيسوا منه وقالوا إن كان هلك ولينا الأمر زيد بن حصين أو حرقوص بن زهير.
وسار جماعة من أهل الكوفة يريدون الخوارج ليكونوا معهم فردهم أهلوهم كرها منهم القعقاع بن قيس الطائي عم الطرماح بن حكيم وعبد الله بن حكيم بن عبد الرحمن البكائي، وبلغ عليا أن سالم بن ربيعة العبسي يريد الخروج فأحضره عنده ونهاه فانتهى.
ولما خرجت الخوارج من الكوفة أتي عليا أصحابه وشيعته فبايعوه وقالوا نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت فشرط لهم فيه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه ربيعة بن أبي شداد الخثعمي وكان شهد معه الجمل وصفين ومعه راية خثعم فقال له بايع علي كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ربيعة علي سنة أبي بكر وعمر. قال له علي ويلك لو أن أبا بكر وعمر عملا بغير كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكونا علي شيء من الحق فبايعه فنظر إليه علي
337

وقال أما والله لكأني بك وقد نفرت مع هذه الخوارج فقتلت وكأني بك وقد وطئتك الخيل بحوافرها فقتل يوم النهر مع خوارج البصرة.
وأما خوارج البصرة فإنهم اجتمعوا في خمسمائة رجل وجعلوا عليهم مسعر بن فدكي التميمي فعلم بهم ابن عباس فاتبعهم أبا الأسود الدؤلي فلحقهم بالجسر الأكبر فتوافقوا حتى حجز بينهم الليل وأدلج مسعر بأصحابه وأقبل يعترض الناس وعلي مقدمته الأشرس بن عوف الشيباني وسار حتى لحق بعبد الله بن وهب بالنهر.
فلما خرجت الخوارج وهرب أبو موسى إلى مكة ورد علي بن عباس إلى البصرة قام في الكوفة فخطبهم فقال الحمد لله وإن أتي الدهر بالخطب الفادح والحدثان الجليل وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله أما بعد فإن المعصية تورث الحسرة وتعقب الندم وقد كنت أمرتكم في هذين الرجلين وفي هذه الحكومة أمري ونحلتكم أمري لو كان لقصير ولكن أبيتم إلا ما أردتم فكنت أنا وأنتم كما قال أخو هوازن:
(أمرتهم أمري بمنعرج اللوي * فلم يستبينوا الرشد إلا ضحي الغد)
ألا إن هذا الرجلين اللذين اخترتموهما حكمين قد نبذا حكم القرآن وراء ظهورهما وأحييا ما أمات القرآن واتبع كل واحد منهما هواه بغير هدي من الله فحكما بغير حجة بينة ولا سنة ماضية واختلفا في حكمهما وكلاهما لم يرشد فبرئ الله منهما ورسوله وصالح المؤمنين استعدوا وتأهبوا للمسير إلى الشام وأصبحوا في معسكرهم إن شاء الله يوم الاثنين.
ثم نزل وكتب إلى الخوارج بالنهر بسم الله الرحمن الرحيم من عبد
338

الله علي أمير المؤمنين إلى زيد بن حصين وعبد الله بن وهب ومن معهما من الناس أما بعد فإن هذين الرجلين اللذين ارتضيناهما حكمين قد خالفا كتاب الله واتبعا هواهما بغير هدي من الله فلم يعملا بالسنة ولم ينفذا القرار حكما فبرئ الله منهما ورسوله والمؤمنون فإذا بلغكم كتابي هذا فأقبلوا إلينا فإنا سائرون إلى عدونا وعدوكم ونحن علي الأمر الأول الذي كنا عليه.
فكتبوا إليه أما بعد فإنك لم تغضب لربك وإنما غضبت لنفسك فإن شهدت علي نفسك بالكفر واستقبلت التوبة نظرنا فيما بيننا وبينك وإلا فقد نبذناك علي سواء إن الله لا يحب الخائنين.
فلما قرأ كتابهم أيس منهم ورأي أن يدعهم ويمضي بالناس حتى يلقي أهل الشام فيناجزهم فقام في أهل الكوفة فحمد الله وأثني عليه ثم قال أما بعد فإنه من ترك الجهاد في الله وأدهن في أمره كان علي شفا هلكة إلا أن يتداركه الله بنعمته فاتقوا الله وقاتلوا من حاد الله ورسوله وحاول أن يطفئ نور الله فقاتلوا الخاطئين الضالين القاسطين الذين ليسوا بقراء القرآن ولا فقهاء في الدين ولا علماء في التأويل ولا لهذا الأمر بأهل في سابقة الإسلام والله لو ولوا عليكم لعملوا فيكم بأعمال كسري وهرقل تيسروا للمسير إلى عدوكم من أهل المغرب وقد بعثنا إلى إخوانكم من أهل البصرة ليقدموا عليكم فإذا اجتمعتم شخصنا إن شاء الله ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وكتب إلى ابن عباس أما بعد فإنا خرجنا إلى معسكرنا بالنخيلة وقد أجمعنا علي المسير إلى عدونا من أهل المغرب فأشخص إلى الناس حتى يأتيك رسولي وأقم حتى يأتيك أمري والسلام عليك.
فقرأ ابن عباس الكتاب علي الناس وندبهم مع الأحنف بن قيس فشخص
339

ألف وخمسمائة فاستقلهم عبد الله بن عباس فخطبهم وقال يا أهل البصرة أتاني كتاب أمير المؤمنين فأمرتكم بالنفير إليه فلم يشخص منكم إليه إلا ألف وخمسمائة وأنتم ستون ألف مقاتل سوي أبنائكم وعبيدكم ألا انفروا إليه مع جارية بن قدامة السعدي ولا يجعلن رجل علي نفسه سبيلا فإني موقع بكل من وجدته متخلفا عن دعوته عاصيا لإمامه فلا يلومن رجل إلا نفسه.
فخرج جارية فاجتمع إليه ألف وسبعمائة فوافوا عليا وهم ثلاثة آلاف ومائتان فجمع إليه رؤوس أهل الكوفة ورؤوس الأسباع ووجوه الناس فحمد الله وأثني عليه ثم قال يا أهل الكوفة أنتم إخواني وأنصاري وأعواني علي الحق وأصحابي إلى جهاد المحلين بكم أضرب المدبر وأرجو تمام طاعة المقبل وقد استنفرت أهل البصرة فأتاني منهم ثلاثة آلاف ومائتان فليكتب لي رئيس كل قبيلة ما في عشيرته من المقاتلة وأبناء المقاتلة الذين أدركوا القتال وعبدان عشيرته ويرفع ذلك إلينا.
فقام إليه سعد بن قيس الهمداني فقال يا أمير المؤمنين سمعا وطاعة أنا أول الناس أجاب ما طلبت وقام معقل بن قيس وعدي بن حاتم وزياد بن خصفة وحجر بن عدي وأشراف الناس والقبائل فقالوا مثل ذلك وكتبوا إليه ما طلب وأمروا أبناءهم وعبيدهم أن يخرجوا معهم ولا يتخلف منهم فرفعوا إليه أربعين ألف مقاتل وسبعة عشر ألفا من الأبناء ممن أدرك وثمانية آلاف من مواليهم وعبيدهم وكان جميع أهل الكوفة خمسين وستين ألفا سوي أهل البصرة وهم ثلاثة آلاف ومائتا رجل.
وكتب إلى سعد بن مسعود بالمدائن يأمره بإرسال من عنده من المقاتلة.
وبلغ عليا أن الناس يقولون لو سار بنا إلى قتال هذه الحرورية فإذا
340

فرغنا منهم توجهنا إلى قتال المحلين! فقال لهم بلغني أنكم قلتم كيت وكيت وإن هؤلاء الخارجين أهم إلينا فدعوا ذكرهم وسيروا إلى قوم يقاتلونكم كيما يكونوا جبارين ملوكا ويتخذون عباد الله خولا. فناداه الناس أن سر بنا يا أمير المؤمنين حيث أحببت وقام إليه صيفي بن فسيل الشيباني فقال يا أمير المؤمنين نحن حزبك وأنصارك نعادي من عاداك ونشايع من أناب إلى طاعتك من كانوا وأينما كانوا فإنك إن شاء الله لن تؤتي من قلة عدد وضعف نية
أتباع.
ذكر قتال الخوارج
قيل لما أقبلت الخارجة من البصرة حتى دنت من النهروان رأى عصابة منهم رجلا يسوق بامرأة علي حمار فدعوه فانتهزوه فأفزعوه وقالوا له من أنت قال أنا عبد الله بن خباب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له أفزعناك؟ قال نعم. فقال حدثنا أبي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال تكون فتنة يموت فيها قلب الرجل كما يموت فيه بدنه يمسي فيها مؤمنا ويصبح كافرا ويصبح كافرا ويمسي مؤمنا قالوا لهذا الحديث سألناك فما تقول في أبي بكر وعمر؟ فأثني عليها خيرا قالوا ما تقول في عثمان في أول خلافته وفي
341

آخرها؟ قال إنه كان محقا في أولها وفي آخرها فقالوا فما تقول في علي قبل التحكيم وبعده قال إنه أعلم بالله منكم وأشد توقيتا علي دينه وأنفذ بصيرة. فقالوا إنك تتبع الهوى وتوالي الرجال علي أسمائها لا علي أفعالها والله لنقتلنك قتلة ما قتلناها أحدا.
فأخذوه وكتفوه ثم أقبلوا به وبامرأته وهي حبلي متم حتى نزلوا تحت نخل مواقير فسقطت منه رطبة فأخذها أحدهم فتركها في فيه فقال آخر أخذتها بغير حلها وبغير ثمن فألقاها ثم مر بهم خنزير لأهل الذمة فضربه أحدهم بسيفه فقالوا هذا فساد في الأرض فلقي صاحب الخنزير فأرضاه فلما رأى ذلك منهم ابن خباب قال لئن كنتم صادقين فيما أرى فما علي منكم من بأس إني مسلم ما أحدثت في الإسلام حدثا ولقد أمنتموني قلتم لا روع عليك فأضجعوه فذبحوه فسال دمه في الماء وأقبلوا إلى المرأة فقالت أنا امرأة ألا تتقون الله فبقروا بطنها وقتلوا ثلاث نسوة من طئ وقتلوا أم سنان الصيداوية.
فلما بلغ عليا قتلهم عبد الله بن خباب واعتراضهم الناس بعث إليهم الحارث بن مرة العبدي ليأتيهم وينظر ما بلغه عنهم ويكتب به إليه ولا يكتمه فلما دنا منهم يسائلهم قتلوه وأتى عليا الخبر والناس معه فقالوا يا أمير المؤمنين علام ندع هؤلاء وراءنا يخلفونا في عيالنا وأموالنا سر بنا إلى القوم فإذا فرغنا منهم سرنا إلى عدونا من أهل الشام.
وقام إليه الأشعث بن قيس وكلمه بمثل ذلك وكان الناس يرون أن الأشعث يري رأيهم لأنه كان يقول يوم صفين أنصفنا قوم يدعون إلى كتاب الله فلما قال هذه المقالة علم الناس أنه لم يكن يري رأيهم.
342

فأجمع علي علي ذلك وخرج فعبر الجسر وسار إليهم فلقيه منجم في مسيره فأشار عليه أن يسير وقتا من النهار فقال له إن أنت سرت في غيره لقيت أنت وأصحابك ضرا شديدا فخالفه علي وسار في الوقت الذي نهاه عنه فلما فرغ من أهل النهر حمد الله وأثني عليه ثم قال لو سرنا في الساعة التي أمر بها المنجم لقال المنجم الذين لا يعلمون شيئا سار في الساعة التي أمر بها المنجم فظفر وكان المنجم مسافر بن عفيف الأزدي.
فأرسل علي إلى أهل النهر أن ادفعوا إلينا قتلة إخواننا منكم أقتلهم بهم ثم أنا تارككم وكاف عنكم حتى ألقي أهل المغرب فلعل الله يقبل بقلوبكم ويردكم إلى خير مما أنتم عليه من أمركم فقالوا كلنا قتلهم وكلنا مستحل لدمائكم ودمائهم وخرج إليهم قيس بن سعد بن عبادة فقال لهم عباد الله أخرجوا إلينا طلبتنا منكم وادخلوا في هذا الأمر الذي خرجتم منه وعودوا بنا إلى قتال عدونا وعدوكم فإنكم ركبتم عظيما من الأمر تشهدون علينا بالشرك وتسفكون دماء المسلمين! فقال له عبد الله بن شجرة السلمي إن الحق قد أضاء لنا فلسنا متابعيكم أو تأتونا بمثل عمر فقال ما نعلمه [فينا] غير صاحبنا فهل تعلمونه فيكم قالوا لا قال نشدتكم الله في أنفسكم أن تهلكوها فإني لا أرى الفتنة إلا وقد غلبت عليكم.
وخطبهم أبو أيوب الأنصاري فقال عباد الله إنا وأياكم علي الحال الأولي التي كنا عليها ليست بيننا وبينكم عداوة فعلام تقاتلوننا
فقالوا إنا لو تابعناكم اليوم حكمتم غدا. قال فإني أنشدكم الله أن تعجلوا فتنة العام مخافة ما يأتي في القابل وأتاهم علي فقال أيتها العصابة التي أخرجها عداوة المراء واللجاجة! وصدها عن الحق الهوى وطمع بها النزق وأصبحت في الخطب العظيم!
343

إني نذير لكم أن تصبحوا تلعنكم الأمة غدا صرعى بأثناء هذا الوادي وبأهضام هذا الغائط بغير بينة من ربكم ولا برهان مبين ألم تعلموا أني نهيتكم عن الحكومة ونبأتكم أنها مكيدة وأن القوم ليسوا بأصحاب دين فعصيتموني فلما فعلت شرطت واستوثقت علي الحكمين أن يحييا ما أحيا القرآن ويميتا ما أمات القرآن فاختلفا وخالفا حكم الكتاب والسنة فنبذنا أمرهما ونحن علي الأمر الأول فمن أين أتيتم؟ فقالوا إنا حكمنا فلما حكمنا أثمنا وكنا بذلك كافرين وقد تبنا فإن تبت فنحن معك ومنك وإن أبيت فإنا منابذوك علي سواء. فقال علي أصابكم حاصب ولا بقي منكم وابر أبعد إيماني برسول الله صلى الله عليه وسلم وهجرتي معه وجهادي في سبيل الله أشهد علي نفسي بالكفر! لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين ثم انصرف عنهم.
وقيل إنه كان من كلامه لهم يا هؤلاء إن أنفسكم قد سولت لكم فراقي لهذه الحكومة التي أنتم بدأتموها وسألتموها وأنا لها كاره وأنبأتكم أن القوم إنما طلبوها مكيدة ووهنا فأبيتم علي إباء المخالفين وعندتم عنود النكداء العاصين حتى صرفت رأيي إلى رأيكم رأي معاشر والله أخفاء الهام سفهاء الأحلام فلم آت لا أبالكم هجرا والله ما ختلتكم عن أموركم ولا أخفيت شيئا من هذا الأمر عنكم ولا أوطأتكم عشوة ولا أدنيت لكم الضراء وإن كان أمرنا لأمر المسلمين ظاهرا فأجمع رأي ملإكم [على] أن اختاروا رجلين فأخذنا عليهما أن يحكما بما في القرآن ولا يعدواه فتاها فتركا الحق وهما يبصرانه وكان الجور هواهما والثقة في أيدينا حين خالفا
344

سبيل الحق وأتيا بما لا يعرف فبينوا لنا بم تستحلون قتالنا والخروج عن جماعتنا وتضعون أسيافكم علي عواتقكم ثم تستعرضون الناس تضربون رقابهم إن هذا لهو الخسران المبين والله لو قتلتم علي هذا دجاجة لعظم عند الله قتلها فكيف بالنفس التي قتلها عند الله حرام؟
فتنادوا لا تخاطبوهم ولا تكلموهم وتهيأوا للقاء الله الرواح الرواح إلى الجنة فعاد علي عنهم.
ثم أن الخوارج قصدوا جسر النهر وكانوا غربة فقال علي لأصحابه إنهم قد عبروا النهر فقال لن يعبروا فأرسلوا طليعة فعاد وكان بينهم وبينه عطفة من النهر فلخوف الطليعة منهم لم يقر بهم فعاد فقال إنهم قد عبروا النهر فقال علي والله ما عبروه وإن مصارعهم لدون الجسر ووالله لا يقتل منكم عشرة ولا يسلم منهم عشرة! وتقدم علي إليهم فرآهم عند الجسر لم يعبروه وكان الناس قد شكوا في قوله وارتاب به بعضهم فلما رأوا الخوارج لم يعبروا كبروا وأخبروا عليا بحالهم فقال والله ما كذبت ولا كذبت ثم إنه عبأ أصحابه فجعل علي ميمنته حجر بن عدي وعلي ميسرته شبت بن ربعي أو معقل بن قيس الرياحي وعلي الخيل أبا أيوب الأنصاري وعلي الرجالة أبا قتادة الأنصاري وعلي أهل المدينة وهم سبعمائة أو ثمانمائة قيس بن سعد بن عبادة وعبأت الخوارج فجعلوا علي ميمنتهم زيد بن حصين الطائي وعلي الميسرة شريح بن أوفي العبسي وعلي خيلهم حمزة بن سنان الأسدي وعلي رجالتهم حرقوص بن زهير السعدي.
وأعطي علي أبا أيوب الأنصاري راية الأمان فناداهم أبو أيوب فقال من جاء تحت هذه الراية فهو آمن ومن لم يقتل ولم يستعرض ومن انصرف منكم
345

إلى الكوفة أو إلى المدائن وخرج من هذه الجماعة فهو آمن لا حاجة لنا بعد أن نصيب قتلة إخواننا منكم في سفك دمائكم.
فقال فروة بن نوفل الأشجعي والله ما أدري علي أي شيء نقاتل عليا أرى أن انصرف حتى تتضح لي بصيرتي في قتاله أو أتابعه فانصرف في خمسمائة فارس حتى نزل البندنيجين والدسكرة وخرجت طائفة أخرى متفرقين فنزلوا الكوفة وخرج إلى علي نحو مائة وكانوا أربعة آلاف فبقي مع عبد الله بن وهب ألف وثمانمائة فزحفوا إلى علي وكان علي قد قال لأصحابه كفوا عنهم حتى يبدأوكم فتنادوا الرواح إلى الجنة وحملوا علي الناس فافترقت خيل علي فرقتين نحو الميمنة وفرقة نحو الميسرة واستقبلت الرماة وجوههم بالنبل وعطفت عليهم الخيل من الميمنة والميسرة ونهض إليهم بالرجال بالرماح والسيوف فما لبثوا أن أناموهم فلما رأى حمزة بن سنان الهلاك نادى أصحابه أن انزلوا فذهبوا لينزلوا فلم يلبثوا أن حمل عليهم الأسود بن قيس المرادي وجاءتهم الخيل من نحو علي فأهلكوا في ساعة فكأنما قيل لهم موتوا فماتوا.
وجاء أبو أيوب الأنصاري إلى علي فقال يا أمير المؤمنين قتلت زيد بن حصين الطائي طعنته في صدره [حتى]
خرج السنان من ظهره وقلت له أبشر يا عدو الله بالنار فقال ستعلم غدا أينا أولي بها صليا. فقال له علي وأولي بها صليا. وجاءه هانئ بن خطاب الأزدي وزياد بن خصفة يحتجان في قتل عبد الله بن وهب فقال كيف صنعتما؟ قالا لما رأيناه عرفناه فابتدرناه وطعناه برمحينا فقال كلاكما قاتل.
وحمل جيش بن ربيعة الكناني علي حرقوص بن زهير فقتله وحمل عبد الله
346

ابن زحر الخولاني علي عبد الله بن شجرة السلمي فقتله ووقع شريح بن أوفي إلى جانب جدار فقاتل عليه وكان جل من يقاتله همدان فقال:
(قد علمت جارية عبسية * ناعمة في أهلها مكفية * أني سأحمي ثلمتي العشية)
فحمل عليه قيس بن معاوية فقطع رجله فجعل يقاتلهم وهو يقول:
(القرم يحمي شوله معقولا)
فحمل عليه قيس أيضا فقتله فقال الناس:
(أقتلت همدان يوما ورجل * اقتتلوا من غدوة حتى الأصل)
(ففسح الله لهمدان الأجل)
ذكر مقتل ذي الثدية
قد روى جماعة أن عليا كان يحدث أصحابه قبل ظهور الخوارج أن قوما يخرجون يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية علامتهم رجل مخدج اليد سمعوا ذلك منه مرارا فلما خرج أهل النهروان سار بهم إليهم علي وكان منه معهم ما كان، فلما فرغ أمر أصحابه أن يلتمسوا المخدج،
347

فالتمسوه فقال بعضهم ما نجده حتى قال بعضهم ما هو فيهم وهو يقول والله إنه لفيهم والله ما كذبت ولا كذبت ثم إنه جاءه رجل فبشره فقال يا أمير المؤمنين قد وجدناه وقيل بل خرج علي في طلبه قبل أن يبشره الرجل ومعه سليم بن ثمامة الحنفي والريان بن صبرة فوجدوه في حفرة علي شاطئ النهر في خمسين قتيلا فلما استخرجه نظر إلى عضده فإذا لحم مجتمع كثدي المرأة وحلمة عليها شعرات سود فإذا مدت امتدت حتى تحاذي يده الطولي ثم تترك فنعود إلى منكبيه. فلما رآه قال الله أكبر ما كذبت ولا كذبت لولا أن تتكلوا عن العمل لأخبرتكم بما قص الله علي لسان نبيه لمن قاتلهم مستبصرا في قتالهم عارفا للحق الذي نحن عليه.
وقال حين مر بهم وهم صرعى بؤسا لكم لقد ضركم من غركم قالوا يا أمير المؤمنين من غرهم قال الشيطان وأنفس أمارة بالسوء غرتهم بالأماني وزينت لهم المعاصي ونبأتهم أنهم ظاهرون.
قيل وأخذ ما في عسكرهم من شيء فأما السلاح والدواب وما شهر عليه فقسمه بين المسلمين وأما المتاع وأما الإماء والعبيد فإنه رده علي أهله حين قدم.
وطاف عدي بن حاتم في القتلى علي ابنه طرفة فدفنه ودفن رجال من المسلمين قتلاهم فقال علي حين بلغه أتقتلونهم ثم تدفنوهم ارتحلوا فارتحل الناس.
فلم يقتل من أصحاب علي إلا سبعة. وقيل كانت الوقعة سنة ثمان وثلاثين وكان فيمن قتل من أصحابه يزيد بن نويرة الأنصاري وله صحبة وسابقة وشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة وكان أول من قتل.
348

ذكر رجوع علي إلى الكوفة
ولما فرغ علي من أهل النهر حمد الله وأثني عليه وقال إن الله قد أحسن بكم وأعز نصركم فتوجهوا من فوركم هذا إلى عدوكم قالوا يا أمير المؤمنين نفذت نبالنا وكلت سيوفنا ونصلت أسنة رماحنا وعاد أكثرها قصدا فرجع إلى مصرنا فلنستعد ولعل أمير المؤمنين يزيد في عدتنا فإنه أقوي لنا علي عدونا وكان الذي تولي كلامه الأشعث بن قيس فأقبل حتى نزل النخيلة فأمر الناس أن يلزموا عسكرهم ويوطنوا علي الجهاد أنفسهم وأن يقلوا زيارة أبنائهم ونسائهم حتى يسيروا إلى عدوهم فأقاموا فيه أياما ثم تسللوا من معسكرهم فدخلوا إلا رجالا من وجوه الناس وترك المعسكر خاليا فلما رأى ذلك دخل الكوفة وانكسر عليه رأيه في المسير وقال لهم أيضا أيها الناس استعدوا للمسير إلى عدوكم ومن في جهاده القربة إلى الله عز وجل ودرك الوسيلة عنده حيارى عن الحق جفاة عن الكتاب يعمهون في طغيانهم فأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل وتوكلوا علي الله وكفي بالله وكيلا وكفي بالله نصيرا فلم ينفروا ولا تيسروا فتركهم أياما حتى إذا أيس من أن يفعلوا دعا رؤساءهم ووجوههم فسألهم عن رأيهم وما الذي يبطئ بهم فمنهم المعتل ومنهم المتكره وأقلهم من نشط.
فقام فيهم فقال: عباد الله ما بالكم إذا أمرتكم أن تنفروا (اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة من الآخرة) وبالذل والهوان من
349

العز خلفا؟ وكلما ناديتكم إلى الجهاد دارت أعينكم كأنكم من الموت في سكرة وكأن قلوبكم مألوسة وأنتم لا تعقلون فكأن أبصاركم كمه وأنتم لا تبصرون لله أنتم ما أنتم إلا أسد الشرى في الدعة وثعالب رواغة حين تدعون إلى البأس ما أنتم لي بثقة سجيس الليالي ما أنتم بركب يصال به لعمر الله لبئس حشاش الحرب أنتم إنكم تكادون ولا تكيدون وينتقص أطرافكم وأنتم لا تتحاشون ولا ينام عنكم وأنتم في غفلة ساهون. ثم قال أما بعد فإن لي عليكم حقا وإن لكم علي حقا فأما حقكم علي فالنصيحة لكم ما صحبتكم وتوفير فيئكم عليكم وتعليمكم كي لا تجهلون وتأديبكم كي تعلموا وأما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة والنصح لي في المغيب والمشهد والإجابة حين أدعوكم والطاعة حين آمركم فإن يريد الله بكم خيرا تنزعوا عما أكره وترجعوا إلى ما أحب تنالوا ما تطلبون وتدركوا ما تأملون.
ذكر عدة حوادث
قيل وحج بالناس هذه السنة عبيد الله بن عباس وكان عامل علي علي اليمن وكان علي مكة والطائف قثم بن العباس وكان علي المدينة سهل بن حنيف وقيل تمام بن العباس وكان علي البصرة عبد الله بن عباس وعلي مصر محمد بن أبي بكر ولما سار علي إلى صفين استخلف علي الكوفة أبا مسعود
350

الأنصاري وكان علي خراسان خليد بن قرة اليربوعي وكان بالشام معاوية بن أبي سفيان. وفيها قتل حازم بن أبي حازم أخو قيس الأحمسي البجلي بصفين مع علي. وفيها مات خباب بن الأرت شهد بدرا وما بعدها وشهد صفين مع علي والنهروان. وقيل لم يشهدها كان مريضا ومات قبل قدوم علي إلى الكوفة وقد تقدم ذكره وقيل مات سنة تسع وثلاثين وكان عمره ثلاثا وستين سنة. وفيها قتل أبو الهيثم بن التيهان بصفين مع علي وقيل عاش بعدها يسيرا وقتل بها أخوه عبيد بن التيهان وكان أبو الهيثم أول من بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة في قول وهو بدري وفيها قتل يعلي بن منية وهي أمه واسم أبيه أمية التميمي وهو ابن أخت عتبة بن غزوان وقيل ابن عمته وكان قد شهد الجمل مع عائشة ثم شهد صفين مع علي فقتل بها وكان إسلامه يوم الفتح وشهد حنينا وقتل بصفين مع علي أبو عمرة الأنصاري النجاري والد عبد الرحمن وهو أيضا بدري وفيها قتل أبو فضالة الأنصاري في قول وهو بدري وفيها توفي سهل بن حنيف الأنصاري في قول وهو بدري وشهد مع علي حروبه وتوفي بها صهيب بن سنان وصفوان بن بيضاء وهو بدري وفي هذه السنة توفي عبد الله بن سعد بن أبي سحر بعسقلان فجأة وهو في الصلاة وكره الخروج مع معاوية إلى صفين وقيل شهدها ولا يصح.
351

38
ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين
ذكر ملك عمرو بن العاص وقتل محمد بن
أبي بكر الصديق
في هذه السنة قتل محمد بن أبي بكر الصديق بمصر وهو عامل علي عليها وقد ذكرنا سبب تولية تولية علي إياه مصر وعزل قيس بن سعد [عنها] ودخوله مصر وإنفاذه ابن مضاهم الكلبي إلى أهل خرنبا فلما مضي ابن مضاهم قتلوه وخرج معاوية بن حديج السكوني وطلب بدم عثمان ودعا إليه فأجابه ناس وفسدت مصر علي محمد بن أبي بكر فبلغ ذلك عليا فقال ما لمصر إلا أحد الرجلين صاحبنا الذي عزلنا يعني قيسا أو الأشتر وكان الأشتر قد عاد بعد صفين إلى عمله بالجزيرة وقال علي لقيس أقم عندي علي شرطتي حتى تنقضي الحكومة ثم تسير إلى أذربيجان فلما بلغ عليا أمر مصر كتب إلى الأشتر وهو بنصيبين يستدعيه فحضر عنده فأخبره خبر أهل مصر وقال ليس لها غيرك فأخرج إليها فإني لو لم أوصك اكتفيت برأيك واستعن بالله واخلط الشدة باللين وارفق
ما كان الرفق أبلغ وتشدد حين لا يغني إلا الشدة.
فخرج الأشتر يتجهز إلى مصر وأتت معاوية عيونه بذلك فعظم عليه،
352

وكان قد طمع في مصر فعلم أن الأشتر إن قدمها كان أشد عليه من محمد بن أبي بكر فبعث معاوية إلى المقدم علي أهل الخراج بالقلزم وقال له إن الأشتر قد ولي مصر فإن كفيتنيه لم آخذ منك خراجا ما بقيت وبقيت فخرج الحابسات حتى أتي القلزم وأقام به وخرج الأشتر من العراق إلى مصر، فلما انتهي إلى القلزم استقبله ذلك الرجل فعرض عليه النزول فنزل عنده فأتاه بطعام فلما أكل أتاه بشربة من عسل قد جعل فيه سما فسقاه إياه فلما شربها مات.
وأقبل معاوية لأهل الشام إن عليا قد وجه الأشتر إلى مصر فادعوا الله عليه فكانوا يدعون الله عليه كل يوم وأقبل الذي سقاه إلى معاوية فأخبره بمهلك الأشتر فقام معاوية خطيبا ثم قال أما بعد فإنه كانت لعلي يمينان فقطعت إحداهما بصفين يعني عمار بن ياسر وقطعت الأخرى اليوم يعني الأشتر.
فلما بلغ عليا موته قال لليدين والفم وكان قد ثقل عليه لأشياء نقلت عنه وقيل إنه لما بلغه قتله قال إنا لله وإنا إليه راجعون مالك وما مالك وهل موجود مثل ذلك لو كان من حديد لكان قيدا أو من حجر لكان صلدا علي مثله فلتبك البواكي وهذا أصح لأنه لو كان كارها لو يوله مصر.
وكان الأشتر قد روي الحديث عن عمر وعلي وخالد بن الوليد وأبي ذر وروي عنه جماعة وقال أحمد بن صالح كان ثقة.
قيل ولما بلغ محمد بن أبي بكر إنفاذ الأشتر شق عليه فكتب إليه علي أما بعد فقد بلغني موجدتك من تسريحي الأشتر إلى عملك وإني لم أفعل ذلك استبطاء لك في الجهاد ولا ازديادا مني لك في الجد ولو نزعت ما تحت
353

يدك لوليتك ما هو أيسر عليك مؤنة منه وأعجب إليك ولاية إن الرجل الذي كنت وليته أمر مصر كان لنا نصيحا وعلي عدونا شديدا وقد استكمل أيامه ولاقى حمامه ونحن عنه راضون فرضي الله عنه وضاعف له الثواب اصبر لعدوك وشمر للحرب (وادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة) وأكثر ذكر الله والاستعانة به والخوف منه يكفك ما أهمك ويعنك على ما ولاك.
وكتب إليه محمد أما بعد فقد انتهي إلى كتابك وفهمته وليس أحد من الناس أرضي برأي أمير المؤمنين ولا أجهد علي عدوه ولا أرأف بوليه مني وقد خرجت فعسكرت وأمنت الناس إلا من نصب لنا حربا وأظهر لنا خلافا وأنا متبع أمر أمير المؤمنين وحافظه والسلام.
وقيل إنما تولي الأشتر مصر بعد قتل محمد بن أبي بكر.
وكان أهل الشام ينتظرون بعد صفين أمر الحكمين فلما تفرقا بايع أهل الشام معاوية بالخلافة ولم يزدد إلا قوة واختلف الناس بالعراق علي علي فما كان لمعاوية هم إلا مصر وكان يهاب أهلها لقربهم منه وشدتهم علي من كان علي رأى عثمان وكان يرجو أنه إذا ظهر عليه ظهر علي حرب علي لعظم خراجها فدعا معاوية عمرو بن العاص وحبيب بن مسلمة وبسر بن أبي أرطأة والضحاك بن قيس وعبد الرحمن بن خالد وأبا الأعور السلمي وشرحبيل بن السمط الكندي فقال لهم أتدرون لم جمعتكم؟ فإني جمعتكم لأمر لي مهم! فقالوا لم يطلع الله علي الغيب أحدا وما نعلم ما تريد فقال
354

عمرو بن العاص دعوتنا لتسألنا عن رأينا في مصر فإن كنت جمعتنا لذلك فاعزم واصبر فنعم الرأي رأيت في افتتاحها فإن فيه عزك وعز أصحابك وكبت عدوك وذل أهل الشقاق عليك فقال معاوية أهمك يا بن العاص وما أهمك وذلك أن عمرا كان صالح معاوية علي قتال علي علي أن له مصر طعمة ما بقي. وأقبل معاوية علي أصحابه وقال أصاب أبو عبد الله فما ترون فقالوا ما نري إلا ما رأى عمرو قال فكيف أصنع فإن عمر لم يفسر كيف أصنع فقال عمرو أرى أن تبعث جيشا كثيفا عليهم رجل حازم صابر صارم تأمنه وتثق به فيأتي مصر فإنه سيأتيه من ينصرك الله.
قال معاوية: أرى أن نكاتب من بها من شيعتنا فنمنيهم ونأمرهم بالثبات ونكاتب من بها من عدونا فندعوهم إلى صلحنا ونمنيهم شكرنا ونخوفهم حربنا فإن كان ما أردنا بغير قتال فذاك الذي أردنا وإلا كان حربهم من بعد ذلك إنك يا ابن العاص امرؤ بورك لك في الشدة والعجلة وأنا بورك لي في التؤدة قال عمرو افعل ما تري فما أرى أمرنا يصير إلا إلى الحرب.
فكتب معاوية إلى مسلمة بن مخلد ومعاوية بن حديج السكوني وكانا قد خالفا عليا يشكرهما علي ذلك ويحثهما علي الطلب بدم عثمان ويعدهما المواساة في سلطانه وبعثه مع مولاه سبيع.
فلما وقفا عليه أجاب مسلمة بن مخلد الأنصاري عن نفسه وعن ابن حديج أما بعد فإن الأمر الذي بذلنا له أنفسنا واتبعنا به أمر الله أمر نرجو به ثواب ربنا والنصر علي من خالفنا وتعجيل النقمة علي من سعي علي إمامنا، وأما ما ذكرت
355

من المواساة في سلطانك فتالله إن ذلك أمر ماله نهضنا ولا إياه أردنا فعجل إلينا بخيلك ورجلك فإن عدونا قد أصبحوا لنا هائبين فإن يأتنا مدد يفتح الله عليك والسلام.
فجاءه الكتاب وهو بفلسطين فدعا أولئك النفر وقال لهم ما ترون قالوا نري أن تبعث جندا.
فأمر عمرو بن العاص ليتجهز إليها وبعث معه ستة آلاف رجل ووصاه بالتؤدة وترك العجلة وسار عمرو فنزل أداني مصر فاجتمعت إليه العثمانية فأقام بهم وكتب إلى محمد بن أبي بكر أما بعد فتنح عني بدمك يا بن أبي بكر فإني لا أحب أن يصيبك مني ظفر إن الناس بهذه البلاد قد اجتمعوا علي خلافك وهم مسلموك فأخرج منها إني لك من الناصحين وبعث معه كتاب معاوية في المعني أيضا ويتهدده بقصده حصار عثمان.
فأرسل محمد الكتابين إلى علي ويخبره بنزول عمرو بأرض مصر وأنه رأى التثاقل ممن عنده ويستمده فكتب إليه علي يأمره أن يضم شيعته إليه ويعده إنفاذ الجيوش إليه ويأمره بالصبر لعدوه وقتاله. وقام محمد بن أبي بكر في الناس وندبهم إلى الخروج إلى عدوهم مع كنانة ابن بشر فانتدب معه ألفان وخرج محمد بن أبي بكر بعده في ألفين وكنانة علي مقدمته وأقبل عمرو نحو كنانة فلما دنا منه سرح الكتائب كتيبة بعد كتيبة فجعل كنانة لا تأتيه إلا حمل عليها فألحقها بعمرو بن العاص فلما رأى ذلك بعث إلى معاوية بن حديج فأتاه في مثل الدهم فأحاطوا بكنانة وأصحابه واجتمع أهل الشام عليهم من كل جانب فلما رأى ذلك كنانة نزل عن فرسه ونزل معه أصحابه فضاربهم بسيفه حتى استشهد
356

وبلغ قتله محمد بن أبي بكر فتفرق عنه أصحابه وأقبل نحوه عمرو وما بقي معه أحد فخرج محمد يمشي في الطريق فانتهى إلى خربة في ناحية الطريق فأوى إليها وسار عمرو بن العاص حتى دخل الفسطاط وخرج معاوية بن حديج في طلب محمد بن أبي بكر فانتهى إلى جماعة علي قارعة الطريق فسألهم عنه فقال أحدهم دخلت تلك الخربة فرأيت فيها رجلا جالسا فقال ابن حديج هو هو فدخلوا عليه فاستخرجوه وقد كاد يموت عطشا وأقبلوا به نحو الفسطاط فوثب أخوه عبد الرحمن بن أبي بكر إلى عمرو بن العاص وكان في جنده وقال أتقتل أخي صبرا ابعث إلى ابن حديج فانهه عنه فبعث إليه يأمره أن يأتيه بمحمد فقال قتلتم كنانة بن بشر وأخلي أنا محمدا أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر هيهات هيهات فقال لهم محمد بن أبي بكر اسقوني ماء فقال له معاوية بن حديج لا سقاني الله إن سقيتك قطرة أبدا إنكم منعتم عثمان شرب الماء والله لأقتلنك حتى يسقيك الله من الحميم والغساق فقال له محمد يا بن اليهودية ليس ذلك إليك إنما ذلك إلى الله يسقي أولياءه ويظمئ أعداءه أنت وأمثالك أما والله لو كان سيفي بيدي ما بلغتم مني هذا ثم قال له أتدري ما أصنع بك أدخلك جوف حمار ثم أحرقه عليك بالنار فقال محمد إن فعلت بي ذلك فلطالما فعلتم ذلك بأولياء الله وإني لأرجو أن يجعلها عليك وعلي أولياءك ومعاوية وعمرو نارا تلظي كلما خبت زادها الله سعيرا فغضب منه وقتله ثم ألقاه في جيفة حمار ثم أحرقه بالنار.
فلما بلغ ذلك عائشة جزعت عليه جزعا شديدا وقنتت في دبر الصلاة تدعو علي معاوية وعمرو وأخذت عيال محمد إليها فكان القاسم بن محمد بن أبي بكر في عيالهم ولم تأكل من ذلك الوقت شواء حتى توفيت.
357

وقد قيل إن محمدا قاتل عمرا ومن معه قتالا شديدا فقتل كنانة وانهزم محمد واختبأ عند جبلة بن مسروق فدل عليه معاوية بن حديج فأحاط به فخرج محمد فقاتل حتى قتل.
وأما علي فلما جاءه كتاب محمد بن أبي بكر فأجابه عنه ووعده المدد وقام في الناس خطيبا وأخبرهم خبر مصر وقصد عمرو إياها وندبهم إلى إنجادهم وحثهم علي ذلك وقال اخرجوا بنا إلى الجرعة وهي بين الكوفة والحيرة فلما كان الغد خرج إلى الجرعة فنزلها بكرة وأقام بها حتى انتصف النهار فلم يأته أحد فرجع فلما كان العشي استدعي أشراف الناس وهو كئيب فقال الحمد لله علي ما قضى من أمره وقدر من فعله وابتلاني بكم أيتها القرية التي لا تطيع إذا أمرت ولا تجيب إذا دعوت لا أبا لغيركم ما تنتظرون بمصركم والجهاد على حقكم فوالله لئن جاء الموت وليأتيني ليفرقن بيني وبينكم وأنا لصحبتكم قال وبكم غير كثير لله أنتم أما دين يجمعكم ولا حمية تحميكم إذا أنتم سمعتم بعدوكم ينتقص بلادكم ويشن الغارة عليكم أوليس عجيبا أن معاوية يدعو الجفاة الطغام فيتبعونه علي غير عطاء ولا معونة في السنة المرة والمرتين والثلاث إلى أي وجه شاء وأنا أدعوكم وأنتم أولو النهي وبقية الناس علي العطاء والمعونة فتتفرقون عني تعصونني وتختلفون علي!
فقام كعب بن مالك الأرحبي وقال يا أمير المؤمنين اندب الناس لهذا اليوم كنت ادخر نفسي ثم قال أيها الناس اتقوا الله وأجيبوا إمامكم وانصروا دعوته وقاتلوا عدوه وأنا أسير إليه فخرج معه ألفان فقال له سر فوالله ما أظنك تدركهم حتى ينقضي أمرهم فسار بهم خمسا.
ثم أن الحجاج بن غزية الأنصاري قدم من مصر فأخبره بقتل محمد بن
358

أبي بكر وكان معه وقدم عليه عبد الرحمن بن شبيب الفزاري من الشام وكان عينه هناك فأخبره أن البشارة من عمرو وردت بقتل محمد وملك مصر وسرور أهل الشام بقتله فقال علي أما إن حزننا عليه بقدر سرورهم به لا بل يزيد أضعافا! فأرسل علي فأعاد الجيش الذي نفذهم وقام في الناس خطيبا وقال:
ألا إن مصر قد افتتحها الفجرة أولو الجور والظلمة الذين صادوا عن سبيل الله وبغوا الإسلام عوجا ألا وإن محمد بن أبي بكر استشهد فعند الله نحتسبه وأما والله إن كان كما علمت لممن ينتظر القضاء ويعمل للجزاء ويبغض شكل الفاجر ويحب هدي المؤمن إني والله ما ألوم نفسي على تقصير وإني لمقاساة الحروب لجدير خبير وأني لأتقدم على الأمر وأعرف وجه الحزم وأقوم فيكم بالرأي المصيب وأستصرخكم معلنا وأناديكم نداء المستغيث فلا تسمعون إلى قولا ولا تطيعون لي أمرا حتى تصير الأمور إلى عواقب المساءة فأنتم القوم لا يدرك بكم الثأر ولا تنفض بكم الأوتار دعوتكم إلى غياث إخوانكم منذ بضع وخمسين ليلة فتجرجرتم جرجرة الجمل الأشدق وتثاقلتم إلى الأرض تثاقل من ليست له نية في جهاد العدو ولا اكتساب الأجر ثم خرج إلى منكم جنيد متذانب كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون فأف لكم ثم نزل.
(معاوية بن حديج بضم الحاء وفتح الدال المهملتين جارية بن قدامة بالجيم وفي آخره ياء تحتها نقطتان بسر بن أبي أرطأة بضم الباء الموحدة وسكون السين المهملة).
359

ذكر إرسال معاوية عبد الله الحضرمي إلى البصرة
في هذه السنة بعد مقتل محمد بن أبي بكر واستيلاء عمر بن العاص علي مصر سير عبد الله بن الحضرمي إلى البصرة وقال له إن جل أهلها يرون رأينا في عثمان وقد قتلوا في الطلب بدمه فهم لذلك حنقون يودون أن يأتيهم من يجمعهم وينهض بهم في الطلب بثأرهم ودم إمامهم فانزل في مصر وتودد الأزد فإنهم كلهم معك ودع ربيعة فلن ينحرف عنك أحد سواهم لأنهم كلهم ترابية فاحذرهم.
فسار ابن الحضرمي حتى قدم البصرة وكان ابن عباس قد خرج إلى علي بالكوفة واستخلف زياد بن أبيه علي البصرة فلما وصل ابن الحضرمي إلى البصرة نزل في بني تميم فأتاه العثمانية مسلمين عليه وحضره غيرهم فخطبهم وقال إن عثمان إمامكم إمام الهدي قتل مظلوما قتله علي فطلبتم بدمه فجزاكم الله خيرا.
فقام الضحاك بن قيس الهلالي وكان علي شرطة ابن عباس فقال قبح الله ما جئتنا به وما تدعونا إليه أتيتنا والله بمثل ما أتانا به طلحة والزبير أتيانا وقد بايعنا عليا واستقامت أمورنا فحملانا على الفرقة حتى ضرب بعضنا بعضا ونحن الآن مجتمعون علي بيعته وقد أقال العثرة وعفا عن المسئ أفتأمرنا أن ننتضي أسيافنا ويضرب بعضنا بعضا ليكون معاوية أميرا والله ليوم من أيام علي خير من معاوية وآل معاوية فقام عبد الله بن خازم السلمي
360

فقال للضحاك اسكت فلست بأهل أن تتكلم ثم أقبل علي ابن الحضرمي فقال نحن أنصارك ويدك والقول قولك فاقرأ كتابك فأخرج كتاب معاوية إليهم يذكرهم فيه آثار عثمان فيهم وحبه العافية وسده ثغورهم ويذكر قتله ويدعوهم إلى الطلب بدمه ويضمن أنه يعمل فيهم بالسنة ويعطيهم عطائين في السنة. فلما فرغ من قراءته قام الأحنف فقال لا ناقتي في هذا ولا جملي واعتزل القوم وقام عمرو بن مرحوم العبدي فقال أيها الناس الزموا طاعتكم وجماعتكم ولا تنكثوا بيعتكم فتقع بكم الواقعة. وكان عباس بن صحار العبدي مخالفا لقومه في حب علي فقام وقال لننصرنك بأيدينا وألسنتنا فقال له المثني بن مخربة العبدي والله لئن لم ترجع إلى مكانك الذي جئتنا منه لنجاهدنك بأسيافنا ورماحنا ولا يغرنك هذا الذي يتكلم يعني ابن صحار.
فقال ابن الحضرمي لصبرة بن شيمان أنت ناب من أنياب العرب فانصرني فقال لو نزلت في داري لنصرتك.
فلما رأى زياد ذلك خاف فاستدعي حضين بن المنذر ومالك بن مسمع فقال أنتم يا معشر بكر بن وائل أنصار أمير المؤمنين وثقاته وقد كان من ابن الحضرمي ما ترون وأتاه من أتاه فامنعوني حتى يأتيني أمر أمير المؤمنين فقال حضين بن المنذر نعم وقال مالك وكان رأيه مائلا إلى بني أمية هذا أمر لي فيه شركاء استشير فيه وانظر. فلما رأى زياد تثاقل مالك خاف أن تختلف عليه ربيعة فأرسل إلى صبرة بن شيمان الحداني الأزدي يطلب أن يجيره وبيت مال المسلمين فقال إن حملته إلى داري أجرتكما فنقله إلى داره بالحدان ونقل المنبر أيضا فكان يصلي الجمعة بمسجد الحدان ويطعم الطعام فقال زياد لجابر بن وهب الراسبي يا أبا محمد إني لا أرى ابن الحضرمي يكف
361

وأراه سيقاتلكم ولا أدري ما عند أصحابك فانظر ما عندهم. فلما صلى زياد جلس في المجلس واجتمع الناس إليه فقال جابر يا معشر الأزد إن تميما تزعم أنهم هم الناس وأنهم أصبر منكم عند البأس وقد بلغني أنهم يريدون أن يسيروا إليكم ويأخذوا جاركم ويخرجوه قسرا فكيف أنتم إذا فعلوا ذلك وقد أجرتموه وبيت مال المسلمين! فقال صبرة بن شيمان وكان مفخما إن جاء الأحنف جئت وإن جاء حماتهم جئت وإن جاء شبابهم ففينا شباب.
وكتب زياد إلى علي بالخبر فأرسل علي إليه أعين بن ضبيعة المجاشعي ثم التميمي ليفرق قومه عن ابن الحضرمي فإن امتنعوا قاتل بمن أطاعه من عصاه وكتب إلى زياد يعلمه ذلك فقدم أعين فأتي زيادا فنزل عنده وجمع رجالا وأتى قومه ونهض إلى ابن الحضرمي ومن معه ودعاهم فشتموه وواقفهم نهاره ثم انصرف عنهم فدخل عليه قوم قيل إنهم من الخوارج وقيل وضعهم ابن الحضرمي علي قتله وكان معهم فقتلوه غيلة فلما قتل أعين أراد زياد قتالهم فأرسلت تميم إلى الأزد إنا لم نعرض لجاركم فما تريدون إلى جارنا فكرهت الأزد قتالهم وقالوا إن عرضوا لجارنا منعناه.
وكتب زياد إلى علي يخبره خبر أعين وقتله فأرسل علي جارية بن قدامة السعدي وهو من بني سعد من تميم وبعث معه خمسين رجلا وقيل خمسمائة من تميم وكتب إلى زياد يأمره جارية والإشارة عليه فقدم جارية البصرة فحذره زياد ما أصاب أعين فقام جارية في الأزد فجزاهم خيرا وقال عرفتم الحق إذ جهله غيركم وقرأ كتاب علي إلى أهل البصرة يوبخهم ويتهددهم ويعنفهم ويتوعدهم بالمسير إليهم والإيقاع بهم وقعة تكون وقعة
362

الجمل عندها هباء فقال صبرة بن شيمان سمعا لأمير المؤمنين وطاعة نحن حرب لمن حاربه وسلم لمن سالمه. وقال أبو صفرة والد المهلب لزياد لو أدركت الجمل ما قتل قومي أمير المؤمنين وقيل إن أبا صفرة كان توفي في مسيره إلى صفين والله أعلم.
وسار جارية إلى قومه وقرأ عليهم كتاب علي ووعدهم خازم السلمي فاقتتلوا ساعة وأقبل شريك بن الأعور الحارثي فصار مع جارية فانهزم ابن الحضرمي فتحصن بقصر سنبيل ومعه ابن خازم فأتته أمه عجلي وكانت حبشية فأمرته بالنزول فأبي فقالت والله لتنزلن أو لأنزعن ثيابي فنزل ونجا وأحرق جارية القصر بمن فيه فهلك ابن الحضرمي وسبعون رجلا معه وعاد زياد إلى القصر وكان قصر سنبيل لفارس قديما وصار لسنبيل السعدي وحوله خندق وكان فيمن احترق دارع بن بدر أخو حارثة بن بدر فقال عمرو بن العرندس:
(رددنا زيادا إلى داره * وجار تميم دخانا ذهب)
(لحى الله قوما شووا جارهم * ولم يدفعوا عنه حر اللهب)
في أبيات غير هذه وقال جرير
(غدرتم بالزبير فما وفيتم * وفاء الأزد إذ منعوا زيادا)
(فأصبح جارهم بنجاة عز * وجار مجاشع أمسي رمادا)
(فلو عاقدت حبل أبي سعيد * لذاد القوم ما حمل النجادا)
363

(وأدني الخيل من رهج المنايا * وأغشاها الأسنة والصعادا)
(جارية بن قدامة بالجيم والياء تحتها نقطتان وحارثة بن بدر بالحاء المهملة وبعدها ثاء مثلثة وعبد الله بن خازم بالخاء المعجمة والزاي والمثني بن مخربة بضم الميم وفتح الخاء المعجمة وكسر الراء المشددة وآخره باء موحدة).
ذكر خبر الخريت بن راشد وبني ناجية
قيل وفي هذه السنة أظهر الخريت بن راشد الناجي الخلاف علي علي فجاء إلى أمير المؤمنين وكان معه ثلاثمائة من بني ناجية خرجوا مع علي من البصرة فشهدوا معه الجمل وصفين وأقاموا معه بالكوفة إلى هذا الوقت فحضر عند علي في ثلاثين راكبا من أصحابه فقال له يا علي والله لا أطيع أمرك ولا أصلي خلفك وإني غدا مفارق لك وذلك بعد تحكيم الحكمين فقال له ثكلتك أمك إذا تعصي ربك وتنكث عهدك ولا تضر إلا نفسك خبرني لم تفعل ذلك فقال لأنك حكمت في الكتاب وضعفت عن الحق وركنت إلى القوم الذين ظلموا فأنا عليك زار وعليهم ناقم ولكم جميعا مباين فقال له علي هلم أدارسك الكتاب وأناظرك في السنن وأفاتحك أمورا أنا أعلم بها منك فلعلك تعرف ما أنت له الآن منكر قال فإني عائد إليك قال لا يستهوينك الشيطان ولا يستخفنك الجهال والله لئن استرشدتني وقبلت مني لأهدينك سبيل الرشاد.
فخرج من عنده منصرفا إلى أهله وسار من ليلته هو وأصحابه. فلما
364

سمع بمسيرهم علي قال بعدا لهم كما بعدت ثمود إن الشيطان اليوم استهواهم وأضلهم وهو غدا متبرئ منهم. فقال له زياد بن خصفة البكري يا أمير المؤمنين إنه لم يعظم علينا فقدهم فتأسي عليهم إنهم قلما يزيدون في عددنا لو أقاموا ولقلما ينقصون من عددنا بخروجهم عنا ولكنا نخاف أن يفسدوا علينا جماعة كثيرة ممن يقدمون عليك من أهل طاعتك فأذن لي في أتباعهم حتى أردهم عليك فقال أتدري أين توجهوا قال لا ولكني أسأل وأتبع الأثر فقال له اخرج رحمك الله وانزل دير أبي موسى وأقم حتى يأتيك أمري فإن كانوا ظاهرين فإن عمالي سيكتبون بخبرهم.
فخرج زياد فأتي داره وجمع أصحابه من بكر بن وائل وأعلمهم الخبر فسار معه مائة وثلاثون رجلا فقال حسبي ثم سار حتى أتي دير أبي موسى فنزله يوما ينتظر أمر علي وأتى عليا كتاب من قرظة بن كعب الأنصاري يخبره أنهم توجهوا نحو نفر وأنهم قتلوا رجلا من الدهاقين كان أسلم فأرسل علي إلى زياد يأمره باتباعهم ويخبره خبرهم وأنهم قتلوا رجلا مسلما ويأمره بردهم إليه فإن أبوا يناجزهم وسير الكتاب مع عبد الله بن وأل فاستأذنه عبد الله في المسير مع زياد فأذن له وقال له إني لأرجو أن تكون من أعواني علي الحق وأنصاري علي القوم الظالمين قال ابن وأل فوالله ما أحب أن لي بمقالته تلك حمر النعم.
وسار بكتاب علي إلى زياد وساروا حتى أتوا نفر فقيل إنهم ساروا نحو جرجرايا فتبعوا آثارهم حتى أدركوهم بالمذار وهم نزول قد أقاموا يومهم وليلتهم واستراحوا فأتاهم زياد وقد تقطع أصحابه وتعبوا فلما رأوهم ركبوا خيولهم وقال لهم الخريت أخبروني ما تريدون. فقال له زياد وكان مجربا رفيقا قد تري ما بنا من التعب والذي جئناك له لا يصلحه
365

الكلام علانية ولكن ننزل ثم نخلو جميعا فنتذاكر أمرنا فإن رأيت ما جئناك به حظا لنفسك قبلته وإن رأينا فيما نسمع منك أمرا نرجو فيه العافية لم نرده عليك قال فانزل فنزل زياد وأصحابه علي ماء هناك وأكلوا شيئا وعلقوا علي دوابهم ووقف زياد في خمسة فوارس بين أصحابه وبين القوم وكانوا قد نزلوا أيضا وقال زياد لأصحابه إن عدتنا كعدتهم وأرى أمرنا يصير إلى القتال فلا تكونوا أعجز الفريقين.
وخرج زياد إلى الخريت فسمعهم يقولون جاءنا القوم وهم كالون تعبون فتركناهم حتى استراحوا هذا والله سوء الرأي فدعاه زياد وقال له ما الذي نقمت علي أمير المؤمنين وعلينا حتى فارقتنا فقال لم أرض صاحبكم إماما ولا سيرتكم سيرة فرأيت أن اعتزل وأكون مع من يدعو إلى الشورى فقال له زياد وهل يجتمع الناس علي رجل يداني صاحبك الذي فارقته علما بالله وسننه وكتابه مع قرابته من الرسول وسابقته في الإسلام فقال له ذلك لا أقول لا فقال له زياد ففيما قتلت ذلك الرجل المسلم فقال له ما أنا قتلته وإنما قتله طائفة من أصحابي قال فادفعهم إلينا قال مالي إلى ذلك سبيل. فدعا زياد أصحابه ودعا الخريت أصحابه فاقتتلوا قتالا شديدا تطاعنوا بالرماح حتى لم يبق رمح وتضاربوا بالسيوف حتى انحنت وعقرت عامة خيولهم وكثرت الجراحة فيهم وقتل من أصحاب زياد رجلان ومن أولئك خمسة وجاء الليل فحجز بينهما وقد كره بعضهم بعضا وجرح زياد فسار الخريت من الليل وسار زياد إلى البصرة وأتاهم خبر الخريت أنه أتي الأهواز فنزل بجانب منها وتلاحق به ناس من أصحابهم فصاروا نحو مائتين فكتب زياد إلى علي وأنه مقيم يداوي الجرحى وينتظر أمره.
366

فلما قرأ علي كتابه قام إليه معقل بن قيس فقال يا أمير المؤمنين كان ينبغي أن يكون مع من يطلب هؤلاء مكان كل واحد منهم عشرة فإذا لحقوهم استأصلوهم وقطعوا دابرهم فأما أن يلقاهم عددهم فلعمري ليصبرن لهم فإن العدة تصبر للعدة. فقال تجهز يا معقل إليهم وندب معه ألفين من أهل الكوفة منهم يزيد بن المعقل الأسدي. وكتب علي إلى ابن عباس يأمره أن يبعث من أهل البصرة رجلا شجاعا معروفا بالصلاح في ألفي رجل إلى معقل وهو أمير أصحابه حتى يأتي معقلا فإذا لقيه كان معقل الأمير وكتب إلى زياد بن خصفة يشكره ويأمره بالعود.
واجتمع علي الخريت الناجي علوج من أهل الأهواز كثير أرادوا كسر الخراج ولصوص وطائفة أخرى من العرب تري رأيه وطمع أهل الخراج في كسره فكسروه وأخرجوا سهل بن حنيف من فارس وكان عاملا لعلي عليها في قول من يزعم أنه لم يمت سنة سبع وثلاثين فقال ابن عباس لعلي أنا أكفيك فارس بزياد يعني ابن أبيه فأمره بإرساله إليها وتعجيل تسييره فأرسل زيادا إليها في جمع كثير فوطئ بلاد فارس فأدوا الخراج واستقاموا وسار معقل بن قيس ووصاه علي فقال له اتق ما استطعت ولا تبغ علي أهل القبلة ولا تظلم أهل الذمة ولا تتكبر فإن الله لا يحب المتكبرين.
فقدم معقل الأهواز ينتظر مدد البصرة فأبطأ عليه فسار عن الأهواز يطلب الخريت فلم يسر إلا يوما حتى أدركه المدد مع خالد بن معدان الطائي فساروا جميعا فلحقوهم قريب جبل من جبال رامهرمز فصف معقل أصحابه فجعل علي ميمنته يزيد بن المعقل وعلي ميسرته منجاب بن راشد الضبي من أهل البصرة وصف الخريت أصحابه فجعل من معه من العرب ميمنة ومن معه من أهل البلد والعلوج ميسرة ومعهم الأكراد وحرض
367

كل واحد منهما أصحابه وحرك معقل رأسه مرتين ثم حمل في الثالثة فصبروا له ساعة ثم انهزموا فقتل أصحاب معقل منهم سبعين رجلا من بني ناجة ومن معهم من العرب وقتلوا نحو ثلاثمائة من العلوج والأكراد وانهزم الخريت بن راشد فلحق بأسياف البحر وبها جماعة كبيرة من قومه فما زال يسير فيهم ويدعوهم إلى خلاف علي ويخبرهم أن الهدي في حربه حتى اتبعه ناس كثير.
وأقام معقل بأرض الأهواز وكتب إلى علي بالفتح فقرأ علي الكتاب علي أصحابه واستشارهم فقالوا كلهم نري أن تأمر معقلا يتبع آثار الفاسق حتى يقتله أو ينفيه فإنا لنأمن أن يفسد عليك الناس فكتب إلى معقل يثني عليه وعلي من معه ويأمره باتباع وقتله أو نفيه فسأل معقل عنه فأخبره بمكانه بالأسياف وأنه قد رد قومه عن طاعة علي وأفسد من عنده من عبد القيس وسائر العرب وكان قومه قد منعوا الصدقة عام صفين وذلك العام فسار إليهم معقل فأخذ علي فارس وانتهي إلى أسياف البحر.
فلما سمع الخريت بمسيره قال لمن معه من الخوارج أنا علي رأيكم وإن عليا لم ينبغ له أن يحكم وقال للآخرين من أصحابه إن عليا حكم ورضي فخلعه حكمه الذي ارتضاه وهذا كان الرأي الذي خرج عليه من الكوفة وإليه كان يذهب وقال سرا للعثمانية إنا والله علي رأيكم قد والله قتل عثمان مظلوما فأرضي كل صنف منهم وقال لمن منع الصدقة شدوا أيديكم علي صدقاتكم وصلوا بها أرحامكم وكان فيها نصارى كثير قد أسلموا فلما اختلف الناس قالوا والله لديننا الذي خرجنا منه خير من دين هؤلاء لا ينهاهم دينهم عن سفك الدماء فقال لهم الخريت ويحكم لا
ينجيكم من
368

القتل إلا قتل هؤلاء القوم والصبر فإن حكمهم فيمن أسلم ثم ارتد أن يقتل ولا يقبلون منه توبة ولا عذرا فخدعهم جميعهم. وأتاه من كان من بني ناجية وغيرهم خلق كثير فلما انتهي معقل إليه نصب راية أمان وقال من أتاها من الناس فهو آمن إلا الخريت وأصحابه الذين حاربونا أول مرة فتفرق عن الخريت جل من كان معه من غير قومه وعبأ معقل أصحابه وزحف نحو الخريت ومعه قومه مسلمهم ونصرانيهم ومانع الزكاة منهم فقال الخريت لمن معه قاتلوا عن حريمكم وأولادكم فوالله لئن ظهروا عليكم ليقتلنكم وليسبنكم. فقال له رجل من قومه هذا والله ما جرته علينا يدك ولسانك فقال سبق السيف العذل.
وسار معقل في الناس يحرضهم ويقول أيها الناس ما تريدون أفضل مما سبق لكم من الأجر العظيم إن الله ساقكم إلى قوم منعوا الصدقة وارتدوا عن الإسلام ونكثوا البيعة ظلما فأشهد لمن يقتل منكم بالجنة ومن بقي منكم فإن الله مقر عينه بالفتح. ثم حمل معقل وجميع من كان معه فقاتلوا قتالا شديدا وصبروا له ثم إن النعمان بن صهبان الراسبي بصر بالخريت فحمل عليه فطعنه فصرع عن دابته ثم اختلفا ضربتين فقتله النعمان وقتل معه في المعركة سبعون ومائة ألف وذهب الباقون يمينا وشمالا وسبي معقل من أدرك من حريمهم وذرياتهم وأخذ رجالا كثيرا فأما من كان مسلما فخلاه وأخذ بيعته وترك له عياله وأما من كان ارتد فعرض عليهم الإسلام فرجعوا فخلي سبيلهم وسبيل عيالهم إلا شيخا كبيرا نصرانيا منهم يقال له الرماحس لم يسلم فقتله وجمع من منع الصدقة وأخذ منهم صدقة عامين وأما النصارى وعيالهم فاحتملهم مقبلا بهم وأقبل المسلمون معهم يشيعونهم
369

فلما ودعوهم بكي الرجال والنساء بعضهم إلى بعض حتى رحمهم الناس.
وكتب معقل إلى علي بالفتح ثم أقبل بهم حتى مر علي مصقلة بن هيبرة الشيباني وهو عامل علي علي أردشير خره وهم خمسمائة إنسان فبكي النساء والصبيان وصاح الرجال يا أب الفضل يا حامي الرجال ومأوي المعضب وفكاك العناة أمنن علينا واشترنا وأعتقنا فقال مصقلة أقسم بالله لأتصدق عليكم إن الله يجزي المتصدقين. فبلغ قوله معقلا فقال والله لو أعلم أنه قالها توجعا عليهم وإزراء علينا لضربت عنقه ولو كان في ذلك تفاني تميم وبكر ثم إن مصقلة اشتراهم من معقل بخمسمائة ألف فقال له معقل عجل المال إلى أمير المؤمنين فقال أنا أبعث الآن ببعضه ثم كذلك حتى لا يبقي منه شيء.
, اقبل معقل إلى علي فأخبره بما كان منه فاستحسنه وبلغ عليا أن مصقلة أعتق الأسري ولم يسألهم أن يعينوه بشيء فقال ما أظن مصقلة إلا وقد تحمل حمالة سترونه عن قريب منها مبلدا وكتب إليه يطلب منه المال أو يحضر عنده فحضر عنده وحمل من المال مائتي ألف.
قال ذهل بن الحارث فاستدعاني ليلة فطعمنا ثم قال إن أمير المؤمنين يسألني هذا المال ولا أقدر عليه فقلت والله لو شئت ما مضت جمعه حتى تحمله فقال ما كنت لأحملها قومي أما والله لو كان ابن هند ما طالبني بها ولو كان ابن عفان لوهبها لي ألم تره أطعم الأشعث بن قيس كل سنة من خراج أذربيجان مائة ألف قال فقلت إن هذا لا يري ذلك الرأي ولا يتركك منها شيئا فهرب مصقلة من ليلته فلحق بمعاوية وبلغ عليا ذلك فقال ما له نزه الله فعل فعل السيد وفر فرار العبد وخان خيانة الفاجر أما إنه لو أقام فعجز ما زدنا علي حبسه فإن وجدنا له شيئا أخذناه وإلا تركناه.
370

ثم سار علي إلى داره فهدمها وأجاز عتق السبي وقال اعتقهم مبتاعهم وصارت أثمانهم دينا علي معتقهم.
وكان أخوه نعيم بن هبيرة شيعة لعلي فكتب إليه مصقلة من الشام مع رجل من نصارى تغلب اسمه حلوان يقول له إن معاوية قد وعدك الإمارة والكرامة فأقبل ساعة يلقاك رسولي فأخذه مالك بن كعب الأرحبي فسرحه إلى علي فقطع يده فمات وكتب نعيم إلى مصقلة يقول:
(لا ترمين هداك الله معترضا * بالظن منك فما بالي وحلوانا)
(ذاك الحريص علي ما نال من طمع * وهو البعيد فلا يحزنك إن خانا)
(ماذا أردت إلى إرساله سفها * ترجو سقاط امرئ لم يلف وسنانا)
(قد كنت في منظر عن ذا ومستمع * تحمي العراق وتدعي خير شيبانا)
(حتى تقحمت أمرا كنت تكرهه * للراكبين له سرا وإعلانا)
(عرضته لعلي أنه أسد * يمشي العرضنة من آساد خفانا)
(لو كنت أديت مال القوم مصطبرا * للحق أحييت أحيانا وموتانا)
(لكن لحقت بأهل الشام ملتمسا * فضل ابن هند وذاك الرأي أشجانا)
(فاليوم تقرع سن العجز من ندم * ماذا تقول وقد كان الذي كانا)
(أصبحت تبغضك الأحياء قاطبة * لم يرفع الله بالبغضاء إنسانا)
فلما وقع الكتاب إليه علم أنه قد هلك وأتاه التغلبيون فطلبوا منه دية صاحبهم فوداه لهم.
371

وقال بعض الشعراء في بني ناجية:
(سما لكم بالخيل قودا عوابسا * أخو ثقة ما يبرح الدهر غازيا)
(فصبحكم في رجله وخيوله * بضرب تري منه المدجج هاويا)
(فأصبحتم من بعد كبر ونخوة * عبيد العصا لا تمنعون الذراريا)
وقال مصقلة بن هبيرة:
(لعمري لئن عاب أهل العراق * علي انتعاش بني ناجية)
(لأعظم من عتقهم رقهم * وكفي بعتقهم مالية)
(وزايدت فيهم لإطلاقهم * وغاليت إن العلا غاليه)
ذكر أمر الخوارج بعد النهروان
لما قتل أهل النهروان خرج أشرس بن عوف الشيباني علي علي بالدسكرة في مائتين ثم سار إلى الأنبار فوجه إليه علي الأبرش بن حسان في ثلاثمائة فواقعه فقتل أشرس في ربيع الآخرة سنة ثمان وثلاثين.
ثم خرج هلال بن علقمة من تيم الرباب ومعه أخوه مجالد فأتي ماسبذان فوجه إليه علي معقل بن قيس الرياحي فقتله وقتل أصحابه وهم أكثر من مائتين وكان قتلهم في جمادى الأولي سنة ثمان وثلاثين.
ثم خرج الأشهب بن بشر وقيل الأشعث وهو من بجيلة في مائة وثمانين رجلا فأتي المعركة التي أصيب فيها هلال وأصحابه فصلي عليهم ودفن من
372

قدر عليه فوجه إليهم علي جارية بن قدامة السعدي وقيل حجر بن عدي فأقبل إليهم الأشهب فاقتتلا بجرجرايا من أرض جوخى فقتل الأشهب وأصحابه في جمادى الآخرة سنة ثمان وثلاثين.
ثم خرج سعيد بن قفل التيمي من تيم الله بن ثعلبة في رجب بالبندنيجين ومعه مائتا رجل فأتي درزنجان وهي من المدائن علي فرسخين فخرج إليهم سعد بن مسعود فقتلهم في رجب سنة ثمان وثلاثين.
ثم خرج أبو مريم السعدي التميمي فأتي شهرزور وأكثر من معه من الموالي وقيل لم يكن معه من العرب غير ستة نفر هو أحدهم واجتمع معه مائتا رجل وقيل أربعمائة وعاد حتى نزل علي خمسة فراسخ من الكوفة فأرسل إليه علي يدعوه إلى بيعته ودخول الكوفة فلم يفعل وقال ليس بيننا غير الحرب فبعث إليه علي شريح بن هانئ في سبعمائة فحمل الخوارج علي شريح وأصحابه فانكشفوا وبقي شريح في مائتين فانحاز في قرية فتراجع إليه بعض أصحابه ودخل الباقون الكوفة فخرج علي بنفسه وقدم بين يديه جارية بن قدامة السعدي فدعاهم جارية إلى طاعة علي وحذرهم القتل فلم يجيبوا ولحقهم علي أيضا فدعاهم فأبوا عليه وعلي أصحابه فقتلهم أصحاب علي ولم يسلم منهم غير خمسين رجلا استأمنوا فأمنهم وكان في الخوارج أربعون رجلا جرحي فأمر علي بإدخالهم الكوفة ومداواتهم حتى بدأوا وكان قتلهم في شهر رمضان سنة ثمان وثلاثين وكانوا من أشجع من قاتل من الخوارج ولجرأتهم قاربوا الكوفة.
373

ذكر عدة حوادث
وحج بالناس في هذه السنة قثم بن العباس من قبل علي وكان عامله علي مكة، وكان علي اليمن عبيد الله بن عباس وعلي البصرة عبد الله بن عباس وعلي خراسان خليد بن قرة اليربوعي وقيل كان ابن أبزي وأما الشام
ومصر فكان بهما معاوية وعماله.
وفي هذه السنة مات صهيب بن سنان في قول بعضهم وكان عمره سبعين سنة ودفن بالبقيع.
374

39
ثم دخلت سنة تسع وثلاثين
ذكر سرايا أهل الشام إلى بلاد أمير المؤمنين عليه السلام
وفي هذه السنة فرق معاوية جيوشه في العراق في أطراف علي فوجه النعمان بن بشير في ألف رجل إلى عين التمر وفيها مالك بن كعب مسلحة لعلي في ألف رجل وكان مالك قد أذن لأصحابه فأتوا الكوفة ولم يبق معه إلا مائة رجل فلما سمع بالنعمان كتب إلى أمير المؤمنين يخبره ويستمده فخطب علي بالناس وأمرهم بالخروج إليه فتثاقلوا وواقع مالك النعمان وجعل جدار القرية في ظهور أصحابه وكتب مالك إلى مخنف بن سليم يستعينه وهو قريب منه واقتتل مالك والنعمان أشد قتال فوجه مخنف ابنه عبد الرحمن في خمسين رجلا فانتهوا إلى مالك وقد كسروا جفون سيوفهم واستقتلوا فلما رآهم أهل الشام انهزموا عند المساء وظنوا أن لهم مددا وتبعهم مالك فقتل منهم ثلاثة نفر.
ولما تثاقل أهل الكوفة عن الخروج إلى مالك صعد علي المنبر فخطبهم ثم قال يا أهل الكوفة كلما سمعتم بجمع من أهل الشام أظلكم انجحر كل امرئ منكم في بيته وأغلق عليه بابه انجحار الضب في جحره والضبع
375

في وجارها المغرور من غررتموه ومن فاز بكم فاز بالسهم الأخيب لا أحرار عند النداء ولا إخوان عند النجاء! إنا لله وإنا إليه راجعون! ماذا منيت به منكم؟ عمي لا يبصرون، وبكم لا ينطقون وصم لا يسمعون إنا لله وإنا إليه راجعون.
ووجه معاوية في هذه السنة أيضا سفيان بن عوف في ستة آلاف رجل وأمره أن يأتي هيت فيقطعها ثم يأتي الأنبار والمدائن فيوقع بأهلها فأتي هيت فلم يجد بها أحدا ثم أتي الأنبار وفيها مسلحة لعلي تكون خمسمائة رجل وقد تفرقوا ولم يبق منهم إلا مائتا رجل وكان سبب تفرقهم أنه كان عليهم كميل بن زياد فبلغه أن قوما بقرقيسيا يريدون الغارة علي هيت فسار إليهم بغير أمر علي فأتي أصحاب سفيان وكميل غائب عنها فأغضب ذلك عليا علي كميل فكتب إليه ينكر ذلك عليه وطمع سفيان في أصحاب علي لقلتهم فقاتلهم فصبر أصحاب علي ثم قتل صاحبهم وهو أشرس بن حسان البكري وثلاثون رجلا واحتملوا ما في الأنبار من أموال أهلها ورجعوا إلى معاوية وبلغ الخبر عليا في طلبهم فلم يدركوا.
وفيها أيضا وجه معاوية عبد الله بن مسعدة بن حكمة بن مالك بن بدر الفزاري في ألف وسبعمائة رجل إلى تيماء وأمره أن يصدق من مر به من أهل البوادي ويقتل من امتنع من عطائه صدقة ماله ففعل ذلك وبلغ مكة والمدينة وفعل ذلك واجتمع إليه بشر كثير من قومه وبلغ ذلك عليا فأرسل المسيب بن نجبة الفزاري في ألفي رجل فلحق عبد الله بتيماء فاقتتلوا حتى زالت الشمس قتالا شديدا وحمل المسيب علي ابن مسعدة فضربه ثلاث ضربات لا يريد قتله
376

ويقول له: النجاء النجاء! فدخل ابن مسعدة وجماعة معه الحصن وهرب الباقون نحو الشام وانتهت الأعراب إبل الصدقة التي كانت مع ابن مسعدة وحصره ومن معه ثلاثة أيام ثم ألقي الحطب في الباب وحرقه فلما رأوا الهلاك أشرفوا عليه وقالوا يا مسيب قومك فرق لهم وأمر بالنار فأطفئت وقال لأصحابه قد جاءتني عيوني فأخبروني أن جندا قد أتاكم من الشام فقال له عبد الرحمن بن شبيب سرحني في طلبهم فأبي ذلك عليه فقال غششت أمير المؤمنين وداهنت في أمرهم.
وفيها أيضا وجه معاوية الضحاك بن قيس وأمره أن يمر بأسفل واقصة ويغير علي كل من مر به ممن هو في طاعة علي من الأعراب وأرسل ثلاثة آلاف رجل معه فسار الناس وأخذ الأموال ومضي إلى الثعلبية وقتل وأغار علي مسلحة علي وانتهي إلى القطقطانة فلما بلغ ذلك عليا أرسل إليه حجر بن عدي في أربعة آلاف وأعطاهم خمسين درهما خمسين درهما فلحق الضحاك بتدمر فقتل منهم تسعة عشر رجلا وقتل من أصحابه رجلان وحجز بينهما الليل فهرب الضحاك وأصحابه ورجع حجر ومن معه.
* * *
وفي هذه السنة سار معاوية بنفسه حتى شارف دجلة ثم نكص راجعا.
واختلف فيمن حج [بالناس] هذه السنة فقيل حج عبيد الله بن عباس من قبل علي وقيل بل حج عبد الله أخوه وذلك باطل فإن عبد الله بن عباس لم يحج في خلافة علي وإنما كان هذه السنة علي الحج عبيد الله بن عباس وبعث معاوية يزيد بن شجرة الرهاوي فاختلف عبيد الله ويزيد بن شجرة واتفقا علي أن يحج الناس شيبة بن عثمان وقيل إن الذي حج من جانب علي قثم بن العباس وكان عمال علي علي البلاد من تقدم ذكرهم.
377

ذكر مسير يزيد بن شجرة إلى مكة
وفي هذه السنة دعا معاوية يزيد بن شجرة الرهاوي من أصحابه فقال له إني أريد أن أوجهك إلى مكة لتقيم للناس الحج وتأخذ لي البيعة بمكة وتنفي عنها عامل علي.
فأجابه إلى ذلك وسار إلى مكة في ثلاثة آلاف فارس وبها قثم بن العباس عامل علي فلما سمع به قثم خطب أهل مكة وأعلمهم بمسير الشاميين ودعاهم إلى حربهم فلم يجيبوه بشيء وأجابه شيبة بن عثمان العبدري بالسمع والطاعة فعزم قثم علي مفارقة مكة واللحاق ببعض شعابها ومكاتبة أمير المؤمنين بالخبر فإن أمده بالجيوش قاتل الشاميين فنهاه أبو سعيد الخدري عن مفارقة مكة وقال له أقم فإن رأيت منهم القتال وبك قوة فاعمل برأيك وإلا فالمسير عنها أمامك فأقام وقدم الشاميون ولم يعرضوا لقتال أحد وأرسل قثم إلى أمير المؤمنين يخبره فسير جيشا فيهم الريان بن ضمرة بن هوذة بن علي الحنيفي وأبو الطفيل أول ذي الحجة وكان قدوم ابن شجرة قبل التروية بيومين فنادى في الناس أنتم آمنون إلا من قاتلنا ونازعنا واستدعي أبا سعيد الخدري وقال له إني لا أريد الإلحاد في الحرم ولو شئت لفعلت لما كان فيه أميركم من الضعف فقل له يعتزل الصلاة بالناس واعتزلها أنا ويختار الناس رجلا يصلي بهم فقال أبو سعيد لقثم ذلك فاعتزل الصلاة واختار الناس شيبة بن عثمان فصلي بهم وحج بهم فلما قضي الناس حجهم رجع يزيد إلى الشام وأقبل خيل علي فأخبروا بعود أهل الشام فتبعوهم وعليهم معقل بن قيس،
378

فأدركوهم وقد رحلوا عن وادي القري فظفروا بنفر منهم فأخذوهم أسري وأخذوا ما معهم ورجعوا بهم إلى أمير المؤمنين ففادي بهم أسري كانت له عند معاوية.
(الرهاوي منسوب إلى الرها قبيلة من العرب وقد ضبطه عبد الغني بن سعيد بفتح الراء قبيلة مشهورة وأما المدينة فبضم الراء).
ذكر غارة أهل الشام علي أهل الجزيرة
وفيها سير معاوية عبد الرحمن بن قباث بن أشيم إلى بلاد الجزيرة وفيها شبيب بن عامر جد الكرماني الذي كان بخراسان وكان شبيب بنصيبين فكتب إليه كميل بن زياد وهو بهيت يعلمه خبرهم فسار كميل إليه نجدة له في ستمائة فارس فأدركوا عبد الرحمن ومعه معن بن يزيد السلمي فقاتلهما كميل وهزمهما فغلب علي عسكرهما وأكثر القتل في أهل الشام وأمر أن لا يتبع مدبر ولا يجهز علي جريح وقتل من أصحاب كميل رجلان وكتب إلى علي بالفتح فجازاه خيرا وأجابه جوابا حسنا ورضي عنه وكان ساخطا عليه لما تقدم ذكره.
وأقبل شبيب بن عامر من نصيبين فرأى كميلا قد أوقع بالقوم فهنئه بالظفر وأتبع الشاميين فلم يلحقهما فعبر الفرات وبث خيله فأغارت علي أهل الشام حتى بلغ بعلبك فوجه معاوية إليه حبيب بن مسلمة فلم يدركه ورجع شبيب فأغار علي نواحي الرقة فلم يدع للعثمانية به ماشية إلا استاقها ولا خيلا ولا سلاحا إلا أخذه وعاد إلى نصيبين وكتب إلى علي فكتب إليه علي ينهاه عن أخذ أموال الناس إلا الخيل والسلاح الذي يقاتلون به وقال رحم الله شبيبا لقد أبعد الغارة وعجل الإنتصار.
379

ذكر غارة الحارث بن النمر التنوخي
ولما قدم يزيد بن شجرة علي معاوية وجه الحارث بن نمر التنوخي إلى الجزيرة ليأتيه بمن كان في طاعة علي فأخذ من أهل دارا سبعة نفر من بني تغلب وكان جماعة من بني تغلب قد فارقوا عليا إلى معاوية فسألوه في
إطلاق أصحابهم فلم يفعل فاعتزلوه أيضا وكتب معاوية إلى علي ليفاديه بمن أسر معقل بن قيس من أصحاب يزيد بن شجرة فسيرهم علي إلى معاوية وأطلق معاوية هؤلاء وبعث علي رجلا من خثعم يقال له عبد الرحمن إلى ناحية الموصل ليسكن الناس فلقيه أولئك التغلبيون الذين اعتزلوا معاوية وعليهم قريع بن الحارث التغلبي فتشاتموا ثم اقتتلوا فقتلوه فأراد علي أن يوجه إليهم جيشا فكلمته ربيعة وقالوا هم معتزلون لعدوك داخلون في طاعتك وإنما قتلوه خطأ فأمسك عنهم.
ذكر أمر ابن العشبة
بعث معاوية زهير بن مكحول العامري من عامر الأجدر إلى السماوة وأمره أن يأخذ صدقات الناس وبلغ ذلك عليا فبعث ثلاثة نفر جعفر بن عبد الله الأشجعي وعروة بن العشبة والجلاس بن عمير الكلبيين ليصدقوا من في طاعته من كلب وبكر بن وائل فوافوا زهيرا فاقتتلوا فانهزم أصحاب علي وقتل جعفر بن عبد الله ولحق ابن العشبة بعلي فعنفه وعلاه بالدرة فغضب ولحق بمعاوية وكان زهير قد حمل ابن العشبة علي فرس فلذلك اتهمه وأما الجلاس فإنه مر براع فأخذ جبته وأعطاه جبة خز فأدركته الخيل فقالوا أين أخذوا هؤلاء الترابيون فأشار إليهم اخذوا ها هنا ثم أقبل إلى الكوفة.
380

ذكر أمر مسلم بن عقبة بدومة الجندل
وبعث معاوية مسلم بن عقبة المري إلى دومة الجندل وكان أهلها قد امتنعوا من بيعة علي ومعاوية جميعا فدعاهم إلى طاعة معاوية وبيعته فامتنعوا وبلغ ذلك عليا فسير مالك بن كعب الهمداني في جمع إلى دومة الجندل فلم يشعر مسلم إلا وقد وافاه مالك فاقتتلوا يوما ثم انصرف مسلم منهزما وأقام مالك أياما يدعو أهل دومة الجندل إلى البيعة لعلي فلم يفعلوا فقالوا لا نبايع حتى يجتمع الناس علي إمام فانصرف وتركهم.
وفيها توجه الحارث بن مرة العبدي إلى بلاد السند غازيا متطوعا بأمر أمير المؤمنين علي فغنم وأصاب غنائم وسبيا كثيرا وقسم في يوم واحد ألف رأس وبقي غازيا إلى أن قتل بأرض القيقان هو ومن معه إلا قليلا سنة اثنتين وأربعين أيام معاوية.
ذكر ولاية زياد بن أبيه بلاد فارس
وفي هذه السنة ولي علي زيادا كرمان وفارس.
وسبب ذلك أنه لما قتل ابن الحضرمي واختلف الناس علي علي طمع أهل فارس وكرمان في كسر الخراج فطمع أهل كل ناحية وأخرجوا عاملهم وأخرج أهل فارس سهل بن حنيف فاستشار علي الناس فقال له جارية بن قدامة ألا أدلك يا أمير المؤمنين علي رجل صلب الرأي عالم بالسياسة كاف
381

لما ولي؟ قال من هو قال زياد فأمر علي ابن عباس أن يولي زيادا فسيره إليها في جمع كثير فوطئ بهم أهل فارس وكانت قد اضطربت فلم يزل يبعث إلى رؤوسهم يعد من ينصره ويمنيه ويخوف من امتنع عنه وضرب بعضهم ببعض فدل بعضهم علي عورة بعض وهربت طائفة وأقامت طائفة فقتل بعضهم بعضا وصفت له فارس ولم يلق منهم جمعا ولا حربا وفعل مثل ذلك بكرمان ثم رجع إلى فارس وسكن الناس واستقامت له ونزل إصطخر وحصن قلعة تسمي قلعة زياد قريب إصطخر ثم تحصن فيها بعد ذلك منصور اليشكري فهي تسمي قلعة منصور وقيل ابن عباس وأشار بولايته وقد تقدم ذكره.
* * *
وفيها مات أبو مسعود الأنصاري البدري وقيل في أول خلافة معاوية وقيل غير ذلك ولم يشهد بدرا وإنما قيل لا بدري لأنه نزل ماء بدر وانقرض عقبه.
382

40
ثم دخلت سنة أربعين
ذكر سرية بسر بن أبي أرطاة إلى الحجاز واليمن
في هذه السنة بعث معاوية بسر بن أبي أرطاة وهو من عامر بن لؤي في ثلاثة آلاف فسار حتى قدم المدينة وبها أبو أيوب الأنصاري عامل علي عليها فهرب أبو أيوب فأتي عليا بالكوفة ودخل بسر المدينة ولم يقاتله أحد فصعد منبرها فنادى عليه يا دينار يا نجار يا زريق وهذه بطون من الأنصار شيخي شيخي ثم قال والله لولا ما عهد إلى معاوية ما تركت بها محتلما إلا قتلته. فأرسل إلى بني سلمة فقال والله مالكم عندي أمان حتى تأتوني بجابر بن عبد الله فانطلق جابر إلى أم سلمة زوج النبي فقال لها ماذا ترين إن هذه بيعة ضلالة وقد خشيت أن أقتل. قالت أرى أن تبايع فإني قد أمرت ابني عمر وختني ابن زمعة أن يبايعا وكانت ابنتها زينب تحت ابن زمعة فأتاه جابر فبايعه.
وهدم بالمدينة دورا ثم سار إلى مكة فخاف أبو موسى الأشعري أن يقتله فهرب منه وأكره الناس علي البيعة ثم سار إلى اليمن وكان عليها عبيد الله بن عباس عاملا لعلي فهرب منه إلى علي بالكوفة واستخلف علي علي اليمن عبد الله بن عبد المدان الحارثي فأتاه بسر فقتله وقتل ابنه وأخذ ابنين لعبيد الله بن عباس صغيرين هما عبد الرحمن وقثم فقتلهما وكانا عند رجل من كنانة بالبادية فلما أراد قتلهما قال له الكناني لم تقتل هذين ولا
383

ذنب لهما؟ فإن كنت قاتلهما فاقتلني معهما فقتله وقتلهما بعده وقيل إن الكناني أخذ سيفه وقاتل عن الغلامين وهو يقول:
(الليث من يمنع حافات الدار * ولا يزال مصلتا دون الجار)
وقاتل حتى قتل. وأخذ الغلامين فدفنهما فخرج نسوة من بني كنانة فقالت امرأة منهن يا هذا! قتلت الرجال فعلام تقتل هذين والله ما كانوا يقتلون في الجاهلية والإسلام! والله يا بن أرطأة إن سلطانا لا يقوم إلا بقتل الصبي الصغير والشيخ الكبير ونزع الرحمة وعقوق الأرحام لسلطان سوء!
وقتل بسر في مسيره جماعة من شيعة علي باليمن وبلغ عليا الخبر فأرسل جارية بن قدامة السعدي في ألفين ووهب بن مسعود في ألفين فسار جارية حتى أتي نجران فقتل بها ناسا من شيعة عثمان وهرب بسر وأصحابه منه واتبعه جارية حتى أتي مكة فقال بايعوا أمير المؤمنين فقالوا قد هلك فلمن نبايع قال لمن بايع له أصحاب علي فبايعوا خوفا منه.
ثم سار حتى أتي المدينة وأبو هريرة يصلي بالناس فهرب منه فقال جارية لو وجدت أبا سنور لقتلته ثم قال لأهل المدينة بايعوا الحسن بن علي فبايعوه وأقام يومه ثم عاد إلى الكوفة ورجع أبو هريرة يصلي بهم.
وكانت أم ابني عبيد الله أم الحكم جورية بنت خالد بن قارظ وقيل عائشة بنت عبد الله بن عبد المدان فلما قتل ولداها ولهت عليهما فكانت لا تعقل ولا تصفي ولا تزال تنشدهما في المواسم فتقول:
(يا من أحس بابني اللذين هما * كالدرتين تشظي عنهما الصدف)
(يا من أحس بابني اللذين هما * مخ العظام فمخي اليوم مزدهف)
384

(يا من أحس بابني اللذين هما * قلبي وسمعي فقلبي اليوم مختطف)
(من ذل والهة حيرى مدلهة * على صبيين ذلا إذ غدا السلف)
(نبئت بسرا وما صدقت ما زعموا * من إفكهم ومن القول الذي اقترفوا)
(أحني علي ودجي ابني مرهفة * من الشفار كذاك الإثم يقترف)
وهي أبيات مشهورة فلما سمع أمير المؤمنين بقتلهما جزع جزعا شديدا ودعا علي بسر فقال اللهم اسلبه دينه وعقله فأصابه ذلك وفقد عقله فكان يهذي بالسيف ويطلبه فيؤتي بسيف من خشب ويجعل بين يديه زق منفوخ فلا يزال يضربه ولم يزل كذلك حتى مات.
ولما استقر الأمر لمعاوية دخل عليه عبيد الله بن عباس وعنده بسر فقال لبسر وددت أن الأرض أنبتتني عندك حين قتلت ولدي فقال هاك سيفي فأهوي عبيد الله ليتناوله فأخذه معاوية وقال لبسر أخزاك الله شيخا قد خرفت والله لو تمكن منه لبدأ بي! قال عبيد الله أجل ثم ثنيت به.
(سلمة بكسر اللام بطن من الأنصار).
وقيل إن مسير بسر إلى الحجاز كان سنة اثنتين وأربعين فأقام بالمدينة شهرا يستعرض الناس لا يقال له عن أحد إنه شرك في دم عثمان إلا قتله.
وفيها جرت مهادنة بين علي ومعاوية بعد مكاتبات طويلة علي وضع الحرب بينهما ويكون لعلي العراق ولمعاوية الشام لا يدخل أحدهما بلد الآخر بغارة.
385

(بسر بضم الباء الموحدة والسين المهملة زريق بالزاي والراء قبيلة من الأنصار أيضا وجارية بالجيم والراء).
ذكر فراق ابن عباس البصرة
في هذه السنة خرج عبد الله بن عباس من البصرة ولحق بمكة في قول أكثر أهل السير وقد أنكر ذلك بعضهم وقال لم يزل عاملا عليها لعلي حتى قتل علي وشهد صلح الحسين مع معاوية ثم خرج إلى مكة والأول أصح وإنما كان الذي شهد صلح الحسن عبيد الله بن عباس.
وكان سبب خروجه أنه مر بالأسود فقال لو كنت من البهائم لكنت جملا ولو كنت راعيا لما بلغت المرعي فكتب أبو الأسود إلى علي أما بعد فإن الله عز وجل جعلك واليا مؤتمنا وراعيا مستوليا وقد بلوناك فوجدناك عظيم الأمانة ناصحا للرعية توفر لهم فيئهم وتكف نفسك عن دنياهم ولا تأكل أموالهم ولا ترتشي في أحكامهم وإن ابن عمك قد أكل ما تحت يديه بغير علمك ولم يسعني كتمانك رحمك الله فانظر فيما هناك واكتب إلى برأيك فيما أحببت والسلام.
فكتب إليه علي أما بعد فمثلك نصح الإمام والأمة ووالي علي الحق وقد كتبت إلى صاحبك فيما كتبت إلى ولم أعلمه بكتابك فلا تدع إعلامي بما يكون بحضرتك مما النظر فيه صلاح للأمة فإنك بذلك جدير وهو حق واجب عليك والسلام وكتب إلى ابن عباس في ذلك فكتب إليه ابن عباس أما بعد فإن الذي بلغك باطل وإني لما تحت يدي لضابط وله حافظ فلا تصدق الظنين،
386

والسلام فكتب إليه علي أما بعد فأعلمني ما أخذت من الجزية ومن أين أخذت وفيما وضعت فكتب إليه ابن عباس أما بعد فقد فهمت تعظيمك مرزأة ما بلغك إني رزئته من أهل هذه البلاد فابعث إلى عملك من أحببت فإني ظاعن عنه والسلام.
واستدعي أخواله من بني هلال بن عامر فاجتمعت معه قيس كلها فحمل مالا وقال هذه أرزاقنا اجتمعت فتبعه أهل البصرة فلحقوه بالطف يريدون أخذ المال فقالت قيس والله لا يوصل إلينا وفينا عين تطرف. فقال صبرة بن شيمان الحداني يا معشر الأزد إن قيسا إخواننا وجيراننا وأعواننا علي العدو وإن الذي يصيبكم من هذا المال لقليل وهم لكم خير من المال فأطاعوه فانصرفوا وانصرفت معهم بكر وعبد القيس وقاتلهم بنو تميم فنهاهم الأحنف فلم يسمعوا منه فاعتزلهم وحجز الناس بينهم ومضي ابن عباس إلى مكة.
ذكر مقتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام
وفي هذه السنة قتل علي في شهر رمضان لسبع عشرة خلت منه وقيل لإحدى عشرة وقيل لثلاث عشرة بقيت منه وقيل في شهر ربيع الآخر سنة أربعين والأول أصح.
قال أنس بن مالك مرض علي فدخلت عليه وعنده أبو بكر وعمر فجلست عنده فأتاه النبي فنظر في وجهه فقال له أبو بكر
387

وعمر يا نبي الله ما نراه إلا ميتا فقال لن يموت هذا الآن ولن يموت حتى يملأ غيظا ولن يموت إلا مقتولا.
وقيل من غير وجه إن عليا كان يقول ما يمنع أشقاكم أن يخضب هذه من هذه يعني لحيته من دم رأسه.
وقال عثمان بن المغيرة كان علي لما دخل رمضان يتعشى ليلة عند الحسن وليلة عند الحسين وليلة عند أبي جعفر لا يزيد علي ثلاث لقم يقول أحب أن يأتيني أمر الله وأنا خميص وإنما هي ليلة أو ليلتان فلم تمض ليلة حتى قتل.
وقال الحسين بن كثير عن أبيه قال خرج علي من الفجر فأقبل الأوز يصحن في وجهه فطردوهن عنه فقال ذروهن فإنهن نوائح فضربه ابن ملجم في ليلته.
وقال الحسن بن علي يوم قتل علي خرجت البارحة وأبي يصلي في مسجد داره فقال لي يا بني إني بت أوقظ أهلي لأنها ليلة الجمعة صبيحة بدر فملكتني عيناي فنمت فسنح لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله ماذا لقيت من أمتك من الأود واللدد؟ _ قال والأود العوج واللدد الخصومات _ فقال لي: ادع عليهم فقلت اللهم أبدلني بهم من هو خير منهم وأبدلهم بي من هو شر مني.
فجاء ابن النباج فآذنه بالصلاة فخرج وخرجت خلفه فضربه ابن ملجم فقتله وكان عليه السلام إذا رأى ابن ملجم قال:
(أريد حياته ويريد قتلي * عذيرك من خليلك من مراد)
وكان سبب قتله أن عبد الرحمن بن ملجم المرادي والبرك بن عبد الله
388

التميمي الصريمي وقيل اسم البرك الحجاج وعمرو بن بكر التميمي السعدي وهم من الخوارج اجتمعوا فتذاكروا أمر الناس وعابوا عمل ولاتهم ثم ذكروا أهل النهر فترحموا عليهم وقالوا ما نصنع بالبقاء بعدهم فلو شرينا أنفسنا وقتلنا أئمة الضلال وأرحنا منهم البلاد. فقال ابن ملجم أنا أكفيكم عليا وكان من أهل مصر وقال البرك بن عبد الله أنا أكفيكم معاوية وقال عمرو بن بكر أنا أكفيكم عمرو بن العاص.
فتعاهدوا وتواثقوا الله أن لا ينكص أحدهم عن صاحبه الذي توجه إليه حتى يقتله أو يموت دونه وأخذوا سيوفهم فسموها واتعدوا لسبع عشرة تخلو من رمضان، وقصد كل رجل منهم الجهة التي يريد فأتي ابن ملجم الكوفة فلقي أصحابه بالكوفة وكتمهم أمرهم ورأي يوما أصحابا له من تيم الرباب وكان علي قد قتل منهم يوم النهر عدة فتذاكروا قتلي النهر ولقي معهم امرأة من تيم الرباب اسمها قطام وقد قتل أبوها وأخوها يوم النهر وكانت فائقة الجمال فلما رآها أخذت قلبه فخطبها فقالت لا أتزوجك حتى تشتفي لي فقال وما تريدين؟ قالت ثلاثة آلاف وعبدا وقينة وقتل علي فقال أما قتل علي فما أراك ذكرتيه وأنت تريدينني قالت بلي التمس غرته فإن أصبته شفيت نفسك ونفسي ونفعك العيش معي وإن قتلت فما عند الله خير من الدنيا وما فيها قال والله ما جاء بي إلى هذا المصر إلا قتل علي فلك ما سألت قالت سأطلب لك من يشد ظهرك ويساعدك وبعثت إلى رجل من قومها اسمه وردان وكلمته فأجابها وأتى ابن ملجم رجلا من أشجع اسمه شبيب بن بجرة فقال له هل لك في شرف الدنيا والآخرة قال وماذا قال قتل علي قال شبيب ثكلتك أمك لقد جئت شيئا إدا! كيف تقدر على قتله؟ قال:
389

أكمن له في المسجد فإذا خرج إلى صلاة الغداة شددنا عليه فقتلناه فإن نجونا فقد شفينا أنفسنا وإن قتلنا فما عند الله خير من الدنيا وما فيها قال ويحك لو كان غير علي كان أهون قد عرفت سابقته وفضله وبلاءه في الإسلام وما أجدني أنشرح لقتله. قال أما تعلمه قتل أهل النهر العباد الصالحين قال بلي قال فنقتله بمن قتل من أصحابنا فأجابه.
فلما كان يوم الجمعة وهي الليلة التي واعد ابن ملجم أصحابه علي قتل علي وقتل معاوية وعمرو فأخذ سيفه ومعه شبيب ووردان وجلسوا مقابل السدة التي يخرج منها علي للصلاة فلما خرج علي نادى أيها الناس الصلاة الصلاة فضربه شبيب بالسيف فوقع سيفه بعضادة الباب وضربه ابن ملجم على قرنه بالسيف وقال الحكم لله لا لك يا علي ولا لأصحابك! وهرب وردان فدخل منزله فأتاه رجل من أهله فأخبره وردان بما كان فانصرف عنه وجاء بسيفه فضرب به وردان حتى قتله وهرب شبيب في الغلس وصاح الناس فلحقه رجل من حضرموت يقال له عويمر وفي يد شبيب السيف فأخذه وجلس عليه فلما رأى الحضرمي الناس قد أقبلوا في طلبه وسيف شبيب في يده خشي علي نفسه فتركه ونجا وهرب شبيب في غمار الناس.
ولما ضرب ابن ملجم عليا قال لا يفوتنكم الرجل فشد الناس عليه فأخذوه وتأخر علي وقدم جعدة بن هبيرة وهو ابن أخته أم هانئ يصلي بالناس الغداة وقال علي احضروا الرجل عندي فأدخل عليه فقال أي عدو الله ألم أحسن إليك قال بلي قال فما حملك علي هذا قال شحذته أربعين صباحا وسألت الله أن يقتل به شر خلقه. فقال علي لا أراك إلا مقتولا به ولا أراك إلا من شر خلق الله. ثم قال النفس بالنفس،
390

إن هلكت فاقتلوه كما قتلني، وإن بقيت رأيت فيه رأيي يا بني عبد المطلب لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين تقولون قد قتل أمير المؤمنين ألا لا يقتلن إلا قاتلي انظر يا حسن إن أنا مت من ضربتي هذه فاضربه ضربه بضربة ولا تمثلن بالرجل فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور.
هذا كله وابن ملجم مكتوف فقالت له أم كلثوم ابنة علي أي عدو الله لا بأس علي أبي والله مخزيك! قال: فعلي
من تبكين؟ والله إن سيفي اشتريته بألف وسممته بألف ولو كانت هذه الضربة بأهل مصر ما بقي منهم أحد.
ودخل جندب بن عبد الله علي علي فقال إن فقدناك ولا نفقدك فنبايع الحسن؟ قال ما آمركم ولا أنهاكم أنتم أبصر ثم دعا الحسن والحسين فقال لهما أوصيكما بتقوى الله ولا تبغيا الدنيا وإن بغتكما ولا تبكيا علي شيء زوي عنكما وقولا الحق وارحما اليتيم وأعينا الضائع واصنعا للآخرة وكونا للظالم خصيما وللمظلوم ناصرا واعملا بما في كتاب الله ولا تأخذكما في الله لومة لائم.
ثم نظر إلى محمد بن الحنفية فقال هل حفظت ما أوصيت به أخويك قال نعم قال فإني أوصيك بمثله وأوصيك بتوقير أخويك العظيم حقهما عليك وتزين أمرهما ولا تقطع أمرا دونهما ثم قال أوصيكما به فإنه شقيقكما وابن أبيكما وقد علمتما أن أباكما كان يحبه وقال للحسين
391

أوصيك أي بني بتقوى الله وإقام الصلاة لوقتها وإيتاء الزكاة عند محلها وحسن الوضوء فإنه لا صلاة إلا بطهور وأوصيك بغفر الذنب وكظم الغيظ وصلة الرحم والحلم عن الجاهل والتفقه في الدين والتثبت في الأمر والتعاهد للقرآن وحسن الجوار والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واجتناب الفواحش.
ثم كتب وصيته ولم ينطق إلا بلا إله إلا الله حتى مات رضي الله عنه وأرضاه.
وغسله الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر وكفن في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص وكبر عليه الحسن سبع تكبيرات.
فلما قبض بعث الحسن إلى ابن ملجم فأحضره فقال للحسن هل لك في خصلة إني والله قد أعطيت الله عهدا إلا وفيت به وإني عاهدت الله عند الحطيم أن أقتل عليا ومعاوية أو أموت دونهما فإن شئت خليت بيني وبينه فلك الله علي إن لم أقتله ثم بقيت آتيك حتى أضع يدي في يدك فقال له الحسن لا والله حتى تعاين النار ثم قدمه فقتله وأخذه الناس فأدرجوه في بواري وأحرقوه بالنار.
قال عمرو بن الأصم قلت للحسن بن علي إن هذه الشيعة تزعم أن عليا مبعوث قبل القيامة فقال كذب والله هؤلاء الشيعة لو علمنا أنه مبعوث قبل القيامة ما زوجنا نساءه ولا قسمنا ماله أما قوله هذه الشيعة فلا شك
392

أنه يعني طائفة منها فإن كل شيعة لا تقول هذا إنما تقوله طائفة يسيرة منهم ومن مشهوري هذه الطائفة جابر بن يزيد الجعفي الكوفي وقد انقرض القائلون بهذه المقالة فيما نعلمه.
(بجرة بفتح الباء والجيم والبرك بضم الباء الموحدة وفتح الراء وآخره كاف).
* * *
وأما البرك بن عبد الله فإنه قعد لمعاوية في تلك الليلة التي ضرب فيها علي فلما خرج معاوية ليصلي الغداة شد عليه بالسيف فوقع السيف في أليته فأخذ فقال إن عندي خبرا أسرك به فإن أخبرتك فنافعي ذلك [عندك]؟ قال: نعم. قال: إن أخا لي قد قتل عليا هذه الليلة. قال: فلعله لم يقدر علي ذلك قال: بلي، إن عليا ليس معه أحد يحرسه فأمر به معاوية فقتل.
وبعث معاوية إلى الساعدي وكان طبيبا فلما نظر إليه قال اختر إما أن أحمي حديدة فأضعها موضع السيف وإما أن أسقيك شربة تقطع منك الولد وتبرأ منها فإن ضربتك مسمومة. فقال معاوية أما النار فلا صبر لي عليها وأما الولد فإن في يزيد وعبد الله ما تقر به عيني فسقاه شربة فبرئ ولم يولد له ولد بعدها.
وأمر معاوية عند ذلك بالمقصورات وحرس الليل وقيام الشرط علي رأسه إذا سجد وهو أول من عملها في الإسلام. وقيل إن معاوية لم يقتل البرك وإنما أمر فقطعت يده ورجله وبقي إلى أن ولي زياد البصرة وكان البرك قد صار إليها وولد له فقال له زياد يولد لك وتركت أمير المؤمنين لا يولد له فقتله وصلبه.
* * *
393

وأما عمرو بن بكر فإنه جلس لعمرو بن العاص تلك الليلة فلم يخرج وكان اشتكي بطنه فأمر خارجة بن أبي حبيبة وكان صاحب شرطته وهو من بني عامر بن لؤي فخرج ليصلي بالناس فشد عليه وهو يري أنه عمرو بن العاص فضربه فقتله فأخذه الناس إلى عمرو فسلموا عليه بالإمرة فقال من هذا قالوا عمرو قال فمن قتلت قالوا خارجة قال أما والله يا فاسق ما ظننته غيرك فقال عمرو أردتني وأراد الله خارجة فقدمه عمرو فقتله.
قال ولما بلغ عائشة قتل علي قالت:
(فألقت عصاها واستقر بها النوى * كما قر عينا بالإياب المسافر)
ثم قالت من قتله فقيل رجل من مراد فقالت:
(فإن يك نائيا فقد نعاه * نعي ليس في فيه التراب)
فقالت زينب بنت أبي سلمة أتقولين هذا لعلي فقالت إنني أنسي فإذا نسيت فذكروني وقال ابن أبي مياس المرادي:
(فنحن ضربنا يا لك الخير حيدرا * أبا حسن مأمومة فتفطرا)
(ونحن خلعنا ملكه من نظامه * بضربة سيف إذا علا وتجبرا)
(ونحن كرام في الصباح أعزة * إذا المرء بالموت ارتدي وتأزرا)
وقال أيضا:
394

(ولم أر مهرا ساقه ذو سماحة * كمهر قطام بين عرب ومعجم)
(ثلاثة آلاف وعبد وقينة * وضرب علي بالحسام المصمم)
(فلا مهر أغلي من علي وإن غلا * ولا فتك إلا دون فتك ابن ملجم)
وقال أبو الأسود الدؤلي في قتل علي:
(ألا أبلغ معاوية بن حرب * فلا قرت عيون الشامتينا)
(أفي شهر الصيام فجعتمونا * بخير الناس طرا أجمعينا)
(قتلتم خير من ركب المطايا * ورحلها ومن ركب السفينا)
(ومن لبس النعال ومن حذاها * ومن قرأ المثاني والمبينا)
(إذا استقبلت وجه أبي حسين * رأيت البدر راع الناظرينا)
(لقد علمت قريش حيث كانت * بأنك خيرها حسبا ودينا)
وقال بكر بن حسان الباهري:
(قل لابن ملجم والأقدار غالبة * هدمت للدين والإسلام أركانا)
(قتلت أفضل من يمشي علي قدم * وأعظم الناس إسلاما ودينا)
(وأعلم الناس بالقرآن ثم بما * سن الرسول لنا شرعا وتبيانا)
(صهر النبي ومولاه وناصره * أضحت مناقبه نورا وبرهانا)
(وكان منه علي رغم الحسود له * مكان هارون من موسى بن عمرانا)
(قد كان يخبرهم هذا بمقتله * قبل المنية أزمانا فأزمانا)
(ذكرت قاتله والدمع منحدر * فقلت سبحان رب العرش سبحانا)
(إني لأحسبه ما كان من أنس * كلا ولكنه قد كان شيطانا)
395

(قد كان يخبرهم [هذا] بمقتله * قبل المنية أزمانا فأزمانا)
(فلا عفا الله عنه سوء فعلته * ولا سقي قبر عمران بن حطانا)
(يا ضربة من شقي ما أراد بها * إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا)
(بل ضربة من غوي أوردته لظى * وسوف يلقي بها الرحمن غضبانا)
(كأنه لم يرد قصدا بضربته * إلا ليصلى عذاب الخلد نيرانا)
ذكر مدة خلافته ومقدار عمره
وقد قال بعضهم كانت خلافته خمس سنين إلا ثلاثة أشهر وكان عمره ثلاثا وستين سنة وقيل كان عمره تسعا وخمسين وقيل خمسا وستين وقيل ثمانيا وخمسين والأول أصح.
ولما قتل دفن عند مسجد الجماعة وقيل في القصر وقيل غير ذلك والأصح أن قبره هو الموضع الذي يزار ويتبرك به.
ذكر نسبه وصفته ونسائه وأولاده
كان آدم شديد الأدمة ثقيل العينين عظيمهما ذا بطن أصلع عظيم اللحية كثير شعر الصدر هو إلى القصر أقرب وقيل كان فوق الربعة وكان ضخم عضلة الذراع دقيق مستدقها، ضخم عضلة الساق، دقيق
396

مستدقها وكان من أحسن الناس وجها ولا يغير شيبه كثير التبسم.
وأما نسبه فهو علي بن أبي طالب واسم أبي طالب عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف وهو أول خليفة أبواه هاشميان ولم يل الخلافة إلى وقتنا هذا من أبواه هاشميان غيره وغير الحسن ولده ومحمد الأمين فإن أباه هارون الرشيد وأمه زبيدة بنت جعفر بن المنصور.
وأما أزواجه فأول زوجة تزوجها فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتزوج عليها حتى توفيت عنده وكان له منها الحسن والحسين وقد ذكر أنه كان له منها ابن آخر يقال له محسن وأنه توفي صغيرا وزينب الكبرى وأم كلثوم الكبرى ثم تزوج بعدها أم البنين بنت حرام الكلابية فولدت له العباس وجعفرا وعبد الله وعثمان قتلوا مع الحسين بالطف ولا بقية لهم غير العباس وتزوج ليلي بنت مسعود بن خالد النهشلية التميمية فولدت له عبيد الله وأبا بكر قتلا مع الحسين وقيل إن عبيد الله قتله المختار بالمذار وقيل لا بقية لهما وتزوج أسماء بنت عميس الخثعمية فولدت له محمد الأصغر ويحيي ولا عقب لهما وقيل إن محمدا لأم ولد وقتل مع الحسين وقيل إنها ولدت له عونا وله من الصهباء بنت ربيعة التغلبية وهي من السبي الذين أغار عليهم خالد بن الوليد بعين التمر وولدت له عمر بن علي ورقية بنت علي فعمر عمر حتى بلغ خمسا وثمانين فحاز نصف ميراث علي ومات بينبع وتزوج علي أمامة بنت أبي العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس وأمها زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فولدت له محمدا الأوسط، وله محمد
397

ابن علي الأكبر الذي يقال له ابن الحنفية أمه خولة بنت جعفر من بني حنيفة وتزوج علي أيضا أم سعيد ابنة عروة بن مسعود الثقفية فولدت له أم الحسن ورملة الكبرى وأم كلثوم وكان له بنات من أمهات شتى لم يذكرن لنا منهن أم هانئ وميمونة وزينب الصغرى ورملة الصغرى وأم كلثوم الصغرى وفاطمة وأمامة وخديجة وأم الكرام وأم سلمة وأم جعفر وجمانة ونفيسة كلهن من أمهات أولاد وتزوج أيضا مخبئة بنت امرئ القيس بن عدي الكلبية فولدت له جارية هلكت صغيرة وكانت تخرج إلى المسجد فيقال لها من أخوالك فتقول وه وه تعني كلبا.
فجميع ولده أربعة عشر ذكرا وسبع عشر امرأة وكان النسل منهم للحسن والحسين ومحمد بن الحنفية والعباس ابن الكلابية وعم ابن التغلبية.
ذكر عماله
وكان عامله علي البصرة هذه السنة عبد الله بن عباس وقد ذكرنا الاختلاف في أمره وكان إليه الصدقات والجند والمعاون أيام ولايته كلها وكان علي قضائها من قبل علي أبو الأسود الدؤلي وكان علي فارس زياد وقد ذكرنا مسيره إليها وكان علي اليمن عبيد الله بن عباس حتى كان من أمره وأمر بسر بن أرطاة ما ذكر وكان علي الطائف ومكة وما اتصل بذلك قثم بن عباس وكان علي المدينة أبو أيوب الأنصاري وقيل سهل بن حنيف وكان عند قدوم بسر عليه من أمره ما كان وذكر.
398

ذكر بعض سيرته
كان أبو رافع مولي رسول الله صلى الله عليه وسلم خازنا لعلي علي بيت المال فدخل علي يوما وقد زينت ابنته فرأى عليها لؤلؤة كان عرفها لبيت المال فقال من أين لها هذه لأقطعن يدها فلما رأى أبو رافع جده في ذلك فقال أنا والله يا أمير المؤمنين زينتها بها فقال علي لقد تزوجت بفاطمة ومالي فراش إلا جلد كبش ننام عليه بالليل ونعلف عليه ناضحنا بالنهار ومالي خادم غيرها.
قال ابن عباس قسم علم الناس خمسة أجزاء فكان لعلي منها أربعة أجزاء ولسائر الناس جزء شاركهم علي فيه فكان أعلمهم به.
وقال أحمد بن حنبل ما جاء لأحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ما جاء لعلي.
وقال عمرو بن ميمون لما ضرب عمر بن الخطاب وجعل الخلافة في الستة من الصحابة فلما خرجوا من عنده قال إن يولوها الأجلح يسلك بهم الطريق فقال له ابنه عبد الله فما يمنعك يا أمير المؤمنين من توليته قال أكره أن أتحملها حيا وميتا.
وقال عاصم بن كليب عن أبيه قدم علي علي مال من أصبهان فقسمه علي سبعة أسهم فوجد فيه رغيفا فقسمه علي سبعة ودعا أمراء الأسباع فأقرع بينهم لينظر أيهم يعطي أولا.
وقال هارون بن عنترة عن أبيه دخلت علي علي بالخورنق وهو فصل
399

شتاء وعليه خلق قطيفة وهو يرعد فيه فقلت يا أمير المؤمنين إن الله قد جعل لك ولأهلك في هذا المال نصيبا وأنت تفعل ذلك هذا بنفسك فقال والله ما أرزأكم شيئا وما هي إلا قطيفتي التي أخرجتها من المدينة.
وقال يحيي بن سلمة استعمل علي عمرو بن سلمة علي أصبهان فقدم ومعه مال وزقاق فيها عسل وسمن فأرسلت أم كلثوم بنت علي إلى عمرو تطلب منه سمنا وعسلا فأرسل إليها ظرف عسل وظرف سمن فلما كان الغد خرج علي وأحضر المال والعسل والسمن ليقسم فعد الزقاق فنقصت زقين فسأله عنهما فكتمه وقال نحن نحضرهما فعزم عليه إلا ذكرهما فأرسل إلى أم كلثوم فأخذ الزقين منها فرآهما قد نقصا فأمر التجار بتقويم ما نقص منها فكان ثلاثة دراهم فأرسل إليها فأخذها منها ثم قسم الجميع.
قيل وخرج من همذان فرأى رجلان يقتتلان ففرق بينهما ثم مضي فسمع صوتا يا غوثاه بالله فخرج يحضر نحوه وهو يقول أتاك الغوث فإذا رجل يلازم رجلا فقال يا أمير المؤمنين بعث هذا ثوبا بسبعة دراهم وشرطت ان لا يعطيني مغموزا ولا مقطوعا وكان شرطهم يومئذ فأتاني بهذه الدراهم فأتيت ولزمته فلطمني فقال للاطم ما تقول فقال صدق يا أمير المؤمنين فقال أعطه شرطه فأعطاه وقال للملطوم اقتص قال أو أعفو يا أمير المؤمنين قال ذلك إليك ثم قال يا معشر المسلمين خذوه فأخذه فحمل علي ظهر رجل كما يحمل صبيان الكتاب ثم ضربه خمس عشرة درة وقال هذا نكال لما انتهكت من حرمته.
ولما قتل علي عليه السلام قام ابنه الحسن خطيبا فقال لقد قتلتم الليلة رجلا في ليلة نزل فيها القرآن وفيها رفع عيسى وفيها قتل يوشع بن نون والله ما سبقه أحد كان قبله ولا يدركه أحد يكون بعده والله إن كان رسول الله صلى الله
400

عليه وسلم، يبعثه في السرية وجبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره والله ما ترك صفراء ولا بيضاء إلا ثمانمائة أو سبعمائة أرصدها لجارية.
وقال سفيان إن عليا لم يبن آجرة علي آجرة ولا لبنة علي لبنة ولا قصبة علي قصبة وإن كان ليؤتي بحبوبه من المدينة في جراب.
وقيل إنه أخرج سيفا له إلى السوق فباعه وقال لو كان عندي أربعة دراهم ثمن إزار لم أبعه وكان لا يشتري ممن يعرفه وإذا اشتري قميصا قدر كمه علي طول يده وقطع الباقي وكان يختم علي الجراب الذي فيه دقيق الشعير الذي يأكل منه ويقول لا أحب أن يدخل بطني إلا ما أعلم.
وقال الشعبي وجد علي درعا له عند نصراني فأقبل به إلى شريح وجلس إلى جانبه وقال لو كان خصمي مسلما لساويته وقال هذه درعي فقال النصراني ما هي إلا درعي ولم يكذب أمير المؤمنين فقال شريح لعلي ألك بينة قال لا وهو يضحك فأخذ النصراني الدرع ومشي يسيرا ثم عاد وقال أشهد أن هذه أحكام الأنبياء أمير المؤمنين قدمني إلى قاضيه وقاضيه يقضي عليه ثم أسلم واعترف أن الدرع سقطت من علي عند مسيره إلى صفين ففرح علي بإسلامه ووهب له الدرع وفرسا وشهد معه قتال الخوارج. وقيل إن عليا رؤي وهو يحمل في ملحفته تمرا قد اشتراه بدرهم فقيل له يا أمير المؤمنين ألا نحمله عنك فقال أبو العيال أحق بحمله.
وقال الحسن بن صالح تذاكروا الزهاد عند عمر بن عبد العزيز فقال عمر أزهد الناس في الدنيا علي بن أبي طالب.
وقال المدائني نظر علي إلى قوم ببابه فقال لقنبر مولاه من هؤلاء؟
401

قال شيعتك يا أمير المؤمنين قال وما لي لا أرى فيهم سيما الشيعة قال وما سيماهم قال خمص البطون من الطوى
يبس الشفاه من الظماء عمش العيون من البكاء.
ومناقبه لا تحصى قد جمعت قضاياه في كتاب منفرد.
ذكر بيعة الحسن بن علي
وفي هذه السنة أعني سنة أربعين بويع الحسن بن علي بعد قتل أبيه وأول من بايعه قيس بن سعد الأنصاري وقال له ابسط يدك أبيعك علي كتاب الله عز وجل وسنة نبيه وقتال المحليين فقال له الحسن علي كتاب الله وسنة رسوله فإنهما يأتيان علي كل شرط فبايعه الناس وكان الحسن يشترط عليهم إنكم مطيعون تسالمون من سالمت وتحاربون من حاربت فارتابوا لذلك وقالوا ما هذا لكم بصاحب وما يريد هذا القتال.
ذكر عدة حوادث
حج بالناس هذه السنة المغيرة بن شعبة وافتعل كتابا علي لسان معاوية فيقال إنه عرف بيوم التروية ونحر يوم عرفة خوفا أن يفطن لفعله وقيل فعل ذلك لأنه بلغه أن عتبة بن أبي سفيان مصبحه واليا علي الموسم.
فعجل الحج من أجل ذلك وفيها بويع معاوية بالخلافة ببيت المقدس وكان قبل ذلك يدعي بالأمير
402

في بلاد الشام فلما قتل علي دعي بأمير المؤمنين هكذا قال بعضهم وقد تقدم أنه بويع بالخلافة بعد اجتماع الحكمين، والله أعلم.
و كانت خلافة الحسن ستة أشهر.
وفيها مات الأشعث بن قيس الكندي بعد قتل علي بأربعين ليلة وصلي عليه الحسن بن علي وفيها مات حسان بن ثابت وأبو رافع مولي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما من الصحابة وفيها مات شرحبيل بن السمط الكندي وهو من أصحاب معاوية، قيل له صحبة، وقيل لا صحبة له وفي أول خلافة علي مات جهجهاه الغفاري له صحبه. وفيها مات الحارث بن خزيمة الأنصاري شهد بدرا وأحدا وغيرهما وفيها مات خوات بن جبير الأنصاري بالمدينة وكان قد خرج مع النبي إلى بدر فرجع لعذر فضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه وهو صاحب ذات النحيين وفي خلافة علي مات قرظة بن كعب الأنصاري بالكوفة وقيل بل مات في إمارة المغيرة علي الكوفة لمعاوية وشهد أحدا وغيرها وشهد سائر المشاهد مع علي، ومات معاذ بن عفراء الأنصاري في أول خلافة علي وهو بدري شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي خلافته مات أبو لبابة بن عبد المنذر الأنصاري وكان نقيبا شهد بدرا وقيل بل استخلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم علي المدينة ورده من طريق بدر وضرب له بسهمه وفيها توفي معيقيب بن أبي فاطمة الدوسي له صحبة قديم الإسلام هاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية وكان علي خاتم النبي وكان مجذوما واستعمله أبو بكر وعمر علي بيت المال وكان معه الخاتم أيام عثمان فمن يده وقع الخاتم وقيل أنه توفي آخر خلافة عثمان.
403

41
ثم دخلت سنة إحدى وأربعين
ذكر تسليم الحسن بن علي الخلافة إلى معاوية
كان أمير المؤمنين علي قد بايعه أربعون ألفا من عسكره علي الموت لما ظهر ما كان يخبرهم به عن أهل الشام فبينما هو يتجهز للمسير قتل عليه السلام وإذا أراد الله أمرا فلا مرد له فلما قتل وبايع الناس ولده الحسن بلغه مسير معاوية في أهل الشام إليه فتجهز والجيش الذين كانوا بايعوا عليا وسار عن الكوفة إلى لقاء معاوية وكان قد نزل مسكن فوصل الحسن إلى المدائن وجعل قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري علي مقدمته في اثني عشر ألفا وقيل بل كان الحسن قد جعل علي مقدمته عبد الله بن عباس فجعل عبد الله علي مقدمته في الطلائع قيس بن سعد بن عبادة فلما نزل الحسن المدائن نادى مناد في العسكر ألا إن قيس بن سعد قتل فانفروا فنفروا فنفروا بسرداق الحسن فنهبوا متاعه حتى نازعوه بساطا كان تحته فازداد لهم بغضا ومنهم ذعرا ودخل المقصورة البيضاء بالمدائن وكان الأمير علي المدائن سعد بن مسعود الثقفي عم المختار بن أبي عبيد فقال له المختار وهو شاب هل لك في الغني والشرف قال وما ذاك قال تستوثق من الحسن وتستأمن به إلى معاوية فقال له عمه عليك لعنة الله أثب علي ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوثقه بئس الرجل أنت!
404

فلما رأى الحسن تفرق الأمر عنه كتب إلى معاوية وذكر شروطا وقال له إن أنت أعطيتني هذا فأنا سميع مطيع وعليك أن تفي له به وقال لأخيه الحسن وعبد الله بن جعفر إنني قد راسلت معاوية في الصلح فقال له الحسين أنشدك الله أن لا تصدق أحدوثة معاوية وتكذب أحدوثة أبيك فقال له الحسن أسكت أنا اعلم بالأمر منك.
فلما انتهي كتاب الحسن إلى معاوية أمسكه وكان قد أرسل عبد الله بن عامر وعبد الرحمن بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس إلى الحسن قبل وصول الكتاب ومعهما صحيفة بيضاء مختوم علي أسفلها وكتب إليه أن اشترط في هذه الصحيفة التي ختمت أسفلها ما شئت فهو لك.
فلما أتت الصحيفة إلى الحسن اشترط أضعاف الشروط التي سأل معاوية قبل ذلك وأمسكها عنده فلما سلم الحسن الأمر إلى معاوية طلب أن يعطيه الشروط التي في الصحيفة التي ختم عليها معاوية فأبي ذلك معاوية وقال له قد أعطيتك ما كنت تطلب فلما اصطلحا قام الحسن في أهل العراق فقال يا أهل العراق إنه سخي بنفسي عنكم ثلاث قتلكم أبي وطعنكم إياي وانتهابكم متاعي.
وكان الذي طلب الحسن من معاوية أن يعطيه ما في بيت مال الكوفة ومبلغه خمسة آلاف وخراج دار ابجرد من فارس وأن لا يشتم عليا فلم يجبه إلى الكف عن شتم علي فطلب أن لا يشتم وهو يسمع فأجابه إلى ذلك ثم لم يف له به أيضا، وأما خراج دارابجرد فإن أهل البصرة منعوه منه وقالوا هو فيئنا لا نعطيه أحدا وكان منعهم بأمر معاوية أيضا.
وتسلم معاوية الأمر لخمس بقين من ربيع الأول من هذه السنة، وقيل:
405

في ربيع الآخر، وقيل في جمادى الأولى، وقيل إنما سلم الحسن الأمر إلى معاوية لأنه لما راسله معاوية في تسليم الخلافة إليه خطب الناس فحمد الله وأثني عليه وقال إنا لله ما يثنينا عن أهل الشام شك ولا ندم وإنما كنا نقاتل أهل الشام بالسلامة والصبر فشيبت السلامة بالعداوة والصبر بالجزع وكنتم في مسيركم إلى صفين ودينكم أمام دنياكم وأصبحتم اليوم ودنياكم أمام دينكم ألا وقد أصبحتم بين قتيلين قتيل بصفين تبكون له وقتيل بالنهر وإن تطلبون بثأره وأما الباقي فخاذل وأما الباكي فثائر ألا وإن معاوية دعانا لأمر ليس فيه عز ولا نصفة فإن أردتم الموت رددناه عليه وحاكمناه إلى الله عز وجل بظبا السيوف وإن أردتم الحياة قبلناه وأخذنا لكم الرضى.
فناداه الناس من كل جانب البقية البقية وأمض الصلح.
ولما عزم علي تسليم الأمر إلى معاوية خطب الناس فقال: أيها الناس إنما نحن أمراؤكم وضيفانكم ونحن أهل بيت نبيكم الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا وكرر ذلك حتى ما بقي في المجلس إلا من بكي حتى سمع نشيجه فلما ساروا إلى معاوية في الصلح فاصطلحا علي ما ذكرناه وسلم إليه الحسن الأمر.
وكانت خلافة الحسن علي قول من يقول إنه سلم الأمر في ربيع الأول خمسة أشهر ونحو نصف شهر وعلي قول من يقول في ربيع الآخر يكون ستة أشهر وشيئا وعلي قول من يقول في جمادى الأولى يكون سبعة أشهر وشيئا والله تعالى أعلم.
ولما اصطلحا وبايع الحسن معاوية دخل معاوية الكوفة وبايعه الناس وكتب
406

الحسن إلى قيس بن سعد وهو علي مقدمته في اثني عشر ألفا يأمره بالدخول في طاعة معاوية فقام قيس في الناس فقال أيها الناس اختاروا الدخول في طاعة إمام ضلالة أو القتال مع غير إمام فقال بعضهم بل نختار الدخول في طاعة إمام ضلالة فبايعوا معاوية أيضا فانصرف قيس فيمن تبعه علي ما نذكره.
ولما دخل معاوية الكوفة قال له عمرو بن العاص ليأمر الحسن أن يقوم فيخطب الناس ليظهر لهم عيه فخطب معاوية الناس ثم أمر الحسن أن يخطبهم فقام فحمد الله بديهة ثم قال أيها الناس إن الله قد هداكم بأولنا وحقن دماءكم بآخرنا وإن لهذه الأمر مدة والدنيا دول وإن الله عز وجل قال لنبيه (وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين) فلما قاله قال له معاوية اجلس وحقدها علي عمرو وقال هذا من رأيك.
ولحق الحسن بالمدينة وأهل بيته وحشمهم وجعل الناس يبكون عند مسيرهم من الكوفة.
قيل للحسن ما حملك علي ما فعلت فقال كرهت الدنيا ورأيت أهل الكوفة قوما لا يثق بهم أحد أبدا إلا غلب ليس
أحد منهم يوافق في رأي ولا هواء مختلفين لا نية لهم في خير ولا شر لقد لقي أبي منهم أمورا عظاما فليت شعري لمن يصلحون بعدي وهي أسرع البلاد خربا!
ولما سار الحسن من الكوفة عرض له رجل فقال له يا مسود وجوه المسلمين فقال لا تعذلني فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في المنام بني أمية ينزون علي منبره رجلا فرجلا فساءه ذلك فأنزل الله عز وجل (إنا أعطيناك الكوثر) وهو نهر في الجنة (وإنا أنزلناه في ليلة القدر) إلى قوله تعالى (خير من ألف شهر) يملكها بعدك بنو أمية!
407

ذكر صلح معاوية وقيس بن سعد
وفيها جري الصلح بين معاوية وقيس بن سعد وكان قيس امتنع من ذلك وسبب امتناعه أن عبيد الله بن عباس لما علم بما يريده الحسن من تسليم الأمر إلى معاوية كتب إلى معاوية يسأله الأمان لنفسه علي ما أصاب من مال وغيره فأجابه إلى ذلك وأرسل عبد الله بن عامر في جيش كثيف فخرج إليهم عبيد الله ليلا وترك جنده الذين هو عليهم بغير أمير وفيهم قيس بن سعد فأمر ذلك الجند عليهم قيس بن سعد وتعاقد هو وهم علي قتال معاوية حتى يشترط لشيعة علي ولمن كان معه علي دمائهم وأموالهم.
وقيل إن قيسا كان هو الأمير علي ذلك الجيش في المقدمة علي ما ذكرنا وكان شديد الكراهة لإمارة معاوية بن أبي سفيان فلما بلغه أن الحسن بن علي صالح معاوية اجتمع معه جمع كثير وبايعوه علي قتال معاوية حتى يشترط لشيعة علي علي دمائهم وأموالهم وما كانوا أصابوا في الفتنة فراسله معاوية يدعوه إلى طاعته وأرسل إليه بسجل وختم علي أسفله وقال له اكتب في هذا ما شئت فهو لك فقال عمرو لمعاوية لا تعطيه هذا وقاتله فقال معاوية علي رسلك فإنا لا نخلص إلى قتلهم حتى يقتلوا أعدادهم من أهل الشام فما خير العيش بعد ذلك فإني والله لا أقاتله أبدا حتى لا أجد من قتاله بدا.
فلما بعث إليه معاوية ذلك السجل اشترط قيس له ولشيعة علي الأمان علي ما أصابوا من الدماء والأموال ولم يسأل في سجله ذلك مالا وأعطاه معاوية ما سأل ودخل قيس ومن معه في طاعته.
وكانوا يعدون دهاة الناس حين ثارت الفتنة خمسة يقال إنهم ذوو رأي العرب ومكيدتهم معاوية وعمرو والمغيرة بن شعبة وقيس بن سعد
408

وعبد الله بن بديل الخزاعي وكان قيس وابن بديل مع علي وكان المغيرة معتزلا بالطائف ولما استقر الأمر لمعاوية دخل عليه سعد بن أبي وقاص فقال السلام عليك أيها الملك فضحك معاوية وقال ما كان عليك يا أبا إسحاق لو قلت يا أمير المؤمنين فقال أتقولها جذلان ضاحكا والله ما أحب أني وليتها بما وليتها به!
ذكر خروج الخوارج علي معاوية
قد ذكرنا فيما تقدم اعتزال فروة بن نوفل الأشجعي في خمسمائة من الخوارج ومسيرهم إلى شهرزور وتركوا قتال علي والحسن فلما سلم الأمر الحسن الأمر إلى معاوية قالوا قد جاء الآن ما لا شك فيه فسيروا إلى معاوية فجاهدوه فأقبلوا وعليهم فروة بن نوفل حتى حلوا بالنخيلة عند الكوفة وكان الحسن بن علي قد سار يريد المدينة فكتب إليه معاوية يدعوه إلى قتال فروة فلحقه رسوله بالقادسية أو قريبا منها فلم يرجع وكتب إلى معاوية لو آثرت أقاتل أحدا من أهل القبلة لبدأت بقتالك فإني تركتك لصلاح الأمة وحقن دمائها.
فأرسل إليهم معاوية جمعا من أهل الشام فقاتلوهم فانهزم أهل الشام فقال معاوية لأهل الكوفة والله لا أمان لكم عندي حتى تكفوهم فخرج أهل الكوفة فقاتلوهم فقالت لهم الخوارج أليس معاوية عدونا وعدوكم دعونا حتى نقاتله فإن أصبناه كنا قد كفيناكم عدوكم وإن أصابنا كنتم قد كفيتمونا فقالوا لا بد لنا من قتالكم فأخذت أشجع صاحبهم فروة فحادثوه ووعظوه فلم يرجع فأخذوه قهرا وأدخلوه الكوفة فاستعمل الخوارج
409

عليهم عبد الله بن أبي الحوساء رجلا من طيئ فقاتلهم أهل الكوفة فقتلوهم في ربيع الأول وقيل في ربيع الآخر وقتل ابن أبي الحوساء وكان ابن أبي الحوساء حين ولي أمر الخوارج قد خوف من السلطان أن يصلبه فقال:
(ما أن أبالي إذا أرواحنا قبضت * ماذا فعلتم بأوصال وأبشار)
(تجري المجرة والنسران عن قدر * والشمس والقمر الساري بمقدار)
(وقد علمت وخير القول أنفعه * أن السعيد الذي ينجو من النار)
ذكر خروج حوثرة بن وداع
ولما قتل ابن أبي الحوساء اجتمع الخوارج فولوا أمرهم حوثرة بن وداع بن مسعود الأسدي فقام فيهم وعاب فروة بن نوفل لشكه في قتال علي ودعا الخوارج وسار من براز الروز وكان بها حتى قدم النخيلة في مائة وخمسين وانضم إليه فل بن أبي الحوساء وهم قليل فدعا معاوية أبا حوثرة فقال له أخرج إلى ابنك فلعله يرق إذا رآك فخرج إليه وكلمه وناشده وقال ألا أجيئك بابنك فلعلك إذا رأيته كرهت فراقه فقال أنا إلى طعنه من يد كافر برمح أتقلب فيه ساعة أشوق مني إلى ابني فرجع أبوه فأخبر معاوية بقوله فسير معاوية إليهم عبد الله بن عوف الأحمر في ألفين وخرج أبو حوثرة فيمن خرج فدعا ابنه إلى البراز فقال يا أبت لك في غيري سعة وقاتلهم ابن عوف وصبروا وبارز حوثرة عبد الله بن عوف فطعنه ابن عوف فقتله وقتل
410

أصحابه إلا خمسين رجلا دخلوا الكوفة وذلك في جمادى الآخرة سنة إحدى وأربعين ورأي ابن عوف بوجه حوثرة أثر السجود وكان صاحب عبادة فندم علي قتله وقال:
(قتلت أخا بني أسد سفاها * لعمر أبي فما لقيت رشدي)
(قتلت مصليا محياء ليل * طويل الحزن ذا بر وقصد)
(قتلت أخا تقي لأنال دنيا * وذاك لشقوتي وعثار جدي)
(فهب لي توبة يا رب واغفر * لما قارفت من خطأ وعمد)
ذكر خروج فروة بن نوفل ومقتله
ثم أن فروة بن نوفل الأشجعي خرج علي المغيرة بن شعبة بعد مسير معاوية فوجه إليه المغيرة خيلا عليها شبث بن ربعي ويقال معقل بن قيس فلقيه بشهرزور فقتله وقيل قتل ببعض السواد.
ذكر شبيب بن بجرة
كان شبيب مع ابن ملجم حين قتل عليا فلما دخل معاوية الكوفة أتاه شبيب كالمتقرب إليه فقال أنا وابن ملجم قتلنا عليا فوثب معاوية من مجلسه مذعورا حتى دخل منزله وبعث إلى أشجع وقال لئن رأيت شبيبا أو بلغني أنه ببابي لأهلكنهم أخرجوه عن بلدكم وكان شبيب إذا جن عليه الليل
411

خرج فلم يلق أحدا إلا قتله فلما ولي المغيرة الكوفة خرج عليه بالطف قريب الكوفة فبعث إليه المغيرة خيلا عليها خالد بن عرفطة وقيل معقل بن قيس فاقتتلوا فقتل شبيب وأصحابه.
ذكر معين الخارجي
وبلغ المغيرة أن معين بن عبد الله يريد الخروج وهو رجل من محارب وكان اسمه معنا فصغر فأرسل إليه وعنده جماعة فأخذ وحبس وبعث المغيرة إلى معاوية يخبره أمره فكتب إليه إن شهد أني خليفة فخل سبيله فأحضره المغيرة وقال له أتشهد أن معاوية خليفة وأنه أمير المؤمنين فقال أشهد أن الله عز وجل حق وإن الساعة آتية لا ريب فيها وإن الله يبعث من في القبور فأمر به فقتل قبيصة الهلالي فلما كان أيام بشر بن مروان جلس رجل من الخوارج علي باب قبيصة حتى خرج فقتله ولم يعرف قاتله حتى خرج قاتله مع شبيب بن زيد فلما قدم الكوفة قال يا أعداء الله أنا قاتل قبيصة!
ذكر خروج أبي مريم
ثم خرج أبو مريم مولي بني الحارث بن كعب ومعه امرأتان قطام وكحيلة وكان أول من أخرج معه النساء فعاب ذلك عليه أبو بلال بن أدية فقال:
412

قد قاتل النساء مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ومع المسلمين بالشام وسأردهما فردهما فوجه إليه المغيرة جابرا البجلي فقاتله فقتل أبو مريم وأصحابه ببادوريا.
ذكر خروج أبي ليلي
وكان أبو ليلي رجلا أسود طويلا فأخذ بعضادتي باب المسجد بالكوفة وفيه عدة من الأشراف وحكم بصوت عال
فلم يعرض له أحد فخرج وتبعه ثلاثون رجلا من الموالي فبعث فيه المغيرة معقل بن قيس الرياحي فقتله بسواد الكوفة سنة اثنتين وأربعين.
ذكر استعمال المغيرة بن شعبة علي الكوفة
وفيها استعمل معاوية عبد الله بن عمرو بن العاص علي الكوفة فأتاه المغيرة بن شعبة فقال له استعملت عبد الله علي الكوفة وأباه علي مصر فتكون أميرا بين نابي الأسد فعزله عنها واستعمل المغيرة علي الكوفة وبلغ عمرا ما قال المغيرة فدخل علي معاوية فقال استعملت المغيرة علي الخراج فيغتال المال ولا تستطيع أن تأخذه منه استعمل علي الخراج رجلا يخافك ويتقيك فعزله عن الخراج واستعمله علي الصلاة.
ولما ولي المغيرة الكوفة استعمل كثير بن شهاب علي الري وكان يكثر
413

سب علي علي منبر الري وبقي عليها إلى أن ولي زياد الكوفة فأقره عليها وغزا الديلم ومعه عبد الله بن الحجاج التغلبي وقتل ديلميا وأخذ سلبه فأخذه منه كثير فناشده الله في رده عليه فلم يفعل فاختفى له وضربه علي وجهه بالسيف أو بعصا هشم وجهه فقال:
(من مبلغ أبناء خندف أنني * أدركت طائلتي من ابن شهاب)
(أدركته ليلا بعقوة داره * فضربته قدما علي الأنياب)
(هلا خشيت وأنت عاد ظالم * بقصور أبهر أسرتي وعقابي)
ذكر ولاية بسر علي البصرة
في هذه السنة ولي بسر بن أبي أرطأة البصرة.
وكان السبب في ذلك أن الحسن لما صالح معاوية أول سنة إحدى وأربعين وثب حمران بن أبان علي البصرة فأخذها وغلب عليها فبعث إليه معاوية بسر بن أبي أرطأة وأمره بقتل بني زياد بن أبيه وكان زياد علي فارس قد أرسله إليها علي بن أبي طالب فلما قدم بسر البصرة خطب علي منبرها وشتم عليا ثم قال نشدت الله رجلا يعلم أني صادق إلا صدقني أو كاذب إلا كذبني فقال أبو بكرة اللهم إنا لا نعلمك إلا كاذبا قال فأمر به فخنق فقام أبو لؤلؤة الضبي فرمي بنفسه عليه فمنعه وأقطعه أبو بكرة بعد ذلك مائة جريب وقيل لأبي بكرة ما حملك علي ذلك فقال يناشدنا بالله ثم لا نصدقه؟
وأرسل معاوية إلى زياد أن في يدك مالا من مال الله فأد ما عندك منه.
414

فكتب إليه زياد إنه لم يبق عندي شيء من المال ولقد صرفت ما كان عندي في وجهه واستودعت بعضه لنازلة إن نزلت وحملت ما فضل إلى أمير المؤمنين رحمة الله عليه فكتب إليه معاوية أن أقبل إلى ننظر فيما وليت فإن استقام بيننا أمر فهو ذاك وإلا رجعت إلى مأمنك فامتنع فأخذ بسر أولاده زياد الأكابر منهم عبد الرحمن وعبيد الله وعباد وكتب إلى زياد لتقدمن علي أمير المؤمنين أو لأقتلن بنيك فكتب إليه زياد لست بارحا من مكاني حتى يحكم الله بيني وبين صاحبك وإن قتلت ولدي فالمصير إلى الله ومن ورائنا الحساب، (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون). فأراد بسر قتلهم فأتاه أبو بكرة فقال قد أخذت ولد أخي غلمانا بلا ذنب وقد صالح الحسن معاوية علي ما أصاب أصحاب علي حيث كانوا فليس لك عليهم ولا علي أبيهم سبيل وأجله أياما حتى يأتيه بكتاب معاوية فركب أبو بكرة إلى معاوية وهو بالكوفة فلما أتاه قال له يا معاوية إن الناس لم يعطوك بيعتهم علي قتل الأطفال قال وما ذاك يا أبا بكرة قال بسر يريد قتل بني أخي زياد فكتب له بتخليتهم فأخذ كتابه إلى بسر بالكف عن أولاد زياد، وعاد فوصل البصرة يوم الميعاد وقد أخرج بسر أولاد زياد مع طلوع الشمس ينتظر بهم الغروب ليقتلهم واجتمع الناس لذلك وهم ينتظرون أبا بكرة إذ رفع لهم علي نجيب أو برذون يكده فوقف عليه ونزل عنه وألاح بثوبه وكبر الناس معه فأقبل يسعي علي رجليه فأدرك بسرا قبل أن يقتلهم فدفع إليه كتاب معاوية فأطلقهم.
وقد كان معاوية كتب إلى زياد حين قتل علي يتهدده فقام خطيبا فقال العجب من ابن آكلة الأكباد وكهف النفاق ورئيس الأحزاب يتهددني،
415

وبيني وبينه ابنا عم رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني ابن عباس والحسن بن علي في سبعين ألفا واضعي سيوفهم علي عواتقهم أما والله لئن خلص إلى ليجدني أحمر ضرابا بالسيف فلما صالح الحسن معاوية وقدم معاوية الكوفة تحصن زياد في القلعة التي يقال لها قلعة زياد.
قول من قال في هذا إن زيادا عني ابن عباس وهم لأن ابن عباس فارق عليا في حياته.
وقيل إن معاوية أرسل هذا إلى زياد في حياة علي فقال زياد هذه المقالة وعني بها عليا وكتب زياد إلى علي يخبره بما كتب إليه معاوية فأجابه بما هو مشهور وقد ذكرناه في استلحاق معاوية زيادا.
(كل ما في هذا الخبر بسر فهو بضم الباء الموحدة والسين المهملة الساكنة).
ذكر ولاية ابن عامر البصرة لمعاوية
ثم أراد معاوية أن يولي عتبة بن أبي سفيان البصرة فكلمه ابن عامر وقال له إن لي بالبصرة ودائع أموالا فإن تولني عليها ذهبت فولاه البصرة فقدمها في آخر سنة إحدى وأربعين وجعل إليه خراسان وسجستان فجعل علي شرطته حبيب بن شهاب وعلي القضاء عميرة بن يثربي أخا عمرو وقد تقدم في وقعة الجمل أن عميرة قتل فيها وقيل عمرو هو المقتول والله سبحانه أعلم بالصواب.
416

ذكر ولاية قيس بن الهيثم خراسان
وفي هذه السنة استعمل ابن عامر قيس بن الهيثم السلمي علي خراسان وكان أهل باذغيس وهراة وبوشنج قد نكثوا فسار إلى بلخ فأخرب نوبهارها وكان الذي تولى ذلك عطاء بن السائب مولي بني ليث وهو الخشك وإنما سمي عطاء الخشك لأنه أول من دخل مدينة هراة من المسلمين من باب خشك واتخذ قناطر علي ثلاثة أنهار من بلخ علي فرسخ فقيل قناطر عطاء.
ثم أن أهل بلخ سألوا الصلح ومراجعة الطاعة فصالحهم قيس وقيل إنما صالحهم الربيع بن زياد سنة إحدى وخمسين وسيرد ذكره ثم قدم قيس علي ابن عامر فضربه وحبسه واستعمل عبد الله بن خازم فأرسل إليه أهل هراة وباذغيس وبوشنج يطلبون الأمان والصلح فصالحهم وحمل إلى ابن عارم مالا.
(عبد الله بن خازم بالخاء المعجمة).
ذكر خروج سهم بن غالب
وفي هذه السنة خرج سهم بن غالب الهجيمي علي ابن عامر في سبعين رجلا منهم الخطيم الباهلي وهو يزيد بن مالك وإنما قيل له الخطيم لضربة ضربها علي وجهه فنزلوا بين الجسرين والبصرة فمر بهم عبادة بن فرص الليثي من الغزو ومعه ابنه وابن أخيه فقال لهم الخوارج من أنتم؟ قالوا:
417

قوم مسلمون. قالوا: كذبتم قال عبادة سبحان الله أقبلوا منا ما قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم مني فإني كذبته وقاتلته ثم أتيته فأسلمت فقبل ذلك مني قالوا أنت كافر وقتلوه وقتلوا ابنه وابن أخيه فخرج إليهم ابن عامر بنفسه وقاتلهم فقتل منهم عدة وانحاز بقيتهم إلى أجمة وفيهم سهم والخطيم فعرض عليهم ابن عامر الأمان فقبلوه فأمنهم فرجعوا فكتب إليه معاوية يأمره بقتلهم فكتب إليه ابن عامر إني قد جعلت لهم ذمتك.
فلما أتي زياد البصرة سنة خمس وأربعين هرب سهم والخطيم فخرجا إلى الأهواز فاجتمع إلى سهم جماعة فأقبل بهم إلى البصرة فأخذ قوما فقالوا نحن يهود فخلاهم وقتل سعدا مولي قدامة بن مظعون فلما وصل إلى البصرة تفرق عنه أصحابه فاختفى سهم، وقيل إنهم تفرقوا عند استخفائه فطلب الأمان وظن أنه يسوغ له عند زياد ما ساغ له عند ابن عامر فلم يؤمنه زياد وبحث عنه فدل عليه فأخذه وقتله وصلبه في داره.
وقيل لم يزل مستخفيا إلى أن مات زياد فأخذه عبيد الله بن زياد فصلبه سنة أربع وخمسين وقيل قبل ذلك فقال رجل من الخوارج:
(فإن تكن الأحزاب باؤوا بصلبه * فلا يبعدن الله سهم بن غالب)
وأما الخطيم فإنه سأله زياد عن قتله عبادة فأنكره فسيره إلى البحرين ثم أعاده بعد ذلك.
418

ذكر عدة حوادث
قيل: وفي هذه السنة ولد علي بن عبد الله بن عباس وقيل ولد سنة أربعين قبل أن يقتل عليا والأول أصح وباسم
علي سماه وقال سميته بأسم أحب الناس إلى.
وحج بالناس هذه السنة عتبة بن أبي سفيان وقيل عنبسة بن أبي سفيان.
وفي هذه السنة استعمل عمرو بن العاص عقبة بن نافع بن عبد قيس وهو ابن خالة عمرو علي إفريقية فانتهى إلى لواتة ومزاتة فأطاعوا ثم كفروا فغزاهم من سنته فقتل وسبى ثم افتتح في سنة اثنتين وأربعين غدامس فقتل وسبى، وفتح في سنة ثلاث وأربعين كورا من كور السودان وافتتح ودان وهي من برقة وافتتح عامة بلاد بربر وهو الذي اختط القيروان سنة خمسين وسيذكر إن شاء الله تعالى.
وفيها مات لبيد بن ربيعة الشاعر وقيل مات يوم دخل معاوية الكوفة وعمره مائة سنة وسبع وخمسون سنة وقيل مات في خلافة عثمان وله صحبة وترك الشعر مذ أسلم.
419

42
ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين
في هذه السنة غزا المسلمون اللان وغزوا الروم أيضا فهزموهم هزيمة منكرة وقتلوا جماعة من بطارقتهم.
وفيها ولد الحجاج بن يوسف في قول.
وفيها ولي معاوية مروان بن الحكم المدينة، وولى خالد بن العاص ابن هشام مكة فاستقضى مروان عبد الله بن الحارث بن نوفل.
وكان علي الكوفة المغيرة بن شعبة وعلي قضائها شريح وعلي خراسان قيس بن الهيثم استعمله ابن عامر وقيل استعمله معاوية لما استقامت له الأمور فلما ولي ابن عامر البصرة أقره عليها.
ذكر الخبر عن تحرك الخوارج
وفي هذه السنة تحركت الخوارج الذين كانوا انحازوا عمن قتل في النهر ومن كان ارتث من جراحته في النهر فبرأوا وعفا علي عنهم، وكان سبب خروجهم أن حيان بن ظبيان السلمي كان خارجيا وكان قد ارتث يوم النهر فلما بريء لحق بالري في رجال معه فأقاموا بها حتى بلغهم مقتل علي،
420

فدعا أصحابه، وكانوا بضعة عشر أحدهم سالم بن ربيعة العبسي فأعلمهم بقتل علي فقال سالم لا شلت يمين علت قذالة بالسيف وحمدوا الله علي قتله رضي الله عنه ولا رضي عنهم ثم أن سالما رجع عن رأي الخوارج بعد ذلك وصلح، ودعاهم حيان إلى الخروج ومقاتلة أهل القبلة فأقبلوا إلى الكوفة فأقاموا بها حتى قدمها معاوية واستعمل علي الكوفة المغيرة بن شعبة فأحب العافية وأحسن في الناس السيرة وكان يؤتى فيقال له إن فلانا يري رأي الشيعة وفلانا يري رأي الخوارج فيقول قضي الله أن لا يزالوا مختلفين وسيحكم الله بين عباده فأمنه الناس.
وكانت الخوارج يلقي بعضهم بعضا ويتذاكرون مكان إخوانهم بالنهر فاجتمعوا علي ثلاثة نفر علي المستورد بن علفة التيمي من تيم الرباب وعلي معاذ بن جوين الطائي وهو ابن عم زيد بن حصين الذي قتل يوم النهر وعلي حيان بن ظبيان السلمي واجتمعوا في أربعمائة فتشاوروا فيمن يولون عليهم فكلمهم دفع الإمارة عن نفسه ثم اتفقوا فولوا المستورد وبايعوه ذلك في جمادى الآخرة واتعدوا للخروج واستعدوا وكان خروجهم غرة شعبان سنة ثلاث وأربعين.
(علفة بضم العين المهملة وتشديد اللام المكسورة وفتح الفاء).
421

ذكر قيام زياد علي معاوية
وفي هذه السنة قدم زياد علي معاوية [من فارس].
وكان سبب ذلك أن زيادا كان قد استودع ماله عبد الرحمن بن أبي بكرة وكان عبد الرحمن يلي ماله بالبصرة وبلغ معاوية ذلك فبعث المغيرة بن شعبة لينظر في أموال زياد فأخذ عبد الرحمن فقال له إن كان أبوك قد أساء إلى لقد أحسن عمك يعني زيادا وكتب إلى معاوية إني لم أجد في يد عبد الرحمن ما لا يحل لي أخذه فكتب إليه معاوية أن عذب عبد الرحمن فأراد أن يعذر وبلغ ذلك معاوية فقال لعبد الرحمن احتفظ بما في يديك وألقى علي وجهه حريرة ونضجها بالماء فغشي عليه ففعل ذلك ثلاث مرات ثم خلاه وكتب إلى معاوية إني عذبته فلم أصب عنده شيئا وحفظ لزياد يده عنده ثم دخل المغيرة علي معاوية فقال معاوية حين رآه:
(إنما موضع سر المرء إن * باح بالسر أخوه المنتصح)
(فإذا باحت بسر فإلي * ناصح يستره أو لا تبح)
فقال المغيرة يا أمير المؤمنين إن تستودعني تستودع ناصحا مشفقا وما ذلك فقال له معاوية ذكرت زيادا واعتصامه بفارس فلم أنم ليلتي فقال المغيرة ما زياد هناك فقال معاوية داهية العرب معه أموال فارس يدبر الحيل ما يؤمنني أن يبايع لرجل من أهل هذا البيت فإذا هو قد أعاد [علي] الحرب جزعة، فقال المغيرة أتأذن لي يا أمير المؤمنين في إتيانه؟ قال:
422

نعم فأته وتلطف له.
فأتاه المغيرة وقال له إن معاوية استخفه الوجل حتى بعثني إليك ولم يكن أحد يمد إلى هذا الأمر غير الحسن وقد بايع فخذ لنفسك قبل التوطين فيستغني معاوية عنك قال أشر علي وارم الغرض الأقصى ودع عنك الفضول فإن المستشار مؤتمن فقال له المغيرة في محض الرأي بشاعة ولا خير في المذيق أرى أن تصل حبلك بحبله وتشخص إليه ويقضي الله وكتب إليه معاوية بأمانة بعد عود المغيرة عنه فخرج زياد من فارس نحو معاوية ومعه المنجاب بن راشد الضبي وحارثة بن بدر الغداني.
و سرح عبد الله بن عامر عبد الله بن خازم في جماعة إلى فارس وقال لعلك تلقى زيادا في طريقك فتأخذه فسار ابن خازم إلى فارس فلقي زيادا بارجان فأخذ بعنانه وقال انزل يا زياد فقال له المنجاب تنح يا ابن السوداء وإلا علقت يدك بالعنان وكانت بينهم منازعة فقال له زياد قد أتاني كتاب معاوية وأمانه فتركه ابن خازم، وقدم زياد علي معاوية وسأله عن أموال فارس فأخبره بما حمل منها إلى علي وبما أنفق منها في الوجوه التي تحتاج إلى النفقة وما بقي عنده وأنه مودع للمسلمين فصدقه معاوية فيما أنفق وفيما بقي عنده وقبضه منه.
وقيل إن زيادا لما قال لمعاوية قد بقيت بقية من المال وقد أودعتها مكث معاوية يردده فكتب زيادا كتبا إلى قوم أودعهم المال وقال لهم قد علمتم مالي عندكم من الأمانة فتدبروا كتاب الله (إنا عرضنا الأمانة علي السماوات والأرض والجبال) الآية فاحتفظوا بما قبلكم وسمي في الكتب المال الذي أقر به لمعاوية وأمر رسوله أن يتعرض لبعض من يبلغ ذلك معاوية ففعل رسوله وانتشر ذلك فقال معاوية لزياد حين وقف علي الكتب:
423

أخاف أن تكون مكرت بي فصالحني علي ما شئت فصالحه علي شيء وحمله إليه ومبلغه ألف ألف درهم واستأذنه في نزوله الكوفة فأذن له فكان المغيرة يكرمه ويعظمه فكتب معاوية إلى المغيرة ليلزم زيادا وحجر بن عدي وسليمان بن صرد وشبث بن ربعي وابن الكواء بن الحمق بالصلاة في الجماعة فكانوا يحضرون معه الصلاة وإنما ألزمهم ذلك لأنهم كانوا من شيعة علي.
ذكر عدة حوادث
وحج هذه السنة بالناس عنبسة بن أبي سفيان.
وفيها مات حبيب بن مسلمة الفهري بأرمينية وكان أميرا لمعاوية عليها وكان قد شهد حروبه كلها وفيها مات عثمان بن طلحة بن أبي طلحة العبدري له صحبة وفيها مات ركانة بن عب يزيد بن هاشم بن المطلب وهو الذي صارع النبي وصفوان بن أمية بن خلف الجمحي وله صحبة وفيها مات هانئ بن نيار بن عمرو الأنصاري وهو خال البراء بن عازب وقيل سنة خمس وأربعين وكان بدريا عقبيا.
(نيار بكسر النون وفتح الياء تحتها نقطتان وآخره راء).
424

43
ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين
في هذه السنة غزا بسر بن أبي أرطأة الروم وشتي بأرضهم حتى بلغ القسطنطينية فيما زعم الواقدي وأنكر ذلك قوم من أهل الأخبار وقالوا لم يشت بسر بأرض الروم قط.
وفيها مات عمرو بن العاص بمصر يوم الفطر وكان عمل عليها لعمر أربع سنين ولعثمان أربع سنين إلا شهرين ولمعاوية سنتين إلا شهرا.
وفيها ولي معاوية عبد الله بن عمرو بن العاص مصر فوليها نحو من سنتين وفيها مات محمد بن مسلمة بالمدينة في صفر وصلي عليه مروان بن الحكم وعمره سبع سنين وسبعون سنة
ذكر مقتل المستورد الخارجي
وفيها قتل المستورد بن علفة التميمي تيم الرباب وقد ذكر سنة اثنتين وأربعين تحرك الخوارج وبيعتهم له ومخاطبته بأمير المؤمنين.
فلما كان هذه السنة أخبر المغيرة بن شعبة بأنهم اجتمعوا في منزل حيان بن ظبيان السلمي واتعدوا للخروج غرة شعبان فأرسل المغيرة صاحب شرطته،
425

وهو قبيصة بن الدمون فأحاط بدار حيان هو ومن معه وإذا عنده معاذ بن جوين ونحو عشرين رجلا وثارت امرأته وهي أم ولد كانت له كارهة فأخذت سيوفهم فألقتها تحت الفراش وقاموا ليأخذوا سيوفهم فلم يجدوها فاستسلموا فانطلق بهم إلى المغيرة فحبسهم بعد أن قررهم فلم يعترفوا بشيء وذكروا أنهم اجتمعوا لقراءة القرآن ولم يزالوا في السجن نحو سنة وسمع إخوانهم بأخذهم فحذروا وخرج صاحبهم المستورد فنزل الحيرة واختلفت الخوارج إليه فرآهم حجار بن أبجر فسألوه أن يكتم عليهم ليلتهم تلك فقال سأكتم عليكم الدهر فخافوه أن يذكر حالهم للمغيرة فتحولوا إلى دار سليم بن مجدوح العبدي وكان صهر المستورد ولم يذكر حجار من أخبارهم شيئا.
وبلغ المغيرة خبرهم وأنهم عازمون علي الخروج تلم الأيام فقام في الناس فحمد الله ثم قال لقد علمتم أني لم أزل أحب لجماعتكم العافية وأكف عنكم الأذى وخشيت أن يكون ذلك أدب سوء لسفهائكم وقد خشيت من أن لا نجد بدا من أن يؤخذ الحليم التقي بذنب الجاهل السفيه فكفوا عنه سفهاءكم قبل أن يشمل البلاء عوامكم وقد بلغنا أن رجالا منكم يريدون أن يظهروا في المصر بالشقاق والنفاق والخلاف وأيم الله لا يخرجون في حي من أحياء العرب إلا أهلكتهم وجعلتهم نكالا لمن بعدهم!
فقام إليه معقل بن قيس الرياحي فقال أيها الأمير أعلمنا بهؤلاء القوم فإن كانوا منا كفيناكهم وإن كانوا غيرنا أمرت أهل الطاعة فأتاك كل قبيلة بسفهائهم فقال ما سمي لي أحد باسمه فقال معقل أنا أكفيك
426

قومي فليكفك كل رئيس قومه. فأحضر المغيرة الرؤساء وقال لهم ليكفني كل رجل منكم قومه وإلا فوالله لأتحولن عما تعرفون إلى ما تنكرون وعما تحبون إلى ما تكرهون.
فرجعوا إلى قومهم فناشدوهم الله والإسلام إلا دلوهم علي كل من يريد أن يهيج الفتنة وجاء صعصعة بن صوحان إلى عبد القيس وكان قد علم بمنزل حيان في دار سليم ولكنه كره أن يؤخذ من عشيرته علي فراقه لأهل الشام وبغضه لرأيهم وكره مساءة أهل بيت من قومه فقام فيهم فقال أيها الناس إن لله وله الحمد لما قسم الفضل خصكم بأحسن القسم فأجبتم إلى دين الله الذي أختاره لنفسه وارتضاه لملائكته ورسله ثم أقمتم عليه حتى قبض الله رسوله ثم اختلف الناس بعده فثبتت طائفة وارتدت طائفة وادهنت طائفة وتربصت طائفة فلزمتهم دين الله إيمانا به وبرسوله وقاتلتم المرتدين حتى قام الدين وأهلك الله الظالمين ولم يزل الله يزيدكم بذلك خيرا حتى اختلفت الأمة بينها فقالت طائفة نريد طلحة والزبير وعائشة وقالت طائفة نريد أهل المغرب وقالت طائفة نريد عبد الله بن وهب الراسبي وقلتم أنتم لا نريد إلا أهل بيت نبينا الذين ابتدأنا الله عز وجل من قبلهم بالكرامة تسديدا من الله عز وجل لكم وتوفيقا فلم تزالوا علي الحق لازمين له آخذين به حتى أهلك الله بكم وبمن كان علي مثل هديكم الناكثين يوم الجمل والمارقين يوم النهر وسكت عن ذكر أهل الشام لأن السلطان لهم فلا قوم أعدى لله ولكم ولأهل بيت نبيكم من هذه المارقة الخاطئة الذين فارقوا إمامنا واستحلوا دماءنا وشهدوا علينا بالكفر فإياكم أن تؤو وهم في دوركم أو
427

تكتموا عليهم شيئا فإنه لا ينبغي لحي من أحياء العرب أن يكون أعدى لهذه المارقة منكم وقد ذكر لي أن بعضهم في جانب من الحي وأنا باحث عن ذلك فإن يك حقا تقربت إلى الله بدمائهم فإن دماءهم حلال!
وقال يا معشر عبد القيس إن ولاتنا هؤلاء أعرف شيء بكم وبرأيكم فلا تجعلوا لهم عليكم سبيلا فإنهم أسع إليكم وإلي مثلكم ثم جلس وكل قوم قال لعنهم الله وبرئ منهم لا نؤويهم ولئن علمنا بمكانهم لنطلعنك عليهم غير سليم بن محدوج فإنه لم يقل شيئا ورجع كئيبا يكره أن يخرج من أصحابه من داره فيلوموه ويكره أن يؤخذوا في داره فيهلكوا ويهلك معهم.
وجاء أصحاب المستورد إليه فأعلموه بما قام به المغيرة في الناس وبما قام به رؤوسهم فيهم فسأل ابن محدوج عما قام به صعصعة في عبد القيس فأخبره وقال كرهت أن أعلمكم فتظنوا أنه ثقل علي مكانكم فقال له قد أكرمت المثوى وأحسنت ونحن مرتحلون عنك.
وبلغ الخبر اللذين في محبس المغيرة من الخوارج فقال معاذ بن جوين بن حصين في ذلك:
(ألا أيها الشارون قد حان لامرئ * شري نفسه لله أن يترحلا)
(أقمتم بدار الخاطئين جهالة * وكل امرئ منكم يصاد ليقتلا)
(فشدوا علي القوم العداة فإنما * أقامتكم للذبح رأيا مضللا)
(ألا فاقصدوا يا قوم للغاية التي * إذا ذكرت كانت أبر وأعدلا)
(فيا ليتني فيكم علي ظهر سابح * شديد القصيرى دارعا غير أعزلا)
(ويا ليتني فيكم أعادي عدوكم * فيسقيني كأس المنية أولا)
428

(يعز علي أن تخافوا وتطردوا * ولما أجرد في المحلين منضلا)
(ولما يفوق جمعهم كل ماجد * إذا قلت قد ولي وأدبر أقبلا)
(مشيحا بنصل السيف في حمس الوغى * يرى الصبر في بعض المواطن أمثلا)
(وعز علي أن تصابوا وتنقصوا * وأصبح ذا بث أسير مكبلا)
(ولو أنني فيكم وقد قصدوا لكم * أثرت إذا بين الفريقين قسطلا)
(فيارب جمع قد فللت وغارة * شهدت وقرن قد تركت مجدلا)
وأرسل المستورد إلى أصحابه فقال لهم اخرجوا من هذه القبيلة واتعدوا سوراء فخرجوا إليها منقطعين فاجتمعوا بها ثلاثمائة رجل وساروا إلى الصراة فسمع المغيرة بن شعبة خبرهم فدعا رؤساء الناس فاستشارهم فيمن يرسله إليهم فقال له عدي بن حاتم كلنا لهم عدو ولرأيهم مبغض وبطاعتك مستمسك فأينا شئت سار إليهم وقال له معقل بن قيس إنك لا تبعث إليهم أحدا ممن تري حولك إلا رأيته سامعا مطيعا ولهم مفارقا ولهلاكهم محبا ولا أرى أن تبعث إليهم أحدا من الناس أعدي لهم مني فابعثني لهم فأنا أكفيكهم بإذن الله تعالى فقال اخرج علي اسم الله فجهز معه ثلاثة آلاف وقال المغيرة لصاحب شرطته الصق بمعقل شيعة علي فإنه كان من رؤساء أصحابه فإذا اجتمعوا استأنس بعضهم ببعض وهم أشد استحلالا لدماء هذه المارقة وأجرأ عليهم من غيرهم فقد قاتلوهم قبل هذه المرة وقال له صعصعة بن صوحان نحوا من قول معقل فقال له المغيرة اجلس فإنما أنت خطيب فأحفظه ذلك.
429

وإنما قال له ذلك لأنه بلغه أنه يعيب عثمان بن عفان ويكثر ذكر علي ويفضله، وكان المغيرة دعاه وقال له إياك أن يبلغني أنك تعيب عثمان وإياك أن يبلغني أنك تظهر شيئا من فضل علي فأنا أعلم بذلك منك ولكن هذا السلطان قد ظهر وقد أخذنا بإظهار عيبه للناس فنحن ندع شيئا كثيرا بما أمرنا به ونذكر الشيء الذي لا نجد منه بدا ندفع به هؤلاء القوم عن أنفسنا تقية فإن كنت ذاكرا فضله فاذكره بينك وبين أصحابك في منازلكم سرا وأما علانية في المسجد فإن هذا لا يحتمله الخليفة لنا فكان يقول له نعم ثم يبلغه عنه أنه فعل ذلك فحقد عليه المغيرة فأجابه بهذا الجواب فقال له صعصعة وما أنا إلا خطيب فقط قال أجل فقال والله إني للخطيب الصليب الرئيس أما والله لو شهدتني يوم الجمل حيث اختلفت القنا فشؤون تفري وهامة تختلي لعلمت أني الليث النهد فقال حسبك لعمري الآن لقد أوتيت لسانا فصيحا.
وخرج معقل ومعه ثلاثة آلاف فارس نقاوة الشيعة وسار إلى سوراء ولحقه أصحابه.
وأما الخوارج فإنهم ساروا إلى بهرسير وأرادوا العبور إلى المدينة العتيقة التي فيها منازل كسرى فمنعهم سماك بن عبيد الأزدي العبسي وكان عاملا عليها فكتب إليه المستورد يدعوه إلى البراءة من عثمان وعلي وأن يتولاه وأصحابه فقال سماك بئس الشيخ أنا إذا وأعاد الجواب علي المستورد يدعوه إلى الجماعة وأن يأخذ له الأمان فلم يجب وأقام بالمدائن ثلاثة أيام ثم بلغه مسير معقل إليهم فجمعهم المستورد وقال لهم إن المغيرة قد بعث إليكم معقل بن قيس وهو من السبئية المفترين الكاذبين فأشيروا علي برأيكم. فقال
430

بعضهم: خرجنا نريد والله الجهاد وقد جاؤنا فأين نذهب بل نقيم حتى يحكم الله بيننا وقال بعضهم بل نتنحى ندعو الناس ونحتج عليهم بالدعاء فقال لهم لا أرى أن نقيم حتى يأتونا وهم مستريحون بل أرى أن نسير بين أيديهم فيخرجوا في طلبنا فينقطعوا ويتبددوا فنلقاهم على تلك الحال.
فساروا فعبروا بجرجرايا ومضوا إلى أرض جوخى ثم بلغوا المذار فأقاموا بها.
وبلغ ابن عامر بالبصرة خبرهم فسأل كيف صنع المغيرة فأخبر بفعله فاستدعي شريكن الأعور الحارثي وكان من شيعة علي فقال له اخرج إلى هذه المارقة ففعل وانتخب معه ثلاثة آلاف فارس من الشيعة وكان أكثرهم من ربيعة وسار بهم إلى المذار.
وأما معقل بن قيس فسار إلى المدائن حتى بلغها فبلغه رحيلهم فشق ذلك علي الناس فقال لهم معقل إنهم ساروا لتتبعوهم وتتبددوا وتنقطعوا فتلحقوهم وقد تعبتم وأنه لا يصيبكم شيء من ذلك إلا وقد أصابهم مثل ذلك وسار في آثارهم وقدم بين يديه أبا الرواغ الشاكري في ثلاثمائة فارس فتبعهم
أبو الرواغ حتى لحقهم بالمذار فاستشار أصحابه في قتالهم قبل قدوم معقل فقال بعضهم لا تفعل وقال بعضهم بل نقاتلهم فقال لهم إن معقلا أمرني أن لا أقاتلهم فقالوا له ينبغي أن تكون قريبا منه حتى يأتي معقل وكان ذلك عند المساء فباتوا يتحارسون حتى أصبحوا فلما ارتفع النهار خرجت الخوارج إليهم وكانوا أيضا ثلاثمائة وحملوا عليهم فانهزم أصحاب أبي الرواغ ساعة ثم صاح بهم أبو الرواغ الكرة الكرة وحمل ومعه أصحابه فلما دنوا من الخوارج عادوا منهزمين إلا أنهم لم يقتل منهم أحد فصاح بهم
431

أبو الرواغ أيضا ثكلتكم أمهاتكم ارجعوا بنا نكن قريبا منهم لا نفارقهم حتى يقدم علينا أميرنا وما أقبح بنا أن نرجع إلى الجيش منهزمين من عدونا. فقال له بعض أصحابه إن الله لا يستحي من الحق قد والله هزمونا فقال له لا أكثر الله فينا مثلك إنا ما لم نفارق المعركة لم نهزم ومتي عطفنا عليهم وكنا قريبا منهم فنحن علي حال حسنة فقفوا قريبا منهم فإن أتوكم وعجزتم عنهم فتأخروا قليلا فإذا حملوا عليكم وعجزتم عن قتالهم فانحازوا علي حامية فإذا رجعوا عنكم فاعطفوا عليهم وكونوا قريبا منهم فإن الجيش يأتيكم عن ساعة.
فجعلت الخوارج كلما حملت عليهم انحازوا عنهم فإذا عاد الخوارج رجع أبو الرواغ في أثارهم فلم يزالوا كذلك إلى وقت الظهر فنزل الطائفتان يصلون ثم أقاموا إلى العصر وكان أهل القرى والسيارة قد أخبروا معقلا بالتقاء الخوارج وأصحابه وإن الخوارج تطرد أصحابه بين أيديهم فإذا رجعوا أعاد أصحابه خلفهم فقال معقل إن كان ظني في أبي الرواغ لا يأتيكم منهزما أبدا.
ثم أسرع السير في سبعمائة من أهل القوة واستخلف محرز بن شهاب التميمي علي ضعفة الناس فلما أشرفوا علي أبي الرواغ قال لأصحابه هذه غبرة فتقدموا بنا إلى عدونا حتى لا يرانا أصحابنا أنا تنحينا عنهم وهبناهم فتقدم حتى وقف مقابل الخوارج ولحقهم معقل فلما دنا منهم غربت الشمس فصلي بأصحابه وصلي أبو الرواغ بأصحابه وصلي الخوارج أيضا وقال أبو الرواغ لمعقل إن لهم شدات منكرات فلا تلها بنفسك ولكن قف وراء الناس تكون ردا لهم. فقال نعم ما رأيت.
فبينا هو يخاطبه حملت الخوارج عليهم فانهزم عامة أصحاب معقل وثبت
432

هو فنزل إلى الأرض ومعه أبو الرواغ في نحو مائتي رجل فلما غشيهم المستورد استقبلوه بالرماح والسيوف فانهزمت خيل معقل ساعة ثم ناداهم مسكين بن عامر وكان شجاعا أين الفرار وقد نزل أميركم ألا تستحيون ثم رجع ورجعت معه خيل عظيمة ومعقل بن قيس يقاتل الخوارج بمن معه فلم يزل يقاتلهم حتى ردهم إلى البيوت ثم لم يلبثوا إلا قليلا حتى جاءهم محرز بن شهاب فيمن معه فجعلهم معقل ميمنة وميسرة وقال لهم لا تبرحوا حتى تصبحوا ونثور إليهم.
ووقف الناس بعضهم مقابل بعض فبينما هم متوافقون أتي الخوارج عين لهم فأخبرهم أن شريك بن الأعور قد أقبل إليهم من البصرة في ثلاثة آلاف فقال المستورد لأصحابه لا أرى أن تقيم لهؤلاء جميعا ولكني أرى أن نرجع إلى الوجه الذي جئنا منه فإن أهل البصرة لا يتبعونا إلى أرض الكوفة فيهون علينا قتال أهل الكوفة ثم أمرهم بالنزول ليريحوا دوابهم ساعة ففعلوا ثم دخلوا القرية وأخذوا منها من دلهم علي الطريق الذي أقبلوا منه وعادوا راجعين.
وأما معقل فإنه يبعث من يأتيه بخبرهم حين لم ير سوادهم فعاد إليه بالخبر أنهم قد ساروا فخاف أن تكون مكيدة وخاف البيات فاحتاط هو وأصحابه إلى الصباح فلما أصبحوا أتاهم من أخبرهم بمسيرهم وجاء شريك بن الأعور فيمن معه فلقي معقلا فتساءلا ساعة وأخبره معقل بخبرهم فدعا شريك أصحابه إلى المسير مع معقل فلم يجيبوه فاعتذر إلى معقل بخلاف أصحابه وكان صديقا له يجمعهما رأي الشيعة ودعا معقل أبا الرواغ وأمره باتباعهم فقال له زدني مثل الذين كانوا معي ليكون أقوي لي إن أرادوا مناجزتي قبل قدومي فبعث معه ستمائة فارس فساروا سراعا حتى أدركوا الخوارج
433

بجرجرايا وقد نزلوا فنزل بهم أبو الرواغ مع طلوع الشمس فلما رأوهم قالوا إن قتال هؤلاء أيسر من قتال من يأتي بعدهم فحملوا علي أبي الرواغ وأصحابه حملة صادقة فانهزم أصحابه وثبت في مائة فارس فقاتلهم طويلا وهو يقول:
(إن الفتي كل الفتي [من] لم يهل * إذا الجبان حاد عن وقع الأسل)
(قد علمت أني إذا البأس نزل * أروع يوم الهيج مقدام بطل)
ثم عطف أصحابه من كل جانب فصدقوهم القتال حتى أعادوهم إلى مكانهم، فلما رأى المستورد ذلك علم أنهم إن أتاهم معقل ومن معه هلكوا فمضي هو وأصحابه فعبروا دجلة ووقفوا في أرض بهرسير وتبعهم أبو الرواغ حتى نزل بهم بساباط فلما نزل بهم قال المستورد لأصحابه إن هؤلاء هم حماة أصحاب معقل وفرسانه ولو علمت أني اسبقهم إليه بساعة لسرت إليه فواقعته ثم أمر أن يسأل عن معقل فسألوا بعض من علي الطريق فأخبروهم أنه نزل ديلمايا وبينهم ثلاثة فراسخ فلما أخبر المستورد بذلك ركب وركب أصحابه وأقبل حتى انتهي إلى جسر ساباط وهو جسر نهر ملك وهو من جانبه الذي يلي الكوفة وأبو الرواغ من جانب المدائن فقطع المستورد الجسر ولما رآهم أبو الرواغ قد ركبوا عبأ أصحابه واعتزل إلى صحراء بين المدائن وساباط ليكون القتال بها ووقف ينتظرهم فلما قطع المستورد الجسر سار إلى ديلمايا نحو معقل ليوقع به فانتهى إليه وأصحابه متفرقون عنه وهو يريد الرحيل وقد تقدم بعض أصحابه فلما رآهم معقل نصب رايته ونزل ونادى يا عباد الله الأرض الأرض فنزل معه نحو مائتي رجل فحملت الخوارج
434

عليهم فاستقبلوهم بالرماح جثاة علي الركب فلم يقدروا عليهم فتركوهم وعدلوا إلى خيولهم فحالوا بينهم وبينها وقطعوا أعنتها وقد كانوا نزلوها فذهبت في كل جانب ثم مالوا علي المتفرقين من أصحاب معقل ففرقوا بينهم ثم رجعوا إلى معقل وأصحابه وهم علي الركب علي حالهم التي كانوا عليها فحملوا عليهم فلم يتجلجلوا فحملوا أخرى فلم يقدروا عليهم فقال المستورد لأصحابه لينزل نصفكم ويبقي نصفكم علي الخيل ففعلوا واشتد الحال علي أصحاب معقل وأشرفوا علي الهلاك.
فبينما هم كذلك إذ أقبل أبو الرواغ عليهم فيمن معه. وكان سبب عوده إليهم أنه أقام بمكانه ينتظرهم فلما أبطأوا عليه أرسل من يأتيه بخبرهم فرأوا الجسر مقطوعا ففرحوا ظنا منهم أن الخوارج فعلوا ذلك هيبة لهم فرجعوا إلى أبي الرواغ فأخبروه أنهم لم يروهم وأن الجسر قد قطعوه هيبة لهم فقال لهم أبو الرواغ لعمري ما فعلوا هذا إلا مكيدة وما أراهم إلا وقد سبقوكم إلى معقل حيث رأوا فرسان أصحابه معي وقد قطعوا الجسر ليشغلوكم به عن لحاقهم فالنجاء النجاء في الطلب.
ثم أمر أهل القرية فعقدوا الجسر وعبر عليه واتبع الخوارج فلقيه أوائل الناس منهزمين فصاح بهم إلى إلى فرجعوا إليه وأخبروه الخبر وأنهم تركوا معقلا يقاتلهم وما يظنونه إلا قتيلا فجد في السير ورد معه كل من لقيه من المنهزمين فانتهى إلى العسكر فرأى راية معقل منصوبة والناس يقتتلون فحمل أبو الرواغ ومن معه علي الخوارج فأزالوهم غير بعيد ووصل أبو الرواغ إلى معقل فإذا هو متقدم يحرض أصحابه فشدوا علي الخوارج شدة منكرة ونزل المستورد ومن معه من الخوارج ونزل أصحاب معقل أيضا ثم اقتتلوا طويلا من النهار بالسيوف أشد قتال.
ثم أن المستورد نادى معقلا ليبرز إليه فمنعه أصحابه فلم يقبل منهم وكان معه سيفه ومع المستورد رمحه فقال أصحاب معقل: خذ
435

رمحك فأبي وأقبل علي المستورد فطعنه المستورد برمحه فخرج السنان من ظهره وتقدم معقل والرمح فيه إلى المستورد فضربه بالسيف فخالط دماغه فوقع المستورد ميتا ومات معقل أيضا.
وكان معقل قد قال إن قتلت فأميركم عمرو بن محرز بن شهاب التميمي فلما قتل أخذ الراية عمرو ثم حمل في الناس علي الخوارج فقتلوهم ولم ينج منهم غير خمسة أو ستة.
وقال ابن الكلبي كان المستورد من تميم ثم من بني رياح واحتج بقول جرير:
(ومنا فتي الفتيان والجود معقل * ومنا الذي لاقي بدجلة معقلا)
يعني هذه الوقعة.
ذكر عود عبد الرحمن إلى ولاية سجستان
في هذه السنة استعمل عبد الله بن عامر عبد الرحمن بن سمرة علي سجستان فأتاها وعلي شرطته عباد بن الحصين الحبطي ومعه من الأشراف عمرو بن عبيد الله بن معمر وغيره فكان يغزو البلد قد كفر أهله فيفتحه حتى بلغ كابل فحصرها أشهرا ونصب عليها مجانيق فثلم سورها ثلمة عظيمة فبات عليها عباد بن الحصين ليلة يطاعن المشركين حتى أصلح فلم يقدروا علي سدها وخرجوا من الغد يقاتلون فهزمهم المسلمون ودخلوا البلد عنوة ثم سار
436

إلى بست ففتحها عنوة وسار إلى زران فهرب أهلها وغلب عليها ثم سار إلى خشك فصالحه أهلها ثم أتى الرخج فقاتلوه. فظفر بهم وفتحها ثم سار إلى زابلستان وهي غزنة وأعمالها فقاتله أهلها وقد كانوا نكثوا ففتحها وعاد إلى كابل وقد نكث أهلها ففتحها.
ذكر غزوة السند
استعمل عبد الله بن عامر علي ثغر السند عبد الله بن سوار العبدي ويقال ولاه معاوية من قبله فغزا القيقان فأصاب مغنما ووفد علي معاوية وأهدي له خيلا قيقانية ورجع فغزا القيقان فاستنجدوا بالترك فقتلوه وفيه يقول الشاعر:
(وابن سوار علي عدانه * موقد النار وقتال الشغب)
وكان كريما لم يوقد أحد في عسكره نارا فرأى ذات ليلة نارا فقال ما هذه قالوا امرأة نفساء يعمل لها الخبيص فأمر أن يطعم الناس الخبيص ثلاثة أيام.
ذكر ولاية عبد الله بن خازم خراسان
وقيل في هذه السنة عزل عبد الله بن عارم قيس بن الهيثم القيسي ثم السلمي عن خراسان واستعمل عبد الله بن خازم.
437

وسبب ذلك أن قيسا أبطأ بالخراج والهدية فقال عبد الله بن خازم لعبد الله بن عامر ولني خراسان أكفكها فكتب له عهده فبلغ ذلك قيسا فخاف ابن خازم وشغبه فترك خراسان وأقبل فازداد ابن عامر غضبا لتضييعه الثغر فضربه وحبسه وبعث رجلا من يشكر علي خراسان وقيل بعث أسلم بن زرعة الكلابي ثم ابن خازم وقيل في عزله غير ذلك وهو أن ابن خازم قال لابن عامر أنك استعملت علي خراسان قيسا وهو ضعيف وإني أخاف إن لقي حربا أن ينهزم بالناس فتهلك خراسان وتفضح أخوالك يعني قيس عيلان قال ابن عامر فما الرأي قال تكتب لي عهدا إن هو انصرف عن عدو قمت مقامه فكتب له وجاش جماعة من طخارستان فشاوره قيس فأشار عليه ابن خازم أن ينصرف حتى يجتمع إليه أطرافه فلما سار مرحلة أو اثنتين اخرج ابن حازم عهده وقام بأمر الناس ولقي العدو فهزمهم وبلغ الخبر الكوفة والبصرة والشام فغضب القيسية وقالوا خدع قيسا وابن عامر وشكوا إلى معاوية فاستقدمه فاعتذر مما قيل فيه فقال معاوية قم غدا فاعتذر في الناس فرجع إلى أصحابه وقال إني أمرت بالخطبة ولست بصاحب كلام فأجلسوا حول المنبر فإذا قلت فصدقوني فقام من الغد فحمد الله وأثني عليه ثم قال إنما يتكلف الخطبة إمام لا يجد منها بدا أو أحمق يهمر من رأسه لا يبالي ما خرج منه ولست بواحد منهما وقد علم من عرفني أني بصير بالفرص وثاب إليها وقاف عند المهالك انفذ بالسرية وأقسم بالسوية انشد الله من عرف ذلك مني فليصدقني فقال أصحابه صدقت فقال يا أمير المؤمنين إنك فيمن نشدت فقل بما تعلم فقال صدقت.
438

ذكر عدة حوادث
وحج هذه السنة مروان بن الحكم وكان علي المدينة وكان علي مكة خالد بن العاص بن هشام وعلي الكوفة المغيرة وعلي البصرة عبد الله بن عامر.
وفيها مات عبد الله بن سلام وله صحبة مشهورة وهو من علماء أهل الكتاب وشهد له رسول ا لله بالجنة.
439

44
ثم دخلت سنة أربع وأربعين
في هذه السنة دخل المسلمون مع عبد الرحمن بن خالد بن الوليد بلاد الروم وشتوا بها وغزا بسر بن أبي أرطأة في البحر.
ذكر عزل عبد الله بن عامر عن البصرة
وفي هذه السنة عزل عبد الله بن عامر عن البصرة.
وسببه أن ابن عامر كان حليما كريما لينا لا يأخذ علي أيدي السفهاء ففسدت البصرة بسبب ذلك في أيامه فشكي ذلك إلى زياد فقال له جرد السيف فيهم فقال له إني أكره أن أصلحهم بفساد نفسي. ثم إن ابن عامر أوفد وفدا من البصرة إلى معاوية فوافقوا عنده وفد الكوفة وفيهم ابن الكواء واسمه عبد الله بن أبي أوفى اليشكري فسألهم معاوية عن أهل العراق وعن أهل البصرة خاصة فقال ابن الكواء يا أمير المؤمنين إن أهل البصرة قد أكلهم سفهاؤهم وضعف عنهم سلطانهم وعجز ابن عامر وضعفه فقال له معاوية تتكلم عن أهل البصرة وهم حضور؟
فلما عاد أهل البصرة أبلغوا ابن عامر فغضب وقال أي أهل العراق أشد عداوة لابن الكواء فقيل عبد الله بن أبي شيخ اليشكري فولاه خراسان فبلغ ذلك ابن الكواء فقال إن ابن دجاجة يعني ابن عامر،
440

قليل العلم في أظن أن ولاية عبد الله خراسان تسوؤني لوددت أنه لم يبق يشكري إلا عاداني وأنه ولاه.
وقيل إن الذي ولاه ابن عامر خراسان طفيل بن عوف اليشكري.
فلما علم معاوية حال البصرة أراد عزل ابن عامر فأرسل إليه يستزيره فجاء إليه فرده علي عمله فلما ودعه قال إني سائلك ثلاثا فقل هن لك فقال هن لك وأنا ابن أم حكيم قال ترد علي عملي ولا تغضب قال قد فعلت قال وتهب لي مالك بعرفة قال قد فعلت قال وتهب لي دورك بمكة قال قد فعلت قال وصلتك رحم فقال ابن عامر يا أمير المؤمنين إني سائلك ثلاثا فقل هن لك فقال هن لك وأنا ابن هند قال ترد علي مالي بعرفة قال قد فعلت قال ولا تحاسب لي عاملا ولا تتبع لي أثرا قال قد فعلت قال وتنكحني ابنتك هندا قال قد فعلت.
ويقال إن معاوية قال له اختر إما أن أتبع أثرك وأحاسبك بما صار إليك وأردك وإما أن أعزلك وأسوغك ما أصبت فاختار العزل وأن يسوغه ما أصاب فعزله وولى البصرة الحارث بن عبد الله الأزدي.
ذكر استلحاق معاوية زيادا
وفي هذه السنة استلحق معاوية زياد بن سمية فزعموا أن رجلا من عبد القيس كان مع زياد لما وفد علي معاوية فقال لزياد إن لابن عامر عندي يدا فإن أذنت لي أتيته. قال علي أن تحدثني بما يجري بينك وبينه قال: نعم.
441

فإذن له فأتاه، فقال له ابن عامر هية هية وابن سمية يقبح آثاري ويعرض بعمالي! لقد هممت أن آتي بقسامة من قريش يحلفون بالله أن أبا سفيان لم ير سمية.
فلما رجع سأله زياد فلم يخبره فألح عليه حتى أخبره فأخبر زياد بذلك معاوية فقال معاوية لحاجبه إذا جاء ابن عامر فاضرب وجه دابته عن أقصي الأبواب ففعل ذلك به فأتي ابن عامر يزيد فشكا ذلك إليه فقال له هل ذكرت زيادا قال نعم فركب معه يزيد حتى أدخله فلما نظر إلى معاوية قام فدخل فقال يزيد لابن عامر اجلس فكم عسي أن يقعد في البيت عن غير مجلسه! فلما أطالا خرج معاوية وهو يتمثل:
(لنا سباق ولكم سباق * قد علمت ذلك الرفاق)
ثم قعد فقال يا بن عامر أنت القائل في زياد ما قلت أما والله لقد علمت العرب أني كنت أعزها في الجاهلية وأن
الإسلام لم يزدني إلا عزا وإني لم أتكثر بزياد من قلة ولم أتعزز به من ذلة ولكن عرفت حقا له فوضعته موضعه فقال يا أمير المؤمنين نرجع إلى ما يحب زياد قال إذا نرجع إلى ما تحب. فخرج ابن عامر إلى زياد فترضاه.
فلما قدم زياد الكوفة قال قد جئتكم في أمر ما طلبته إلا لكم قالوا ما تشاء قال تلحقون نسبي بمعاوية قالوا أما بشهادة الزور فلا فأتي البصرة فشهد له رجل.
442

هذا جميع ما ذكره أبو جعفر في استلحاق معاوية نسب زياد ولم يذكر حقيقة الحال في ذلك إنما ذكر حكاية جرت بعد استلحاقه وأنا أذكر سبب ذلك وكيفيته فإنه من الأمور المشهورة الكبيرة في الإسلام لا ينبغي إهمالها.
وكان ابتداء حاله أن سمية أم زياد كانت لدهقان زندورد بكسكر فمرض الدهقان فدعا الحارث بن كلدة الطبيب الثقفي فعالجه فبرئ فوهبه سمية فولدت عند الحارث أبا بكرة واسمه نفيع فلم يقر به ثم ولدت نافعا فلم يقر به أيضا فلما نزل أبو بكرة إلى النبي حين حصر الطائف قال الحارث لنافع أنت ولدي وكان قد زوج سمية من غلام له اسمه عبيد وهو رومي فولدت له زيادا.
وكان أبو سفيان بن حرب سار في الجاهلية إلى الطائف فنزل علي خمار يقال له أبو مريم السلولي وأسلم أبو مريم بعد ذلك وصحب النبي فقال أبو سفيان لأبي مريم قد اشتهيت النساء فالتمس لي بغيا فقال له هل لك في سمية فقال هاتها علي طول ثديها وذفر بطنها فأتاه بها فوقع عليها فعلقت بزياد ثم وضعته سنة إحدى من الهجرة فلما كبر ونشأ استكتبه أبو موسى الأشعري لما ولي البصرة ثم أن عمر بن الخطاب استكفى زيادا أمرا فقام فيه مقاما مرضيا فلما عاد إليه حضر وعند عمر المهاجرون والأنصار فخطب خطبة لم يسمعوا بمثلها فقال عمرو بن العاص لله هذا الغلام لو كان أبوه من قريش لساق العرب بعصاه فقال أبو سفيان وهو حاضر ووالله إني لأعرف أباه ومن وضعه في رحم أمه فقال علي يا أبا سفيان اسكت فإنك لتعلم أن عمر لو سمع هذا القول منك لكان إليك سريعا.
فلما ولي علي الخلافة استعمل زيادا علي فارس فضبطها وحمي قلاعها واتصل الخبر بمعاوية فساءه ذلك وكتب إلى زياد يتهدده ويعرض له بولادة
443

أبي سفيان إياه فلما قرأ زياد كتابه قام في الناس وقال العجب كل العجب من ابن آكلة الأكباد ورأس النفاق يخوفني بقصده إياي وبين وبينه ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار أما والله لو أذن لي في لقائه لوجدني أحمر مخشيا ضرابا بالسيف.
وبلغ ذلك عليا فكتب إليه إني وليتك ما وليتك وأنا أراك له أهلا وقد كانت من أبي سفيان فلتة من أماني الباطل وكذب النفس لا توجب له ميراثا ولا تحل له نسبا وإن معاوية يأتي الإنسان من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله فاحذر ثم احذر والسلام.
فلما قتل علي وكان من أمر زياد ومصالحته معاوية ما ذكرناه وضع زياد مصقلة بن هبيرة الشيباني وضمن له عشرين ألف درهم ليقول لمعاوية إن زيادا قد أكل فارس برا وبحرا وصالحك علي ألفي ألف درهم والله ما أرى الذي يقال إلا حقا فإذا قال لك وما يقال فقل يقال إنه ابن أبي سفيان ففعل مصقلة ذلك ورأي معاوية أن يستميل زيادا واستصفى مودته باستلحاقه فاتفقا علي ذلك وأحضر الناس وحضر من يشهد لزياد وكان فيمن حضر أبو مريم السلولي فقال له معاوية بم تشهد يا أبا مريم فقال أنا أشهد أن أبا سفيان حضر عندي وطلب مني بغيا فقلت له ليس عندي إلا سمية فقال ائتني بها علي قذرها ووضرها فأتيته بها فخلا معها ثم خرجت من عنده وإن إسكتيها ليقطران منيا فقال له زياد مهلا أبا مريم إنما بعثت شاهدا ولم تبعث شامتا.
فاستلحقه معاوية وكان استلحاقه أول ما ردت به أحكام الشريعة علانية فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضي بالولد للفراش وللعاهر بالحجر.
444

وكتب زياد إلى عائشة من زياد بن أبي سفيان وهو يريد أن تكتب له إلى زياد بن أبي سفيان فيحتج بذلك فكتبت من عائشة أم المؤمنين إلى ابنها زياد وعظم ذلك علي المسلمين عامة وعلي بني أمية خاصة وجري أقاصيص يطول بذكرها الكتاب فأضربنا عنها.
ومن اعتذر لمعاوية قال إنما استلحق معاوية زيادا لأن أنكحة الجاهلية كانت أنواعا لا حاجة إلى ذكر جميعها وكان منها أن الجماعة يجامعون البغي فإذا حملت وولدت ألحقت الولد بمن شاءت منهم فليلحقه فلما جاء الإسلام حرم هذا النكاح إلا أنه أقر كل ولد كان ينسب إلى أب من أي نكاح كان من أنكحتهم علي نسبه ولم يفرق بين شيء منها فتوهم معاوية أن ذلك جائز له ولم يفرق بين استلحاق في الجاهلية والإسلام، وهذا مردود لاتفاق المسلمين علي إنكاره ولأنه لم يستلحق أحد في الإسلام مثله ليكون به حجة.
وقيل أراد زياد أن يحج بعد أن استلحقه معاوية فسمع أخوه أبو بكرة وكان مهاجرا له من حين خالفه في الشهادة بالزنا علي المغيرة بن شعبة فلما سمع بحجه جاء إلى بيته وأخذ ابنا له وقال له يا بني قل لأبيك إنني سمعت أنك تريد الحج ولا بد من قدومك إلى المدينة ولا شك أن تطلب الاجتماع بأم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي وإن منعتك فأعظم به فضيحة في الدنيا وتكذيبا لأعدائك فترك زياد الحج وقال جزاك الله خيرا فقد أبلغت في النصح.
445

ذكر غزو المهلب السند
وفيها غزا المهلب بن أبي صفرة ثغر السند فأتي بنة والأهواز وهما بين الملتان وكابل فلقيه العدو وقاتله ولقي المهلب ببلاد القيقان ثمانية عشر فارسا من الترك فقاتلوه فقتلوا جميعا فقال المهلب ما جعل هؤلاء الأعاجم أولي بالتشمير منا فحذف الخيل وكان أول من حذفها من المسلمين وفي يوم بنة يقول الأزدي:
(ألم تر الأزد ليلة بيتوا * ببنة كانوا خير جيش المهلب)
ذكر عدة حوادث
وحج بالناس في هذه السنة معاوية.
وفيها عمل مروان بن الحكم المقصورة بالمدينة وهو أول من عملها بها وكان معاوية قد عملها بالشام لما ضربه الخارجي وفيها توفيت أم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي وفيها قتل رفاعة العدوي من عدي رباب وهو بصري له صحبة.
446

45
ثم دخلت سنة خمسة وأربعين
فيها ولي معاوية الحارث بن عبد الله الأزدي البصرة في أولها حين عزل ابن عامر وهو من أهل الشام فاستعمل الحارث علي شرطته عبد الله بن عمرو الثقفي فبقي الحارث أميرا علي البصرة أربعة أشهر ثم عزله وولاها زيادا.
ذكر ولاية زياد بن أبيه البصرة
قدم زياد الكوفة فأقام ينتظر إمارته عليها فقيل ذلك للمغيرة بن شعبة فسار إلى معاوية فاستقاله الإمارة وطلب منه أن يعطيه منازل بقرقيسيا ليكون بين قيس فخافه معاوية وقال له لترجعن إلى عملك فأبي فازداد معاوية تهمة له فرده علي عمله فعاد إلى الكوفة ليلا وأرسل إلى زياد فأخرجه منها.
وقيل إن المغيرة لم يسر إلى الشام وإنما معاوية أرسل إلى زياد وهو بالكوفة فأمره بالمسير إلى البصرة فولاه البصرة وخراسان وسجستان ثم جمع له الهند والبحرين وعمان، فقدم البصرة آخر شهر ربيع الآخر سنة خمس وأربعين والفسق في البصرة ظاهر فاش فخطبهم خطبته البتراء لم يحمد الله فيها وقيل بل حمد الله فقال:
الحمد لله علي إفضاله وإحسانه ونسأله مزيدا من نعمه اللهم كما زدتنا نعما فألهمنا شكرا علي نعمتك علينا أما بعد فإن الجهالة الجهلاء والضلالة العمياء
447

والفجر الموقد لأهله النار، الباقي عليهم سعيرها ما يأتي سفهاؤكم ويشتمل عليه حلماؤكم من الأمور العظام فيثب فيها الصغير ولا يتحاشى عنها الكبير كأن لم تسمعوا نبي الله ولم تقرأوا كتاب الله ولم تعلموا ما أعد الله من الثواب الكريم لأهل طاعته والعذاب الأليم لأهل معصيته في الزمن السرمد الذي لا يزول أتكونون كمن طرقت عينه الدنيا وسدت مسامعه الشهوات واختار الفانية علي الباقية ولا تذكرون أنكم أحدثتم في الإسلام الحدث الذي لم تسبقوا إليه هذه المواخير المنصوبة والضعيفة المسلوبة في النهار المبصر والعدد غير قليل ألم تكن منكم نهاة تمنع الغواة عن دلج الليل وغارة النهار قربتم القرابة وباعدتم الذين يعتذرون بغير العذر وتعطفون علي المختلس
كل امرئ منكم يذب عن سفيهه صنيع من لا يخاف عاقبة ولا يخشى معادا ما أنتم بالحلماء ولقد اتبعتم السفهاء فلم يزل بهم ما ترون من قيامكم دونهم حتى انتهكوا حرم الإسلام ثم أطرقوا وراءكم كنوسا في مكانس الريب حرام علي الطعام والشراب حتى أسويها بالأرض هدما وإحراقا إني رأيت آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله لين في غير ضعف وشدة في غير جبرية وعنف وإني لأقسم بالله لآخذن الولي بالولي والمقيم بالظاعن والمقبل بالمدبر والصحيح منكم بالسقيم حتى يلقي الرجل منكم أخاه فيقول انج سعد فقد هلك سعيد أو تستقيم لي قناتكم إن كذبة المنبر [بلقاء] مشهودة فإذا تعلقتم علي بكذبة قلت حلت لكم معصيتي من يبيت منكم
448

فأنا ضامن لما ذهب له إياي ودلج الليل فإني لا أوتي بمدلج إلا سفكت دمه وقد أجلتكم في ذلك بقدر ما يأتي الخبر الكوفة ويرجع إليكم وإياي ودعوى الجاهلية فإني لا أجد أحدا دعا بها إلا قطعت لسانه.
وقد أحدثتم أحداثا لم تكن وقد أحدثنا لكل ذنب عقوبة فمن غرق قوما غرقناه ومن حرق علي قوم حرقناه ومن نقب بيتا نقبت عن قلبه ومن نبش قبرا دفنته فيه حيا، فكفوا عني أيديكم وألسنتكم أكفف عنكم لساني ويدي ولساني وأذاي لا يظهر من أحد منكم خلاف ما عليه عامتكم إلا ضربت عنقه وقد كانت بيني وبين أقوام إحن فجعلت ذلك دبر أذني وتحت قدمي فمن كان منكم محسنا فليزدد إحسانا ومن كان مسيئا فلينزع عن إساءته إني لو علمت أن أحدكم قد قتله السل من بغضي لم أكشف له قناعا ولم أهتك له سترا حتى يبدي لي صفحته فإذا فعل لم أناظره، فاستأنفوا أموركم وأعينوا علي أنفسكم فرب مبتئس بقدومنا سيسر ومسرور بقدومنا سيبتئس.
أيها الناس إنا أصبحنا لكم ساسة وعنكم ذادة نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا ونذود عنكم بفيء الله الذي خولنا فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا ولكم علينا العدل فيما ولينا فاستوجبوا عدلنا وفيئنا بمناصحتكم واعلموا أني مهما قصرت عنه فإني لا أقصر عن ثلاث لست محتجبا عن طالب حاجة منكم ولو أتاني طارقا بليل ولا حابسا رزقا ولا عطاء عن إبانه ولا مجمرا لكم بعثا فادعوا الله بالصلاح لأئمتكم فإنهم ساستكم المؤدبون وكهفكم الذي إليه تأوون ومتي تصلحوا يصلحوا ولا تشربوا قلوبكم بغضهم فيشتد لذلك غيظكم ويطول له حزنكم ولا تدركوا حاجتكم مع أنه لو استجيب لكم لكان شرا لكم اسأل الله أن يعين كلا علي كل
449

فإذا رأيتموني أنفذ فيكم الأمر فأنفذوه علي إذلاله وأيم الله إن لي فيكم لصرعى كثيرة فليحذر كل امرئ منكم أن يكون من صرعاي.
فقام إليه عبد الله بن الأهتم فقال: أشهد أيها الأمير أنك أوتيت الحكمة وفصل الخطاب فقال: كذبت ذاك نبي الله داود فقال الأحنف: قد قلت فأحسنت أيها الأمير والثناء بعد البلاء والحمد بعد العطاء وإنا لن نثني حتى نبتلي فقال زياد: صدقت. فقام إليه أبو بلال مرداس بن أذية وهو من الخوارج وقال: أنبأ الله بغير ما قلت قال الله تعالى: (وإبراهيم الذي وفي ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعي) فأوعدنا الله خيرا مما أوعدتنا يا زياد فقال زياد: إنا لا نجد إلى ما تريد أنت وأصحابك سبيلا حتى تخوض إليها الدماء.
واستعمل زياد علي شرطته عبد الله بن حصن وأجل الناس حتى بلغ الخبر الكوفة وعاد إليه وصول الخبر فكان يؤخر العشاء الآخرة ثم يصلي فيأمر رجلا أن يقرأ سورة البقرة أو مثلها يرتل القرآن فإذا فرغ أهمل بقدر ما يري أن إنسانا يبلغ أقصى البصرة ثم يأمر صاحب شرطته بالخروج فيخرج فلا يري إلا إنسانا إلا قتله فأخذ ذات ليلة أعرابيا فأتي به زيادا فقال: هل سمعت النداء فقال: لا والله قدمت بحلوبة لي وغشيني الليل فاضطررتها إلى موضع وأقمت لأصبح ولا علم لي بما كان من الأمير فقال: أظنك والله صادقا ولكن في قتلك صلاح هذه الأمة ثم أمر به فضربت عنقه.
وكان زياد أول من شدد أمر السلطان وأكد الملك لمعاوية وجرد سيفه وأخذ بالظنة وعاقب علي الشبهة وخافه الناس خوفا شديدا حتى أمن بعضهم بعضا وحتى كان الشيء يسقط من يد الرجل أو المرأة فلا يعرض له أحد حتى
450

يأتيه صاحبه فيأخذه ولا يغلق أحد بابه.
وأدر العطاء وبني مدينة الرزق وجعل الشرط أربعة آلاف وقيل له إن السبيل مخوفة فقال: لا أعاني شيئا وراء المصر حتى أصلح المصر فإن غلبني فغيره أشد غلبة منه فلما ضبط المصر وأصلحه تكلف ما وراء ذلك فأحكمه.
ذكر عمال زياد
استعان زياد بعدة من أصحاب النبي منهم عمران بن حصين الخزاعي ولاه قضاء البصرة وأنس بن مالك وعبد الرحمن بن سمرة وسمرة بن جندب فأما عمران فاستعفي من القضاء فأعفاه واستقضي عبد الله بن فضالة الليثي ثم أخاه عاصما ثم زرارة بن أوفي وكانت أخته عند زياد.
وقيل إن زيادا أول من سير بين يديه بالحراب والعمد واتخذ الحرس رابطة خمسمائة لا يفارقون المسجد.
وجعل خراسان أرباعا واستعمل علي مرو أمير بن حمر وعلي نيسابور خليد بن عبد الله الحنفي وعلى مرو الروذ والفارياب والطالقان قيس بن الهيثم وعلي هراة وباذغيس وبوشنج نافع بن خالد الطاحي ثم غضب عليه فعزله.
وسبب تغيره عليه أن نافعا بعث بخوان بازهر إلى زياد قوائمه منه،
451

فأخذ نافع منها قائمة وعمل مكانها قائمة من ذهب وبعث الخوان مع غلام له اسمه زيد وكان يلي أمور نافع كلها فسعي زيد بنافع إلى زياد وقال: إنه خانك وأخذ قائمة الخوان فعزله زياد وحبسه وكتب عليه كتابا بمائة ألف وقيل بثمانمائة ألف فشفع فيه رجال من وجوه الأزد فأطلقه.
واستعمل الحكم بن عمرو الغفاري وكانت له صحبة وكان زياد قال لحاجبه: ادع لي الحكم يريد الحكم بن أبي العاص الثقفي ليوليه خراسان فخرج حاجبه فرأى الحكم بن عمرو الغفاري فاستدعاه فحين رآه زياد قال له: ما أردتك ولكن الله أرادك فولاه خراسان وجعل معه رجالا علي جباية الخراج منهم أسلم بن زرعة الكلابي وغيره وغزا الحكم طخارستان فغنم غنائم كثيرة ثم مات واستخلف أنس بن أبي أناس بن زنيم فعزله زياد وكتب إلى خليد بن عبد الله الحنفي بولاية خراسان ثم بعث الربيع بن زياد الحارثي إلى خراسان في خمسين ألفا من البصرة والكوفة.
ذكر عدة حوادث
وحج بالناس هذه السنة مروان بن الحكم وكان علي المدينة.
وفيها مات زيد بن ثابت الأنصاري وقيل سنة خمس وخمسين وعاصم بن عدي الأنصاري البلوي وكان بدريا وقيل لم يشهدها بل رده رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وضرب له بسهمه وكان عمره مائة وعشرين سنة وفيها مات سلمة بن سلامة بن وقش الأنصاري بالمدينة وشهد العقبة وبدرا وكان عمره سبعين سنة وفيها توفي ثابت بن الضحاك بن خليفة الكلابي وهو من أصحاب الشجرة وهو أخو أبي جبيرة بن الضحاك
452

46
ثم دخلت سنة ست وأربعين
في هذه السنة كان مشتي مالك بن عبد الله بأرض الروم وقيل بل كان عبد الرحمن بن خالد بن الوليد وقيل بل كان مالك بن هيبرة السكوني.
وفيها انصرف عبد الرحمن بن خالد من بلاد الروم إلى حمص ومات
ذكر وفاة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد
وكان سبب موته أنه كان قد عظم شأنه عند أهل الشام ومالوا إليه لما عندهم من آثار أبيه ولغنائه في بلاد الروم ولشدة بأسه فخافه معاوية وخشي علي نفسه منه وأمر ابن أثال النصراني أن يحتال في قتله وضمن له أن يصنع عنه خراجه ما عاش وأن يوليه [جباية] خراج حمص فلما قدم عبد الرحمن من الروم دس إليه ابن أثال شربة مسمومة مع بعض مماليكه فشربها فمات بحمص فوفي له معاوية بما ضمن له.
وقدم خالد بن عبد الرحمن بن خالد المدينة فجلس يوما إلى عروة بن الزبير فقال له عروة ما فعل ابن أثال فقام من عنده وسار إلى حمص فقتل ابن أثال فحمل إلى معاوية فحبسه أياما ثم غرمه ديته ورجع خالد إلى المدينة فأتي عروة فقال عروة: ما فعل ابن أثال فقال: قد كفيتك ابن أثال ولكن ما فعل ابن جرموز يعني قاتل الزبير
فسكت عروة.
453

ذكر خروج سهم والخطيم
وفيها خرج الخطيم وهو يزيد بن مالك الباهلي وسهم بن غالب الهجيمي فحكما فأما سهم فإنه خرج إلى الأهواز فحكم بها ثم رجع فاختفى وطلب الأمان فلم يؤمنه زياد وطلبه حتى أخذه وقتله وصلبه علي بابه مدة.
وأما الخطيم فإن زيادا سيره إلى البحرين ثم أقدمه وقال لمسلم بن عمرو الباهلي والد قتيبة بن مسلم أضمنه فأبي وقال: إن بات خارجا عن بيته أعلمتك ثم أتاه مسلم فقال له: لم يبت الخطيم الليلة في بيته فأمر به فقتل وألقي في باهلة وقد تقدم ذلك أتم من هذا وإنما ذكرناه ها هنا لأنه قتل هذه السنة.
ذكر عدة حوادث
وحج بالناس هذه السنة عتبة بن أبي سفيان وكان العمال من تقدم ذكرهم وفيها توفي صالح بن كيسان مولي بني غفار وقيل مولي بني عامر وقيل الخزاعي.
454

47
ثم دخلت سنة سبع وأربعين
في هذه السنة كان مشتى مالك بن هبيرة بأرض الروم ومشي عبد الرحمن القيني بأنطاكية.
ذكر عزل عبد الله بن عمرو عن مصر وولاية ابن حديج
وفيها عزل عبد الله بن عمرو بن العاص عن مصر ووليها معاوية بن حديج وكان عثمانيا فمر به عبد الرحمن بن أبي بكر وقد جاء في الإسكندرية فقال له: يا معاوية قد أخذت جزاءك من معاوية قد قتلت أخي محمد بن أبي بكر لتلي مصر فقد وليتها فقال: ما قتلت محمدا إلا بما صنع بعثمان فقال عبد الرحمن: فلو كنت تطلب بدم عثمان ما شاركت معاوية فيما صنع حيث عمل عمرو بالأشعري ما عمل فوثبت أول الناس فبايعته.
(حديج بضم الحاء المهملة وفتح الدال المهملة وبالجيم).
ذكر غزوة الغور
في هذه السنة سار الحكم بن عمرو إلى جبال الغور فغزا من بها، وكانوا
455

ارتدوا، فأخذهم بالسيف عنوة وفتحها وأصاب منها مغانم كثيرة وسبايا ولما رجع الحكم من هذه الغزوة مات بمرو في قول بعضهم وكان الحكم قد قطع النهر في ولايته ولم يفتح وكان أول المسلمين شرب من النهر مولي للحكم اغترف بترسه فشرب وناول الحكم فشرب وتوضأ وصلي ركعتين وكان أول المسلمين فعل ذلك ثم رجع.
ذكر مكيدة للمهلب
وكان المهلب مع الحكم بن عمرو بخراسان وغزا معه بعض جبال الترك فغنموا وأخذ الترك عليهم الشعاب والطرق فعيي الكم بالأمر فولي المهلب الحرب فلم يحتال حتى أسر عظيما من عظماء الترك فقال له: إما أن تخرجنا من هذا الضيق أو لأقتلنك فقال له: أوقد النار حيال طريق من هذه الطرق وسير الأثقال نحوه فإنهم سيجتمعون فيه ويخلون ما سواه من الطرق فبادرهم إلى طريق آخر فما يدركونكم حتى تخرجوا منه. ففعل ذلك فسلم الناس بنا معهم من الغنائم.
وحج بالناس هذه السنة عتبة بن أبي سفيان وقيل عنبسة بن أبي سفيان وكان الولاة من تقدم ذكرهم.
456

48
ثم دخلت سنة ثمان وأربعين
فيها كان مشتى عبد الرحمن القيني بأنطاكية وصائفة عبد الله بن قيس الفزاري وغزوة مالك بن هبيرة الكوني البحر وغزوة عقبة بن عامر الجهني بأهل مصر البحرين وبأهل المدينة.
وفيها استعمل زياد غالب بن فضالة الليثي علي خراسان وكانت له صحبة وحج بالناس مروان وهو يتوقع العزل لموجدة كانت من معاوية عليه وارتجع معاوية منه فدك وكان وهبها له وكان ولاة الأمصار من تقدم ذكرهم.
457

49
ثم دخلت سنة تسع وأربعين
فيها كان مشتى مالك بن هبيرة بأرض الروم وفيها كانت غزوة فضالة بن عبيد حزة وشتي بها وفتحت علي يده وأصاب فيها شيئا كثيرا وفيها كانت صائفة عبد الله بن كرز البجلي وفيها كانت غزوة يزيد بن شجرة الرهاوي في البحر فشتا بأهل الشام وفيها كانت غزوة عقبة بن نافع البحر فشتا بأهل مصر.
ذكر غزوة القسطنطينية
في هذه السنة وقيل سنة خمسين سير معاوية جيشا كثيفا إلى بلاد الروم للغزاة وجعل عليهم سفيان بن عوف وأمر ابنه يزيد بالغزاة معهم فتثاقل واعتل فأمسك عنه أبوه فأصاب الناس في غزاتهم جوع ومرض شديد فأنشأ يزيد يقول:
(ما أن أبالي بما لاقت جموعهم * بالفرقدونة من حمى ومن موم)
(إذا اتكأت علي الأنماط مرتفقا * بدير مران عندي أم كلثوم)
458

وأم كلثوم امرأته، وهي ابنة عبد الله بن عامر.
فبلغ معاوية شعره فأقسم عليه ليلحقن بسفيان في أرض الروم ليصيبه ما أصاب الناس فسار ومعه جمع كثير أضافهم إليه أبوه وكان في هذا الجيش ابن عباس وابن عمر وابن الزبير وأبو أيوب الأنصاري وغيرهم وعبد العزيز بن زرارة الكلابي فأوغلوا في بلاد الروم حتى بلغوا القسطنطينية فاقتتل المسلمون والروم في بعض الأيام واشتدت الحرب بينهم فلم يزل عبد العزيز يتعرض للشهادة فلم يقتل فأنشأ يقول:
(قد عشت في الدهر أطوارا علي طرق * شتى فصادفت منها اللي والبشعا)
(كلا بلوت فلا النعماء تبطرني * ولا تخشعت من لأوائها جزعا)
(لا يملأ الأمر صدري قبل موقعه * ولا أضيق به ذرعا إذا وقعا)
ثم حمل علي من يليه فقتل فيهم وانغمس بينهم فشجره الروم برماحهم حتى قتلوه رحمه الله فبلغ خبر قتله معاوية فقال لأبيه: والله هلك فتي العرب فقال: ابني أو ابنك قال: ابنك فآجرك الله فقال:
(فإن يكن الموت أودي به * وأصبح مخ الكلابي زيرا)
(فكل فتي شارب كأسه * فإما صغيرا وإما كبيرا)
ثم رجع يزيد والجيش إلى الشام وقد توفي أبو أيوب الأنصاري عند القسطنطينية فدفن بالقرب من سورها فأهلها يستسقون به وكان قد شهد بدرا وأحدا والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهد بصفين مع علي وغيرها من حروبه.
459

ذكر عزل مروان عن المدينة وولاية سعيد
وفيها عزل مروان معاوية مروان بن الحكم عن المدينة في ربيع الأول وأمر سعيد بن العاص عليها في ربيع الآخر وقيل في ربيع الأول وكانت ولاية مروان كلها بالمدينة لمعاوية ثماني سنين وشهرين وكان علي قضاء المدينة عبد الله بن الحارث بن نوفل فعزله سعيد حين ولي واستقضى أبا سلمة بن عبد الرحمن.
ذكر وفاة الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام
في هذه السنة توفي الحسن بن علي سمته جعدة بنت الأشعث بن قيس الكندي ووصي أن يدفن عند النبي ألا أن تخاف فتنة فينقل إلى مقابر المسلمين فاستأذن الحسين عائشة فأذنت له فلما توفي أرادوا دفنه عند النبي فلم يعرض إليهم سعيد بن العاص، وهو الأمير فقام مروان بن الحكم وجمع بني أمية وشيعته ومنع عن ذلك فأراد الحسين الامتناع فقيل له إن أخاك قال: إذا خفتم الفتنة ففي مقابر المسلمين وهذه فتنة فسكت وصلي عليه سعيد بن العاص فقال له الحسين: لولا أنه سنة لما تركتك تصلي عليه.
460

50
ثم دخلت سنة خمسين
فيها كانت غزوة بسر بن أرطأة وسفيان بن عوف الأزدي أرض الروم وغزوة فضالة بن عبيد الأنصاري في البحر.
ذكر وفاة المغيرة بن شعبة وولاية زياد الكوفة
في هذه السنة في شعبان كانت وفاة المغيرة بن شعبة في قول بعضهم وهو الصحيح وكان الطاعون قد وقع بالكوفة فهرب المغيرة منه فلما ارتفع الطاعون عاد إلى الكوفة فطعن فمات.
وكان طوالا أعور ذهبت عينه يوم اليرموك وتوفي وهو ابن سبعين سنة وقيل كان موته سنة إحدى وخمسين وقيل سنة تسع وأربعين.
فلما مات المغيرة استعمل معاوية زيادا علي الكوفة [والبصرة]، وهو أول من جمعا له فلما وليها سار إليها واستخلف علي البصرة سمرة بن جندب وكان زياد يقيم بالكوفة ستة أشهر وبالبصرة ستة أشهر فلما وصل الكوفة خطبهم فحصب وهو علي المنبر فجلس حتى أمسكوا ثم دعا قوما من خاصته فأمرهم
461

فأخذوا أبواب المسجد ثم قال: ليأخذ كل رجل منكم جليسه ولا يقولن لا أدري من جليسي، ثم أمر بكرسي فوضع علي باب المسجد فدعاهم أربعة أربعة يحلفون ما منا من حصبك فمن حلف خلاه ومن لم يحلف حبسه حتى صار إلى ثلاثين وقيل إلى ثمانين فقطع أيديهم علي المكان.
وكان أول قتيل قتله زياد بالكوفة أوفي بن الحصن وكان بلغه عنه شيء فطلبه فهرب فعرض الناس [زياد]، فمر به فقال: من هذا؟ قال: أوفي بن حصن فقال زياد: اتتك بحائن رجلاه وقال له: ما رأيك في عثمان؟ قال: ختن رسول الله صلى الله عليه وسلم علي ابنتيه قال: فما تقول في معاوية؟ قال: جواد حليم قال: فما تقول في؟ قال: بلغني أنك قلت بالبصرة والله لآخذن البرئ بالسقيم والمقبل بالمدبر قال: قد قلت ذاك قال: خبطتها خبط عشواء! فقال زياد: ليس بالنفاخ بشر الزمرة! فقتله.
ولما قدم زياد الكوفة قال له عمارة بن عقبة بن أبي معيط إن عمرو بن الحمق يجمع إليه شيعة أبي تراب فأرسل إليه زياد ما هذه الجماعات عندك؟ من أرادك أو أردت كلامه ففي المسجد وقيل الذي سعي بعمرو يزيد بن رويم فقال له زياد: قد أشطت به ولو علمت أن مخ ساقه قد سال من بغضي ما هجته حتى يخرج علي فاتخذ زياد المصورة حين حصب.
فلما استخلف زياد سمرة علي البصرة أكثر القتل فيها فقال ابن سيرين: قتل سمرة في غيبة زياد هذه ثمانية آلاف فقال له زياد: أتخاف أن تكون قتلت بريئا؟ فقال: لو قتلت معهم مثلهم ما خشيت. وقال أبو السوار العدوي:
462

قتل سمرة من قومي في غداة واحدة سبعة وأربعين كلهم قد جمع القرآن. وركب سمرة يوما فلقي أوائل خيله رجلا فقتلوه، فمر به سمرة وهو يتشحط في دمه فقال: ما هذا؟ فقيل أصابه أوائل خيلك. فقال: إذا سمعتم بنا قد ركبنا فاتقوا أسنتنا.
ذكر خروج قريب
وفيها خرج قريب الأزدي وزحاف الطائي بالبصرة وهما ابن خالة وزياد بالكوفة وسمرة علي البصرة، فأتيا بنا ضبيعة، وهم سبعون رجلا وقتلوا منهم شيخا وخرج علي قريب وزحاف شباب من بني علي وبني راسب فرموهم بالنبل وقتل عبد الله بن أوس الطاحي قريبا وجاء برأسه واشتد زياد في أمر الخوارج فقتلهم وأمر سمرة بذلك فقتل منهم بشرا كثيرا وخطب زياد علي المنبر فقال: يا أهل البصرة والله لتكفنني هؤلاء أو لأبدأن بكم والله لئن أفلت منهم رجل لا تأخذون العام من عطياتكم درهما فثار الناس بهم فقتلوهم.
ذكر إرادة معاوية نقل المنبر من المدينة
وفي هذه السنة أمر معاوية بمنبر النبي أن يحمل من المدينة إلى الشام وقال: لا يترك وعصا النبي صلى الله عليه وسلم،
463

بالمدينة وهم قتلة عثمان، وطلب العصا، وهي عند سعد القرظ فحرك المنبر فكسفت الشمس حتى رؤيت النجوم بادية فأعظم الناس ذلك فتركه وقيل أتاه جابر وأبو هريرة وقالا له يا أمير المؤمنين لا يصلح أن تخرج منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم من موضع وضعه ولا تنقل عصاه إلى الشام فانقل المسجد فتركه وزاد فيه ست درجات واعتذر مما صنع.
فلما ولي عبد الملك بن مروان هم بالمنبر فقال له قبيصة بن ذؤيب: أذكرك الله أن تفعل! إن معاوية حركه فكسفت الشمس وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حلف علي منبري [آثما] فليتبوأ مقعده من النار، [فتخرجه من المدينة] وهو مقطع الحقوق عندهم بالمدينة فتركه عبد الملك.
فلما كان الوليد ابنه وحج هم بذلك فأرسل سعيد بن المسيب إلى عمر بن عبد العزيز فقال: كلم صاحبك لا يتعرض للمسجد ولا لله والسخط له فكلمه عمر فتركه.
ولما حج سليمان بن عبد الملك أخبره عمر بما كان من الوليد فقال سليمان: ما كنت أحب أن يذكر عن أمير المؤمنين عبد الملك هذا ولا عن الوليد ما لنا ولهذا أخذنا الدنيا فهي في أيدينا ونريد أن نعمد إلى علم من إعلام الإسلام يوفد إليه فنحمله [إلى ما قبلنا]! هذا ما لا يصح!
* * *
وفيها عزل معاوية بن حديج السكوني عن ومصر ووليها مسلمة بن مخلد مع إفريقية وكان معاوية بن أبي سفيان بعث قبل أن يولي مسلمة إفريقية ومصر عقبة بن نافع إلى أفريقية فافتتحها وكان اختط قيروانها وكان موضعه غيضة لا ترام من السباع والحيات وغيرها فدعا الله عليها فلم يبق منها شيء إلا خرج هاربا
464

حتى إذا كانت السباع لتحمل أولادها وبني الجامع فلما عزل معاوية بن أبي سفيان معاوية بن حديج السكوني عن مصر عزل عقبة عن إفريقية وجمعها لمسلمة بن مخلد، فهو أول من جمع له المغرب مع مصر، فولي مسلمة إفريقية مولي له يقال له أبو المهاجر فلم يزل عليها حتى هلك معاوية بن أبي سفيان.
ذكر ولاية عقبة بن نافع إفريقية وبناء مدينة القيروان
قد ذكر أبو جعفر الطبري أن في هذه السنة ولي مسلمة بن مخلد إفريقية وإن عقبة ولي قبله إفريقية وبني القيروان والذي ذكره أهل التاريخ من المغاربة أن ولاية عقبة بن نافع إفريقية كانت هذه السنة وبني القيروان ثم بقي إلى سنة خمس وخمسين ووليها مسلمة بن مخلد وهم أخبر ببلادهم وأنا أذكر ما أثبتوه في كتبهم:
قالوا: إن معاوية بن أبي سفيان عزل معاوية معاوية بن حديج عن إفريقية حسب واستعمل عليها عقبة بن نافع الفهري وكان مقيما ببرقة وزويلة مذ فتحها أيام عمرو بن العاص وله في تلك البلاد جهاد وفتوح فلما استعمله معاوية سير إليه عشرة آلاف فارس فدخل إفريقية وانضاف إليه من أسلم من البربر فكثر جمعه ووضع السيف في أهل البلاد لأنهم كانوا إذا دخل إليهم أمير أطاعوا وأظهر بعضهم الإسلام فإذا عاد الأمير عنهم نكثوا وارتد من أسلم ثم رأى أن يتخذ مدينة يكون بها عسكر المسلمين وأهلهم وأموالهم ليأمنوا من ثورة تكون من أهل البلاد فقصد موضع القيروان وكان دخلة مشتبكة بها
465

من أنواع الحيوان، من السباع والحيات وغير ذلك فدعا الله وكان مستجاب الدعوة ثم نادى أيتها الحيات والسباع إنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنا فإنا نازلون ومن وجدناه بعد ذلك قتلناه. فنظر الناس ذلك اليوم إلى الدواب تحمل أولادها وتنتقل فرآه قبيل كثير من البربر فأسلموا وقطع الأشجار وأمر ببناء المدينة فبنيت وبني المسجد الجامع وبني الناس مساجدهم ومساكنهم وكان دورها ثلاثة آلاف باع وستمائة باع وتم أمرها سنة خمس وخمسين وسكنها الناس وكان في أثناء عمارة المدينة يغزو ويرسل السرايا فتغير وتنهب ودخل كثير من البربر في الاسلام واتسعت خطة المسلمين وقوي جنان من هناك من الجنود بمدينة القيروان وأمنوا واطمأنوا علي المقام فثبت الإسلام فيها.
ذكر ولاية مسلمة بن مخلد إفريقية
ثم إن معاوية بن أبي سفيان استعمل علي مصر وإفريقية مسلمة بن مخلد الأنصاري فاستعمل مسلمة علي إفريقية مولي له يقال له أبو المهاجر فقدم إفريقية وأساء عزل عقبة واستخف به وسار عقبة إلى الشام وعاتب معاوية علي ما فعله به أبو المهاجر فاعتذر إليه ووعده بإعادته إلى عمله وتمادى الأمر فتوفي معاوية وولى بعده ابنه يزيد فاستعمل عقبة بن نافع علي البلاد سنة اثنتين وستين فسار إليها.
وقد ذكره الواقدي أن عقبة بن نافع ولي أفريقية سنة ست وأربعين واختط القيروان ولم يزل عقبة علي أفريقية إلى سنة اثنتين وستين فعزله يزيد بن معاوية
466

واستعمل أبا المهاجر مولي الأنصار فحبس عقبة وضيق عليه فلما بلغ يزيد بن معاوية ما فعل بعقبة كتب إليه يأمره بإطلاقه وإرساله إليه ففعل ذلك ووصل عقبة إلى يزيد فأعاده إلى إفريقية واليا عليها فقبض علي أبى المهاجر وأوثقه وساق من خبر كسيلة مثل ما نذكره إن شاء الله تعالى سنة اثنتين وستين.
ذكر هروب الفرزدق من زياد
وفيها طلب زياد الفرزدق استعدته عليه بنو نهشل وفقيم.
وسبب ذلك قال: الفرزدق هاجيت الأشهب بن زميلة والبعيث فسقطا فاستعدى علي بنو شهل وبنو فقيم زياد بن أبيه واستعدى علي أيضا يزيد بن مسعود بن خالد بن مالك قال: فلم يعرفني زياد حتى قيل له الغلام الأعرابي الذي أنهب ماله وثيابه فعرفني.
قال: الفرزدق: وكان أبي غالب قد أرسلني في جلب له أبيعه وأمتار له فبعت الجلب بالبصرة وجعلت ثمنه في ثوبي فعرض لي رجل أراه كأنه شيطان فقال: لشد ما تستوثق منها أما لو كان مكانك رجل أعرفه ما صر عليها فقلت ومن هو؟ قال: غالب بن صعصعة وهو أبو الفرزدق فدعوت أهل المربد ونثرتها فقال لي قائل: ألق ردائك ففعلت ألق ثوبك ففعلت وقال آخر: ألق عمامتك ففعلت فقال آخر: ألق إزارك فقلت لا ألقيه وأمشي مجردا إني لست بمجنون وبلغ الخبر زيادا فقال: هذا أحمق يضري الناس بالنهب فأرسل خيلا إلى المربد ليأتوه بي فأتاني رجل من بني الهجيم علي
467

فرس له وقال: النجاء النجاء! وأردفني خلفه ونجوت فأخذ زياد عمين لي ذهيلا والزحاف ابني صعصعة وكانا في الديوان فحبسهما أياما ثم كلم فيهما فأطلقهما وأتيت أبي فأخبرته خبري فحقدها عليه زياد.
ثم وفد الأحنف بن قيس وجارية بن قدامة السعديان والجون بن قتادة العبشمي والحتات بن يزيد أبو منازل المجاشعي إلى معاوية بن أبي سفيان فأعطي كل رجل منهم جائزة مائة ألف وأعطي الحتات سبعين ألفا فلما كانوا في الطريق ذكر كل منهم جائزته فرجع الحتات إلى معاوية فقال: ما ردك؟ قال: فضحتني في بني تميم أما حسبي صحيح أولست ذا سن ألست مطاعا في عشيرتي؟ قال: بلي. قال: فما بالك خسست بي دون القوم وأعطيت من كان عليك أكثر ممن كان لك وكان حضر الجمل مع عائشة وكان الأحنف وجارية يريدان عليا وإن كان الأحنف والجون اعتزلا القتال مع علي لكنهما كانا يريدانه قال: إني اشتريت من القوم دينهم ووكلتك إلى دينك ورأيك في عثمان وكان عثمانيا. فقال: وأنا فاشتر مني ديني فأمر له بإتمام جائزته ثم مات الحتات فحبسهما معاوية فقال الفرزدق في ذلك؛ شعر:
(أبوك وعمي يا معاوية أورثا * تراثا فيحتاز التراث أقاربه)
(فما بال ميراث الحتات أخذته * وميراث صخر جامد لك ذائبه)
(فلو كان هذا الأمر في جاهلية * علمت من المرء القليل حلائبه)
(ولو كان في دين سوى ذا شنئتم * لنا حقنا أو غص بالماء شاربه)
468

(ألست أعز الناس قوما وأسرة * وأمنعهم جارا إذا ضيم جانبه)
(وما ولدت بعد النبي وآله * كمثلي حصان في الرجال يقاربه)
(وبيتي إلى جنب الثريا فناؤه * ومن دونه البدر المضئ كواكبه)
(أنا ابن الجبال الشم في عدد الحصي * وعرق الثرى عرقي فمن ذا يحاسبه)
(وكم من أب لي يا معاوية لم يزل * أغر يباري الريح أزور جانبه)
(نمته فروع المالكين ولم يكن * أبوك الذي من عبد شمس يقاربه)
(تراه كنصل السيف مذ كان لم يكن * قصي وعبد الشمس ممن يخاطبه)
يريد بالمالكين مالك بن حنظلة ومالك بن زيد مناة بن تميم وهما جداه لأن الفرزدق هو ابن غالب بن صعصعة بن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم.
فلما بلغ معاوية شعره رد علي أهله ثلاثين ألفا فأغضبت أيضا زيادا عليه فلما استعدت عليه نهشل وفقيم ازداد عليه غضبا فطلبه فهرب وأتى عيسى بن خصيلة السلمي ليلا وقال له: إن هذا الرجل قد طلبني وقد لفظني الناس وقد أتيتك لتغيبني عندك. فقال: مرحبا بك فكان عنده ثلاث ليال ثم قال له: قد بدا لي أن آتي الشام فسيره وبلغ زيادا مسيره فأرسل في أثره فلم يدرك وأتى الروحاء فنزل في بكر بن وائل فأمن ومدحهم بقصائد.
469

ثم كان زياد إذا نزل البصرة نزل الفرزدق الكوفة وإذا نزل الكوفة نزل الفرزدق البصرة فبلغ ذلك زيادا فكتب إلى عامله علي الكوفة وهو عبد الرحمن بن عبيد يأمره بطلب الفرزدق ففارق الكوفة نحو الحجاز فاستجار بسعيد بن العاص فأجاره فمدحه الفرزدق ولم يزل بالمدينة مرة وبمكة مرة حتى هلك زياد.
وقد قيل إن الفرزدق إنما قال هذا الشعر لأن الحتات لما أسلم آخي النبي بينه وبين معاوية فلما مات الحتات بالشام ورثه معاوية بتلك الأخوة فقال له الفرزدق هذا الشعر وهذا القول الذي ليس بشيء لأن معاوية لم يكن يجهل أن هذه الأخوة لا يرث بها أحد.
(الحتات بضم الحاء وبتائين مثناتين من فوقهما بينهم ألف).
ذكر وفاة الحكم بن عمرو الغفاري
في هذه السنة توفي الحكم بن عمرو الغفاري بمرو بعد انصرافه من غزوة جبل الأشل في قوله وقد تقدم ذكر وفاته في قول آخر وكان زياد قد كتب إليه أن أمير المؤمنين معاوية أمرني أن اصطفي له الصفراء والبيضاء فلا تقسم بين الناس ذهبا ولا فضة فكتب إليه الحكم بلغني ما أمر به أمير المؤمنين وإني وجدت كتاب الله قبل فضة فكتب إليه الحكم بلغني ما أمر به أمير المؤمنين وإني وجدت كتاب الله قبل كتابه وإنه والله [لو] أن السماوات والأرض كانتا رتقا علي عبد ثم اتقي الله لجعل له فرجا ومخرجا ثم قال: للناس اغدوا علي أعطياتكم ومالكم فقسمه بينهم، ثم قال: اللهم إن كان لي عندك خير فاقبضني إليك فتوفي بمرو وله صحبة.
470

ذكر عدة حوادث
حج بالناس هذه السنة معاوية وقيل بل حج ابنه يزيد وكان العمال علي البلاد من تقدم ذكرهم.
وفيها توفي سعد بن أبي وقاص بالعقيق فحمل علي الرقاب إلى المدينة فدفن بها وقيل توفي سنة أربع وخمسين وقيل سنة خمس وخمسين وعمره أربع وسبعون وقيل ثلاث وثمانون سنة وهو أحد العشرة وكان قصيرا دحداحا وفيها توفيت صفية بنت حيي زوج النبي وقيل توفيت أيام عمر وفيها توفي عثمان بن أبي العاص الثقفي وعبد الرحمن بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس توفي بالبصرة وأبو موسى الأشعري وقيل توفي سنة اثنتين وخمسين وفيها توفي زيد بن خالد الجهني وقيل توفي سنة ثمان وستين وقيل ثمان وسبعين وفيها توفي مدلاج بن عمرو السلمي وكان قد شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم له صحبة.
471

51
ثم دخلت سنة إحدى وخمسين
وفيها كان مشتى فضالة بن عبيد بأرض الروم وغزوة بسر بن أبي أرطأة الصائفة.
ذكر مقتل حجر بن عدي وعمرو بن الحمق وأصحابهما
في هذه السنة قتل حجر بن عدي وأصحابه.
وسبب ذلك أن معاوية استعمل المغيرة بن شعبة علي الكوفة سنة إحدى وأربعين فلما أمره عليها دعاه وقال له: أما بعد فإن لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا وقد يجزي عنك الحكيم بغير التعليم وقد أردت إيصاءك بأشياء كثيرة أنا تاركها اعتمادا علي بصرك ولست تاركا إيصاءك بخصلة لا تترك شتم علي وذمه والترحم علي عثمان والاستغفار له والعيب لأصحاب علي والإقصاء لهم والإطراء بشيعة عثمان والإدناء لهم فقال له: المغيرة قد جربت وجربت وعملت قبلك لغيرك فلم يذممني وستبلو فتحمد أو تذم فقال: بل نحمد إن شاء الله تعالى.
فأقام المغيرة عاملا علي الكوفة وهو أحسن شيء سيرة غير أنه لا يدع شتم علي والوقوع فيه والدعاء لعثمان والاستغفار له فإذا سمع ذلك حجر بن
472

عدي قال: بل إياكم ذم الله ولعن! ثم قام وقال: أنا أشهد أن من تذمون أحق بالفضل ومن تزكون أولي بالذم فيقول له المغيرة يا حجر اتق هذا السلطان وغضبه وسطوته فإن غضب السلطان يهلك أمثالك ثم يكف عنه
ويصفح.
فلما كان آخر إمارته قال في علي وعثمان ما كان يقول له فقام حجر فصاح صيحة بالمغيرة سمعها كل من بالمسجد وخارجا منه وقال له: مر لنا أيها الإنسان بأرزاقنا فقد حبستها عنا وليس ذلك لك وقد أصبحت مولعا بذم أمير المؤمنين. فقام أكثر من ثلثي الناس يقولون صدق حجر وبر مر لنا بأرزاقنا فإن ما أنت عليه لا يجدي علينا نفعا وأكثروا من هذا القول وأمثاله فنزل المغيرة فاستأذن عليه قومه ودخلوا وقالوا علام تترك هذا الرجل يجترئ عليك في سلطانك ويقول لك هذه المقالة فيوهن سلطانك ويسخط عليك أمير المؤمنين معاوية؟ فقال لهم المغيرة: إني قد قتلته سيأتي من بعدي أمير يحبسه مثلي فيصنع به ما ترونه يصنع بي فيأخذه ويقتله! إني قد قرب أجلي ولا أحب أن أقتل خيار أهل هذا المصر فيسعدوا وأشقى ويعز في الدنيا معاوية ويشقى في الآخرة المغيرة.
ثم توفي المغيرة وولى زياد فقام في الناس فخطبهم عند قدومه ثم ترحم علي عثمان وأثني علي أصحابه ولعن قاتليه. فقام حجر ففعل كما كان يفعل بالمغيرة ورجع زياد إلى البصرة واستخلف علي الكوفة عمرو بن حريث فبلغه أن حجرا يجتمع إليه شيعة علي ويظهرون لعن معاوية والبراءة منه وأنهم حصبوا عمرو بن حريث، فشخص زياد إلى الكوفة حتى دخلها فصعد المنبر فحمد الله وأثني عليه وحجر جالس في المسجد ثم قال: أما بعد فإن غب البغي
473

والغي وخيم إن هؤلاء جموا فأشروا وأمنوني فاجترأوا علي الله وأيم الله لئن لم تستقيموا لأداوينكم بدوائكم ولست بشيء إن لم أمنع الكوفة من حجر وأدعه مكالا لمن بعده ويل أمك يا حجر سقط العشاء بك علي سرحان.
وأرسل إلى حجر يدعوه وهو بالمسجد فلما أتاه رسول زياد يدعوه قال أصحابه: لا تأته ولا كرامة فرجع الرسول فأخبر زيادا فأمر أصحاب شرطته وهو شداد بن الهيثم الهلالي أن يبعث إليه جماعة ففعل فسبهم أصحاب حجر فرجعوا وأخبروا زيادا فجمع أهل الكوفة وقال: تشجون بيد وتأسون بأخرى أبدانكم معي وقلوبكم مع حجر الأحمق هذا والله من دحسكم والله لتظهرن لي براءتكم أو لآتينكم بقوم أقيم بهم أودكم وصعركم! فقالوا معاذ الله أن يكون لنا رأي إلا طاعتك وما فيه رضاك. قال: فليقم كل رجل منكم فليدع من عند حجر من عشيرته وأهله ففعلوا وأقاموا أكثر أصحابه عنه وقال زياد لصاحب شرطته: انطلق إلى حجر فإن تبعك فاتني به وإلا فشدوا عليهم بالسيوف حتى تأتوني به.
فأتاه صاحب الشرطة يدعوه، فمنعه أصحابه من إجابته فحمل عليهم فقال أبو العمرطة الكندي لحجر: إنه ليس معك من معه سيف غيري وما يغني عنك سيفي قم فالحق بأهلك يمنعك قومك زياد ينظر إليهم وهو علي المنبر وغشيهم أصحاب زياد وضرب رجل من الحمراء رأس عمرو بن الحمق بعموده فوقع وحمله أصحابه إلى الأزد فاختفى عندهم حتى خرج وانحاز أصحاب حجر إلى أبواب كندة وضرب بعض الشرطة يد عائذ بن حملة
474

التميمي وكسر نابه وأخذ عمودا من بعض الشرط فقاتل به وحمي حجرا وأصحابه حتى خرجوا من أبواب كندة وأتى حجر بغلته وقال له أبو العمرطة: اركب فقد قتلتنا ونفسك وحمله حتى أركبه وركب أبو العمرطة فرسه ولحقه يزيد بن طريف المسلي فضرب أبا العمرطة علي فخده بالعمود وأخذ أبو العمرطة سيفه فضرب به رأسه فسقط ثم برئ وله يقول عبد الله بن همام السلولي:
(ألؤم ابن لؤم ما عدا بك حاسرا * إلى بطل ذي جرأة وشكيم)
(معاود ضرب الدارعين بسيفه * علي الهام عند الروع غير لئيم)
(إلى فارس الغارين يوم تلاقيا * بصفين قرم خير نجل قروم)
(حسبت ابن برصاء الحتار قتاله * قتالك زيدا يوم دار حكيم)
وكان ذلك السيف أول سيف ضرب به في الكوفة في اختلاف بين الناس.
ومضي حجر وأبو العمرطة إلى دار حجر واجتمع إليهما ناس كثير ولم يأته من كندة كثير أحد فأرسل زياد وهو علي المنبر مذحج وهمدان إلى جبانة كندة وأمرهم أن يأتوه بحجر وأرسل سائر أهل اليمن إلى جبانة الصائدين وأمرهم أن يمضوا إلى صاحبهم حجر فيأتوه به ففعلوا فدخل مذحج وهمدان إلى جبانة كندة فأخذوا كل من وجدوا فأثني عليهم زياد.
فلما رأى حجر قلة من معه أمرهم بالانصراف وقال لهم: لا طاقة لكم بمن اجتمع عليكم وما أحب أن تهلكوا فخرجوا فأدركهم مذحج وهمدان فقاتلوهم وأسروا قيس بن يزيد ونجا الباقون فأخذ حجر طريقا إلى بني حوت فدخل دار رجل منهم يقال له سليم بن يزيد، وأدركه الطلب فأخذ سليم
475

سيفه ليقاتل، فبكى بناته فقال حجر: بئسما أدخلت علي بناتك إذا! قال: والله لا تؤخذ من داري أسيرا ولا قتيلا وأنا حي فخرج حجر من خوخة في داره فأتي النخع فنزل دار عبد الله بن الحارث أخي الأشتر فأحسن لقاءه فبينما هو عنده قيل له إن الشرط تسأل عنك في النخع وسبب ذلك أن أمة سوداء لقيتهم فقالت: من تطلبون؟ قالوا: حجر بن عدي. فقالت: هو في النخع.
فخرج حجر من عنده فأتي الأزد فاختفى عند ربيعة بن ناجد.
فلما أعياهم طلبه دعا زياد محمد بن الأشعث وقال له: والله لتأتيني به أو لأقطعن كل نخلة لك وأهدم دورك ثم لا تسلم مني حتى أقطعك إربا إربا. فاستمهله فأهمله ثلاثا وأحضر قيس بن يزيد أسيرا فقال له زياد: لا بأس عليك قد عرفت رأيك في عثمان وبلاءك مع معاوية بصفين وإنك إنما قاتلت مع حجر حمية وقد غفرتها لك ولكن إئتني بأخيك عمير فاستأمن له منه علي ماله ودمه فأمنه فأتاه به وهو جريح فأثقله حديدا وأمر الرجال أن يرفعوه ويلقوه ففعلوا ذلك به مرارا، فقال قيس بن يزيد لزياد: ألم تؤمنه؟ قال: بلي قد أمتنه علي دمه ولست أهريق له دما. ثم ضمنه وخلي سبيله.
ومكث حجر بن عدي في بيت ربيعة يوما وليلة فأرسل إلى محمد بن الأشعث يقول له ليأخذ له من زياد أمانا حتى يبعث به إلى معاوية فجمع محمد جماعة منهم: جرير بن عبد الله، وحجر بن يزيد، وعبد الله بن الحارث أخو الأشتر، فدخلوا علي زياد فاستأمنوا له علي أن يرسله إلى معاوية، فأجابهم، فأرسلوا إلى حجر بن عدي فحضر عند زياد، فلما رآه قال: مرحبا بك أبا عبد الرحمن حرب أيام الحرب وحرب وقد سالم الناس علي أهلها تجني براقش،
476

فقال حجر: ما خلعت طاعة ولا فارقت جماعة وإني علي بيعتي فأمر به إلى السجن فلما ولي قال زياد: والله لأحرصن علي قطع خيط رقبته وطلب أصحابه فخرج عمرو بن الحمق حتى أتي الموصل ومعه رفاعة بن شداد فاختفيا بجبل هناك فرفع خبرهما إلى عامل الموصل فسار إليهما فخرجا إليه فأما عمرو فكان قد استسقي بطنه ولم يكن عنده امتناع وأما رفاعة فقد كان شابا قويا فركب فرسه ليقاتل عن عمرو، فقال له عمرو: ما ينفعني قتالك عني انج بنفسك! فحمل عليهم فأفرجوا له فنجا وأخذ عمرو أسيرا فسألوه من أنت فقال: من إن تركتموه كان أسلم لكم وإن قتلتموه كان أضر عليكم ولم يخبرهم فبعثوه إلى عامل الموصل وهو عبد الرحمن بن عثمان الثقفي الذي يعرف بابن أم الحكم وهو ابن أخت معاوية فعرفه فكتب فيه إلى معاوية فكتب إليه أنه زعم طعن عثمان تسع طعنات بمشاقص معه فأطعنه كما طعن عثمان فأخرج وطعن فمات في الأولي منهن أو الثانية.
وجد زياد في طلب أصحاب حجر فهربوا وأخذ من قدر عليه منهم فأتي بقبيصة بن ضبيعة العبسي بأمان فحبسه وجاء قيس بن عباد الشيباني إلى زياد فقال له: إن امرأ منا يقال له: صيفي من رؤوس أصحاب حجر فبعث زياد فأتي به فقال: يا عدو الله ما تقول في أبي تراب؟ فقال: ما أعرف أبو تراب. فقال: ما أعرفك به! أتعرف علي بن أبي طالب؟ فقال: نعم قال: فذاك أبو تراب قال: كلا ذاك أبو الحسن والحسين فقال له صاحب الشرطة: يقول الأمير هو أبو تراب وتقول لا! قال: فإن كذب الأمير أكذب أنا وأشهد علي باطل كما شهد فقال له زياد: وهذا أيضا علي بالعصا فأتي بها فقال: ما تقول في علي؟ قال: أحسن قول. قال: اضربوه فضربوه حتى لصق بالأرض، ثم قال: أقلعوا عنه ما قولك في علي؟ قال: والله لو شرحتني
477

بالمواسي ما قلت فيه إلا ما سمعت مني قال لتلعننه أو لأضربن عنقك! قال لا أفعل فأوثقوه حديدا وحبسوه.
قيل: وعاش قيس بن عباد حتى قاتل مع ابن الأشعث في مواطنه ثم دخل الكوفة فجلس في بيته فقال حوشب للحجاج إن هنا امرأ صاحب فتن لم تكن فتنة بالعراق إلا وثب فيها وهو ترابي يلعن عثمان وقد خرج مع ابن
الأشعث حتى هلك وقد جاء فجلس في بيته. فبعث إليه الحجاج فقتله فقال بنو أبية لآل حوشب سعيتم بصاحبنا! فقالوا: وأنتم أيضا سعيتم بصاحبنا يعني صيفيا الشيباني.
وأرسل زياد إلى عبد الله بن خليفة الطائي فتواري فبعث إليه الشرط فأخذوه فخرجت أخته النوار فحرضت طيئا فثاروا بالشرط وخلصوه فرجعوا إلى زياد فأخبروه فأخذ عدي بن حاتم وهو في المسجد فقال: أئتني بعبد الله! قال: وما حاله؟ فأخبره فقال: لا علم لي بهذا! قال: لتأتيني به. قال: لا آتيك به أبدا لآتيك بابن عمي تقتله! والله لو كان تحت قدمي ما رفعتهما عنه! فأمر به إلى السجن فلم يبقي بالكوفة يمني ولا ربعي إلا كلم زيادا وقالوا تفعل هذا بعدي بن حاتم صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: فإني أخرجه علي شرط أن يخرج ابن عمه عني فلا يدخل الكوفة ما دام لي سلطان فأجابوه إلى ذلك وأرسل عدي إلى عبد الله يعرفه ما كان وأمره أن يلحق بجبلي طيئ فخرج إليهما وكان يكتب إلى عدي ليشفع فيه ليعود إلى الكوفة وعدي يمينه فمما كتب إليه يعاتبه ويرثي حجرا وأصحابه قوله:
(تذكرت ليلي والشبيبة أعصرا * وذكر الصبا برح علي من تذكرا)
(وولى الشباب فافتقدت غضونه * فيا لك من وجد به حين أدبرا)
478

(فدع عنك تذكار الشباب وفقده * وأسبابه إذ بان عنك فأجمرا)
(وابك علي الخلان لما تحرموا * ولم يجدوا عن منهل الموت مصدرا)
(دعتهم مناياهم ومن حان يومه * من الناس فاعلم أنه لن يؤخرا)
(أولئك كانوا شيعة لي وموئلا * إذا اليوم ألفي ذا احتدام مذكرا)
(وما كنت أهوى بعدهم متعللا * بشيء من الدنيا ولا أن أعمرا)
(أقول ولا والله أنسي ادكارهم * سجيس الليالي أو أموت فأقبرا)
(علي أهل عذراء السلام مضاعفا * من الله وليسق الغمام الكنهورا)
(ولاقى بها حجر من الله رحمة * فقد كان أرضي الله حدرا وأعذرا)
(ولا زال تهطال ملث وديمة * علي قبر حجر أو ينادي فيحشرا)
(فيا حجر من للخيل تدمي نحورها * وللملك المغري إذا ما تغشمرا)
(ومن صادع بالحق بعدك ناطق * بتقوى ومن إن قيل بالجور غيرا)
(فنعم أخو الإسلام كنت وأنني * لأطمع أن تؤتي الخلود وتحبرا)
(وقد كنت تعطي السيف في الحرب * حقه وتعرف معروفا وتنكر منكرا)
(فيا أخوينا من هميم عصمتما * وبشرتما بالصالحات فأبشرا)
(ويا أخوي الخندفيين أبشرا * بما معنا حييتما أن تتبرا)
479

(ويا أخوتا من حضرموت وغالب * وشيبان لقيتم حسابا ميسرا)
(سعدتم فلم أسمع بأصوب منكم * حجاجا لدى الموت الجليل وأصبرا)
(سأبكيكم ما لاح نجم وغرد ال * حمام ببطن الواديين وقرقرا)
(فقلت ولم أظلم أغوث بن طيئ * متى كنت أخشى بينكم أن أسيرا)
(هبلتم ألا قاتلتم عن أخيكم * وقد دث حتى مال ثم تجورا)
(تفرجتم عني فغودرت مسلما * كأني غريب من إياد وأعصرا)
(فمن لكم مثلي لدى كل غارة * ومن لكم [مثلي] إذا البأس أصحرا)
(ومن لكم مثلي إذا الحرب قلصت * وأوضع فيها المستميت وشمرا)
(فها أنا ذا آوي بجبال طيئ * طريدا فلو شاء الإله لغيرا)
(نفاني عدوي ظالما عن مهاجري * رضيت بما شاء الإله وقدرا)
(وأسلمني قومي بغير جنابة * كأن لم يكونوا لي قبيلي ومعشرا)
(فإن ألف في دار بأجبال طيئ * وكان معانا من عصير ومحضرا)
(فما كنت أخشى أن أرى متغربا * لحا الله من لاحي عليه وكثرا)
(لحا الله قيل الحضرميين وائلا * ولاقى القناني بالسنان المؤمرا)
(ولاقى الردي القوم الذين تحزبوا * علينا وقالوا قول زور ومنكرا)
480

(فلا يدعني قوم لغوث وطيئ * إذا دهرهم أشقي بهم وتغيرا)
(فلم أغزهم في المعلمين ولم أثر * عليهم عجاجا بالكويفة أكدرا)
(فبلغ خليلي إن رحلت مشرقا * جديلة والحيين معنا وبحترا)
(ونبهان والأفناء من جذم طيئ * ألم أك فيكم ذا الغناء العشنزرا)
(ألم تذكروا يوم العذيب أليتي * أمامكم أن لا أرى الدهر مدبرا)
(وكري علي مهران والجمع حابس * وقتلي الهمام المستميت المسورا)
(ويوم جلولاء الوقيعة لم ألم * ويوم نهاوند الفتوح وتسترا)
(وتنسونني يوم الشريعة والقنا * بصفين في أكتافهم قد تكسرا)
(جزي ربه عني عدي بن حاتم * برفضي وخذلاني جزاء مؤثرا)
(أتنسى بلائي سادرا يا بن حاتم * عشية ما أغنت عديك حزمرا)
(فدافعت عنك القوم حتى تخاذلوا * وكنت أنا الخصم الألد العذورا)
(تولوا وما قاموا مقامي كأنما * رأوني ليثا بالأباءة مخدرا)
وقد تقدم ما فعله عبد الله بن عدي في وقعة صفين فلهذا لم نذكره ها هنا:
481

(نصرتك إذ خان القريب وأنغض ال * بعيد وقد أفردت نصرا مؤزرا)
(فكان جزائي أن أجرد بينكم * سحيبا وأن أولي الهوان وأوسرا)
(وكم عدة لي منك أنك راجعي * فلم تغن بالميعاد عني حبترا)
(فأصبحت أرعى النيب طورا وتارة * أهرهر إن راعى الشويهات هرهرا)
(كأني لم أركب جوادا لغارة * ولم أترك القرن الكمي مقطرا)
(ولم أعترض بالسيف منكم مغيرة * إذ النكس مشي القهقري ثم جرجرا)
(ولم استحث الركض في أثر عصبة * ميممة عليا سجاس وأبهرا)
(ولم أذعر الأبلام مني بغارة * كورد القطا ثم انحدرت مظفرا)
(ولم أر في خيل تطاعن مثلها * بقزوين أو شروين أو أغر كيدرا)
(فذلك دهر زال عني حميده * وأصبح لي معروفه قد تنكرا)
(فلا يبعدن قومي وإن كنت عاتبا * وكنت المضاع فيهم والمكفرا)
(ولا خير في الدنيا ولا العيش بعدهم * وإن كنت عنهم نائي الدار محصرا)
فمات عبد الله بالجبلين قبل موت زياد ثم أتي زياد بكريم بن عفيف الخثعمي من أصحاب حجر بن عدي فقال: ما اسمك؟ قال: كريم بن عفيف قال: ما أحسن اسمك واسم أبيك وأسوأ عملك ورأيك! فقال له: أما والله إن عهدك برأيي منذ قريب.
482

قال: وجمع زياد من أصحاب عدي اثني عشر رجلا في السجن ثم دعا رؤساء الأرباع يومئذ وهم عمرو بن حريث علي ربع أهل المدينة وخالد بن عرفطة علي ربع تميم وهمدان وقيس بن الوليد علي ربع ربيعة وكندة وأبا بردة بن أبي موسى علي ربع مذحج وأسد فشهد هؤلاء أن حجرا جمع إليه الجموع وأظهر شتم الخليفة ودعا إلى حرب أمير المؤمنين وزعم أن هذا الأمر لا يصلح إلا في آل أبي طالب ووثب بالمصر وأخرج عامل أمير المؤمنين وأظهر عذر أبي تراب والترحم عليه والبراءة من عدوه وأهل حربه وأن هؤلاء النفر الذين معه هو رؤوس أصحابه علي مثل رأيه وأمره ونظر زياد في شهادة الشهود وقال: إني لأحب أن يكونوا أكثر من أربعة فدعا الناس ليشهدوا عليه فشهد إسحاق وموسى ابنا طلحة بن عبيد الله والمنذر بن الزبير وعمارة بن عقبة بن أبي
معيط وعمرو بن سعد بن أبي وقاص وغيرهم وكتب في الشهود شريح بن الحارث القاضي وشريح بن هانئ فأما شريح بن هانئ فكان يقول ما شهدت وقد لمته.
ثم دفع زياد حجر بن عدي وأصحابه إلى وائل بن حجر الحضرمي وكثير بن شهاب وأمرهما أن يسرا بهم إلى الشام فخرجوا عشية فلما بلغوا الغريين لحقهم شريح بن هانئ وأعطي وائلا كتابا وقال: أبلغه أمير المؤمنين فأخذه وساروا حتى انتهوا بهم إلى مرج عذراء عند دمشق وكانوا حجر بن عدي الكندي والأرقم بن عبد الله الكندي وشريك بن شداد الحضرمي وصيفي بن فسيل الشيباني وقبيصة بن ضبيعة العبسي وكريم بن عفيف الخثعمي وعاصم بن عوف البجلي وورقاء بن سمي البجلي وكدام بن حيان وعبد الرحمن بن حسان العنزيين ومحرز بن شهاب التميمي وعبد الله بن حوية السعدي التميمي فهؤلاء اثنا عشر رجلا وأتبعهم زياد
483

برجلين، وهما عتبة بن الأخنس من سعد بن بكر وسعد بن نمران الهمداني فتموا أربعة عشر رجلا.
فبعث معاوية إلى وائل بن حجر وكثير بن شهاب فأدخلهما وأخذا كتابهما فقرأه ودفع إليه كتاب شريح بن هانئ فإذا فيه بلغني أن زيادا كتب شهادتي وإن شهادتي علي حجر أنه ممن يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويديم الحج والعمرة ويأمر بالمعروف وينهي عن المنكر حرام الدم والمال فإن شئت فاقتله وإن شئت فدعه. فقال معاوية: ما أرى هذا إلا قد خرج نفسه من شهادتكم وحبس القوم بمرج عذراء فوصل إليهم الرجلان اللذان ألحقهما زياد بحجر وأصحابه فلما وصلا سار عامر بن الأسود العجلي إلى معاوية ليعلمه بهما فقام إليه حجر بن عدي في قيوده فقال له: أبلغ معاوية أن دماءنا عليه حرام وأخبره أنا قد أومنا وصالحناه وصالحنا وأنا لم نقتل أحدا من أهل القبلة فيحل له دماؤنا.
فدخل عامر علي معاوية فأخبره بالرجلين فقام يزيد بن أسد البجلي فاستوهبه ابني عمه وهما عاصم وورقاء وكان جرير بن عبد الله البجلي قد كتب فيهما يزكيهما ويشهد له بالبراءة مما شهد عليهما فأطلقها معاوية وشفع وائل بن حجر في الأرقم فتركه له وشفع أبو الأعور السلمي في عتبة بن الأخنس فتركه وشفع حمزة بن مالك الهمداني في سعد بن نمران فوهبه له وشفع حبيب بن مسلمة في ابن حوية فتركه له، وقام مالك بن هبيرة السكوني فقال: دع لي ابن عمي حجرا فقال له: هو رأس القوم وأخاف إن خليت سبيله أن يفسد علي مصره فنحتاج أن نشخصك إليه بالعراق فقال: والله ما أنصفتني يا معاوية قاتلت معك ابن عمك يوم صفين حتى
484

ظفرت وعلا كعبك ولم تخف الدوائر ثم سألتك ابن عمي فمنعتني ثم انصرف فجلس في بيته.
فبعث معاوية هدبة بن فياض القضاعي والحصين بن عبد الله الكلابي وأبا شريف البدي إلى حجر وأصحابه ليقتلوا من أمروا بقتله منهم فأتوه عند المساء فلما رأى الخثعمي أحدهم أعور قال: يقتل نصفنا ويترك نصفنا فتركوا ستة وقتلوا ثمانية وقالوا لهم قبل القتل إنا قد أمرنا أن نعرض عليكم البراءة من علي واللعن له فإن فعلتم تركناكم وأن أبيتم قتلناكم فقالوا لسنا فاعلي ذلك فأمر فحفرت القبور وأحضرت الأكفان وقام حجر وأصحابه يصلون عامة الليل. فلما كان الغد قدموهم ليقتلوهم فقال لهم حجر بن عدي اتركوني أتوضأ وأصلي فإني ما توضأت إلا صليت فتركوه فصلي ثم انصرف منها وقال: والله ما صليت صلاة قط أخف منها ولولا أن تظنوا في جزعا من الموت لاستكثرت منها ثم قال: اللهم إنا نستعديك علي أمتنا فإن أهل الكوفة شهدوا علينا وإن أهل الشام يقتلوننا أما والله لئن قتلتموني بها فإني لأول فارس من المسلمين هلل في واديها وأول رجل من المسلمين نبحته كلابها! ثم مشي إليه هدبة بن فياض بالسيف فارتعد فقالوا له زعمت أنك لا تجزع من الموت فابرأ من صاحبك وندعك فقال: ومالي لا أجزع وأرى قبرا محفورا وكفنا منشورا وسيفا مشهورا وإني والله جزعت من القتل لا أقول ما يسخط الرب. فقتلوه وقتلوا ستة.
فقال عبد الرحمن بن حسان العنزي وكريم الخثعمي ابعثوا بنا إلى أمير المؤمنين فنحن نقول في هذا الرجل مثل مقالته فاستأذنوا معاوية فأذن بإحضارهما فلما دخلا عليه قال الخثعمي: الله الله يا معاوية! فإنك منقول من هذه الدار الزائلة إلى الدار الآخرة الدائمة، ثم مسؤول عما أردت بسفك
485

دماءنا! فقال له: ما تقول في علي؟ قال: أقول فيه قولك. قال أتبرأ من دين علي الذي يدين الله به؟ فسكت، وقام شمر بن عبد الله من بني قحافة بن خثعم فاستوهبه، فوهبه له علي أن لا يدخل الكوفة، فاختار الموصل، فكان يقول: لو مات معاوية قدمت الكوفة، فمات قبل معاوية بشهر. ثم قال لعبد الرحمن بن حسان يا أخا ربيعة ما تقول في علي؟ قال: دعني ولا تسألني فهو خير لك قال: والله لا أدعك قال: أشهد أنه كان من الذاكرين الله تعالى كثيرا من الآمرين بالحق والقائمين بالقسط والعافين عن الناس قال: فما قولك في عثمان؟ قال: هو أول من فتح أبواب الظلم وأغلق أبواب الحق. قال: قتلت نفسك! قال: بل إياك قتلت ولا ربيعة بالوادي يعني ليشفعوا فيه فرده معاوية إلى زياد وأمره أن يقتله شر قتلة فدفنه حيا.
فكان الذين قتلوا: حجر بن عدي وشريك بن شداد الحضرمي وصيفي بن فسيل الشيباني وقبيصة بن ضبيعة العبسي ومحرز بن شهاب السعدي التميمي وكدام بن حيان العنزي وعبد الرحمن بن حسان العنزي الذي دفنه زياد حيا فهؤلاء السبعة قتلوا ودفنوا وصلي عليهم.
وقيل ولما بلغ الحسن البصري قتل حجر وأصحابه قال: أصلوا عليهم وكفنوهم ودفنوهم واستقبلوا بهم القبلة؟ قالوا: نعم. قال: حجوا هم ورب الكعبة!
وأما مالك بن هبيرة السكوني حين لم يشفعه معاوية في حجر فجمع قومه وسار بهم إلى عذراء ليخلص حجرا وأصحابه فلقيه قتلتهم فلما رأوه علموا أنه جاء ليخلص حجرا، فقال لهم: ما وراءكم؟ قالوا: قد تاب القوم وجئنا لنخبر أمير المؤمنين فسكت وسار إلى عذراء فلقيه بعض من جاء منها فأخبره بقتل القوم فأرسل الخيل في أثر قتلتهم فلم يدركوهم ودخلوا علي معاوية
486

فأخبروه فقال لهم: إنما هي حرارة يجدها في نفسه وكأنها طفئت، وعاد مالك إلى بيته ولم يأت معاوية فلما كان الليل أرسل إليه معاوية بمائة ألف درهم وقال: ما منعني أن أشفعك إلا خوفا أن يعيدوا لنا حربا فيكون في ذلك من البلاء علي المسلمين ما هو أعظم من قتل حجر. فأخذها وطابت نفسه.
ولما بلغ خبر حجر عائشة أرسلت عبد الرحمن بن الحارث إلى معاوية فيه وفي أصحابه فقدم عليه وقد قتلهم فقال له عبد الرحمن: أين غاب عنك حلم أبي سفيان؟ قال: حين غاب عني مثلك من حلماء قومي وحملني ابن سمية فاحتملت.
وقالت عائشة: لولا أنا لم نغير شيئا إلا صارت بنا الأمور إلى ما هو أشد منه لغيرنا قتل حجر أما والله إن كان ما علمت لمسلما حجاجا معتمرا.
وقال الحسن البصري: أربع خصال كن في معاوية لو لم تكن فيه إلا واحدة لكانت موبقة انتزاؤه علي هذه الأمة بالسيف حتى أخذ الأمر من غير مشورة وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة واستخلافه بعده ابنه سكيرا خميرا يلبس الحرير ويضرب بالطنابير وادعاؤه زيادا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الولد للفراش وللعاهر الحجر!
وقتله حجرا كان الناس يقولون أول ذل دخل الكوفة موت الحسن بن علي، وقتل حجر، ودعوة زياد، وقالت هند بنت زيد الأنصارية ترثي حجرا وكانت تتشيع:
(ترفع أيها القمر المنير * تبصر هل تري حجرا يسير)
487

(يسير إلى معاوية بن حرب * ليقتله كما زعم الأمير)
(تجبرت الجبابر بعد حجر * وطاب لها الخورنق والسدير)
(وأصبحت البلاد له محولا * كأن لم يحيها مزن مطير)
(ألا يا حجر حجر بني عدي * تلقتك السلامة والسرور)
(أخاف عليك ما أرى عديا * وشيخا في دمشق له زئير)
(فإن تهلك فكل زعيم قوم * من الدنيا إلى هلك يصير)
وقد قيل في قتله غير ما تقدم وهو زيادا قد خطب يوم جمعة فأطال الخطبة وأخر الصلاة فقال له حجر بن عدي الصلاة فمضي في خطبته فقال له الصلاة فمضي في خطبته فلما خشي حجر بن عدي فوت الصلاة ضرب بيده إلى كف من حصى وقام إلى الصلاة وقام الناس معه فلما رأى زياد ذلك نزل فصلي بالناس وكتب إلى معاوية
وكثر عليه فكتب إليه معاوية ليشده في الحديد ويرسله إليه فلما أراد أخذه قام قومه ليمنعوه فقال حجر لا ولكن سمعا وطاعة. فشد في الحديد وحمل إلى معاوية فلما دخل عليه قال السلام عليك يا أمير المؤمنين فقال معاوية أأمير المؤمنين أنا والله لا أقيلك ولا أستقيلك أخرجوه فاضربوا عنقه فقال حجر للذين يلون أمره دعوني حتى أصلي ركعتين فقالوا صل فصلي ركعتين خفف فيهما ثم قال لولا أن تظنوا بي غير الذي أردت لأطلتهما وقال لمن حضره من قومه لا تطلقوا عني حديدا ولا تغسلوا عني دما فإني لاق معاوية غدا علي الجادة وضربت عنقه قال فلقيت عائشة معاوية فقالت له أين كان حلمك عن حجر فقال لم يحضرني رشيد قال ابن سيرين بلغنا أن معاوية لما حضرته الوفاة جعل يقول يومي منك يا حجر طويل!
(عباد بضم العين المهملة وفتح الباء الموحدة وتخفيفها).
488

ذكر استعمال الربيع علي خراسان
وفي هذه السنة وجه زياد بن ربيع بن زياد الحارثي أميرا علي خراسان وكان الحكم بن عمرو الغفاري قد استخلف عند موته أنس بن أبي أناس فعزله زياد وولى خليد بن عبد الله الحنفي ثم عزله وولى الربيع بن زياد أول سنة إحدى وخمسين وسير معه خمسين ألفا بعيالاتهم من أهل الكوفة والبصرة منهم بريدة بن الحصيب وأبو برزة ولهما صحبة فسكنوا خراسان فلما قدمها غزا بلخ ففتحها صلحا وكانت قد أغلقت بعدما صالحهما الأحنف بن قيس في قول بعضهم وفتح قهستان عنوة وقتل من بناحيتها من الأتراك وبقي منهم نيزك طرخان فقتله قتيبة بن مسلم في ولايته.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة ملت جرير بن عبد الله البجلي وقيل سنة أربع وخمسين، وكان إسلامه في السنة التي توفي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفيها مات سعيد بن زيد سنة اثنتين وقيل ثمان وخمسين ودفن بالمدينة وهو أحد العشرة.
وأبو بكرة نفيع بن الحارث به صحبة وهو أخو زياد لأمه.
وفيها ماتت ميمونة بنت الحارث زوج النبي بسرف وفيه دخل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل:
489

ماتت سنة ثلاث وستين وقيل ست وستين.
وحج بالناس هذه السنة يزيد بن معاوية وكان العمال بهذه السنة من تقدم ذكرهم.
(بريدة بضم الباء الموحدة وفتح الراء المهملة والحصيب بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين وآخره باء موحدة).
490

52
ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين
فيها كانت غزوة سفيان بن عوف الأسدي الروم وشتي بأرضهم وتوفي بها في قول فاستخلف عبد الله بن مسعدة الفزاري وقيل إن الذي شتى هذه السنة بأرض الروم بسر بن أبي أرطأة ومعه سفيان بن عوف وغزا الصائفة هذه السنة محمد بن عبد الله الثقفي.
ذكر خروج زياد بن خراش العجلي
وفي هذه السنة خرج زياد بن خراش العجلي في ثلاثمائة فارس فأتي أرض مسكن من السواد فسير إليه زياد خيلا عليها سعد بن حذيفة أو غيره فقتلوهم وقد صاروا إلى ماه.
ذكر خروج معاذ الطائي
وخرج علي زياد أيضا رجل من طيئ يقال له معاذ فأتي نهر عبد الرحمن بن أم الحكم في ثلاثين رجلا هذه السنة فبعث إليه زياد من قتله وأصحابه وقيل بل حل لواءه واستأمن ويقال لهم أصحاب نهر عبد الرحمن.
491

ذكر عدة حوادث
وحج بالناس سعيد بن العاص وكان العمال من تقدم ذكرهم.
وفيها مات عمران بن الحصين الخزاعي بالبصرة وأبو أيوب الأنصاري واسمه خالد بن زيد شهد العقبة وبدرا وقد تقدم أنه توفي سنة تسع وأربعين عند القسطنطينية وكعب بن عجرة وله خمس وسبعون سنة.
492

53
ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين
فيها كان مشتى عبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي بأرض الروم.
وفيها فتحت رودس جزيرة في البحر فتحها جنادة بن أبي أمية الأزدي ونزلها المسلمون وهم علي حذر من الروم وكانوا أشد شيء علي الروم يعترضونهم في البحر فيأخذون سفنهم وكان معاوية يدر لهم العطاء وكان العدو قد خافهم فلما توفي معاوية أقفلهم ابنه يزيد.
وقيل فتحت سنة ستين.
وذكر وفاة زيادة
وفي هذه السنة توفي زياد بن أبيه * بالكوفة في شهر رمضان.
وكان سبب موته أنه كتب إلى معاوية: إني قد ضبطت العراق بشمالي
ويميني فارغة فاشغلها بالحجاز. فكتب له عهده على الحجاز، فبلغ أهل الحجاز
فأتى نفر منهم عبد الله بن عمر بن الخطاب فذكروا ذلك، فقال: اللهم اكفنا
شر زياد. فخرجت طاعونة على إصبع يمينه فمات منها. فلما حضرته
493

الوفاة دعا شريحا القاضي فقال له: قد حدث ما ترى وقد أمرت بقطعها فأشر
علي. فقال له شريح: إني أخشى أن يكون في الأجل تأخير فتعيش أجذم وتعير
ولدك. فقال: لا أبيت والطاعون في لحاف واحد. فخرج شريح من عنده،
فسأله الناس، فأخبرهم، فلاموه وقالوا: هلا أشرت بقطعها؟ فقال:
المستشار مؤتمن.
وأراد زياد قطعها، فلما نظر إلى النار والمكاوي جزع وتركه، وقيل: بل
تركه لما أشار عليه شريح بتركه، ولما حضرته الوفاة قال له ابنه قد هيأت لك ستين ثوبا أكفنك بها فقال له يا بني قد دنا من أبيك لباس هو خير من لباسه أو سلب سريع فمات ودفن بالثوية إلى جانب الكوفة.
فلما بلغ موته ابن عمر قال اذهب ابن سمية لا الآخرة أدركت ولا الدنيا بقيت عليك.
وكان مولده سنة إحدى من الهجرة قال مسكين الدارمي يرثيه:
(رأيت زيادة الإسلام ولت * جهارا حين ودعنا زياد)
فقال الفرزدق يجيبه ولم يكن هجا زيادا حتى مات:
(أمسكين أبكي الله عينيك إنما * جري في ضلال دمعها فتحدرا)
(بكيت امرأ من أهل ميسان كافرا * ككسري علي عداته أو كقيصرا)
(أقول له لما أتاني نعيه * به لا بظبي بالصريمة أعفرا)
وكان زياد فيه حمرة وفي عينه اليمنى انكسار أبيض اللحية مخروطها عليه قميص وربما رقعه.
494

ذكر وفاة الربيع
وفيها مات الربيع بن زياد الحارثي عامل خراسان من قبل زياد.
وكان سبب موته أنه سخط قتل حجر بن عدي حتى أنه قال لا تزال العرب تقتل صبرا بعده ولو نفرت عند قتله لم يقتل رجل منهم صبرا ولكنا أقرت فذلت ثم مكث بعد هذا الكلام جمعة ثم خرج يوم الجمعة فقال أيها الناس إني قد مللت الحياة وإني داع بدعوة فأمنوا ثم رفع يديه بعد الصلاة فقال اللهم إن كان لي عندك خير فاقبضني إليك عاجلا وأمن الناس ثم خرج فما توارت ثيابه حتى سقط فحمل إلى بيته واستخلف ابنه عبد الله ومات من يومه ثم مات ابنه بعده بشهرين واستخلف خليد بن يربوع الحنفي فأقره زياد ولما مات زياد كان علي البصرة سمرة بن جندب وكان علي الكوفة عبد الله بن خالد بن أسيد فأقر سمرة علي البصرة ثمانية عشر شهرا وقيل ستة اشهر ثم عزله معاوية فقال سمرة لعن الله معاوية والله لو أطعت الله كما أطعت معاوية ما عذبني أبدا. وجاء رجل إلى
سمرة فأدي زكاة ماله ثم دخل المسجد فصلي فأمر سمرة بقتله فقتل فمر به أبو بكرة فقال يقول الله تعالى (قد أفلح من تزكي وذكر اسم ربه فصلي) قال وما مات سمرة حتى أخذه الزمهرير فمات شر ميتة.
(الثوية بضم الثاء المثلثة وفتح الواو والياء تحتها نقطتان موضع فيه مقبرة).
495

ذكر عدة حوادث
حج بالناس هذه السنة سعيد بن العاص وكان عامل المدينة وخرجت هذه السنة وعلي الكوفة عبد الله بن خالد بن أسيد وعلى البصرة سمرة وعلي خراسان خليد بن يربوع الحنفي.
أسيد بفتح الهمزة وكسر الشين المهملة وسكون الياء المعجمة باثنتين من تحتها.
وفيها مات عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق بطريق مكة في نومة نامها وقيل توفي بعد ذلك.
وفيها توفي فيروز الديلمي وكانت له صحبة وكان معاوية قد استعمله علي صنعاء وفيها مات عمرو بن حزم الأنصاري وفيها مات فضالة بن عبيد الأنصاري بدمشق وكان قاضيها لمعاوية وقيل مات آخر أيام معاوية وقيل غير ذلك شهد أحدا وما بعدها.
496

54
ثم دخلت سنة أربع وخمسين
ذكر غزوة الروم وفتح جزيرة أرواد
فيها كان مشتى محمد بن مالك بأرض الروم وصائفة معن بن يزيد السلمي وفيها فتح المسلمون ومقدمهم جنادة بن أبي أمية جزيرة أرواد قريب القسطنطينية فأقاموا بها سبع سنين وكان معهم مجاهد بن جبر فلما مات معاوية وولى ابنه يزيد أمرهم بالعود فعادوا.
ذكر عزل سعيد عن المدينة واستعمال مروان
وفيها عزل معاوية سعيد بن العاص عن المدينة واستعمل مروان.
وكان سبب ذلك أن معاوية كتب إلى سعيد بن العاص أن يهدم دار مروان ويقبض أمواله كلها ليجعلها صافية ويقبض منه فدك وكان وهبها له فراجعه سعيد بن العاص في ذلك فأعاد معاوية الكتاب بذلك فلم يفعل سعيد ووضع الكتابين عنده فعزله معاوية وولى مروان وكتب إليه يأمره بقبض أموال سعيد وهدم داره فأخذ الفعلة وسار إلى دار سعيد ليهدمها فقال له سعيد يا أبا عبد الملك أتهدم داري قال نعم كتب إلى أمير المؤمنين ولو كتب إليك في هدم داري لفعلت فقال ما كنت لأفعل،
497

قال: بلي والله. قال: كلا. وقال لغلامه: ائتني بكتاب معاوية؛ فجاءه بالكتابين فلما رآهما مروان قال كتب إليك فلم تفعل ولم تعلمني فقال سعيد ما كنت لأمن عليك وإنما أراد معاوية أن يحرض بيننا فقال مروان أنت والله خير مني وعاد ولم يهدم دار سعيد وكتب سعيد إلى معاوية العجب مما صنع أمير المؤمنين بنا في قرابتنا أنه يضغن بعضنا علي بعض فأمير المؤمنين في حلمه وصبره علي ما يكره من الأخبثين وعفوه وإدخاله القطيعة بيننا والشحناء وتوارث الأولاد ذلك فوالله لو لم نكن أولاد أب واحد لما جمعنا الله عليه من نصرة أمير المؤمنين الخليفة المظلوم وباجتماع كلمتنا لكان حقا علي أمير المؤمنين أن يرعى ذلك.
فكتب إليه معاوية يعتذر من ذلك ويتنصل وأنه عائذ إلى أحسن ما يعهده وقدم سعيد علي معاوية فسأله عم مروان فأثني عليه خيرا فقال له معاوية ما باعد بيني وبينك قال خافني علي شرفه وخفته علي شرفي قال فماذا له عندك قال أسره شاهدا وغائبا.
ذكر استعمال عبيد الله بن زياد علي خراسان
وفي هذه السنة عزل معاوية سمرة بن جندب واستعمل علي البصرة عبد الله بن عمرو بن غيلان ستة أشهر.
وفيها استعمل معاوية عبيد الله بن زياد علي خراسان.
وكان سبب ولايته أنه قدم عليه بعد موت أبيه فقال له معاوية من استعمل أبوك علي الكوفة والبصرة فأخبره فقال لو استعملك أبوك
498

لاستعملتك فقال عبيد الله أنشدك الله أن يقولها لي أحد بعدك لو استعملك أبوك وعمك لاستعملتك فولاه خراسان وقال له اتق الله ولا تؤثرن علي تقواه شيئا فإن في تقواه عوضا ووفر عوضا من أن تدنسه وإذا أعطيت عهدا فف به ولا تبيعن كثيرا بقليل ولا يخرجن منك أمر حتى تبرمه فإذا خرج فلا يردن عليك وإذا لقيت عدوك فغلبوك علي ظهر الأرض فلا يغلبوك علي بطنها ولا تطمعن أحدا في غير حقه ولا تؤيسن أحدا من حق وهو له ثم ودعه، وكان عمر عبيد الله خمسا وعشرين سنة وسار إلى خراسان فقطع النهر إلى جبال بخاري علي الإبل فكان أول من قطع جبال بخاري في جيش ففتح رامني ونسف وبيكند وهي من بخاري فمن ثم أصاب البخارية وغنم منها غنائم كثيرة، ولما لقي الترك وهزمهم كان مع ملكهم زوجته فعجلوها عن لبس خفيها فلبست أحدهما وبقي الآخر فأخذه المسلمون فقوم بمائتي ألف درهم وكان قتاله الترك من زحوف خراسان التي تذكر فظهر منه بأس شديد وأقام بخراسان سنتين.
ذكر عدة حوادث
وحج بالناس في هذه السنة مروان بن الحكم وهو أمير المدينة.
وكان علي الكوفة عبد الله بن خالد وقيل الضحاك بن قيس وعلي البصرة عبد الله بن عمرو بن غيلان.
499

وفي هذه السنة توفي أبو قتادة الأنصاري وعمره سبعون سنة وقيل مات سنة أربعين وصلي عليه علي وكبر عليه سبعا وشهد مع علي حروبه كلها وهو بدري. وفيها توفي حويطب بن عبد العزي وله مائة وعشرون سنة وفيها توفي ثوبان مولي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأسامة بن زيد وقيل توفي أسامة سنة ثمان وخمسين وفيها توفي سعيد بن يربوع بن عنكثة وكان عمره مائة وأربعا وعشرين وأربعا وعشرين سنة وله صحبة ومخرمة بن نوفل وهو من مسلمة الفتح وعمره مائة سنة وخمس عشرة سنة وعبد الله بن أنيس الجهني وفيها قتل زيد بن شجرة الرهاوي في غزوة غزاها وقيل سنة ثمان وخمسين.
500

55
ثم دخلت سنة خمس وخمسين
في هذه السنة كان مشتى سفيان بن عوف الأزدي بأرض الروم في قول وقيل بل الذي شتى هذه السنة عمرو بن محرز وقيل عبد الله بن قيس الفزاري وقيل بل مالك بن عبد الله.
ذكر ولاية ابن زياد البصرة
في هذه السنة عزل معاوية عبد الله بن عمرو بن غيلان عن البصرة وولاها عبيد الله بن زياد.
وكان سبب ذلك أن عبد الله خطب علي منبر البصرة فحصبه رجل من بني ضبعة فقطع يده فأتاه بنو ضبة وقالوا إن صاحبنا جنى ما جنى وقد عاقبته ولا نأمن أن يبلغ خبرنا أمير المؤمنين فيعاقب عقوبة تعم فاكتب لنا كتابا إلى أمير المؤمنين يخرج به أحدنا إليه يخبره أنك قطعت علي شبهة وأمر لم يتضح فكتب لهم.
فلما كان رأس السنة توجه عبد الله إلى معاوية ووافاه بالكتاب وأدعوا أنه قطع صاحبهم ظلما فلما رأى معاوية الكتاب قال أما القود من عمالي فلا سبيل إليه ولكن أدي صاحبكم من بيت المال
501

وعزل عبد الله عن البصرة واستعمل ابن زياد عليها فولي ابن زياد علي خراسان أسلم بن زرعة الكلابي فلم يغزو ولم يفتح بها شيئا.
ذكر عدة حوادث
وفيها عزل معاوية عبد الله بن خالد عن الكوفة وولاها الضحاك بن قيس وقيل ما تقدم.
وفيها مات الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي وهو الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يختفي في داره بمكة وكان عمره ثمانين سنة وقيل مات يوم مات أبو بكرة وفيها توفي أبو اليسر كعب بن عمرو الأنصاري وهو بدري وشهد صفين مع علي وقيل توفي قبل.
وحج بالناس هذه السنة مروان بن الحكم.
502

56
ثم دخلت سنة ست وخمسين
فيها كان مشتى جنادة بن أبي أمية بأرض الروم وقيل عبد الرحمن بن مسعود وقيل غزا فيها في البحر يزيد بن شجرة وفي البر عياض بن الحارث واعتمر معاوية فيها في رجب وحج بالناس الوليد بن عتبة بن أبي سفيان.
ذكر البيعة ليزيد بولاية العهد
وفي هذه السنة بايع الناس يزيد بن معاوية بولاية عهد أبيه.
وكان ابتداء ذلك وأوله من المغيرة بن شعبة فإن معاوية أراد أن يعزله عن الكوفة ويستعمل عوضه سعيد بن العاص فبلغه ذلك فقال الرأي أن أشخص إلى معاوية فأستعفيه ليظهر للناس كراهتي للولاية فسار إلى معاوية وقال لأصحابه حين وصل إليه إن لم أكسبكم الآن ولاية وإمارة لا أفعل ذلك أبدا ومضي حتى دخل علي يزيد وقال له إنه قد ذهب أعيان أصحاب النبي وآله وكبراء قريش وذوو أسنانهم وإنما بقي أبناؤهم وأنت من أفضلهم وأحسنهم رأيا وأعلمهم بالسنة والسياسة ولا أدري ما يمنع أمير المؤمنين أن يعقد لك البيعة قال أو تري ذلك يتم قال نعم.
503

فدخل يزيد علي أبيه وأخبره بما قال المغيرة فأحضر المغيرة وقال له ما يقول يزيد فقال يا أمير المؤمنين قد رأيت ما كان من سفك الدماء والاختلاف بعد عثمان وفي يزيد منك خلف فاعقد له فإن حدث بك حادث كان كهفا للناس وخلفا منك ولا تسفك دماء ولا تكون فتنة قال ومن لي بهذا قال أكفيك أهل الكوفة ويكفيك زياد أهل البصرة وليس بعد هذين المصرين أحد يخالفك قال فارجع إلى عملك وتحدث مع من تثق إليه في ذلك وتري ونري فودعه ورجع إلى أصحابه فقالوا مه قال لقد وضعت رجل معاوية في غرز بعيد الغاية علي أمة محمد وفتقت عليهم فتقا لا يرتق أبدا وتمثل:
(بمثلي شاهدي النجوى وغالي * بي الأعداء والخصم الغضابا)
وسار المغيرة حتى قدم الكوفة وذاكر من يثق إليه ومن يعلم أنه شيعة لبني أمية أمر يزيد فأجابوا إلى بيعته فأوفد منهم عشرة ويقال أكثر من عشرة وأعطاهم ثلاثين ألف درهم وجعل عليهم ابنه موسى بن المغيرة وقدموا علي معاوية فزينوا له بيعة يزيد ودعوه إلى عقدها فقال معاوية لا تعجلوا بإظهار هذا وكونوا علي رأيكم. ثم قال لموسى بكم اشترى أبوك من هؤلاء دينهم؟ قال بثلاثين ألفا قال لقد هان عليهم دينهم.
وقيل: أرسل أربعين رجلا وجعل عليهم ابنه عروة فلما دخلوا علي معاوية قاموا خطباء فقالوا إنما أشخصهم إليه النظر لأمة محمد وقالوا يا أمير المؤمنين كبرت سنك وخفنا انتشار الحبل فانصب لنا علما وحد لنا حدا ننتهي إليه فقال أشيروا علي فقالوا نشير بيزيد بن أمير المؤمنين فقال أو قد رضيتموه قالوا نعم قال وذلك رأيكم؟
504

قالوا: نعم، ورأي من وراءنا فقال معاوية لعروة سرا عنهم بكم اشتري أبوك من هؤلاء دينهم قال بأربعمائة دينار قال لقد وجد دينهم عندهم رخيصا وقال لهم ننظر ما قدمتم له ويقضي الله ما أراد والأناة خير من العجلة فرجعوا.
وقوي عزم معاوية علي البيعة ليزيد فأرسل إلى زياد يستشيره فأحضر زياد عبيد بن كعب النميري وقال له إن لكل مستشير ثقة ولكل سر مستودع وإن الناس قد أبدع بهم خصلتان إذاعة السر وإخراج النصيحة إلى غير أهلها وليس موضوع السر إلا أحد رجلين رجل آخره يرجو ثوابها ورجل دنيا له شرف في نفسه وعقل يصون حسبه وقد خبرتهما منك وقد دعوتك لأمر اتهمت عليه بطون الصحف إن أمير المؤمنين كتب يستشيرني في كذا وكذا وإنه يتخوف نفرة الناس ويرجو طاعتهم وعلاقة أمر الاسلام وضمانه عظيم ويزيد صاحب رسلة وتهاون مع ما قد أوله به من الصيد فالق أمير المؤمنين وأد إليه فعلات يزيد فقال له رويدك بالأمر فأحرى لك أن يتم لك [ما تريد]، فلا تعجل فإن دركا في تأخير خير من فوت في عجلة.
فقال له عبيد: أفلا غير هذا؟ قال: وما هو؟ قال: لا تفسد علي معاوية رأيه ولا تبغض إليه ابنه وألقي أنا يزيد فأخبره أم أمير المؤمنين كتب إليك يستشيرك في البيعة له وأنك تتخوف خلاف الناس عليه لهنات ينقمونها عليك وأنك تري ما ينقم عليه لتستحكم له الحجة علي الناس ويتم ما تريد فتكون قد نصحت أمير المؤمنين وسلمت مما تخاف من أمر الأمة فقال زياد لقد رميت الأمر بحجره أشخص علي بركة الله فإن أصبت
505

فما لا ينكر وإن يكن خطأ فغير مستغش وتقول بما تري ويقضي الله بغيب ما يعلم.
فقدم علي يزيد فذكر ذلك له فكف عن كثير مما كان يصنع وكتب زياد معه إلى معاوية يشير بالتؤدة وأن لا يعجل فقبل منه.
فلما مات زياد عزم معاوية علي البيعة لابنه يزيد فأرسل إلى عبد الله بن عمر مائة ألف درهم فقبلها فلما ذكر البيعة ليزيد قال ابن عمر هذا أراد أن ديني عندي إذن لرخيص وامتنع.
ثم كتب معاوية بعد ذلك إلى مروان بن الحكم إني قد كبرت سني ودق عظمي وخشيت الاختلاف علي الأمة بعدي وقد رأيت أن أتخير لهم من يقوم بعدي وكرهت أن أقطع أمرا دون مشورة من عندك فاعرض ذلك عليهم وأعلمني بالذي يردون إليك فقام مروان في الناس فأخبرهم به فقال الناس أصاب ووفق وقد أحببنا أن يتخير لنا فلا يألوا.
فكتب مروان إلى معاوية بذلك فأعاد عليه الجواب يذكر يزيد فقام مروان فيهم وقال إن أمير المؤمنين قد اختار لكم فلم يأل وقد استخلف ابنه يزيد بعده.
فقام عبد الرحمن بن أبي بكر فقال كذبت والله يا مروان وكذب معاوية ما الخير أردتما لأمة محمد ولكنكم تريدون أن تجعلوها هرقلية كلما مات هرقل قام هرقل. فقال مروان هذا الذي أنزل الله فيه (والذي قال لوالديه أف لكما) الآية.
506

فسمعت عائشة مقالته فقامت من وراء الحجاب وقالت يا مروان يا مروان فأنصت الناس وأقبل مروان بوجهه فقالت أنت القائل لعبد الرحمن أنه نزل فيه القرآن كذبت والله ما هو ولكنه فلان بن فلان ولكنك أنت فضض من لعنة نبي الله.
وقام الحسين بن علي فأنكر ذلك وفعل مثله ابن عمر وابن الزبير فكتب مروان بذلك إلى معاوية وكان معاوية قد كتب إلى عماله بتقريظ يزيد ووصفه وأن يوفدوا إليه الوفود من الأمصار فكان فيمن أتاه محمد بن عمرو بن حزم من المدينة والأحنف بن قيس في وفد أهل البصرة فقال محمد بن عمرو لمعاوية إن كل راع مسؤول عن رعيته فانظر من تولي أمر أمة محمد فأخذ معاوية بهر حتى جعل يتنفس في يوم شات ثم وصله وصرفه وأمر الأحنف أن يدخل علي يزيد فدخل عليه فلما خرج من عنده قال له كيف رأيت ابن أخيك قال رأيت شبابا ونشاطا وجلدا ومزاحا.
ثم أن معاوية قال للضحاك بن قيس الفهري لما اجتمع الوفود عنده إني متكلم فإذا سكت فكن أنت الذي تدعو إلى بيعة يزيد وتحثني عليها فلما جلس معاوية للناس تكلم فعظم أمر الاسلام وحرمه الخلافة وحقها وما أمر الله به من طاعة ولاة الأمر ثم ذكر يزيد وفضله وعلمه بالسياسة وعرض ببيعته فعارضه الضحاك فحمد الله وأثني عليه ثم قال يا أمير المؤمنين إنه لا بد للناس من وال بعدك وقد بلونا الجماعة والألفة فوجدناهما أحقن للدماء وأصلح للدهماء وآمن للسبل وخيرا في العاقبة والأيام عوج رواجع والله كل يوم هو في شأن ويزيد ابن أمير المؤمنين في حسن هديه وقصد سيرته علي ما علمت وهو من أفضلنا علما وحلما وأبعدنا رأيا فوله عهدك واجعله لنا علما بعدك ومفزعا نلجأ إليه ونسكن في ظله.
507

وتكلم عمرو بن سعيد الأشدق بنحو من ذلك ثم قام يزيد بن المقنع العذري فقال هذا أمير المؤمنين وأشار إلى معاوية فإن هلك فهذا وأشار إلى يزيد ومن أبي فهذا وأشار إلى سيفه فقال معاوية اجلس فأنت سيد الخطباء. وتكلم من حضر من الوفود.
فقال معاوية للأحنف ما تقول يا أبا بحر فقال نخافكم إن صدقنا ونخاف الله إن كذبنا وأنت يا أمير المؤمنين أعلم بيزيد في ليله ونهاره وسره وعلانيته ومدخله ومخرجه فإن كنت تعلمه لله تعالى وللأمة رضا فلا تشاور فيه وإن كنت تعلم فيه غير ذلك فلا تزوده الدنيا وأنت صائر إلى الآخرة وإنما علينا أن نقول سمعنا وأطعنا وقام رجل من أهل الشام فقال ما ندري ما تقول هذه المعدية العراقية وإنما عندنا سمع وطاعة وضرب وازدلاف.
فتفرق الناس يحكون قول الأحنف وكان معاوية يعطي المقارب ويداري المباعد ويلطف به حتى استوثق له أكثر الناس وبايعه فلما بايعه أهل العراق والشام سار إلى الحجاز في ألف فارس فلما دنا من المدينة لقيه الحسين بن
علي أول الناس فلما نظر إليه قال لا مرحبا ولا أهلا بدنة يترقرق دمها والله مهريقه قال مهلا فإني والله لست بأهل لهذه المقالة قال بلي ولشر منها ولقيه ابن الزبير فقال لا مرحبا ولا أهلا خب ضب تلعة يدخل رأسه ويضرب بذنبه ويوشك والله أن يؤخذ بذنبه ويدق ظهره نحياه عني فضرب وجه راحلته. ثم لقيه عبد الرحمن بن أبي بكر فقال له معاوية لا أهلا ولا مرحبا شيخ قد خرف وقد ذهب عقله ثم أمر فضرب وجه راحلته ثم فعل بابن عمر نحو ذلك فأقبلوا معه لا يتلفت إليهم حتى دخل المدينة فحضروا بابه فلم يؤذن لهم علي منازلهم ولم يروا منه ما يحبون فخرجوا إلى مكة فأقاموا بها وخطب معاوية بالمدينة فذكر يزيد فمدحه وقال من أحق
508

منه بالخلافة في فضله وعقله وموضعه وما أظن قوما بمنتهين حتى تصيبهم بوائق تجتث أصولهم وقد أنذرت إن أغنت النذر ثم أنشد متمثلا:
(قد كنت حذرتك آل المصطلق * وقلت يا عمرو أطعني وانطلق)
(إنك إن كلفتني ما لم أطق * ساءك ما سرك مني من خلق)
(دونك ما استسقيته فأحس وذق)
ثم دخل علي عائشة وقد بلغها أنه ذكر الحسين وأصحابه فقال لأقتلنهم إن لم يبايعوا فشكاهم إليها فوعظته وقالت له بلغني أنك تهددهم بالقتل فقال يا أم المؤمنين هم أعز من ذلك ولكني بايعت ليزيد وبايعه غيرهم أفترين أن أنقض بيعته قد تمت قالت فارفق بهم فإنهم يصيرون إلى ما تحب إن شاء الله قال أفعل وكان في قولها له ما يؤمنك أن أقعد لك رجلا يقتلك وقد فعلت بأخي ما فعلت تعني أخاها محمدا فقال لها كلا يا أمير المؤمنين إني في بيت آمن قالت أجل.
ومكث بالمدينة ما شاء الله ثم خرج إلى مكة فلقيه الناس فقال أولئك النفر نتلقاه فلعله قد ندم علي ما كان منه فلقوه ببطن مر فكان أول من لقيه الحسين فقال له معاوية مرحبا وأهلا يا ابن رسول الله وسيد شباب المسلمين فأمر له بدابة فركب وسايره ثم فعل بالباقين مثل ذلك وأقبل يسايرهم لا يسير معه غيرهم حتى دخل مكة فكانوا أول داخل وآخر خارج ولا يمضي يوم إلا ولهم صلة ولا يذكر لهم شيئا حتى قضي نسكه وحمل أثقاله وقرب مسيره فقال بعض أولئك النفر لبعض لا تخدعوا فما صنع بكم هذا لحبكم وما
509

صنعه إلا لما يريد فأعدوا له جوابا فاتفقوا علي أن يكون المخاطب له ابن الزبير.
فأحضرهم معاوية وقال قد علمتم سيرتي فيكم وصلتي لأرحامكم وحملي ما كان منكم ويزيد أخوكم وابن عمكم وأردت أن تقدموه باسم الخلافة وتكونوا أنتم تعزلون وتؤمرون وتجبون المال وتقسمونه لا يعارضكم في شيء من ذلك فسكتوا فقال ألا تجيبون؟ مرتين.
ثم أقبل علي ابن الزبير فقال هات لعمري إنك خطيبهم فقال نعم نخيرك بين ثلاث خصال قال اعرضهن قال تصنع كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كما صنع أبو بكر أو كما صنع عمر قال معاوية ما صنعوا؟ قال قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يستخلف أحدا فارتضي الناس أبا بكر قال ليس فيكم مثل أبا بكر وأخاف الاختلاف قالوا صدقت فاصنع كما صنع أبو بكر فإنه عهد إلى رجل من قاصية قريش ليس من بني أبيه فاستخلفه وإن شئت فاصنع كما صنع عمر جعل الأمر شوري في ستة نفر ليس فيهم أحد من ولده ولا من بني أبيه. قال معاوية هل عندك غير هذا؟ قال: لا. ثم قال: فأنتم؟ قالوا: قولنا قوله. قال فإني قد أحببت أن أتقدم إليكم إنه قد أعذر من أنذر إني كنت أخطب فيكم فيقوم إلى القائم منكم فيكذبني علي رؤوس الناس فأحمل ذلك وأصفح وإني قائم بمقالة فأقسم بالله لئن رد علي أحدكم كلمة في مقامي هذا لا ترجع إليه كلمة غيرها حتى يسبقها السيف إلى رأسه فلا يبقين رجل إلا علي نفسه.
ثم دعا صاحب حرسه بحضرتهم فقال أقم علي رأس كل رجل من
510

هؤلاء رجلين ومع كل واحد سيف فإن ذهب رجل منهم يرد علي كلمة بتصديق أو تكذيب فليضرباه بسيفهما ثم خرج وخرجوا معه حتى رقي المنبر فحمد الله وأثني عليه ثم قال إن هؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم لا يبتز أمر دونهم ولا يقضي إلا عن مشورتهم وإنهم رضوا وبايعوا ليزيد فبايعوا علي اسم الله فبايع الناس وكانوا يتربصون ببيعة هؤلاء النفر ثم ركب رواحله وانصرف إلى المدينة فلقي الناس أولئك النفر فقالوا لهم زعمتم أنكم لا تبايعون فلم رضيتم وأعطيتم وبايعتم قالوا والله ما فعلنا فقالوا ما منعكم أن تردوا علي الرجل قالوا كادنا وخفنا القتل.
وبايعه أهل المدينة ثم انصرف إلى الشام وجفا بني هاشم فأتاه ابن عباس فقال له ما بالك جفوتنا قال إن صاحبكم لم يبايع ليزيد فلم تنكروا ذلك عليه فقال يا معاوية إني لخليق أن أنحاز إلى بعض السواحل فأقيم به ثم انطلق بما تعلم حتى أدع الناس كلهم خوارج عليك قال يا أبا العباس تعطون وترضون وترادون.
وقيل إن ابن عمر قال لمعاوية أبايعك علي أني أدخل فيما يجتمع عليه الأمة فوالله لو اجتمعت علي حبشي لدخلت معها ثم عاد إلى منزله فاغلق بابه ولم يأذن لأحد.
قلت ذكر عبد الرحمن بن أبي بكر لا يستقيم علي قول من يجعل وفاته سنة ثلاث وخمسين وإنما يصح علي قول من يجعلها بعد ذلك الوقت.
511

ذكر عزل ابن زياد عن خراسان واستعمال سعيد بن عثمان بن عفان
في هذه السنة استعمل معاوية سعيد بن عثمان بن عفان علي خراسان وعزل ابن زياد.
وسبب ذلك أنه سأل معاوية أن يستعمله علي خراسان فقال إن بها عبيد الله بن زياد فقال والله لقد اصطنعك أبي حتى بلغت باصطناعه المدي الذي لا تجاري إليه ولا تسامي فما شكرت بلاءه ولا جازيته بآلائه وقدمت هذا يعني يزيد وبايعت له والله لأنا خير منه أبا وأما ونفسا. فقال معاوية أما بلاء أبيك فقد يحق علينا الجزاء به وقد كان من شكري لذلك أني قد طلبت بدمه وأما فضل أبيك علي أبيه فهو والله خير مني وأما فضل أمك علي أمه فلعمري امرأة من قريش خير من امرأة من كلب وأما فضلك عليه فوالله ما أحب أن الغوطة ملئت [ليزيد] رجالا مثلك. فقال له يزيد يا أمير المؤمنين ابن عمك وأنت أحق من نظر في أمره قد عتب عليك فأعتبه.
فولاه حرب خراسان وولى إسحاق بن طلحة خراجها وكان إسحاق ابن خالة معاوية أمه أم أبان بنت عتبة بن ربيعة فلما صار بالري مات إسحاق فولي سعيد حربها وخراجها فلما قدم خراسان قطع النهر إلى سمرقند فخرج إليه أهل الصغد فتواقفوا يوما إلى الليل ولم يقتتلوا فقال مالك بن الريب:
(ما زلت يوم الصغد ترعد واقفا * من الجبن حتى خفت أن تتنصرا)
512

فلما كان من الغد اقتتلوا فهزمهم سعيد وحصرهم في مدينتهم فصالحوه وأعطوه رهنا منهم خمسين غلاما من أبناء عظمائهم فسار إلى ترمذ ففتحها صلحا ولم يف لأهل سمرقند وجاء بالغلمان معه إلى المدينة وكان ممن قتل معه قثم بن عباس بن عبد المطلب.
وفي هذه السنة ماتت جويرية بنت الحارث زوج النبي صلى الله عليه وسلم.
513

57
ثم دخلت سنة سبع وخمسين
فيها كان مشتى عبد الله بن قيس بأرض الروم وفيها عزل مروان بن الحكم عن المدينة واستعمل عليها الوليد بن عتبة بن أبي سفيان وقيل لم يعزل مروان هذه السنة وحج بالناس الوليد بن عتبة وكان العامل علي الكوفة الضحاك بن قيس وعلي البصرة عبيد الله بن زياد وعلي خراسان سعيد بن عثمان.
وفي هذه السنة مات عبد الله بن عامر وقيل سنة تسع وخمسين وعبد الله بن قدامة السعدي وله صحبة وقيل هو عبد الله بن عمرو بن وقدان السعدي وإنما قيل له السعدي لأن أباه استرضع في بني سعد بن بكر وهو من بني عامر بن لؤي وعثمان بن شيبة بن أبي طلحة العبدري وهو جد بني شيبة سدنة الكعبة ومفتاحها معهم إلى الآن وأسلم يوم الفتح وقيل يوم حنين وجبير بن مطعم بن نوفل القرشي له صحبة وأم سلمة زوج النبي وقيل بقيت إلى قتل الحسين.
514

58
ثم دخلت سنة ثمان وخمسين
في هذه السنة غزا مالك بن عبد الله الخثعمي أرض الروم وعمرو بن يزيد الجهني في البحر وقيل جنادة بن أبي
أمية.
ذكر عزل الضحاك عن الكوفة واستعمال ابن أم الحكم
وفي هذه السنة عزل معاوية الضحاك بن قيس عن الكوفة واستعمل عبد الرحمن بن عبد الله بن عثمان الثقفي وهو ابن أم الحكم وهو ابن أخت معاوية.
وفي عمله هذه السنة خرجت الخوارج الذين كان المغيرة بن شعبة حبسهم فجمعهم حيان بن ظبيان السلمي ومعاذ بن جوين الطائي فخطباهم وحثاهم علي الجهاد فبايعوا حيان بن ظبيان وخرجوا إلى بانقيا فسار إليهم الجيش من الكوفة فقتلوهم جميعا.
ثم إن عبد الرحمن بن أم الحكم طرده من أهل الكوفة لسوء سيرته فلحق بخاله معاوية فولاه مصر فاستقبله معاوية بن حديج علي مرحلتين من مصر فقال له ارجع إلى خالك فلعمري لا تسير فينا سيرتك في إخواننا من أهل الكوفة فرجع إلى معاوية.
515

ثم إن معاوية بن حديج وفد إلى معاوية وكان إذا قدم إلى معاوية زينت له الطرق بقباب الريحان تعظيما لشأنه فدخل علي معاوية وعنده أخته أم الحكم فقالت من هذا يا أمير المؤمنين قال بخ بخ هذا معاوية بن حديج قالت لا مرحبا به تسمع بالمعيدي خير من أن تراه فسمعها معاوية بن حديج فقال علي رسلك يا أم الحكم والله لقد تزوجت فما أكرمت وولدت فما أنجبت أردت أن يلي ابنك الفاسق علينا فيسير فينا كما سار في إخواننا من أهل الكوفة وما كان الله ليريه ذلك ولو فعل ذلك لضربناه ضربا يطأطئ الرأس منه ولو كره هذا القاعد يعني خاله معاوية فالتفت إليها معاوية وقال كفي فكفت.
ذكر خروج طواف بن غلاق
كان قوم من الخوارج بالبصرة يجتمعون إلى رجل اسمه جدار فيتحدثون عنده ويعيبون السلطان فأخذهم ابن زياد فحبسهم ثم دعا بهم وعرض عليهم أن يقتل بعضهم بعضا ويخلي سبيل القاتلين ففعلوا فأطلقهم وكان ممن قتل طواف فعذلهم أصحابهم وقالوا قتلتم إخوانكم قالوا أكرهنا وقد يكره الرجل علي الكفر وهو مطمئن بالإيمان.
وندم طواف وأصحابه فقال طواف أما من توبة فكانوا يبكون وعرضوا علي أولياء من قتلوا الدية فأبوا وعرضوا عليهم القود فأبوا ولقي طواف الهثهاث بن ثور السدوسي فقال له أما تري لنا من توبة؟ فقال:
516

ما أجد لك إلا آية في كتاب الله عز وجل قوله (ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم). فدعا طواف أصحابه إلى الخروج وإلي أن يفتكوا بابن زياد فبايعوه في سنة ثمان وخمسين وكانوا سبعين رجلا من بني عبد القيس بالبصرة فسعي بهم رجل من أصحابهم إلى ابن زياد فبلغ ذلك طوافا فعجل الخروج فخرجوا من ليلتهم فقتلوا رجلا ومضوا إلى الجلحاء فندب ابن زياد الشرط البخارية فقاتلوهم فانهزم الشرط حتى دخلوا البصرة واتبعوهم وذلك يوم عيد الفطر وكثرهم الناس فقاتلوا فقتلوا وبقي طواف في ستة نفر وعطش فرسه فأقحمه الماء فرماه البخارية بالنشاب حتى قتلوه وصلبوه ثم دفنه أهله فقال شاعر منهم:
(يا رب هب [لي] التقى والصدق في ثبت * واكف اللهم فأنت الرازق الكافي)
(حتى أبيع التي تفني بآخرة * تبقي علي دين مرداس وطواف)
(وكهمس وأبي الشعثاء إذا نفروا * إلى الإله ذوي أخباب زحاف)
ذكر قتل عروة بن أدية وغيره من الخوارج
في هذه السنة اشتد عبيد الله بن زياد علي الخوارج فقتل منهم جماعة كثيرة منهم عروة بن أدية أخو أبي بلال مرداس بن أدية وأدية أمهما وأبوهما حدير وهو تميمي.
وكان سبب قتله أن ابن زياد كان قد خرج في رهان له فلما جلس
517

ينتظر الخيل اجتمع إليه الناس وفيهم عروة فأقبل علي ابن زياد يعظه وكان مما قال له: (أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون وإذا بطشتم بطشتم جبارين) فلما قال ذلك ظن ابن زياد أنه لم يقل ذلك إلا ومعه جماعة فقام وركب وترك رهانه فقيل لعروة ليقتلنك فاختفى فطلبه ابن زياد فهرب وأتى الكوفة فأخذ وقدم به علي ابن زياد فقطع يديه ورجليه وقتل ابنته.
وأما أخوه أبو بلال مرداس فكان عابدا مجتهدا عظيم القدر في الخوارج وشهد صفين مع علي فأنكر التحكيم وشهد النهروان مع الخوارج وكانت الخوارج كلها تتولاه ورأي علي ابن عامر قباء أنكره فقال هذا لباس الفساق فقال أبو بكرة لا تقل هذا للسلطان فإن من أبغض السلطان أبغضه الله وكان لا يدين بالاستعراض ويحرم خروج النساء ويقول لا نقاتل إلا من قاتلنا ولا نجبي إلا من حمينا.
وكانت البثجاء امرأة من بني يربوع تحرض علي ابن زياد وتذكر تجبره وسوء سيرته وكانت من المجتهدات فذكرها ابن زياد فقال لها أبو بلال إن التقية لا بأس بها فتغيبي فإن هذا الجبار قد ذكرك قالت أخشى أن يلقي أحد بسببي مكروها فأخذها ابن زياد فقطع يديها ورجليها فمر بها أبو بلال في السوق فعض علي لحيته وقال أهذه أطيب نفسا بالموت منك يا مرداس ما ميتة أموتها أحب إلى من ميتة البثجاء! ومر أبو بلال ببعير قد طلي بقطران فغشي عليه ثم أفاق فتلا (سرابيلهم من قطران وتغشي وجوههم النار).
ثم إن ابن زياد ألح في طلب الخوارج فملأ منهم السجن وأخذ الناس
518

بسببهم وحبس أبا بلال قبل أن يقتل أخاه عروة فرأى السجان عبادته فإذن له كل ليلة في إتيان أهله فكان يأتيهم ليلا ويعود مع الصبح وكان صديق لمرداس يسامر ابن زياد فذكر ابن زياد الخوارج ليلة فعزم علي قتلهم إذا أصبح فانطلق صديق مرداس إليه فأعلمه الخبر وبات السجان بليلة سوء خوفا أن يعلم مرداس فلا يرجع فلما كان الوقت الذي كان يعود فيه إذا به قد أتي فقال له السجان أما بلغك ما عزم عليه الأمير قال بلي قال ثم جئت قال نعم لم يكن جزاؤك مني مع إحسانك إلى أن تعاقب. وأصبح عبيد الله فقتل الخوارج فلما أحضر مرداس قام السجان وكان ظئرا لعبيد الله فشفع فيه وقص عليه قصته فوهبه له وخلي سبيله.
ثم إنه خاف ابن زياد فخرج في أربعين رجلا إلى الأهواز فكان إذا اجتاز به مال لبيت المال أخذ منه عطاءه وعطاء أصحابه ثم يرد الباقي فلما سمع ابن زياد خبرهم بعث إليهم جيشا عليهم أسلم بن زرعة الكلابي سنة ستين وقيل أبو حصين التميمي وكان الجيش ألفي رجل فلما وصلوا إلى أبي بلال ناشدهم الله أن لا يقاتلوه فلم يفعلوا ودعاهم أسلم إلى معاودة الجماعة فقالوا أتردوننا إلى ابن زياد الفاسق فرمي أصحاب أسلم رجلا من أصحاب أبي بلال فقتلوه فقال أبو بلال قد بدأوكم بالقتال فشد الخوارج علي أسلم وأصحابه شدة رجل واحد فهزموهم فقدموا البصرة فلام ابن زياد أسلم وقال هزمك أربعون وأنت في ألفين لا خير فيك فقال لأن تلومني وأنا حي خير من أن تثني علي وأنا ميت فكان الصبيان إذا رأوا أسلم صاحوا به أما أبو بلال وراءك فشكا ذلك إلى ابن زياد فنهاهم فانتهوا.
وقال رجل من الخوارج:
519

(أألفا مؤمن منكم زعمتم * ويقتلهم بآسك أربعونا)
(كذبتم ليس ذاك كما زعمتم * ولكن الخوارج مؤمنونا)
[هي الفئة القليلة قد علمتم * علي الفئة الكبيرة ينصرونا]
ذكر عدة حوادث
وحج بالناس الوليد بن عتبة في هذه السنة وفيها مات عقبة بن عامر الجهني وله صحبة وشهد صفين مع معاوية وفيها توفيت عائشة عليها السلام وسمرة بن جندب وله صحبة ومالك بن عبادة الغافقي وله صحبة وعميرة بن يثربي قاضي البصرة واستقضي مكانه عليها هشام بن هبيرة.
520

59
ثم دخلت سنة تسع وخمسين
في هذه السنة كان مشتى عمرو بن مرة الجهني بأرض الروم في البر وغزا في البحر جنادة بن أبي أمية وقيل لم يكن في البحر غزوة هذه السنة. وفي هذه السنة عزل عبد الرحمن بن أم الحكم عن الكوفة واستعمل عليها النعمان بن بشير الأنصاري وقد تقدم عزله وقيل كان عزله سنة ثمان وخمسين.
ذكر ولاية عبد الرحمن بن زياد خراسان
وفيها استعمل معاوية عبد الرحمن بن زياد علي خراسان وقدم بين يديه قيس بن الهيثم السلمي وأخذ أسلم بن زرعة فحبسه وأخذ منه ثلاثمائة ألف درهم ثم قدم عبد الرحمن وكان كريما حريصا ضعيفا لم يغز غزوة واحدة وبقي بخراسان إلى أن قتل لحسين فقدم علي يزيد ومعه عشرون ألف ألف درهم فقال إن شئت حاسبناك وأخذنا ما معك ورددناك إلى عملك وإن شئت أعطيناك ما معك وعزلناك وتعطي عبد الله بن جعفر خمسمائة ألف درهم قال بل تعطيني ما معي وتعزلني ففعل فأرسل عبد الرحمن إلى ابن جعفر بألف ألف وقال هذه خمسمائة ألف من يزيد وخمسمائة ألف مني.
521

ذكر عزل ابن زياد البصرة وعوده إليها
وفي هذه السنة عزل معاوية عبيد الله بن زياد عن البصرة وأعاده إليها وسبب ذلك أن ابن زياد وفد علي معاوية في وجوه أهل البصرة وفيهم الأحنف وكان سئ المنزلة من عبيد الله فلما دخلوا رحب معاوية بالأحنف وأجلسه معه علي سريره فأحسن القوم الثناء علي ابن زياد والأحنف ساكت فقال له معاوية مالك يا أبا بحر لا تتكلم فقال إن تكلمت خالفت القوم فقال معاوية انهضوا فقد عزلته عنكم واطلبوا واليا ترضونه فلم يبق أحد إلا أتي رجلا من بني أمية أو من أهل الشام والأحنف لم يبرح من منزله فلم يأت أحدا فلبثوا أياما ثم جمعهم معاوية وقال لهم من اخترتم فاختلفت كلمتهم والأحنف ساكت فقال مالك لا تتكلم فقال إن وليت عليا أحدا من أهل بيتك لم نعدل بعبيد الله أحدا وإن وليت من غيرهم فانظر في ذلك فرده معاوية عليهم وأوصاه بالأحنف وقبح رأيه في مباعدته فبما هاجت الفتنة لم يف له غير الأحنف.
ذكر هجاء يزيد بن مفرغ الحميري بني زياد وما كان منه
كان يزيد بن مفرغ الحميري مع عباد بن زياد بسجستان فاشتغل عنه بحرب الترك فاستبطأه ابن مفرغ وأصاب الجند الذين مع عباد ضيق في علوفات دوابهم فقال ابن مفرغ:
(ألا ليت اللحى كانت حشيشا * فنعلفها دواب المسلمينا)
522

وكان عباد بن زياد عظيم اللحية فقيل ما أراد غيرك فطلب فهرب منه وهجاه بقصائد وكان مما هجاه به قوله:
(إذا أودي معاوية بن حرب * فبشر شعب رحلك بانصداع)
(وأشهد أن أمك لم تباشر * أبا سفيان واضعة القناع)
(ولكن كان أمرا فيه لبس * علي وجل شديد وارتياع)
وقال أيضا:
(ألا أبلغ معاوية بن حرب * مغلغلة من الرجل اليماني)
(أتغضب أن يقال أبوك عف * وترضي أن يقال أبوك زان)
(فأشهد أن رحمك من زياد * كرحم الفيل من ولد الأتان)
وقدم يزيد بن مفرغ البصرة وعبيد الله بن زياد بالشام عند معاوية فكتب إليه أخوه عباد بما كان منه فأعلم عبيد الله معاوية به وأنشده الشعر واستأذنه في قتل ابن مفرغ فلم يأذن له وأمره بتأديبه.
ولما قدم ابن مفرغ البصرة استجار بالأحنف وغيره من الرؤساء فلم يجره أحد فاستجار بالمنذر بن الجارود فأجاره وأدخله داره وكانت ابنته عند عبيد الله بن زياد فلما قدم عبيد الله البصرة أخبر بمكان ابن مفرغ وأتى المنذر عبيد الله مسلما فأرسل عبيد الله الشرط إلى دار المنذر فأخذوا ابن مفرغ وأتوه به والمنذر عنده فقال له المنذر أيها الأمير إني قد أجرته فقال يا منذر يمدحك ويهجوني وأبي وتجيره علي ثم أمر به فسقي دواء ثم حمل علي حمار وطيف به وهو يسلح في ثيابه فقال يهجو المنذر:
(تركت قريشا أن أجاور فيهم * وجاورت عبد القيس أهل المشقر)
(أناس أجارونا فكان جوارهم * أعاصير من فسو العراق المبذر)
523

(فأصبح جاري من جذيمة نائما * ولا يمنع الجيران غير المشمر)
وقال لعبيد الله:
(يغسل الماء ما صنعت وقولي * راسخ منك في العظام البوالي)
ثم سيره عبيد الله إلى أخيه عباد بسجستان فكلمت اليمانية بالشام معاوية فيه فأرسل إلى عباد فأخذه من عنده فقدم علي معاوية وقال في طريقه:
(عدس ما لعباد عليك إمارة * أمنت وهذا تحملين طليق)
(لعمري لقد نجاك من هوة الردي * إمام وحبل للإمام وثيق)
(سأشكر ما أوليت من حسن نعمة * ومثلي بشكر المنعمين حقيق)
فلما دخل علي معاوية بكي وقال ركب مني ما لم يرتكب من مسلم مثله علي غير حدث قال أولست القائل:
ألا أبلغ معاوية بن حرب
القصيدة؟ فقال: لا والله الذي عظم حق أمير المؤمنين ما قلت هذا وإنما قاله عبد الرحمن بن الحكم أخو مروان واتخذني ذريعة إلى هجاء زياد قال ألست القائل:
(فأشهد أن أمك لم تباشر * أبا سفيان في واضعة القناع)
524

أشعار كثيرة هجوت بها ابن زياد؟ اذهب فقد عفونا عنك فانزل أي أرض الله شئت. فنزل الموصل وتزوج بها فلما كان ليلة بنائه بامرأته خرج حين أصبح إلى الصيد فلقي إنسانا علي حمار فقال من أين أقبلت فقال من الأهواز قال فما فعل ماء مسرقان قال علي حاله فارتاح إلى البصرة فقدمها ودخل علي عبيد الله فآمنه.
وغضب معاوية علي عبد الرحمن بن الحكم فكلم فيه فقال لا أرضي عنه حتى يرضي عنه ابن زياد فقدم البصرة علي عبيد الله وقال له:
(لأنت زيادة في آل حرب * أحب إلى من إحدى بناني)
(أراك أخا وعما وابن عم * فلا أدري بغيب ما تراني)
[فقال] أراك شاعر سوء ورضي عنه.
ذكر عدة حوادث
حج بالناس هذه السنة عثمان بن محمد بن أبي سفيان.
وكان الوالي علي الكوفة النعمان بن بشير وعلي البصرة عبيد الله بن زياد وعلي المدينة الوليد بن عتبة وعلي خراسان عبد الرحمن بن زياد وعلي سجستان عباد بن زياد وعلي كرمان شريك بن الأعور.
وفيها مات قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري بالمدينة وقيل سنة ستين وكان قد شهد مع علي مشاهده كلها وفيها مات سعيد بن العاص وولده
525

عام الهجرة وقتل أبوه يوم بدر كافرا وفيها مات مرة بن كعب البهري السلمي وله صحبة وفيها مات أبو محذورة الجمحي مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ولم يزل يؤذن بها حتى مات وولده من بعده وقيل مات سنة تسع وستين. وفيها مات عبد الله بن عامر بن كريز بمكة فدفن بعرفات وفيها مات أبو هريرة فحمل جنازته ولد عثمان بن عفان لهواه كان في عثمان.
وفيها غزا المسلمون حصن كمخ ومعهم عمير بن الحباب السلمي فصعد عمير السور ولم يزل يقاتل عليه وحده حتى كشف الروم فصعد المسلمون ففتحه بعمير وبذلك كان يفتخر ويفخر له بذلك.
تم المجلد الثالث
526