الكتاب: الكامل في التاريخ
المؤلف: ابن الأثير
الجزء: ٢
الوفاة: ٦٣٠
المجموعة: مصادر التاريخ
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع: ١٣٨٦ - ١٩٦٦م
المطبعة: دار صادر - دار بيروت
الناشر: دار صادر للطباعة والنشر - دار بيروت للطباعة والنشر
ردمك:
ملاحظات:

الكامل في التاريخ
2
1

الكامل في التاريخ
تأليف
الشيخ العلامة عز الدين أبي الحسن علي بن أبي الكرم
محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني المعروف
بابن الأثير
المجلد الثاني
دار صادر
للطباعة والنشر
دار بيروت
للطباعة والنشر
بيروت 1385 ه‍ _ 1965 م
3

بسم الله الرحمن الرحيم
نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم
وذكر بعض أخبار آبائه وأجداده
واسم رسول الله محمد وقد تقدم ذكر ولادته في ملك كسرى أنوشروان وهو محمد بن عبد الله ويكنى عبد الله أبا قثم وقيل أبا محمد وقيل: أبا أحمد بن عبد المطلب.
وكان عبد الله أصغر ولد أبيه فكان عبد الله وأبو طالب واسمه عبد مناف والزبير وعبد الكعبة وعاتكة وأميمة وبرة ولد عبد المطلب أمهم جميعهم فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمرو بن مخزوم بن يقظة.
وكان عبد المطلب نذر حين لقي من قريش العنت في حفر زمزم كما نذكره لئن ولد [له] عشرة نفر وبلغوا معه حتى يمنعوه لينحرن أحدهم عند الكعبة لله تعالى فلما بلغوا عشرة وعرف أنهم سيمنعونه أخبرهم ينذره فأطاعوه وقالوا كيف نصنع؟ قال: يأخذ كل رجل منكم قدحا ثم يكتب فيه اسمه ففعلوا وأتوه بالقداح، فدخلوا على هبل في جوف الكعبة وكان أعظم أصنامهم وهو على بئر يجمع فيه ما يهدى إلى الكعبة.
5

وكان عند هبل سبعة أقدح، في كل قدح كتاب فقدح فيه العقل إذا اختلفوا في العقل من يحمله منهم ضربوا بالقداح السبعة وقدح فيه نعم للأمر إذا أرادوا يضرب به فإن خرج نعم عملوا به وقدح فيه لا فإذا أرادوا أمرا ضربوا به فإذا خرج لا لم يعملوا ذلك الأمر وقدح فيه منكم وقدح فيه ملصق وقدح فيه من غيركم وقدح فيه المياه إذا أرادوا أن يحفروا للماء ضربوا بالقداح وفيها ذلك القدح فحيثما خرج عملوا به؛ وكانوا إذا أرادوا أن يختنوا غلاما أن ينكحوا جارية أو يدفنوا ميتا أو شكوا في نسب أحد منهم ذهبوا به إلى هبل وبمائة درهم وجزور فأعطوه صاحب القداح الذي يضربها ثم قربوا صاحبهم الذي يريدون به ما يريدون ثم قالوا يا إلهنا هذا فلان بن فلان قد أردنا به كذا وكذا فأخرج الحق فيه ثم يقولون لصاحب القداح اضرب فيضرب فإن خرج عليه منكم كان وسيطا وإن خرج عليه من غيركم كان حليفا وإن خرج عليه ملصق كان على منزلته منهم لا نسب له ولا حلف وإن خرج عليه شيء سوى هذا مما يعملون به فإن خرج نعم عملوا به وإن خرج لا أخروه عامهم ذلك حتى أتوه به مرة أخرى ينتهون في أمورهم إلى ذلك مما خرجت به القداح.
وقال عبد المطلب لصاحب القداح اضرب على بني هؤلاء بقداحهم هذه وأخبره بنذره الذي نذر. وكان عبد الله أصغر بني أبيه وأحبهم إليه فلما أخذ صاحب القداح يضرب قام عبد المطلب يدعو الله تعالى ثم ضرب صاحب القداح فخرج قدح على عبد الله فأخذ عبد المطلب بيده ثم أقبل إلى أساف ونائلة وهما الصنمان الذان ينحر الناس عندهما فقامت قريش من أنديتها فقالوا: ما تريد؟ قال: أذبحه، فقالت قريش وبنوه: والله لا تذبحه أبدا حتى تعذر فيه لئن فعلت هذا لا يزال الرجل منا يأتي بابنه حتى يذبحه. فقال
6

له المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم والله لا تذبحه حتى تعذر فيه فإن كان فداؤه بأموالنا فديناه وقالت له قريش وبنوه لا تفعل وانطلق إلى كاهنة بالحجر فسلها فإن أمرتك بذبحه ذبحته فإن أمرتك بمالك وله فيه فرج قبلته.
فانطلقوا إليها وهي بخيبر فقص عليها عبد المطلب خبره فقالت ارجعوا حتى اليوم حتى يأتيني تابعي فأسأله فرجعوا عنها ثم غدوا عليها فقالت نعم قد جاءني الخبر فكم الدية فيكم قالوا عشرة من الإبل وكانت كذلك قالت ارجعوا إلى بلادكم وقربوا عشرا من الإبل واضربوا عليها وعليه بالقداح فإن خرج على صاحبكم فزيدوا عشرا حتى يرضى ربكم وإن خرجت على الإبل فانحروها فقد رضي ربكم ونجا صاحبكم.
فخرجوا حتى أتوا مكة فلما أجمعوا لذلك قام عبد المطلب يدعو الله ثم قربوا عبد الله وعشرا من الإبل فخرجت القداح على عبد الله فزادوا عشرا فخرجت القداح على عبد الله حتى بلغت الإبل مائة ثم ضربوا فخرجت القداح على الإبل فقال من حضر قد رضي ربك يا عبد المطلب. فقال عبد المطلب لا والله حتى أضرب ثلاث مرات فضربوا ثلاثا فخرجت القداح على الإبل فنحرت ثم تركت لا يصد عنها إنسان ولا سبع.
وأما تزويج عبد الله بن عبد المطلب بآمنة ابنة وهب أم رسول الله فإنه لما فرغ عبد المطلب من الإبل انصرف بابنة عبد الله وهو اخذ بيده فمر على أم قتال ابنة نوفل بن أسد أخت ورقة بن نوفل
7

وهي عند البيت، فقالت له حين نظرت إليه وإلى وجهه: أين تذهب يا عبد الله؟ فقال: مع أبي. قالت: لك عندي مثل الذي نحر عنك أبوك من الإبل وقع علي الآن. قال إن معي أبي لا أستطيع خلافه ولا فراقه.
فخرج به عبد المطلب حتى أتى به وهب بن عبد مناف بن زهرة وهو سيد بني زهرة فزوجه ابنته آمنة بنت وهب وهي لبرة بنت عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي وبرة لأم حبيب بنت أسد بن عبد العزى بن قصي وأم حبيب لبرة بنت عوف بن عبيد بن عويج بن عدي بن كعب.
فدخل عبد الله عليها حين ملكها مكانها فوقع عليها فحملت بسيدنا محمد ثم خرج من عندها حتى أتى المرأة التي عرضت عليه نفسها بالأمس فقال لها مالك لا تعرضين علي اليوم ما كنت عرضت بالأمس فقالت فارقك النور الذي كان معك بالأمس فليس لي بك اليوم حاجة.
وقد كان تسمع من أخيها ورقة بن نوفل أنه كائن لهذه الأمة نبي من بني إسماعيل وقيل إن عبد المطلب خرج بابنه عبد الله ليزوجه فمر به على كاهنة من خثعم يقال لها فاطمة بنت مر متهودة من أهل تبالة فرأت في وجهه نورا وقالت له يا فتى هل لك أن تقع علي الآن وأعطيك مائة من الإبل؟ فقال لها:
(أما الحرام فالممات دونه * والحل لا حل فأستبينه)
(فكيف بالأمر الذي تبغينه * يحمي الكريم عرضه ودينه)
ثم قال لها أنا مع أبي ولا أقدر [أن] أفارقه. فمضى فزوجه آمنة بنت وهب
8

بن عبد مناف بن زهرة. فأقام عندها ثلاثا ثم انصرف فمر بالخثعمية فدعته نفسه إلى ما دعته إليه فقال لها هل لك فيما كنت أردت فقالت يا فتى ما أنا بصاحبة ريبة ولكني رأيت في وجهك نور فأردت أن يكون في فأبى الله إلا أن يجعله حيث أراد فما صنعت بعدي قال زوجني أبي آمنة بنت وهب قال فاطمة بنت مر:
(إني رأيت مخيلة لمعت * فتلألأت بحناتم القطر)
(فلماتها نورا يضيء به * ما حوله كإضاءة البدر)
(ورأيت سقياها حيا بلد * وقعت به وعمارة القفر)
(فرجوته فخرا أبوء به * ما كل قادح زنده يوري)
(لله ما زهرية سلبت * منك الذي سلبت وما تدري)
وقالت أيضا في ذلك:
(بني هاشم قد غادرت من أخيكم * أمينة إذ للباه يعتركان)
(كما غادر المصباح عند خموده * فتائل قد بلت له بدهان)
(فما كل ما يحوي الفتى من ملاذه * لعزم ولا ما فاته لتوان)
(فأجمل إذا طالبت أمرا فإنه * سيكفيكه جدان يعتلجان)
(سيكفيكه إما يد مقفعلة * وإما يد مبسوطة ببنان)
9

(ولما حوت منه أمينة ما حوت * حوت منه فخرا ما لذلك شأني)
وقيل: إن الذي اجتاز بها غير هذا والله أعلم.
قال الزهري: أرسل عبد المطلب ابنه عبد الله إلى المدينة يمتار لهم تمرا فمات بالمدينة وقيل بل كان في الشام فأقبل في عير قريش فنزل بالمدينة وهو مريض فتوفي بها ودفن في دار النابغة الجعدي وله خمس وعشرون سنة وقيل ثمان وعشرون سنة وتوفي قبل أن يولد رسول الله
.
(عايذ بن عمرو بالذال المعجمة، والياء تحتها نقطتان وعبيد بفتح العين وكسر الباء الموحدة. وعويج بفتح العين، وكسر الواو، وآخره جيم).
ابن عبد المطلب
واسمه شيبة، سمي بذلك لأنه كان في رأسه لما ولد شيبة وأمه سلمى بنت عمرو بن زيد الخزرجية النجارية ويكنى أبا الحارث وإنما قيل له عبد المطلب لأن أباه هاشما شخص في تجارة إلى الشام فلما قدم المدينة نزل على عمرو بن لبيد الخزرجي من بني النجار فرأى ابنته سلمى فأعجبته فتزوجها وشرط أبوها أن لا تلد ولدا إلا في أهلها ثم مضى هاشم لوجهه وعاد من الشام فبنى بها في أهلها ثم حملها إلى مكة فحملت فلما أثقلت ردها إلى أهلها ومضى إلى الشام فمات بغزة.
10

فولدت له سلمى عبد المطلب فمكث بالمدينة سبع سنين. ثم إن رجلا من بني الحارث بن عبد مناف مر بالمدينة فإذا غلمان ينتضلون فجعله شيبة إذا أصاب قال له أنا ابن هاشم أنا ابن سيج البطحاء فقال له الحارثي من أنت قال أنا ابن هاشم بن عبد المناف فلما أتى الحارثي مكة قالة للمطلب وهو بالحجر يا أبا الحارث تعلم إني وجدت غلمانا بيثرب وفيهم ابن أخيك ولا يحسن ترك مثله. فقال المطلب: لا أرجع إلى أهلي حتى آتي به فأعطاه الحارثي ناقة فركبها وقدم المدينة عشاء فرأى غلمانا يضربون كرة فعرف ابن أخيه فسأل عنه فأخبره به فأخذه وأركبه على عجز الناقة وقيل بل أخذه بإذن أمه وسار إلى مكة فقدمها ضحوة والناس في مجالسهم فجعلوا يقولون له من هذا وراءك فيقول هذا عبدي حتى أدخله المنزل على امرأته خديجة بنت سعيد بن سهم فقالت من هذا [الذي] معك؟ قال: عبد لي. واشترى له حلة فلبسها ثم خرج به العشي فجلس إلى مجلس بني عبد مناف فأعلمهم أنه ابن أخيه فكان بعد ذلك يطوف بمكة فيقال هذا عبد المطلب لقوله هذا عبدي.
ثم أوقفه المطلب على ملك أبيه فسلمه إليه فعرض له نوفل بن عبد مناف، وهو عمه الآخر بعد موت المطلب في ركح له وهو الفناء فأخذه فمشى عبد المطلب إلى رجالات قريش وسألهم النصرة على عمه فقالوا له ما ندخل بينك وبين عمك فكتب إلى أخواله من بني النجار يصف لهم حاله فخرج أبو سعيد بن عدس النجاري في ثمانين راكبا حتى أتى الأبطح فخرج عبد المطلب يتلقاه فقال له المنزل يا خال قال حتى ألقي نوفلا وأقبل حتى وقف على رأسه في الحجر مع مشايخ قريش فسل سيفه ثم قال ورب هذه البنية لتردن على ابن أختنا ركحه أو لأملأن منك السيف قال فإني ورب هذه البنية أرد عليه ركحه فأشهد عليه من حضر ثم قال لعبد المطلب
11

المنزل يا بن أختي. فأقام عنده ثلاثا، فاعتمروا وانصرفوا.
فدعا ذلك عبد المطلب إلى الحلف فدعا بشر بن عمر وورقاء بن فلان ورجالا من رجالات خزاعة فحالفهم في الكعبة وكتبوا كتابا وكان إلى عبد المطلب السقاية والرفادة وشرف في قومه وعظم شأنه.
ثم إنه حفر زمزم وهي بئر إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام التي أسقاه الله تعالى منها فدفنتها جرهم وقد تقدم ذكر ذلك.
[سبب حفر بئر زمزم]
وكان سبب حفره إياها أنه قال: بينا أنا نائم بالحجر إذا أتاني آت فقال: احفر طيبة. قال: قلت: وما طيبة؟ قال: ثم ذهب، فرجعت الغد إلى مضجعي فنمت فيه فجاءني فقال احفر برة قال قلت وما برة قال ثم ذهب عني، قال: فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه فجاءني فقال احفر المضنونة. [قال: قلت: وما المضنونة؟ قال]: فذهب عني. فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي [فنمت فيه فجاءني] فقال: احفر زمزم، إنك إن حفرتها لا تندم فقلت وما زمزم قال تراث من أبيك الأعظم لا تنزف أبدا ولا تذم تسقي الحجيج الأعظم مثل نعام جافل لم يقسم ينذر فيها ناذر لمنعم يكون ميراثا وعقد محكم ليس كبعض ما قد تعلم وهي بين الفرث والدم، عند نقرة الغراب الأعصم، عند قرية النمل.
فلما بين له شأنها ودل على موضعها وعرف أنه قد صدق، غدا بمعوله ومعه
12

ابنه الحارث ليس له ولد غيره فحفر بين أساف ونائلة في الموضع الذي تنحر [فيه] قريش لأصنامها، وقد رأى الغراب ينقر هناك فلما بدا له الطوي كبر فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته فقاموا إليه فقالوا إنها بئر أبينا إسماعيل وإن لنا فيها حقا فأشركنا معك قال ما أنا بفاعل هذه أمر خصصت به دونكم. قالوا: فإنا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها قال فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم قالوا كاهنة بني سعد بن هذيم وكانت بمشارف الشام.
فركب عبد المطلب ومعه نفر من بني عبد مناف وركب من كل قبيلة من قريش نفر حتى إذا كانوا ببعض تلك المفاوز بين الحجاز والشام فنى ماء عبد المطلب وأصحابه فظمئوا حتى أيقنوا بالهلكة فطلبوا الماء ممن معهم من قريش فلم يسقوهم فقال لأصحابه ماذا ترون فقالوا رأينا تبع لرأيك فمرنا بما شئت. قال: فإني أرى أن يحفر كل رجل منكم لنفسه حفرة فكلما مات واحد واراه أصحابه حتى يكون آخركم موتا قد وارى الجميع فضيعة رجل واحد أيسر من ضيعة ركب قالوا نعم ما رأيت ففعلوا ما أمرهم به.
ثم إن عبد المطلب قال لأصحابه: والله إن إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت لا نضرب في الأرض ونبتغي لأنفسنا لعجز فارتحلوا ومن معه من قبائل قريش ينظرون إليهم ثم ركب عبد المطلب فلما انبعثت به راحلته انفجرت من تحت خفها عين عذبة من ماء فكبر وكبر أصحابه وشربوا وملأوا أسقيتهم ثم دعا القبائل من قريش فقال هلموا إلى الماء فقد سقانا الله. فقال أصحابه لا نسقيهم لأنهم لم يسقونا فلم يسمع منهم وقال فنحن إذا مثلهم فجاء أولئك القرشيون فشربوا وملأوا أسقيتهم وقالوا قد والله قضى الله لك
علينا يا عبد المطلب والله لا نخاصمك في زمزم أبدا إن الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة لهو الذي سقاك زمزم فارجع إلى سقايتك راشدا.
13

فرجعوا إليه ولم يصلوا إلى الكاهنة وخلوا بينه وبينها.
فلما فرغ من حفرها وجد الغزالين اللذين دفنتهما جرهم فيها وهما من ذهب ووجد فيها أسيافا قلعية وأدراعا فقالت له قريش يا عبد المطلب لنا معك في هذا شرك وحق. قال: لا ولكن هلم إلى أمر نصف بيني وبينكم نضرب عليها بالقداح فقالوا كيف تصنع قال أجعل للكعبة قدحين ولكم قدحين ولي قدحين فمن خرج قداحه على شيء أخذه ومن تخلف قداحه فلا شيء له قالوا أنصفت. ففعلوا ذلك وضربت القداح عند هبل فخرج قدحا الكعبة على الغزالين وخرج قدحا عبد المطلب على الأسياف والأدراع ولم يخرج لقريش شيء من القداح فضرب عبد المطلب الأسياف بابا للكعبة وجعل فيه الغزالين صفائح من ذهب فكان أول ذهب حليت به الكعبة. وقيل بل بقيا في الكعبة وسرقا على ما نذكره.
وأقبل الناس والحجاج على بئر زمزم تبركا بها ورغبة فيها وأعرضوا عما سواها من الأبيار ولما رأى عبد المطلب تظاهر قريش عليه نذر لله تعالى أن يرزقه عشرة من الولدان يبلغون أن يمنعوه ويذبوا عنه نحر أحدهم قربانا لله تعالى وقد ذكر النذر في اسم عبد الله أبي النبي صلى الله عليه وسلم.
عبد المطلب أول من خضب بالوسمة وهو السواد لأن الشيب أسرع إليه.
14

[عبد المطلب وجاره اليهودي]
وكان لعبد المطلب جار يهودي يقال له أذينة يتجر وله مال كثير فغاظ ذلك حرب بن أمية وكان نديم عبد المطلب فأغرى به فتيانا من قريش ليقتلوه ويأخذوا ماله فقتله عامر بن عبد مناف بن عبد الدار وصخر بن عمرو بن كعب
التميمي جد
أبي بكر رضي الله عنه فلم يعرف عبد المطلب قاتله فلم يزل يبحث حتى عرفهما وإذا هما قد استجارا بحرب بن أمية فأتى حربا ولامه وطلبهما منه فأخفاهما فتغالظا في القول حتى تنافرا إلى النجاشي ملك الحبشة فلم يدخل بينهما فجعلا بينهما نفيل بن عبد العزى العدوي جد عمر بن الخطاب فقال لحرب يا أبا عمرو أتنافر رجلا هو أطول منك قامة وأوسم وسامة وأعظم منك هامة وأقل منك ملامة وأكثر منك ولدا وأجزل منك صفدا وأطول منك مددا وإني لأقول هذا وإنك لبعيد الغضب رفيع الصوت في العرب جلد المريرة لحبل العشيرة ولكنك نافرت منفرا؛ فغضب حرب وقال من انتكاس الزمان أن جعلت حكما. فترك عبد المطلب منادمة حرب ونادم عبد الله بن جدعان التيمي وأخذ من حرب مائة ناقة فدفعها إلى ابن عم اليهودي وارتجع ماله إلا شيئا هلك فغرمه من ماله.
وهو أول من تحنث بحراء فكان إذا دخل شهر رمضان صعد حراء وأطعم المساكين جميع الشهر.
وتوفي وله مائة وعشرون سنة وكان قد عمي وقيل غير ذلك.
15

ابن هاشم
واسم هاشم عمرو، وكنيته أبو نضلة. وإنما قيل له هاشم لأنه أول من هشم الثريد لقومه بمكة وأطعمه.
قال ابن الكلبي: كان هاشم أكبر ولد عبد مناف والمطلب أصغرهم أنه عاتكة بنت مرة السلمية ونوفل وأمه واقدة وعبد شمس فسادوا كلهم وكان يقال لهم المجبرون وهم أول من أخذ لقريش العصم فانتشروا من الحرم أخذ لهم هاشم حبلا من الروم وغسان بالشام وأخذ لهم عبد شمس حبلا من النجاشي بالحبشة وأخذ لهم نوفل حبلا من الأكاسرة بالعراق وأخذ لهم المطلب حبلا من حمير باليمن فاختلفت قريش بهذا السبب إلى هذه النواحي فجبر الله بهم قريشا وقيل إن عبد شمس وهاشما توأمان وأن أحدهما ولد قبل الآخر وإصبع له ملتصقة بجبهة صاحبه فنحيت فسام الدم فقيل يكون بينهما دم.
وولي هاشم بعد أبيه عبد مناف ما كان إليه من السقاية والرفادة فحسده
16

أمية بن عبد شمس على رياسته وإطعامه، فتكلف أن يصنع صنيع هاشم فعجز عنه فشمت به ناس من قريش فغضب ونال من هاشم ودعاه إلى المنافرة فكره هاشم ذلك لسنه وقدره فلم تدعه قريش حتى نافره على خمسين ناقة والجلاء عن مكة عشر سنين فرضي أمية وجعلا بينهما الكاهن الخزاعي وهو جد عمرو بن الحمق ومنزله بعسفان وكان مع أمية همهمه بن عبد العزى الفهري وكانت ابنته عند أمية فقال الكاهن والقمر الباهر والكواكب الزاهر والغمام الماطر وما بالجو من طائر وما اهتدى بعلم مسافر من منجد وغائر لقد سبق هاشم أمية إلى المآثر أول منه وآخر وأبو همهمة بذلك خابر. فقضى لهاشم بالغلبة وأخذ هاشم الإبل فنحرها وأطعمها وغاب أمية عن مكة بالشام عشر سنين فكانت هذه أول عداوة وقعت بين هاشم وأمية.
وكان يقال لهاشم والمطلب البدران لجمالهما ومات هاشم بغزة وله عشرون سنة وقيل خمس وعشرون سنة وهو أول من مات من بني عبد مناف ثم مات عبد شمس بمكة فقبر بأجياد ثم مات نوفل بسلمان من طريق العراق ثم مات عبد المطلب بردمان من أرض اليمن وكانت الرفادة والسقاية بعد هاشم إلى أخيه المطلب لصغر ابنه عبد المطلب بن هاشم.
17

ابن عبد المناف
واسمه المغيرة وكنيته أبو عبد شمس وكان يقال له القمر لجماله وكانت أمه حين ولدته دفعته إلى مناف صنم بمكة تدينا بذلك فغلب عليه عبد مناف.
وكان عبد مناف وعبد العزى وعبد الدار بنو قصي إخوة أمهم حبى ابنة حليل بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو بن خزاعة وهو الذي عقد الحلف بين قريش والأحابيش والأحابيش بنو الحارث بن عبد مناف بن كنانة وبنو المصطلق من خزاعة وبنو الهون من خزيمة وكان قصي يقول ولد لي أربعة بنين فسميت ابنين بإلهي وهما عبد مناف وعبد العزى وواحدا بداري وهو عبد الدار وواحدا بي وهو عبد قصي.
(حليل بضم الحاء المهملة وفتح اللام الأولى وحبشية بضم الحاء).
ابن قصي
واسمه زيد، وكنيته أبو المغيرة وإنما قيل له قصي لأن ربيعة بن حرام بن ضبة بن عبد بن كثير بن عذرة بن سعد بن زيد تزوج أمه فاطمة ابنة سعد بن سيل واسمه جبر بن جمالة بن عوف وهي أيضا أم أخيه زهرة ونقلها إلى بلاد عذرة من مشارف الشام وحملت معها قصيا لصغره وتخلف زهرة في قومه لكبره فولدت أمه فاطمة لربيعة بن حرام زراح بن ربيعة
18

فهو أخو قصي لأمه. وكان لربيعة ثلاثة نفر من امرأة أخرى وهم حن بن ربيعة ومحمود وجلهمة وقيل إن حنا كان أخا قصي لأمه فشب زيد في حجر ربيعة فسمي قصيا لبعده عن دار قومه وكان قصي ينتمي إلى ربيعة إلى أن كبر وكان بينه وبين رجل من قضاعة شيء فعيره القضاعي بالغربة فرجع قصي إلى أمه وسألها عما قال فقالت له يا بني أنت أكرم منه نفسا وأبا أنت ابن كلاب بن مرة وقومك بمكة عند البيت الحرام.
فصبر حتى دخل الشهر الحرام وخرج مع حاج قضاعة حتى قدم مكة وأقام مع أخيه زهرة ثم خطب إلى حليل بن حبشية الخزاعي ابنته حبى فزوجه وحليل يومئذ يلي الكعبة فولدت أولاده عبد الدار وعبد المناف وعبد العزى وعبد قصي وكثر ماله وعظم شرفه.
وهلك حليل وأوصى بولاية البيت لابنته حبى فقالت إني لا أقدر على فتح الباب وإغلاقه فجعل فتح الباب وإغلاقه إلى ابنه المحترش وهو أبو غبشان فاشترى قصي منه ولاية البيت بزق خمر وبعود فضربت به العرب المثل فقالت أخسر صفقة من أبي غبشان.
فلما رأت ذلك خزاعة كثروا على قصي فاستنصر أخاه رزحا فحضر هو وإخوته الثلاثة فيمن تبعه من قضاعة إلى نصرته ومع قصي قومه بنو النضر وتهيأ لحرب خزاعة وبني بكر وخرجت إليهم خزاعة فاقتتلوا قتالا شديدا فكثرت القتلى في الفريقين والجراح ثم تداعوا إلى الصلح على أن يحكموا بينهم عمرو بن عوف بن كعب بن ليث بن بكر بن عبد مناف بن كنانة فقضى بينهم بأن قصيا أولى بالبيت ومكة من خزاعة وأن كل دم أصابه من خزاعة
19

وبني بكر موضوع فيشدخه تحت قدميه، وأن ل دم أصابت خزاعة وبنو
بكر من قريش وبني كنانة ففي ذلك الدية مؤداة فسمي بعمرو الشداخ بما شدخ من الدماء وما وضع منها فولي قصي البيت وأمر مكة.
وقيل: إن حليل بن حبشية أوصى قصيا بذلك وقال أنت أحق بولاية البيت من خزاعة فجمع قومه وأرسل إلى أخيه يستنصره فحضر في قضاعة في الموسم وخرجوا إلى عرفات وفرغوا من الحج ونزلوا منى وقصي مجمع على حربهم وإنما ينتظر فراغ الناس من حجهم.
فلما نزلوا منى ولم يبق إلا الصدر، وكانت صوفة تدفع بالناس من عرفات وتجيزهم إذا تفرقوا من منى ولم يبق إلا الصدر وكانت صوفة تدفع بالناس من عرفات وتجيزهم إذا تفرقوا من منى إذا كان يوم النفر أتوا لرمي الجمار ورجل من صوفة يرمي للناس لا يرمون حتى يرمي فإذا فرغوا من منى أخذت صوفة بناحيتي العقبة وحبسوا الناس فقالوا أجيزي صوفة فإذا نفرت صوفة ومضت خلى سبيل الناس فانطلقوا بعدهم فلما كان ذلك العام فعلت صوفة كما كانت تفعل قد عرفت لها العرب ذلك فهو دين في أنفسهم فأتاهم قصي ومن معه من قومه ومن قضاعة فمنعهم وقال نحن أولى بهذا منكم. فقاتلوه وقاتلهم قتالا شديدا فانهزمت صوفة وغلبهم قصي على ما كان بأيديهم وانحازت عند ذلك ذلك خزاعة وبنو بكر وعرفوا أنه سيمنعهم كما منع صوفة فلما انحازوا عنه بادأهم فقاتلهم فكثر القتل في الفريقين وأجلى خزاعة عن البيت وجمع قصي قومه إلى مكة من الشعاب والأودية والجبال فسمي مجمعا ونزل بني
20

بغيض بن عامر بن لؤي وبني تيم الأدرم بن غالب بن فهر وبني محارب بن فهر وبني الحارث بن فهر إلا بني هلال بن أهيب رهط أبي عبيدة بن الجراح وإلا رهط عياض بن غنم بظواهر مكة فسموا قريش الظواهر وتسمى سائر بطون [قريش] قريش البطاح؛ وكانت قريش الظواهر تغير وتغزو وتسمى قريش البطاح الضب للزومها
الحرم.
فلما ترك قصي قريشا بمكة وما حولها ملكوه عليهم فكان أول ولد كعب بن لؤي أصاب ملكا أطاعه به قومه وكان إليه الحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء فحاز شرف قريش كله وقسم مكة أرباعا بين قومه فبنوا المساكن واستأذنوه في قطع الشجر فمنعهم فبنوا والشجر في منازلهم ثم إنهم قطعوه بعد موته.
وتيمنت قريش بأمره فما تنكح امرأة ولا رجل إلا في داره ولا يتشاورون في أمر ينزل بهم إلا في داره ولا يعقدون لواء للحرب إلا في داره يعقده بعض ولده وما تدرع جارية إذا بلغت أن تدرع إلا في داره وكان أمره في قومه كالدين المتبع في حياته وبعد موته فاتخذ دار الندوة وبابها في المسجد وفيها كانت قريش تقضي أمورها.
فلما كبر ورق، وكان ولده عبد الدار أكبر ولده، وكان ضعيفا، وكان عبد مناف قد ساد في حياة أبيه وكذلك اخوته، فقال قصي لعبد الدار والله لألحقنك بهم! فأعطاه دار الندوة والحجابة، وهي حجابة الكعبة واللواء فهو كان يعقد لقريش ألويتهم والسقاية كان يسقي الحاج والرفادة وهي خرج تخرجه قريش في كل موسم من أموالها إلى قصي بن كلاب فيصنع منه طعاما للحاج يأكله الفقراء وكان قصي قد قال لقومه إنكم جيران الله وأهل بيته وإن الحاج ضيف الله وزوار بيته وهم أحق الضيف بالكرامة فاجعلوا لهم طعاما وشرابا أيام الحج. ففعلوا فكانوا يخرجون من أموالهم فيصنع به
21

الطعام أيام منى فجرى الأمر على ذلك في الجاهلية والإسلام إلى الآن فهو الطعام الذي يصنعه الخلفاء كل عام بمنى.
فأما الحجابة فهي في ولده إلى الآن وهم بنو شيبة بن عثمان بن أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار.
وأما اللواء فلم يزل في ولده إلى أن جاء الإسلام فقال بنو عبد الدار يا رسول الله اجعل اللواء فينا فقال الإسلام أوسع من ذلك فبطل.
وأما الرفادة والسقاية فإن بني عبد مناف بن قصي عبد شمس وهاشم والمطلب ونوفل أجمعوا أن يأخذوها من بني عبد الدار لشرفهم عليهم وفضلهم فتفرقت عند ذلك قريش فكانت طائفة من بني عبد مناف وطائفة من بني عبد الدار لا يرون تغيير ما فعله قصي وكان صاحب أمر بني عبد الدار عارم بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار.
فكان بنو أسد بن عبد العزى وبنو زهرة بن كلاب وبنو تميم بن مرة وبنو الحارث بن فهر مع بني عبد مناف وكان بنو مخزوم وبنو سهم وبنو جمح وبنو عدي مع بني عبد الدار فتحالف كل قوم حلفا مؤكدا وأخرج بنو عبد مناف جفنة مملوءة طيبا فوضعوها عند الكعبة وتحالفوا وجعلوا أيديهم في الطيب فسموا المطيبين وتعاقد بنو عبد الدار ومن معهم وتحالفوا فسموا الأحلاف وتعبوا للقتال ثم تداعوا إلى الصلح على ان يعطوا بني عبد مناف السقاية والرفادة فرضوا بذلك وتحاجز الناس عن الحرب واقترعوا عليها فصارت لهاشم بن عبد المناف ثم بعده للمطلب بن عبد المناف ثم لأبي طالب بن عبد المطلب ولم يكن له مال فاد ان من أخيه العباس بن عبد المطلب بن عبد مناف مالا فأنفقه ثم عجز عن الأداء فاعطى العباس السقاية
22

والرفادة عوضا عن دينه فوليها ثم ابنه عبد الله ثم علي ثم عبد الله ثم محمد بن علي ثم داود بن علي بن سليمان بن علي ثم وليها المنصور وصار يليها الخلفاء.
وأما دار الندوة فلم تزل لعبد الدار ثم لولده حتى باعها عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار من معاوية فجعلها دار الإمارة بمكة وهي الآن في الحرم معروفة مشهورة.
ثم هلك قصي فأقام أمره في قومه من بعده ولده وكان قصي لا يخالف سيرته وأمره ولما مات دفن بالحجون فكانوا يزورون قبره ويعظمونه وحفر بمكة بئرا سماها العجول وهي أول بئر حفرتها قريش بمكة.
(سيل بفتح السين المهملة والياء المثناة التحية. وحرام بفتح الحاء والراء المهملتين ورزاح بكسر الراء وفتح الزاي وبعد الألف حاء مهملة. وحبى بضم الحاء المهملة وتشديد الباء الموحدة. وملكان بكسر الميم وسكون اللام وأما ملكان بن حزم بن ريان وملكان بن عباد بن عياض فهما بفتح الميم واللام).
ابن كلاب
ويكنى أبا زهرة وأم كلاب هند بنت سرير بن ثعلبة بن الحارث بن فهر بن مالك وله أخوان لأبيه من غير أمه وهما تميم ويقظة أمهما أسماء بنت جارية البارقية وقيل يقظة لهند بنت سرير أم كلاب.
(يقظة بالياء تحتها نقطتان وبفتح القاف والظاء المعجمة).
23

ابن مرة
ويكنى أبا يقظة وأم مرة محشية ابنة شيبان بن محارب بن فهر وأخواه لأبيه وأمه هصيص وعدي وقيل أم عدي رقاش بن ركبة بن نائلة بن كعب بن حرب بن تميم بن سعد بن فهم بن عمرو بن قيس غيلان.
(هصيص بضم الهاء وفتح الصاد المهملة بعدها ياء تحتها نقطتان وصاد ثانية).
ابن كعب
ويكنى أبا هصيص وأم كعب مارية ابنة كعب بن القين بن جسر القضاعية وله أخوان لأبيه وأمه أحدهما عامر والآخر سامة ولهم من أبيهم أخ كان يقال له عوف أمه الباردة ابنة عوف بن غنم بن عبد الله بن غطفان وانتمى ولده إلى غطفان وكان خرج مع أمه الباردة إلى غطفان فتزوجها سعد بن ذبيان فتبناه سعد.
ولكعب أيضا أخوان من غير أمه أحدهما خزيمة وهي عائذة قريش وعائذة أمه وهي ابنة الحمس بن قحافة من خثعم والآخر سعد ويقال
24

له بنانة، وبنانة أمه، فأهل البادية منهم في بني سعد بن همام في بني شيبان بن ثعلبة والحاضرة ينتمون إلى قريش.
وكان كعب عظيم القدر عند العرب فلهذا أرخوا لموته إلى عام الفيل ثم أرخوا بالفيل وكان يخطب الناس أيام الحج وخطبته مشهورة يخبر فيها النبي صلى الله عليه وسلم.
(جسر بفتح الجيم وسكون السين المهملة وآخره راء).
ابن لؤي
ويكنى أبا كعب وأم لؤي عاتكة ابنة يخلد بن النضر بن كنانة وهي أول العواتك اللاتي ولدن رسول الله من قريش وله أخوان أحدهما تيم الأدرم والدرم نقصان في الذقن قيل إنه كان ناقص اللحي والآخر قيس ولم يبق منهم أحد وآخر من مات منهم في زمن خالد بن عبد الله القسري فبقي ميراثه لا يدري من يستحقه.
وقيل إن أمهم سلمى بنت عمرو بن ربيعة وهو يحيى بن حارثة الخزاعي
.
(يخلد بفتح الياء تحتها نقطتان وسكون الخاء المعجمة وبعد اللام دال مهملة).
25

ابن غالب
ويكنى أبا تيم وأم غالب ليلى ابنة الحارث بن تيم بن سعد بن هذيل وأخوته من أبيه وأمه الحارث ومحارب وأسد وعوف وجون وذئب وكانت محارب والحارث من قريش الظواهر فدخلت الحارث الأبطح.
ابن فهر
ويكنى أبا غالب وفهر هو جماع قريش في قول هشام وأمه جندلة بنت عامر بن الحارث بن مضاض الجرهمي، وقيل غير ذلك.
وكان فهر رئيس الناس بمكة وكان حسان فيم قيل أقبل من اليمن مع حمير وغيرهم يريد أن ينقل أحجار الكعبة إلى اليمن فنزل بنخلة فاجتمع قريش وكنانة وخزيمة وأسد وجذام وغيرهم ورئيسهم فهر بن مالك فاقتتلوا قتالا شديدا وأسر حسان وانهزمت حمير وبقي حسان بمكة ثلاث سنين وافتدى نفسه وخرج فمات بين مكة واليمن.
ابن مالك
وكنيته أبو الحارث وأمه عاتكة بنت عدوان وهو الحارث بن قيس بن عيلان ولقبه عكرشة وقيل غير ذلك.
26

وقيل: ان النضر بن كنانة كان اسمه قريشا وقيل: لما جمعهم قصي قيل لهم قريش والتقرش التجمع وقيل لما
ملك قصي الحرم وفعل أفعالا جميلة قيل له القرشي وهو أول من سمي به وهو من الاجتماع أيضا أي لاجتماع خصال الخير فيه وقد قيل في تسمية قريش قريشا أقوال كثيرة لا حاجة إلى ذكرها وقصي أول من أحدث وقود النار بالمزدلفة وكانت توقد على عهد رسول الله ومن بعده.
ابن النضر
ويكنى أبا يخلد، كنى بابنه يخلد، واسم النضر قيس، وإنما قيل له النضر لجماله وأمه برة ابنة مر بن أد بن طابخة أخت تميم بن مر واخوته لأبيه وأمه نصير ومالك وملكان وعامر والحارث وعمرو وسعد وعوف ومخرمة وجرول وغزوان وجدال وأخوهم لأبيهم عبد مناة وأمه فكيهة وهي الذفراء ابنة هني بن بلي بن عمرو بن الحاف بن قضاعة وأخوه عبد مناة لأمه علي بن مسعود بن مازن الغساني وكان قد حضن أولاد أخيه عبد مناة فنسبوا إليه فقيل لبني عبد مناة بنو علي وإياهم عنى الشاعر بقوله:
(لله دربني علي * أيم منهم وناكح).
وقيل: تزوج امرأة عبد مناف فولدت له وحضن بني عبد مناة فغلب على نسبهم ثم وثب مالك بن كنانة على علي بن مسعود فقتله فواراه أسد بن خزيمة.
27

ابن كنانة
ويكن أبا النضر وأم كنانة عوانة بنت سعد بن قيس عيلان وقيل هند ابنة عمرو بن قيس واخوته لأبيه أسد وأسدة ويقال إنه أبو جذام والهون وأمهم برة بنت مرو وهي أم النضر خلف عليها بعد أبيه.
ابن خزيمة
ويكنى ابا أسد وأمه سلمى ابنة أسلم بن الحاف بن قضاعة وأخوه لأمه تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف وأخيه خزيمة لأبيه وأمه هذيل وقيل أمهما سلمى بنت أسد بن ربيعة وخزيمة هو الذي نصب هبل على الكعبة فكان يقال هبل خزيمة.
(أسلم بضم اللام).
ابن مدركة
اسمه عمرو ويكنى أبا هذيل وقيل أبا خزيمة وأمه خندف وهي ليلى ابنة حلوان بن عمران وأمها ضرية ابنة ربيعة بن نزار وبها سمي حمى ضرية.
وأخوه مدركة لأبيه وأمه: عامر، وهو طابخة، وعمير، وهو
28

قمعة، يقال: إنه أبو خزاعة.
قال هشام خرج إلياس في نجعة له فنقرت إبله من أرنب فخرج إليها عمرو فأدركها فسمي مدركة وأخذها عامر فطبخها فسمي طابخة وانقمع عمير في الخباء فسمي قمعة وخرجت أمهم ليلى تمشي فقال لها إلياس أين تخندفين فسميت خندف والخندفة ضرب من المشي.
ابن إلياس
وكان يكنى أبا عمرو وأمه الرباب ابنة جندة بن معد وأخوه لأبيه وأمه الناس بالنون وهو عيلان وسمي عيلان لفرس له كان يدعى عيلان وقيل لأنه ولد في أصل جبل يسمى عيلان وقيل غير ذلك.
ولما توفي حزنت عليه خندف حزنا شديدا فلم تقم حيث مات ولم يظلها سقف حتى هلكت فضرب بها المثل وتوفي يوم الخميس فكانت تبكي كل خميس من غدوته إلى الليل.
ابن مضر
وأمه سودة بنت عك وأخوه لأبيه وأمه أياد ولهما أخوان من أبيهما ربيعة وأنمار أمهما جدالة ابنة وعلان من جرهم.
29

وذكر أن نزار بن معد لما حضرته الوفاة أوصى بنيه وقسم ماله بينهم فقال يا بني هذه القبة وهي من أدم حمراء وما أشبهها من مالي لمضر فسمي مضر الحمراء وهذا الخباء الأسود وما أشبه من مالي لربيعة وهذه الخادم وما أشبهها من مالي لإياد وكانت شمطاء فأخذ البلق والنقد من غنمه وهذه البردة والمجلس لأنمار يجلس عليه فأخذ أنمار ما أصابه فإن أشكل في ذلك عليكم شيء واختلفتم في القسمة فعليكم بالأفعى الجرهمي.
فاختلفوا فتوجهوا إلى الأفعى الجرهمي فبينما هم يسيرون في مسيرهم إذ رأى مضر كلأ قد رعي فقال إن البعير الذي قد رعى هذه الكلأ لأعور وقال ربيعة: هو أزور. وقال إياد: هو أبتر وقال أنمار هو شرود فلم يسيروا إلا قليلا حتى لقيهم رجل توضع به راحلته فسألهم عن البعير فقال مضر هو أعور؟ قال: نعم. قال ربيعة: هو أزور؟ قال: نعم. قال إياد: هو أبتر؟ قال: نعم. وقال أنمار: هو شرود؟ قال: نعم هذه صفة بعيري دلوني عليه فحلفوا له ما رأوه فلزمهم وقال كيف أصدقكم وهذه صفة بعيري!
فساروا جميعا حتى قدموا نجران فنزلوا على الأفعى الجرهمي فقص عليه صاحب البعير حديثه فقال لهم الجرهمي كيف وصفتموه ولم تروه؟ قال مضر: رأيته يرعى جانبا ويدع جانبا فعرفت أنه أعور. وقال ربيعة: رأيت إحدى يديه ثابته والأخرى فاسدة الأثر فعرفت أنه أزور. وقال إياد: عرفت أنه أبتر باجتماع بعره ولو كان أذنب لمصع به. وقال أنمار: عرفت أنه شرود
30

لأنه يرعى المكان الملتف نبته ثم يجوزه إلى مكان أرق منه نبتا وأخبث فقال الجرهمي ليسوا بأصحاب بعيرك فاطلبه.
ثم سألهم من هم فأخبروه فرحب بهم وقال أتحتاجون أنتم إلي وأنتم كما أرى ودعا لهم بطعام فأكلوا وشربوا فقال مضر لم أر كاليوم خمرا أجود لولا أنها نبتت على قبر وقال ربيعة لم أر كاليوم لحما أطيب لولا أنه ربي بلبن كلبه وقال إياد لم أر كاليوم رجلا أسرى لولا أنه لغير أبيه الذي ينتمي إليه وقال أنمار لما أر كاليوم كلاما أنفع لحاجتنا.
وسمع الجرهمي الكلام فعجب فأتى أمه وسألها فأخبرته أنها كانت تحت ملك لا يولد له فكرهت أن يذهب الملك فأمكنت رجلا من نفسها فحملت به وسأل القهرمان عن الخمر فقال من حبلة غرستها على قبر أبيك وسأل الراعي عن اللحم فقال شاه أرضعتها لبن كلبة.
فقيل لمضر: من أين عرفت الخمر؟ فقال: لأني أصابني عطش شديد وقال لربيعة فيما قال فذكر كلاما وأتاهم الجرهمي وقال صفوا لي صفتكم فقصوا عليه قصتهم فقضى بالقبة الحمراء والدنانير والإبل وهي حمر لمضر وقضى بالخباء الأسود والخيل الدهم لربيعة وقضى بالخادم وكانت شمطاء والماشية البلق لإياد وقضى بالأرض والدراهم لأنمار.
ومضر أول من حدا وكان سبب ذلك أنه سقط من بعيره فانكسرت يده فجعل يقول يا يداه يا يداه فأتته الإبل من المرعى فلما صلح وركب حدا وكان من أحسن الناس صوتا وقيل بل انكسرت يد مولى له فصاح
31

فاجتمعت الإبل، فوضع مضر الحداء زاد الناس فيه.
وهو أول من قال حينئذ بصبصن إذ حدين [بالأذناب] فذهب مثلا وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تسبوا مضر وربيعة فإنهما مسلمان.
ابن نزار
وقيل: كان يكنى أبا إياد، وقيل: أبا ربيعة، أمه معانة ابنة جوشم بن جلهمة بن عمرو بن جرهم وإخوته لأبيه وأمه فنص وقناصة وسالم وجندة وجناد وجنادة والقحم وعبيد الرباح والغرف والعوف وشك وقضاعة وبه كان يكنى معد وعدة درجوا.
ابن معد
وأمه مهدة ابنة اللهم ويقال اللهم بن جلحب بن جديس وقيل ابن طسم وإخوته من أبيه الريث وقيل الريث عك وقيل عك بن الريث وعدن بن عدنان قيل [هو] صاحب عدن أبين وإليه تنسب أبين ودرج نسله ونسل عدن وأد وأبي بن عدنان ودرج والضحاك والغنى فلحق ولد عدنان باليمن عند حرب بختنصر وحمل أرميا وبرخيا معدا إلى حران فأسكناه بها فلما سكنت الحرب رداه إلى مكة فرأى أخوته قد لحقوا باليمن.
32

ابن عدنان
ولعدنان أخوان يدعى أحدهما نبتا والآخر عامرا، فنسب النبي لا يختلف الناسبون فيه إلى معد بن عدنان على ما ذكرت ويختلفون فيما بعد ذلك اختلافا عظيما لا يحصل منه على غرض فتارة يجعل بعضهم بين عدنان وبين إسماعيل عليه السلام أربعة آباء ويجعل آخر بينهما أربعين أبا ويختلفون أيضا في الأسماء أشد من اختلافهم في العدد فحيث رأيت الأمر كذلك لم أعرج على ذكر شيء منه ومنهم من يروي عن النبي في نسبه حديثا يصله بإسماعيل ولا يصح في ذلك الحديث
ذكر الفواطم والعواتك
أما الفواطم اللائي ولدن رسول الله فخمس قرشية وقيسيتان ويمانيتان.
أما القرشية فأم أبيه عبد الله بن عبد المطلب فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم المخزومية.
وأما القيسيتان فأم عمرو بن عايذ بن فاطمة ابنة عبد الله بن رزاح بن ربيعة بن جحوش بن معاوية بن بكر بن هوازن وأمها فاطمة بنت الحارث بن بهثة بن سليم بن منصور.
33

وأما اليمانيتان فأم قصي بن كلاب فاطمة بنت سعد بن سيل بن أزد شنوءة وأم حيي بنت حليل بن حبشية بن كعب بن سلول وهي أم ولد قصي فاطمة بنت نصر بن عوف بن عمرو بن ربيعة بن حارثة الخزاعية.
وأما العواتك فاثنتا عشرة اثنتان من قريش وواحدة من بني يخلد بن النضر وثلاث من سليم وعدويتان وهذلية وقضاعية وأسدية.
فأما القرشيتان فأم أمه آمنة بنت وهب برة بنت عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار وأم برة أم حبيب بنت أسد بن عبد العزى وأم أسد ريطة بنت كعب بن سعد بن تيم وأمه أميمة بنت عامر الخزاعية وأمها عاتكة بنت هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث بن فهم وأم هلال هند بنت هلال بن عامر بن صعصعة وأم أهيب بن ضبة عاتكة بنت غالب بن فهر وأمها عاتكة بنت يخلد بن النضر بن كنانة.
وأما السلميات فأم هاشم بن عبد المناف عاتكة بنت مرة بن هلال بن فالج بن ذكوان بن بهثة بن سليم بن منصور وأم عبد مناف عاتكة بنت هلال بن فالج والثالثة أم جده لأمه وهب وهي عاتكة بنت الأوقص بن مرة بن هلال.
قلت هكذا ذكر بعض العلماء عواتك سليم وجعل أم عبد مناف عاتكة بنت مرة وليس بشيء فإن أم عبد المناف حيي بنت حليل الخزاعية وقال غيره أم هاشم عاتكة بنت مرة وأم مرة بن هلال عاتكة بنت جابر بن قنفذ بن مالك بن عوف بن امرئ القيس بن بهثة بن سليم وأم هلال بن فالج عاتكة بنت عصية بن خفاف بن امرئ القيس.
34

وأما العدويتان فمن جهة أبيه عبد الله فإن أم عبد الله فاطمة بنت عمرو وأم فاطمة تخمر بنت عبد قصي وأمها هند بنت عبد الله بن الحارث بن وائلة بن الظرب وأمها زينب بنت مالك بن ناصرة بن كعب الفهمية.
وأمها عاتكة بنت عامر بن الظرب بن عمرو بن عباد بن بكر بن الحارث وهو عدوان بن عمرو بن قيس عيلان وأم مالك بن النضر عاتكة وهي عكرشة وهي الحصان بنت عدوان.
وأما الأزدية فأم النضر بن كنانة بنت مرة بن أد أخت تميم وأمها مارية من بني ضبيعة بن ربيعة بن نزار وأمها عاتكة بنت الأزد بن الغوث وقد ولدته هذه الأزدية مرة أخرى من قبل غالب بن فهر فإن أم غالب ليلى بنت الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل وأمها سلمى بنت طابخة بن الياس بن مضر وأمها عاتكة بنت الأزد هذه.
وأما الهذلية فعاتكة بنت سعد بن سيل هي أم عبد الله بن رزام جد عمرو بن عايذ بن عمران بن مخزوم لأمه وعمرو جد رسول الله أبو أمه.
وأما القضاعية فأم كعب بن لؤي مارية بنت القين بن جسر بن شيع الله بن أسد بن وبرة وأمها وحشية بنت ربيعة بن حرام بن ضنة العذرية وأمها عاتكة بنت رشدان بن قيس بن جهينة.
وأما الأسدية فأم كلاب بن مرة هند بنت سرير بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كلاب وأمها عاتكة بنت دودان بن أسد بن خزيمة.
(وعايذ بن عمران بالياء المثناة من تحتها، والذال المعجمة وسعد بن سيل بفتح السين المهملة والياء المثناة من تحتها المفتوحة وحيي بضم الحاء
35

المهملة، وبالياء المثناة من تحتها وتشديد الياء الممالة وحليل بضم الحاء المهملة وبالياء المثناة من تحتها وجسر بفتح الجيم وتسكين السين المهملة وحارثة بالحاء المهملة والثاء المثلثة ووائلة بن الظرب بالياء المثناة من تحتها وضبة بن الحارث بالضاد المعجمة المفتوحة والباء المشددة الموحدة وشيع الله بالشين المعجمة المفتوحة والياء المثناة من تحتها الساكنة وحرام بفتح الحاء المهملة والراء المهملة وضنة العذرية بكسر الضاد المعجمة والنون المشددة وعصية بالعين المهملة المضمومة وفتح الصاد والياء المثناة من تحتها).
36

عدنا إلى ذكر النبي
توفي عبد المطلب بعد الفيل بثمان سنين وأوصى أبا طالب برسول الله فكان أبو طالب هو الذي قام بأمر النبي بعد جده ثم إن أب طالب خرج إلى الشام فلما أراد المسير لزمه رسول الله فرق له وأخذه معه ولرسول الله تسع سنين فلما نزل الركب بصرى من أرض الشام وبها راهب يقال له بحيرا في صومعة له وكان ذا علم في النصرانية ولم يزل بتلك الصومعة راهب يصير إليه علمهم وبها كتاب يتوارثونه فلما رآهم بحيرا صنع لهم طعاما كثيرا وذلك لأنه رأى على رسول الله غمامة تظلله من بين القوم ثم أقبلوا حتى نزلوا في ظل شجرة قريبا منه فنظر إلى الشجرة وقد هصرت أغصانها حتى استظل لها فنزل إليهم من صومعته ودعاهم فلما رأى بحيرا رسول الله جعل يلحظه لحظا شديدا وينظر إلى أشياء من جسده كان يجدها من صفته.
فلما فرغ القوم من الطعام وتفرقوا سأل النبي عن أشياء من حاله في يقظته ونومه فوجدها بحيرا موافقة لما عنده من صفته ثم نظر إلى خاتم النبوة بين كفيه ثم قال بحيرا لعمه أبي طالب ما هذا الغلام منك قال ابني قال ما ينبغي أن يكون أبوه حيا قال فإنه ابن أخي مات أبوه وأمه حبلى به قال صدقت ارجع به إلى بلدك واحذر عليه يهود فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه شرا فإنه كائن له شأن عظيم.
37

فخرج به عمه حتى أقدمه مكة.
وقيل: بينما هو يقول لعمه في إعادته إلى مكة وتخوفهم عليه من الروم إذ أقبل سبعة نفر من الروم فقال لهم بحيرا ما جاء بكم قالوا جئنا لأن هذا النبي خارج في هذا الشهر فلم يبق طريق إلا بعث إليه ناس وإنا بعثنا إلى طريقك قال أرأيتم أمرا أراه الله هل يستطيع أحد من الناس رده؟ قالوا: لا وتابعوا إلى بحيرا وأقاموا عنده.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هممت بشيء مما كان الجاهلية يعملونه غير مرتين كل ذلك يحول الله بيني وبينه ثم ما هممت به حتى أكرمني برسالته قلت ليلة للغلام يرعى معي بأعلى مكة لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة وأسمر بها كما يسمر الشباب فقال افعل فخرجت حتى إذا كنت عند أول دار بمكة سمعت عزفا فقلت ما هذا فقالوا عرس فلان بفلانة فجلست أسمع فضرب الله على أذني فنمت فما أيقظني إلا حر الشمس فعدت إلى صاحبي فسألني فأخبرته ثم قلت له ليلة أخرى مثل ذلك ودخلت مكة فأصابني مثل أول ليلة ثم ما هممت بعده بسوء.
38

ذكر نكاح النبي صلى الله عليه وسلم خديجة
ونكح رسول الله خديجة بنت خويلد وهو ابن خمس وعشرين سنة وخديجة يومئذ ابنة أربعين سنة.
وسبب ذلك أن خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي كانت امرأة تاجر ذات شرف ومال وتستأجر في مالها وتضاربهم إياه بشيء تجعله لهم منه وكانت قريش تجارا فلما بلغها عن رسول الله صدق الحديث وعظم الأمانة وكرم الأخلاق أرسلت إليه ليخرج في مالها إلى الشام تاجرا وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من غلامها ميسرة فأجابها وخرج معه ميسرة حتى قدم الشام فنزل رسول الله في ظل شجرة قريبا من صومعة راهب فأطلع الراهب رأسه إلى ميسرة فقال من هذا فقال ميسرة هذا رجل من قريش فقال الراهب ما نزل تحت هذه الشجرة إلا نبي.
ثم باع رسول الله واشترى وعاد فكان ميسرة إذا كانت الهاجرة يرى ملكين يظلانه من الشمس وهو على بعيره فلما قدم مكة ربحت خديجة ربحا كثيرا وحدثها ميسرة عن قول الراهب وما رأى من إظلال الملكين إياه.
وكانت خديجة امرأة حازمة عاقلة شريفة مع ما أراده الله من كرامتها فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرضت عليه نفسها، وكانت
39

أوسط نساء قريش نسبا وأكثرهن مالا وشرفا وكل قومها كان حريصا على ذلك منها لو يقدر عليه فلما أرسلت إلى النبي قال لأعمامه وخرج معه حمزة بن عبد المطلب وأبو طالب وغيرهما من عمومته حتى دخل على خويلد بن أسد فخطبها إليه فتزوجها فولدت له أولاده كلهم إلا إبراهيم زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة والقاسم وبه كان يكنى وعبد الله والطاهر والطيب وقيل إن عبد الله ولد في الإسلام هو والطاهر والطيب فأما القاسم والطاهر والطيب فهلكوا في الجاهلية، وأما بناته فكن أدركن الاسلام فأسلمن وهاجرن معه.
وقيل: إن الذي زوجها عمها عمرو بن أسد وأن أباها مات قبل التجارة قال الواقدي وهو الصحيح لأن أباها توفي قبل الفجار وكان منزل خديجة يومئذ المنزل إلي يعرف بها اليوم فقال إن معاوية اشتراه وجعله مسجدا يصلي فيه.
وكان الرسول بين خديجة وبين النبي نفيسه بنت منية أخت يعلى بن منية وأسلمت يوم الفتح فبرها رسول الله وأكرمها.
(منية بالنون الساكنة والياء المثناة من تحتها).
40

ذكر حلف الفضول
قال ابن إسحاق: وكان نفر من جرهم وقطوراء يقال لهم الفضيل بن الحارث الجرهمي والفضيل بن وداعة القطوري والمفضل بن فضالة الجرهمي اجتمعوا فتحالفوا أن لا يقروا ببطن مكة ظالما وقالوا لا ينبغي إلا ذلك لما عظم الله من حقها فقال عمرو بن عوف الجرهمي:
(أن الفضول تحالفوا وتعاقدوا * أن لا يقر ببطن مكة ظالم)
(أمر عليه تعاهدوا وتواثقوا * فالجار والمعتر فيهم سالم)
ثم درس ذلك فلم يبق إلا ذكره في قريش.
ثم أن قبائل من قريش تداعت إلى ذلك الحلف فتحالفوا في دار عبد الله بن جدعان لشرفه وسنه وكانوا بني هاشم وبني المطلب وبني أسد بن عبد العزى وزهرة بن كلاب وتيم بن مرة فتحالفوا وتعاقدوا أن لا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها أو من غيرهم من سائر الناس إلا قاموا معه وكانوا على ظلمه حتى ترد عليه مظلمته فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول وشهده رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال حين أرسله الله تعالى: لقد شهدت مع عمومتي حلفا في دار عبد الله بن جدعان ما أحب أن لي به حمر النعيم ولو دعيت به في الإسلام لأجبت.
قال: وقال محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي: كان بين الحسين بن
41

علي بن أبي طالب وبين الوليد بن عتبة بن أبي سفيان منازعة في مال كان بينهما والوليد يومئذ أمير على المدينة لعمه معاوية فتحامل الوليد لسلطانه فقال له الحسين أقسم بالله لتنصفني أو لآخذن سيفي ثم لأقومن في مسجد رسول الله ثم لأدعون بحلف الفضول فقال عبد الله بن الزبير وكان حاضرا وأنا أحلف بالله لو دعا به لأجبته حتى ينصف من حقه أو نموت وبلغ المسور بن مخرمة الزهري فقال مثل ذلك وبلغ عبد الرحمن بن عثمان بن عبد الله التيمي فقال مثل ذلك فلما بلغ الوليد ذلك انصف الحسين من نفسه حتى رضي.
ذكر هدم قريش الكعبة وبنائها
وفي سنة خمس وثلاثين من مولده صلى الله عليه وسلم هدمت قريش الكعبة.
وكان سبب هدمهم إياها أنها كانت رضيمة فوق القامة فأرادوا رفعها وتسقيفها وذلك أن نفرا من قريش وغيرهم سرقوا كنزها وفي غزالان من ذهب وكان في بئر في جوف الكعبة.
وكان أمر غزالي الكعبة أن الله لما أمر إبراهيم وإسماعيل ببناء الكعبة ففعلا ذلك وقد تقدم ذكره وأقام إسماعيل بمكة وكان يلي البيت حياته وبعده وليه ابنه نبت فلما مات نبت ولم يكثر ولد إسماعيل غلبت جرهم على ولاية البيت فكان أول من وليه منهم مضاض ثم ولده من بعده حتى بغت جرهم واستحلوا حرمة البيت فظلموا من دخل مكة حتى قيل إن أسافا ونائلة زنيا
42

في البيت فمسخا حجرين.
وكانت خزاعة قد أقامت بتهامة بعد تفرق أولاد عمرو بن عامر من اليمن فأرسل الله على جرهم الرعاف أفناهم فاجتمعت خزاعة على إجلاء من بقي منهم ورئيس خزاعة عمرو بن ربيعة بن حارثة فاقتتلوا فلما أحس عامر بن الحارث الجرهمي بالهزيمة خرج بغزالي الكعبة والحجر الأسود يلتمس التوبة وهو يقول:
(لا هم إن جرهما عبادك * والناس طرف وهم تلادك
وهم قديما عمروا بلادك)
فلم تقبل توبته، فدفن غزالي الكعبة ببئر زمزم وطمها وخرج بمن بقي من جرهم إلى أرض جهينة فجاءهم سيل فذهب بهم أجمعين، وقال عمرو بن الحارث:
(كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا * أنيس ولم يسمر بمكة سامر)
(بلى نحن كنا أهلها فأبادنا * صروف الليالي والجدود العواثر)
وولي البيت بعد جرهم عمرو بن ربيعة وقيل وليه عمرو بن الحارث الغساني، ثم خزاعة بعده، غير أنه كان في قبائل مضر ثلاث خلال: الإجازة بالحج من عرفة وكان ذلك إلى الغوث بن مر بن أد وهو صوفة والثانية الإفاضة من جمع إلى منى وكانت إلى بني زيد بن عدوان وآخر من ولي ذلك منهم أبو سيارة عميلة بن الأعزل بن خالد والثالثة النسيء للشهور الحرام فكان ذلك إلى المقلس وهو حذيفة بن فقيم بن
43

كنانة، ثم إلى بنيه من بعده ثم صارت ذلك إلى أبي ثمامة وهو جنادة بن عوف بن قلع بن حذيفة وقام الإسلام وقد عادت الأشهر الحرام إلى أصلها فأبطل الله عز وجل النسيء.
ثم وليت البيت بعد خزاعة قريش وقد ذكرنا ذلك عند ذكر قصي بن كلاب ثم حفر عبد المطلب زمزم فأخرج الغزالين كما تقدم.
وكان الذي وجد الغزلان عند دويك مولى لبني مليح ين خزاعة فقطعت قريش يده وكان فيهم اتهم في ذلك عامر بن الحارث بن نوفل وأبو هارب بن عزيز وأبو لهب بن عبد المطلب.
وكان البحر قد ألقى سفينة إلى جدة لتاجر رومي فتحطمت فأخذوا خشبها فأعدوه لسقفها فتهيأ لهم بعض ما يصلحها وكانت حية تخرج من بئر الكعبة التي يطرح فيها ما يهدى لها كل يوم فتشرف على جدار الكعبة وكان لا يدنو منها أحد إلا كشت وفتحت فاها فكانوا يهابونها فبينما هي يوما على جدار الكعبة اختطفها طائر فذهب بها فقالت قريش إنا لنرجو أن يكون الله عز وجل قد رضي ما أردناه.
وكان ذلك ورسول الله ابن خمس وثلاثين عاما وبعد الفجار بخمس عشرة سنة.
فلما أرادوا هدمها قام أبو وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم فتناول حجرا من الكعبة فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه فقال يا معشر قريش لا تدخلوا في بنائها إلا طيبا ولا تدخلوا فيها مهر بغى ولا [بيع] ربا ولا مظلمة أحد.
وقيل إن الوليد بن المغيرة قال هذا.
44

ثم إن الناس هابوا هدمها فقال الوليد بن المغيرة أنا أبدأكم به فأخذ المعول فهدم فتربص الناس به تلك الليلة وقالوا ننظر فإن أصاب لم نهدم منها شيئا فأصبح الوليد سالما وغدا إلى عمله فهدم والناس معه حتى انتهى الهدم إلى الأساس ثم أفضوا
إلى حجارة خضر أخذ بعضها ببعض فأدخل رجل من قريش عتلة بين حجرين منهما ليقلع به أحدهما فلما تحرك الحجر تحركت مكة بأسرها ثم جمعوا الحجارة لبنائها ثم بنوا حتى بلغ البنيان موضع الركن فأراد كل قبيلة رفعه إلى موضعه حتى تحالفوا وتواعدوا للقتال فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دما ثم تعاقدوا هو وبنو عدي على الموت وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم فسموا لعقة الدم بذلك فمكثوا على ذلك أربع ليال ثم تشاوروا فقال أبو أمية بن المغيرة وكان أسن قريش اجعلوا بينكم حكما أول من يدخل من باب المسجد يقضي بينكم فكان أول من دخل رسول الله فلما رأوه قالوا هذا الأمين قد رضينا بك وأخبروه الخبر فقال هلموا إلى ثوبا فأتى به فأخذ الحجر الأسود فوضعه فيه ثم قال لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم ارفعوه جميعا ففعلوا ذلك فلما بلغوا به موضعه وضعه بيده ثم بنى عليه.
45

ذكر الوقت الذي أرسل فيه رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بعث الله نبيه محمدا لعشرين سنة مضت من ملك كسرى أبرويز بن هرمز بن أنوشروان وكان على الحيرة إياس بن قبيصة الطائي عاملا للفرس على العرب.
قال ابن عباس من رواية حمزة وعكرمة عنه وأنس بن مالك وعروة بن الزبير أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث وأنزل عليه الوحي وهو ابن أربعين سنة. وقال ابن عباس من رواية عكرمة أيضا عنه وسعيد بن المسيب إنه أنزل عليه وهو ابن ثلاث وأربعين سنة وكان نزول الوحي عليه يوم الاثنين بلا خلاف واختلفوا في أي الأثانين كان ذلك فقال أبو قلابة الجرمي أنزل الفرقان على النبي لثمان عشرة ليلة خلت من رمضان، وقال آخرون كان ذلك لتسع عشرة مضت من رمضان.
وكان صلى الله عليه وسلم قبل أن يظهر له جبرائيل يرى ويعاين آثارا من آثار من يريد الله إكرامه بفضله وكان من ذلك ما ذكرت من شق الملكين بطنه واستخراجهما ما في قلبه من الغل والدنس ومن ذلك أنه كان لا يمر بحجر ولا شجر إلا سلم عليه فكان يلتفت يمينا وشمالا فلا يرى أحدا وكانت الأمم تتحدث بمبعثه وتخبر علماء كل أمه قومها بذلك.
قال عامر بن ربيعة: سمعت زيد بن عمرو بن نفيل يقول: إنا لننتظر نبيا من ولد إسماعيل، ثم من بني عبد المطلب، ولا أراني أدركه وأنا أومن
46

به وأصدقه وأشهد أن نبي، فإن طالت بك حياة ورأيته فاقرأه مني السلام وسأخبرك ما نعته حتى لا يخفى عليك قلت هلم قال هو رجل ليس بالطويل ولا بالقصير ولا بكثير الشعر ولا بقليله ولا تفارق عينيه حمرة وخاتم النبوة بين كتفيه واسمه أحمد وهذا البلد مولده ومبعثه ثم يخرجه قومه ويكرهون ما جاء به ويهاجر إلى يثرب فيظهر بها أمره فإياك أن تنخدع عنه فإني طفت البلاد كلها أطلب دين إبراهيم فكل من أسأله من اليهود والنصارى والمجوس يقول هذا الدين وراءك وينعتونه مثل ما نعته لك ويقولون لم يبق نبي غيره.
قال عامر: فلما أسلمت أخبرت رسول الله بقول زيد وأقرأته السلام فرد عليه رسول الله وترحم عليه وقال قد رأيته في الجنة يسحب ذيولا.
وقال جبير بن مطعم: كنا جلوسا عند صنم بوانة قبل أن يبعث رسول الله بشهر نحرنا جزورا فإذا صائح يصيح من جوف الصنم اسمعوا إلى العجب ذهب استراق الوحي ونرمى بالشهب لنبي بمكة اسمه أحمد مهاجره إلى يثرب قال فأمسكنا وعجبنا وخرج رسول الله والأخبار عن دلائل نبوته كثيرة وقد صنف العلماء في ذلك كتبا كثيرة ذكروا فيها كل عجيبة ليس هذا موضع ذكرها.
47

ذكر ابتداء الوحي إلى النبي
صلى الله عليه وسلم
قالت عائشة رضي الله عنها: كان أول ما ابتدئ [به] رسول الله من الوحي الرؤيا الصادقة كانت تجيء مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء فكان بغار حراء يتعبد فيه الليالي ذوات العدد ثم يرجع إلى أهله فيتزود لمثلها حتى فجأة الحق فأتاه جبرائيل فقال يا محمد أنت رسول الله قال رسول الله فجثوت لركبتي ثم رجعت ترجف بوادري فدخلت على خديجة فقلت زملوني زملوني ثم ذهب عني الروع، ثم أتاني فقال يا محمد أنت رسول الله قال فلقد هممت أن أطرح نفسي من حالق فتبدى لي حين هممت بذلك فقال يا محمد أنا جبرائيل وأنت رسول الله قال اقرأ قلت وما أقرأ قال فأخذني فغتني ثلاث مرات حتى بلغ مني الجهد ثم
قال (اقرأ بسم ربك الذي خلق) فقرأت فأتيت خديجة فقلت لقد أشفقت على نفسي وأخبرتها خبري فقالت أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا فوالله إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتؤدي الأمانة وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق.
ثم انطلقت بي إلى ورقة بن نوفل وهو ابن عمها، وكان
48

قد تنصر وقرأ الكتاب وسمع من أهل التوراة والإنجيل فقالت اسمع من ابن أخيك فسألني فأخبرته خبري فقال هذا الناموس الذي أنزل على موسى بن عمران ليتني كنت حيا حين يخرجك قومك قلت أمخرجي هم قال نعم إنه لم يجئ أحد بمثل ما جئت به إلا عودي ولئن أدركني يومك لأنصرنك نصرا مؤزرا.
ثم إن أول ما نزل عليه من القرآن بعد اقرأ: (ن والقلم وما يسطرون) و * (يا أيها المدثر) * (والضحى) *.
وقالت خديجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما تثبته فيما أكرمه الله بن من نبوته: يا بن عم أتستطيع أن تخبرني بصاحبك الذي يأتيك إذا جاءك؟ قال: نعم. فجاءه جبرائيل، فأعلمها. فقالت: قم فاجلس على فخذي فقام فجلس عليها فقال هل تراه؟ قال: نعم. قالت: فتحول فاقعد على فخذي اليمنى فجلس عليها فقالت هل تراه؟ قال نعم. فتحسرت فألقت خمارها ورسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرها، ثم قالت: هل تراه؟ قال: لا. قالت: يا بن عم أثبت وأبشر، فوالله إنك ملك، ما هو بشيطان!
وقال يحيى بن أبي كثير: سألت أبا سلمة عن أول ما نزل من القرآن قال نزلت (يا أيها المدثر) أول قلت إنهم يقولون (اقرأ بسم ربك) قال سألت جابر بن عبد الله قال لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله قال جاورت بحراء فلما قضيت جواري هبطت فسمعت صوتا فنظرت عن يمين فلم أر شيئا ونظرت عن يساري فلم أر شيئا ونظرت عن خلفي وأمامي فلم أر شيئا فرفعت رأسي فإذا هو يعني
49

الملك جالس على عرش بين السماء والأرض فخشيت منه فأتيت خديجة فقلت دثروني دثروني وصبوا علي الماء ففعلوا فنزلت (يا أيها المدثر) هذا حديث صحيح.
قال هشام بن الكلبي: أتى جبرائيل النبي أول ما أتاه ليلة السبت وليلة الأحد ثم ظهر له برسالة الله يوم الاثنين فعلمه الوضوء والصلاة وعلمه: (اقرأ بسم ربك الذي خلق) وكان لرسول الله أربعون سنة.
قال الزهري: فتر الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فترة، فحزن حزنا شديدا وجعل يغدوا إلى رؤوس الجبال ليتردى منها فكلما أوفى بذروة جبل تبدى له جبرائيل فيقول إنك رسول الله حقا فيسكن لذلك جأشه وترجع نفسه فلما أمر الله نبيه أن ينذر قومه عذاب الله تعالى على ما هم عليه من عبادة الأصنام دون الله الذي خلقهم ورزقهم وأن يحدث بنعمة ربه عليه وهي النبوة في قول ابن إسحاق فكان يذكر ذلك سرا إلى من يطمئن إليه من أهله فكان أول من آمن به وصدقه من خلق الله تعالى خديجة بنت خويلد زوجته.
قال الواقدي: أجمع أصحابنا أن أول من استجاب لرسول الله من أهل القبلة خديجة.
ثم كان أول شيء فرض الله من شرائع الاسلام عليه بعد الإقرار بالتوحيد والبراءة من الأوثان الصلاة وإن الصلاة لما فرضت عليه أتاه جبرائيل وهو بأعلى مكة فهمز له بعقبه في ناحية الوادي فانفجرت فيه عين فتوضأ جبرائيل وهو ينظر إليه ليريه كيف الطهور للصلاة ثم توضأ
50

رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله ثم قام جبرائيل فصلى به وصلى النبي صلى الله عليه وسلم بصلاته، ثم انصرف. وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خديجة فعلمها الوضوء، ثم صلى بها فصلت بصلاته.
ذكر المعراج برسول الله صلى الله عليه وسلم
اختلف الناس في وقت المعراج فقيل كان قبل الهجرة بثلاث سنين وقيل بسنة واحدة واختلفوا في الموضع الذي أسري برسول الله منه فقيل كان نائما بالمسجد في الحجر فأسري به منه وقيل كان نائما في بيت أم هانئ بنت أبي طالب وقال هذه يقول الحرم كله مسجد.
وقد روى حديث المعراج جماعة من الصحابة بأسانيد صحيحة.
قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاني جبرائيل وميكائيل فقالا: بأيهم أمرنا؟ فقالا: أمرنا بسيدهم ثم ذهبا ثم جاءا من القابلة وهم ثلاثة فألقوه وهو نائم فقلبوه لظهره وشقوا بطنه وجاؤوا بماء زمزم فغسلوا ما كان في بطنه من غل وغيره وجاؤوا بطست مملوء إيمانا وحكمة فملئ قلبه وبطنه إيمانا وحكمة. قال: وأخرجني جبرائيل من المسجد وإذا أنا بدابة وهي البراق وهي فوق الحمال دون البغل ثم مثل البراق خطوة عند منتهى طرفه فقال اركب فلما وضعت يدي عليه تشامس واستصعب فقال جبرائيل يا براق ما ركبك نبي أكرم على الله
من محمد فانصب عرقا وانخفض
51

لي حتى ركبته وسار بي نحو المسجد الأقصى فأتيت بإنائين أحدهما لبنا والآخر خمر فقيل لي اختر أحدهما فأخذت اللبن فشربته فقيل لي أصبت الفطرة أما أنكم لو شربت الخمر لغوت أمتك بعدك.
ثم سرنا فقال لي: انزل فصل، فنزلت فصليت، فقال: هذا طيبة وإليها المهاجر.
ثم سرنا فقال لي: انزل فصل فنزلت فصليت، فقال: هذا طور سيناء حيث كلم الله موسى. ثم سرنا فقال: انزل فصل، فنزلت فصليت، فقال: هذا بيت لحم حيث ولد عيسى. ثم سرنا حتى أتينا بيت المقدس فلما انتهينا إلى باب المسجد أنزلني جبرائيل وربط البراق بالحلقة التي كان يربط بها الأنبياء فلما دخلت المسجد إذا أنا بالأنبياء حوالي وقيل بأرواح الأنبياء الذين بعثهم الله قبلي فسلموا علي فقلت يا جبرائيل من هؤلاء قال اخوانك من الأنبياء زعمت قريش أن لله شريكا وزعمت النصارى أن لله ولدا سل هؤلاء هل كان لله عز وجل شريك أو ولد فذلك قوله تعالى (واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون) فأقروا بالوحدانية لله عز وجل ثم جمعهم جبرائيل وقدمني فصليت بهم ركعتين.
ثم انطلق بي جبرائيل إلى الصخرة فصعد بي عليها فإذا معراج إلى السماء لا ينظر الناظرون إلى شيء أحسن منه ومنه تعرج الملائكة أصله في صخرة بيت المقدس ورأسه ملتصق بالسماء فاحتملني جبرائيل ووضعني على جناحه وصعد
52

بي إلى السماء الدنيا فاستفتح فقيل من هذا قال جبرائيل قيل ومن معك قال محمد قيل وقد بعث إليه قال نعم قيل مرحبا به ونعم المجيء جاء! ففتح فدخلنا فإذا أنا برجل يخرج منه ريح خبيثة فإذا نظر إلى الباب الذي عن يمينه ضحك وإذا نظر إلى الباب الذي عن يساره بكى فقلت من هذا وما هذان البابان؟ فقال هذا أبوك آدم والباب الذي عن يمينه باب الجنة فإذا نظر إلى من يدخلها من ذريته ضحك والباب الذي عن يساره باب جهنم إذا نظر إلى من يدخلها من ذريته بكى وحزن.
ثم صعد بي إلى السماء الثانية فاستفتح فقيل من هذا قال جبرائيل قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد بعث إليه قال نعم قيل حياه الله مرحبا به ونعم المجيء جاء ففتح لنا فدخلنا فإذا بشابين فقلت يا جبرائيل من هذان فقال هذان عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا.
ثم صعد بي إلى السماء الثالثة فاستفتح فقيل من هذا قال جبرائيل قيل ومن معك قال محمد قيل [وقد بعث إليه؟ قال: نعم]. قيل: مرحبا به ونعم المجيء جاء! فدخلنا، فإذا أنا برجل قد فضل الناس بالحسن قلت من هذا يا جبرائيل قال هذا أخوك يوسف.
ثم صعد بي إلى السماء الرابعة فاستفتح قيل من هذا قال جبرائيل قيل ومن معك قال محمد قيل وقد بعث إليه قال نعم قيل مرحبا به ونعم المجيء جاء فدخلنا فإذا أنا برجل فقلت من هذا قال إدريس رفعه الله مكانا عليا.
ثم صعد بي إلى السماء الخامسة فاستفتح فقيل من هذا؟ قال: جبرائيل.
53

قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل وقد بعث إليه قال نعم قيل مرحبا به ونعم المجيء جاء فدخلنا فإذا رجل جالس وحوله قوم يقص عليهم قلت من هذا قال هذا هارون والذين حوله بنو إسرائيل.
ثم صعد بي إلى السماء السادسة فاستفتح فقيل من هذا؟ قال: جبرائيل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد قيل وقد بعث إليه قال نعم قيل مرحبا به ونعم المجيء جاء فدخلنا فإذا أنا برجل جالس فجاوزناه فبكى الرجل فقلت يا جبرائيل من هذا قال هذا موسى قلت فما باله يبكي قال يزعم بنو إسرائيل أني أكرم على الله من بني آدم وهذا الرجل من بني آدم قد خلفني وراءه.
قال: ثم صعد بي إلى السماء السابعة فاستفتح فقيل من هذا قال جبرائيل قيل ومن معك قال محمد قيل وقد بعث إليه قال نعم قيل مرحبا به ونعم المجيء جاء فدخلنا فإذا رجل أشمط جالس على كرسي على باب الجنة وحوله قوم بيض الوجوه أمثال القراطيس وقوم في ألوانهم شيء فقام الذين في ألوانهم شيء فاغتسلوا في نهر وخرجوا وقد سارت وجوههم مثل وجوه أصحابهم فقلت من هذا قال أبوك إبراهيم وهؤلاء البيض الوجوه قوم لم يلبسوا إيمانهم بظلم وأما الذين في ألوانهم شيء فقوم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا فتابوا فتاب الله عليهم وإذا إبراهيم مستند إلى بيت فقال هذا البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألفا من الملائكة لا يعودون إليه.
قال: وأخذني جبرائيل فانتهينا إلى سدرة المنتهى وإذا نبقها مثل قلال هجر يخرج من أصلها أربعة أنهار نهران باطنان ونهران ظاهران فأما
54

الباطنان ففي الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات قال وغشينا من نور الله ما غشينا وغشيها الملائكة كأنهم جراد من ذهب من خشية الله وتحولت حتى ما يستطيع أحد أن ينعتها وقام جبرائيل في وسطها فقال جبرائيل تقدم يا محمد فتقدمت وجبرائيل معي إلى حجاب فاخذ بي ملك وتخلف عني جبرائيل فقلت إلى أين فقال (وما منا إلا له مقام معلوم) وهذا منتهى الخلائق.
فلم أزل كذلك حتى وصلت إلى العرش فاتضع كل شيء وكل لساني من هيبة الرحمن ثم أنطق الله لساني فقلت التحيات المباركات والصلوات الطيبات لله وفرض الله علي وعلى أمتي في كل يوم وليلة خمسين صلاة ورجعت إلى جبرائيل فأخذ بيدي وأدخلني الجنة فرأيت القصور من الدر والياقوت والزبرجد ورأيت نهرا يخرج من أصله ماء أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل يجري على رضراض من الدر والياقوت والمسك فقال هذا الكوثر الذي أعطاك ربك. ثم عرض علي النار فنظرت إلى أغلالها وسلاسلها وحياتها وعقاربها وما فيها من العذاب.
ثم أخرجني، فانحدرنا حتى أتينا موسى. فقال: ماذا فرض عليك وعلى أمتك؟ قلت: خمسين صلاة. قال: فإني قد بلوت بني إسرائيل قبلك وعالجتهم أشد المعالجة على أقل من هذا فلم يفعلوا فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فرجعت إلى ربي وسألته فخفف عني عشرا فرجعت إلى موسى فأخبرته فقال ارجع واسأله التخفيف فرجعت فخفف عني عشرا فرجعت إلى موسى فأخبرته فقال ارجع اسأله التخفيف فرجعت فخفف عني عشرا فلم أزل بين ربي وموسى حتى جعلها خمسا فقال ارجع فاسأله التخفيف فقلت
55

إني كنت قد استحيت من ربي وما أنا براجع فنوديت إني قد فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة والخمس بخمسين وقد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي.
ثم انحدرت وأنا وجبرائيل إلى مضجعي وكان كل ذلك في ليلة واحدة.
فلما رجع إلى مكة علم أن الناس لا يصدقونه فقعد في المسجد مغموما فمر به أبو جهل فقال له كالمستهزئ هل استفدت الليلة شيئا قال نعم أسري بن الليلة إلى بيت المقدس قال ثم أصبحت بين ظهرانينا فقال نعم فخاف أن يخبر بذلك عنه فيجحده النبي فقال أتخبر قومك بذلك قال نعم فقال أبو جهل يا معشر بني كعب بن لؤي هلموا فأقبلوا فحدثهم النبي فمن بين مصدق ومكذب [ومصفق] وواضع يده على رأسه وارتد الناس ممن كان آمن به وصدقه.
وسعى رجال من المشركين إلى أبي بكر فقالوا إن صاحبك يزعم كذا وكذا فقال إن كان قال كذا فقد صدق إني لأصدقه بما هو أبعد من ذلك أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة فسمي أبو بكر الصديق من يومئذ.
قالوا فانعت لنا المسجد الأقصى قال فذهبت أنعت حتى التبس علي قال فجيء بالمسجد وإني أنظر إليه فجعلت أنعته قالوا فأخبرنا عن عيرنا قال قد مررت على عير بن فلان بالروحاء وقد أضلوا بعيرا لهم وهم في طلبه فأخذت قدحا فيه ماء فشربته فسلوهم عن ذلك ومررت بعير بني فلان وفلان فسلوهما فرأيت راكبا وقعودا بذي مر فنفر بكرهما مني فسقط فلان فانكسرت يده فسلوهما قال ومررت بعيركم بالتنعيم يقدمها جمل أورق عليه غرارتان مخيطتان تطلع عليكم من طلوع الشمس.
56

فخرجوا إلى الثنية فجلسوا ينظرون طلوع الشمس ليكذبوه إذ قال قائل هذه الشمس قد طلعت فقال آخر والله هذه العير قد طلعت يقدمها بعير أورق كما قال فلم يفلحوا وقالوا إن هذا سحر مبين.
ذكر الاختلاف في أو من أسلم
اختلف العلماء في أول من أسلم مع الاتفاق على أن خديجة أول خلق الله إسلاما فقال قوم أول من ذكر آمن علي روي عن علي عليه السلام أنه قال أنا عبد الله وأخو رسوله وأنا الصديق الأكبر لا يقولها بعدي ألا كاذب مفتر صليت مع رسول الله قبل الناس بسبع سنين.
وقال ابن عباس: أول من صلى علي. وقال جابر بن عبد الله: بعث النبي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين
وصلى علي يوم الثلاثاء. وقال زيد بن أرقم: أول من أسلم مع النبي علي. وقال عفيف الكندي: كنت امرأ تاجرا فقدمت مكة أيام الحج فأتيت العباس فبينما نحن عنده إ ذ خرج رجل فقام تجاه الكعبة يصلي ثم خرجت امرأة تصلي معه ثم خرج غلام فقام يصلي معه فقلت يا عباس ما هذا الدين فقال هذا محمد بن عبد الله ابن أخي زعم أن الله أرسله وأن كنوز كسرى وقيصر ستفتح عليه وهذه امرأته خديجة آمنت به وهذا الغلام علي بن أبي طالب آمن به وأيم الله ما أعلم على ظهر الأرض أحدا على هذا الدين إلا هؤلاء الثلاثة قال عفيف ليتني كنت رابعا.
وقال محمد بن المنذر وربيعة بن أبي عبد الرحمن وأبو حازم المدني والكلبي:
57

أول من أسلم علي قال الكلبي كان عمره تسع سنين وقيل إحدى عشرة سنة.
وقال ابن إسحاق: أول من أسلم علي وعمره إحدى عشرة سنة.
وكان من نعمة الله عليه أن قريشا أصابتهم أزمة شديدة وكان أبو طالب ذا عيال كثيرة فقال يوما رسول الله لعمه العباس يا عم إن أبا طالب كثير العيال فانطلق بنا نخفف عن عيال أبي طالب فانطلقا إليه وأعلماه ما أرادا فقال أبو طالب اتركا لي عقيلا واصنعا ما شئتما فأخذ رسول الله عليا وأخذ العباس جعفرا فلم يزل علي عند النبي حتى أرسله الله فاتبعه.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد الصلاة فانطلق هو وعلي إلى بعض الشعاب بمكة فيصليان ويعودان فعثر عليهما أبو طالب فقال يا بن أخي ما هذا الدين قال دين الله وملائكته ورسله ودين أبينا إبراهيم بعثني الله تعالى به إلى العباد وأنت أحق من دعوته إلى الهدى وأحق من أجابني قال لا أستطيع أن أفارق ديني ودين آبائي ولكن والله لا تخلص قريش إليك بشيء تكرهه ما حييت.
فلم يزل جعفر عند العباس حتى أسلم واستغنى عنه. قال وقال أبو طالب لعلي ما هذا الدين الذي أنت عليه قال يا أبت آمنت بالله وبرسوله وصليت معه فقال أما أنه لا يدعونا إلا إلى الخير فالزمه.
وقيل: أول من أسلم أبو بكر رضي الله عنه قال الشعبي سألت ابن عباس عن أول من أسلم فقال أما سمعت قول حسان بن ثابت:
(إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة * فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا)
(خير البرية أتقاها وأعدلها * بعد النبي وأوفاها بما حملا)
58

(والثاني التالي المحمود مشهده * وأول الناس قدما صدق الرسلا)
وقال عمرو بن عبسة: أتيت رسول الله بعكاظ فقلت يا رسول الله من تبعك على هذا الأمر؟ قال: تبعني عليه حر وعبد أبو بكر وبلال فأسلمت عند ذلك فلقد رأيتني رابع الاسلام.
وكان أبو ذر يقول لقد رأيتني رابع الاسلام لم يسلم قبلي ألا النبي وأبو بكر وبلال وقال إبراهيم النخعي أبو بكر أول من أسلم.
وقيل: أول من أسلم زيد بن حارثة. قال الزهري وسليمان بن يسار وعمران بن أبي أنس وعروة بن الزبير: أول من أسلم زيد بن حارثة وكان هو وعلي يلزمان النبي صلى الله عليه وسلم وكان يخرج إلى الكعبة أول النهار ويصلي صلاة الضحى وكانت قريش لا تنكرها وكان إذا صلى غيرها قعد علي وزيد بن حارثة يرصدانه.
وقال ابن إسحاق أول ذكر أسلم بعد النبي علي وزيد بن حارثة ثم أسلم أبو بكر وأظهر إسلامه وكان مانعا لقومه محببا فيهم وكان أعلم بأنساب قريش وما كان فيها وكان تاجرا يجتمع إليه قوم فجعل يدعوا من يثق به من قومه فأسلم على يده عثمان بن عفان والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله فجاء بهم إلى النبي حين استجابوا له فأسلموا وصلوا وكان هؤلاء النفر هم الذين سبقوا إلى الاسلام ثم تتابع الناس في الإسلام حتى فشا ذكر الاسلام بمكة وتحدث به الناس.
59

قال الواقدي وأسلم أبو ذر قالوا رابعا أو خامسا وأسلم عمرو بن عبسة السلمي رابعا أو خامسا وقيل إن الزبير أسلم رابعا أو خامسا وأسلم خالد بن سعيد بن العاص خامسا وقال ابن إسحاق أسلم هو وزوجته همينة بنت خلف بن أسعد بن عامر بن بياضة من خزاعة بعد جماعة كثيرة.
ذكر أمر الله تعالى نبيه
صلى الله عليه وسلم، بإظهار دعوته
ثم إن الله تعالى أمر نبيه بعد مبعثه بثلاث سنين أن يصدع بما يؤمر وكان قبل ذلك في السنين الثلاث مستترا بدعوته لا يظهرها إلا لمن يثق به فكان أصحابه إذا أرادوا الصلاة ذهبوا إلى الشعاب فاستخفوا فبينما سعد بن أبي وقاص وعمار وابن مسعود وخباب وسعيد بن زيد يصلون في شعب اطلع عليهم نفر من المشركين منهم أبو سفيان بن حرب والأخنس بن شريق وغيرهما فسبوهم وعابوهم حتى قاتلوهم فضرب سعد رجلا من المشركين بلحى جمل فشجه فكان أول دم أريق في الاسلام في قول.
قال ابن عباس لما نزلت (وأنذر عشيرتك الأقربين) خرج رسول الله فصعد على الصفا فهتف يا صباحاه فاجتمعوا إليه فقال يا بني فلان يا بني فلان يا بني عبد المطلب يا بني عبد مناف فاجتمعوا إليه فقال أرأيتكم لو أخبرتكم أن حبلا تخرج بسفح الجبل أكنتم مصدقي قالوا نعم ما جربنا عليك كذبا قال فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد فقال أبو لهب تبا لك أما جمعتنا إلا لهذا ثم قال فنزلت
60

(تبت يدا أبي لهب) السورة.
وقال جعفر بن عبد الله بن أبي الحكم: لما أنزل الله على رسوله: (وأنذر عشيرتك الأقربين) اشتد ذلك عليه وضاق به ذرعا فجلس في بيته كالمريض فأتته عماته يعدنه فقال ما اشتكيت شيئا ولكن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين فقلن له فادعهم ولا تدع أبا لهب فيهم فإنه غير مجيبك فدعاهم فحضروا معه نفر من بني المطلب بن عبد مناف فكانوا خمسة وأربعين رجلا فبادره أبو لهب وقال هؤلاء هم عمومتك وبنو عمك فتكلم ودع الصباة واعلم أنه ليس لقومك بالعرب قاطبة وإن أحق من أخذك فحبسك بنو أبيك وإن أقمت على ما أنت عليه فهو أيسر عليهم من أن يثب بك بطون قريش وتمدهم العرب فما رأيت أحدا جاء على بني أبيه بشر مما جئتهم به فسكت رسول الله ولم يتكلم في ذلك المجلس ثم دعاهم ثانية وقال الحمد لله أحمده وأستعينه وأؤمن به وأتوكل عليه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لن ثم قال إن الرائد لا يكذب أهله والله الذي لا إله إلا هو إني رسول الله إليكم خاصة وإلى الناس عامة والله لتموتن كما تنامون ولتبعثن كما تستيقظون ولتحاسبن بما تعملون وإنها الجنة أبدا والنار أبدا.
فقال أبو طالب ما أحب إلينا معاونتك وأقبلنا لنصيحتك وأشد تصديقنا لحديثك وهؤلاء بنو أبيك مجتمعون وإنما أنا أحدهم غير أني أسرعهم إلى ما تحب فامض لما أمرت به فوالله لا أزال أحوطك وأمنعك غير أن نفسي لا تطاوعني على فراق دين عبد المطلب.
فقال أبو لهب هذه والله السوأة! خذوا على يديه قبل أن يأخذ غيركم فقال أبو طالب والله لنمنعنه ما بقينا.
61

وقال علي بن أبي طالب لما نزلت (وأنذر عشيرتك الأقربين) دعاني النبي فقال يا علي إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين فضقت ذرعا وعلمت أني متى أبادرهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره فصمت عليه حتى جاءني جبرائيل فقال يا محمد إلا تفعل ما تؤمر به يعذبك ربك فاصنع لنا صاعا من طعام واجعل عليه رجل شاة واملأ لنا عسا من لبن واجمع لي بني عبد المطلب حتى أكلمهم وأبلغهم ما أمرت به ففعلت ما أمرني به ثم دعوتهم وهم يومئذ أربعون رجلا يزيدون أو ينقصونه فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب فلما اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الذي صنعته لهم فلما وضعته تناول رسول الله حزة من اللحم فنتفها بأسنانه ثم ألقاها في نواحي الصحفة ثم قال خذوا باسم الله فأكل القوم حتى مالهم بشيء من حاجة وما أرى إلا مواضع أيديهم وأيم الله الذي نفس علي بيده إن كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدمت لجميعهم ثم قال اسق القوم فجئتهم بذلك العس فشربوا منه حتى رووا جميعا وأيم الله إن كان الرجل الواحد ليشرب مثله فلما أراد رسول الله أن يكلمهم بدره أبو لهب إلى الكلام فقال لعلما سحركم به صاحبكم فتفرق القوم ولم يكلمهم فلما كان الغد قال يا علي إن هذا الرجل سبقني إلى ما سمعت من القول فتفرقوا قبل أن أكلمهم فعد لنا من الطعام بمثل ما صنعت ثم أجمعهم إلي.
ففعل مثل فعل بالأمس فأكلوا وسقيتهم ذلك العس فشربوا حتى رووا جميعا وشبعوا ثم تكلم رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال يا بني
62

عبد المطلب إني والله ما أعلم شاب في العرب جاء قومه بأفضل مما قد جئتكم به قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه فأيكم يوازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم فأحجم القوم عنها جميعا وقلت وإني لأحدثهم سنا وأرمصهم عينا وأعظمهم بطنا وأحمشهم ساقا أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه فأخذ برقبتي ثم قال إن هذا أخي ووصيتي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا قال فقام القوم يضحكون فيقولون لأبي طالب قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع.
وأمر رسول الله أن يصدع بما جاءه من عند الله وأن يبادىء الناس بأمره ويدعوهم إلى الله فكان يدعو في أول ما نزلت عليه النبوة ثلاث سنين مستخفيا إلى أن أمر بالظهور للدعاء ثم صدع بأمر الله وبادأ قومه بالإسلام فلم يبعدوا منه ولم يردوا عليه إلا بعض الرد حتى ذكر آلهتهم وعابها فلما فعل ذلك أجمعوا على خلافه إلا من عصمه الله منهم بالاسلام وهم قليل مستخفون وحدب عليه عمه أبو طالب ومنعه وقام دونه ومضى رسول الله على أمر الله مظهرا لأمره لا يرده شيء.
فلما رأت قريش أنه لا يعتبهم من شيء يكرهونه وأن أبا طالب قد قام دونه ولم يسلمه لهم مشى رجال من أشرافهم إلى أبي طالب عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو البختري بن هشام والأسود بن المطلب والوليد بن المغيرة وأبو جهل بن هشام والعاص بن وائل ونبيه ومنبه ابنا الحجاج ومن مشى منهم فقالوا: يا أبا طالب، إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا وضلل آباءنا فإما أن تكفه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه فقال لهم أبو طالب قولا جميلا وردهم ردا رفيقا فانصرفوا عنه ومضى رسول الله صلى
63

الله عليه وسلم لما هو عليه.
ثم شرى الأمر بينه وبينهم حتى تباعد الرجال فتضاغنوا وأكثرت قريش ذكر رسول الله وقد تآمروا فيه فمشوا إلى أبي طالب مرة أخرى فقالوا يا أبا طالب إن لك سنا وشرفا وإنا قد استنهيناك أن تنهي ابن أخيك فلم تفعل وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آلهتنا وآبائنا وتسفيه أحلامنا حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين أو كما قالوا، ثم انصرفوا عنه.
فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم له ولم تطلب نفسه بإسلام رسول الله وخذلانه وبعث إلى رسول الله فأعلمه ما قالت قريش وقال له أبق على نفسك وعلي ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق فظن رسول الله أنه قد بدا لعمه [بدو] وأنه خذله وقد ضعف عن نصرته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عماه لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته. ثم بكى رسول الله وقام فلما ولى ناداه أبو طالب فأقبل عليه وقال اذهب بابن أخي فقل ما أحببت فوالله لا أسلمك لشيء أبدا.
فلما علمت قريش أن أبا طالب لا يخذل رسول الله وأنه يجمع لعداوتهم مشوا بعمارة بن الوليد فقالوا يا أبا طالب هذا عمارة بن الوليد فتى قريش وأشعرهم وأجملهم فخذه فلك عقله ونصرته فاتخذه ولدا وأسلم لنا ابن أخيك هذا الذي سفه أحلامنا وخالف دينك ودين
64

آبائك وفرق جماعة قومك نقلته فإنما رجل برجل فقال والله لبئس ما تسوموني أتعطونني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه هذا والله لا يكون أبدا! فقال المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف والله لقد أنصفك قومك وما أراك تريد أن تقبل منهم فقال أبو طالب والله ما أنصفوني ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم علي فاصنع ما بدا لك.
فاشتد الأمر عند ذلك وتنابذ القوم واشتدت قريش على من في القبائل من الصحابة الذين أسلموا فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم ومنع الله رسوله بعمه أبي طالب وقام أبو طالب في بني هاشم فدعاهم إلى منع رسول الله فأجابوا إلى ذلك واجتمعوا إليه إلا ما كان من أبي لهب.
فلما رأى أبو طالب من قومه ما سره أقبل يمدحهم ويذكر فضل رسول الله فيهم وقد مشت قريش إلى أبي طالب عند موته وقالوا له أنت كبيرنا وسيدنا فأنصفنا من ابن أخيك فمره فليكف عن شتم آلهتنا وندعه وإلهه فبعث إليه أبو طالب فلما دخل عليه قال له هؤلاء سروات قومك يسألونك أن تكف عن شتم آلهتهم ويدعوك وإلهك. قال له رسول الله (أي عم أولا أدعوهم إلى ما هو خير لهم منها كلمة يقولونها تدين لهم بها العرب ويملكون رقاب العجم فقال أبو جهل ما هي وأبيك لنعطينكها وعشر أمثالها قال تقولون لا إله إلا الله فنفروا وتفرقوا وقال سل غيرها فقال لو جئتموني بالشمس حتى تضعوها في يدي ما سألتكم غيرها قال فغضبوا وقاموا من عنده غضابى وقالوا: والله لنشتمنك وإلهك الذي يأمرك بهذا! (وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم)، إلى قوله (إلا اختلاق) وأقبل على عمه فقال:
65

قل كلمة أشهد لك بها يوم القيامة قال: لولا أن تعيبكم بها العرب وتقول جزع من الموت لأعطيتكها، ولكن على ملة الأشياخ، فنزلت (إنك لا تهدي من أحببت).
ذكر تعذيب المستضعفين من المسلمين
وهم الذين سبقوا إلى الاسلام ولا عشائر لم تمنعهم ولا قوة لهم يمنعون بها فأما من كانت له عشيرة تمنعه فلم يصل الكفار إليه فلما رأوا امتناع من له عشيرة وثبت كل قبيلة على من فيها من مستضعفي المسلمين فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش ورمضاء مكة والنار ليفتنوهم عن دينهم فمنهم من يفتتن من شدة البلاء وقلبه مطمئن بالإيمان ومنهم من تصلب في دينه ويعصمه الله منهم.
فمنهم بلال بن رباح الحبشي مولى أبي بكر وكان أبوه من سبي الحبشة، وأمه حمامة سبية أيضا وهو من مولدي السراة وكنيته أبو عبد الله فصار بلال لأمية بن خلف الجمحي فكان إذا حميت الشمس وقت الظهيرة يلقيه في الرمضاء على وجهه وظهره ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتلقى على صدره ويقول لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى.
فكان ورقة بن نوفل يمر به وهو يعذب وهو يقول أحد أحد فيقول أحد والله يا بلال ثم يقول لأمية أحلف بالله لئن قتلتموه على هذا لأتخذنه حنانا فرآه أبو بكر يعذب فقال لأمية بن خلف الجمحي ألا تتقي الله في هذا المسكين فقال أنت أفسدته فأبعدته فقال عندي غلام على دينك
66

أسود أجلد من هذا أعطيكه به قال قبلت فأعطاه أبو بكر غلامه وأخذ بلالا فأعتقه فهاجر وشهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومنهم: عمار بن ياسر أبو اليقظان العنسي وهو بطن من مراد _ وعنس هذا بالنون _ أسلم هو وأبوه وأمه وأسلم قديما ورسول الله في دار الأرقم بن أبي الأرقم بعد بضعة وثلاثين رجلا أسلم هو وصهيب في يوم واحد وكان ياسر حليفا لبني مخزوم فكانوا يخرجون عمارا وأباه وأمه إلى الأبطح إذا حميت الرمضاء يعذبونهم بحر الرمضاء فمر بهم النبي فقال (صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة) فمات ياسر في العذاب وأغلظت امرأته سمية القول لأبي جهل فطعنها في قلبها بحربة في يده فماتت وهي أول شهيدة في الاسلام وشددوا العذاب على عمار بالحر تارة وبوضع الصخر أحمر على صدره أخرى وبالتغريق أخرى فقالوا لا نتركك حتى تسب محمدا وتقول في اللات والعزى خيرا ففعل فأتى النبي يبكي فقال ما وراءك قال شر يا رسول الله كان الأمر كذا وكذا قال فكيف تجد قلبك قال أجده مطمئنا بالإيمان فقال يا عمار إن عادوا فعد فأنزل الله تعالى (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) فشهد المشاهد كلها مع رسول الله وقتل بصفين مع علي وقد جاوز التسعين قيل بثلاث وقيل بأربع سنين.
ومنهم خباب بن الأرت كان أبوه سواديا من كسكر فسباه قوم من ربيعة وحملوه إلى مكة فباعوه من سباع بن عبد العزى الخزاعي حليف بني زهرة وسباع هو الذي بارزه حمزة يوم أحد وخباب تميمي وكان
67

اسلامه قديما، قيل سادس ستة قبل دخول رسول الله دار الأرقم فأخذه الكفار وعذبوه عذابا شديدا فكانوا يعرونه ويلصقون ظهره بالرمضاء ثم بالرضف وهي الحجارة المحماة بالنار ولووا رأسه فلم يجبهم إلى شيء مما أرادوا منه وهاجر وشهد المشاهد كلها مع رسول الله ونزل الكوفة ومات سنة ست وثلاثين.
ومنهم: صهيب بن سنان الرومي ولم يكن روميا وإنما نسب إليهم لأنهم سبوه وباعوه وقيل لأنه كان أحمر اللون
وهو من نمر بن قاسط كناه رسول الله أبا يحيى قبل أن يولد له وكان ممن يعذب في الله فعذب عذابا شديدا ولما أراد الهجرة منعته قريش فافتدى نفسه منهم بماله أجمع وجعله عمر بن الخطاب عند موته يصلي بالناس إلى أن يستخلف بعض أهل الشورى وتوفي بالمدينة في شوال من سنة ثمان وثلاثين وعمره سبعون سنة.
وأما عامر بن فهيرة فهو مولى الطفيل بن عبد الله الأزدي وكان الطفيل أخا عائشة لامها أم رومان أسلم قديما قبل دخول رسول الله دار الأرقم وكان من المستضعفين يعذب في الله فلم يرجع عن دينه واشتراه أبو بكر وأعتقه فكان يرعى غنما له وكان يروح بغنم أبي بكر إلى النبي وإلى أبي بكر لما كانا في الغار وهاجر معهما إلى المدينة يخدمهما وشهد بدرا وأحدا واستشهد يوم بئر معونة وله أربعون سنة ولما طعن قال فزت ورب الكعبة ولم توجد جثته لتدفن مع القتلى فقيل إن الملائكة دفنته.
ومنهم أبو فكيهة واسمه أفلح وقيل يسار وكان عبد لصفوان
68

ابن أمية بن خلف الجمحي أسلم مع بلال فأخذه أمية بن خلف وربط في رجله حبلا وأمر به فجر ثم ألقاه في الرمضاء ومر به جعل فقال له أمية أليس هذا ربك فقال الله ربي وربك ورب هذا فخنقه خنفا شديدا ومعه أخوه أبي بن خلف يقول زده عذابا حتى يأتي محمد فيخلصه بسحره ولم يزل على تلك الحال حتى ظنوا أنه قد مات ثم أفاق فمر به أبو بكر فاشتراه وأعتقه.
وقيل: إن بني عبد الدار كانوا يعذبونه وإنما كان مولى لهم وكانوا يعضون الصخرة على صدره حتى دلع لسانه فلم يرجع عن دينه وهاجر ومات قبل بدر.
ومنهم: لبينة جارية بني مؤمل بن حبيب بن عدي بن كعب أسلمت قبل إسلام عمر بن الخطاب وكان عمر يعذبها حتى تفتن ثم يدعها ويقول إني لم أدعك إلا سآمة فتقول كذلك يفعل الله بك إن لم تسلم فاشتراها أبو بكر فأعتقها.
ومنهم: زنيرة وكانت لبني عدي وكان عمر يعذبها وقيل كانت لبني مخزوم وكان أبو جهل يعذبها حتى عميت فقال لها إن اللات والعزى فعلا بك فقالت وما يدري اللات والعزى من يعبدهما ولكن هذا أمر من السماء وربي قادر على رد بصري فأصبحت من الغد وقد رد الله بصرها فقالت قريش هذا من سحر محمد فاشتراها أبو بكر فأعتقها.
(زنيرة بكسر الزاي وتشديد النون وتسكين الياء المثناة من تحتها وفتح الراء).
ومنهم النهدية مولاة لبني نهد فصارت لامرأة من بني عبد الدار
69

فأسلمت وكانت تعذبها وتقول والله لا أقلعت عنك أو يبتاعك بعض أصحاب محمد فابتاعها أبو بكر فأعتقها.
ومنهم: أم عبيس، بالباء الموحدة، وقيل عنيس بالنون وهي أمة لبني زهرة فكان الأسود بن عبد يغوث يعذبها فابتاعها أبو بكر فأعتقها وكان أبو جهل يأتي الرجل الشريف ويقول له أتترك دينك ودين أبيك وهو خير منك ويقبح رأيه وفعله ويسفه حلمه ويضع شرفه وإن كان تاجرا يقول: ستكسد تجارتك ويهلك مالك وإن كان ضعيفا أغرى به حتى يعذب.
ذكر المستهزئين ومن كان أشد الأذى
للنبي صلى الله عليه وسلم
وهم جماعة من قريش فمنهم عمه أبو لهب عبد العزى بن عبد المطلب كان شديدا عليه وعلى المسلمين عظيم التكذيب له دائم الأذى فكان يطرح العذرة والنتن على باب النبي وكان جاره فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أي جوار هذا يا بني عبد المطلب! فرآه يوما حمزة فأخذ العذرة وطرحها على رأس أبي لهب فجعل ينفضه عن رأسه ويقول صاحبي أحمق وأقصر عما كان يفعله لكنه يضع من يفعل ذلك.
ومات أبو لهب بمكة عند وصول الخبر بانهزام المشركين ببدر بمرض
70

يعرف بالعدسة.
ومنهم: الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة وهو ابن خال النبي وكان من المستهزئين وكان إذا رأى فقر المسلمين قال لأصحابه هؤلاء ملوك الأرض الذين يرثون ملك كسرى وكان يقول للنبي أما كلمت اليوم من السماء يا محمد وما أشبه ذلك فخرج من أهله فأصابه السموم فاسود وجهه فلما عاد إليهم لم يعرفوه وأغلقوا الباب دونه فرجع متحيرا حتى مات عطشا وقيل إن جبرائيل أومأ إلى السماء فأصابته الأكلة فامتلأ قيحا فمات.
ومنهم: الحارث بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم السهمي كان أحد المستهزئين الذين يؤذون رسول الله وهو ابن الغيطلة وهي أمه وكان يأخذ حجرا يعبده فإذا رأى أحسن منه ترك الأول وعبد الثاني وكان يقول قد غر محمد أصحابه ووعدهم أن يحيوا بعد الموت والله ما يهلكنا إلا الدهر وفيه نزلت (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) وأكل حوتا مملوحا فلم يزل يشرب الماء حتى مات وقيل أخذته الذبحة وقيل امتلأ رأسه قيحا فمات.
ومنهم: الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم وكان الوليد يكنى أبا عبد شمس وهو العدل لأنه كان عدل قريش كلها لأن قريشا كانت تكسو البيت جميعها وكان الوليد يكسوها وحده وهو الذي جمع قريشا وقال إن الناس يأتونكم أيام الحج فيسألونكم عن محمد فتختلف أقواكم فيه فيقول هذا ساحر ويقول هذا كاهن ويقول هذا شاعر ويقول هذا مجنون وليس يشبه واحدا مما يقولون ولكن أصلح ما قيل فيه ساحر لأنه يفرق بين المرء وأخيه وزوجته وقال أبو جهل لئن سب محمد آلهتنا سببنا
71

إلهه فأنزل الله تعالى (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم) ومات بعد الهجرة بعد ثلاثة أشهر وهو ابن خمس وتسعين سنة ودفن بالحجون وكان مر برجل من خزاعة يريش نبلا له فوطئ على سهم منهما فخدشه ثم أومأ جبرائيل إلى ذلك الخدش بيده فانتقض ومات منه فأوصى إلى بنيه أن يأخذوا ديته من خزاعة فأعطت خزاعة ديته.
ومنهم: أمية وأبي ابنا خلف وكانا على شر ما عليه أحد من أذى رسول الله وتكذيبه جاء أبي إليه بعظم فخذ ففته في يده وقال زعمت أن ربك يحيي هذا العظم فنزلت (قال من يحيي العظام وهي رميم) وصنع عقبة بن أبي معيط طعاما ودعا إليه رسول الله فقال لا أحضره حتى تشهد أن لا إله إلا الله ففعل فقام معه فقال له أمية بن خلف أقلت كذا وكذا فقال إنما قلت ذلك لطعامنا فنزلت (ويوم يعض الظالم على يديه) وقتل أمية يوم بدر كافرا قتله خبيب وبلال وقيل قتله رفاعة بن رافع الأنصاري وأما أخوه أبي فقتله رسول الله يوم أحد رماه بحربه فقتله.
ومنهم: أبو قيس بن الفاكه بن المغيرة وكان ممن يؤذي رسول الله ويعين أبا جهل على أذاه قتله حمزة يوم بدر.
ومنهم: العاص بن وائل السهمي والد عمرو بن العاص وكان من المستهزئين وهو القائل لما مات القاسم ابن النبي صلى الله عليه وسلم:
72

إن محمدا أبتر لا يعيش له ولد ذكر، فأنزل: (إن شانئك هو الأبتر) فركب حمارا له فلما كان بشعب من شعاب مكة ربض به حماره فلدغ في رجله فانتفخت حتى صارت كعنق البعير فمات بعد هجرة النبي ثاني شهر دخل المدينة وهو ابن خمس وثمانين سنة.
ومنهم: النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار يكنى أبا قائد وكان أشد قريش في تكذيب النبي والأذى له ولأصحابه وكان ينظر في كتب الفرس ويخالط اليهود والنصارى وسمع بذكر النبي وقرب مبعثه فقال إن جاءنا نذير لنكونن أهدى من إحدى الأمم فنزلت (وأقسموا بالله جهد أيمانهم) الآية وكان يقول إنما يأتيكم محمد بأساطير الأولين فنزل في عدة أيات أسره المقداد يوم بدر وأمر رسول الله بضرب عنقه فقتله علي بن أبي طالب صبرا بالأثيل.
ومنهم: أبو جهل بن هشام المخزومي كان أشد الناس عداوة للنبي وأكثرهم أذى له ولأصحابه واسمه عمرو وكنيته أبو الحكم وأما أبو جهل فالمسلمون كنوه به وهو الذي قتل سمية أم عمار بن ياسر وأفعاله مشهورة وقتل ببدر قتله ابنا عفراء وأجهز عليه عبد الله بن مسعود.
ومنهم: نبيه ومنبه ابنا الحجاج السهميان وكانا على ما كان عليه أصحابهما من أذى رسول الله والطعن عليه وكانا يلقيانه فيقولان له أما وجد الله من يبعثه غيرك إن ههنا من هو أسن منك وأيسر فقتل منبه قتله علي بن أبي طالب ببدر وقتل أيضا
73

العاص بن منبه بن الحجاج قتله أيضا علي ببدر وهو صاحب ذي الفقار وقيل منبه بن الحجاج صاحبه وقيل نبيه.
(نبيه بضم النون وفتح الباء الموحدة).
ومنهم: زهير بن أبي أمية أخو أم سلمة لأبيها وأمه عاتكة بنت عبد المطلب وكان ممن يظهر تكذيب رسول الله ويرد ما جاء به ويطعن عليه إلا أنه ممن أعان على نقض الصحيفة واختلف في موته فقيل سار إلى بدر فمرض فمات وقيل أسر ببدر فأطلقه رسول الله فلما عاد مات بمكة وقيل حضر وقعة أحد فأصابه سهم فمات منه وقيل سار إلى اليمن بعد الفتح فمات هناك كافرا
.
ومنهم: عقبة بن أبي معيط واسم أبي معيط أبان بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس ويكنى أبا الوليد وكان من أشد الناس أذى لرسول الله وعداوة له وللمسلمين عمد إلى مكتل فجعل فيه عذرة وجعله على باب رسول الله فبصر به طليب بن عمير بن وهب بن عبد مناف بن قصي وأمه أروى بنت عبد المطلب فأخذ المكتل منه وضرب به رأسه وأخذ بأذنيه فشكاه عقبه إلى أمه فقال قد صار ابنك ينصر محمدا فقالت ومن أولى به منا أموالنا وأنفسنا دون محمد واسر عقبة ببدر فقتل صبرا قتله عاصم بن ثابت الأنصاري فلما أراد قتله قال يا محمد من للصبية قال النار قتل بالصفراء بعرق الظبية وصلب وهو أول مصلوب في الإسلام.
ومنهم الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي وكان من المستهزئين ويكنى أبا زمعة وكان وأصحابه يتغامزون بالنبي صلى الله
74

عليه وسلم وأصحابه ويقولون قد جاءكم ملوك الأرض ومن يغلب على كنوز كسرى وقيصر ويصفرون به ويصفقون فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعمى ويثكل ولده فجلس في ظل شجرة فجعل جبرائيل يضرب وجهه وعينيه بورقة من ورقها وبشوكها حتى عمي وقيل أومأ إلى عينيه فعمي فشغله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتل ابنه معه ببدر كافرا قتله أبو دجانة وقتل ابن ابنه عتيب قتله حمزة وعلي اشتركا في قتله وقتل ابن ابنه الحارث بن زمعة بن الأسود قتله علي وقيل هو الحارث بن الأسود والأول أصح وهو القائل:
(أتبكي أن يضل لها بعير * ويمنعها من النوم السهود)
ومات والناس يتجهزون إلى أحد وهو يحرض الكفار وهو مريض.
ومنهم: مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف يكنى أبا الريان وكان ممن يؤذي رسول الله ويشتمه ويسمعه ويكذبه وأسر ببدر وقتل كافرا صبرا قتله حمزة.
ومنهم مالك بن الطلاطلة بن عمرو بن غبشان من المستهزئين وكان سفيها فدعا عليه رسول الله فأشار جبرائيل إلى رأسه فامتلأ قيحا فمات.
ومنهم ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب كان شديد العداوة لقي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال يا بن أخي بلغني عنك أمر ولست بكذاب فإن صرعتني علمت أنك صادق ولم يكن يصرعه أحد فصرعه
75

النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات ودعاه رسول الله إلى الإسلام فقال لا أسلم حتى تدعو هذه الشجرة فقل لها رسول الله أقبلي فأقبلت تخد الأرض فقال ركانة ما رأيت سحرا أعظم من هذا مرها فلترجع فأمرها فعادت فقال هذا سحر عظيم.
هؤلاء أشد عداوة لرسول الله ومن عداهم من رؤساء قريش كانوا أقل عداوة من هؤلاء كعبة وشيبة وغيرهما وكان جماعة من قريش من أشد الناس عليه فأسلموا تركنا ذكرهم لذلك منهم أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وعبد الله بن أبي أمية المخزومي أخو أم سلمة لأبيها وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب عمة رسول الله وأبو سفيان بن حرب والحكم بن أبي العاص والد مروان وغيرهم اسلموا يوم الفتح.
ذكر الهجرة إلى أرض الحبشة
ولما رأى رسول الله ما يصيب أصحابه من البلاء وما هو فيه من العافية بمكانه من الله عز وجل وعمه أبي طالب وأنه لا يقدر على أن يمنعهم قال لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن فيها ملكا لا يظلم أحد عنده حتى يجعل الله لكم فرجا ومخرجا مما أنتم فيه فخرج المسلمون إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة وفرارا إلى الله بدينهم فكانت أول هجرة في الإسلام فخرج عثمان بن عفان وزوجته رقية ابنة النبي معه وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة وامرأته معه سهلة بنت سهيل والزبير بن العوام وغيرهم تمام عشرة رجال وقيل:
76

أحد عشرة رجلا وأربع نسوة وكان مسيرهم في رجب سنة خمس من النبوة وهي السنة الثانية من إظهار الدعوة فأقاموا شعبان وشهر رمضان.
وقدموا في شوال سنة خمس من النبوة وكان سبب قدومهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم [أنه] لما رأى مباعدة قومه له شق عليه وتمنى أن يأتيه الله بشيء يقاربهم به وحدث نفسه بذلك فأنزل الله (والنجم إذا هوى) فلما وصل إلى قوله (أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى) ألقى الشيطان على لسانه لما كان تحدث به نفسه تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترجى فلما سمع ذلك قريش سرهم والمسلمون مصدقون بذلك لرسول الله لا يتهمونه ولا يظنون به سهوا ولا خطأ فلما انتهى إلى سجدة سجد معه المسلمون والمشركون إلا الوليد بن المغيرة فإنه لم يطق السجود لكبره فأخذ كفا من البطحاء فسجد عليها ثم تفرق الناس وبلغ الخبر من بالحبشة من المسلمين إن قريشا أسلمت فعاد منهم قوم وتخلف قوم وأتى جبرائيل رسول الله فأخبره بما قرأ فحزن رسول الله وخاف فأنزل الله تعالى (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته) فذهب عنه الحزن والخوف.
واشتدت قريش على المسلمين فلما قرب المسلمون الذين كانوا بالحبشة من مكة بلغهم أن إسلام أهل مكة باطل فلم يدخل أحد منهم إلا بجوار أو مستخفيا فدخل عثمان في جوار أبي أحيحة سعيد بن العاص بن أمية فأمن بذلك ودخل أبو حذيفة بن عتبة بجوار أبيه ودخل عثمان بن مظعون بجوار الوليد بن المغيرة ثم قال أكون في ذمة مشرك جوار الله أعز فرد عليه جواره وكان لبيد بن ربيعة ينشد قريشا قوله:
77

(ألا كل ما خلا الله باطل).
فقال: عثمان بن مظعون صدقت فلما قال:
وكل نعيم لا محالة زائل
قال: كذبت نعيم الجنة لا يزول فقال لبيد يا معشر قريش ما كانت مجالسكم هكذا ولا كان السفه من شأنكم فأخبروه خبره وخبر ذمته فقام بعض بني المغيرة فلطم عين عثمان فضحك الوليد شماته به حيث رد جواره وقال لعثمان ما كان أغناك عن هذا!
فقال: إن عيني الأخرى لمحتاجة إلى ما نال لمثل هذا. فقال: له هل لك أن تعود إلى جواري قال لا أعود إلى جوار غير الله فقام سعد بن أبي وقاص إلى الذي لطم عين عثمان فكسر أنفه فكان أول دم أريق في الإسلام في قول.
وأقام المسلمون بمكة يؤذون، فلما رأوا ذلك رجعوا مهاجرين إلى الحبشة ثانيا فخرج جعفر بن أبي طالب وتتابع المسلمون إلى الحبشة فكمل بها تمام اثنين وثمانين رجلا والنبي مقيم بمكة يدعوا الله سرا وجهرا فلما رأت قريش أنه لا سبيل لها إليه رموه بالسحر والكهانة والجنون وأنه شاعر وجعلوا يصدون عنه من خافوا أن يسمع قوله وكان أشد ما بلغوا منه ما ذكره عبد الله بن عمرو بن العاص قال حضرت قريش يوما بالحجر فذكروا النبي وما نال منهم وصبرهم عليه فبينما هم كذلك إذ طلع النبي ومشى حتى استلم الركن ثم مر بهم طائفا فغمزوه ببعض القول فعرفت ذلك في وجهه،
78

ثم مضى فلما مر بهم الثانية غمزوه مثلها ثم الثالثة فقال أتسمعون يا معشر قريش والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذبح قال فكأنما على رؤوسهم الطير واقع حتى إن أشدهم فيه ليرفؤه بأحسن ما يجد وانصرف رسول الله حتى إذا كان الغد اجتمعوا في الحجر فقال بعضهم لبعض ذكرتم ما بلغ منكم حتى إذا أتاكم بما تكرهون تركتموه فبينما هم كذلك إذ طلع رسول الله فوثبوا إليه وثبة رجل واحد يقولون له أنت الذي تقول كذا وكذا فيقول أنا الذي أقول ذلك فأخذ عقبة بن أبي معيط بردائه وقام أبو بكر الصديق دونه يقول وهو يبكي ويلكم (أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله) ثم انصرفوا عنه هذا أشد ما بلغت منه.
ذكر إرسال قريش إلى النجاشي في طلب المهاجرين
لما رأت قريش أن المهاجرين قد اطمأنوا بالحبشة وأمنوا وأن النجاشي قد أحسن صحبتهم ائتمروا بينهم فبعثوا عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي أمية ومعهما هدية إليه وإلى أعيان أصحابه فسارا حتى وصلا الحبشة فحملا إلى النجاشي هديته وإلى أصحابه هداياهم وقالا لهم إن ناسا من سفهائنا فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دين الملك وجاؤوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن
79

ولا أنتم وقد أرسلنا أشراف قومهم إلى الملك ليردهم إليهم فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يرسلهم معنا من غير أن يكلمهم وخافا أن يسمع النجاشي كلام المسلمين أن لا يسلمهم فوعدهما أصحاب النجاشي المساعدة على ما يريدان ثم إنهما حضرا عند النجاشي فأعلماه ما قد قالاه فأشار أصحابه بتسليم المسلمين إليهما فغضب من ذلك وقال لا والله لا أسلم قوما جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوهم وأسألهم عما يقول هذان فإن كانا صادقين سلمتهم إليهما وإن كانوا على غير ما يذكر هذان منعتهم وأحسنت جوارهم.
ثم أرسل النجاشي إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فدعاهم فحضروا وقد أجمعوا على صدقه فيما ساءه وسره وكان المتكلم عنهم جعفر بن أبي طالب فقال لهم النجاشي ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا دين أحد من الملل؟ فقال جعفر: أيها الملك كنا أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا لتوحيد الله وأن لا يشرك به شيئا ونخلع ما كنا نعبد من الأصنام وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وأمرنا بالصلاة والصيام وعدد عليه أمور الإسلام، قال: فآمنا به وصدقناه وحرمنا ما حرم علينا وحللنا ما أحل لنا فتعدى علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان فلما قهرونا وظلمونا وحالوا بيننا وبين
80

ديننا خرجنا إلى بلادك واخترنا على من سواك ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك.
فقال النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله شيء؟ قال: نعم، فقرأ عليه سطرا من كهيعص فبكى النجاشي وأساقفته وقال النجاشي إن هذا والذي جاء به عيسى يخرج من مشكاة واحدة انطلقا والله لا أسلمهم إليكما أبدا!
فلما خرجا من عنده قال عمرو بن العاص: والله لآتينه غدا بما يبيد خضراءهم. فقال له عبد الله بن أبي أمية، وكان أتقى الرجلين: لا تفعل فإن لهم أرحاما.
فلما كان الغد قال للنجاشي: إن هؤلاء يقولون في عيسى بن مريم قولا عظيما. فأرسل النجاشي فسألهم عن قولهم في المسيح. فقال جعفر: نقول في الذي جاءنا به نبينا: هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول فأخذ النجاشي عودا من الأرض وقال: ما عدى عيسى ما قلت هذا العود فنخرت بطارقته فقال وإن نخرتم وقال للمسلمين: اذهبوا فأنتم آمنون ما أحب أن لي جبلا من ذهب وإنني آذيت رجلا منكم ورد هدية قريش وقال: ما أخذ الله الرشوة مني حتى آخذها منكم ولا أطاع الناس في حتى أطيعهم فيه وأقام المسلمون بخير دار.
وظهر ملك من الحبشة فنازع النجاشي في ملكه فعظم ذلك على المسلمين وسار النجاشي إليه ليقاتله وأرسل المسلمون الزبير بن العوام ليأتيهم بخبره
81

وهم يدعون له فاقتتلوا فظفر النجاشي فما سر المسلمون بشيء سرورهم بظفره.
قيل: إن معنى قوله إن الله لم يأخذ الرشوة مني أن أبا النجاشي لم يكن له ولد غيره وكان له عم قد أولد اثني عشر ولدا فقالت الحبشة لو قتلنا أبا النجاشي وملكناه أخاه فإنه لا ولد له غير ذلك الغلام وكان أخوه وأولاده يتوارثون الملك دهرا فقتلوا أباه وملكوا عمه ومكثوا على ذلك حينا وبقي النجاشي عند عمه وكان عاقلا فغلب على أمر عمه فخافت الحبشة أن يقتلهم جزاء لقتل أبيه فقالوا لعمه إما أن تقتل النجاشي وإما أن تخرجه من بين أظهرنا فقد خفناه فأجابهم إلى إخراجه من بلادهم على كره منه فخرجوا إلى السوق فباعوه من تاجر بستمائة درهم فسار به التاجر في سفينته فلما جاء العشاء هاجت سحابة فأصابت عمه بصاعقة ففزعت الحبشة إلى أولاده فإذا هم لا خير فيهم فهرج على الحبشة أمرهم فقال بعضهم: والله لا يقيم أمركم إلا النجاشي فإن كان لكم بالحبشة رأى فأدركوه.
فخرجوا في طلبه حتى أدركوه وملكوه وجاء التاجر وقال لهم إما أن تعطوني مالي وإما أن أكلمه فقالوا كلمه فقال أيها الملك ابتعت غلاما بستمائة درهم ثم أخذوا الغلام والمال فقال النجاشي: إما أن تعطوه دراهمه وإما أن يضع الغلام يده في يده فليذهبن به حيث شاء فأعطوه دراهمه فهذا معنى قوله. فكان ذلك أول ما علم من عدله ودينه.
قال: ولما مات النجاشي كانوا لا يزالون يرون على قبره نورا.
82

ذكر إسلام حمزة بن عبد المطلب
ثم إنا أبا جهل مر برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس عند الصفا فآذاه وشتمه ونال منه وعاب دينه ومولاة لعبد الله بن جدعان في مسكن لها تسمع ذلك ثم انصرف عنه فجلس في نادي قريش عند الكعبة فلم يلبث حمزة بن عبد المطلب أن أقبل من قنصه متوشحا قوسه وكان إذا رجع لم يصل إلى أهله حتى يطوف بالكعبة وكان يقف على أندية قريش ويسلم عليهم ويتحدث معهم وكان أعز قريش وأشدهم شكيمة فلما مر بالمولاة وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجع إلى بيته، فقالت له: يا أبا عمارة لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد من أبي الحكم بن هشام فإنه سبه وآذاه ثم انصرف عنه ولم يكلمه محمد قال فاحتمل حمزة الغضب لما أراد الله به من كرامته فخرج سريعا لا يقف على أحد كما يصنع يريد الطواف بالكعبة معدا لأبي جهل إذا لقيه أن يقع به حتى دخل المسجد فرآه جالسا في القوم فأقبل نحوه وضرب رأسه بالقوس فشجه شجة منكرة، وقال: أتشتمه وأنا على دينه أقول ما يقول؟ فاردد علي إن استطعت.
وقامت رجال بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل، فقال أبو جهل: دعوا أبا عمارة فإني سببت ابن أخيه سبا قبيحا. وتم حمزة على إسلامه.
فلما أسلم حمزة عرفت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عز وأن حمزة سيمنعه فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه.
واجتمع يوما أصحابه فقالوا ما سمعت قريش القرآن يجهر لها به فمن رجل يسمعهموه فقال ابن مسعود أنا فقالوا نخشى عليك إنما نريد من له عشيرة يمنعونه. قال: إن الله سيمنعني. فغدا عليهم في الضحى حتى أتى المقام وقريش في أنديتها ثم رفع صوته وقرأ سورة الرحمن، فلما علمت
83

قريش أنه يقرأ القرآن قاموا إليه يضربونه وهو يقرأ ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثروا بوجهه فقالوا: هذا الذي خشينا عليك فقال: ما كان أعداء الله أهون علي منهم اليوم ولئن شئتم لأغادينهم قالوا حسبك قد أسمعتهم ما يكرهون.
ذكر إسلام عمر بن الخطاب
ثم أسلم عمر بعد تسعة وثلاثين رجلا وثلاث وعشرين امرأة، وقيل: أسلم بعد أربعين رجلا وإحدى وعشرين امرأة، وقيل: أسلم بعد خمسة وأربعين رجلا وإحدى وعشرين امرأة، وكان رجلا جلدا منيعا وأسلم بعد هجرة المسلمين إلى الحبشة وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يقدرون يصلون عند الكعبة حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتل قريشا حتى صلى عندها وصلى معه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
وكان قد أسلم قبله حمزة بن عبد المطلب، فقوي المسلمون بهما، وعلموا أنهما سيمنعان رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين.
قالت أم عبد الله بنت أبي حثمة وكانت زوج عامر بن ربيعة إنا لنرحل إلى أرض الحبشة وقد ذهب عامر لبعض حاجته إذ أقبل عمر وهو على شركه حتى وقف علي وكنا نلقى منه البلاء أذى وشدة فقال أتنطلقون يا أم عبد الله قالت قلت نعم والله لنخرجن في أرض الله فقد آذيتمونا وقهرتمونا حتى يجعل الله لنا فرجا قالت فقال صحبكم الله ورأيت له رقة وحزنا قالت فلما عاد عامر أخبرته وقلت له لو رأيت عمر ورقته وحزنه علينا قال أطمعت في إسلامه قالت نعم فقال لا يسلم حتى يسلم حمار الخطاب لما كان يرى من غلظته وشدته على المسلمين فهداه الله
تعالى
84

فأسلم فصار على الكفار أشد منه على المسلمين.
وكان سبب إسلامه أن أخته فاطمة بنت الخطاب كانت تحت سعيد بن زيد بن عمرو العدوي وكانا مسلمين يخفيان إسلامه من عمر وكان نعيم بن عبد الله النحام العدوي قد أسلم أيضا وهو يخفي إسلامه فرقا من قومه وكان خباب بن الأرت يختلف إلى فاطمة يقرأها القرآن فخرج عمر يوما ومعه سيف يريد النبي والمسلمين وهم مجتمعون في دار الأرقم عند الصفا وعنده من يهاجر من المسلمين في نحو أربعين رجلا فلقيه نعيم بن عبد الله فقال أين تريد يا عمر فقال أريد محمدا الذي فرق أمر قريش وعاب وسب آلهتها فأقتله فقال نعيم والله لقد غرتك نفسك أترى بني عند مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمدا أفلا ترجع إلى أهلك فتقيم أمرهم قال وأي أهلي قال ختنك وابن عمك سعيد بن زيد وأختك فاطمة فقد والله أسلما.
فرجع عمر إليهما وعندهما خباب بن الأرت يقرأهما القرآن. فلما سمعوا حس عمر تغيب خباب وأخذت فاطمة الصحيفة فألقتها تحت فخذيها، وقد سمع عمر قراءة خباب فلما دخل قال ما هذه الهينمة قالا ما سمعت شيئا؟ قال: بلى، وقد أخبرت أنكما تابعتما محمد على دينه وبطش بختنه سعيد بن زيد فقامت إليه أخته لتكفه فضربها فشجها فلما فعل ذلك قالت له أخته وختنه قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله، فاصنع ما شئت.
ولما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم وقال لهما أعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرأون فيها الآن حتى أنظر إلى ما جاء به محمد قالت إنا نخشاك عليها فحلف أنه يعيدها قالت له وقد طمعت في إسلامه إنك نجس على شركك ولا يمسها إلا المطهرون فقام فاغتسل فأعطته الصحيفة وقرأها
85

وفيها طه وكان كاتبا فلما قرأ بعضها قال ما أحسن هذا الكلام وأكرمه فلما سمع خباب خرج إليه وقال يا عمر إني والله لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه فإني سمعته أمس وهو يقول اللهم أيد الاسلام بعمر بن الخطاب أو بأبي الحكم بن هشام فالله الله يا عمر! فقال عمر عند ذلك: فدلني يا خباب على محمد حتى آتيه فأسلم فدله حباب فأخذ سيفه وجاء إلى النبي وأصحابه فضرب عليه الباب فقام رجل منهم فنظر من [خلل] الباب فرآه متوشحا سيفه فأخبر النبي بذلك فقال حمزة ائذن له فإن كل جاء يريد خيرا بذلناه له وإن أراد شرا قتلناه بسيفه.
فأذن له فنهض إليه النبي حتى لقيه فأخذ بمجامع ردائه ثم جذبه جذبة شديدة وقال: ما جاء بك؟ ما أراك تنتهي حتى ينزل الله عليك القارعة. فقال عمر: يا رسول الله جئت لأومن بالله وبرسوله فكبر تكبيرة عرف من في البيت أن عمر أسلم فلما أسلم قال له أي قريش أنقل للحديث؟ قيل: جميل بن معمر الجمحي فجاءه فأخبره بإسلامه فمشى إلى المسجد وعمر وراءه وصرخ: يا معشر قريش ألا إن ابن الخطاب قد صبأ فيقول عمر من خلفه كذب ولكني أسلمت فقاموا فلم يزل يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس وأعيا فقعد وهم على رأسه فقال افعلوا ما بدا لكم فلو كنا ثلاثمائة نفر تركناها لكم أو تركتموها لنا، يعني مكة.
فبينما هم كذلك إذ أقبل شيخ عليه حلة فقال ما شأنكم قالوا صبأ عمر قال فمه رجل اختار لنفسه أمر فماذا تريدون أترون بن عدي
86

يسلمون لكن صاحبهم هكذا خلوا عن الرجل وكان الرجل العاص بن وائل السهمي.
قال عمر: لما أسلمت أتيت باب أبي جهل بن هشام فضربت عليه بابه فخرج إلي وقال مرحبا بابن أخي ما جاء بك قلت جئت لأخبرك أني قد أسلمت وآمنت بمحمد وصدقت ما جاء به قال فضرب الباب في وجهي وقال قبحك الله وقبح ما جئت به!
وقيل في إسلامه غير هذا.
ذكر أمر الصحيفة
ولما رأت قريش الاسلام يفشو ويزيد وأن المسلمين قووا بإسلام حمزة وعمر وعاد إليهم عمرو بن العاص وعبد الله بن أمية من النجاشي بما يكرهون من منع المسلمين عنهم وأمنهم عنده ائتمروا في أن يكتبوا كتابا يتعاقدون فيه على أن لا ينكحوا بني هاشم وبني المطلب ولا ينكحوا إليهم ولا يبيعوهم ولا يبتاعون منهم شيئا فكتبوا بذلك صحيفة وتعاهدوا على ذلك ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيدا لذلك الأمر على أنفسهم فلما فعلت قريش ذلك انحازت بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبي طالب فدخلوا معه في شعبه واجتمعوا.
وخرج من بني هاشم أبو لهب بن عبد المطلب إلى قريش فلقي هندا بنت عتبة فقال: كيف رأيت نصري اللات والعزة؟ قالت: لقد أحسنت فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثا حتى جهدوا لا يصل إلى أحد منهم شيء إلا سرا.
وذكروا أن أبا جهل لقي حكيم بن حزام بن خويلد ومعه قمح يريد به
87

عمته خديجة، وهي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب، فتعلق به وقال: والله لا تبرح حتى أفضحك. فجاء أبو البختري بن هشام فقال: مالك وله؟ عنده طعام لعمته أفتمنعه أن يحمله إليها؟ خل سبيله. فأبى أبو جهل فنال منه فضربه أبو البختري بلحى جمل فشجه ووطئه وطئا شديدا وحمزة ينظر إليهم وهم يكرهون أن يبلغ النبي ذلك فيشمت بهم هو والمسلمون ورسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس سرا وجهرا والوحي متتابع إليه فبقوا كذلك ثلاث سنين.
وقام في نقض الصحيفة نفر من قريش وكان أحسنهم بلاء فيه هشام بن عمرو بن الحارث بن عمرو بن لؤي وهو ابن أخي نضلة بن هشام بن عبد مناف لأمه. وكان يأتي بالبعير قد أوقر طعاما ليلا ويستقبل به الشعب ويخلع خطامه فيدخل الشعب فلما رأى ما هم فيه وطول المدة عليهم مشى إلى زهير بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي أخي أم سلمة وكان شديد الغيرة على النبي والمسلمين وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب فقال يا زهير أرضيت أن تأكل الطعام وتلبس الثياب وتنكح النساء وأخوالك حيث قد علمت أما إني أحلف بالله لو كانوا أخوال أبي الحكم يعني أبا جهل ثم دعوته إلى ما دعاك إليه ما أجابك أبدا فقال ماذا أصنع وإنما أنا رجل واحد والله لو كان معي رجل آخر لنقضتها فقال قد وجدت رجلا قال ومن هو قال أنا قال زهير أبغنا ثالثا فذهب إلى المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف فقال له أرضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف وأنت شاهد ذلك موافق فيه أما والله لئن أمكنتموهم من هذه لتجدنهم إليها منكم أسرع قال ما أصنع إنما أنا رجل واحد قال قد وجدت ثانيا قال من هو قال: أنا. قال: أبغنا ثالثا. قال: قد فعلت.
88

قال: من هو؟ قال: زهير بن أبي أمية. قال: أبغنا رابعا فذهب إلى أبي البحتري بن هشام وقالوا له نحو مما قال للمطعم قال: وهل من أحد يعين على هذا؟ قال: نعم. قال: من هو؟ قال أنا وزهير والمطعم قال ابغنا خامسا فذهب إلى زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد فكلمه وذكر له قرابتهم قال وهل على هذا الأمر معين؟ قال: نعم، وسمى له القوم، فاتعدوا خطم الحجون الذي بأعلى مكة فاجتمعوا هنالك وتعاهدوا على القيام في نقض الصحيفة. فقال زهير: أنا أبدأكم.
فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم وغدا زهير فطاف بالبيت ثم أقبل على الناس فقال يا أهل مكة أنأكل ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى لا يبتاعون ولا يبتاع منهم والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة قال أبو جهل كذبت والله لا تشق قال زمعة بن الأسود أنت والله أكذب ما رضينا بها حين كتبت قال أبو البختري صدق زمعة لا نرضى ما كتب فيها قال المطعم بن عدي صدقتما وكذب من قال غير ذلك وقال هشام بن عمرو نحوا من ذلك قال أبو جهل هذا أمر قضي بليل وأبو طالب في ناحية المسجد.
فقام المطعم إلى الصحيفة ليشقها فوجد الأرضة قد أكلتها إلا ما كان: باسمك اللهم كانت تفتح بها كتبها وكان كاتب الصحيفة منصور بن عكرمة فشلت يده.
وقيل كان سبب خروجهم من الشعب أن الصحيفة لما كتبت وعلقت بالكعبة اعتزل الناس بني هاشم وبني المطلب، وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو طالب ومن معهما بالشعب ثلاث سنين فأرسل الله الأرضة
89

وأكلت ما فيها من ظلم وقطيعة رحم وتركت ما فيها من أسماء الله تعالى فجاء جبرائيل إلى النبي فأعلمه بذلك فقال النبي لعمه أبي طالب وكان أبو طالب لا يشك في قوله فخرج من الشعب إلى الحرم فاجتمع الملأ من قريش وقال إن ابن أخي أخبرني أن الله أرسل على صحيفتكم الأرضة فأكلت ما فيها من قطيعة رحم وظلم وتركت اسم الله تعالى فأحضروها فإن كان صادقا علمتم أنكم ظالمون لنا قاطعون لأرحامنا وإن كان كاذبا علمنا أنكم على حق
وأنا على باطل.
فقاموا سراعا وأحضروا، فوجدوا الأمر كما قاله رسول الله وقويت نفس أبي طالب واشتد صوته وقال قد تبين لكم أنكم أولى بالظلم والقطيعة فنكسوا رؤوسهم ثم قالوا: إنما تأتوننا بالسحر والبهتان وقام أولئك النفر في نقضها كما ذكرنا وقال أبو طالب في أمر الصحيفة وأكل الأرضة ما فيها من ظلم وقطيعة رحم أبياتا منها:
(وقد كان في أمر الصحيفة عبرة * متى ما يخبر غائب القوم يعجب)
(محا الله منهم كفرهم وعقوقهم * وما نقموا من ناطق الحق معرب)
(فأصبح ما قالوا من الأمر باطلا * ومن يختلق ما ليس بالحق يكذب)
ذكر وفاة أبي طالب وخديجة وعرض رسول الله
صلى الله عليه وسلم نفسه على العرب
توفي أبو طالب وخديجة قبل الهجرة بثلاث سنين وبعد خروجهم من الشعب فتوفي أبو طالب في شوال أو في ذي القعدة وعمره بضع وثمانون سنة وكانت خديجة ماتت قبله بخمسة وثلاثين يوما وقيل كان بينهما خمسة وخمسون
90

يوما، وقيل: ثلاثة أيام فعظمت المصيبة على رسول الله بهلاكهما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما نالت قريش مني شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب وذلك أن قريشا وصلوا من أذاه بعد موت أبي طالب إلى ما لم يكونوا يصلون إليه في حياته حتى ينثر بعضهم التراب على رأسه وحتى إن بعضهم يطرح عليه رحم الشاة وهو يصلي وكان رسول الله يخرج ذلك على العود ويقول أي جوار هذا يا بني عبد مناف! ثم يلقيه بالطريق.
فلما اشتد عليه الأمر بعد موت أبي طالب خرج ومعه زيد بن حارثة إلى ثقيف يلتمس منهم النصر فلما انتهى إليهم عمد إلى ثلاثة نفر منهم وهم يومئذ سادة ثقيف وهم اخوة [ثلاثة]: عبد ياليل ومسعود وحبيب بنو عمرو بن عمير فدعاهم إلى الله وكلمهم في نصرته على الاسلام والقيام معه على من خالفه فقال أحدهم مارد يمرط ثياب الكعبة ان كان الله أرسلك وقال آخر: أما وجد الله من يرسله غيرك! وقال الثالث: والله لا أكلمك كلمة أبدا، لئن كنت رسولا من الله كما تقول لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك ولئن كنت تكذب على الله فما ينبغي لي أن أكلمك.
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد يئس من خير ثقيف وقال لهم إذا أبيتم فاكتموا علي ذلك وكره أن يبلغ قومه فلم يفعلوا وأغروا به سفهاءهم فاجتمعوا إليه وألجأوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة وهو البستان وهما فيه ورجع السفهاء عنه وجلس إلى ظل حبلة وقال الله إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهو أني على الناس اللهم يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني أو إلى عدو ملكته أمري إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي! ولكن عافيتك
91

هي أوسع إني أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو تحل بي سخطك.
فلما رأى ابنا ربيعة ما لحقه تحركت له رحمهما فدعوا غلاما لهما نصرانيا اسمه عداس فقالا له خذ قطفا من هذا العنب واذهب به إلى ذلك الرجل، ففعل فلما وضعه بين يدي رسول الله وضع يده فيه وقال بسم الله ثم أكل فقال عداس والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة فقال له النبي من أي البلاد أنت وما دينك؟ قال: أنا نصراني من أهل نينوى فقال رسول الله أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متى قال له وما يدريك ما يونس قال رسول الله ذلك أخي كان نبيا وأنا نبي فأكب عداس على يدي رسول الله ورجليه يقبلهما فعاد.
فيقول ابنا الربيعة أحدهما للآخر: أما غلامك فقد أفسده عليك. فلما جاء عداس قالا له: ويحك مالك تقبل يديه ورجليه؟ قال: ما في الأرض خير من هذا الرجل. قالا: ويحك إن دينك خير من دينه!
ثم انصرف رسول الله راجعا إلى مكة حتى إذا كان في جوف الليل قام قائما يصلي فمر به نفر من الجن وهم سبعة نفر من جن نصيبين رائحين إلى اليمن فاستمعوا له فلما فرغ من صلاته ولو إلى قومهم منذرين قد آمنوا وأجابوا.
وذكر بعضهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عاد من ثقيف أرسل إلى المطعم بن عدي ليجيره حتى يبلغ رسالة ربه فأجاره وأصبح
92

المطعم قد لبس سلاحه هو وبنوه وبنو أخيه فدخلوا المسجد فقال أبو جهل أمجير أم متابع قال بل مجير قال قد أجرنا من أجرت فدخل النبي مكة وأقام بها فلما رآه أبو جهل قال هذا نبيكم يا عبد مناف فقال عتبة بن ربيعة وما ينكر أن يكون منا نبي وملك.
فأخبر رسول الله بذلك فأتاهم فقال ما أنت يا عتبة فما حميت لله وإنما حميت لنفسك وأما أنت يا أبا جهل فوالله لا يأتي عليك غير بعيد حتى تضحك قليلا وتبكي كثيرا وأما أنتم يا معشر قريش فوالله لا يأتي عليكم غير كثير حتى تدخلوا فيما تنكرون وأنتم كارهون فكان الأمر كذلك.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه في المواسم على قبائل العرب فأتى كندة في منازلهم وفيهم سيد يقال له مليح فدعاهم إلى الله وعرض نفسه عليهم فأبوا عليه فأبى كلبا إلى بطن منهم يقال لهم [بنو] عبد الله فدعاهم إلى الله وعرض نفسه عليهم فلم يقبلوا ما عرض عليهم ثم إنه أتى حنيفة وعرض عليهم نفسه فلم يكن أحد من العرب أقبح ردا عليه منهم ثم أتى بني عامر فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه فقال له رجل منهم أرأيت إن نحن تابعناك فأظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء. قال له: أفنهدف نحورنا للعرب دونك فإذا ظهرت كان الأمر لغيرنا؟ لا حاجة لنا بأمرك.
فلما رجع بنو عامر إلى شيخ لهم كبير فأخبروه خبر النبي صلى الله عليه وسلم ونسبه فوضع يده على رأسه ثم قال يا بني عامر هل من تلاف؟ والذي نفسي بيده ما تقولها إسماعيلي قط وإنها لحق وأين كان رأيكم عنه!
93

ولم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على كل قادم له اسم وشرف ويدعوه إلى الله وكان كلما أتى قبيلة يدعوهم إلى الإسلام تبعه عمه أبو لهب فإذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من كلامه يقول لهم أبو لهب يا بني فلان إنما يدعوكم هذا إلى أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم وحلفاءكم من الجن إلى ما جاء به من الضلالة والبدعة فلا تطيعوه ولا تسمعوا له.
ذكر أول عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم
نفسه على الأنصار وإسلامهم
فقدم سويد بن الصامت أخو بني عمرو بن عوف بطن من الأوس مكة حاجا ومعتمرا وكان يسمى الكامل لجلده وشعره ونسبه وهو القائل:
(ألا رب من تدعو صديقا ولو ترى * مقالته بالغيب ساءك ما يفري)
(مقالته كالسحر إذا كان شاهدا * وبالغيب مأثور على ثغرة النحر)
(يسرك باديه وتحت أديمه * نميمة غش تبتري عقب الظهر)
(تبين لك العينان ما هو كاتم * وما جن بالبغضاء والنظرة الشزر)
(فرشني بخير طالما قد بريتني * فخير الموالي من يريش ولا يبري)
فتصدى له رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاه إلى الاسلام، وقرأ
94

عليه القرآن فلم يبعد منه وقال: أن هذا القول حسن ثم انصرف وقدم المدينة فلم يلبث أن قتله الخزرج قتل يوم بعاث فكان قومه يقولون قتل وهو مسلم.
(بعاث بالباء الموحد المضمومة والعين المهملة وهو الصحيح).
وقدم أبو الحيسر أنس بن رافع مكة مع فتية من بني عبد الأشهل فيهم إياس بن معاذ يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج فأتاهم النبي وقال لهم هل لكم فيما هو خير لكم مما جئتم له ودعاهم إلى الاسلام وقرأ عليهم القرآن فقال إياس وكان غلاما حدثا هذا والله خير مما جئنا له فضرب وجهه أبو الحيسر بحفنة من البطحاء وقال دعنا منك فلقد جئنا لغير هذا فسكت إياس وقام رسول الله ولم يلبث إياس أن هلك فسمعه قومه يهلل الله ويكبره حتى مات فما يشكون أنه مات مسلما.
ذكر بيعة العقبة الأولى وإسلام سعد بن معاذ
فلما أراد الله إظهار دينه وإنجاز وعده خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في المواسم الذي لقي فيه النفر من الأنصار فعرض نفسه على القبائل كما كان يفعله فبينما هو عند العقبة لقي رهطا من الخزرج فدعاهم إلى الله وعرض عليهم الاسلام وقد كانت يهود معهم ببلادهم وكان هؤلاء أهل أوثان فكانوا إذا كان بينهم شر تقول اليهود إن نبيا يبعث الآن نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وثمود فقال أولئك النفر بعضهم لبعض هذا والله
95

النبي الذي توعدكم به اليهود فأجابوه وصدقوه وقالوا له: إن بين قومنا شرا وعسى الله أن يجمعهم بك فإن اجتمعوا عليك فلا رجل أعز منك. ثم انصرفوا عنه، وكانوا سبعة نفر من الخزرج أسعد بن زرارة بن عدس أبو أمامة وعوف بن الحارث بن رفاعة وهو ابن عفراء كلاهما من بني النجار ورافع بن مالك بن عجلان وعارم بن عبد حارثة بن ثعلبة بن غنم كلاهما من بني زريق وقطبة بن عامر بن حديدة بن سواد من بني سلمة _ سلمة هذا بكسر اللام _، وعقبة بن عامر بن نابئ من بني غنم وجابر بن عبد الله بن رياب من بني عبيدة.
(رياب بكسر الراء والياء المعجمة باثنتين من تحت وبالباء الموحدة).
فلما قدموا المدينة ذكروا لهم النبي صلى الله عليه وسلم ودعوهم إلى الاسلام حتى فشا فيهم حتى إذا كان العام المقبل وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلا فلقوه بالعقبة وهي العقبة الأولى فبايعوه بيعة النساء وهم أسعد بن زرارة وعوف ومعاذ ابنا الحارث وهما ابنا عفراء ورافع بن مالك بن عجلان وذكوان بن عبد قيس من بني زريق وعبادة بن الصامت من بني عوف بن الخزرج ويزيد بن ثعلبة بن خزمة أبو عبد الرحمن من بلى حليف لهم وعباس بن عبادة بن نضلة من بني سالم وعقبة بن عامر بن نابئ وقطبة بن عامر بن حديدة وهؤلاء من الخزرج وشهدها من الأوس أبو الهيثم بن التيهان حليف لبني عبد الأشهل وعويم بن ساعدة حليف لهم.
فانصرفوا عنه وبعث صلى الله عليه وسلم معهم مصعب بن عمير بن هشام بن عبد مناف بن عبد الدار وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الاسلام،
96

فنزل بالمدينة على أسعد بن زرارة فخرج به أسعد بن زرارة فجلس في دار بني ظفر واجتمع عليهما رجال ممن أسلم فسمع به سعد بن معاذ وأسيد بن حضير وهما سيدا بني عبد الأشهل وكلاهما مشرك فقال سعد لأسيد انطلق إلى هذين اللذين أتينا دارنا عليهما فقال ما جاء بكما تسفهان ضعفاءنا؟ اعتزلا عنا. فقال مصعب أو تجلس فتسمع فإن رضيت أمرا قبلته وإن كرهته كف عنك ما تكره فقال أنصفت ثم جلس إليهما فكلمه مصعب بالاسلام فقال من أحسن هذا وأجله كيف تصنعون إذا دخلتهم في هذا الدين قالا تغتسل وتطهر ثيابك ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلي ركعتين. ففعل ذلك وأسلم. ثم قال لهما إن ورائي رجلا إن تبعكما لم يتخلف عنكما أحد من قومه وسأرسله إليكما سعد بن معاذ.
ثم انصرف إلى سعد وقومه، فلما نظر إليه سعد قال: أحلف بالله لقد جائكم بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم! فقال له سعد: ما فعلت؟ قال: كلمت الرجلين. والله ما رأيت بهما بأسا وقد حدثت أن بني حارثة قد خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه فقام سعد مغضبا مبادرا لخوفه مما ذكر له ثم خرج إليهما فلما رآهما مطمئنين عرف ما أراد فوقف عليهما وقال لأسعد بن زرارة لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني فقال له مصعب أوتقعد فتسمع فإن رضيت أمرا قبلته وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره! فجلس فعرض عليه مصعب الاسلام وقرأ عليه القرآن فقال لهما كيف تصنعون إذا دخلتم في هذا الدين؟ فقالا له ما قالا لأسيد، فأسلم وتطهر ثم عاد إلى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير فلما وقف عليهم قال يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا سيدنا وأفضلنا. قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله. قال: فوالله
97

ما أمسى في دار عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلما أو مسلمة.
ورجع مصعب إلى منزل أسعد ولم يزل يدعوا إلى الاسلام حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون إلا ما كان من بني أمية بن زيد ووائل وواقف فإنهم أطاعوا أبا قيس بن الأسلت فوقف بهم عن الاسلام حتى هاجر النبي ومضت بدر وأحد والخندق وعاد مصعب إلى مكة.
(أسيد بضم الهمزة وفتح السين. وحضير بضم الحاء المهملة وفتح الضاد المعجمة وتسكين الياء تحتها نقطتان وفي آخره راء).
ذكر بيعة العقبة الثانية
لما فشا الاسلام في الأنصار اتفق جماعة منهم على المسير إلى النبي مستخفين لا يشعر بهم أحد فساروا إلى مكة في الموسم في ذي الحجة مع كفار قومهم واجتمعوا به وواعدوه أوسط أيام التشريق بالعقبة فلما كان الليل خرجوا بعد مضي ثلثه مستخفين يتسللون حتى اجتمعوا بالعقبة وهم سبعون رجلا معهم امرأتان نسيبة بنت كعب أم عمارة وأسماء أم عمرو بن عدي من بني سلمة وجاءهم رسول الله ومعه عمه العباس بن عبد المطلب وهو كافر أحب أن يتوثق لابن أخيه فكان العباس أول من تكلم فقال يا معشر الخزرج وكانت العرب تسمى الخزرج والأوس به إن محمدا منا حيث قد علمتم في عز ومنعة وإنه قد أبى إلا الانقطاع إليكم فإن كنتم ترون أنكم تفون بما دعوتموه إليه ومانعوه فأنتم وذلك،
98

وإن كنتم ترون أنكم مسلموه فمن الآن فدعوه فإنه في عز ومنعة.
فقال الأنصار قد سمعنا ما قلت فتكلم يا رسول الله وخذ لنفسك وربك ما أحببت.
فتكلم وتلا القرآن ورغب في الاسلام ثم قال تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم.
ثم أخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه ذرارينا فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أهل الحرب.
فاعترض الكلام أبو الهيثم بن التيهان فقال يا رسول الله إن بيننا وبين الناس حبالا وإنا قاطعوها يعني اليهود فهل عسيت إن أظهرك الله عز وجل أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟
فتبسم رسول الله وقال بل الدم الدم والهدم الهدم أنتم مني وأنا منكم أسالم من سالمتم وأحارب من حاربتم. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجوا إلي اثني عشرة نقيبا يكونون على قومهم فأخرجوهم تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس.
وقال لهم العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري: يا معشر الخزرج هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل تبايعونه على حرب
الأحمر والأسود فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتلا أسلمتموه فمن الآن فهو الله خزى الدنيا والآخرة وإن كنتم ترون أنكم وافون له فخذوه فهو والله خير الدنيا والآخرة.
قالوا فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف فما لنا بذلك يا رسول الله
99

قال الجنة قالوا أبسط يدك فبايعوه.
وما قال العباس بن عبادة ذلك إلا ليشد العقد له عليهم وقيل بل قاله ليؤخر الأمر ليحضر عبد الله بن أبي بن سلول فيكون أقوى لأمر القوم.
فكان أول من بايعه أبو أمامة أسعد بن زرارة وقيل أبو الهيثم بن التيهان وقيل البراء بن معرور ثم بايع القوم فبايعوه فلما بايعوه صرخ الشيطان من رأس العقبة يا أهل الجباجب هل لكم في مذمم والصباة معه قد اجتمعوا على حربكم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما والله لأفرغن لك أي عدو الله ثم قال ارفضوا إلي رحالكم فقال له العباس بن عبادة والذي بعثك بالحق نبيا لئن شئت لنميلن غدا على أهل منى بأسيافنا فقال لم نؤمر بذلك فرجعوا.
فلما أصبحوا جاءهم جلة قريش فقالوا قد بلغنا أنكم جئتم إلى صاحبنا تستخرجونه وتبايعونه على حربنا وإنه والله ما من حي من أحياء العرب أبغض إلينا أن تنشب بيننا وبينهم الحرب منكم فحلف من هناك من مشركي الأنصار ما كان من هذا شيء.
فلما سار الأنصار من مكة قال البراء بن معرور يا معشر الخزرج قد رأيت أن لا أستدبر الكعبة في صلاتي فقالوا له أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يستقبل الشام فنحن لا نخالفه فكان يصلي إلى الكعبة فلما قدم مكة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال لقد كنت على قبلة لو صبرت عليها فرجع إلى قبلة رسول الله فلما بايعوه ورجعوا إلى المدينة فكان قدومهم في ذي الحجة فأقام رسول الله صلى الله عليه
100

وسلم بمكة بقية ذي الحجة والمحرم وصفر وهاجر إلى المدينة في شهر ربيع الأول وقدمها لاثنتي عشرة ليلة خلت منه.
وقد كانت قريش لما بلغهم إسلام من أسلم من الأنصار اشتدوا على من بمكة من المسلمين وحرصوا على أن يفتنوهم فأصابهم جهد شديد وهي الفتنة الآخرة وأما الأولى فكانت قبله هجرة الحبشة.
وكانت البيعة في هذه العقبة على غير الشروط في العقبة الأولى فإن الأولى كانت على بيعة النساء وهذه البيعة كان على حرب الأحمر والأسود.
ثم أمر النبي أصحابه بالهجرة إلى المدينة فكان أول من قدمها أبو سلمة ابن عبد الأسد وكانت هجرته قبل البيعة بسنة ثم هاجر بعد عامر بن ربيعة حليف بني عدي مع امرأته ليلى ابنة أبي حشمة، ثم عبد الله بن جحش ومعه أخوه أبو أحمد وجميع أهله فأغلقت دارهم وتتابع الصحابة ثم هاجر عمر بن الخطاب وعياش بن أبي ربيعة فنزلا في بني عمرو بن عوف وخرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام إلى عياش بن أبي ربيعة بالمدينة وكان أخاهما لأمهما فقالا له إن أمك قد نذرت أنها لا تستظل ولا تمتشط فرق لها وعاد وتتابع الصحابة بالهجرة إلى أن هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذكر هجرة النبي صلى الله عليه وسلم
لما تتابع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة أقام هو بمكة ينتظر ما يؤمر به من ذلك وتخلف معه علي بن أبي طالب وأبو بكر
101

الصديق، فلما رأت قريش ذلك حذروا خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتمعوا في دار الندوة وهي دار قصي بن كلاب وتشاوروا فيها فدخل معهم إبليس في صورة شيخ وقال: أنا من أهل نجد سمعت بخبركم فحضرت وعسى أن لا تعدموا مني رأيا.
وكانوا عتبة، وشيبة. وأبا سفيان، وطعيمة بن عدي وحبيب بن مطعم والحارث بن عامر، والنضر بن الحارث، وأبا البختري بن هشام وربيعة بن الأسود، وحكيم بن حزام، وأبا جهل ونبيها، ومنبها ابني الحجاج، وأمية بن خلف وغيرهم.
فقال بعضهم لبعض: إن هذا الرجل قد كان من أمره ما كان وما نأمنه على الوثوب علينا بمن اتبعه فأجمعوا فيه رأيا، فقال بعضهم: احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه بابا ثم تربصوا به ما أصاب الشعراء قبله، فقال النجدي: ما هذا لكم برأي لو حبستموه يخرج أمره من وراء الباب إلى أصحابه فلأوشكوا أن يثبوا عليكم فينتزعوه من أيديكم، فقال آخر: نخرجه وننفيه من بلدنا ولا نبالي أين وقع إذا غاب عنا، فقال النجدي: ألم تروا حسن حديثه وحلاوة منطقه؟ لو فعلتم ذلك لحل على حي من أحياء العرب فيغلب عليهم بحلاوة منطقه ثم يسير بهم إليكم حتى يطأكم ويأخذ أمركم من أيديكم، فقال أبو جهل: أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى نسيبا ونعطي كل فتى منهم سيفا، ثم يضربوه ضربة رجل واحد فيقتلوه، فإذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل كلها فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا ورضوا منا بالعقل، فقال النجدي: القول ما قال الرجل هذا الرأي. فتفرقوا على ذلك.
102

فأتى جبرائيل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: لا تبت الليلة على فراشك، فلما كان العتمة اجتمعوا على بابه يرصدونه متى ينام فيثبون عليه، فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لعلي بن أبي طالب نم على فراشي واتشح ببردي الأخضر فنم فيه فإنه لا يخلص إليك شيء تكرهه وأمره أن يؤدي ما عنده من وديعة وأمانة وغير ذلك وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ حفنة من تراب فجعله على رؤوسهم وهو يتلو هذه الآيات من (يس والقران الحكيم) إلى قوله (فهم لا يبصرون) ثم انصرف فلم يروه فأتاهم آت، فقال في ما تنتظرون؟ قالوا: محمدا. قال: خيبكم الله خرج عليكم ولم يترك أحدا منك إلا جعل على رأسه التراب وانطلق لحاجته. فوضعوا أيديهم على رؤوسهم فرأوا التراب وجعلوا ينظرون فيرون عليا نائما وعليه برد النبي صلى الله عليه وسلم فيقولون: إن محمدا لنائم فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا، فقام علي عن الفراش فعرفوه وأنزل الله في ذلك (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك) الآية.
وسأل أولئك الرهط عليا عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: لا أدري أمرتموه بالخروج فخرج. فضربوه وأخرجوه إلى المسجد فحبسوه ساعة ثم تركوه ونجى الله رسوله من مكرهم وأمره بالهجرة، وقام علي يؤدي أمانة النبي ص ويفعل ما أمره.
وقالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخطئه أحد طرفي النهار أن يأتي بيت أبي بكر إما بكرة وإما عشية حتى كان اليوم الذي أذن فيه لرسوله بالهجرة أتانا بالهاجرة، فلما رآه أبو بكر، قال: ما جاء هذه
103

الساعة إلا لأمر حدث، فلما دخل جلس على السرير وقال: أخرج من عندك. قال: يا رسول الله إنما هما ابنتاي وما ذاك؟
قال: إن الله قد أذن لي في الخروج، فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله! قال: الصحبة، فبكى أبو بكر من الفرح فاستأجرا عبد الله بن أريقط من بني الديل بن بكر وكان مشركا يدلهما على الطريق، ولم يعلم بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم غير أبي بكر وعلي وآل أبي بكر فأما علي فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتخلف عنه حتى يؤدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع التي كانت عنده ثم يلحقه.
وخرجا من خوخة في بيت أبي بكر في ظهر بيته ثم عمدا إلى غار بثور فدخلاه وأمر أبو بكر ابنه عبد الله أن يتسمع لهما بمكة نهاره ثم يأتيهما ليلا وأمر عامر بن فهيرة مولاه أن يرعى غنمه نهاره ثم يأتيهما بها ليلا، وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهما بطعامهما مساء فأقاما في الغار ثلاثا.
وجعلت قريش مائة ناقة لمن رده عليهم.
وكان عبد الله بن أبي بكر إذا غدا من عندهما أتبع [عامر بن فهيرة] أثره بالغنم حتى يعفي أثره، فلما مضت الثلاث وسكن الناس أتاهما دليلهما ببعيريهما فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدهما بالثمن فركبه وأتتهما أسماء بنت أبي بكر بسفرتهما ونسيت أن تجعل لهما عصاما فحلت نطاقها فجعلته عصاما وعلقت السفرة به وكان يقال لأسماء ذات النطاقين لذلك.
ثم ركبا وسارا وأردف أبو بكر مولاه عامر بن فهيرة يخدمهما في الطريق فساروا ليلتهم ومن الغد إلى الظهر ورأوا صخرة طويلة فسوي أبو بكر عندها مكانا ليقيل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليستظل بظلها فنام
104

رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرسه أبو بكر حتى رحلوا بعد ما زالت الشمس.
وكانت قريش قد جعلت لمن يأتي بالنبي صلى الله عليه وسلم دية فتبعهم سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي فلحقهم وهم في أرض صلبة فقال أبو بكر: يا رسول الله أدركنا الطلب! فقال: (لا تحزن إن الله معنا)، ودعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فارتطمت فرسه إلى بطنها وثار من تحتها مثل الدخان فقال: ادع لي يا محمد ليخلصني الله ولك علي أن أرد عنك الطلب، فدعا له فتخلص فعاد يتبعهم، فدعا عليه الثانية فساخت قوائم فرسه في الأرض أشد من الأولى فقال: يا محمد قد علمت أن هذا من دعائك علي فادع لي ولك عهد الله أن أرد عنك الطلب. فدعا له فخلص وقرب من النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: يا رسول الله خذ سهما من كنانتي وإن إبلي بمكان كذا فخذ منها ما أحببت. فقال: لا حاجة لي في إبلك.
فلما أراد أن يعود عنه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف بك يا سراقة إذا سورت بسواري كسري؟ قال: كسرى بن هرمز؟ قال: نعم. فعاد سراقة فكان لا يلقاه أحد يريد الطلب إلا قال: كفيتم ما ههنا ولا يلقى أحدا إلا رده.
قالت أسماء بنت أبي بكر: لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل فوقفوا على باب أبي بكر فقالوا: أين أبوك؟
105

قلت: لا أدري. فرفع أبو جهل يده فلطم خدي لطمة طرح قرطي وكان فاحشا خبيثا، ومكثنا مليا لا ندري أين توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ حتى أتى رجل من الجن من أسفل مكة والناس يتبعونه يسمعون صوته ولا يرون شخصه وهو يقول:
جزى الله رب الناس خير جزائه * رفيقين حلا خيمتي أم معبد
هما نزلا بالهدى واغتديا به * فأفلح من أمسى رفيق محمد
ليهىء بني كعب مكان فتاتهم * ومقعدها للمؤمنين بمرصد
قالت: فلما سمعنا قوله عرفنا أن وجهه كان إلى المدينة.
وقدم بهما ليلهما قباء فنزل على بني عمرو بن عوف لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول يوم الاثنين حين كادت الشمس تعتدل فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على كلثوم بن الهدم أخي بني عمرو بن عوف، وقيل نزل على سعد بن خيثمة وكان عزبا وكان ينزل عنده العزاب من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: وكان يقال لبيته: بيت العزاب والله أعلم.
ونزل أبو بكر على خبيب بن أساف بالسنح وقيل: نزل على خارجة بن زيد أخي بني الحارث بن الخزرج.
وأما علي فإنه لما فرغ من الذي أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم هاجر إلى المدينة. فكان يسير الليل ويكمن النهار حتى قدم المدينة، وقد تفطرت قدماه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ادعوا لي عليا قيل: لا يقدر أن يمشي فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم واعتنقه وبكى رحمة لما بقدميه من الورم وتفل في يديه وأمرها على قدميه فلم يشتكهما بعد حتى قتل، ونزل بالمدينة على امرأة لا زوج لها. فرأى إنسانا يأتيها كل ليلة ويعطيها شيئا،
106

فاستراب بها، فسألها عنه فقالت: هو سهل بن حنيف قد علم أني امرأة لا زوج لي فهو يكسر أصنام قومه ويحملها إلي ويقول احتطبي بهذه، فكان علي يذكر ذلك عن سهل بن حنيف بعد موته.
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وأسس مسجدهم، ثم خرج يوم الجمعة، وقيل: أقام عندهم أكثر من ذلك والله أعلم. وأدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة في بني سالم بن عوف فصلاها في المسجد الذي ببطن الوادي، فكانت أول جمعة صلاها بالمدينة.
قال ابن عباس: ولد النبي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، واستنبىء يوم الاثنين، ورفع الحجر الأسود يوم الاثنين؟ وهاجر يوم الاثنين، وقبض يوم الاثنين.
واختلف العلماء في مقامه بمكة بعد أن أوحي إليه، فقال أنس وابن عباس رضي الله عنهم من رواية أبي سلمة عنه وعائشة: أنه أقام بمكة عشر سنين ومثلهم قال من التابعين ابن المسيب والحسن وعمرو بن دينار، وقيل: أقام ثلاث عشرة سنة قاله ابن عباس من رواية أبي حمزة وعكرمة أيضا عنه ولعل الذي قال أقام عشر سنين أراد بعد إظهار الدعوة فإنه بقي سنين يسيرة، ومما يقوي هذا القول قول صرمة بن أبي أنس الأنصاري، شعر:
ثوى في قريش بضع عشرة حجة * يذكر لو يلقى صديقا موانيا
107

فهذا يدل علن مقامه ثلاث عشرة سنة، لأنه قد زاد على عشر سنين، فلو كان خمس عشرة لصح الوزن وكذلك ست عشرة وسبع عشرة، وحيث لم يستقم الوزن بأن يقول ثلاث عشرة قال بضع عشرة ولم ينقل في مقام زيادة على عشر سنين إلا ثلاث عشرة وخمس عشرة.
وقد روي عن قتادة قول غريب جدا وذلك أنه قال: نزل القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ثماني سنين ولم يوافقه غيره.
108

ذكر ما كان من الأمور أول سنة من الهجرة
فمن ذلك تجميعه صلى الله عليه وسلم بأصحابه الجمعة في اليوم الذي نزل فيه من قباء في بني سالم في بطن واد لهم: وهي أول جمعة جمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام وخطبهم وهي أول خطبة.
وكان رجل من قباء يريد المدينة فركب ناقته وأرخى زمامها فكان لا يمر بدار من دور الأنصار إلا قالوا: هلم يا رسول الله إلى العدد والعدة والمنعة فيقول: خلوا سبيلها فإنها مأمورة حتى انتهى إلى موضع مسجده اليوم فبركت على باب مسجده وهو يومئذ مربد لغلامين يتيمين في حجر معاذ بن عفراء وهما سهل وسهيل ابنا عمرو من بني النجار، فلما بركت لم ينزل عنها ثم وثبت فسارت غير بعيد ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع لها زمامها لا يثنيها به، فالتفتت خلفها ثم رجعت إلى مبركها أول مرة فبركت فيه ووضعت جرانها فنزل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم واحتمل أبو أيوب الأنصاري رحله وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المربد فقال معاذ بن عفراء هو ليتيمين لي وسأرضيهما من ثمنه فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبنى مسجدا، وقام عند أبي أيوب حين بنى مسجده ومساكنه.
109

وقيل: إن موضع المسجد كان لبني النجار فيه نخل وحرث وقبور المشركين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثامنوني به. فقالوا: لا نبغي به إلا ما عند الله. فأمر به فبنى مسجده وكان قبله يصلي حيث أدركته الصلاة وبناه هو والمهاجرون والأنصار وهو الصحيح.
وفيها بني مسجد قباء.
وفيها أيضا توفي كلثوم بن الهدم، وتوفي بعده أسعد بن زرارة وكان نقيب بني النجار فاجتمع بنو النجار وطلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقيم لهم نقيبا فقال لهم: أنتم إخواني وأنا نقيبكم. فكان فضيلة لهم. وفيها مات أبو أحيحة بالطائف، والوليد. بن المغيرة، والعاص بن وائل السهمي بمكة مشركين.
وفيها بنى النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة بعد مقدمه المدينة بثمانية أشهر؛ وقيل: بسبعة أشهر في ذي القعدة وقيل: في شوال وكان تزوجها بمكة قبل الهجرة بثلاث سنين بعد وفاة خديجة وهي ابنة ست سنين، وقيل: ابنة سبع سنين.
وفيها هاجرت سودة بنت زمعة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم وبناته ما عدا زينب، وهاجر أيضا عيال أبي بكر ومعهم ابنه عبد الله وطلحة بن عبيد الله. وفيها زيد في صلاه العصر ركعتان بعد مقدمه المدينة بشهر. وفيها ولد عبد الله بن الزبير وقيل: في السنة الثانية في شوال، وكان أول مولود للمهاجرين بالمدينة، وكان النعمان بن بشير أول مولود للأنصار بعد الهجرة
110

وقيل: إن المختار بن أبي عبيد، وزياد بن أبيه ولدا فيها.
وفيها على رأس سبعة أشهر عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه حمزة لواء أبيض في ثلاثين رجلا من المهاجرين ليتعرضوا لعير قريش فلقي أبا جهل في ثلاثمائة رجل فحجز بينهم مجدي بن عمرو الجهني، وكان يحمل اللواء أبو مرثد وهو أول لواء عقده. وفيها أيضا عقد لواء لعبيدة بن الحارث بن المطلب وكان أبيض يحمله مسطح بن أثاثة فالتقى هو والمشركين فكان بينهم الرمي دون المسايفة، وكان سعد بن أبي وقاص أول من رمى بسهم في سبيل الله، وكان المقداد بن عمرو وعتبة بن غزوان مسلمين بمكة فخرجا مع المشركين يتوصلان بذلك فلما لقيهم المسلمون. انحاز إليهم. وقال بعضهم: كان لواء أبي عبيدة أول لواء عقده وإنما اشتبه ذلك لقرب بعضها ببعض، وكان على المشركين أبو سفيان بن حرب، وقيل: مكرز بن حفص بن الأخيف، وقيل عكرمة بن أبي جهل.
(والأخيف بالخاء المعجمة والياء المثناة من تحتها).
وفيها عقد لواء لسعد بن أبي وقاص وسيره إلى الأبواء، وكان يحمل اللواء المقداد بن الأسود وكان مسيره في ذي القعدة وجميع من معه من المهاجرين فلم يلق حربا.
جعل الواقدي هذه السرايا جميعها في السنة الأولى من الهجرة، وجعلها ابن إسحاق في السنة الثانية فقال: على رأس اثني عشر شهرا من مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة خرج غازيا واستخلف على المدينة سعد بن عبادة فبلغ وذان يريد قريشا وبني ضمرة من كنانة وهي غزاة الأبواء بينهما ستة أميال فوادعته فيها بنو ضمرة ورئيسهم مخشى بن عمرو ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدا، وذكر ابن إسحاق بعد هذه الغزوة غزوة عبيدة
111

بن الحارث ثم غزوة حمزة بن عبد المطلب.
وفيها كان غزاة بواط، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مائتين من أصحابه في شهر ربيع الآخر يعني سنة اثنتين يريد قريشا حتى بلغ بواط من ناحية رضوى وكان في عير قريش أمية بن خلف الجمحي في مائة رجل ومعهم ألفان وخمسمائة بعير فرجع ولم يلق كيدا، وكان يحمل لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص، واستخلف على المدينة سعد بن معاذ.
(بواط بضم الباء الموحدة وبالطاء المهملة).
وفيها غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة العشيرة من ينبع في جمادى الأولى يريد قريشا حين ساروا إلى الشام فلما وصل العشيرة وادع بني مدلج وحلفاءهم من ضمرة ورجع ولم يلق كيدا، واستخلف على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد، وكان يحمل لواءه حمزة. وفي هذه الغزوة كنى النبي صلى الله عليه وسلم عليا أبا تراب في قول بعضهم. وفيها أغار كرز بن جابر الفهري على سرح المدينة فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ واديا يقال له سفوان من ناحية بدر وفاته كرز وكان لواؤه مع علي واستخلف على المدينة زيد بن حارثة. وفيها بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص في سرية ثمانية رهط فرجع ولم يلق كيدا. وفيها جاء أبو قيس بن الأسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض عليه الإسلام فقال: ما أحسن ما تدعو إليه سأنظر في أمري ثم أعود فلقيه عبد الله بن أبن المنافق فقال كرهت قتال الخزرج فقال أبو قيس: لا أسلم إلى سنة فمات في ذي القعدة.
112

ثم دخلت السنة الثانية من الهجرة
وفي هذه السنة غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول بعض أهل السير غزوة الأبواء، وقيل: ودان وبينهما ستة أميال واستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة سعد بن عبادة وكان لواؤه أبيض مع حمزة بن عبد المطلب وقد تقدم ذكرها.
وفيها زوج علي بن أبي طالب فاطمة في صفر.
ذكر سرية عبد الله بن جحش
أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح أن يتجهز للغزو فتجهز فلما أراد المسير بكى صبابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث مكانه عبد الله بن جحش في جمادى الآخرة معه ثمانية رهط من المهاجرين، وقيل: اثنا عشر رجلا وكتب له كتابا وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه فيمضي لما أمره به ولا يكره أحدا من أصحابه ففعل ذلك ثم قرأ الكتاب وفيه يأمره بنزول نخلة بين مكة والطائف فيرصد قريشا ويعلم أخبارهم،
113

فأعلم أصحابه فساروا معه وأضل سعد بن أبي وقاص، وعتبة بن غزوان بعيرا لهما يعتقبان فتخلفا في طلبه ومض عبد الله ونزل بنخلة فمرت عير لقريش تحمل زبيبا وغيره فيها عمرو بن الحضرمي وعثمان بن عبد الله بن المغيرة وأخوه نوفل والحكم بن كيسان فأشرف لهم عكاشة بن محصن وقد حلق رأسه فلما رأوه قالوا: عمار لا بأس عليكم [منهم]، وذلك آخر يوم من رجب، فرمى واقد بن عبد الله التيمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله واستأسر عثمان والحكم وهرب نوفل وغنم المسلمون ما معهم، فقال عبد الله بن جحش: إن لرسول الله صلى الله عليه وسلم خمس ما غنمتم وذلك قبل أن يفرض الخمس، وكانت أول غنيمة غنمها المسلمون وأول خمس في الإسلام.
وأقبل عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسرى إلى المدينة. فلما قدموا قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام، فوقف العير والأسيرين فسقط في أيديهم وعنفهم المسلمون، وقالت قريش: قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام. وقالت اليهود: تفأأل بذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله، عمر وعمرت الحرب، والحضرمي حضرت الحرب، وواقد وقدت الحرب، فأنزل الله (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه) الآية. فلما نزل القران وفرج الله عن المسلمين قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم العير وكانت أول غنيمة أصابوها وفدى رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسيرين فأما الحكم فأقام مع
114

رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل يوم بئر معونة.
وقيل كان قتلهم عمرو بن الحضرمي وأخذ العير آخر يوم من جمادى وأول ليلة من رجب.
وفيها صرفت القبلة من الشام إلى الكعبة، وكان أول ما فرضت القبلة إلى بيت المقدس والنبي صلى الله عليه وسلم بمكة وكان يحب استقبال الكعبة وكان يصلي بمكة ويجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس فلما هاجر إلى المدينة لم يمكنه ذلك وكان يؤثر أن يصرف إلى الكعبة فأمره الله أن يستقبل الكعبة يوم الثلاثاء للنصف من شعبان على رأس ثمانية عشر شهرا من قدومه المدينة، وقيل: على رأس ستة عشر شهرا في صلاة الظهر.
وفيها أيضا قي شعبان فرض صوم شهر رمضان وكان لما قدم المدينة رأى اليهود تصوم عاشوراء فصامه وأمر بصيامه فلما فرض رمضان لم يأمرهم بصوم عاشوراء ولم ينههم.
وفيها أمر الناس بإخراج زكاة الفطر قبل الفطر بيوم أو يومين. وفيها خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المصلى فصلى بهم صلاة العيد وكان ذلك أول خرجة خرجها وحملت بين يديه العنزة وكانت للزبير وهبها له النجاشي وهي اليوم للمؤذنين في المدينة.
115

ذكر غزوة بدر الكبرى
وفي السنة الثانية كانت وقعة بدر الكبرى في شهر رمضان في سابع عشرة، وقيل: تاسع عشرة وكانت يوم الجمعة.
وكان سببها قتل عمرو بن الحضرمي وإقبال أبي سفيان بن حرب في عير لقريش عظيمة من الشام وفيها أموال كثيرة ومعها ثلاثون رجلا أو أربعون، وقيل: قريبا من سبعين رجلا من قريش منهم مخرمة بن نوفل الزهري، وعمرو بن العاص فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب المسلمين إليهم وقال: هذه عير قريش فيها أموالهم فأخرجوا إليها لعل الله أن ينفلكموها، فانتدب الناس فخف بعضهم وثقل بعضهم وذلك لأنهم لن يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حربا.
وكان أبو سفيان قد سمع أن النبي صلى الله عليه وسلم يريده فحذر، واستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى مكة يستنفر قريشا ويخبرهم الخبر فخرج ضمضم إلى مكة.
وكانت عاتكة بنت عبد المطلب قد رأت قبل قدوم ضمضم مكة بثلاث ليال رؤيا أفزعتها فقصتها علن أخيها العباس واستكتمته خبرها قالت: رأيت راكبا على بعير له [حتى] وقف بالأبطح، ثم صرخ بأعلى صوته أن انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث قالت: فأري الناس قد اجتمعوا إليه ثم دخل المسجد فمثل بعيره على الكعبة ثم صرخ مثلها ثم مثل بعيره على رأس أبي قبيس فصرخ مثلها ثم أخذ صخرة عظيمة وأرسلها فلما كانت بأسفل
116

الوادي ارفضت فما بقي بيت من مكة إلا دخل فلقة منها.
فخرج العباس فلقي الوليد بن عتبة بن ربيعة وكان صديقه فذكرها له واستكتمه ذلك فذكرها الوليد لأبيه عتبة ففشا الخبر فلقي أبو جهل العباس فقال له: يا أبا الفضل أقبل إلينا. قال: فلما فرغت من طوافي أقبلت إليه فقال لي: متى حدثت فيكم هذه النبية؟ وذكر رؤيا عاتكة، ثم قال: ما رضيتم أن تتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم! فسنتربص بكم هذه الثلاث فإن يكن حقا وإلا كتبنا عليكم أنكم أكذب أهل بيت في العرب.
قال العباس: فما كان مني إليه إلا أني جحدت ذلك وأنكرته فلما أمسيت أتاني نساء بني عبد المطلب وقلن لي: أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم وقد تناول نساءكم ولم تنكر عليه ذلك قال قلت: والله كان ذلك ولأتعرضن له فإن عاد كفيتكموه. قال: فغدوت اليوم الثالث من رؤيا عاتكة وأنا مغضب أحب أن أدركه فرأيته في المسجد فمشيت نحوه أتعرض له ليعود فأوقع به فخرج نحو باب المسجد يشتد قال قلت: ما باله قاتله الله أكل هذا فرقا من أن أشاتمه؟ وإذا هو قد سمع ما لم أسمع صوت ضمضم بن عمرو وهو يصرخ ببطن الوادي واقفا على بعيره قد جدعه، وحول رحله وشق قميصه وهو يقول: يا معشر قريش اللطيمة اللطيمة أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد وأصحابه لا أدري إن تدركوها الغوث الغوث فشغلني عنه وشغله عني.
قال: فتجهز الناس سراعا ولم يتخلف من أشرافهم أحد إلا أبو لهب وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة وعزم أمية بن خلف الجمحي على القعود فإنه كان شيخا ثقيلا بطيئا فأتاه عقبة بن أبي معيط بمجمرة فيها نار وما يتبخر به وقال: يا أبا علي
استجمر فإنما أنت من النساء. فقال:
117

قبحك الله وقبح ما جئت به! وتجهز وخرج معهم. وعزم عتبة بن ربيعة أيضا على القعود فقال له أخوه شيبة: إن فارقنا قومنا كان ذلك سبة علينا فامض مع قومك فمشى معهم.
فلما أجمعوا علن المسير ذكروا ما بينهم وبين بكر بن عبد مناة بن كنانة بن الحارث فخافوا أن يؤتوا من خلفهم فجاءهم إبليس في صورة سراقة بن جعشم المدلجي وكان من أشراف كنانة وقال: أنا جار لكم فأخرجوا سراعا وكانوا تسعمائة وخمسين رجلا، وقيل: كانوا ألف رجل وكانت خيلهم مائة فرس فنجا منها سبعون فرسا وغنم المسلمون ثلاثين فرسا وكان مع المشركين سبعمائة بعير.
وكان مسير رسول الله صلى الله عليه وسلم لثلاث ليال خلون من شهر رمضان في ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، وقيل: أربعة عشر؛ وقيل: بضعة عشر رجلا، وقيل: ثمانية عشر، وقيل: كانوا سبعة وسبعين من المهاجرين، وقيل: ثلاثة وثمانون والباقون من الأنصار؛ فقيل جميع من ضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهم من المهاجرين ثلاثة وثمانون رجلا ومن الأوس أحد وسبعون رجلا ومن الخزرج مائة وسبعون رجلا، ولم يكن فيهم غير فارسين أحدهما المقداد بن عمرو الكندي ولا خلاف فيه، والثاني قيل: كان الزبير بن العوام، وقيل كان مرثد بن أبي مرثد، وقيل المقداد وحده، وكانت الإبل سبعين بعيرا فكانوا يتعاقبون عليها، البعير بين الرجلين والثلاثة والأربعة، فكان بين النبي صلى الله عليه وسلم وعلى، وزيد بن حارثة بعير، وبين أبي بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف بعير، وعلي مثل هذا،
118

وكان فرس المقداد اسمه سبحة وفرس الزبير اسمه السيل، وكان لواؤه مع مصعب بن عمير بن عبد الدار ورايته مع علي بن أبي طالب، وعلى الساقة قيس بن أبي صعصعة الأنصاري.
فلما كان قريبا، من الصفراء بعث بسبس بن عمرو. وعدي بن أبي الزغباء الجهنيين يتجسسان الأخبار عن أبي سفيان.
ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك الصفراء يسارا وعد إليه بسبس بن عمرو يخبره أن العير قد قاربت بدرا ولم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين علم بمسير قريش لمنع عيرهم، وكان قد بعث عليا والزبير وسعدا يلتمسون له الخبر ببدر فأصابوا راوية لقريش فيهم أسلم غلام بني الجحجاح، وأبو يسار غلام بني العاص فأتوا بهما النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم يصلي فسألوهما فقالا نحن سقاة قريش بعثونا نسقيهم من الماء فكره القوم خبرهما وضربوهما ليخبروهما عن أبي سفيان فقالا: نحن لأبي سفيان، فتركوهما، وفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة وقال: إذا صدقاكم ضربتموها، وإذا كذباكم تركتموها! صدقا أنهما لقريش أخبراني أين قريش؟ قالا: هم وراء هذا الكثيب الذي تري بالعدوة القصوى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كم القوم؟ قالا: كثير، قال: كم عدتهم؟ قالا: لا ندري، قال: كم ينحرون؟ قالا: يوما تسعا، ويوما عشرا. قال: القوم بين التسعمائة إلى الألف.
ثم قال: لهما: فمن فيهم من أشراف قريش؟ قالا: عتبة، وشيبة ابنا ربيعة، والوليد، وأبو البختري بن هشام، وحكيم بن حزام، والحارث بن عامر،
119

وطعيمة بن عدي، والنضر بن الحارث وزمعة بن الأسود، وأبو جهل، وأمية بن خلف، ونبيه، ومنبه ابنا الحجاج، وسهيل بن عمرو، وعمرو بن عبد ود.
فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه وقال: هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها. ثم استشار. أصحابه فقال أبو بكر، فأحسن، ثم قال عمر فأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله أمض لما أمرك الله فنحن معك، والله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى (اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون) ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد - يعني مدينة الحبشة - لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه.
فدعا له بخير ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشيروا علي أيها الناس، وإنما يريد الأنصار لأنهم كانوا عدته للناس وخاف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا ممن دهمه بالمدينة وليس عليهم أن يسير بهم فقال له سعد بن معاذ: لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل. قال: قد آمنا بك، وصدقناك، وأعطيناك عهودنا، فامض يا رسول الله لما أمرت، فوالذي بعثك بالحق إن استعرضت بنا هذا الخبر فخضته لنخوضنه معك وما نكره أن تكون تلقى العدو بنا غدا، إنا لصير عند الحرب صدق عند اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقربه عينك فنسربنا على بركة الله!
فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم. ثم انحط على بدر فنزل قريبا منها.
120

وكان أبو سفيان قد ساحل وترك بدرا يسارا ثم أسرع فنجا فلما رأى أنه قد أحرز عيره أرسل إلى قريش وهم بالجحفة إن الله قد نجى عيركم وأموالكم فارجعوا. فقال أبو جهل بن هشام: والله لا نرجع حتى نرد بدرا - وكان بدر موسما من مواسم العرب تجتمع لهم بها سوق كل عام - فنقيم بها ثلاثا فننحر الجزر، ونطعم الطعام، ونسقي الخمر. وتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا أبدا. فقال الأخنس بن شريق الثقفي وكان حليفا لبني زهرة وهم بالجحفة: يا بني زهرة قد نجى الله أموالكم وصاحبكم فارجعوا، فرجعوا فلم يشهدها زهري ولا عدوي وشهدها سائر بطون قريش.
ولما كانت قريش بالجحفة رأى جهيم بن الصلت بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف رؤيا فقال: إني رأيت فيما يرى النائم رجلا أقبل على فرس ومعه بعير له فقال: قتل عتبة، وشيبة، وأبو جهل - وغيرهم ممن قتل يومئذ - ورأيته ضرب لبة بعيره ثم أرسله في العسكر فما بقي خباء إلا أصابه من دمه. فقال أبو جهل: وهذا أيضا نبي من بني المطلب سيعلم غدا من المقتول. وكان بين طالب بن أبي طالب وهو في القوم وبين بعض قريش محاورة فقالوا: والله قد عرفنا أن هواكم مع محمد، فرجع طالب إلى مكة فيمن رجع، وقيل: إنما كان خرج كرها فلم يوجد في الأسرى ولا في القتلى ولا فيمن رجع إلى مكة وهو الذي يقول:
يا رب إما يغزون طالب * في مقنب من هذه المقانب
فليكن المسلوب غير السالب * وليكن المغلوب غير الغالب
ومضت قريش حتى نزلت بالعدوة القصوى من الوادي وبعث الله
121

السماء وكان الوادي دهسا، فأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه منه ما لبد لهم الأرض ولم يمنعهم المسير، وأصاب قريشا منه ما لم يقدروا على أن يرحلوا معه فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يبادرهم إلى الماء حتى إذا جاء أدنى ماء من بدر نزله فقال: الحباب بن المنذر بن الجموح: يا رسول الله أهذا منزل أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدمه أو نتأخره؟ أم هو الرأي في والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. قال: يا رسول الله فإن هذا ليس لك بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء سواه مش القوم فننزله ثم نغور ما وراءه من القلب ثم نبني عليه حوضا ونملأه ماء فنشرب ماء ولا يشربون ثم نقاتلهم. ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك.
فلما نزل جاءه سعد بن معاذ فقال: يا رسول الله نبني لك عريشا من جريد فتكون فيه ونترك عندك ركائبك ثم نلقى عدونا فإن أعزنا الله وأظهرنا الله عليهم كان ذلك مما أحببناه وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا فقد تخلف عنك أقوام ما نحن بأشد حبا لك منهم ولو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك يمنعك الله بهم يناصحونك ويحاربون معك. فأثنى عليه خيرا، ثم بني لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريش، وأقبلت قريش بخيلائها وفخرها، فلما رآها قال: اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها، تحادك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك
122

الذي وعدتني، اللهم أحنهم الغداة. ورأي عتبة بن ربيعة عك جمل أحمر فقال: إن يكن عند أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر إن يطيعوه يرشدوا.
وكان خفاف بن إيماء بن رحضة الغفاري أو أبوه إيماء بعث إلى قريش حين مروا به ابنا له بجزائر أهداها لهم وعرض عليهم المدد بالرجال والسلاح، فقال قريش: إن كنا إنما نقاتل الناس فما بنا من ضعف وإن كنا نقاتل الله كما زعم محمد فما لأحد بالله طاقة. فلما نزلت قريش أقبل جماعة، منهم حكيم بن حزام حتى وردوا حوض النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اتركوهم. فما شرب منه رجل إلا قتل يومئذ إلا حكيم نجا على فرس له يقال: له الوجيه، وأسلم بعد ذلك فحسن اسلامه وكان يقول إذا اجتهد في يمينه؛ لا
والذي نجاني يوم بدر.
ولما اطمأنت قريش بعثوا عمرو بن وهب الجمحي ليحزر المسلمين فجال بفرسه حولهم ثم عاد فقال: هم ثلاثمائة يزيدون قليلا أو ينقصون، ولقد رأيت البلايا تحمل المنايا نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، ليس لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، والله لا يقتل رجل منهم إلا يقتل رجلا منكم فإذا أصابوا أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك فروا رأيكم.
فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى في القوم فأتى عتبة بن ربيعة فقال: يا أبا الوليد إنك كبير قريش وسيدها هل لك أن لا تزال تذكر فيها بخير
123

إلى آخر الدهر؟ قال: وما ذاك؟ قال: ترجع بالناس وتحمل دم حليفك عمرو بن الحضرمي. قال: قد فعلت علن دمه وما أصيب من ماله فأت ابن الحنظلية - يعني أبا جهل - فلا أخشن أن يفسد أمر الناس غيره. فقام عتبة في الناس فقال: إنكم ما تصنعون بأن تلقوا محمدا وأصحابه شيئا والله لئن أصبتموهم لا يزال رجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلا من عشيرته. قال حكيم بن حزام: فانطلقت إلى أبي جهل فوجدته قد نثل درعا وهو يهيئها فأعلمته ما قال عتبة فقال: انتفخ والله سحره حين رأى محمدا وأصحابه، والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، وما بعتبة ما قال لكن رأي ابنه أبا حذيفة فيهم وقد خافكم عليه.
ثم بعث إلى عامر [بن] الحضرمي فقال له: هذا حليفك يريد أن يرجع إلى مكة بالناس وقد رأيت ثأرك بعينك فأنشد خفرتك ومقتل أخيك. فقام عامر وصرخ: واعمراه واعمراه، فحميت الحرب واستوثق الناس على الشر.
فلما بلغ عتبة قول أبي جهل انتفخ سحره قال: سيعلم المصفر استه من انتفخ سحره أنا أم هو؟ ثم ألتمس بيضة يدخلها رأسه فما وجد من عظم هامته فاعتجر ببرد له.
وخرج الأسود بن عبد الأسد المخزومي وكان سيئ الخلق فقال: أعاهد الله لأشربن من حوضهم ولأهدمنه، أو لأموتن دونه.
فخرج إليه حمزة فضربه فأطن قدمه بنصف ساقه فوقع على الأرض ثم حبا إلى الحوض فاقتحم فيه ليبر يمينه، وتبعه حمزة فضربه حتى قتله في الحوض.
124

ثم خرج عتبة، وشيبة ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة ودعوا إلى المبارزة، فخرج إليهم عوف ومعوذ ابنا عفراء وعبد الله بن رواحة كلهم من الأنصار، فقالوا: من أنتم؟ قالوا: من الأنصار. فقالوا: أكفاء كرام وما لنا بكم من حاجة؟ ليخرج إلينا أكفاؤنا من قومنا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قم يا حمزة، قم يا عبيدة بن الحارث، قم يا علي، فقاموا، ودنا بعضهم من بعض فبارز عبيدة بن الحارث بن عبد الطلب وكان أمير القوم عتبة، وبارز حمزة شيبة وبارز علي الوليد، فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله، وأما علي فلم يمهل الوليد أن قتله واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين كلاهما قد أثبت صاحبه، وكر حمزة وعلي عنى عتبة فقتلاه، واحتملا عبيدة إلى أصحابه وقد قطعت رجله فلما أتوا به النبي صلى الله عليه وسلم قال: ألست شهيدا يا رسول الله؟ [قال: بلى]، قال: لو رآني أبو طالب لعلم [أننا] أحق منه بقوله:
ونسلمه حتى نصرع حوله * ونذهل عن أبنائنا والحلائل.
ثم مات، وتزاحف القوم ودنا بعضهم من بعض وأبو جهل يقول اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لم نعرف فأحنه الغداة فكان هو المستفتح على نفسه.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أصحابه أن لا يحملوا حتى يأمرهم وقال: إن اكتنفكم القوم فانضحوهم عنكم بالنبل، ونزل في العريش ومعه أبو بكر وهو يدعو ويقول: اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الاسلام لا تعبد في الأرض، اللهم انجز لي ما وعدتني، ولم يزل حتى سقط داؤه فوضعه عليه أبو بكر ثم قال له: كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك. وأغفى رسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش إغفاءة، وانتبه ثم قال: يا أبا بكر أتاك نصر الله، هذا جبرائيل اخذ بعنان فرسه يقوده
125

على، ثناياه النقع! وانزل الله (إذ تستغيثون ربكم) الآية.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: (سيهزم الجمع ويولون الدبر) وحرض المسلمين وقال: والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة. فقال: عمير بن الحمام الأنصاري وبيده تمرات يأكلهن بخ بخ! ما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء! ثم ألقى التمرات من يده وقاتل حتى قتل.
ورمي مهجع مولى عمر بن الخطاب بسهم فقتل فكان أول قتيل؛ ثم رمي حارثة بن سراقة الأنصاري فقتل، وقاتل عوف بن عفراء حتى قتل، واقتتل الناس قتالا شديدا، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حفنة من التراب ورمى بها قريشا وقال: شاهت الوجوه، وقال لأصحابه: شذوا عليهم، فكانت الهزيمة فقتل الله من قتل من المشركين، وأسر من أسر منهم.
ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش وسعد بن معاذ قائم على باب العريش متوشحا تر بالسيف في نفر من الأنصار يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم يخافون عليه كرة العدو فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجه سعد بن معاذ الكراهية لما يصنع الناس من الأسر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكأنك تكره ذلك يا سعد؟
قال أجل: يا رسول الله أول وقعة أوقعها الله بالمشركين كان الإثخان أحب ألي من استبقاء الرجال.
وكان أول من لقي أبا جهل معاذ بن عمرو بن الجموح وقريش محيطة به
126

يقولون: لا يخلص إلى أبي الحكم. قال معاذ: فجعلته من شأني فلما أمكنني حملت عليه فضربته ضربة أطنت قدمه بنصف ساقه وضربني ابنه عكرمة فطرح يدي من عاتقي فتعلقت بجلدة من جثتي فقاتلت عامة يوفي وإني لأسحبها خلفي فلما آذتني جعلت عليها رجلي، ثم تمطيت حتى طرحتها. وعاش معاذ إلى زمان عثمان رضي الله عنه.
ثم مر بأبي جهل معوذ بن عفراء فضربه حتى أثبته وتركه وبه رمق ثم مر به ابن مسعود وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلتمس في القتلى فوجده بآخر رمق قال: فوضعت رجلي على عنقه ثم قلت: هل أخزاك الله يا عدو الله؟ قال وبما أخزاني؟ أ أعمد من رجل قتلتموه؟! أخبرني لمن الدائرة؟ قلت: لله ولرسوله. فقال له أبو جهل: لقد ارتقيت يا رويعي الغنم مرتقى صعبا. قال: فقلت إني قاتلك. قال: ما أنت بأول عبد قتل سيده أما إن أشد شيء لقيته اليوم قتلك إياي وألا قتلني رجل من المطيبين الأحلاف. فضربه عبد الله فوقع رأسه بين رجليه، فحمله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسجد شكرا لله.
وكان عبد الرحمن بن عوف قد غنم أذراعا فمر بأمية بن خلف وابنه علي فقالا له: نحن خير لك من هذه الأدراع. فطرح الأدراع وأخذ بيده وبيد ابنه ومشى بهما. فقال له أمية: من الرجل المعلم بريشة نعامة في صدره؟ قال: حمزة بن عبد المطلب. قال أمية: هو الذي فعل بنا الأفاعيل.
ورأى بلال أمية - وكان يعذبه بمكة فيخرج به إلى رمضاء مكة فيضجعه على ظهره ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ويقول: لا تزال هكذا حتى تفارق دين محمد فيقول بلال: أحد أحد - فلما رآه بلال قال: أمية!
127

رأس الكفر! لا نجوت إن نجا! ثم صرخ: يا أنصار الله رأس الكفر رأس الكفر، أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا.
فأحاط بهم المسلمون وقتل أمية وابنه علي، وكان عبد الرحمن يقول: رحم الله بلالا ذهبت أدراعي وفجعني بأسيري.
وقتل حنظلة بن أبي سفيان بن حرب قتله على بن أبي طالب.
ولما انهزم المشركون أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يقتل أبو البختري بن هشام لأنه كان أخف القوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة؛ وكان ممن اهتم في نقض الصحيفة فلقيه المجذر بن زياد البلوي
حليف الأنصار ومعه زميل له، فقال له: إن رسول الله قد نهى عن قتلك. فقال: وزميلي؟ فقال المجذر: لا والله. قال: إذا والله لأموتن أنا وهو، ولا تتحدث نساء قريش أني تركت زميلي حرصا على الحياة. فقتل ثم أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبره.
وجئ بالعباس، أسره أبو اليسر وكان مجموعا، وكان العباس جسيما. فقيل لأبي اليسر: كيف أسرته؟ قال: أعانني عليه رجل ما رأيته قبل ذلك بهيئة كذا وكذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أعانك عليه ملك كريم. ولما أمسى العباس مأسورا بات رسول الله صلى الله عليه وسلم ساهرا أول ليلة، فقال له أصحابه: يا رسول الله مالك لا تنام. فقال: سمعت تضور العباس في وثاقه فمنع مني النوم. فقاموا اليه فأطلقوه. فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يومئذ: قد عرفت رجالا من بني هاشم وغيرهم أخرجوا كرها فمن لقي منكم أحدا من بني هاشم فلا يقتله، ومن لقي العباس بن عبد المطلب فلا يقتله فإنه أخرج
128

كرها، فقال أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة: أنقتل أبناءنا وآباءنا وإخواننا ونترك العباس! والله لئن لقيته لألحمنه بالسيف. فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال لعمر: يا أبا حفص أما تسمع قول أبي حذيفة أيضرب وجه عم رسول الله بالسيف؟ فقال أبو حذيفة: لا أزال خائفا من تلك الكلمة ولا يكفرها عني إلا الشهادة فقتل يوم اليمامة شهيدا. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: قد رأيت جبرائيل وعلى ثناياه النقع.
فقال رجل من بني غفار: أقبلت أنا وابن عم لي فصعدنا جبلا يشرف بنا على بدر ونحن مشركان ننظر لمن تكون الدائرة فننتهب فدنت منا سحابة فسمعت فيها حمحمة الخيل وسمعت قائلا يقول: أقدم حيزوم. قال: فأما ابن عمي فمات فكأنه، وأما أنا فكدت أهلك فتماسكت.
وقال أبو داود المازني، إني لأتبع رجلا من المشركين لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل سيفي إليه فعرفت أنه قتله غيري. وقال سهل بن حنيف: كان أحدنا يشير بسيفه إلى المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف.
فلما هزم الله المشركين وقتل منهم من قتل واسر من أسر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تطرح القتلى في القليب فطرحوا فيه إلا أمية بن خلف فإنه انتفخ في درعه فملأها فذهبوا به ليخرجوه فتقطع وطرحوا عليه من التراب والحجارة ما غيبه، ولما ألقوا في القليب وقف عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: (يا أهل القليب بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم، كذبتموني وصدقني الناس! ثم قال: يا عتبة، يا شيبة، يا أمية بن خلف، يا أبا جهل بن هشام - وعدد من كان في القليب - هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقا. فقال له أصحابه: أتكلم قوما موتى! فقال: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني. ولما قال صلى الله عليه وسلم لأهل القليب ما قال رأي في
129

وجه أبي حذيفة بن عتبة الكراهية وقد تغير فقال: لعلك قد دخلك من شأن أبيك شيء؟ قال: لا والله يا رسول الله ما شككت في أبي وفي مصرعه ولكنه كان له عقل وحلم وفضل فكنت أرجو له الاسلام، فلما رأيت ما مات عليه من الكفر أحزنني ذلك. فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر فجمع ما في العسكر فاختلف المسلمون، فقال من جمعه: هو لنا. وقال الذين كانوا يقاتلون العدو: [والله] لولا نحن ما أصبتموه نحن شغلنا القوم عنكم [حتى أصبتم ما أصبتم]. وقال الذين كانوا يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في العريش: والله ما أنتم بأحق به منا لقد رأينا أن نأخذ المتاع حين لم يكن له من يمنعه. ولكن خفنا كرة العدو على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقمنا دونه. فنزع الله الأنفال من أيديهم وجعلها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقسمها بين المسلمين على سواء.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة بشيرا إلى أهل العالية، وزيد بن حارثة بشيرا إلى أهل السافلة من المدينة، فوصل زيد وقد سووا التراب على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت زوجة عثمان بن عفان خلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها وقسم له.
فلما عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم لقيه الناس يهنئونه بما فتح الله عليه، فقال، سلمة بن سلامة بن وقش الأنصاري: إن لقينا الا عجائز صلعا كالبدن المعقلة فنحرناها فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: يا بن أخي أولئك الملأ من قريش. كان في الأسري النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط، فأمر علي بن أبي طالب بقتل النضر فقتله بالصفراء، وأمر عاصم بن ثابت بقتل عقبة بن
130

أبي معيط؛ فلما أرادوا قتله جزع من القتل، وقال: مالي أسوة بهؤلاء - يعني الأسرى -؟ ثم قال: يا محمد من للصبية؟ قال: النار. فقتله بعرق الظبية صبرا.
وكان في الأسرى سهيل بن عمرو أسره مالك بن الدخشم الأنصاري، فلما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم قال عمر بن الخطاب: [دعني] انزع ثنيتيه يا رسول الله فلا يقوم عليك خطيبا أبدا، وكان سهيل أعلم الشقة السفلى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعه يا عمر فسيقوم مقاما تحمده عليه. فكان مقامه ذلك عند موت النبي صلى الله عليه وسلم، وسنذكره عند خبر الردة إن شاء الله. ولما قدم به المدينة قالت له سودة بنت زمعة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: أعطيتم بأيديكم كما
تفعل النساء! ألا متم كراما! فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قولها فقال لها: يا سودة على الله وعلى رسوله؟ [تحرضين]! فقالت: يا رسول الله ما ملكت نفسي حين رأيته أن قلت ما قلت.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: استوصوا بالأسرى خيرا. وكان أحدهم يؤثر أسيره بطعامه.
فكان أول من قدم مكة بمصاب قريش الحيسمان بن أياس الخزاعي فقالوا: ما وراءك؟ قال: قتل عتبة وشيبة، وأبو الحكم،. ونبيه، ومنبه ابنا الحجاج، وعدد أشراف قريش. فقال صفوان بن أمية: والله إن يعقل فاسألوه عني. فقالوا: ما فعل صفوان. قال: هو ذاك جالس في الحجر
131

وقد رأيت أباه وأخاه حين قتلا.
ومات أبو لهب بمكة بعد وصول خبر مقتل قريش. بتسعة أيام، وناحت قريش على قتلاهم، ثم قالوا: لا تفعلوا فيشمت محمد وأصحابه، ولا تبعثوا في فداء أسراكم لا يشتط عليكم محمد. وكان الأسود بن عبد يغوث قد أصيب له ثلاثة من ولده: زمعة، وعقيل، والحارث. وكان يحب أن يبكي على بنيه فبينما هو كذلك إذ سمع نائحة فقال لغلامه وقد ذهب بصره: انظر هل أحل البكاء لعلي أبكي على زمعة فإن جوفي قد احترق. فرجع إليه، وقال له: إنما هي امرأة تبكي على بعير لها أضلته، فقال:
أتبكي أن يضل لها بعير * ويمنعها من النوم السهود
ولا تبكي على بكر ولكن * علن بدر تقاصرت الجدود
على بدر سراة بني هصيص * ومخزوم ورهط أبي الوليد
فبكى إن بكيت على عقيل * وبكى حارثا أسد الأسود
وبكيهم ولا تسمي - جميعا * فمالا بي حكيمة من نديد
ألا قد ساد بعدهم أناس * ولولا يوم بدر لم يسودوا
يعني أبا سفيان.
ثم إن قريشا أرسلت في فداء الأسارى، فأول من فدي أبو وداعة السهمي فداه وابنه المطلب، وفدى العباس نفسه. وعقيل بن أبي طالب،
132

ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وحليفه عتبة بن عمرو بن جحدم أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: لا ل مال لي. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين المال الذي وضعته عند أم الفضل وقلت لها: إن أصبت فللفضل كذا ولعبد الله كذا ولعبيد الله كذا. قال: والذي بعثك بالحق ما علم به أحد غيري وغيرها وإني لأعلم أنك رسولي الله. وفدى نفسه وابني أخويه وحليفه، وكان قد أخذ مع العباس عشرون أوقية من ذهب، فقال: احسبها في فدائي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا ذاك شيء أعطاناه الله عز وجل.
وكان في الأسارى عمرو بن أبي سفيان أسره علي فقيل لأبيه: أفد عمرا. فقال: لا أجمع على دمي ومالي يقتل ابني حنظلة وأفدي عمرا فتركه ولم يفكه ثم إن سعد بن النعمان الأنصاري خرج إلى مكة معتمرا فأخذه أبو
سفيان وكانت قريش لا تعرض، لحاج ولا معتمر فحبسه أبو سفيان ليفدي به عمرا ابنه وقال:
أرهط ابن أكال أجيبوا دعاءه * تفاقدتم لا تسلموا السيد الكهلا
فإن بني عمرو لئام أذلة * لئن لم يفكوا عن أسيرهم الكبلا
فمشى بنو عمرو بين عوف إلى النبي صلى الله عليه وسلم فطلبوا منه عمرو بن أبي سفيان ففادوا به سعدا.
وكان في الأسارى أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس زوج
133

زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان من أكثر رجال مكة مالا وأمانة وتجارة، وكانت أمه هالة بنت خويلد أخت خديجة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته أن يزوجه زينب ففعل قبل أن يوحى إليه، فلما أوحي إليه آمنت به زينب وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مغلوبا بمكة لم يقدر أن يفرق بينهما، فلما خرجت قريش إلى بدر خرج معهم فأسر فلما بعثت قريش في فداء الأسارى بعثت زينب في فداء أبي العاص زوجها بقلادة لها كانت خديجة أدخلتها معها، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة وقال: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها الذي لها فافعلوا. فأطلقوا لها أسيرها وردوا القلادة.
وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه أن يرسل في زينب إليه بالمدينة وسار إلى مكة، وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة مولاه ورجلا من الأنصار ليصحبا زينب من مكة، فلما قدم أبو العاص أمرها باللحاق بالنبي صلى الله عليه وسلم فتجهزت سرا وأركبها كنانة بن الربيع أخو أبي العاص بعيرا وأخذ قوسه وخرج بها نهارا فسمعت بها قريش فخرجوا في طلبها فلحقوها بذي طوى وكانت حاملا فطرحت حملها لما رجعت لخوفها، ونثر كنانة أسهمه ثم قال: والله لا يدنو منى أحد إلا وضعت فيه سهما. فأتاه أبو سفيان بن حرب وقال: خرجت بها علانية فيظن الناس أن ذلك عن ذل وضعف منا ولعمري ما لنا في حبسها حاجة فارجع بالمرأة ليتحدث الناس أنا رددناها. ثم أخرجها ليلا وسلمها إلى زيد بن حارثة وصاحبه فقدما بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقامت عنده.
فلما كان قبيل الفتح خرج أبو العاص تاجرا إلى الشام بأمواله وأموال رجال من قريش فلما عاد لقيته سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم
134

فأخذوا ما معه وهرب منهم، فلما كان الليل أتى إلى المدينة فدخل علن زينب فلما كان الصبح خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة فكبر وكبر الناس فنادت زينب من صفة النساء: أيها الناس إني قد أجرت أبا العاص. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده ما علمت بشيء من ذلك وإنه ليجير علن المسلمين أدناهم. وقال لزينب: لا يخلصن إليك فلا يحل لك. وقال للسرية الذين أصابوه ة إن رأيتم أن تردوا عليه الذي له فإنا نحب ذلك وإن أبيتم فهو فيء الله الذي أفاءه عليكم وأنتم أحق به. قالوا: يا رسول الله بل نرده عليه، فردوا عليه ماله كله حتى الشظاظ. ثم عاد إلى مكة فرد على الناس مالهم وقال لهم: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، والله ما منعني من الاسلام عنده إلا تخوف أن تظنوا أنما أردت أكل أموالكم. ثم خرج فقدم على النبي صلى الله عليه وسلم فرد عليه أهله بالنكاح الأول، وقيل بنكاح جديد.
وجلس عمير بن وهب الجمحي مع صفوان بن أمية بعد بدر وكان شيطانا ممن كان يؤذي النبي وأصحابه، وكان ابن وهب في الأسارى فقال صفوان: لا خير في العيش بعد من أصيب ببدر. فقال عمير: صدقت ولولا دين علي وعيال أخشن ضيعتهم لركبت إلى محمد حتى أقتله. فقال صفوان: دينك علي وعيالك مع عيالي أسوتهم. فسار إلى المدينة فقدمها فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب بإدخاله عليه، فأخذ عمر بحمالة سيفه، وقال لرجال. معه من الأنصار: ادخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم واحذروا هذا الخبيث. فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر: اتركه، ثم قال: ادن يا عمير ما جاء بك. قال: جئت لهذا الأسير. قال: أصدقني. قال: ما جئت إلا لذلك. قال:
135

بل قعدت أنت وصفوان وجري بينكما كذا وكذا. فقال عمير: أشهد أنك رسول الله هذا الأمر لم يحضره إلا أنا وصفوان فالحمد لله الذي هداني للإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقهوا أخاكم في دينه وعلموه القرآن وأطلقوا له أسيره. ففعلوا. فقال: يا رسول الله كنت شديد الأذى للمسلمين فأحب أن تأذن لي فاقدم مكة فأدعو إلى الله وأوذي الكفار في دينهم كما كنت أوذي أصحابك. فأذن له فكان صفوان يقول أبشروا الآن بوقعة تأتيكم تنسيكم وقعة بدر.
فلما قدم عمير مكة أقام بها يدعو إلى الله فاسلم معه ناس كثير وكان يؤذي من خالفه.
وقدم مكرز بن حفص بن الأخيف في فداء سهيل بن عمرو وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاور أبا بكر وعمر وعليا في الأسارى فأشار أبو بكر بالفداء، وأشار عمر بالقتل فمال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الفداء فأنزل الله تعالى (ما كان لنبي أن يكون له أسري حتى يثخن في الأرض) إلى قوله (لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) وكان الأسري سبعين فقتل من المسلمين عقوبة بالمفاداة يوم أحد سبعون وكسرت رباعية رسول الله صلى الله عليه وسلم وهشمت البيضة على رأسه وسال الدم على وجهه وانهزم أصحابه فأنزل الله تعالى (أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها).
وكان جميع من قتل من المسلمين ببدر أربعة عشر رجلا ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار. ورد رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة استصغرهم منهم: عبد الله بن عمر، ورافع بن خديج، والبراء
136

ابن عازب، وزيد بن ثابت، وأسيد بن خضير.
وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم لثمانية نفر بسهم في الأنفال لم يحضروا الوقعة منهم عثمان بن عفان كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه على زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، لمرضها وطلحة بن عبيد الله، وسعيد بن زيد كان أرسلهما يتجسسان خبر العير، وأبو لبابة خلفه على المدينة، وعاصم بن عدي خلفه على العالية، والحارث بن حاطب رده إلى بني عمرو بن عوف لشيء بلغه عنهم، والحارث بن الصمة كسر بالروحاء، وخوات بن جبير كسر في بدر أسفل سيفه ذي الفقار وكان لمنبه بن الحجاج - وقيل: كان للعاص بن منبه - قتله علي صبرا وأخذ سيفه ذا الفقار فكان للنبي صلى الله عليه وسلم فوهبه لعلي.
(رحضة بفتح الراء المهملة والحاء المهملة والضاد المعجمة. والحبار بضم الحاء المهملة والباء الموحدة. أسيد بن خضير بضم الهمزة والضاد المعجمة وخديج بفتح الخاء المعجمة وكسر الدال المهملة).
ذكر غزوة بني قينقاع
لما عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر أظهرت يهود له الحسد بما فتح الله عليه وبغوا ونقضوا العهد وكان قد وادعهم حين قدم المدينة مهاجرا فلما بلغه حسدهم جمعهم بسوق بني قينقاع. فقال لهم: احذروا ما نزل بقريش وأسلموا فإنكم قد عرفتم أني نبي مرسل، فقالوا: يا محمد لا يغرنك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب، فأصبت منهم فرصة. فكانوا أول يهود نقضوا ما بينهم وبينه. فبينما هم على مجاهرتهم وكفرهم
137

إذ جاءت امرأة مسلمة إلى سوق بني قينقاع فجلست عند صائغ لأجل حلى لها، فجاء رجل منهم فخل درعها إلى ظهرها وهي لا تشعر فلما قامت بدت عورتها فضحكوا منها، فقام إليه رجل من المسلمين فقتله ونبذوا العهد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحصنوا في حصونهم فغزاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاصرهم خمس عشرة ليلة، فنزلوا على حكمه فكتفوا وهو يريد قتلهم وكانوا حلفاء الخزرج فقام إليه عبد الله بن أبن بن سلول فكلمه فيهم فلم يجبه، فأدخل يده في جيب درع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأي الغضب في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ويحك أرسلني. فقال: لا أرسلك حتى تحسن إلى موالى أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود تحصدهم في غداة واحدة وإني والله لأخشى الدوائر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هم لك خلوهم لعنهم الله ولعنه معهم.
وغنم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون ما كان لهم من مال ولم يكن لهم أرضون إنما كانوا صاغة، وكان الذي أخرجهم عبادة بن الصامت الأنصاري فبلغ بهم ذباب ثم ساروا إلى أذرعات من أرض الشام، فلم يلبثوا إلا قليلا حتى هلكوا.
وكان قد استخلف على المدينة أبا لبابة وكان لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم مع حمزة،؟ قسم الغنيمة بين أصحابه وخمسها، وكان أول خمس أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول. ثم انصرف رسول الله صلى
الله عليه وسلم وحضر الأضحى وخرج إلى المصلى فصلى بالمسلمين، وهو أول صلاة عيد صلاها، وضحى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاتين، وقيل: بشاة وكان أول أضحى رآه المسلمون، وضحى
138

معه ذوو اليسار، وكانت الغزاة في شوال بعد بدر، وقيل: كانت في صفر سنة ثلاث وجعلها بعضهم بعد غزوة الكدر.
(ذباب بكسر الذال المعجمة وباءين موحدتين).
ذكر غزوة الكدر
قال ابن إسحاق: كانت في شوال سنة اثنتين، وقال الواقدي: كانت في المحرم سنة ثلاث، وكان قد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم اجتماع بني سليم على ماء لهم يقال له الكدر، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكدر فلم يلق كيدا وكان لواؤه مع علي بن أبي طالب، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، وعاد ومعه النعم والرعاء، وكان قدومه في قول لعشر ليال مضين من شوال، وبعد قدومه أرسل غالب بن عبد الله الليثي في سرية إلى بني سليم وغطفان فقتلوا فيهم، وغنموا النعم، واستشهد من المسلمين ثلاثة نفر، وعادوا منتصف شوال.
(الكدر بضم الكاف وسكون الدال المهملة).
ذكر غزوة السويق
كان أبو سفيان قد نذر بعد بدر أن لا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمدا، فخرج في مائتي راكب من قريش ليبر يمينه حتى جاء المدينة ليلا واجتمع بسلام بن مشكم سيد النضير فعلم منه خبر الناس، ثم خرج في
139

ليلته فبعث رجالا من قريش إلى المدينة فأتوا العريض فحرقوا في نخلها، وقتلوا رجلا من الأنصار وحليفا له، واسم الأنصاري: معبد بن عمرو، وعادوا ورأى أن قد بر في يمينه. وجاء الصريخ فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأعجزهم وكان أبو سفيان وأصحابه يلقون جرب السويق يتخففون منها [للنجاء]، وكان ذلك عامة زادهم فلذلك سميت غزوة السويق.
ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، قالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنطمع أن تكون لنا غزوة. قال: نعم، وقال أبو سفيان بمكة وهو يتجهز:
كروا على يثرب وجمعهم * فإن ما جمعوا لكم نفل
إن يك يوم القليب كان لهم * فإن ما بعده لكم دول
آليت لا أقرب النساء ولا * يمسن رأسي وجلدي الغسل
حتى تبيروا قبائل الأوس وال‍ * خزرج إن الفؤاد يشتعل
فأجابه كعب بن مالك بقوله:
يا لهف أم المسبحين على * جيش ابن حرب بالحرة الفشل
إذا يطرحون الرحال من شيم الطي‍ * ر ويرقى لقنة الجبل
جاؤوا بجمع لو قيس مبركه * ما كان إلا كمفحص الدئل
عار من النصر والثراء ومن * أبطال أهل البطحاء والأسل
140

وفي ذي الحجة منها مات عثمان بن مظعون فدفن بالبقيع، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس القبر حجرا علامة لقبره.
وقيل: إن الحسن بن علي ولد فيها. وقيل: إن علي بن أبي طالب بنى بفاطمة على رأس اثنين وعشرين شهرا، فإذا كان هذا صحيحا فالأول باطل.
وفي هذه السنة كتب المعاقلة وقربه بسيفه.
(سلام بتشديد اللام ومشكم بكسر الميم وسكون الشين المعجمة وفتح الكاف. والعريض بضم العين المهملة وفتح الراء وآخره ضاد معجمة واد بالمدينة).
141

3
ودخلت السنة الثالثة من الهجرة
في المحرم سنة ثلاث. سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جمعا من بني ثعلبة بن سعد بن ذبيان، وبني محارب بن حفص، تجمعوا ليصيبوا من المسلمين فسار إليهم في أربعمائة وخمسين رجلا، فلما صار بذي القصة لقي رجلا من ثعلبة فدعاه إلى الاسلام فأسلم وأخبره أن المشركين أتاهم خبره فهربوا إلى رؤوس الجبال فعاد ولم يلق كيدا، وكان مقامه اثنتي عشرة ليلة.
وفيها في جمادى الأولى غزا بني سليم ببحران، وسبب هذه الغزوة أن جمعا من بني سليم تجمعوا ببحران من ناحية الفرع، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فسار إليهم في ثلاثمائة فلما بلغ بحران وجدهم قد تفرقوا فانصرف ولم يلق كيدا، وكانت غيبته عشر ليال واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم.
(القصة بفتح القاف والصاد المهملة. وبحران بالباء الموحدة والحاء المهملة الساكنة).
142

ذكر قتل كعب بن الأشرف اليهودي
وفي هذه السنة قتل كعب بن الأشرف وهو أحد بني نبهان من طيئ، وكانت أمه من بني النضير وكان قد كبر عليه قتل من قتل ببدر من قريش فسار إلى مكة وحرض علن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبكى أصحاب بدر، وكان يشبب بنساء المسلمين حتى آذاهم، فلما عاد إلى المدينة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لي من ابن الأشرف؟ فقال محمد بن مسلمة الأنصاري: أنا لك به، أنا اقتله. قال: فافعل إن قدرت على ذلك. قال: يا رسول الله لا بد لنا ما نقول. قال: قولوا ما بدا لكم فأنتم في حل من ذلك.
فاجتمع محمد بن مسلمة، وسلكان بن سلامة بن وقش وهو أبو نائلة، والحارث بن أوس بن معاذ - وكان أخا كعب من الرضاعة - وعباد بن بشر، وأبو عبس بن جبر. ثم قدموا إلى ابن الأشرف أبا نائلة فتحدث معه ثم قال له: يا بن الأشرف إني قد جئتك لحاجة فاكتمها على. قال: افعل. قال: كان قدوم هذا الرجل شوما على العرب، قطع عنا السبل حتى ضاعت العيال وجهدت البهائم. فقال كعب: قد كنت أخبرتك بهذا، قال: أبو نائلة: وأريد أن تبيعنا طعاما ونرهنك ونوثق لك وتحسن في ذلك قال: ترهنوني أبناءكم. قال: أردت أن تفضحنا إن معي أصحابي على مثل رأيي تبيعهم وتحسن ونجعل عندك رهنا من الحلقة ما فيه وفاء - وأراد أبو نائلة بذكر الحلقة وهي السلاح أن لا ينكر السلاح إذا جاء مع أصحابه - فقال: إن في الحلقة لوفاء.
فرجع أبو نائلة إلى أصحابه فأخبرهم فأخذوا السلاح وساروا إليه،
143

وشيعهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى بقيع الغرقد، ودعا لهم فلما انتهوا إلى حصن كعب هتف به أبو نائلة وكان كعب قريب عهد بعرس فوثب إليه وعليه ملحفة وتحدثوا ساعة وسار معهم إلى شعب العجوز، ثم إن أبا نائلة أخذ برأس كعب وشم بيده وقال: ما رأيت كالليلة طيبا أعرف قط، ثم مشى ساعة وعاد لمثلها حتى اطمأن كعب ثم مشى ساعة وأخذ بفود رأسه، ثم قال: اضربوا عدو الله فاختلفت عليه أسيافهم فلم تغن شيئا. قال محمد بن مسلمة: فذكرت مغولا في سيفي فأخذته وقد صاح عدو الله صيحة لم يبق حولنا حصن ألا أوقدت عليه نار، قال: فوضعته في ثنته ثم تحاملت عليه حتى بلغت عانته ووقع عدو الله.
وقد أصيب الحارث بن أوس بن معاذ أصابه بعض أسيافنا. قال: فخرجنا على بعاث وقد أبطأ علينا صاحبنا فوقفنا له ساعة وقد نزفه الدم، ثم أتانا فاحتملناه وجئنا به للنبي صلى الله عليه وسلم فأخبرناه بقتل عدو الله، وتفل على جرح صاحبنا وعدنا إلى أهلينا فأصبحنا وقد خافت يهود، ليس عدو الله بها يهودي إلا وهو يخاف على نفسه.
قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه. فوثب محيصة بن مسعود على ابن سنينة اليهودي وهو من تجار يهود فقتله وكان يبايعهم، فقال له أخوه حويصة وهو مشرك: يا عدو الله قتلته أما والله لرب شحم في بطنك من ماله، وضربه. فقال محيصة. لقد أمرني بقتله من لو أمرني بقتلك لقتلتك. قال: فوالله إن كان لأول إسلام حويصة، فقال: إن دينا بلغ بك ما أرى لعجب ثم أسلم.
(عبس ابن جبر بفتح العين المهملة وسكون الباء الموحدة. وجبر
144

بالجيم والباء الموحدة وسنينة تصغير سن).
وفي ربيع الأول منها تزوج عثمان بن عفان أم كلثوم بنت النبي صلى الله عليه وسلم وبنى بها في جمادى الآخرة. وفيها ولد السائب بن زيد ابن أخت نمير. وقال الواقدي وفيها غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة أنمار، يقال لها: دوام وقد ذكرنا قول ابن إسحاق قبل ذلك.
وفيها كان غزوة الفردة وكان أميرها زيد بن حارثة، وهي أول سرية خرج فيها زيد أميرا.
وكان من حديثها أن قريشا خافت من طريقها التي كانت تسلك إلى الشام بعد بدر فسلكوا طريق العراق فخرج منهم جماعة. فيهم صفوان بن أمية، وأبو سفيان وكان عظيم تجارتهم الفضة، وكان دليلهم فرات بن حيان من بكر بن وائل فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا. فلقيهم على ماء يقال له الفردة فأصاب العير وما فيها وأعجزه الرجال فقدم بها على آ رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الخمس عشرين ألفا، وقسم الأربعة أخماس على السوية وأتي بفرات بن حيان أسيرا فأسلم فأطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(الفردة ماء بنجد وقد اختلف العلماء في ضبطه فقيل فردة بالفاء المفتوحة والراء الساكنة وبه مات زيد الخيل ويرد ذكره، وضبطه ابن الفرات في غير موضع قردة بالقاف، وقال ابن إسحاق: وسير زيد بن حارثة إلى الفردة ماء من مياه نجد ضبطه ابن الفرات أيضا بفتح الفاء والراء فإن كانا مكانين وإلا فقد ضبط ابن الفرات أحدهما خطأ).
145

ذكر قتل أبي رافع
في هذه السنة، في جمادى الآخرة قتل أبو رافع سلآم بن أبي الحقيق اليهودي، وكان يظاهر كعب بن الأشرف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قتل كعب بن الأشرف وكان قتلته من الأوس. قالت الخزرج: والله لا يذهبون بها علينا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم - وكانا يتصاولان تصاول الفحلين - فتذاكر الخزرج من يعادي رسول الله صلى الله عليه وسلم كابن الأشرف فذكروا ابن أبي الحقيق وهو بخيبر فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتله فأذن لهم فخرج إليه من الخزرج عبد الله بن عتيك ومسعود بن سنان، وعبد الله بن أنيس، وأبو قتادة، وخزاعي بن الأسود حليف لهم وأمر عليهم عبد الله بن عتيك فخرجوا حتى. قدموا خيبر فأتوا دار أبي رافع ليلا، فلم يدعوا بابا في الدار إلا أغلقوه علن أهله وكان في علية فاستأذنوا عليه فخرجت امرأته فقالت: من أنتم؟ قالوا: نفس من العرب يلتمسون الميرة. قالت: ذاك صاحبكم فأدخلوا عليه.
فدخلوا، فلما دخلوا أغلقوا باب العلية ووجدوه على فراشه وابتدروه، فصاحت المرأة فجعل الرجل منهم يريد قتلها فيذكر نهي النبي صلى الله عليه وسلم إياهم عن قتل النساء والصبيان فيمسك عنها، وضربوه بأسيافهم، وتحامل عليه عبد الله بن أنيس بسيفه في بطنه، حتى أنفذه، ثم خرجوا من عنده، وكان عبد الله بن. عتيك سئ البصر فوقع من الدرجة فوثئت رجله وثأ شديدا، فاحتملوه واختفوا وطلبتهم يهود في كل وجه فلم يروهم فرجعوا إلى
146

صاحبهم فقال المسلمون: كيف نعلم أن عدو الله قد مات؟ فعاد بعضهم ودخل في الناس فرأي الناس حوله وهو يقول: لقد عرفت صوت ابن عتيك ثم قلت؟ أين ابن عتيك. ثم صاحت امرأته وقالت: مات والله. قال: فما سمعت كلمة ألذ إلى نفسي منها، ثم عاد إلى أصحابه وأخبرهم الخبر وسمع صوت الناعي يقول: أنعى أبا رافع تاجر أهل الحجاز، وساروا حتى قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم، واختلفوا في قتله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هاتوا أسيافكم فجاؤوا بها فنظر إليها فقال لسيف عبد الله بن أنيس، هذا قتله، أري فيه أثر العظام.
وقيل في قتله: إن رسول الله
بعث إلى أبي رافع اليهودي وكان بأرض الحجاز رجالا من الأنصار وأمر عليهم عبد الله بن عتيك وكان أبو رافع يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما دنوا منه غربت الشمس وراح الناس بسرحهم، فقال عبد الله بن عتيك لأصحابه: أقيموا مكانكم، فإني أنطلق وأتلطف للبواب لعلي أدخل. فانطلق فأقبل حتى دنا من الباب فتقنع بثوبه كأنه يقضي حاجته فهتف به البواب إن كنت تريد أن تدخل فادخل فإني أريد أن أغلق الباب. فدخل، وأغلق الباب، وعلق المفاتيح علن وتد، قال: فقمت فأخذتها ففتحت بها الباب وكان أبو رافع يسمر عنده في علالي له، فلما أراد النوم ذهب عنه السمار فصعدت إليه فجعلت كلما فتحت بابا أغلقته علن من داخل، فقلت: إن علموا بي لم يخلصوا إلي حتى أقتله. قال: فانتهيت إليه فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله لا أدري أين هو؟ فقلت: أبا رافع. قال: من هذا؟ فأهويت نحو الصوت فضربته ضربة بالسيف وأنا دهش فما أغنى عني شيئا وصاح فخرجت من البيت غير بعيد ثم دخلت عليه فقلت: ما هذا الصوت؟ قال: لأمك الويل إن رجلا في البيت
147

ضربني بالسيف. قال: فضربته فأثخنته فلم أقتله ثم وضعت حد السيف في بطنه حتى أخرجته من ظهره، فعرفت أني قتلته فجعلت أفتح الأبواب وأخرج حتى انتهيت إلى درجة فوضت رجلي وأنا أظن أني انتهيت إلى الأرض فوقعت في ليلة مقمرة وانكسرت ساقي فعصبتها بعمامتي وجلست عند الباب فقلت: والله لا أبرح حتى أعلم أقتلته أم لا. فلما صاح الديك قام الناعي فقال: أنعي أبا رافع تاجر أهل الحجاز فانطلقت إلى أصحابي فقلت: النجاء قد قتل الله أبا رافع، فانتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته فقال: ابسط رجلك فبسطتها فمسحها فكأني لم أشتكها قط.
قيل: كان قتل أبي رافع في ذي الحجة سنة أربع من الهجرة والله أعلم.
(سلام بتشديد اللام. وحقيق بضم الحاء المهملة وفتح القاف الأولى تصغير حق).
وفيها تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة بنت عمر بن الخطاب في شعبان، وكانت قبله تحت (خنيس) - بضم الخاء المعجمة وبالنون المفتوحة وبالياء المعجمة باثنتين من تحت وبالسين المهملة - وهو ابن حذافة السهمي فتوفي فيها.
ذكر غزوة أحد
وفيها في شوال لسبع ليال خلون منه كانت وقعة أحد، وقيل للنصف منه. وكان الذي هاجها وقعة بدر، فإنه لما أصيب من المشركين من أصيب ببدر مشى عبد الله بن أبي ربيعة، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية وغيرهم ممن أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم بها فكلموا أبا سفيان ومن كان له
148

في تلك العير تجارة وسألوهم أن يعينوهم بذلك المال على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدركوا ثأرهم منهم ففعلوا وتجهز الناس وأرسلوا أربعة نفر وهم عمرو بن العاص، وهبيرة بن أبى وهب، وابن الزبعرى وأبو عزة الجمحي، فساروا في العرب ليستنفروهم، فجمعوا جمعا من ثقيف وكنانة وغيرهم واجتمعت قريش بأحابيشها ومن أطاعها من قبائل كنانة وتهامة، ودعا جبير بن مطعم غلامه وحشي بن حرب وكان حبشيا يقذف بالحربة قلما يخطئ فقال له: اخرجت الناس فإن قتلت عم محمد بعمي طعيمة بن عدي فأنت عتيق.
وخرجوا معهم بالظعن لئلا يفروا، وكان أبو سفيان قائد الناس فخرج بزوجته هند بنت عتبة وغيره من رؤساء قريش، خرجوا بنسائهم، خرج عكرمة بن أبي جهل بزوجته أم حكيم بنت الحارث بز هشام، وخرج الحارث بن المغيرة بفاطمة بنت الوليد بن المغيرة أخت خالد، وخرج صفوان بن أمية ببريرة - وقيل: برزة بنت مسعود الثقفية أخت عروة بن مسعود وهي أم ابنه عبد الله بن صفوان - وخرج عمرو بن العاص بريطة بنت منبه بن الحجاج وهي أم ولده عبد الله بن عمرو، وخرج طلحة بن أبي طلحة بسلافة بنت سعد؛ وهي أم بنيه مسافع والجلاس وكلاب وغيرهم، وكان مع النساء الدفوف يبكين على قتلى بدر يحرضن بذلك المشركين.
وكان مع المشركين أبو عامر الراهب الأنصاري وكان خرج إلى مكة مباعدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه خمسون غلاما من الأوس - وقيل: كانوا خمسة عشر - وكان يعد رز، قريشا أنه لو لقي محمدا لم يتخلف عنه من الأوس رجلان. فلما التقى الناس بأحد كان أبو عامر أول من لقي في
149

الأحابيش وعبدان أهل مكة، فنادى: يا معشر الأوس أنا أبو عامر. فقالوا: فلا أنعم الله بك عينا يا فاسق. فقال: لقد أصاب قومي بعدي شر. ثم في قاتلهم قتالا شديدا حتى راضخهم بالحجارة. وكانت هند كلما مرت بوحشي أو مر بها قالت له: يا أبا دسمة أشف واستشف - وكان يكنى أبا دسمة - فأقبلوا حتى نزلوا بعينين بجبل ببطن السبخة من قناة على شفير الوادي مما يلي المدينة.
فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون قال: إني رأيت بقرا فأولتها خيرا، ورأيت في ذباب سيفي ثلما، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم فإن أقاموا أقاموا بشر مقام وإن دخلوا علينا قاتلناهم فيها.
وكان رأى عبد الله بن أبي بن سلول مع رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره الخروج، وأشار بالخروج جماعة ممن استشهد يومئذ.
وأقامت قريش يوم الأربعاء والخميس والجمعة، ؤ وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صلى الجمعة فالتقوا يوم السبت نصف شوال فلما لبس رسول الله صلى الله عليه وسلم سلاحه وخرج ندم الذين كانوا أشاروا بالخروج إلى قريش وقالوا: استكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونشير عليه، فالوحي يأتيه فيه فاعتذروا إليه وقالوا: اصنع ما شئت. فقال: لا ينبغي لنبي أن يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل.
فخرج في ألف رجل واستخلف علن المدينة ابن أم مكتوم فلما كان بين المدينة واحد عاد عبد الله بن أبي بثلث الناس. فقال: أطاعهم وعصاني وكان من تبعه أهل النفاق والريب واتبعهم عبد الله بن حرام أخو بني سلمة يذكرهم الله أن لا يخذلوا نبيهم. فقالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم وانصرفوا. فقال: أبعدكم الله أعداء الله فسيغني الله عنكم. وبقي رسول
150

الله صلى الله عليه وسلم في سبعمائة فسار في حرة بني حارثة وبين أموالهم، فمر بمال رجل من المنافقين يقال له: مربع بن قيظي وكان ضرير البصر، فلما سمع حس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه قام يحثي التراب في وجوههم ويقول: إن كنت رسول الله فإني لا أحل لك أن تدخل حائطي وأخذ حفنة من تراب في يده، وقال: لو أعلم أني لا أصيب غيرك لضربت به وجهك، فابتدروه ليقتلوه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تفعلوا فهذا الأعمى، أعمى البصر وأعمى القلب، فضربه سعد بن زيد بقوس فشجه.
وذب فرس بذنبه فأصاب كلاب سيف صاحبه فاستله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: سيوفكم فإني أرى السيوف ستسل اليوم.
وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى نزل بعدوة الوادي، وجعل ظهره وعسكره إلى أحد، وكان المشركون ثلاثة آلاف. منهم سبعمائة دارع، والخيل مائتي فرس، والظعن خمس عشرة امرأة، وكان المسلمون مائة دارع، ولم يكن من الخيل غير فرسين فرس لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفرس لأبي بردة بن نيار، وعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم المقاتلة، فرد زيد بن ثابت، وابن عمر، وأسيد بن ظهير والبراء بن عازب، وعرابة بن أوس، وأبا سعيد الخدري، وغيرهم، وأجاز جابر بن سمرة، ورافع بن خديج.
وأرسل أبو سفيان إلى الأنصار يقول: خلوا بيننا وبين ابن عمنا فننصرف عنكم فلا حاجة لنا إلى قتالكم. فردوا عليه بما يكره.
وتعبأ المشركون، فجعلوا علن ميمنتهم خالد بن الوليد، وعلى ميسرتهم
151

عكرمة بن أبي جهل، وكان لواؤهم مع بني عبد الدار، فقال لهم أبو سفيان: إنما يؤتى الناس من قبل راياتهم فإما أن تكفونا وإما أن تخلوا بيننا وبين اللواء، يحرضهم بذلك. فقالوا: ستعلم إذا التقينا كيف نصنع، وذلك أراد.
واستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وترك أحدا خلف ظهره، وجعل وراءه الرماة، وهم خمسون رجلا وافر عليهم عبد الله بن جبير أخا خوات بن جبير وقال له: انضح عنا الخيل بالنبل لا يأتونا من خلفنا إن كانت لنا أو علينا، وأثبت مكانك إن كانت لنا أو علينا. وظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين درعين وأعطى اللواء مصعب بن عمير وأمر الزبير على الخيل ومعه المقداد، وخرج حمزة بالجيش بين يديه.
وأقبل خالد وعكرمة، فلقيهما الزبير والمقداد فهزما المشركين، وحمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فهزموا أبا سفيان، وخرج طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين،. وقال: يا معشر أصحاب محمد إنكم تزعمون أن الله يعجلنا بسيوفكم إلى النار ويعجلكم بسيوفنا إلى الجنة فهل أحد منكم يعجله سيفي إلى الجنة أو يعجلني سيفه إلى النار؟ فبرز إليه علي بن أبي طالب فضربه علي فقطع رجله فسقط وانكشفت عورته، فناشده الله [والرحم] فتركه، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لعلي: ما منعك أن تجهز عليه؟ قال: إنه ناشدني الله والرحم فاستحييت منه.
وكان بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم سيف فقال: من يأخذه بحقه؟ فقام إليه رجال فأمسكه عنهم، حتى قام أبو دجانة فقال: وما حقه يا رسول الله؟ قال: تضرب به العدو حتى ينحني. قال: أنا آخذه. فأعطاه إياه. وكان شجاعا، وكان إذا أعلم بعصابة له حمراء علم الناس أنه يقاتل - فعصب رأسه بها وأخذ السيف؟ وجعل يتبختر بين الصفين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها مشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن. فجعل لا يرتفع
152

له شيء إلا حطمه حتى انتهى إلى نسوة في سفح الجبل [معهن دفوف لهن] فيهن امرأة تقول:
نحن بنات طارق * نمشي علن النمارق
إن تقبلوا نعانق * ونفرش النمارق
أو تدبروا نفارق * فراق غير وامق
وتقول أيضا:
ويها بني عبد الدار * ويها حماة الأدبار
ضربا بكل بتار
فرفع السيف ليضربها ثم أكرم سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضرب به امرأة، وكانت المرأة هند والنساء معها يضربن بالدفوف خلف الرجال يحرضن.
واقتتل الناس قتالا شديدا وأمعن في الناس حمزة وعلي وأبو دجانة في رجال من المسلمين، وأنزل الله نصره على المسلمين وكانت الهزيمة على المشركين، وهرب النساء مصعدات في الجبل، ودخل المسلمون عسكرهم ينهبون. فلما نظر بعض الرماة إلى العسكر حين انكشف الكفار عنه أقبلوا يريدون النهب، وثبتت طائفة وقالوا: نطيع رسول الله ونثبت مكاننا فأنزل الله تعالى: (منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة) يعني
153

اتباع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن مسعود: وما علمت أن أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى نزلت الآية.
فلما فارق بعض الرماة مكانهم رأي خالد بن الوليد قلة من بقي من الرماة، فحمل عليهم فقتلهم وحمل عك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من خلفهم فلما رأى المشركون خيلهم تقاتل تبادروا فشدوا عنى المسلمين فهزموهم وقتلوهم، وقد كان المسلمون قتلوا أصحاب اللواء فبقي مطروحا لا يدنو منه أحد، فأخذته عمرة بنت علقمة الحارثية فرفعته فاجتمعت قريش حوله وأخذه صواب فقتل عليه، وكان الذي قتل أصحاب اللواء علي - قاله أبو رافع، قال: فلما قتلهم أبصر النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من المشركين فقال لعلي: [احمل عليهم]، ففرقهم وقتل فيهم، ثم أبصر جماعة أخرى فقال له: احمل عليهم، فحمل عليهم وفرقهم وقتل فيهم، فقال جبرائيل: يا رسول الله هذه المواساة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنه مني وأنا منه. فقال جبرائيل: وأنا منكما، قال: فسمعوا صوتا: لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا علي.
وكسرت رباعية رسول الله صلى الله عليه وسلم السفلى وشقت شفته وكلم في وجنته وجبهته في أصول شعره، وعلاه ابن قمئة بالسيف وكان هو الذي أصابه - وقيل أصابه عتبة بن أبي وقاص، وقيل: عبد الله بن شهاب الزهري جد محمد بن مسلم.
وقيل: إن عتبة بن أبي وقاص وابن قمئة الليثي الأدرمي من بني تيم بن غالب وكان أدرم ناقص الذقن وأبى بن خلف الجمحي، وعبد الله
154

ابن حميد الأسدي أسد قريش تعاقدوا على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما ابن شهاب فأصاب جبهته وأما عتبة فرماه بأربعة أحجار فكسر رباعيته. اليمنى وشق شفته. وأما ابن قمئة فكلم وجنته ودخل من حلق
المغفر فيها وعلاه بالسيف فلم يطق أن يقطع فسقط رسول الله صلى الله عليه وسلم فجحشت ركبته، وأما أبي بن خلف فشد عليه بحربة فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم منه وقتله بها، وقيل: بل كانت حربة الزبير أخذها منه، وقيل: أخذها من الحارث بن الصمة، وأما عبد الله بن حميد فقتله أبو دجانة الأنصاري.
ولما جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الدم يسيل على وجهه وهو يمسحه ويقول: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى الله! وقاتل دونه نفر خمسة من الأنصار فقتلوا، وترس أبو دجانة رسول الله صلى الله عليه وسلم
بنفسه فكان يقع النبل في ظهره وهو منحن عليه، ورمى سعد بن أبي وقاص دون رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يناوله السهم ويقول: ارم فداك أبي وأمي.
وأصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده فكانت أحسن عينيه. وقاتل مصعب بن عمير ومعه لواء المسلمين فقتل قتله ابن قمئة الليثي وهو يظن أنه النبي صلى الله عليه وسلم فرجع إلى قريش، وقال: قتلت محمدا فجعل الناس يقولون: قتل محمد، قتل محمد.
ولما قتل مصعب أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم اللواء علي
155

ابن أبي طالب. وقاتل حمزة حتى مر به سباع بن عبد العزى الغبشاني، فقال له حمزة: هلم إلي يا بن مقطعة البظور وكانت أمه أم أنمار ختانة بمكة فلما التقيا ضربه حمزة فقتله. قال وحشي: إني والله لأنظر إلى حمزة وهو يهذ الناس بسيفه [هذا] ما يلقى شيئا يمر به إلا قتله، وقتل سباع بن عبد العزى قال: فهززت حربتي ودفعتها عليه فوقعت في ثنته حتى خرجت من بين رجليه، وأقبل نحوي فقلب فوقع فأمهلته حتى مات، جئت فأخذت حربتي ثم تنحيت إلى العسكر، فرضي الله عن حمزة وأرضاه.
وقتل عاصم بن ثابت مسافع بن طلحة وأخاه كلاب بن طلحة بسهمين فحملا إلى أمهما سلافة وأخبراها أن عاصما قتلهما فنذرت إن أمكنها الله من رأسه أن تشرب فيه الخمر.
وبرز عبد الرحمن بن أبي بكر وكان مع المشركين وطلب المبارزة فأراد أبو بكر أن يبرز إليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: شم سيفك وأمتعنا بك.
وانتهى أنس بن النضر عم أنس بن مالك إلى عمر وطلحة في رجال من المهاجرين قد ألقوا بأيديهم فقال: ما يحبسكم؟ قالوا: قد قتل النبي صلى الله عليه وسلم! قال: فما تصنعون بالحياة بعده؟ موتوا على ما مات عليه. ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل فوجد به سبعون ضربة وطعنة، وما عرفه إلا أخته عرفته بحسن بنانه.
وقيل: إن انس بن النضر سمع نفرا من المسلمين يقولون لما سمعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل: ليت لنا من يأتي عبد الله بن أبي بن سلول ليأخذ لنا أمانا من أبي سفيان قبل أن يقتلونا. فقال لهم أنس: يا قوم إن
156

كان محمد قد قتل فإن رب محمد لم يقتل، فقاتلوا على ما قاتل عليه محمد، اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، ثم قاتل حتى قتل.
وكان أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك قال: فناديت بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله حي لم يقتل فأشار إليه أنصت فلما عرفه المسلمون نهضوا نحو العب ومعه علي، وأبو بكر، وعمر، وطلحة، والزبير، والحارث بن الصمة وغيرهم، فلما أسند إلى الشعب أدركه أبي بن خلف، وهو يقول: يا محمد لا نجوت إن نجوت. فعطف عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فطعنه بالحربة في عنقه، وكان أبي يقول بمكة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن عندي العود فرسا أعلفه كل يوم فرقا من ذرة أقتلك عليه، يم فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: بل أنا أقتلك إن شاء الله تعالى، فلما رجع إلى قريش وقد خدشه رسول الله صلى الله عليه وسلم خدشا غير كبير قال: قتلني محمد. قالوا: والله ما بك بأس. قال ج إنه قد كان قال لي أنا أقتلك فوالله لو بصق على لقتلني فمات عدو الله بسرف.
وقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد قتالا شديدا، فرمى بالنبل حتى فني نبله، وانكسرت سية قوسه، وانقطع وتره.
ولما جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل علي ينقل له الماء في درقته من المهراس ويغسله،
157

فلم ينقطع الدم فأتت فاطمة وجعلت تعانقه وتبكي وأحرقت حصيرا وجعلت على هو ما عطف من طرفي القوس. الجرح من رماده فانقطع الدم.
ورمى مالك بن زهير الجشمي النبي صلى الله عليه وسلم فاتقاه طلحة بيده. فأصاب السهم خنصره، وقيل: رماه حبان بن العرقة فقال: حس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو قال: باسم الله لد. خل الجنة والناس ينظرون إليه. وقيل: إن يده شلت إلا السبابة والوسطى والأول أثبت.
وصد أبو سفيان ومعه جماعة من المشركين في الجبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس لهم ان يعلونا، فقاتلهم عمر وجماعة من المهاجرين حتى أهبطوهم ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصخرة ليعلوها وكان عليه درعان فلم يستطع فجلس تحته طلحة حتى صعد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوجب طلحة.
وانتهت الهزيمة بجماعة المسلمين. فيهم عثمان بن عفان وغيره إلى الأعوص، فأقاموا به ثلاثا ثم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم حين رآهم، لقد ذهبتم فيها عريضة.
والتقى حنظلة بن أبي عامر غسيل الملائكة، وأبو سفيان بن حرب، فلما استعلاه حنظلة رآه شداد بن الأسود وهو ابن شعوب فدعاه أبو سفيان فأتاه فضرب حنظلة فقتله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه لتغسله الملائكة، فسلوا أهله فسئلت صاحبته. فقالت: خرج وهو جنب سمع الهائعة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لذلك غسلته الملائكة.
وقال أبو سفيان: يذكر صبره ومعاونة بن شعوب إياه على قتل حنظلة:
158

ولو شئت نجتني كميت طمرة * ولم أحمل النعماء لابن شعوب
فما زال مهري مزجر الكلب منهم * لدن غدوة حتى دنت لغروب
أقاتلهم وأدعي يا غالب * وأدفعهم عني بركن صليب
فبكى ولا ترعى مقالة عاذل * ولا تسأمي من عبرة بنحيب
أباك وإخوانا لنا قد تتابعوا * وحق لهم من عبرة بنصيب
وسلي الذي قد كان في النفس أنني * قتلت من النجار كل نجيب
ومن هاشم قرما نجيبا ومصعبا * وكان لدى الهيجاء غير هيوب
ولو أنني لم أشف منهم قرونني * لكانت شجا في القلب ذات ندوب
فأجابه حسان بقوله:
ذكرت القروم الصيد من آل هاشم * ولست لزور قلته بمصيب
أتعجب أن أقصدت حمزة منهم * عشاء وقد سميته بنجيب
ألم يقتلوا عمرا وعتبة وابنه * وشيبة والحجاج وابن حبيب
غداة دعا العاصي عليا فراعه * بضربة عضب بله بخضيب
ووقعت هند وصواحباتها على القتلى يمثلن بهم واتخذت هند من آذان الرجال وآنافهم خدما وقلائد وأعطت خدمها وقلائدها وحشيا، وبقرت عن كبد حمزة فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها.
159

ثم أشرف أبو سفيان على المسلمين فقال: أفي القوم محمد؟ [ثلاثا]. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تجيبوه. [ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ ثلاثا؟] ثم قال: أفي القوم عمر بن الخطاب؟ ثلاثا. ثم التفت إلى أصحابه فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا. فقال عمر: كذبت أي عدو الله قد أبقي الله لك ما يخزيك. فقال: اعل هبل، اعل هبل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا الله أعلى وأجل. فقال أبو سفيان: إن لنا العزي ولا عزي لكم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا الله مولانا ولا مولى لكم. فقال أبو سفيان: أنشدك الله يا عمر أقتلنا محمدا. قال عمر: اللهم لا وإنه ليسمع كلامك. فقال: أنت أصدق من ابن قمئة. ثم قال: هذا بيوم بدر والحرب سجال، أما إنكم ستجدون في قتلاكم مثلة والله ما رضيت ولا سخطت ولا نهيت ولا أمرت.
واجتاز به الحليس بن زبان سيد الأحابيش وهو يضرب في شدق حمزة بزج الرمح ويقول: ذق عقق. فقال الحليس: يا بني كنانة هذا سيد قريش يصنع بابن عمه كما ترون لحما. فقال أبو سفيان: اكتمها [عني] فإنها زلة.
وكانت أم أيمن حاضنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونساء من الأنصار يسقين الماء فرماها حبان بن العرقة بسهم فأصاب ذيلها فضحك، فدفع النبي صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن أبي وقاص سهما وقال: ارمه. فرماه فأصابه فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: استقاد لها سعد، أجاب الله دعوتك، وسدد رميتك.
ثم انصرف أبو سفيان ومن معه، وقال: إن موعدكم العام المقبل. ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا في أثرهم، وقال: انظر فإن
160

جنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة، وإن ركبوا الخيل فإنهم يريدون المدينة فوالذي نفسي بيده لئن أرادوها لأناجزنهم. قال علي: فخرجت في أثرهم فامتطوا الإبل وجنبوا الخيل يريدون مكة، فأقبلت أصيح ما أستطيع أن أكتم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بالكتمان.
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا أن ينظر في القتلى فرأى سعد بن الربيع الأنصاري وبه رمق فقال للذي رآه: أبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم عني السلام وقل له: جزاك الله عنا خير ما جزي نبيا عن أمته، وأبلغ قومي السلام وقل لهم: لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أذى وفيكم عين تطرف. ثم مات.
ووجد حمزة ببطن الوادي قد بقر بطنه عن كبده ومثل به فجدع أنفه وأذناه فحين رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لولا أن تحزن صفية أو تكون سنة بعدي لتركته حتى يكون في أجواف السباع وحواصل الطير، ولئن أظهرني الله على قريش لأمثلهن بثلاثين رجلا منهم. وقال المسلمون: لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب، فأنزل الله في ذلك (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) الآية فعفا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصبر ونهى عن المثلة.
وأقبلت صفية بنت عبد المطلب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبنها الزبير: لتردها لئلا تري ما بأخيها حمزة فلقيها الزبير فأعلمها بأمر النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إنه بلغني أنه مثل بأخي وذلك في الله قليل فما أرضانا بما كان من ذلك لأحتسبن ولأصبرن. فأعلم الزبير النبى
161

صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: خل سبيلها. فأتته وصلت عليه واسترجعت، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم به فدفن.
وكان في المسلمين رجل اسمه قزمان وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إنه من أهل النار فقاتل يوم أحد قتالا شديدا فقتل من المشركين ثمانية أو تسعة، ثم جرح فحمل إلى داره، وقال له المسلمون. أبشر قزمان. قال بم أبشر! وأنا ما قاتلت إلا عن أحساب قومي. ثم اشتد عليه جرحه فأخذ سهما فقطع رواهشه فنزف الدم فمات، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أشهد أني رسول الله.
وكان. ممن قتل يوم أحد مخيريق اليهودي قال ذلك اليوم ليهود: يا معشر يهود لقد علمتم أن نصر محمد عليكم حق. فقالوا: إن اليوم يوم السبت. فقال: لا سبت. وأخذ سيفه وعدته وقال: إن قتلت فمالي لمحمد يصنع به ما يشاء. ثم غدا فقاتل حتى قتل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مخيريق خير يهود.
وقتل اليمان أبو حذيفة قتله المسلمون وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رفعه وثابت بن قيس بن وقش مع النساء فقال أحدهما لصاحبه وهما شيخان: ما ننتظر أفلا نأخذ أسيافنا فنلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم لعل الله أن يرزقنا الشهادة؟ ففعلا ودخلا في الناس ولا يعلم بهما فأما ثابت فقتله المشركون، وأما اليمان فاختلف عليه سيوف المسلمين فقتلوه ولا يعرفونه فقال حذيفة: أبي أبي. فقالوا: والله ما عرفناه. فقال: يغفر الله لكم. وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يديه فتصدق حذيفة بديته على المسلمين.
واحتمل بعض الناس قتلاهم إلى المدينة، فأمر رسول الله في صلى الله عليه وسلم بدفنهم حيث صرعوا، وأمر أن يدفن الإثنان والثلاثة في القبر
162

الواحد. وأن يقدم إلى القبلة أكثرهم قرانا، وصلى عليهم. فكان كلما أتي بشهيد جعل حمزة معه، وصلى عليهما، وقيل: كان يجمع تسعة من الشهداء وحمزة عاشرهم فيصلي عليهم. ونزل في قبره علي، وأبو بكر، وعمر، والزبير، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على حفرته، وأمر أن يدفن عمرو بن الجموح، وعبد الله بن حرام في قبر واحد وقال: كانا متصافيين في الدنيا.
فلما دفن الشهداء انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقيته حمنة بنت جحش فنعى لها أخاها عبد الله فاسترجعت له ثم نعى أخاها حمزة فاستغفرت له، ثم نعى لها زوجها مصعب بن عمير فولولت وصاحت؛ فقال: إن زوج المرأة منها لبمكان.
ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدار من دور الأنصار فسمع البكاء والنوائح فذرفت عيناه بالبكاء وقال: لكن حمزة لا بواكي له. فرجع سعد بن معاذ إلى دار بني عبد الأشهل فأمر نساءهم أن يذهبن فيبكين على حمزة.
ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة من الأنصار قد أصيب أبوها وزوجها فلما نعيا لها قالت: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: هو بحمد الله كما تحبين. قالت: أرونيه، فلما نظرت إليه قالت: كل مصيبة بعدك جلل. وكان رجوعه إلى المدينة يوم السبت يوم الوقعة.
163

(نيار بالنون المكسورة والياء تحتها نقطتان وآخره راء. وجبير بضم الجيم تصغير جبر، وخوات بالخاء المعجمة والواو المشددة وبعد الألف تاء فوقها نقطتان، وحبان بكسر الحاء المهملة وبالباء الموحدة وآخره نون، والحليس بضم الحاء المهملة تصغير حلس: وزبان: بالزاي والباء الموحدة وآخره نون).
ذكر غزوة حمراء الأسد
لما كان الغد من يوم الأحد أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغزو، وقال: لا يخرج معنا إلا من حضر بالأمس.
فخرج ليظن الكفار به قوة، وخرج معه جماعة جرحن يحملون نفوسهم وساروا حتى بلغوا حمراء الأسد، وهي من المدينة علن سبعة أميال - فأقام بها الاثنين ين والثلاثاء والأربعاء، ومر به معبد الخزاعي وكانت خزاعة مسلمهم، ومشركهم عيبة نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم بتهامة، وكان معبد مشركا فقال: [يا محمد] لقد عز علينا ما أصابك. ثم خرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم فلقي أبا سفيان ومن معه بالروحاء قد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستأصلوا المسلمين بزعمهم فلما رأى أبو سفيان معبدا.! بر قال: ما وراءك؟ قال: محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله، قد جمع معه من. تخلف عنه وندموا على ما صنعوا، وما ترحل حتى تري نواصي الخيل. قال: فوالله قد أجمعنا الرجعة لنستأصل بقيتهم. قال: إني أنهاك عن هذا. فثنى [ذلك] أبا سفيان ومن معه.
ومر بأبي سفيان ركب من عبد القيس. فقال لهم: بلغوا عني محمدا رسالة وأحمل لكم إبلكم هذه زبيبا بعكاظ. قالوا: نعم. قال: أخبروه أنا قد
164

أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصلهم. فمروا بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد فأخبروه فقال صلى الله عليه وسلم: حسبنا الله ونعم الوكيل. ثم عاد إلى المدينة، وظفر في طريقه بمعاوية بن المغيرة بن أبي العاص وبأبي عزة عمرو بن عبيد الله الجمحي، وكان قد تخلف عن المشركين بحمراء الأسد، ساروا وتركوه نائما وكان أبو عزة قد أسر يوم بدر فأطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير فداء لأنه شكا إليه فقرا وكثير عيال فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه العهود أن لا يقاتله ولا يعين علن قتاله فخرج معهم يوم أحد وحرض على المسلمين فلما أتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له: يا محمد امنن علي. قال: المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين. وأمر به وقتل.
وأما معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية وهو الذي جدع أنف حمزة ومثل به مع من مثل به وكان قد أخطأ الطريق فلما أصبح أتن دار عثمان بن عفان فلما رآه قال له عثمان: أهلكتني وأهلكت نفسك. فقال: أنت أقربهم مني رحما وقد جئتك لتجيرني. وأدخله عثمان داره وقصد رسول الله في صلى الله عليه وسلم ليشفع في فسمع
رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: إن معاوية بالمدينة فاطلبوه، فأخرجوه من منزل عثمان وانطلقوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عثمان: والذي بعثك بالحق ما جئت الا لأطلب له أمانا فهبه لي. فوهبه له وأجله ثلاثة أيام، وأقسم لئن أقام بعدها ليقتلنه فجهزه عثمان وقال له: ارتحل.
وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حمراء الأسد وأقام معاوية ليعرف أخبار النبي صلى الله عليه وسلم. فلما كان اليوم الرابع قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن معاوية أصبح قريبا ولم يبعد فاطلبوه فطلبه زيد بن حارثة وعمار فأدركاه بالحماة فقتلاه.
165

وهذا معاوية جد عبد الملك بن مروان بن الحكم لأمه.
وفيها قيل: ولد الحسن بن علي في النصف من شهر رمضان. وفيها علقت فاطمة بالحسين وكان بين ولادتها وحملها خمسون يوما. وفيها حملت جميلة بنت عبد الله بن أبي [بعبد الله بن حنظلة بن أبي] عامر غسيل الملائكة في شوال.
166

4
ودخلت السنة الرابعة من الهجرة
ذكر غزوة الرجيع
في هذه السنة في صفر كانت غزوة الرجيع.
وكان سببها أن رهطا من عضل والقار ة قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن فينا إسلاما فابعث لنا نفرا يفقهوننا في الدين ويقرئوننا القرآن. فبعث معهم ستة نفر وأمر عليهم عاصم بن ثابت، وقيل: مرثد بن أبي مرثد، فلما كانوا بالهدأة، غدروا واستصرخوا عليهم حيا من هذيل يقال لهم: بنو لحيان فبعثوا لهم مائة رجل فالتجأ المسلمون إلى جبل فاستنزلوهم، وأعطوهم العهد فقال عاصم: والله لا أنزل [على] عهد كافر، اللهم خبر نبيك عنا، وقاتلهم هو ومرثد، وخالد بن البكير، ونزل إليهم ابن الدثنة، وخبيب بن عدي ورجل آخر فأوثقوهم. فقال الرجل الثالث: هذا أول الغدر، والله لا أتبعكم فقتلوه.
وانطلقوا بخبيب وابن الدثنة فباعوهما بمكة فأخذ خبيبا بنو الحارث بن عامر بن نوفل وكان خبيب هو الذي قتل الحارث بأحد فأخذوه ليقتلوه بالحارث فبينما خبيب عند بنات الحارث استعار من بعضهن موسى يستحد بها للقتل فدب صبي لها فجلس على فخذ خبيب والموسى في
167

يده، فصاحت المرأة، فقال خبيب: أتخشين أن أقتله؟ إن الغدر ليس من شأننا. فكانت المرأة تقول: ما رأيت أسيرا خيرا من خبيب؛ لقد رأيته وما بمكة ثمرة وإن في يده لقطفا من عنب يأكله ما كان ألا رزقا رزقه الله خبيبا.
فلما خرجوا من الحرم بخبيب ليقتلوه قال: ردوني أصلي ركعتين، فتركوه فصلاهما فجرت سنة لمن قتل صبرا، ثم قال خبيب: لولا أن تقولوا جزع لزدت، وقال أبياتا، منها:
ولست أبالي حين أقتل مسلما * على أي شق كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإفه وإن يشأ * يبارك على أوصال شلو ممزع
اللهم أحصهم عددا واقتلهم بددا ثم صلبوه.
وأما عاصم بن ثابت فإنهم أرادوا رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد وكانت نذرت أن تشرب الخمر في رأس عاصم لأنه قتل ابنيها بأحد فجاءت النحل فمنعته، فقالوا: دعوه حتى لمسي فنأخذه. فبعث الله الوادي فاحتمل عاصما، وكان عاهد الله أن لا يمس مشركا ولا يمسه مشرك فمنعه الله في مماته كما منع في حياته.
وأما ابن الدثنة فان صفوان بن أمية بعث به مع غلامه نسطاس إلى التنعيم ليقتله بابنيه فقال نسطاس: أنشدك الله أتحب أن محمدا الآن عندنا مكانك نضرب عنقه وإنك في أهلك. قال: ما أحب أن محمدا الآن مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي، فقال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا، ثم قتله نسطاس.
(خبيب بضم الخاء المعجمة وفتح الباء الموحدة بعدها ياء تحتها نقطتان وآخره باء موحدة أيضا. و (البكير) بضم الباء الموحدة تصغير بكر).
168

ذكر إرسال عمرو بن أمية لقتل أبي سفيان
ولما قتل عاصم وأصحابه بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري إلى مكة مع رجل من الأنصار، وأمرهما بقتل أبي سفيان بن حرب، قال عمرو: فخرجت أنا ومعي بعير لي وبرجل صاحبي علة فكنت أحمله على بعيري حتى جئنا بطن يأجج فعقلنا بعيرنا في فناء شعب وقلت لصاحبي: انطلق بنا إلى دار أبي سفيان لنقتله فإن خشيت شيئا فالحق بالبعير فاركبه، والحق برسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر وخل عني فإني عالم بالبلد يحث السياق.
فدخلنا مكة ومعي خنجر [قد أعددته] إن عاقني إنسان ضربته به فقال لي صاحبي: هل لك ان نبدأ فنطوف ونصلي ركعتين فقلت: إن أهل مكة يجلسون بأفنيتهم وأنا أعرف بها فلم يزل بي حتى أتينا البيت فطفنا وصلينا ثم خرجنا فمررنا بمجلس لهم فعرفني بعضهم فصرخ بأعلى صوته هذا عمرو بن أمية. فثار أهل مكة إلينا وقالوا: ما جاء إلا لشر، وكان فاتكا متشيطنا في الجاهلية. فقلت لصاحبي: النجاء هذا والله الذي كنت أحذر، أما أبو سفيان فليس إليه سبيل فانج بنفسك فخرجنا [نشتد] حتى صعدنا الجبل فدخلنا غارا فبتنا فيه ليلتنا ننتظر أن يسكن الطلب. قال: فوالله إني لفيه إذ أقبل عثمان بن مالك التيمي [يختل] بفرس له، فقام على باب الغار، فخرجت إليه فضربته بالخنجر تحت الثدي فصاح صيحة أسمع أهل مكة، فأقبلوا إليه ورجعت إلى مكاني فوجدوه وبه رمق فقالوا: من ضربك؟ قال: عمرو بن أمية. ثم مات ولم يقدر يخبرهم بمكاني وشغلهم قتل صاحبهم عن طلبي،
169

فاحتملوه ومكثنا في الغار يومين حتى سكن [عنا] الطلب، ثم خرجنا إلى التنعيم فإذا بخشبة خبيب، وحوله حرس فصعدت خشبته واحتملته على ظهري فما مشيت به إلا نحو أربعين خطوة حتى نذروا بي؛ فطرحته فاشتدوا في أثري فأخذت الطريق فأعيوا ورجعوا وانطلق صاحبي فركب البعير وأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، وأما خبيب فلم ير بعد ذلك، وكأن الأرض ابتلعته. قال: وسرت حتى دخلت غارا بضجنان ومعي قوسي وأسهمي فبينا أنا فيه إذ دخل على رجل من بني الدئل أعور طويل يسوق غنما فقال: من الرجل؟ قلت: من بني الدئل فاضطجع معي ورفع عقيرته يتغنى ويقول:
ولست بمسلم ما دمت حيا * ولست أدين دين المسلمينا
ثم نام فقتلته أسوأ قتلة ثم سرت، فإذا رجلان بعثتهما قريش يتجسسان أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرميت أحدهما بسهم فقتلته، واستأسرت الأخر فقدمت على النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرته الخبر فضحك حتى بدت نواجذه ودعا لي بخير.
وفي هذه السنة تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت خزيمة أم المساكين من بني هلال في شهر رمضان، وكانت قبله عند الطفيل بن الحارث فطلقها.
وولى المشركون الحج في هذه السنة.
170

ذكر بثر معونة
في هذه السنة في صفر قتل جمع من المسلمين ببئر معونة.
وكان سبب ذلك أن أبا براء بن عازب بن عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الأسنة سيد بني عامر بن صعصعه قدم المدينة وأهدى للنبي صلى الله عليه وسلم هدية فلم يقبلها، وقال: يا أبا براء لا أقبل هدية مشرك، ثم عرض عليه الإسلام، فلم يبعد عنه ولم يسلم، وقال: إن أمرك هذا حسن، فلو بعثت رجلا من أصحابك إلى أهل نجد يدعوهم إلى أمرك لرجوت أن يستجيبوا لك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أخشن عليهم أهل نجد. فقال أبو براء: أنا لهم جار.
فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين رجلا فيهم المنذر بن عمر والأنصاري، والحارث بن الصمة، وحرام بن ملحان، وعامر بن فهيرة وغيرهم - قيل: كانوا أربعين - فساروا حتى نزلوا ببئر معونة من أرض
بني عامر، وحرة بني سليم فلما نزلوها بعثوا حرام بن ملحان بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى عامر بن الطفيل، فلما أتاه لم ينظر إلى الكتاب وعدا علن حرام فقتله. فلما طعنه قال: الله أكبر فزت ورب الكعبة! واستصرخ بنى عامر فلم يجيبوه وقالوا: لن نخفر أبا براء فقد أجارهم، فاستصرخ بنى سليم، عصية ورعل وذكوان، فأجابوه وخرجوا حتى أحاطوا بالمسلمين فقاتلوهم حتى قتلوا عن آخرهم إلا كعب بن زيد الأنصاري، فإنهم تركوه وبه رمق فعاش، حتى قتل يوم الخندق.
وكان في سرح القوم عمرو بن أمية ورجل من الأنصار فرأيا الطير تحوم على
171

العسكر فقالا: إن لها لشأنا فأقبلا ينظران فإذا القوم صرعى وإذا الخيل واقفة فقال عمرو:. نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره الخبر. فقال الأنصاري: لا أرغب بنفسي عن موطن فيه المنذر بن سرو ثم قاتل القويم حتى قتل، فأخذوا عمرو بن أمية أسيرا، فلما علم عامر أنه من معد أطلقه، وخرج عمرو حتى إذا كان بالقرقرة لقي رجلين من بني عامر فنزلا معه ومعهما عقد من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعلم به عمرو فقتلهما ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم الخبر فقال له: لقد قتلت قتيلين لأدينهما، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا عمل أبي براء، فشق عليه ذلك.
وكان فيمن قتل عامر بن فهيرة، فكان عامر بن الطفيل يقول: من الرجل منهم لما قتلي رفع بين السماء والأرض؟ قالوا: هو عامر بن فهيرة. وقال حسان بن ثابت يحرض بني أبي براء على عامر بن الطفيل:
بني أم البنين ألم يرعكم * وأنتم من ذوائب أهل نجد.
تهكم عامر بأبي براء * ليخفره وما خطأ كعمد
في أبيات له. فقال كعب بن مالك:
لقد طارت شعاعا كل وجه * خفارة ما أجار أبو براء
في أبيات أخرى.
فلما بلغ ربيعة بن أبي براء ذلك حمل على عامر بن الطفيل فطعنه فخر عن فرسه فقال: إن مت فدمي لعمي. وأنزل الله عز وجل في أهل بئر معونة قرآنا (بلغوا قومنا عنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه) ثم نسخت.
172

(معونة بفتح الميم، وضم العين المهملة وبعد الواو نون، وحرام بالحاء المهملة والراء وملحان بكسر الميم وبالحاء المهملة).
ذكر إجلاء بني النضير
وكان سبب ذلك أن عامر بن الطفيل أرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب دية العامريين اللذين قتلهما عمرو بن أمية، وقد ذكرنا ذلك.
فخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير يستعينهم فيها ومعه جماعة من أصحابه، فيهم أبو بكر؛ وعمر، وعلي، فقالوا: نعم نعينك على ما أحببت، ثم خلا بعضهم ببعض وتآمروا علن قتله وهو جالس إلى جنب جدار فقالوا: من يعلو هذا البيت فيلقي عليه صخرة فيقتله ويريحنا منه؟ فانتدب له عمرو بن جحاش، فنهاهم عن ذلك سلآم بن مشكم وقال: هو يعلم. فلم يقبلوا منه، وصعد عمرو بن جحاش، فأتى الخبر من السماء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما عزموا عليه، فقام وقال لأصحابه: لا تبرحوا حتن آتيكم وخرج راجعا إلى المدينة، فلما أبطأ قام أصحابه في طلبه فأخبرهم الخبر، وأمر المسلمين بحربهم، ونزل بهم فتحصنوا منه في الحصون فقطع النخل وأحرق وأرسل إليهم عبد الله بن أبن وجماعة معه أن اثبتوا وتمنعوا فإنا لن نسلمكم وإن قوتلتم قاتلنا معكم وإن خرجتم خرجنا معكم وقذف الله في قلوبهم الرعب فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يجليهم ويكف عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل من الأموال إلا السلاح فأجابهم إلى ذلك، فخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام، فكان ممن سار إلى خيبر كنانة بن الربيع وحمي بن أخطب، وكان فيهم يومئذ أم عمر وصاحبة عروة بن الورد التي ابتاعوا منه وكانت غفارية.
173

فكانت [أموال] النضير لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحده يضعها حيث شاء، فقسمها على المهاجرين الأولين دون الأنصار إلا أن سهل بن حنيف وأبا دجانة ذكرا فقرا فأعطاهما ولم يسلم من بني النضير إلا يامين بن عمير بن كعب، - هو ابن عم عمرو بن جحاش، وأبو سعيد بن وهب وأحرزا أموالهما.
واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم وكانت رايته مع على بن أبي طالب.
(سلام بتشديد [اللام]. ومشكم بكسر الميم وسكون الشين المعجمة، والكاف).
غزوة ذات الرقاع
أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد بني النضير شهري ربيع ثم غزا نجدا يريد بني محارب وبني ثعلبة من غطفان حتى نزل نخلا وير غزوة الرقاع سميت بذلك لأجل جبل كانت الوقعة به، فيه سواد وبياض وحمرة؛ فاستخلف على المدينة عثمان بن عفان فلقي المشركين ولم يكن قتال وخاف الناس بعضهم بعضا فنزلت صلاة الخوف، وقد اختلف الرواة في صلاة الخوف، وهو مستقصى في كتب الفقه.
وجاء رجل من محارب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فطلب منه أن ينظر إلى سيفه فأعطاه السيف فلما أخذه وهزه قال: يا محمد أما تخافني. قال: لا قال: أما تخافني وفي يدي السيف. قال: لا. يمنعني الله، منك. فرد السيف إليه.
174

وأصاب المسلمون امرأة منهم وكان زوجها غائبا فلما أتى أهله أخبر الخير فحلف لا ينتهي حتى يهريق في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم دما وخرج يتبع أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من يحرسنا الليلة؟ فانتدب رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار فأقاما بفم شعب نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم واضطجع المهاجري وحرس الأنصاري أول الليل وقام يصلي، وجاء زوج المرأة فرأى شخصه فعرف أنه ربيئة القوم فرماه بسمهم، فوضعه فيه فانتزعه وثبت قائما يصلي، ثم رماه بسهم آخر فأصابه فنزعه وثبت يصلي، ثم رماه بالثالث فوضه فيه فانتزعه، ثم ركع وسجد، ثم أيقظ صاحبه وأعلمه فوثب، فلما رآهما الرجل علم أنهما علما به، فلما رأى المهاجري ما بالأنصاري قال: سبحان الله ألا أيقظتني أول ما رماك. قال: كنت في سورة أقرأها فلم أحب أن أقطعها فلما تابع علي الرمي أعلمتك وأيم الله لولا خوفي أن أضيع ثغرا أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه لقطع نفسي قبل أن أقطعها.
وقيل إن هذه الغزوة كانت في المحرم سنة خمس من الهجرة.
ذكر غزوة بدر الثانية
وسميت أيضا غزوة السويق.
وفي شعبان منها خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر لميعاد أبي سفيان بن حرب حتى نزل بدرا فأقام عليها ثماني ليال ينتظر أبا سفيان، وخرج أبو سفيان في أهل مكة إلى مر الظهران، وقيل: إلى عسفان، ثم رجع ورجعت قريش معه فسماهم أهل مكة جيش السويق، يقولون: إنما خرجتم تشربون السويق.
175

واستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة عبد الله بن رواحة.
وفيها تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة.
وفيها أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت أن يتعلم كتاب يهود.
وفيها، في جمادى الأولى مات عبد الله بن عثمان بن عفان، وأمه رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلى عليه رسول الله وكان عمره ست سنين. وفيها ولد الحسين بن علي بن أبي طالب في قول، وولي الحج فيها المشركون.
176

5
الأحداث في السنة الخامسة من الهجرة
فيها تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش وهي ابنة عمته كان زوجها مولاه زيد بن حارثة، وكان يقال له: زيد بن محمد فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريده، وعلى الباب ستر من شعر فرفعته الريح فرآها وهي حاسرة فأعجبته، وكرهت إلى زيد فلم يستطع أن يقربها، فحاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم
فأخبره فقال: أرابك فيها شيء؟ قال: لا والله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (أمسك عليك زوجك واتق الله) ففارقها زيد وحلت، وأنزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من يبشر زينب، إن الله قد زوجنيها؟ وقرأ عليهم قوله تعالى (وإذ تقول للذي أنعم الله عليه) الآية. فكانت زينب تفخر على نسائه وتقول زوجكن أهلوكن وزوجني الله من السماء.
وفيها كانت غزوة دومة الجندل، في ربيع الأول، وسببها أنه بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن بها جمعا من المشركين فغزاهم فلم يلق كيدا، وخلف على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري وغنم المسلمون إبلا وغنما وجدت لهم.
وماتت أم سعد بن عبادة وسعد مع النبي صلى الله عليه وسلم في هذه
177

الغزاة. وفيها وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم عيينة بن حصن الفزاري [أن يرعى بتغلمين وما والاها].
(عيينة بضم العين تصغير عين).
ذكر غزوة الخندق وهي غزوة الأحزاب
وكانت في شوال، وكان سببها أن نفرا من يهود من بني النضير، منهم سلام بن أبي الحقيق، وحيي بن أخطب، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وغيرهم حزبوا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدموا على قريش بمكة فدعوهم إلي حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: نكون معكم حتى نستأصله. فأجابوهم إلى ذلك تم أتوا على غطفان فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبروهم أن قريشا معهم على ذلك فأجابوهم، فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن في بني فزارة، والحارث بن عوف بن أبي حارثة المري في مرة، ومسعر بن رخيلة الأشجعي في أشجع.
فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بحفر الخندق وأشار به سلمان الفارسي وكان أول مشهد شهده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يومئذ حر، فعمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم رغبة في الأجر وحثا للمسلمين وتسلل عنه جماعة من المنافقين بغير علم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله في ذلك: (قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا) الآية، وكان الرجل من المسلمين إذا
178

نابته نائبة لحاجة لا بد منها يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقضي حاجته تم يعود، فأنزل الله تعالى: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله) الآية.
وقسم الخندق بين المسلمين فاختلف المهاجرون والأنصار في سلمان كل يدعيه أنه منهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلمان منا سلمان منا أهل البيت. وجعل لكل عشرة أربعين ذراعا فكان سلمان وحذيفة والنعمان بن مقرن، وعمرو بن عوف وستة من الأنصار يعملون فخرجت عليهم صخرة كسرت المعول فأعلموا النبي صلى الله عليه وسلم فهبط إليها ومعه سلمان فأخذ المعول وضرب الصخرة ضربة صدعها، وبرقت منها برقة أضاءت ما بين لابتي المدينة فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، تم الثانية كذلك، تم الثالثة كذلك تم خرج وقد صدعها فسأله سلمان عما رأى من البرق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أضاءت الحيرة وقصور كسرى في البرقة الأولى، وأخبرني جبرائيل أن أمتي ظاهرة عليها، وأضاء لي في الثانية القصور الحمر من أرض الشام والروم وأخبرني أن أمتي ظاهرة عليها، وأضاء لي في الثالثة قصور صنعاء وأخبرني أن أمتي ظاهرة عليها فأبشروا، فاستبشر المسلمون.
وقال المنافقون: ألا تعجبون يعدكم الباطل، وتخبركم أنه ينظر من يثرب الحيرة، ومدائن كسرى، وإنها تفتح لكم، وأنتم ولا تستطيعون أن تبرزوا فأنزل الله (وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا).
179

فأقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع الأسيال من رومة بين الجرف وزغابة في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تابعهم من كنانة وتهامة، وأقبلت غطفان ومن تابعهم حتى نزلوا إلى جنب أحد وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون فجعلوا ظهورهم إلى سلع في ثلاثة آلاف فنزل هناك، ورفع الذراري والنساء في الآطام. وخرج حمي بن أخطب حتى أتى كعب بن أسد سيد قريظة وكان قد وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه فأغلق كعب حصنه ولم يأذن له وقال: إنك امرؤ مشؤم وقد عاهدت محمدا ولم أر منه إلا الوفاء. قال حي: يا كعب قد جئتك بعز الدهر وببحر طام جئتك بقريش وقادتها وسادتها، وغطفان بقادتها وقد عاهدوني أنهم لا يبرحون حتى يستأصلوا محمدا وأصحابه. قال كعب: جئتني بذل الدهر وبجهام قد هراق ماءه يرعد وتبرق وليس فيه شيء، ويحك يا حيي! دعني [ومحمدا]. ولم يزل به يفتله في الذروة والغارب حتى حمله على الغدر بالنبي صلى الله عليه وسلم ففعل ونكت العهد، وعاهده حمي إن عادت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمدا أن أدخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك. فعظم عند ذلك البلاء واشتد الخوف وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم ونجم النفاق من بعض المنافقين، وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركون عليه بضعا وعشرين ليلة قريبا من شهر، ولم يكن بين القوم حرب إلا الرمي [بالنبل].
فلما اشتد البلاء بعت رسول الله صلى الله عليه وسل إلى عيينة بن حصن والحارث بن عوف المري قائدي غطفان فأعطاهما
ثلث ثمار
180

المدينة على أن يرجعوا بمن معهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجابا إلى ذلك، فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة فقالا: يا رسول الله شيء تحب أن تصنعه أم شيء أمرك الله به أو شيء تصنعه لنا؟ قال: بل [لكم]، رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة فأردت أن أكسر عنكم شوكتهم، فقال سعد بن معاذ: قد كنا نحن وهم على الشرك ولا يطمعون أن يأكلوا منا تمرة إلا قرى أو بيعا فحين أكرمنا الله بالاسلام نعطيهم أموالنا! ما نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم، فترك ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تم إن فوارس من قريش منهم عمرو بن عبدود أحد بني عامر بن لؤي، وعكرمة بن أبي جهل، وهبيرة بن أبي وهب، ونوفل بن عبد الله، وضرار بن الخطاب الفهري خرجوا على خيولهم واجتازوا ببني كنانة وقالوا: تجهزوا للحرب وستعلمون من الفرسان. وكان عمرو بن عبدود قد شهد بدرا كافرا وقاتل حتى كثرت الجراح فيه ولم يشهد أحدا وشهد الخندق معلما حتى يعرف مكانه، فأقبل هو وأصحابه حتى وقفوا على الخندق تم تيمموا مكانا ضيقا فاقتحموه فجالت بهم خيولهم في السبخة بين الخندق وسلع، وخرج علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين فأخذوا عليهم الثغرة وكان عمرو قد خرج معلما فقال له علي: يا عمرو إنك عاهدت أن لا يدعوك رجل من قريش إلى خصلتين إلا أخذت إحداهما. قال: أجل. قال له علي: فإني أدعوك إلى الله والاسلام. قال: لا حاجة لي بذلك. قال: فإني أدعوك إلى النزال. قال: والله ما أحب أن أقتلك. قال علي: ولكني أحب أن أقتلك. فحمي عمرو عند ذلك فنزل عن فرسه وعقره تم أقبل على علي فتجاولا وقتله علي وخرجت خيلهم منهزمة، وقتل مع عمرو
181

رجلان قتل علي أحدهما وأصاب آخر سهم فمات منه بمكة.
ورمي سعد بن معاذ بسهم قطع أكحله رماه حبان بن قيس بن العرقة بن عبد مناف من بني هصيص بن عامر بن لؤي، والعرقة أمه، وإنما قيل لها: العرقة لطيب ريح عرقها وهي قلابة بنت سعيد بن سعد بن سهم وهي جدة خديجة أم أبيها، أو هي أم عبد مناف بن الحارث جد أبيه، فلما رمى سعدا قال: خذها وأنا ابن العرقة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عرق الله وجهك في النار. ولم يقطع [الأكحل] من أحد الأمات فقال سعد: اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها فإنه لا قوم أحب إلي أن أقاتلهم من قوم آذوا نبيك وكذبوه، اللهم وإن كنت وضعت الحرب بيننا فاجعلها لي شهادة ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة، وكانوا حلفاءه ومواليه في الجاهلية.
وقيل: إن الذي رمى سعدا هو أبو أسامة الجشمي حليف بني مخزوم، فلما قال سعد ما قال: انقطع الدم.
وكانت صفية عمة النبي صلى الله عليه وسلم في فارع حصن حسان بن ثابت وكان حسان فيه مع النساء لأنه كان جبانا قالت: فأتانا آتي من اليهود فقلت لحسان: هذا اليهودي يطوف بنا ولا نأمنه أن يدل على عوراتنا فانزل
إليه فاقتله فقال: والله ما أنا بصاحب هذا قالت: فأخذت عمودا ونزلت إليه فقتلته، تم رجعت فقلت لحسان: انزل إليه فخذ سلبه فإنني يمنعني منه أنه رجل. فقال: والته ما لي بسلبه من حاجة.
تم إن نعيم بن مسعود الأشجعي أتي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني قد أسلمت ولم يعلم قومي فمرني بما شئت، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أنت رجل واحد فخذل عنا ما استطعت فإن الحرب خدعة. فخرج حتى أتى بني قريظة وكان نديما
182

لهم في الجاهلية، فقال لهم: قد عرفتم ودي إياكم، فقالوا: لست عندنا بمتهم، قال: قد ظاهرتم قريشا وغطفان على حرب محمد وليسوا كأنتم البلد بلدكم به أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم لا تقدرون على أن تتحولوا منه وإن قريشا وغطفان إن رأوا نهزة وغنيمة أصابوها وإن كان غير ذلك لحموا ببلادهم وخلوا بينكم وبين محمد ولا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم ثقة لكم حتى تناجزوا محمدا. قالوا: أشرت بم النصح.
ثم خرج حتى أتى قريشا فقال لأبي سفيان ومن معه: قد عرفتم ودي إياكم وفراقي محمدا، وقد بلغني أن قريظة ندموا، وقد أرسلوا إلى محمد هل يرضيك عنا أن نأخذ من قريش وغطفان رجالا من أشرافهم فنعطيكهم فتضرب أعناقهم تم نكون معك على من بقي منهم؟ فأجابهم أن نعم، فإن طلبت قريظة منكم رهنا من رجالكم فلا تدفعوا إليهم رجلا واحدا. ثم خرج حتى أتي غطفان فقال: أنتم أهلي وعشيرتي وقال لهم: مثل ما قال لقريش وحذرهم.
فلما كانت ليلة السبت من شوال [سنة خمس] كان من صنع الله لرسوله [أن] أرسل أبو سفيان ورؤوس غطفان إلى قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان وقالوا لهم: أنا لسنا بدار مقام قد هلك الخف والحافر فاغدوا للقتال [حتى نناجز محمدا]. فأرسلوا إليهم أن اليوم السبت لا نعمل فيه شيئا، ولسنا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا ثقة لنا فإنا نخشى أن ترجعوا إلى بلادكم وتتركونا والرجل ونحن ببلاده. فلما أبلغتهم الرسل هذا الكلام قالت قريش وغطفان: والله لقد صدق نعيم بن مسعود فأرسلوا
183

إلى قريظة: إنا والله لا ندفع إليكم رجلا واحدا، فقالت قريظة عند ذلك. إن الذي ذكر نعيم بن مسعود لحق. وخذل الله بينهم.
وبعت الله عليهم ريحا في ليال شاتية شديدة البرد فجعلت تكفأ قدورهم وتطرح أبنيتهم، فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم اختلاف أمرهم دعا حذيفة بن اليمان ليلا فقال: انطلق إليهم وانظر حالهم ولا تحدثن شيئا حتى تأتينا. قال حذيفة: فذهبت فدخلت فيهم والريح وجنود الله تفعل فيهم ما تفعل لا يقر لهم قدر ولا بناء ولا نار، فقام أبو سفيان فقال: يا معشر قريش ليأخذ كل رجل منكم بيد جليسه. قال: فأخذت بيد الرجل الذي بجانبي فقلت: من أنت؟ قال: أنا فلان. تم قال أبو سفيان: والله لقد هلك الخف والحافر وأخلفتنا قريظة ولقينا من هذه الريح ما ترون فارتحلوا فإني مرتحل. تم قام إلى جمله وهو معقول فجلس عليه تم ضربه فوثب على ثلاث قوائم، ولولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم [إلي أن] لا أحدث شيئا لقتلته.
قال حذيفة: فرجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم يصلي في مرط لبعض نسائه فأدخلني بين رجليه وطرح على طرف المرط فلما سلم أخبرته الخبر، وسمعت غطفان بما فعلت قريش فعادوا راجعين إلى بلادهم، فلما عادوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الآن نغزوهم ولا يغزونا فكان كذلك حتى فتح الله مكة.
184

ذكر غزوة بني قريظة
لما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد إلى المدينة ووضع المسلمون السلاح وضرب على سعد بن معاذ قبة في المسجد ليعوده من قريب، فلما كان الظهر أتى جبرائيل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أقد وضعت السلاح؟ قال: نعم. قال جبرائيل: ما وضعت الملائكة السلاح إن الله يأمرك بالمسير إلى بني قريظة وأنا عامد إليهم. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديا فنادى: من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة. وقدم عليا إليهم برايته وتلاحق الناس ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه رجال بعد العشاء الأخيرة فصلوا العصر بها وما عابهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحاصر بني قريظة شهرا أو خمسا وعشرين ليلة فلما اشتد عليهم الحصار أرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تبعث إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر - وهو أنصاري من الأوس - نستشيره. فأرسله، فلما رأوه قام إليه الرجال وبكى النساء والصبيان فرق لهم فقالوا ننزل على حكم رسول الله. فقال: نعم وأشار بيده إلى حلقه إنه الذبح. قال أبو لبابة: فما زالت قدماي حتى عرفت أني خنت الله ورسوله، وقلت: والله لا أقمت بمكان عصيت الله فيه. وانطلق على وجهه حتى ارتبط في المسجد وقال: لا أبرح حتى يتوب الله علي فتاب الله عليه وأطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تم نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الأوس: يا رسول الله افعل في موالينا مثل ما فعلت في موالي الخزرج يعني بني قينقاع وقد تقدم ذكرهم، فقال: ألا ترضون أن يحكم فيهم سعد بن معاذ؟ قالوا بلى. فأتاه قومه فاحتملوه على حمار ثم أقبلوا معه إلى رسول الله صلى الله
185

عليه وسلم وهم يقولون: يا أبا عمرو أحسن إلي مواليك، فلما كثروا عليه قال: قد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم. فعلم كثير منهم أنه يقتلهم فلما انتهى سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قوموا إلى سيدكم أو قال: خيركم فقاموا إليه وأنزلوه وقالوا: يا أبا عمرو أحسن إلى مواليك فقد رد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم فيهم إليك. فقال سعد: عليكم عهد الله وميثاقه أن الحكم فيهم إلي. قالوا: نعم. فالتفت إلى الناحية الأخرى التي فيها النبي صلى الله عليه وسلم وغض بصره عن رسول الله إجلالا وقال: وعلى من ها هنا العهد أيضا. فقالوا: نعم. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم. قال: فإني أحكم أن تقتل المقاتلة، وتسبى الذرية والنساء، وتقسم الأموال. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد حكمت [فيهم] بحكم الله من فوق سبعة أرقعة.
ثم استنزلوا فحبسوا في دار بنت الحارث امرأة من بني النجار تم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سوق المدينة فخندق بها خنادق ثم بعت إليهم فضرب أعناقهم فيها وفيهم حيي بن أخطب وكعب بن أسد سيدهم وكانوا ستمائة أو سبعمائة، وقيل: ما بين سبعمائة وثمانمائة، وأتي بحيي بن أخطب وهو مكتوف فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم قال: والله ما لمت نفسي في عداوتك، ولكن من يخذل الله تخذل. ثم قال للناس: إنه لا بأس بأمر الله كتاب وقدر، وملحمة كتبت على بني إسرائيل. فأجلس وضربت عنقه، ولم تقتل منهم إلا امرأة واحدة قتلت بحدث أحدثته، وقتلت أرفة بنت عارضة منهم.
186

وأسلم منهم ثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعية، وأسيد بن عبيد.
ثم قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أموالهم فكان للفارس ثلاثة أسهم للفرس سهمان ولفارسه سهم، وللراجل ممن ليس له فرس سهم، وكانت الخيل ستة وثلاثين فرسا وأخرج منها الخمس. وكان أول فيء وقع فيه السهمان والخمس، واصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه ريحانة بنت عمرو بن خنافة من بني قريظة فأراد أن يتزوجها فقالت: اتركني في ملكك فهو أخف علي وعليك. فلما انقضى أمر قريظة انفجر جرح سعد بن معاذ واستجاب الله دعاءه وكان في خيمته التي في المسجد فحضره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر، وقالت عائشة: سمعت بكاء أبي بكر وعمر عليه وأنا في حجرتي، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فكان لا يبكي على أحد كان إذا اشتد وجده أخذ بلحيته.
وكان فتح قريظة في ذي القعدة وصدر ذي الحجة. وقتل من المسلمين في الخندق ستة نفر، وفي قريظة ثلاثة نفر.
187

6
ودخلت سنة ست من الهجرة
ذكر غزوة بني لحيان
في جمادى الأولى منها خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني لحيان يطلب بأصحاب الرجيع خبيب بن عدي وأصحابه وأظهر أنه يريد الشام ليصيب من القوم غرة، وأغد السير حتى نزل علق غران منازل بني لحيان
وهي بين أمج، وعسفان، فوجدهم قد حذروا وتمنعوا في رؤوس الجبال، فلما أخطأه ما أراد منهم خرج في مائتي راكب حتى نزل بعسفان تخويفا لأهل مكة وأرسل فارسين من أصحابه حتى بلغا كراع الغميم ثم عاد قافلا.
(غران بضم الغين المعجمة وفتح الراء وبعد الألف نون، وأمج بفتح الهمزة والميم وآخره جيم).
ذكر غزوة ذي قرد
ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فلم يقم إلا أياما قلائل حتى أغار عيينة بن حصن الفزاري في خيل غطفان على لقاح النبي صلى الله عليه وسلم، وأول من نذر بهم سلمة بن الأكوع الأسلمي. هكذا ذكرها أبو جعفر بعد
188

غزوة بني لحيان عن ابن إسحاق والرواية الصحيحة عن سلمة أنها كانت بعد مقدمه المدينة منصرفا من الحديبية، وبين الوقعتين. تفاوت.
قال سلمة بن الأكوع: أقبلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد صلح الحديبية فبعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهره مع رباح غلامه وخرجت معه بفرس طلحة بن عبيد الله فلما أصبحنا إذا عبد الرحمن بن عيينة بن حصن الفزاري قد أغار على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستاقه أجمع وقتل راعيه قلت: يا رباح هذه الفرس فأبلغها طلحة وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المشركين قد أغاروا على سرحه. تم استقبلت الأكمة فناديت ثلاث أصوات يا صباحاه ثم خرجت في آثار القوم أرميهم بالنبل وأرتجز وأقول:
خذها وأنا ابن الأكوع * واليوم يوم الرضع
قال: فوالله ما زلت أرميهم وأعقر بهم فإذا خرج إلي فارس قعدت في أصل شجرة فرميته فعقرت به وإذا دخلوا في مضايق الجبل رميتهم بالحجارة من فوقهم فما زلت كذلك حتى ما تركت من ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيرا إلا جعلته وراء ظهري وخلوا بيني وبينه وألقوا أكثر من ثلاثين رمحا وثلاثين بردة يستخفون بها لا يلقون شيئا إلا جعلت عليه أمارة أي علامة حتى تعرفه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا انتهوا إلى مضايق من ثننية أتاهم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر ممدا فقعدوا يتضحون فلما رآني قال: من هذا؟ قالوا: لقينا منه
189

البرح وقد استنقذ كل ما بأيدينا، فما برحت مكاني حتى أبصرت فوارس رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخللون الشجر أولهم الأخرم الأسدي واسمه محرز بن نضلة من أسد بن خزيمة. وعلى أثره أبو قتادة؛ وعلى أثره المقداد بن الأسود الكندي فأخذت بعنان الأخرم وقلت: أحذر القوم لا يقتطعوك حتى تلحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. فقال: يا سلمة إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر فلا تحل بيني وبين الشهادة. قال: فخليته فالتقى هو وعبد الرحمن بن عيينة فعقر الأخرم بعبد الرحمن فرسه وطعنه عبد الرحمن فقتله وتحول عبد الرحمن على فرس الأخرم [، ولحق أبو قتادة فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبد الرحمن فطعنه] فانطلقوا هاربين، قال سلمة: فوالذي كرم وجه محمد صلى الله عليه وسلم لتبعتهم أعدو علن رجلي حتى ما أري ورائي من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ولا غبارهم شيئا.
وعدلوا قبل غروب الشمس إلى غار فيه ماء يقال له: ذو قرد ليشربوا منه وهم عطاش فنظروا إلي أعدو في آثارهم فحليتهم عنه فما ذاقوا منه قطرة، قال: واشتدوا في ثننية ذي أبهر فأرشق بعضهم بسهم فيقع في نغض كتفه فقلت: خذها وأنا ابن الأكوع واليوم [يوم] الرضع. وأرادوا فرسين على ثننية فجئت بهما أقودهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
190

ولحقني عمي عامر بسطيحة فيها مذقة من لبن وسط حية فيها ماء فتوضأت وصليت وشربت تم جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو علي الماء الذي أجليتهم عنه بذي قرد، وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخذ تلك الإبل التي استنقذت من العدو وكل رمح وكل بردة وإذا بلال قد نحر لهم ناقة من الإبل وهو يشوي منها. فقلت: يا رسول الله خلني أنتخب مائة رجل فلا يبقى منهم عين تطرف. فضحك وقال: إنهم ليقرون بأرض غطفان، فجاء رجل من غطفان فقال: نحر لهم فلان جزورا فلما كشطوا عنها جلدها رأوا غبارا فقالوا: أتيتم فخرجوا هاربين.
فلما أصبحنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كان خير فرساننا اليوم أبو قتادة وخير رجالتنا سلمة بن الأكوع ثم أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم سهمين سهم الفارس وسهم الراجل، ثم أردفني وراءه على العضباء راجعين إلي المدينة فبينما نحن نسير وكان رجل من الأنصار لا يسبق شدا فقال: ألا من مسابق مرارا، فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي ائذن لي فلأسابق الرجل. قال: إن شئت. قال: فطفرت فعدوت فربطت عليه شرفا أو شرفين فألحقه فقلت: سبقتك والله، قال: أنا أظن. فسبقته إلى المدينة فلم نمكث بها إلا ثلاثا، حتى خرجنا إلي خيبر.
وفي هذه الغزوة نودي يا خيل الله اركبي ولم يكن يقال: قبلها.
(قرد بفتح القاف والراء).
191

ذكر غزوة بني المصطلق من خزاعة
ذكرت هذه الغزوة بعت غزوة ذي قرد، وكانت في شعبان من السنة [سنة ست]، وكان بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بني المصطلق تجمعوا له، وكان قائدهم الحارث بن أبي ضرار - أبو جويرية زوج النبي صلى الله عليه وسلم - فلما سمع بهم خرج إليهم فلقيهم بماء لهم يقال له: المريسيع بناحية قديد فاقتتلوا فانهزم المشركون، وقتل من قتل منهم؟ وأصيب رجل كل من المسلمين من بني ليث بن بكر اسمه هشام بن صبابة أخو مقيس بن صبابة أصابه رجل من الأنصار بسهم من رهط عبادة بن الصامت وهو يرى أنه من العدو فقتله خطأ. وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا كثيرة فقسمها في المسلمين، وفيهم جويرية بنت الحارث بن أبى ضرار فوقعت ني السهم لثابت بن قيس بن شماس أو لابن عم له فكاتبته عن نفسها فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستعانته في كتابتها فقال لها: هل لك على خير من ذلك؟ قالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: أقضي كتابتك وأتزوجك. قالت: نعم يا رسول الله. ففعل وسمع الناس الخبر فقالوا: أصهار رسول الله فأعتقوا أكثر من مائة بيت من أهل بني المصطلق فما كانت امرأة أعظم بركة علي قومها منها.
وبينما الناس على ذلك الماء وردت واردة الناس ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار يقال له: جهجاه فازدحم هو وسنان الجهني حليف بني عوف من الخزرج علن الماء فاقتتلا فصرخ الجهني: يا معشر الأنصار. وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين. فغضب عبد الله بن أبي بن سلول وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم غلام حدث السن فقال: أو قد فعلوها؟ قد كاثرونا في بلادنا، أما والله (لئن رجعنا إلى المدينة
192

ليخرجن الأعز منها الأذل) ثم أقبل على من حضره من قومه فقال: هذا ما فعلتم بأنفسكم أحللتموهم ببلادكم وقاسمتموهم أموالكم والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير بلادكم.
فسمع ذلك زيد فمشى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وذلك عند فراغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوه فأخبره الخبر وعنده عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله مر به عباد بن بشر فليقتله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه؟ ولكن أذن بالرحيل. فارتحل في ساعة لم يكن يرتحل فيها ليقطع ما الناس فيه.
فلقيه أسيد بن حضير فسلم عليه وقال: يا رسول الله لقد رحت في ساعة لم تكن تروح فيها؟ فقال: أو ما بلغك ما قال عبد الله بن أبي؟ قال: وماذا قال؟ قال: زعم إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. قال أسيد: فأنت والله تخرجه إن شئت فإنك العزيز وهو الذليل. ثم قال: يا رسول الله ارفق به فوالد لقد من الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكا.
وسمع عبد الله بن أبي أن زيدا أعلم النبي صلى الله عليه وسلم قوله فمشى إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلف بالله ما قلت ما قال ولا تكلمت به، وكان عبد الله في قومه شريفا فقالوا: يا رسول الله كسعى أن يكون الغلام قد أخطأه. وأنزل الله (إذا جاءك المنافقون) تصديقا لزيد، فلما نزلت أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذن زيد وقال:
193

هذا الذي أوفي الله بأذنه.
وبلغ عبد الله بن أبي بن سلول ما كان من أمر أبيه فأتي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله بلغني أنك تريد قتل أبي فإن كنت فاعلا فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه، وأخشى أن تأمر غيري بقتله فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس فأقتله فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النار، فقال النبي في صلى الله عليه وسلم: بل نرفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا، فكان بعد ذلك إذا أحدث حدتا عاتبه قومه وعنفوه وتوعدوه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب حين بلغه ذلك عنهم: كيف ترى ذلك يا عمر؟ أما والله لو قتلته يوم أمرتني بقتله لأرعدت له أنف لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته؟ فقال ضمر: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم بركة من أمري.
وفيها قدم مقيس بن صبابة مسلما فيما يظهر فقال: يا رسول الله جئت مسلما وجئت أطلب دية أخي وكان قتل خطأ، فأمر له بدية أخيه هشام بن صبابة وقد تقدم ذكر قتله آنفا، فأقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير، ثم عدا على قاتل أخيه فقتله ثم خرج إلى مكة مرتدا فقال:
شفى النفس أن قد بات في القاع مسندا * تضرج ثوبيه دماء الأخادع
وكانت هموم النفس من قبل قتله * تلم فتحميني وطاء المضاجع
حللت به نذري وأدركت ثؤرتي * وكنت إلى الأصنام أول راجع
(مقيس بكسر الميم وسكون القاف وفتح الياء تحتها نقطتان، وصبابة بصاد مهملة وببائين موحدتين بينهما ألف، وأسيد بهمزة مضمومة، وحضير بضم الحاء المهملة وفتح الضاد).
194

حديث الإفك
وكان حديث الإفك في غزوة بني المصطلق:
لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان ببعض الطريق قال أهل الافك ما قالوا، وكان من حديثه ما روي عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه، فلما كانت غزوة بني المصطلق أقرع بين نسائه فخرج سهمي فخرج بي معه. وكان النساء إذ ذاك إنما يأكلن العلقة لم يتفكهن باللحم وكنت إذا وصل بعيري جلست في هودجي تم يأتي القوم الذين يرحلون بعيري فيحملون الهودج وأنا فيه فيضعونه على ظهر البعير ثم يأخذون برأس البعير ويسيرون. قالت: فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفره ذلك وكان قريبا من المدينة بات بمنزل بعض الليل تم ارتحل هو والناس وكنت قد خرجت لبعض حاجتي وفي عنقي عقد لي من جزع ظفار انسل من عنقي ولا أدري، فلما رجعت التمست العقد فلم أجده وأخذ الناس في الرحيل فرجعت إلى المكان الذي كنت فيه التمسه فوجدته، وجاء القوم الذين يرحلون بعيري فاخذوا الهودج وهم يظنون أني فيه فاحتملوه على عادتهم وانطلقوا، ورجعت إلى المعسكر وما فيه من داع ولا مجيب، فتلففت بجلبابي واضطجعت في مكاني وعرفت أنهم يرجعون إلي إذا افتقدوني.
قالت: فوالله إني لمضطجعة إذ مر بي صفوان بن المعطل السلمي وكان
195

تخلف عن العسكر لحاجته فلم يبت مع الناس فلما رأى سوادي أقبل حتى وقف علي فعرفني، وكان رآني قبل أن يضرب الحجاب، فلما رآني استرجع وقال: ما خلفك؟ قالت: فما كلمته تم قرب البعير وقال: اركبي فركبت، وأخذ برأس البعير مسرعا.
فلما تزل الناس واطمأنوا أطلع الرجل يقود بي فقال أهل الإفك [في] ما قالوا، فارتعج العسكر ولم أعلم بشيء من ذلك.
تم قدمنا المدينة فاشتكيت شكوى شديدة وقد انتهى الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلي أبوي ولا يذكران لي منه شيئا إلا أني أنكرت من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض لطفه فكان إذا؟ دخل علي وأمي تمرضني فال: كيف تيكم؟ لا يزيد على ذلك، فوجدت في نفسي مما رأيت من جفائه لي فاستأذنته في الانتقال إلى أمي لتمرضني فأذن لي وانتقلت ولا أعلم بر بشيء مما كان حتى نقهت من وجعي بعد بضع وعشرين ليلة.
قالت: وكنا قوما عربا لا نتخذ في بيوتنا هذه الكنف نعافها ونكرهها إنما كانت النساء يخرجن كل ليلة فخرجت؟ لي لمة لبعض حاجتي ومعي أم مسطح ابنة أبي رهم بن المطلب، وكانت أمها خالة أبي بكر الصديق قالت: فوالله إنها لتمشي إذ عثرت في مرطها فقالت: تعس مسطح. قالت: قلت لعمر الله بئسما قلت لرجل من المهاجرين لمد شهد بدرا. قالت: أو ما بلغك الخبر؟ قلت: وما الخبر؟ فأخبر تنهي بالذي كان. قالت: فوالله ما قدرت على أن أقضي حاجتي، في جعت فما زلت أبكي حتى ظننت أن البكاء سيصدع كبدي، وقلت لأمي: تحدث الناس بما تحدثوا به ولا تذكرين لي من ذلك شيئا؟ قالت: أي بنية خفضي عليك فوالله قلما كانت امرأة حسناء
196

عند رجل يحبها لها ضرائر إلا كثرن وكثر الناس عليها، قالت: وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فخطبهم ولا أعلم بذلك، تم قال: أيها الناس ما بال رجال يؤذونني في أهلي وتقولون عليهن غير الحق ويقولون ذلك لرجل والله ما علمت عليه إلا خيرا وما دخل بيتا من بيوتي إلا معي.
وكان كبر ذلك عند عبد الله بن أبي بن سلول في رجال من الخزرج مع الذي قال مسطح وحمنة بنت جحش، وذلك أن زينب أختها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشاعت من ذلك ما أشاعت تضارني لأختها، فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك المقالة قال أسيد بن حضير: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن يكونوا من الأوس نكفكهم، وإن يكونوا من إخواننا الخزرج فمرنا بأمرك. فقال سعد بن عبادة، والله ما قلت هذه المقالة إلا وقد عرفت أنهم من الخزرج ولو كانوا من قومك ما قلت هذا، فقال أسيد: كذبت ولكنك منافق تجادل عن المنافقين. وتثاور الناس حتى كاد يكون بينهم شر، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد فاستشارهما فأما أسامة فأتني خيرا، وأما علي فقال: إن النساء لكثير وسل الخادم تصدقك. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة يسألها فقام إليها علي فضربها ضربا شديدا وهو يقول: اصدقي رسول الله فقالت: والله ما أعلم إلا خيرا، وما كنت أعيب عليها شيئا إلا إنها كانت تنام عن عجينها فتأتي الداجن فتأكله.
ثم قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي أبواي وامرأة
197

من الأنصار وأنا أبكي وهي تبكي فحمد الله وأثنى عليه تم قال: يا عائشة: إنه قد كان، قد بلغك من قول الناس فإن كنت قارفت سوءا فتوبي إلى الله.
قالت: فوالله لقد تقلص دمعي حتى ما أحس منه شيئا وانتظرت أبواي أن يجيباه؟ فلم يفعلا، فقلت: ألا تجيبانه؟ فقالا: والله ما ندري بما نجيبه! وما أعلم أهل بيت دخل عليهم ما دخل على أبي بكر تلك الأيام. فلما أن استعجما علي بكيت تم قلت: والله لا أتوب إلى الله مما ذكرت أبدا والله لئن أقررت - والله يعلم أني منه بريئة - لتصدقني ولئن أنكرت لا تصدقونني. تم التمست اسم يعقوب فلم أجده فقلت: ولكني أقول كما قال أبو يوسف: (فصبر جميل والله المستعان علن ما تصفون). ولشأني كان أصغر في نفسي أن ينزل الله في قرانا يتلى ولكني كنت أرجو أن يري رؤيا يكذب الله بها عني.
قالت: فوالله ما برح رسول الله صلى الله عليه وسلم من مجلسه حتى جاء الوحي فسجي بثوبه فأما أنا فوالله ما فزعت ولا باليت قد عرفت أني بريئة وأن الله غير ظالمي، وأما أبواي فما سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننت لتخرجن أنفسهما فرقا [من] أن يحقق الله ما قال الناس. قالت: تم سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنه ليتحدر عنه مثل الجمان فجعل يمسح العرق عن جبينه وتقول: أبشري يا عائشة فقد أنزل الله براءتك. فقلت: بحمد الله. تم خرج إلى الناس فخطبهم وذكر لهم ما أنزل الله في من القران، تم أمر بمسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش، وكانوا ممن أفصح بالفاحشة فضربوا بواحدهم. وحلف أبو بكر لا ينفق على مسطح أبدا فأنزل الله (ولا يأتل أولو الفضل
198

منكم) الآية، فقال أبو بكر: إني أحب أن يغفر الله لي؛ ورجع إلى مسطح نفقته. ثم إن صفوان بن المعطل اعترض حسان بن تابت بالسيف حين بلغه ما كان يقول فيه فضربه، تم قال:
تلق ذباب السيف عني فإنني * غلام إذا هوجيت لست بشاعر
فوثب تابت بن قيس بن شماس فجمع يديه إلى عنقه وانطلق به إلى الحارث بن الخزرج فلقيه عبد الله بن رواحة فقال: ما هذا؟ فقال: ضرب حسانا وما أراه إلا قتله. فقال عبد الله: هل علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء مما صنعت؟ [قال: لا والله] قال: لقد اجترأت أطلق الرجل فأطلقه. فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا حسان وصفوان بن المعطل فقال صفوان: هجاني يا رسول الله وآذاني فضربته. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان: أحسن يا حسان. قال: هي لك يا رسول الله فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عوضا منها بيرحاء وهي قصر بني حديلة بالحاء المهملة وأعطاه سيرين أمة قبطية وهي أخت مارية أم إبراهيم بن رسول الله فولدت له ابنه عبد الرحمن. وكان صفوان حصورا لا يأتي النساء تم قتل بعد ذلك شهيدا.
(مسطح بكسر الميم وسكون السين المهملة وبالطاء والحاء المهملتين).
199

ذكر عمرة الحديبية
في هذه السنة خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم معتمرا في ذي القعدة لا يريد حربا، ومعه جماعة من المهاجرين والأنصار ومن تبعه من الأعراب ألف وأربعمائة - وقيل: ألف
وخمسمائة، وقيل: ثلاثمائة - وساق الهدي معه سبعين بدنة ليعلم الناس أنه إنما جاء زائرا للبيت، فلما بلغ عسفان لقيه بسر بن سفيان الكعبي فقال: يا رسول الله هذه قريش قد سمعوا بمسيرك فاجتمعوا بذي طوى يحلفون بالله لا تدخلها عليهم أبدا، وقد قدموا خالد بن الوليد إلى كراع الغميم - وقيل: إن خالدا كان مع النبي صلى الله عليه وسلم مسلما وأنه أرسله فلقي عكرمة بن أبي جهل فهزمه والأول أصح - ولما بلغه بسر ما فعلت قريش قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ويح قريش قد أكلتهم الحرب ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين ساتر الناس فإن هم أصابوني كان الذي أرادوا وإن أظهرني الله دخلوا في الاسلام وافرين!، والله لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة.
تم خرج على غير الطريق التي هم بها وسلك ذات اليمين حتى سلك ثنية المرار على مهبط الحديبية فبركت به ناقته، فقال الناس: خلأت فقال: ما خلأت ولكن حبسها حابس الفيل [عن مكة] لا يدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها. ثم قال للناس: انزلوا فقالوا: ما بالوادي ماء ينزل عليه. فأخرج سهما من كنانته فأعطاه رجلا من أصحابه فنزل في قليب من تلك القلب فغرزه في جوفه فجاش الماء بالري حتى ضرب
200

الناس عنه بعطن، وكان اسم الذي أخذ السهم ناجية بن جندب بن عمير سائق بدن النبي صلى الله عليه وسلم.
فبينما هم كذلك أتاهم بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه خزاعة وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من تهامة، فقال: تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي أعداد مياه الحديبية وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنا لم نأت لقتال أحد ولكنا جئنا معتمرين وإن شاءت قريش ماددناهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس، وإن أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي.
فانطلق بديل إلى قريش فأعلمهم ما قال النبي صلى الله عليه وسلم فقام عروة بن مسعود الثقفي فقال: إن هذا الرجل عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها دعوني آته. فقالوا: آته. فأتاه وكلمه فقال له: يا محمد جمعت أوشاب الناس تم جئت بهم إلى بيضتك لتفضها بهم إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل، قد لبسوا جلود النمور، يعاهدون الله أنك لا تدخلها عليهم عنوة أبدا، وأيم الله لكأني بهؤلاء قد تكشفوا عنك غدا. فقال أبو بكر: امصص بظر اللات أنحن ننكشف عنه؟ [قال: من هذا يا محمد؟] قال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا ابن أبي قحافة. فقال: أما والله لولا يد كانت لك عندي لكافأتك بها، تم جعل يتناول لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يكلمه والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديد فجعل يقرع يده إذا تناولها وتقول له: اكفف
201

يدك قبل أن لا تصل إليك. فقال [عروة]: من هذا يا محمد؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا ابن أخيك المغيرة، فقال: أي غدر وهل غسلت سوأتك [إلا] بالأمس؟ وكان المغيرة قد قتل ثلاثة عشر رجلا من بني مالك وهرب، فتهايج الحيان بنو مالك رهط المقتولين والأحلاف رهط المغيرة فودي عروة للمقتولين ثلاث عشرة دية وأصلح ذلك الأمر.
وطال الكلام بينهما، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم نحو مقالته لبديل، فقال له عروة: يا محمد، أرأيت إن استأصلت قومك فهل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك؟ وجعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فوالله لا يتنخم النبي نخامة إلا وقعت في كف أحدهم فدلك بها وجهه وجلده، وإن أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وما يحدون النظر إليه تعظيما له.
فرجع عروة إلى أصحابه وقال: أي قوم قد وفدت على كسري وقيصر والنجاشي فوالله ما رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا، وحدتهم ما رأي وما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
فقال رجل من كنانة: دعوني آته [فقالوا اتته]. فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال النبي صلى الله عليه وسلم: [هذا فلان وهو] من قوم يعظمون البدن فابعثوها له فبعثت له واستقبله قوم يلبون فلما رأي ذلك قال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت.
وقيل: إن قريشا بعثت إليه الحليس بن علقمة وهو سيد الأحابيش فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن هذا من قوم يتألهون فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه. فلما رأي الهدي رجع إلى قريش ولم يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا قوم قد رأيت ما لا يحل صده الهدي في قلائده. فقالوا: اجلس فإنما أنت أعرابي لا علم لك. فقال: والله ما على هذا حالفناكم أن تصدوا عن البيت من جاء معظما له، والذي نفسي بيده لتخلن بين محمد ويبن البيت أو لأنفرن الأحابيش نفرة رجل واحد. قال: فقالوا: مه كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا.
202

فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص فقال: دعوني آته. فقالوا: أفعل. فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم قال: لأصحابه: هذا رجل فاجر فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو فلما جاء قال النبي: سهل أمركم.
وقال ابن إسحاق: إن قريشا إنما بعثت سهيلا بعد رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عثمان بن عفان، قال: لما رجع عروة بن مسعود إلى قريش بعت رسول الله صلى الله عليه وسلم خراش بن أمية الخزاعي إلى قريش على جمل له يقال له: الثعلب ليبلغ أشرافهم عنه فعقروا به جمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرادوا قتله فمنعته الأحابيش وخلوا سبيله حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر ليرسله إلى مكة، فقال: ليس بمكة من بني عدي من يمنعني وقد علمت قريش عداوتي لها وأخافها على نفسي، فأرسل عثمان فهو أعز بها مني، فدعا عثمان فأرسله ليبلغ عنه فانطلق فلقيه أبان بن سعيد بن العاص فأجاره فأتي أبا سفيان، وعظماء قريش فبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا لعثمان حين فرغ من أداء الرسالة: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف به فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به النبي صلى الله عليه وسلم فاحتبسته قريش عندها فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد قتل فقال: لا نبرح حتى نناجز القوم.
تم دعا الناس إلى البيعة فبايعوه تحت الشجرة وهي سمرة لم يتخلف منهم أحد إلا الجد بن قيس وكان أول من بايعه رجل من بني أسد يقال له: أبو سنان، تم أتى الخبر أن عثمان لم يقتل.
تم بعثت قريش سهيل بن عمرو أخا بني عامر بن لؤي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليصالحه على أن يرجع عنهم عامه ذلك، فأقبل سهيل
203

إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأطال معه الكلام وتراجعا، تم جرى بينهم الصلح، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب فقال: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم. فقال سهيل: لا نعرف هذا ولكن اكتب باسمك اللهم. فكتبها، تم قال: اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو _ فقال سهيل: لو نعلم أنك رسول الله لم نقاتلك ولكن اكتب اسمك واسم أبيك. فقال: لعلي امح رسول الله. فقال: لا أمحوك أبدا. فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس يحسن أن يكتب فكتب موضع رسول الله محمد بن عبد الله، وقال لعلي لتبلين بمثلها _ اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن الناس، وإنه من أتى منهم رسول
الله بغير إذن وليه رده إليهم، ومن جاء قريشا ممن مع رسول الله لم يردوه [عليه]، ومن أحب أن يدخل في عهد رسول الله دخل، ومن أحب أن يدخل في عهد قريش دخل، فدخلت خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخلت بنو بكر في عهد قريش، وأن يرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم عامه ذلك فإذا كان عام قابل خرجنا عنك فدخلتها بأصحابك فأقمت بها ثلاثا، وسلاح الراكب السيوف في القرب.
فبينا النبي صلى الله عليه وسلم يكتب الكتاب إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمر ويوسف في الحديد قد انفلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أصحاب النبي لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوا الصلح دخلهم من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون، فلما رأى سهيل ابنه أبا جندل أخذه، وقال: يا محمد قد تمت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا. قال: صدقت، وأخذه ليرده إلى قريش، فصاح أبو جندل يا معشر المسلمين أرد إلى المشركين ليفتنوني عن ديني! فزاد الناس شرا إلى ما بهم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: احتسب، فإن الله
204

جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، إنا قد أعطينا القوم عهودنا على ذلك فلا نغدر بهم. قال فوثب عمر بن الخطاب يمشي مع أبي جندل وتقول له: اصبر واحتسب فإنما هم المشركون وإنما دم أحدهم دم كلب! وأدني قاتم السيف منه رجاء أن يأخذه فيضرب به أباه. قال: فبخل الرجل بأبيه.
وشهد جماعة على الصلح من المسلمين؛ فيهم أبو بكر، وعمر، وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم، وجماعة من المشركين.
فلما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من قضيته قال: قوموا فانحروا ثم احلقوا فما قام أحد حتى قال ذلك مرارا فلما لم يقم أحد منهم دخل ملى أم سلمة فذكر لها ذلك فقالت: يا نبي الله أخرج ولا تكلم أحدا منهم حتى تنحر بدنك وتحلق شعرك. ففعل، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وحلقوا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا للازدحام فما فتح في الاسلام قبله فتح كان أعظم منه حيت أمن الناس كلهم بعضهم بعضا فدخل في الاسلام تينك السنتين مثل ما دخل فيه قبل ذلك وأكثر.
فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جاءه أبو بصير عتبة بن أسيد بن جارية الثقفي وهو مسلم، وكان ممن حبس بمكة فكتب فيه الأزهر بن عبد عوف، والأخنس بن شريق وبعثا فيه رجلا من بني عامر بن لؤي ومعه مولى لهم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد علمت أنا قد أعطينا هؤلاء القوم عهدا ولا يصلح الغدر في ديننا. فانطلق معهما إلى ذي الحليفة فجلسوا وأخذ أبو بصير سيف أحدهما فقتله به وخرج المولى سريعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بقتل صاحبه تم أقبل أبو بصير فقال: يا رسول الله قد وفت ذمتك وأنجاني الله منهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتل! أمه مسعر حرب لو كان له رجال فلما سمع
205

ذلك عرف أنه سيرده إليهم فخرج أبو بصير حتى نزل بناحية ذي المروة على ساحل البحر على طريق قريش إلى الشام، وبلغ المسلمين الذي كانوا [احتبسوا] بمكة ذلك فخرجوا إلى أبي بصير، منهم أبو جندل فاجتمع إليه منهم قريب من سبعين رجلا فضيقوا علي قريش يعترضون العير تكون لهم فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يناشدونه الله والرحم لما أرسل إليهم فمن أتاه فهو آمن فآواهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفيها نزلت سورة الفتح، وهاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نسوة مؤمنات فيهن أم كلثوم ابنة عقبة بن أبي معيط فجاء أخواها عمارة والوليد يطلبانها، فأنزل الله: (فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار) الآية؛ فلم يرسل امرأة مؤمنة إلى مكة، وأنزل الله: (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) فطلق عمر بن الخطاب امرأتين له إحداهما قريبة بنت أبي أمية، والثانية أم كلثوم بنت عمرو بن جرول الخزاعي وهما مشركتان. فتزوج أم كلثوم أبو جهم بن حذيفة ابن غانم.
(بسر) بضم الباء الموحدة وسكون السين المهملة وآخره راء، (بصير) بالباء الموحدة المفتوحة والصاد المهملة المكسورة والياء الساكنة تحتها نقطتان وآخره راء أيضا. (وأسيد) بفتح الهمزة وكسر السين و (جارية) بالجيم وآخره راء أيضا، و (الحليس) بضم الحاء المهملة وفتح اللام وبعده ياء تحتها نقطتان وآخره سين مهملة.
* * *
وفيها كانت عدة من سرايا وغزوات: منها سرية عكاشة بن محصن
206

في أربعين رجلا إلى الغمر فيهم تابت بن أقرم وشجاع بن وهب فنذر بهم القوم فهربوا فسعت الطلائع فوجدوا مائتي بعير فأخذوها إلى المدينة وكانت في ربيع الأخر. ومنها سرية محمد بن مسلمة أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم في عشرة فوارس في ربيع الأول إلى بني ثعلبة بن سعد فكمن القوم له حتى نام هو وأصحابه وظهروا عليهم فقتل أصحابه ونجا هو وحده جريحا. ومنها سرية أبي عبيدة بن الجراح إلى ذي القصة في ربيع الأخر في أربعين رجلا فهرب أهله منهم في الجبال وأصابوا نعما ورجلا [واحدا] أسلم فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومنها سرية زيد بن حارثة بالجموم فأصاب امرأة من مزينة اسمها حليمة فدلتهم على محلة من محال بني سليم فأصابوا نعما وشاء وأسري وكان فيهم زوجها فأطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجها معها. ومنها سرية زيد أيضا إلى العيص في جمادى الأولى، وفيها أخذت الأموال التي كانت مع أبي العاص بن الربيع واستجار بزينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم فأجارته وقد تقدم ذكره في غزوة بدر. ومنها سرية أيضا إلى الطرف في جمادى الآخرة إلى بني ثعلبة في خمسة عشر رجلا فهربوا منه وأصاب من تعمهم عشرين بعيرا، وغاب أربع ليال. ومنها سوية زيد بن حارثة إلى حسمى في جمادى الآخرة.
وسببها أن رفاعة بن زيد الجذامي، تم الضبي قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في هدنة الحديبية وأهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم غلاما وأسلم فحسن إسلامه، وكتب له رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا إلى قومه يدعوهم إلى الاسلام فأسلموا تم ساروا إلى حرة الرجلاء.
ثم إن دحية بن خليفة الكلبي أقبل من الشام من عند قيصر وقد أجازه بمال وكساه حتى إذا كان بأرض جذام أغار عليه الهنيد بن عوض وابنه عوض بن الهنيد الضليعيان وهو بطن من جذام فأخذا كل شيء معه فبلغ ذلك نفرا من بني الضبيب
207

قوم رفاعة ممن كان أسلم فنفروا إلى الهنيد وابنه فلقوهم واقتتلوا فظفر بنو الضبيب واستنقذوا كل شيء أخذ من دحية وردوه عليه، فخرج دحية حتى قدم على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره خبره فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم زيد بن حارثة في جيش فأغاروا بالفضافض وجمعوا ما وجدوا من مال وقتلوا الهنيد وابنه.
فلما سمع بذلك بنو الضبيب رهط رفاعة بن زيد سار بعضهم إلى زيد بن حارثة فقالوا: إنا قوم مسلمون. فقال زيد: فاقرأوا أم الكتاب فقرأها حسان [بن ملة]. فقال زيد: نادوا في الجيش إن الله حرم علينا ما أخذ من طريق القوم التي جاؤوا منها وأراد أن يسلم إليهم سباياهم فأخبره بعض أصحابه عنهم بما أوجب أن يحتاط فتوقف في تسليم السبايا فقال: هم في حكم الله ونهي الجيش أن يهبطوا واديهم.
وعاد أولئك الركب الجذاميون إلى رفاعة بن زيد وهو بكراع ربة لم يشعر بشيء من أمرهم فقال له بعضهم: إنك لجالس تحلب المعزى ونساء جذام أسارى قد غرهن كتابك الذي جئت به فسار رفاعة، والقوم معه إلى المدينة وعرض كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كيف أصنع بالقتلى؟ فقالوا: لنا من كان حيا ومن قتل فهو تحت أقدامنا! يعنون تركوا الطلب به فأجابهم إلي ذلك وأرسل معهم علي بن أبي طالب إلى زيد بن حارثة فرد على القوم مالهم حتى كانوا ينتزعون لبد المرأة تحت الرحل وأطلق الأسارى.
(ربة بالراء والباء الموحدة والضبيب بضم الضاد المعجمة تصغير ضب، وقيل: هو بفتح الضاد وكسر الباء وآخره نون نسبة إلى ضبية).
208

ومنها سرية زيد أيضا إلى وادي القرى في رجب. ومنها سرية عبد الرحمن ابن عوف إلى دومة الجندل في شعبان وقال له رسول الله: إن أطاعوك فتزوج ابنة ملكهم، فأسلموا فتزوج عبد الرحم تماضر بنت الأصبغ رئيسهم وملكهم وهي أم أبي سلمة. ومنها سرية علي بن أبي طالب إلى فدك في شعبان في. مائة رجل وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه أن حيا من بني سعد قد تجمعوا له يريدون أن يمدوا أهل خيبر فسار إليهم علي فأصاب عينا لهم فأخبره أنه سار إلى أهل خيبر يعرض عليهم نصرهم علي أن يجعلوا لهم تمر خيبر.
ومنها سرية زيد بن حارثة إلى أم قرفة في رمضان وكانت عجوزا كبيرة فلقي زيد بني فزارة بوادي القرى فأصيب أصحابه وارتث زيد من بين القتلى فنذر أن لا يمس ماء من جنابة حتى يغزو فزارة فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فلقيهم بوادي القرى فأصاب منهم وقتل وأسر أم قرفة وهي فاطمة بنت ربيعة بن بدر عجوز كبيرة وبنتا لها فربط أم قرفة بين بعيرين فشقاها نصفين، وقدم على النبي صلى الله عليه وسلم بابنتها وكانت لسلمة بن الأكوع فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم منه هبة وأرسلها إلى حزن بن أبي وهب فولدت له عبد الله بن حرب.
وأما سلمة بن الأكوع فإنه جعل أمير هذه السرية أبا بكر فروي عنه أنه قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا أبا بكر فغزونا ناسا من بني فزارة فشننا عليهم الغارة صلاة الصبح فأخذت منهم جماعة وسقتهم إلى أبي بكر، وفيها امرأة من بني فزارة معها بنت لها من أحسن العرب فنفلني أبو بكر بنتها فقدمت المدينة فلقيت النبي صلى الله عليه وسلم بالسوق فقال لي: يا أبا سلمة لله أبوك هب لي المرأة. فقلت والله لقد أعجبتني وما كشفت لها ثوبا. فسكت ثم عاد من الغد فوهبتها له فبعث بها إلى مكة ففادي
209

بها أساري من المسلمين.
ومنها سرية كرز بن الفهري إلى العرنيين الذين قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم واستاقوا الإبل في شوال من سنة ست وبعثه رسول الله في عشرين فارسا.
وفيها تزوج عمر بن الخطاب جميلة بنت تابت بن أفلح أخت عاصم فولدت له عاصما فطلقها وتزوجها بعده يزيد بن جارية، فولدت له عبد الرحمن بن يزيد فهو أخو عاصم لأمه.
(جارية بم الجيم وبعد الراء ياء تحتها نقطتان).
وفيها أجدب الناس جدبا شديدا فاستسقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس في رمضان.
ذكر مكاتبة رسول الله صلى الله عليه وسلم الملوك
وفيها بعت رسول الله صلى الله عليه وسلم الرسل إلى كسري، وقيصر، والنجاشي، وغيرهم وأرسل حاطب بن أبي بلتعة إلي المقوقس بمصر، وأرسل شجاع بن وهب الأسدي إلى الحارث بن أبي شمر الغساني، وأرسل دحية إلى قيصر، وأرسل سليط بن عمرو العامري إلى هوذة بن علي الحنفي، وبعث عبد الله بن حذافة إلي كسرى، وأرسل عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي، وأرسل العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن، ساوي أخي عبد القيس، وقيل: إن إرساله كان سنة ثمان والله أعلم.
فأما المقوقس فإنه قبل كتاب النبي صلى الله عليه وسلم وأهدي إليه
210

أربع جوار، منهن مارية أم إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما قيصر وهو هرقل فإنه قبل كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعله بين فخذيه وخاصرته، وكتب إلى رجل برومية كان يقرأ الكتاب يخبره شأنه فكتب إليه صاحب رومية إنه النبي الذي كنا ننتظره لا شك فيه فاتبعه وصدقه، فجمع هرقل بطارقة الروم في الدسكرة وغلقت أبوابها تم اطلع عليهم من علية وخافهم على نفسه وقال لهم: قد أتاني كتاب هذا الرجل يدعوني إلى دينه وإنه والله النبي الذي نجده في كتابنا فهلم فلنتبعه ونصدقه فتسلم لنا دنيانا وآخرتنا. فنخروا نخرة رجل واحد، تم ابتدروا الأبواب ليخرجوا فقال: ردوهم علي وخافهم على نفسه، وقال لهم: إنما قلت لكم ما قلت لأنظر كيف صلابتكم في دينكم؟ وقد رأيت منكم ما سرني فسجدوا له، وانطلق وقال لدحية: إني لأعلم أن صاحبك نبي مرسل، ولكني أخاف الروم على نفسي، ولولا ذلك لاتبعته فاذهب إلى ضغاطر الأسقف الأعظم في الروم واذكر له أمر صاحبك وانظر ما يقول لك.
فجاء دحية وأخبره بما جاء به من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له ضغاطر: والله إن صاحبك نبي مرسل؛ نعرفه بصفته، ونجده في كتابنا، تم أخذ عصاه وخرج على الروم وهم في الكنيسة فقال: يا معشر الروم: قد جاءنا كتاب من أحمد يدعونا إلى الله وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، قال: فوثبوا عليه فقتلوه.
فرجع دحية إلى هرقل وأخبره الخبر قال: قد قلت: إنا نخافهم على أنفسنا. وقال: قيصر للروم: هلموا نعطيه الجزية فأبوا فقال: نعطيه أرض سورية وهي الشام ونصالحه فأبوا، واستدعي هرقل أبا سفيان وكان تاجرا إلى الشام في الهدنة فحضر عنده ومعه جماعة من قريش أجلسهم هرقل خلفه، وقال: إني سائله فإن كذب فكذبوه. فقال أبو سفيان: لولا أن يؤثر عني
211

الكذب لكذبت، فسأله عن النبي قال: فصغرت له شانه فلم يلتفت إلى، قولي، وقال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: هو أوسطنا نسبا، قال: هل كان من أهل بينه من يقول مثل قوله؟ قلت لا. قال: فهل له فيكم ملك سلبتموه إياه؟ قلت: لا. قال: فمن اتبعه منكم؟ قلت: الضعفاء والمساكين والأحداث من الغلمان والنساء. قال: فهل يحبه من يتبعه وتلزمه أو يقليه وتفارقه؟ قلت: ما تبعه رجل ففارقه، قال: فكيف الحرب بينكم. وبينه؟ قلت: [سجال] يدال علينا وندال عليه، قال: هل يغدر؟ قال: فلم أجد شيئا أغمز به غيرها قلت: لا ونحن منه في هدنة لا نأمن غدره. قال: فما التفت إليها.
قال أبو سفيان: فقال لي هرقل: سألتك عن نسبه فزعمت أنه من أوسط الناس وكذلك الأنبياء وسألتك هل قال أحد من أهل بيته مثل قوله فهو متشبه به فزعمت أن لا، فسألتك هل سلبتموه ملكه فجاء بهذا لتردوا عليه ملكه، فزعمت أن لا. وسألتك عن أتباعه فزعمت أنهم الضعفاء والمساكين وكذلك أتباع الرسل، وسألتك، عممت يتبعه أيحبه أم يفارقه، فزعمت أنهم يحبونه ولا يفارقونه. وكذلك حلاوة الإيمان لا تدخل قلبا فتخرج منه، وسألت هل يغدر؟ فزعمت أن لا ولئن صدقتني ليغلبن على ما تحت قدمي هاتين ولوددت أني عنده فأغسل قدميه، انطلق لشأنك.
قال: فخرجت وأنا أضرب إحدى يدي بالأخرى وأقول أي عباد الله لقد أمر أمر ابن أبي كبشة أصبح ملوك الروم يهابونه في سلطانهم.
قال: وقدم عليه دحية بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم السلام على من اتبع الهدى أسلم تسلم وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين إن توليت
212

فإن إثم الأكارين عليك.
وأما الحارث بن أبي شمر الغساني فأتاه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع شجاع بن وهب فلما قرأه عليهم قال: من ينزع مني ملكي أنا ساتر إليه. فلما بلغ قوله رسول الله صلى الله عليه وسلم قال باد ملكه.
وأما النجاشي فإنه لما جاءه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم آمن به واتبعه وأسلم علي يد جعفر بن أبي طالب وأرسل إليه ابنه في ستين من الحبشة فغرقوا في البحر، وأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان وكانت مهاجرة بالحبشة مع زوجها عبيد الله بن جحش فتنصر وتوفي بالحبشة فخطبها النجاشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجابت وزوجها وأصدقها النجاشي أربعمائة دينار، فلما سمع أبو سفيان تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم حبيبة قال: ذاك الفحل لا يقدع أنفه.
وأما كسرى فجاءه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عبد الله بن حذافة فمزق الكتاب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مزق ملكه لما وكان كتابه: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس سلام علن من تبع الهدى وآمن بالله ورسوله وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وإني أدعوك بدعاء الله وإني رسول الله إلى الناس كافة لأنذر (من كان حيا وتحق القول على الكافرين)، فأسلم تسلم وإن توليت فإن إثم المجوس عليك.
فلما قرأه شقه قال: يكتب إلي بهذا وهو عبدي! ثم كتب إلى باذان وهو باليمن أن ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز رجلين من عندك جلدين
213

فليأتياني به, فبعت باذان بابويه. وكان كاتبا حاسبا ورجلا آخر من الفرس يقال له: خرخسره وكتب معهما يأمره بالمسير معهما إلى كسرى، وتقدم إلى بابويه أن يأتيه بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعت قريش بذلك ففرحوا، وقالوا: أبشروا فقد نصب له كسرى ملك الملوك، كفيتم الرجل، فخرجا حتى قدما علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد حلقا لحاهما [وأعفيا] شواربهما، فكره النظر إليهما وقال: ويلكما من أمركما
بهذا. قالا: ربنا. يعنيان الملك. فقال: لكن ربي أمرني أن أعفي لحيتي وأقص شاربي، فأعلماه بما قدما له، وقالا: إن فعلت كتب باذان فيك إلي كسري وإن أبيت فهو يهلكك ويهلك قومك. فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ارجعا حتى تأتيان غدا. وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء إن الله قد سلط على كسرى ابنه شيرويه فقتله في شهر كذا وليلة كذا فدعاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرهما بقتل كسرى. وقال لهما: قولا له إن ديني وسلطاني سيبلغ ملك كسرى وتنتهي منتهى الخف والحافر، وأمرهما أن يقولا لباذان: أسلم فإن أسلم أقره على ما تحت يده وأملكه على قومه، تم أعطى خرخسره منطقة ذهب وفضة أهداها له بعض الملوك.
وخرجا فقدما على باذان وأخبراه الخبر فقال: والله ما هذا كلام ملك وإني لأراه نبيا ولننظرن فإن كان ما قال: حقا فإنه لنبي مرسل، وإن لم يكن فنرى فبه رأينا. فلم يلبث باذان أن قدم عليه كتاب شيرويه يخبره
214

بقتل كسرى وأنه قتله غضبا للفرس لما استحل من قتل أشرافهم وتأمره بأخذ الطاعة له باليمن وبالكف عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أتاه كتاب شيرويه أسلم وأسلم معه أبناء من فارس، وكانت حمير تسمي خرخسره صاحب المعجزة والمعجزة بلغة حمير المنطقة.
وأما هوذة بن علي فكان ملك اليمامة فلما أتاه سليط بن عمرو يدعوه إلي الإسلام وكان نصرانيا أرسل إلي النبي صلى الله عليه وسلم وفدا فيهم مجاعة بن مرارة والرجال بن عنفوة يقول له: إن جعل الأمر له من بعده أسلم وسار إليه ونصره وإلا قصد حربه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ولا كرامة، اللهم اكفنيه. فمات بعد قليل.
وأما مجاعة والرجال فأسلما وأقام الرجال عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قرأ سورة البقرة وغيرها وتفقه وعاد إلى اليمامة فارتد، وشهد أن رسول الله أشرك مسيلمة معه فكانت فتنته أشد من فتنة مسيلمة.
(مجاعة بضم الميم وتشديد الجيم. والرجال بالجيم المشددة، وقيل: بالحاء المهملة المشددة، وعنفوة بضم وسكون النون وضم الفاء وفتح الواو).
وأما المنذر بن ساوى والي البحرين: فلما أتاه العلاء بن الحضرمي يدعوه ومن معه بالبحرين إلى الاسلام أو الجزية وكانت ولاية البحرين للفرس فأسلم المنذر بن ساوى وأسلم جميع العرب بالبحرين.
فأما أهل البلاد من اليهود والنصارى والمجوس فإنهم صالحوا العلاء والمنذر على الجزية من كل حالم دينار ولم يكن بالبحرين قتال إنما بعضهم أسلم وبعضهم صالح.
وولي الحج في هذه السنة المشركون.
وفي هذه السنة ماتت أم رومان وهي أم عائشة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم.
215

7
ودخلت سنة سبع
ذكر غزوة خيبر
لما عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية أقام بالمدينة ذا الحجة وبعض المحرم وسار إلى خيبر في ألف وأربعمائة رجل معهم ماتتا فارس، وكان مسيره إلى خيبر في المحرم سنة سبع واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري فمضى حتى نزل بجيشه بالرجيع ليحول بين أهل خيبر وغطفان لأنهم كانوا مظاهرين لهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقصدت غطفان خيبر ليظاهروا يهود [عليه] تم خافوا المسلمين أن يخلفوهم في أهليهم وأموالهم [فرجعوا] ودخلوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وتهود، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال في مسيره لعامر بن الأكوع عم سلمة بن عمرو بن الأكوع: حد لنا فنزل وحداهم تقول:
والله لولا الله ما اهتدينا * ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا * وثبت الأقدام إن لاقينا
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: رحمك الله. فقال له عمر: هلا أمتعتنا به يا رسول الله! وكان إذا قالها لرجل قتل، فلما نازلوا خيبر
216

بارز عامر فعاد عليه سيفه فجرحه جرحا شديدا فمات منه فقال الناس: إنه قتل نفسه فقال سلمة ابن أخيه للنبي صلى الله عليه وسلم، [ما قالوا] فقال: كذبوا بل له أجره مرتين، فلما التعرف عليها قال لأصحابه: قفوا. ثم قال: اللهم رب السماوات وما أظللن، ورب الأرضين وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما أذرين، نسألك خير هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها ونعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر ما فيها أقدموا بسم الله لا، وكان يقول ذلك لكل قرية يقدمها.
ونزل على خيبر ليلا ولم يعلم أهلها فخرجوا عند الصباح إلى عملهم بمساحيهم ومكاتلهم فلما رأوه عادوا وقالوا: محمد والله محمد والخميس معه يعنون الجيش. فقال النبي صلى الله عليه وسلم الله أكبر خربت خيبر. إنا إذا نزلنا بساحة قوم (فساء صباح المنذرين). ثم حصرهم وضيق عليهم وبدأ بالأموال يأخذها مالا مالا وتفتحها حصنا حصنا، فكان أول حصن افتتحه حصن ناعم وعنده قتل محمود بن سلمة ألقيت عليه منه رحى فقتلته، ثم القموص حصن بني أبي الحقيق، وأصاب منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا، منهم صفية بنت حي بن أخطب وكانت عند كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وبنتي عم لها فاصطفاها رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه، وفشت السبايا في المسلمين، وأكلوا لحوم الحمر الأنسية، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها.
وكان الزبير بن باطا القرظي قد من على تابت بن قيس بن شماس في الجاهلية، يوم بعاث فأطلقه، فلما كان الآن أتاه تابت فقال له: أتعرفني؟ قال: وهل يجهل مثلي مثلك؟ قال: أريد أن أجزيك بيدك عندي، قال:
217

إن الكريم تجزي الكريم، فأتى تابت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: كان للزبير عندي يد أريد أن أجزيه بها فهبه لي فوهبه له، فأتاه فقال له: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد وهب لي دمك فهو لك، قال: شيخ كبير لا أهل له ولا ولد.
فاستوهب تابت أهله وولده، من رسول الله صلى الله عليه وسلم فوهبهم له، فقال: الزبير أهل بيت بالحجاز لا مال لهم، فاستوهب ثابت ماله من رسول الله صلى الله عليه وسلم فوهبه له فمن عليه بالجميع.
فقال الزبير: أي تابت ما فعل الذي كان وجهه مرآة صقيلة يتراءى فيها عذارى الحي كعب بن أسد؟ قال: قتل، قال: فما فعل سيدا لحاضر والبادي، حي بن أخطب؟ قال: قتل: قال: فما فعل مقدمتنا إذا شددنا وحاميتنا إذا كررنا عزال بن سموال؟ قال: قتل. قال: فما فعل المجلسان يعني بني كعب بن قريظة، وبني عمرو بن قريظة؟ قال: ذهبوا. قال: فإني م سألك يا تابت بيدي عندك إلا ما ألحقتني بهم، فوالله ما في العيش بعدهم خير فقتله.
ثم افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم حصن الصعب - وهو أكثرها طعاما وودكا - تم قصد حصنهم الوطيح والسلالم وكانا اخر ما افتتح حاصرهم رسول الله بضع عشرة ليلة، فخرج منه مرحب اليهودي وقد جمع سلاحه، وهو يقول:
قد علمت خيبر أني مرحب * شاكي السلاح بطل مجرب
أطعن أحيانا وحينا أضرب * إذا الليوث أقبلت تلتهب
كان حماي كالحمى لا يقرب
218

وسأل المبارزة، فخرج إليه محمد بن مسلمة وقال: أنا والله الموتور الثائر. قتلوا أخي بالأمس، فأقره رسول الله صلى الله عليه وسلم بمبارزته وقال: اللهم أعنه عليه، فخرج إليه فتقاتلا طويلا، تم حمل مرحب على محمد بن مسلمة، فضربه فاتقاه بالدرقة، فوقع سيفه، فيها فعضت عليه وأمسكت، فضربه محمد بن مسلمة حتى قتله، تم خرج بعده أخوه ياسر وهو يقول:
قد علمت خيبر أني ياسر * شاكي السلاح بطل مغاور
وطلب المبارزة، فخرج إليه الزبير بن العوام، فقتله الزبير.
وقيل: إن الذي قتل مرحبا وأخذ الحصن علي بن أبي طالب، وهو الأشهر والأصح.
قال بريدة الأسلمي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما أخذته الشقيقة فيلبث اليوم، واليومين لا يخرج، فلما نزل خيبر أخذته، فلم يخرج إلى الناس فأخذ أبو بكر الراية من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نهض فقاتل قتالا شديدا، تم رجع فأخذها عمر فقاتل قتالا شديدا هو أشد من القتال الأول، تم رجع فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أما والله لأعطينها غدا رجلا يحب الله ورسوله وتحبه الله ورسوله يأخذها عنوة - وليس ثم علي كان قد تخلف بالمدينة لرمد لحقه - فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مقالته هذه تطاولت لها قريش ورجا كل واحد منهم أن يكون صاحب ذلك فأصبح فجاء علي على بعير له حتى أناخ قريبا من خباء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي أرمد قد عصب عينيه بشقة برد قطري فقال رسول الله صلى الله عليه
219

وسلم: ما لك؟ قال: رمدت بعدك. فقال له: ادن مني. فدنا منه فتفل في عينيه فما شكا وجعا حتى مضى لسبيله، تم أعطاه الراية فنهض بها معه وعليه حلة حمراء فأتى خيبر فأشرف عليه رجل من يهود فقال: من أنت؟ قال: أنا علي بن أبي طالب. فقال اليهودي: غلبتم يا معشر يهود، وخرج مرحب صاحب الحصن وعليه مغفر يماني قد نقبه مثل البيضة على رأسه وهو يقول:
قد علمت خيبر أني مرحب * شاكي السلاح بطل مجرب
فقال علي:
أنا الذي سمتني أمي حيدره * أكيلهم بالسيف كيل السندره
ليث بغابات شديد قسوره
فاختلفا ضربتين فبدره علي فضربه فقد الحجفة والمغفر ورأسه حتى وقع في الأرض وأخذ المدينة.
قال أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: خرجنا مع علي حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم، [برايته] إلى خيبر، فلما دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم فضربه يهودي فطرح ترسه من يديه فتناول علي بابا كان عند الحصن فتترس به عن نفسه فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتحها الله علي يديه، تم ألقاه من يده حين فرغ، فلقد رأيتني في نفر سبعة أنا ثامنهم نجهد علق أن نقلب ذلك الباب فما نقلبه، وكان فتحها في صفر.
فلما فتحت خيبر جاء بلال بصفية وأخرى معها على قتلى يهود فلما
220

رأتهم التي مع صفية صرخت وصكت وجهها وحثت التراب على رأسها، فاصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم. صفية وأبعد الأخرى وقال: إنها شيطانة لأجل فعلها، وقال لبلال: أنزعت منك الرحمة؟ جئت بهما على قتلاهما!
وكانت صفية قد رأت في منامها، وهي عروس لكنانة بن أبي الحقيق، أن قمرا وقع في حجرها، فعرضت رؤياها على زوجها، فقال: ما هذا إلا أنك تتمنين ملك الحجاز محمدا، ولطم وجهها لطمة اخضرت عينها منها فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبها أثر منها وسألها ما هو فأخبرته، ودفع كنانة بن أبي الحقيق إلى محمد بن مسلمة فقتله بأخيه محمود.
وحاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم حصني أهل خيبر الوطيح، والسلالم، فلما أيقنوا بالهلكة سألوه أن يسيرهم وتحقن دماءهم فأجابهم إلى ذلك، وكان قد حاز الأموال كلها الشق ونطاة. والكتيبة، وجميع حصونهم.
فلما سمع بذلك أهل فدك بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه أن يسيرهم وتخلون له الأموال ففعل ذلك. ولما نزل أهل خيبر [على ذلك] سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعاملهم في الأموال على النصف، وأن يخرجهم إذا شاء فساقاهم على الأموال على الشرط الذي طلبوا وفعل مثل ذلك أهل فدك، وكانت خيبر فيئا للمسلمين وكانت فدك خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم لم يجلبوا عليها بخيل ولا ركاب. ولما استقر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدت له زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم شاة مصلية مسمومة فوضعتها بين يديه فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم منها مضغة فلم يسغها ومعه بشر بن البراء بن معرور، فأكل بشر منها، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذه الشاة تخبرني أنها مسمومة. ثم دعا المرأة فاعترفت فقال: ما
221

حملك على ذلك؟ قالت: بلغت من قومي ما لم يخف عليك فقلت: إن كان نبيا فسيخبر، وإن كان ملكا استرحنا منه. فتجاوز عنها، ومات بشر بن البراء من تلك الأكلة.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه: هذا الأوان وجدت انقطاع أبهري من أكلة خيبر، فكان المسلمون يرون أنه مات شهيدا مع كرامة النبوة.
[ذكر غزوة وادي القرى]
ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر انصرف إلى وادي القرى فحاصر أهله ليالي فافتتحه عنوة وفي حصاره قتل مدعم مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أهداه له رفاعة بن زيد الجذامي فقال المسلمون: هنيئا له الجنة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلا والذي نفس محمد بيده إن شملته الآن لتشتعل عليه نارا وكان غلها من في المسلمين يوم خيبر. فسمعه رجل فأتاه فقال: [يا رسول الله] أصبت شراكين لنعلين [لي] كنت أخذتهما. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقد لك مثلهما من النار.
وترك رسول الله صلى الله عليه وسلم النخل والأرض في أيدي أهل الوادي وعاملهم نحو ما عامل أهل خيبر فبقوا كذلك إلى أن وبي عمر الخلافة، فأجلاهم، وقيل: إنه لم يجلهم لأنها خارجة عن الحجاز.
* * *
222

وفي هذه السفرة أعني خيبر نام رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس والقصة مشهورة.
وشهد معه نساء من نساء المسلمين فرضخ لهن [من الفيء].
[قصة الحجاج بن علاط السلمي]
وفي هذه السفرة قال الحجاج بن علاط السلمي لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن لي بمكة مالا عند صاحبتي أم شيبة ابنة أبي طلحة وهي أم ابنه معرض بن الحجاج ومال متفرق في تجار مكة فأذن لي يا رسول الله فأذن له فقال: إنه لا بد من أن أقول. قال: قل. فقدم الحجاج مكة فسأله أهل مكة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما صنع بخيبر ولم يكونوا علموا
بإسلامه فقال لهم: إن يهود هزمته وأصحابه وقتل أصحابه قتلا ذريعا وأسر محمد وقالت يهود: لن نقتله حتى نبعت به إلى مكة فيقتلوه بين أظهرهم. فصاحوا بمكة بذلك فقال: أعينوني في جمع مالي حتى أقدم خيبر فأصيب من فل محمد وأصحابه قبل [أن يسبقني] التجار فجمعوه كله كأحث شيء فأتاه العباس وسأله عن الخبر فأخبره بعد أن جمع ماله بفتح خيبر وأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ صفية بنت حي لنفسه وأنه قدم لجمع ماله وسأله أن يكتم عنه ثلاثا خوف الطلب فكتم العباس الخبر ثلاثا بعد مسيره تم لبس حلة له وتخلق وأخذ عصاه وخرج فطاف بالكعبة فلما رأته قريش قالوا: يا أبا الفضل هذا والله التجلد لحر المصيبة. قال: كلا والله لقد افتتح محمد خيبر وأخذ ابنة ملكهم وأحرز أموالهم، وأخبرهم بخبر الحجاج. فقالوا: لو علمنا لكان له ولنا شان.
223

[ذكر مقاسم خيبر]
وقسم من أموال خيبر الشق ونطاة بين المسلمين وكانت الكتيبة خمس الله والرسول وسهم ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل فطعم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وطعم رجال مشوا بين رسول الله وبين أهل فدك [بالصلح] وقسمت خيبر على أهل الحديبية فأعطى الفرس سهمين والرجل سهما وأقر النبي صلى الله عليه وسلم أهل خيبر بخيبر، وأبو بكر بعده، وعمر صدرا من إمارته حتى بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي مات فيه: لا يجتمع بجزيرة العرب دينان.
فأجلى عمر من يهود من لم يكن معه عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(سلام بن مشكم بتشديد اللام. ومشكم بكسر الميم وسكون الشين المعجمة. والحقيق بضم الحاء المهملة وبقافين. وأخطب بالخاء المعجمة وآخره باء موحدة. ومعرور بالعين المهملة وبعده راءان مهملتان. وعلاط بكسر العين المهملة وطاء مهملة).
ذكر فدك
لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر بعث محيصة بن مسعود إلى أهل فدك يدعوهم إلى الإسلام ورئيسهم يومئذ يوشع بن نون اليهودي، فصالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على نصف الأرض فقبل منهم ذلك وكان نصف فدك خالصا لرسول الله صلى الله عليه وسلم
224

لأنه لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب يصرف ما يأتيه منها على أبناء السبيل، ولم يزل أهلها بها حتى استخلف عمر بن الخطاب وأجلى يهود الحجاز فبعث أبا الهيثم بن أتي التيهان، وسهل بن أبي خيثمة، وزيد بن تابت فقوموا نصف تربتها بقيمة عدل فدفعها إلى يهود وأجلاهم إلى الشام. ولم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي يصنعون صنيع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته.
فلما ولي معاوية الخلافة أقطعها مروان بن الحكم، فوهبها مروان ابنيه. عبد الملك، وعبد العزيز، تم صارت لعض بن عبد العزيز وللوليد وسليمان ابني عبد الملك بن مروان، فلما ولي الوليد الخلافة وهب نصيبه عمر بن عبد العزيز، ثم لما ولي سليمان الخلافة فوهب نصيبه منها أيضا عمر بن عبد العزيز، فلما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة خطب الناس وأعلمهم أمر فدك وانه قد ردها إلى ما كانت عليه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، فوليها أولاد فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أخذت منهم.
فلما كانت سنة عشر ومائتين ردها المأمون إليهم.
(محيصة بضم الميم وفتح الحاء المهملة وتشديد الياء المثناة من تحت وكسرها وآخره صاد مهملة. والتيهان بفتح التاء فوقها نقطتان وتشديد الياء تحتها نقطتان وكسرها).
* * *
وفي هذه السنة رد رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته زينب على أبي العاص بن الربيع زوجها في المحرم. وفيها قدم حاطب من عند المقوقس بمارية أم إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأختها شيرين، وبغلته دلدل، وحماره يعفور، وكسوة، فأسلمت مارية وأختها قبل قدومهما
225

على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ مارية لنفسه ووهب شيرين حسان بن تابت الأنصاري فهي أم ابنه عبد الرحمن فهو وإبراهيم ابنا خالة. وفيها اتخذ صلى الله عليه وسلم منبره، وقيل: إنه عمل سنة ثمان وهو الثبت. وفيها بعت رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب في ثلاثين رجلا إلى عجز هوازن بتربة، فهربوا منه ولم يلق كيدا.
وفيها كانت سرية بشير بن سعد والد النعمان بن بشير الأنصاري إلى بني مرة بفدك، في شعبان في ثلاثين رجلا أصيب أصحابه، وارتث في القتلى، تم رجع إلى المدينة. وفيها كانت سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى أرض بني مرة. فأصاب مرداس بن نهيك حليفا لهم من جهينة قتله أسامة [بن زيد] ورجل من الأنصار، قال أسامة: لما غشيناه قال: أشهد أن لا إله إلا الله، فلم ننزع عنه حتى قتلناه بم فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبرناه الخبر فقال: يا أسامة كيف تصنع بلا إله إلا الله! وفيها كانت سرية غالب بن عبد الله أيضا في مائة وثلاثين راكبا إلى بني عبد بن ثعلبة، فأغار عليهم واستاق النعم إلى المدينة. وفيها كانت سرية بشير بن سعد إلى اليمن والجناب في
شوال.
وكان سببها أن جبيل بن نويرة الأشجعي كان دليل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، قدم على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أن جمعا من غطفان بالجناب قد م مدهم عيينة بن حصن، وأمرهم بالمسير إلى المدينة فبعث النبي صلى الله عليه وسلم بشير بن سعد فأصابوا نعما وقتلوا مولى لعيينة، تم لقوا جمع عيينة فهزمهم المسلمون، وانهزم عيينة، فلقيه الحارث بن عوف منهزما، فقال له: قد آن لك أن تقصر عما مضى.
(حاطب بالحاء المهملة وآخره باء موحدة.
226

وبشير بفتح الباء الموحدة وكسر الشين المعجمة وآخره راء والد النعمان بن بشير.
وعيينة بضم العين وفتح الياء المثناة تحتها نقطتان وسكون الياء الثانية وبعدها نون تصغير عين).
ذكر عمرة القضاء
لما عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر أقام بالمدينة جماديين ورجب وشعبان ورمضان وشوالا يبعث السرايا، تم خرج في ذي الحجة معتمرا عمرة القضاء، وساق معه سبعين بدنة، وخرج معه المسلمون ممن كان معه في عمرته الأولى، فلما سمع به أهل مكة خرجوا عنه، وتحدثت قريش [بينها] أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في عسر وجهد وحاجة فاصطفوا له عند دار الندوة لينظروا إليه ولأصحابه معه فلما دخلها اضطبع بردائه، فأخرج عضده اليمني تم قال: رحم الله امرءا أراهم اليوم [من نفسه] قوة، تم استلم الركن وخرج يهرول، ويهرول أصحابه [معه]، وكان بين يديه لما دخل مكة عبد الله بن رواحة آخذا بخطام ناقته، وهو يقول:
خلوا بني الكفار عن سبيله * خلوا فكل الخير في رسوله
يا رب إني مؤمن بقيله * أعرف حق الله في قبوله
نحن قتلناكم على تأويله * كما قتلناكم على تنزيله
ضربا يزيل الهام عن مقيله * ويذهل الخليل عن خليله
وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم في سفره هذا بميمونة بنت الحارث، وأقام بمكة ثلاثا، فأرسل المشركون إليه مع علي بن أبي طالب ليخرج عنهم، فقال: ما عليهم لو أعرست أظهرهم وصنعنا لهم طعاما فحضروه معنا؟
227

فقالوا: لا حاجة لنا في طعامه، فليخرج عنا. فخرج عنهم وبنى بميمونة بسرف تم انصرف إلى المدينة فأقام بها بقية ذي الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع وبعث جيشه الذي أصيب بمؤتة وولى تلك الحجة المشركون.
وفيها كانت غزوة ابن أبي العوجاء السلمي إلى بني سليم في ذي القعدة فلقوه فأصيب هو وأصحابه، وقيل: بل نجا وأصيب أصحابه.
228

8
ودخلت سنة ثمان
وفيها توفيت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله الواقدي.
[غزوة غالب بن عبد الله الليثي بني الملوح]
وفيها كانت سرية غالب بن عبد الله الليثي الكلبي، كلب الليث، إلى بني الملوح في صفر فلقيه الحارث بن البرصاء الليثي فأخذه أسيرا فقال: إني إنما جئت لأسلم. فقال له غالب: إن كنت صادقا فلن يضرك رباط ليلة وإن كنت كاذبا استوثقنا منك. ووكل به بعض أصحابه وقال له: إن نازعك فخذ رأسه وأمره بالمقام إلى أن يعود، تم ساروا حتى أتوا بطن الكديد فنزلوا بعد العصر وأرسلوا جندب بن مكيث الجهني ربيئة لهم قال: فقصدت تلا هناك يطلعني على الحاضر فانبطحت عليه فخرج لي منهم رجل فنظر فرآني منبطحا فاخذ قوسه وسهمين فرماني بأحدهما فوضعه في جنبي. قال: فنزعته ولم أتحرك تم رماني بالثاني فوضعه في رأس منكبي. قال: فنزعته ولم أتحرك قال: أما والله لقد خالطه سهماي ولو كان ربيئة لتحرك. قال: فأمهلناهم - حتى راحت مواشيهم واحتلبوا فشننا عليهم الغارة فقتلنا منهم من قتلنا واستقنا منهم النعم ورجعنا سراعا وأتى صريخ القوم فجاءنا ما لا قبل لنا به حتى إذا لم يكن بيننا إلا بطن الوادي من قديد بعث الله عز وجل من حيت شاء سحابا ما رأينا
229

قبل ذلك مطرا مثله فجاء الوادي بما لا يقدر أحد يجوزه فلقد رأيتهم ينظرون إلينا ما يقدر أحد يتقدم. وقدمنا المدينة، وكان شعار المسلمين: أمت أمت، وكان عدتهم بضعة عشر رجلا.
* * *
وفيها بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم العلاء بن الحضرمي إلى البحرين وبها المنذر بن ساوى فصالح المنذر على أن المجوس الجزية ولا تؤكل ذبائحهم و [لا] تنكح نساؤهم، وقيل: إن إرساله كان سنة ست من الهجرة
مع الرسل الذين أرسلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الملوك، وقد تقدم ذلك. وفيها كانت سرية شجاع بن وهب إلى بني عاس في شهر ربيع الأول في أربعة عشر رجلا فشن الغارة عليهم فأصابوا نعما فكان سهم كل رجل منهم خمسة عشر بعيرا. وفيها كانت سرية كعب بن عمير الغفاري إلى ذات الأطلاح خرج في خمسة عشر رجلا فوجد بها جمعا كثيرا فدعاهم إلى الاسلام فأبوا أن يجيبوا وقتلوا أصحاب كعب ونجا حتى قدم المدينة.
وذات الأطلاح من ناحية الشام؛ وكانوا [من] قضاعة ورئيسهم رجل يقال له: سدوس.
ذكر إسلام خالد بن الوليد. وعمرو بن العاص
[وعثمان بن طلحة]
في هذه السنة في صفر قدم عمرو بن العاص مسلما على النبي صلى الله عليه وسلم وقدم معه خالد بن الوليد، وعثمان بن طلحة العبدري.
230

وكان سبب اسلام عمرو أنه قال: لما انصرفنا مع الأحزاب [عن الخندق] قلت لأصحابي: إني أرى أمر محمد يعلو الأمور علوا منكرا وإني قد رأيت أن تلحق بالنجاشي فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشي وإن ظهر قومنا على محمد فنحن من قد عرفوا. قالوا: إن هذا لرأي. قال: فجمعنا له أدما كثيرا وخرجنا إلى النجاشي فإنا لعنده إذ وصل عمرو بن أمية الضمري رسولا من النبي صلى الله عليه وسلم في أمر جعفر وأصحابه، قال: فدخلت على النجاشي وطلبت منه أن يسلم إلي عمرو بن أمية الضمرى لأقتله تقربا إلى قريش بمكة. فلما سمع كلامي غضب وضرب أنفه ضربة ظننت أنه قد كسره، يعني النجاشي فخفته، ثم قلت: والله لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتكه، قال: أتسألنى أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان تأتي موسى لتقتله؟ قال: قلت: أيها الملك، أكذلك هو؟ قال: ويحك يا عمرو، أطعني واتبعه فإنه والله لعلى الحق، وليظهرن على من خالفه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده. قال: فقلت فبايعني له على الإسلام.
فبسط يده فبايعته، ثم خرجت إلى أصحابي وكتمتهم اسلامي، وخرجت عائدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسلم ولقيني خالد بن الوليد، وذلك قبل الفتح وهو مقبل من مكة فقلت أين يا أبا سليمان؟ قال: والله لقد استقام الميسم وإن الرجل لنبي، أذهب والله أسلم، فحتى متى؛ فقلت: والله ما جئت إلا للاسلام. فقدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم، فتقدم خالد بن الوليد فأسلم وبايع، ثم دنوت فأسلمت، وتقدم عثمان بن طلحة فاسلم.
231

ذكر غزوة ذات السلاسل
وفيها أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، عمرو بن العاص، إلى أرض بلى وعذرة يدعو الناس إلى الاسلام، وكانت أمه من بلى فتألفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فسار حتى إذا كان على ماء بأرض جذام، يقال له: السلاسل، وبه سميت تلك الغزوة ذات السلاسل، فلما كان به خاف، فبعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستمده، فبعت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح في المهاجرين الأولين فيهم أبو بكر، وعمر وقال لأبي عبيدة حين وجهه: لا تختلفا. فخرج أبو عبيدة فلما قدم عليه قال عمر: وإنما جئت مددا إلي. فقال له أبو عبيدة: يا عمرو إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تختلفا فإن عصيتني أطعتك. قال: فأنا أمير عليك. قال: فدونك. فصلى عمرو بن العاص بالناس.
وفيها أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص إلى جيفر وعياذ ابني الجلندي بعمان فآمنا وصدقا وأخذ الجزية من المجوس.
ذكر غزوة الخبط وغيرها
وفيها كانت غزوة الخبط، وأميرهم أبو عبيدة بن الجراح، في ثلاثمائة من المهاجرين والأنصار، وكانت في رجب وزودهم رسول الله صلى الله عليه وسلم جرابا من تمر، فكان أبو عبيدة يقبض لهم قبضة تم تمرة
232

تمرة، فكان أحدهم يلوكها وتشرب عليها الماء إلى الليل فنفذ ما في الجراب فأكلوا الخبط وجاعوا جوعا شديدا فنحر لهم قيس بن سعد بن عبادة تسع جزائر فأكلوها فنهاه أبو عبيدة فانتهى. ثم إن البحر ألقى إليهم حوتا ميتا فأكلوا منه حتى شبعوا، ونصب أبو عبيد ضلعا من أضلاعه فيمر الراكب تحته فلما قدموا المدينة ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: كلوا رزقا أخرجه الله لكما. وأكل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذكروا صنيع قيس بن سعد فقال: إن الجود من شيمة أهل ذلك البيت.
وفيها كانت سرية وجهها رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعبان أميرها أبو قتادة ومعه عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي، وكان سببها ان رفاعة بن قيس أو قيس بن رفاعة في بطن عظيم من جشم نزل بالغابة يجمع لحرب النبي صلى الله عليه وسلم فبعت النبي صلى الله عليه وسلم أبا قتادة ومن معه ليأتوا منه بخبر فوصلوا قريبا من الحاضر مع غروب الشمس فكمن كل واحد منهم في ناحية وكانوا ثلاثة، وقيل: كانوا ستة عشر رجلا، قال عبد الله بن أبي حدرد: فكان لهم راع أبطأ عليها فخرج رفاعة بن قيس في طلبه ومعه سلاحه فرميته بسهم في فؤاده فما تكلم قال: فأخذت رأسه تم شددت في ناحية العسكر وكبرت وكبر صاحباي فوالله ما كان إلا النجاء فأخذوا نساءهم وأبناءهم وما خف عليهم واستقنا الإبل الكثيرة والغنم فجئنا بها رسول الله وجئت برأسه أحمله معي فأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم من تلك الإبل ثلاثة عشر بعيرا. وكنت قد تزوجت وأخذت أهلي، وعدل البعير بعشر من الغنم.
وفيها أغزى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا قتادة أيضا إلى إضم ومعه محلم بن جثامة الليثي قبل الفتح فلقيهم عامر بن الأضبط الأشجعي على بعير له ومعه متاعه فسلم عليهم بتحية الاسلام فأمسكوا عنه وحمل
233

عليه محلم بن جثامة لشيء كان بينهما فقتله وأخذ بعيره فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره الخبر فنزل (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا) الآية؛ وقيل: كانت هذه السرية حين خرج إلى مكة في رمضان.
ذكر غزوة مؤتة
كان ينبغي أن نقدم هذه الغزوة على ما تقدم وإنما أخرناها لتتصل الغزوات العظيمة فيتلو بعضها بعضا.
وكانت في جمادى الأولى من سنة ثمان، واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم زيد بن حارثة وقال: إن أصيب زيد بن حارثة فجعفر بن أبي طالب، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة. فقال جعفر: ما كنت أرهب ان تستعمل علي زيدا. فقال: امض فإنك لا تدري أي ذلك خير. فبكى الناس وقالوا: هلا متعتنا بهم يا رسول الله فأمسك، وكان إذا قال: فإن أصيب فلان فالأمير فلان أصيب كل من ذكره.
فتجهز الناس، وهم ثلاثة آلاف وودعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس، فلما ودع عبد الله بن رواحة بكى عبد الله فقال له الناس: ما يبكيك؟ فقال: ما بي حب الدنيا ولا صبابة بكم ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ آية وهي (وإن منكم
234

إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا) فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود؟ فقال المسلمون: صحبكم الله وردكم إلينا سالمين. فقال عبد الله:
لكنني أسال الرحمن مغفرة * وضربة ذات فرع تقذف الزبدا
أو طعنة بيدي حران مجهزة * بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا
حتى يقولوا إذا مروا على جدثي * يا أرشد الله من غاز وقد رشدا
فلما ودعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاد قال عبد الله:
خلف السلام على امرئ ودعته * في النخل خير مشيع وخليل
ثم ساروا حتى نزلوا معان من أرض الشام، فبلغهم أن هرقل سار إليهم في مائة ألف من الروم، ومائة ألف من المستعربة، من لخم وجذام وبلقين، وبلى عليهم رجل من بلى، يقال له: مالك بن رافلة، ونزلوا مآب من أرض البلقاء، فأقام المسلمون بمعان ليلتين ينظرون في أمرهم وقالوا: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ نخبره الخبر، وننتظر أمره، فشجعهم عبد الله بن رواحة على المضي. وقال: يا قوم والله إن التي تكرهون للتي خرجتم إياها تطلبون الشهادة وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به فانطلقوا فما هي إلا إحدى الحسنيين، إما ظهور وإما شهادة.
فقال الناس: صدق والله: وساروا وسمعه زيد بن أرقم. وكان يتيما في حجره وقد أردفه في مسيره ذلك على حقيبته - وهو يقول:
إذا أديتني وحملت رحلي * مسيرة أربع بعد الحساء
235

فشأنك فانعمي وخلاك ذم * ولا أرجع إلى أهلي وراء
وجاء المسلمون وغادروني * بأرض الشام مشهور الثواء
وردك كل ذي نسب قريب * من الرحمن منقطع الأخاء
هنالك لا أبالي طلع بعل * ولا نخل أسافلها رواء
فلما سمعها زيد بكى، فخفقه بالدرة وقال: ما عليك يا لكع؟ يرزقني الله الشهادة وترجع بين شعبتي الرحل؟ تم ساروا فالتقتهم جموع الروم والعرب بقرية من البلقاء، يقال لها: مشارف ثم دنى العدو وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها ة مؤتة، فالتقى الناس عندها وتعبأوا، وكان على ميمنة المسلمين قطبة بن قتادة العذري، وعلى ميسرتهم عباية بن مالك الأنصاري. فاقتتلوا قتالا شديدا، فقاتل زيد بن حارثة براية رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شاط في رماح القوم، ثم أخذها جعفر بن أبي طالب فقاتل [بها] وهو يقول:
يا حبذا الجنة واقترابها * طيبة وباردا شرابها
والروم روم قد دنا عذابها، * علي إذ لاقيتها ضرابها
فلما اشتد القتال اقتحم عن فرس له شقراء فعقرها، تم قاتل القوم حتى قتل، وكان جعفر أول من عقر فرسه في الإسلام، فوجدوا به بضعا وثمانين بين رمية وضربة وطعنة، فلما قتل أخذ الراية عبد الله بن رواحة، تم تقدم فتردد بعض التردد، تم قال يخاطب نفسه:
أقسمت يا نفس لتنزلنه * طائعة أولا لتكرهنه
236

إن أجلب الناس وشدوا الرنه * مالي أراك تكرهين الجنة
قد طالما قد كنت مطمئنه * هل أنت إلا نطفة في شنه
وقال أيضا:
يا نفس إن لم تقتلي تموتي * هذا حمام الموت قد صليت
وما تمنيت فقد أعطيت * إن تفعلي فعلهما هديت
ثم نزل عن فرسه وأتاه ابن عم له بعرق من لحم فقال له: شد بهذا صلبك فقد لقيت أيامك هذه ما لقيت. فأخذه فانتهس منه نهسة، ثم سمع الحطمة في. ناحية العسكر فقال لنفسه: وأنت في الدنيا! ثم ألقاه وأخذ سيفه وتقدم فقاتل حتى قتل.
واشتد الأمر على المسلمين، وكلب عليهم العدو وقد كان قطبة بن قتادة قتل قبل ذلك مالك بن رافلة قائد المستعربة تم إن الخبر جاء من السماء في ساعته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فصعد المنبر وأمر فنودي الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، فقال: باب خير! (ثلاثا) [أخبركم] عن جيشكم هذا الغازي إنهم لقوا العدو فقتل زيد شهيدا. فاستنفر له، تم أخذ اللواء جعفر فشد على القوم حتى قتل شهيدا فاستغفر له، ثم أخذ اللواء عبد الله بن رواحة وصمت حتى تغيرت وجوه الأنصار، وظنوا انه قد كان من عبد الله ما يكرهون، تم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقاتل القوم حتى قتل شهيدا، تم قال: لقد رفعوا إلى الجنة على سرر من ذهب فرأيت في سرير ابن رواحة
237

ازورارا عن سريري صاحبيه فقلت: عم هذا؟ فقيل: مضيا وتردد بعض التردد، تم مضى، ولما قتل ابن رواحة أخذ الراية ثابت بن أرقم الأنصاري، وقال: يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم. فقالوا: رضينا بك، فقال: ما أنا بفاعل. فاصطلحوا على خالد بن الوليد فأخذ الراية ودافع القوم وانحازوا عنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تم أخذ سيف من سيوف الله خالد بن الوليد فعاد بالناس فمن يومئذ سمي خالد سيف الله.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بي جعفر البارحة في نفر من الملائكة له جناحان مخضب القوادم بالدم.
قالت أسماء: أتاني النبي صلى الله عليه وسلم وقد فرغت من اشتغالي وغسلت أولاد جعفر ودهنتهم فأخذهم وشمهم ودمعت عيناه فقلت: يا رسول الله أبلغك عن جعفر شيء؟ قال: نعم أصيب هذا اليوم. تم عاد إلى أهله فأمرهم أن يصنعوا لآل جعفر طعاما، فهو أول ما عمل في دين الاسلام، قالت أسماء بنت عميس: فقمت أصنع واجتمع إلي النساء، فلما رجع الجيش ودنا من المدينة لقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون فأخذ عبد الله بن جعفر فحمله بين يديه فجعل الناس يحثون التراب على الجيش ويقولون: يا فرار في سبيل الله وتقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار إن شاء الله تعالى.
238

ذكر فتح مكة
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد غزوة مؤتة جمادى الآخرة ورجب، تم إن بني بكر بن عبد مناة عدت على خزاعة وهم على ماء لهم بأسفل مكة يقال له: الوتير، وكانت خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبكر في عهد قريش في صلح الحديبية، وكان سبب ذلك أن رجلا من بني الحضرمي اسمه مالك بن عباد وكان حليفا للأسود بن رزن الديلي تم البكري في الجاهلية خرج تاجرا فلما كان بأرض خزاعة قتلوه وأخذوا ماله فعدت بنو بكر على رجل من خزاعة فقتلوه، فعدت خزاعة على بني الأسود بن رزن وهم سلمى وكلثوم وذؤيب فقتلوهم بعرفة عند أنصباء الحرم، وكانوا من أشراف بني بكر فبينما خزاعة وبكر على ذلك جاء الإسلام واشتغل الناس به فلما كان صلح الحديبية ودخلت خزاعة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ودخلت بكر في عهد قريش اغتنمت بكر تلك الهدنة وأرادوا أن يصيبوا من خزاعة ثأرهم بقتل بني الأسود فخرج نوفل بن معاوية الديلي بمن تبعه من بكر حتى بيت خزاعة على ماء الوتير.
وقيل: كان سبب ذلك أن رجلا من خزاعة سمع رجلا من بكر ينشد هجاء النبي صلى الله عليه وسلم فشجه فهاج الشر بينهم وثارت بكر بخزاعة حتى بيتوهم بالوتير. وأعانت قريش بني بكر على خزاعة بسلاح ودواب وقاتل معهم جماعة من قريش مختفين، منهم صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، وسهل بن عمرو مع عيرهم وعبيدهم، فانحازت خزاعة إلى الحرم وقتل منهم نفر، فلما دخلت خزاعة الحرم. قالت بكر: يا نوفل إنا قد دخلنا الحرم إلهك إلهك!
239

فقال: كلمة عظيمة لا إله له اليوم؟ يا بني بكر أصيبوا ثأركم؛ فلعمري إنكم لتسرفون في الحرم، أفلا تصيبون ثأركم فيه؟
فلما نقضت بكر وقريش العهد الذي بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم بما استحلت من خزاعة، خرج عمرو بن سالم الخزاعي ثم الكعبي حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فوقف عليه ثم قال:
يا رب إني ناشد محمدا * حلف أبينا وأبيه الأتلدا
فوالدا كنا وكنت ولدا * ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا
فانصر رسول الله نصرا أعتدا * وادع عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجردا * ابيض مثل اليد تنمي صعدا
إن سيم خسفا وجهه تربدا * في فيلق كالبحر يجري مزبدا
إن قريشا أخلفوك الموعدا * ونقضوا ميثاقك المؤكدا
وجعلوا لي في كداء رصدا * وزعموا أن لست أدعو أحدا
وهم أذل وأقل عددا * هم بيتونا بالوتير هجدا
وقتلونا ركعا وسجدا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد نصرت يا عمرو بن سالم! ثم عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم عنان من السماء فقال: إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب.
وكان بين عبد المطلب وخزاعة حلف قديم، فلهذا قال عمرو بن سالم: حلف أبينا وأبيه الأتلدا.
ثم خرج بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة حتى قدموا على النبي
240

صلى الله عليه وسلم، المدينة فنادوه وهو يغتسل، فقال: يا لبيكم! وخرج إليهم فأخبروه الخبر تم انصرفوا راجعين إلى مكة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال للناس: كأنكم بأبي سفيان قد جاء ليجدد العهد خوفا وتزيد في المدة، ومضى بديل فلقي أبا سفيان بعسفان يريد النبي صلى الله عليه وسلم ليجدد العهد خوفا منه، فقال لبديل: من أين أقبلت؟ قال: من خزاعة في الساحل وبطن هذا الوادي. قال: أو ما أتيت محمدا؟ قال: لا. فقال أبو سفيان لأصحابه [لما راح بديل]: انظروا بعر ناقته، فإن جاء المدينة لقد علف النوى فنظروا بعر الناقة فرأوا فيه النوى.
ثم خرج أبو سفيان حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فدخل على ابنته أم حبيبة زوج النبي فلما أراد أن يجلس علي فراش رسول الله طوته عنه، فقال: ما أدري أرغبت به عني أم رغبت بي عنه؟ فقالت: بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت مشرك نجس فلم أحب أن تجلس عليه. فقال: لقد أصابك يا بنية بعدي شر. فقالت: بل هداني الله للاسلام.
تم خرج حتى أتى للنبي صلى الله عليه وسلم فكلمه فلم يرد عليه شيئا، تم أتى أبا بكر فكلمه ليكلم له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما أنا بفاعل، تم أتى عمر فكلمه وقال: أنا أشفع لكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. والله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به، تم خرج حتى أتى عليا وعنده فاطمة والحسن غلام يدب بين يديها فكلمه في ذلك، فقال له: والله لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر لا نستطيع أن نكلمه فيه. والتفت إلى فاطمة فقال: يا بنت محمد هل لك أن تأمري ابنك هذا أن يجير بين الناس فيكون سيد العرب؟ فقالت: ما بلغ ابني أن يجير بين الناس وما يجير على رسول الله أحد، فالتفت إلي علي فقال له: أرى الأمور قد اشتدت علي فانصحني، قال: أنت سيد كنانة فقم فأجر بين الناس تم الحق بأرضك، فقام أبو سفيان في المسجد فقال: أيها الناس قد أجرت بين الناس، ثم
241

ركب بعيره وقدم مكة وأخبر قريشا ما جرى له وما أشار به صلى الله عليه وسلم عليه فقالوا له: والله ما زاد على أن يسخر بك.
تم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تجهز وأمر الناس بالتهجز إلى مكة، وقال: اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها. فكتب حاطب بن أبي بلتعة كتابا إلى قريش يعلمهم الخبر وسيره مع امرأة من مزينة اسمها كنود، وقيل: مع سارة مولاة لبني المطلب تعلمهم الخبر وسيره معها فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا والزبير فأدركاها بالحليفة وأخذا منها الكتاب وجاءا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحضر حاطبا وقال له: ما حملك على هذا؟ فقال: والله إني لمؤمن بالله ورسوله ما بدلت ولا غيرت، ولكن لي بين أظهرهم أهل وولد وليس لي عشيرة فصانعتهم عليهم، فقال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنقه فإنه قد نافق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما يدريك يا عمر، لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، وأنزل الله [في حاطب] (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء) إلى آخر الآية.
ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف على المدينة أبارهم كلثوم بن حصين الغفاري، وخرج لعشر مضين من رمضان وفتح مكة لعشر بقين منه، فصام حتى بلغ ما بين عسفان وأمج، فأفطروا واستوعب معه المهاجرون والأنصار، فسبعت سليم وألفت مزينة وفي كل القبائل عدد [وإسلام]، وأدركه عيينة بن حصن الفزاري بالعرج، والأقرع بن حابس بالسقيا، ولقيه العباس بن عبد المطلب بالجحفة - وقيل: بذي الحليفة - مهاجرا، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرسل رحله إلي المدينة
242

ويعود معه، وقال له: أنت آخر المهاجرين، وأنا آخر الأنبياء.
ولقيه أيضا مخرمة بن نوفل، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وعبد الله بن أبي أمية بنقب العقاب، فالتمسا الدخول على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلمته أم سلمة فيهما، وقالت له: ابن عمك، وابن عمتك، وصهرك. قال: لا حاجة لي بهما، أما ابن عمي فهتك عرضي، وأما ابن عمتي وصهري فهو الذي قال بمكة ما قال. فلما سمعا ذلك، وكان مع أبي سفيان ابن له اسمه جعفر، قال: والله ليأذنن لي أو لأخذن بيد ابني هذا تم لنذهبن في الأرض حتى نموت عطشا وجوعا. فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لهما فأذن لهما فدخلا عليه فأسلما.
وقيل: إن عليا قال: لأبي سفيان بن الحارث: آتت رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل وجهه فقل له ما قال اخوة يوسف ليوسف (تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين) فإنه يرضي أن يكون أحد أحسن منه فعلا ولا قولا. ففعل ذلك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين) وقربهما فأسلما، وأنشده أبو سفيان قوله في إسلامه واعتذاره مما مضى:
لعمرك إني يوم أحمل راية * لتغلب خيل اللات خيل محمد
لكا لمدلج الحيران أظلم ليله * فهذا أواني حين أهدي وأهتدي
وهاد هداني غير نفسي ونالني * مع الله من طردته كل مطرد
الأبيات. فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال:
243

أنت طردتني كل مطرد. وقيل: إن أبا سفيان لم يرفع رأسه إلى النبي صلى الله عليه وسلم حياء منه.
وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران في عشرة آلاف فارس: من بني غفار أربعمائة، ومن مزينة ألف وثلاثة نفر، ومن بني سليم سبعمائة، ومن جهينة ألف وأربعمائة، وسائرهم من قريش والأنصار وحلفائهم وطوائف من العرب، تم من تميم، وأسد، وقيس.
فلما نزل مر الظهران قال العباس بن عبد المطلب: يا هلاك قريش والله لئن بغتها رسول الله صلى الله عليه وسلم في بلادها فدخل عنوة إنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر. فجلس علي بغلة النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أخرج إلى الأراك لعلي أري حطابا أو رجلا يدخل مكة فيخبرهم بمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأتونه ويستأمنونه. قال: فخرجت أطوف في الأراك إذ سمعت صوت أبي سفيان وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء الخزاعي قد خرجوا يتجسسون الخبر، فقال أبو سفيان: ما رأيت نيرانا قط أكثر من هذه. فقال بديل: هذه نيران خزاعة. فقال أبو سفيان: خزاعة أذل من ذلك. فقلت: يا أبا حنظلة - يعني أبا سفيان كان يكنى بذلك -. فقال: أبو الفضل؟ قلت: نعم، قال: لبيك فداك أبي وأمي ما وراءك؟ فقلت: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسلمين أتاكم في عشرة آلاف. قال: ما تأمرني؟ قلت: تركب معي فأستأمن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوالله لئن ظفر بك ليضربن عنقك. فردفني فخرجت أركض به نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلما مررت بنار من نيران المسلمين ونظروا إلي يقولون: عم رسول الله على بغلة رسول الله حتى مررنا بنار عمر بن الخطاب فقال: أبو سفيان! الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد! تم اشتد نحو النبي صلى الله عليه وسلم وركضت البغلة فسبقت عمر ودخل
244

عمر علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره وقال: دعني أضرب عنقه. فقلت: يا رسول الله إني قد أجرته. تم أخذت برأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلت: لا يناجيه [اليوم] أحد دوني فلما أكثر فيه عمر قلت: مهلا يا عمر [فوالله] ما تصنع هذا إلا أنه رجل من بني عبد مناف، ولو كان من بني عدي ما قلت هذه المقالة. فقال: مهلا يا عباس فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحمت إلي من إسلام الخطاب لو أسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [اذهب] فقد أمناه حتى تغدو علي به بالغداة. فرجعت به إلى منزلي، فلما أصبح غدوت به على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآه قال: ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله؟! قال: بلى بأبي أنت وأمي يا رسول الله لو كان مع الله غيره لقد أغنى [عني] شيئا. فقال: ألم يأن لك [أن تعلم] أني رسول الله؟! فقال: بأبي أنت وأمي أما هذه ففي النفس منها شيء، قال العباس: فقلت له: وتحك اشهد شهادة الحق قبل والله أن تضرب عنقك. قال: فتشهد وأسلم معه حكيم بن حزام وبديل بن ورقاء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: اذهب فاحبس أبا سفيان عند خطم الجبل بمضيق الوادي حتى تمر عليه جنود الله. فقلت: يا رسول الله إنه يحب الفخر فاجعل له شيئا يكون في قومه. فقال: نعم، من
دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن.
قال: فخرجت به فحبسته عند خطم الجبل فمرت عليه القبائل فيقول: من هؤلاء؟ فأقول: أسلم فيقول: مالي ولأسلم. وتقول: من هؤلاء؟ فأقول: جهينة فيقول: مالي ولجهينة. حتى مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء مع المهاجرين والأنصار [في الحديد] لا يري منهم إلا
245

الحدق فقال: من هؤلاء؟ فقلت: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار. فقال: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة، لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما. فقلت: وتحك إنها النبوة. فقال: نعم إذن. فقلت: الحق بقومك سريعا فحذرهم. فخرج حتى أتي مكة ومعه حكيم بن حزام فصرخ في المسجد: يا معشر قريش هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به. فقالوا: فما قال؟ قال: من دخل داري فهو آمن. قالوا: وتحك وما تغني عنا دارك؟ فقال: ومن دخل المسجد فهو آمن ومن أغلق بابه فهو آمن، ثم قال: يا معشر قريش أسلموا تسلموا.
فأقبلت امرأته هند فأخذت بلحيته وقالت: يا آل غالب اقتلوا هذا الشيخ الأحمق. فقال: أرسلي لحيتي وأقسم لئن لم تسلمي أنت لتضربن عنقك ادخلي بيتك، فتركته.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثرهما الزبير وأمره أن يدخل ببعض الناس من كداء. وكان على الجنبة اليسرى، وأمر سعد بن عبادة أن يدخل ببعض الناس من كداء، فقال سعد حين وجهه: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الكعبة. فسمعها رجل من المهاجرين فأعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لعلي بن أبي طالب: أدركه فخذ الراية منه وكن أنت الذي تدخل بها. وأمر خالد بن الوليد أن يدخل من أسفل مكة من الليط في بعض الناس، وكان معه أسلم وغفار ومزينة وجهينة وقبائل من العرب، وهو أول يوم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد ابن الوليد.
ولما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذي طوى وقف على راحلته وهو معتجر بشقة برد حبرة أحمر وقد وضع رأسه تواضعا لله تعالى حين رأي
246

ما أكرمه الله به [من الفتح] حتى إن أسفل لحيته لتمس واسطة الرحل، تم تقدم ودخل من أذاخر بأعلاها وضربت قبته هناك.
وكان عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وسهيل بن. عمرو قد جمعوا ناسا بالخندمة ليقاتلوا ومعهم الأحابيش، وبنو بكر، وبنو الحارث بن عبد مناة، فلقيهم خالد بن الوليد فقاتلهم فقتل من المسلمين جابر بن جبيل الفهري، وحبيش بن خالد وهو الأشعر الكعبي، ومسلمة بن الميلاء، وقتل من المشركين ثلاثة عشر رجلا ثم انهزم المشركون.
وكان مع عكرمة حماس بن قيس، وكان قد قال لامرأته: لآتينك بخادم من أصحاب محمد، فلما عاد إليها منهزما قال لها: اغلقي علي باتي. قالت له تستهزىء به: أين الخادم؟ فقال:
فأنت لو شهدتنا بالخندمه * إذ فر صفوان وفر عكرمة
وأبو يزيد كالعجوز المؤتمه * لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه
إذ ضربتنا بالسيوف المثلمه * لهم نهيت خلفنا وهمهمه
أبو يزيد هذا هو سهيل بن عمرو.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عهد إلى امرائه أن لا يقتلوا أحدا إلا من قاتلهم، فلما انهزم المشركون وأراد المسلمون دخول مكة، قام في وجوههم نساء مشركات يلطمن وجوه الخيل بالخمر وقد نشرن شعورهن فرآهن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى جنبه أبو بكر، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: يا أبا بكر، كيف قال حسا ن؟ فأنشده:
247

تكاد جيادنا مستمطرات * يلطمهن بالخمر النساء
* * *
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد أمر بقتل ثمانية رجال وإن وجدوا تحت أستار الكعبة، وأربع نسوة. فأما الرجال فمنهم: عكرمة بن أبي جهل، كان يشبه أباه في إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وعداوته والانفاق على محاربته، فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة خافه على نفسه فهرب إلى اليمن وأسلمت امرأته أم حكيم بنت الحارث بن هشام فاستأمنت له وخرجت في طلبه ومعها غلام لها رومي فراودها عن نفسها فأطعمته ولم تمكنه حتى أتت حيا من العرب فاستعانتهم عليه فأوثقوه وأدركت عكرمة وهو يريد ركوب البحر فقالت: جئتك من عند أوصل الناس وأحلمهم وأكرمهم، وقد أضنك فرجع وأخبرته خبر الرومي فقتله قبل أن يسلم، فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم سر به فأسلم، وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستغفره له فاستغفر.
ومنهم صفوان بن أميه بن خلف، وكان أيضا شديدا على النبي صلى الله عليه وسلم فهرب خوفا منه إلى جدة، فقال عمير بن وهب الجمحي: يا رسول الله إن صفوان سيد قومي، وقد خرج هاربا منك فأمنه، قال: هو آمن، وأعطاه عمامته التي دخل بها مكة ليعرف بها أمانه، فخرج بها عمير
248

فأدركه بجدة فأعلمه بأمانه وقال: إنه أحلم الناس وأوصلهم وأنه ابن عمك وعزه عزك وشرفه شرفك. قال: إني أخافه على نفسي. قال: هو أحلم من ذلك. فرجع صفوان وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذا لزعم أنك آمنتني. قال: صدق. قال: اجعلني بالخيار شهرين، قال: أنت فيه أربعة أشهر، فأقام معه كافرا، وشهد معه حنينا والطائف ثم أسلم وحسن اسلامه وتوفي بمكة عند خروج الناس إلى البصرة ليوم الجمل.
ومنهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح من بني عامر بن لؤي، وكان قد أسلم وكتب الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان إذا أملى عليه عزيز حكيم يكتب عليم حكيم وأشباه ذلك، تم ارتد، ى قال لقريش: إني أكتب أحرف محمد في قرآنه حيت شئت، ودينكم خير من دينه، فلما كان يوم الفتح فر إلى عثمان بن عفان، وكان أخاه من الرضاعة فعيبه عثمان حتى اطمأن الناس، ثم أحضره عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلب له الأمان، فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلا ثم أمنه فاسلم وعاد، فلما انصرف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: لقد صمت ليقتله أحدكم، فقالوا: هلا أومأت إلينا؟ فقال: ما كان للنبي أن يقتل بالإشارة، إن الأنبياء لا يكون لهم خائنة الأعين.
ومنهم عبد الله بن خطل وكان قد أسلم فأرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقا ومعه رجل من الأنصار وغلام له رومي قد اسلم فكان الرومي يخدمه وتصنع له الطعام فنسى يوما أن يصنع له طعاما فقتله وارتد، وكان له قينتان تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتله سعيد بن حريث المخزومي أخو عمرو بن حريث وأبو برزة الأسلمي.
249

ومنهم الحويرث بن نقيد بن وهب بن عبد بن قصي، وكان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، وينشد الهجاء فيه، فلما كان يوم الفتح هرب من بيته فلقيه علي بن أبي طالب فقتله.
ومنهم مقيس بن صبابة، وإنما أمر بقتله لأنه قتل الأنصاري الذي قتل أخاه هشاما خطأ وارتد، فلما انهزم أهل مكة يوم الفتح اختفى بمكان هو وجماعة وشربوا الخمر فعلم به نميلة بن عبد الله الكلبي فأتاه فضربه بالسيف حتى قتله.
ومنهم عبد الله بن الزبعرى السهمي وكان يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ويعظم القول فيه، فهرب يوم الفتح هو وهبيرة بن أبي وهب المخزومي زوج أم هانىء بنت أبي طالب إلى نجران، فأما هبيرة فأقام بها مشركا حتى هلك، وأما الزبعرى فرجع إلى رسول لله صلى الله عليه وسلم واعتذر فقبل عذره فقال حين أسلم:
يا رسول المليك إن لساني * راتق ما فتقت إذ أنا بور
إذ أباري الشيطان في سنن الغ‍ * ‍ى ومن نال مثله مثبور
آمن اللحم والعظام بربي * ثم نفسي الشهيد أنت النذير
في أشعار له كثيرة يعتذر فيها.
ومنهم وحشي بن حرب قاتل حمزة فهرب يوم الفتح إلى الطائف، ثم قدم في وفد أهله على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أوحشي؟ قال نعم. قال: أخبرني كيف قتلت عمي؟
250

فأخبره فبكى وقال: غيب وجهك عني. وهو أول من جلد في الخمر، وأول من لبس المعصفر المصقول في الشام.
وهرب حويطب بن عبد العزى فرآه أبو ذر في حائط فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بمكانه، فقال: أو ليس قد أمنا الناس، إلا من قد أمرنا بقتله؟ فأخبره بذلك فجاء إلى النبي فأسلم. قيل: إنه دخل يوما على مروان بن الحكم وهو على المدينة فقال له مروان: يا شيخ تأخر إسلامك. فقال: لقد هممت به غير مرة، فكان يصدني عنه أبوك.
* * *
وأما النساء: فمنهن هند بنت عتبة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتلها لما فعلت بحمزة، ولما كانت تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فجاءت إليه مع النساء متخفية فأسلمت وكسرت كل صنم في بيتها وقالت: لقد كنا منكم في غرور، وأهدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جديين، واعتذرت من قلة ولادة غنمها فدعا لها بالبركة في غنمها فكثرت، فكانت تهب وتقول: هذا من بركة رسول الله صلى الله عليه وسلم فالحمد لله الذي هدانا للاسلام.
ومنهن سارة، وهي مولاة عمرو بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، وهي التي حملت كتاب حاطب بن أبي بلتعة في قول بعضهم؛ وكانت قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمة فوصلها فعادت إلي مكة مرتدة فأمر بقتلها فقتلها علي بن أبي طالب.
ومنهن قينتا عبد الله بن خطل وكانتا تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بقتلهما فقتلت إحداهما واسمها قريبة وفرت الأخرى وتنكرت وجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت وبقيت إلى خلافة عمر بن الخطاب فأوطأها رجل فرسه خطأ فماتت. وقيل:
251

بقيت إلى خلافة عثمان فكسر رجل ضلعا من أضلاعها خطأ فماتت فأغرمه عثمان ديتها.
* * *
ولما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة كانت عليه عمامة سوداء، فوقف على باب الكعبة وقال: لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده؛ وهزم الأحزاب وحده. ألا كل دم أو مأثرة أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج. ثم قال: يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء. فعفا عنهم، وكان الله قد أمكنه منهم، وكانوا له فيئا فلذلك سمي أهل مكة الطلقاء. وطاف بالكعبة سبعا، ودخلها وصلى فيها ورأى فيها صور الأنبياء فأمر بها فمحيت، وكان على الكعبة ثلاثمائة وستون صنما، وكان بيده قضيب فكان يشير به إلى لأصنام وهو يقرأ (قل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا) فلا يشير إلى صنم منها إلا سقط لوجهه، وقيل: بل أمر بها وخذمت وكسرت.
ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم للبيعة على الصفا، وعمر بن الخطاب تحته، واجتمع الناس لبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام، فكان يبايعهم على السمع والطاعة لله ولرسوله فيما استطاعوا، فكانت هذه بيعة الرجال.
وأما بيعة النساء فإنه لما فرغ من الرجال بايع النساء فأتاه منهن نساء من قريش، منهن أم هانىء بنت أبي طالب، وأم حبيبة بنت العاص بن أمية وكانت عند عمرو بن عبد ود العامري، وأروي بنت أبي العيص عمة عتاب
252

بن أسيد، وأختها عاتكة بنت أبي العيص وكانت عند المطلب بن أبي وداعة السهمي، وأمه بنت عفان بن أبي العاص أخت عثمان وكانت عند سعد حليف بني مخزوم، وهند بنت عتبة وكانت عند أبي سفيان، ويسيرة بنت صفوان بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، وأم حكيم بنت الحارث بن هشام، وكانت عند عكرمة بن أبي جهل، وفاختة بنت الوليد بن المغيرة أخت خالد وكانت عند صفوان بن أمية بن خلف؛ وريطة بنت الحجاج، وكانت عند عمرو بن العاص في غيرهن، وكانت هند متنكرة لصنيعها بحمزة، فهي تخاف أن تؤخذ به، وقال لهن: تبايعنني على أن لا تشركن بالله شيئا قالت هند: إنك والله لتأخذ علينا ما لا تأخذه على الرجال فسنؤتيكه. قال: ولا تسرقن. قالت: والله إن كنت لأصبت من مال أبي سفيان، الهنة والهنة.
فقال أبو سفيان وكان حاضرا: أما ما مضى فأنت منه في حل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أهند؟ قالت: أنا هند فأعف عما سلف عفا الله عنك. قال: ولا تزنين، قالت: عل تزني الحرة؟ قال: ولا تقتلن أولادكن، قالت: قد ربيناهم صغارا وقتلتهم يوم بدر كبارا فأنت وهم أعلم. فضحك عمر. قال: ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن. قالت: والله إن اتيان البهتان لقبيح وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق. قال: ولا تعصينني في معروف. قالت: ما جلسنا هذا المجلس ونحن نريد أن نعصيك في معروف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: بايعهن وأستغفر لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبايعهن عفر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمس النساء ولا يصافح امرأة
253

ولا تمسه امرأة إلا امرأة أحلها الله له أو ذات محرم [منه].
ولما جاء وقت الظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا أن يؤذن على ظهر الكعبة وقريش فوق الجبال، فمنهم من يطلب الأمان، ومنهم من قد أمن، فلما أذن وقال.: أشهد أن محمدا رسول الله، قالت جويرية بنت أبي جهل: لقد أكرم الله أبي حين لم بشهد نهيق بلال فوق الكعبة. وقيل: إنها قالت: لقد رفع الله ذكر محمد وأما نحن فسنصلي ولكنا لا نحب من قتل الأحبة. وقال خالد بن أسد أخو عثمان بن أسد: لقد أكرم الله أبي فلم ير هذا اليوم، وقال الحارث بن هشام: ليتني مت قبل هذا اليوم. وقال جماعة نحو هذا القول ثم أسلموا وحسن إسلامهم رضي الله عنهم.
(وأما الأسماء المشكلة. فحاطب بن أبي بلتعة بالحاء والطاء المهملتين والباء الموحدة وبلتعة بالباء الموحدة وبعد اللام تاء مثناة من فوقها، وعيينة بن حصن بضم العين المهملة وياءين مثناتين من تحت ثم نون تصغير عين. وبديل بن ورقاء بضم الباء الموحدة. وعتاب بالتاء فوقها نقطتان وآخره باء موحدة، وأسيد بفتح الهمزة وكسر السين).
وقول أم سلمة: ابن عمك وابن عمتك فتعني بابن عمه أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وابن عمته عبد الله بن أبي أمية وهو أخوها لأبيها وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب. وقوله: قال في مكة ما قال فإنه قال بمكة: لن نؤمن لك حتى ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه. وقد غلط هنا بعض العلماء الكبار فقال معنى قول أم سلمة ابن عمتك: إن جدة لنبي أم عبد الله كانت مخزومية، وعبد الله بن أبي
254

أمية مخزومي فعلى هذا يكون ابن خالته لا ابن عمته، والصواب ما ذكرناه.
(وحبيش بن خالد بضم الحاء المهملة وبالباء الموحدة ثم بالياء المثناة من تحت وآخره شين معجمة ومقيس بن صبابة بكسر الميم وسكون القاف وبالباء المثناة من تحت المفتوحة وآخره سين مهملة وصبابة بضم الصاد المهملة وبائين موحدتين لينهما ألف. خطم الجبل روي بالخاء المعجمة وبالحاء المهملة. فأما بالمعجمة، فهو الأنف الخارج من الجبل، وأما بالحاء المهملة، فهو الموضع الذى ثلم منه وقطع فبقي منقطعا، وقد روي حطم الخيل بالحاء المهملة. والخيل هي التي تركب يعنى أنه يحبسه في الموضع الضيق الذي يحطم الخيل فيه بعضها بعضا لضيقه).
ذكر غزوة خالد بن الوليد بني جذيمة
وفي هذه السنة كانت غزوة خالد بن الوليد بني جذيمة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث السرايا بعد الفتح فيما حول مكة يدعون الناس إلى الاسلام ولم يأمرهم بقتال، وكان ممن بعث خالد بن الوليد بعثه داعيا ولم يبعثه مقاتلا فنزل على الغميصاء ماء من مياه جذيمة بن عامر بن عبد مناة بن كنانة، وكانت جذيمة أصابت في الجاهلية عوف بن عبد عوف أبا عبد الرحمن بن عوف والفاكه بن المغيرة عم خالد. كانا أقبلا [تاجرين] من
اليمن فأخذت ما معهما [وقتلتهما] فلما نزل خالد ذلك الماء أخذ بنو جذيمة السلاح، فقال لهم خالد: ضعوا السلاح فإن الناس قد أسلموا. فوضعوا السلاح فأمر خالد بهم فكتفوا ثم عرضهم على السيف فقتل منهم من قتل.
255

فلما انتهى الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه إلى السماء ثم قال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد! ثم أرسل عليا ومعه مال وأمره أن ينظر فه في أمرهم فودي لهم الدماء والأموال حتى إنه ليدي ميلغة الكلب، وبقي معه من المال فضلة فقال لهم علي: هل بقي لكم مال أو دم لم يؤد؟ قالوا: لا. قال: فإني أعطيكم هذه البقية احتياطا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ففعل، ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: أصبت وأحسنت.
وقيل: إن خالدا اعتذر، وقال: إن عبد الله بن حذافة السهمي أمرني بذلك عن رسول الله، وكان بين عبد الرحمن بن عوف وخالد كلام في ذلك، فقال له: عملت بأمر الجاهلية في الاسلام فقال خالد: إنما ثأرت بأبيك، فقال عبد الرحمن: كذبت قد قتلت أنا قاتل أبي، ولكنك إنما ثأرت بعمك الفاكه. حتى كان بينهما شر فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مهلا يا خالد دع عنك أصحابي فوالله لو كان لك أحد ذهبا ثم أنفقته في سبيل الله ما أدركت غدوة أحدهم ولا روحته.
قال عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي: كنت يومئذ في جند خالد فأثرنا في أثر ظعن مصعدة يسوق بهن فتية، فقال: أدركوا أولئك. قال: فخرجنا في أثرهم حتى أدركناهم مضوا ووقف لنا غلام شاب على الطريق فلما انتهينا إليه جعل يقاتلنا ويقول:
ارفعن أطراف الذيول وارتعن * مشي حييات كأن لم تفزعن * إن تمنع اليوم النساء تمنعن
فقاتلناه طويلا فقتلناه ومضينا حتى لحقنا الظعن، فخرج إلينا غلام كأنه
256

الأول فجعل يقاتلنا ويقول:
أقسم ما أن خادر ذو لبده * يروم بين أثلة ووهده
يفرس شبان الرجال وحده * بأصدق الغداة مني نجده
فقاتلناه حتى قتلناه، وأدركنا الظعن فأخذناهن فإذا فيهن غلام وضيء الوجه به صفرة كالمنهوك فربطناه بحبل وقدمناه لنقتله فقال لنا: هل لكم في خير؟ قلنا ما هو؟ قال: تدركون بي الظعن في أسفل الوادي ثم تقتلوني، قلنا: نفعل فعارضنا الظعن، فلما كان بحيث يسمعن الصوت نادي بأعلى صوته - أسلمي حبيش على فقد العيش - فأقبلت إليه جارية بيضاء حسانة وقالت: وأنت فأسلم على كثرة الأعداء وشدة البلاء. قال: سلام عليك دهرا وإن بقيت عصرا قالت: وأنت سلام عليك عشرا وشفعا تترى وثلاثا وترا فقال:
إن يقتلوني با حبيش فلم يدع * هواك لهم مني سوى غلة الصدر
فأنت التي أخليت لحمي من دمي * وعظمي وأسبلت الدموع على نحري
فقالت له:
ونحن بكينا من فراقك مرة * وأخرى وواسيناك في العسر واليسر
وأنت فلم تبعد فنعم فتى الهوى * جميل العفاف والمودة في ستر
فقال لها:
257

أرأيتك إن طالبتكم فوجدتكم بحلية أو ألفيتكم بالخوانق
ألم يك حقا أن ينول عاشق تكلف إدلاج السرى في الودائق
فلا ذنب لي قد قلت إذ نحن جيرة أثيبي بود قبل إحدى الصفائق
أثيبي بود قبل أن يشحط النوى وينأى لأمر بالحبيب المفارق
فإني لا سرا لدي أضعته * ولا منظر مذ غبت عني برائق
علي بآيات العشيرة شاغل ولا ذكر إلا ذكر هيمان وامق
فقدموه [فضربوا] عنقه. هذا الشعر لعبد الله بن علقمة الكناني وكان من جذيمة مع حبيشة بنت حبيش الكنانية، أنه خرج مع أمه وهو غلام نحو المحتلم لتزور جارة لها وكان لها ابنة اسمها حبيشة بنت حبيش، فلما رآها عبد الله هويها ووقعت في نفسه وأقامت أمه عند جارتها وعاد عبد الله إلى أهله ثم عاد ليأخذ أمه بعد يومين فوجد حبيشة قد تزينت لأمر كان في الحي فازداد بها عجبا وانصرفت أمه فمشى معها وهو يقول:
وما أدري بلى إني لأدري * أصوب القطر أحسن أم حبيش؟
حبيشة والذي خلق البرايا * وما إن عندنا للصب عيش
فسمعت أمه فتغافلت عنه. ثم إنه رأى ظبيا على ربوة فقال:
يا أمنا خبريني غير كاذبة * وما يريد سؤول الحق بالكذب
258

أتلك أحسن أم ظبي برابية * لا بل حبيشة في عيني وفي أرب
فزجرته أمه، وقالت: ما أنت وهذا وأنا قد زوجتك ابنة عمك، فهي من أجمل تلك النساء؟ وأتت امرأة عمير فأخبرتها الخبر، وقالت: زيني ابنتك له ففعلت وأدخلتها عليه فأطرق، فقالت أمه: أيهما الآن أحسن؟ فقال:
إذا غيبت عني حبيشة مرة * من الدهر لا أملك عزاء ولا صبرا
كأن الحشا حر السعير تحسه * وقود الغضا والقلب مضطرم جمرا
وجعل يراسل الجارية وتراسله فعلقته كما علقها وأكثر قول الشعر فيها، فمن ذلك:
حبيشة جدي ثم جدك جامع * بشملكم شملي وأهلكم
أهلي وهل أنا متلف بثوبك مرة * بصحراء بين الألبتين إلى النحل
فلما علم أهلها خبرهما حجبوها عنه فازداد غرامه. فقالوا لها: عديه السرحة فإذا أتاك فقولي له: نشدتك الله إن أحببتني فوالله ما على الأرض أبغض إلي منك، ونحن قريب نسمع ما تقولين فوعدته وجلسوا قريبا، فأقبل لموعد لها، فلما دنا منها دمعت عيناها وألتفتت إلى جنب أهلها وهم جلوس، فعرف أنهم قريب وبلغه الحال فقال:
فإن قلت ما قالوا لقد زدتني جوى * على إنه لم يبق سر ولا ستر
ولم يك حن عن نواك بذلته * فيسلبني عنك التجنب والهجر
وما أنس للأشياء ولا أنس ومقها * ونظرتها حتى يغيبني القبر
259

وبعث النبي صلى الله عليه وسلم أثر ذلك خالد بن الوليد، فكان منه ما تقدم ذكره.
وفي هذه السنة تزوج النبي صلى الله عليه وسلم مليكة ابنة داود الليثية، وكان أبوها قتل يوم فتح مكة فجاء إليها بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فقلن لها: ألا تستحين تزوجين رجلا قتل أباك. فاستعاذت منه، وكانت جميلة حدثة ففارقها.
وفيها هدم خالد بن الوليد العزي ببطن نخلة لخمس ليال بقين من رمضان، وكان هذا البيت تعظمه قريش وكنانة ومضر كلها، وكان سدنتها بنو شيبان بن سليم حلفاء بني هاشم، فلما سمع صاحبها بمسير خالد بن الوليد إليها علق عليها سيفه وقال:
أيا عز شدي شدة لا شوى لها * على خالد ألقى القناع وشمري
فلما انتهى خالد إليها جعل السادن يقول: أعزي بعض غضباتك فخرجت امرأة سوداء حبشية عريانة مولولة وكسر الصنم وهدم البيت ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: تلك العزى لا تعبد أبدا.
وفيها هدم عمرو بن العاص سواع؛ وكان برهاط لهذيل فلما كسر الصنم أسلم سادنه ولم يجد في خزانته شيئا.
وفيها هدم سعد بن زيد الأشهلي مناة بالمشلل.
260

ذكر غزوة هوازن بحنين
وكانت في شوال، وسببها أنه لما سمعت هوازن بما فتح الله على رسوله من مكة جمعها مالك بن عوف النصري من بني نصر بن معاوية بن بكر، وكانوا مشفقين من أن يغزوهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة، وقالوا: لا مانع له من غزونا والرأي أن نغزوه قبل أن يغزونا، واجتمع إليه ثقيف يقودها قارب بن الأسود بن مسعود سيد الأحلاف؛ وذو الخمار سبيع بن الحارث، وأخوه الأحمر بن الحارث سيد بني مالك ولم يحضرها
من قيس عيلان، إلا نصر، وجشم، وسعد بن بكر وناس من بني هلال. ولم يحضرها كعب ولا كلاب، وفي جشم دريد بن الصمة شيخ كبير ليس فيه شيء إلا التيمن برأيه ومعرفته بالحرب وكان شيخا مجربا.
فلما أجمع مالك بن عوف المسير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حط مع الناس أموالهم ونساءهم فلما نزلوا أوطاس جمع الناس وفيهم دريد بن الصمة، فقال دريد: بأي واد أنتم؟ فقالوا: بأوطاس قال: نعم مجال الخيل لا حزن ضرس، ولا سهل دهس، ما لي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، ويعار الشاء وبكاء الصغير؟ قالوا: ساق مالك مع الناس أبناءهم ونساءهم وأموالهم. فقال: يا مالك إن هذا يوم له ما بعده ما حملك على ما صنعت؟ قال: سقتهم مع الناس ليقاتل كل إنسان عن حريمه وماله، قال: دريد راعي ضأن والله، هل يرد المنهزم شيء؟ [إنها] إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك. وقال: ما فعلت كعب، وكلاب؟ قالوا: لم يشهدها أحد منهم. قال: غاب الجد والحد لو كان يوم علاء ورفعة لم تغب عنه كعب ولا كلاب ووددت أنكم فعلتم ما فعلا. ثم قال: يا مالك ارفع من معك إلى عليا
261

بلادهم ثم ألق القوم على متون الخيل. فإن كانت تلك لك لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك كنت قد أحرزت أهلك ومالك. قال مالك: والله لا أفعل ذلك إنك قد كبرت وكبر علمك، والله لتطيعنني يا معشر هوازن أو لأتكين على هذا السيف حتى يخرج من ظهري - وكره أن يكون لدريد فيها ذكر، ورأي. فقال دريد: هذا يوم لم أشهده ولم يفتني. ثم قال مالك: أيها الناس إذا رأيتم القوم فاكسروا جفون سيوفكم وشذوا عليهم شدة رجل واحد.
وبعث مالك عيونه ليأتوه بالخبر فرجعوا إليه وقد تفرقت أوصالهم فقال: ويلكم ما شأنكم؟ قالوا: رأينا رجالا بيضا على خيل بلق، فوالله ما تماسكنا أن حل بنا ما تري، فلم ينهه ذلك [عن وجهه أن مضن على ما يريد].
ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر هوازن أجمع المسير إليهم وبلغه أن عند صفوان بن أمية أدراعا وسلاحا فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يومئذ مشرك أعرنا سلاحك نلق فيه عدونا غدا. فقال له صفوان: أغصبا يا محمد؟ فقال: بل عارية مضمونة نؤديها إليك. قال: ليس بهذا بأس. فأعطاه مائة درع بما يصلحها من السلاح. ثم سار النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ألفان من مسلمة الفتح مع عشرة آلاف من أصحابه فكانوا اثني عشر ألفا، فلما رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم كثرة من معه قال:. لن نغلب [اليوم] من قلة وذلك قوله تعالى: (ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا)، وقيل: إنما قالها رجل من بكر.
واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على من بمكة عتاب بن أسيد. قال جابر: فلما استقبلنا وادي حنين انحدرنا في واد أجوف حطوط
262

إنما ننحدر فيه انحدارا في عماية الصبح، وكان القوم قد سبقونا إلى الوادي فكمنوا لنا في شعابه ومضايقه، قد تهيأوا وأعدوا له فوالله ما راعنا ونحن منحطون إلا الكتائب قد شدت علينا شدة رجل واحد فانهزم الناس أجمعون لا يلوي أحد على أحد، وانحاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات اليمين، ثم قال: أيها الناس هلموا إلي أنا رسول الله: أنا محمد بن عبد الله قاله ثلاثا، ثم احتملت الإبل بعضها بعضا إلا إنه قد بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم نفر من المهاجرين والأنصار وأهل بيته. منهم أبو بكر، وعمر، وعلي، والعباس، وابنه الفضل، وأبو سفيان بن الحارث، وربيعة بن الحارث، وأيمن بن أم أيمن، وأسامة بن زيد قال: وكان رجل من هوازن على جمل أحمر بيده راية سوداء أمام الناس فإذا أدرك رجلا طعنه وإذا فاته الناس رفع رايته لمن وراءه فاتبعوه فحمل عليه علي فقتله.
ولما انهزم الناس تكلم رجال من أهل مكة بما في أنفسهم من الضغن، فقال أبو سفيان بن حرب: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر، والأزلام معه في كنانته. وقال كلدة بن الحنبلي وهو أخو صفوان بن أمية لأمه وكان صفوان بن أمية يومئذ مشركا: الآن بطل السحر. فقال له صفوان: اسكت فض الله فاك فوالله لأن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن. وقال شيبة بن عثمان: اليوم أدرك ثأري من محمد - وكان أبوه قتل بأحد. قال: فأدرت به لأقتله شيء حتى تنشى فؤادي فلم أطق ذلك.
وكان العباس مع النبي صلى الله عليه وسلم آخذا بحكمة بغلته دلدل
263

وهو عليها، وكان العباس جسيما شديد الصوت، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عباس اصرخ يا معشر الأنصار يا أصحاب السمرة ففعل فأجابوه: لبيك لبيك، فكان الرجل يريد أن يثني بعيره فلا يقدر فيأخذ سلاحه ثم ينزل عنه ويؤم الصوت، فاجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة رجل فاستقبل بهم القوم وقاتلهم، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم شدة القتال قال:
أنا النبي لا كذب * أنا ابن عبد المطلب
الآن حمي الوطيس، وهو أول من قالها، واقتتل الناس قتالا شديدا، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لبغلته دلدل: البدي دلدل فوضعت بطنها على الأرض فأخذ حفنة من تراب فرمى به في وجوههم فكانت الهزيمة فما رجع الناس إلا والأسارى في الحبال عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: بل أقبل شيء أسود من السماء مثل البجاد حتى سقط بين القوم فإذا نمل أسود مبثوث فكانت الهزيمة.
ولما انهزمت هوازن قتل من ثقيف وبني مالك سبعون رجلا فأما الأحلاف من ثقيف فلم يقتل منهم غير رجلين لأنهم انهزموا سريعا، وقصد بعض المشركين الطائف، ومعهم مالك بن عوف واتبعت خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين فقتلهم فأدرك ربيعة بن رفيع السلمي دريد بن الصمة ولم يعرفه لأنه كان في شجار لكبره وأناخ بعيره فإذا هو شيخ كبير فقال له دريد: ماذا تريد؟ قال: أقتلك. فال: ومن أنت؟ فانتسب له ثم ضربه بسيفه فلم يغن شيئا، فقال: دريد بئس ما سلحتك أمك،
264

خذ سيفي فاضرب [به] ثم ارفع [عن العظام واخفض] عن الدماغ فإني كذلك كنت أقتل الرجال وإذا أتيت أمك فأخبرها أنك قتلت دريد بن الصمة فرب يوم قد منعت فيه نساءك، [فقتله]، فلما أخبر أمه قالت: والله لقد أعتق أمهات لك ثلاثا واستلب أبو طلحة الأنصاري يوم حنين عشرين رجلا وحده وقتلهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قتل قتيلا فله سلبه. وقتل أبو قتادة الأنصاري قتيلا وأجهضه القتال عن أخذ سلبه فأخذه غيره، فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك قام أبو قتادة فقال: قتلت قتيلا وأخذ غيري سلبه. فقال الذي أخذ السلب: هو عندي فارضه مني يا رسول الله، فقال أبو بكر: لا والله تعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله تقاسمه فرد عليه السلب.
وكان لبعض ثقيف غلام نصراني فقتل فبينما رجل من الأنصار يستلب قتلى ثقيف إذ كشف العبد فرآه أغرل فصرخ بأعلى صوته يا معشر العرب إن ثقيفا لا تختتن فقال له المغيرة بن شعبة: لا تقل هذا إنما هو غلام نصراني وأراه قتلى ثقيف مختتنين.
ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطريق بامرأة مقتولة فقال: من قتلها؟ قالوا: خالد بن الوليد. فقال لبعض من معه: أدرك خالدا فقل له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاك أن تقتل امرأة أو وليدا أو عسيفا - والعسيف: الأجير.
وكان بعض المشركين بأوطاس فأرسل إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عامر الأشعري عم أبي موسى فرمى أبو عامر بسهم قيل: رماه سلمة بن دريد بن الصمة، وقتل أبو موسى سلمة هذا بعمه أبي
265

عامر وانهزم المشركون بأوطاس وظفر المسلمون بالغنائم والسبايا فساقوا في السبي الشيماء ابنة الحارث بن عبد العزى، فقالت لهم: إني والله أخت صاحبكم من الرضاعة فلم يصدقوها حتى أتوا بها النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له: إني أختك. قال: وما علامة ذلك؟ قالت: عضة عضضتنيها في ظهري وأنا متوركتك، فعرفها وبسط لها رداءه وأجلسها عليه وخيرها، فقال: إن أحببت فعندي مكرمة محبة وإن حببت أن أمتعك وترجعي إلى قومك؟ قالت: بل تمتعني وتردني إلى قومي ففعل.
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسبايا والأموال فجمعت إلى الجعرانة وجعل عليها بديل بن ورقاء الخزاعي.
واستشهد من المسلمين بحنين أيمن بن أم أيمن، ويزيد بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن عبد العزى وغيرهما.
ذكر حصار الطائف
لما قدم المنهزمون من ثقيف ومن انضم إليهم من غيرهم إلى الطائف أغلقوا عليهم أبواب مدينتهم واستحصروا وجمعوا ما يحتاجون إليه، فسار إليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان ببحرة الرغاء ابتنى بها مسجدا فصلى فيه قبل وصوله إلى الطائف، وقتل بها رجلا من بشي ليث قصاصا كان قد قتل رجلا من هذيل فأمر بقتله، وهو أول دم أقيد به في الاسلام، وسار إلى ثقيف فحصرهم بالطائف نيفا وعشرين يوما ونصب عليهم منجنيقا أشار به سلمان الفارسي وقاتلهم قتالا شديدا حتى [إذا] كان يوم الشدخة عند جدار الطائف دخل نفر من المسلمين تحت دبابة عملوها ثم زحفوا بها إلى جدار الطائف فأرسلت عليهم ثقيف سكك الحديد المحماة فخرجوا من تحتها فرماهم من بالطائف بالنبل فقتلوا
266

رجالا. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع أعناب ثقيف فقطعت ونزل إلى رسول الله نفر من رقيق أهل الطائف فأعتقهم منهم أبو بكرة نفيع بن الحارث عبد الحارث بن كلدة وإنما قيل له: أبو بكرة ببكرة نزل فيها وغيره، فلما أسلم أهل الطائف تكلمت سادات أولئك العبيد في أن يردهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرق فقال: لا أفعل أولئك عتقاء الله.
ثم إن خويلة بنت حكيم السلمية، وهي امرأة عثمان بن مظعون، قالت: يا رسول الله أعطني إن فتح الله عليك الطائف حلي بادية بنت غيلان أو حلي الفارعة بنت عقيل وكانتا من أكثر نساء ثقيف حليا، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت إن كان لم يؤذن لي في ثقيف يا خويلة؟ فخرجت فذكرت ذلك لعمر بن الخطاب فدخل عليه عمر وقال: يا رسول الله ما حديث حدثتنيه خويلة أنك قد قلته؟ قال: قد قلته. قال: أفلا أؤذن بم الرحيل يا رسول الله؟ قال: بلن فأذن بالرحيل، فأذن عمر فيهم بالرحيل.
وقيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استشار نوفل بن معاوية الديلي في المقام عليهم فقال: يا رسول الله ثعلب في جحر إن أقمت عليه أخذته وإن تركته لم يضرك فأذن بالرحيل، فلما رجع الناس قالع رجل: يا رسول الله ادع على ثقيف. قال: اللهم اهد ثقيفا وأت بهم. فلما رأت ثقيف الناس قد رحلوا عنهم نادى سعيد بن عبيد الثقفي ألا إن الحي مقيم. فقال عيينة بن حصن: أجل والله مجدة كراما، فقال رجل من المسلمين: قاتلك الله يا عيينة أتمدحهم بالامتناع من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: إني والله ما جئت لأقاتل معكم ثقيفا ولكني أردت أن يفتح محمد الطائف أصيب من ثقيف جارية لعلها تلد لي رجلا فإن ثقيفا قوم مناكير.
واستشهد بالطائف اثنا عشر رجلا، منهم عبد الله بن أبي أمية المخزومي،
267

وأمه عاتكة بنت عبد المطلب، وعبد الله بن أبي بكر الصديق رمي بسهم فمات منه بالمدينة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسائب بن الحارث بن عدي وغيرهم.
وهذه بادية بنت غيلان التي قال فيها هيت المخنث لعبد الله بن أبي أمية: إن فتح الله عليكم الطائف فسل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينفلك بادية بنت غيلان فإنها هيفاء شموع نجلاء إن تكلمت تغنت، لان قامت تثنت، وأن مشط ارتجت وإن قعدت تبنت، تقبل بأربع وتدبر بثمان بثغر كالأقحوان بين رجليها كالقعب المكفأ. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد علمت الصفة! ومنعه من الدخول إلى نسائه.
ذكر قسمة غنائم حنين
لما رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف سار حتى نزل الجعرانة فيمن معه من الناس وأتته وفود هوازن بالجعرانة وقد أسلموا فقالوا: يا رسول الله إنا أصل وعشيرة، وقد أصابنا ما لم يخف عليك فامنن علينا من الله عليك، وقام زهير أبو صرد من بني سعد بن بكر وهم الذين أرضوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنما في الحظائر عماتك
وخالاتك وحواضنك اللاتي كن يكفلنك ولو أنا أرضعنا الحارث بن أبي شمر الغساني أو النعمان بن المنذر لرجونا عطفه وأنت خير المكفولين! ثم قال:
امنن علينا رسول الله في كرم * فإنك المرء نرجوه وندخر
امنن على نسوة قد عاقها قدر * ممزق شملها في دهرها غير
268

في أبيات، فخيرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أبنائهم ونسائهم وبين أموالهم، فاختاروا أبناءهم ونساءهم فقال: أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم فإذا أنا صليت بالناس فقولوا: إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين وبالمسلمين إلى رسول الله في أبنائنا ونسائنا فسأعطيكم وأسال فيكم. فلما صلى الظهر فعلوا ما أمرهم به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وقال المهاجرون والأنصار: ما كان لنا فهو لرسول الله. وقال الأقرع بن حابس: ما كان لي ولبني تميم فلا. وقال عيينة بن حصن: ما كان لي ولفزارة فلا. وقال عباس بن مرداس: ما كان لي ولسليم فلا. فقالت بنو سليم: ما كان لنا فهو لرسول الله. فقال: وهنتموني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من تمسك بحقه من السبي فله بكل إنسان ست فرائض من أول شيء نصيبه فردوا على الناس أبناءهم ونساءهم.
وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مالك بن عوف فقيل: إنه بالطائف فقال: أخبروه إن أناني مسلما رددت عليه أهله وماله وأعطيته مائة بعير فأخبر مالك بذلك فخرج من الطائف سيرا ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم وحسن اسلامه، واستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه وعلى من أسلم من تلك القبائل التي حول الطائف فأعطاه أهله وماله ومائة بعير، وكان يقاتل بمن أسلم معه من ثمالة؟ وفهم، وسلمة ثقيفا، لا يخرج لهم سرح إلا أغار عليه حتى ضيق عليهم.
ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من رد سبايا هوازن ركب واتبعه الناس يقولون: يا رسول الله أقسم علينا فيئنا من الإبل والغنم حتى ألجأوه إلى شجرة فاختطفت رداءه، فقال: ردوا علي ردائي أيها الناس فوالله لو كان لي عدد شجر تهامة نعم لقسمتها عليكم ثم لا تجدوني بخيلا ولا جبانا ولا كذابا.
269

ثم رفع وبرة من سنام بعير وقال: ليس لي هن فيئكم ولا هذه الوبرة إلا الخمس وهو مردود عليكم، فأدوا الخياط والمخيط، فإن الغلول يكون على أهله عارا ونارا وشنارا يوم القيامة، فمن أخذ شيئا رده ثم أعطى المؤلفة قلوبهم وكانوا من أشراف الناس يتألفهم على الاسلام فأعطى أبا سفيان وابنه معاوية، وحكيم بن حزام، والعلاء بن جارية الثقفي، والحارث بن هشام، وصفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو؛ وحويطب بن عبد العزى، وعيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، ومالك بن عوف النصري كل واحد منهم مائة بعير، وأعطى دون المائة رجالا، منهم مخرمة بن نوفل الزهري، وعمير بن وهب بن عمرو، وسعيد بن يربوع، وأعطى العباس بن مرداس أباعر فسخطها، وقال:
كانت نهابا تلافيتها * بكري على المهر في الأجرع
وإيقاظي القوم أن يرقدوا * إذا هجع الناس لم أهجع
فأصبح نهبي ونهب العبي‍ * ‍‍ د حد بين عيينة والأقرع
وقد كنت في الحرب ذا تدرإ * فلم أعط شيئا ولم أمنع
إلا أفائل أعطيتها * عديد قوائمه الأربع
وما كان حصن ولا حابس * يفوقان مرادس في المجمع
وما كنت دون امرئ منهما * ومن تضع اليوم لا يرفع
فأعطاه حتى رضي.
وقال رجل من الصحابة: يا رسول الله أعطيت عيينة والأقرع وتركت جعيل بن سراقة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي
270

بيده لجعيل خير من طلاع الأرض رجالا كلهم مثل عيينة والأقرع، ولكني تألفتهما ووكلت جعيلا إلى إسلامه.
وقيل: إن ذا الخويصرة التميمي في هذه القسمة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك لم تعدل اليوم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ومن يعدل إذا لم أعدل؟ فقال عمر بن الخطاب: ألا نقتله؟ فقال: دعوه ستكون له شيعة يتعمقون في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية، ينظر في النصل فلا يوجد شيء، ثم في القدح فلا يوجد شيء، ثم في الفوق فلا يوجد شيء سبق الفرث والدم. قيل إن هذا القول إنما كان
في مال بعث به علي من اليمن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمه بين جماعة منهم عيينة، والأقرع وزيد الخيل.
قال أبو سعيد الخدري: لما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطى من تلك الغنائم في قريش، وقبائل العرب ولم يعط الأنصار شيئا وجدوا في أنفسهم حتى قال قائلهم: لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه، فأخبر سعد بن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال له: فأين أنت من ذلك يا سعد؟ قال: ما أنا إلا من قومي.. قال: فاجمع قومك لي في هذه الحظيرة. فجمعهم فأتاهم رسول الله فقال: ما حديث بلغني عنكم! ألم آتكم ضلالا فهداكم الله بي؟ وفقراء فأغناكم الله بي؟ وأعداء فألف الله بين قلوبكم بي؟ قالوا: بلن والله يا رسول الله ولله ورسوله المن والفضل. فقال: ألا تجيبوني؟ قالوا: بماذا نجيبك؟ فقال: والله لو شئتم لقلتم فصدقتم: أتيتنا مكذبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فآويناك، وعائلا فواسيناك. أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم؟! أفلا ترضون أن يذهب الناس بم الشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ والذي نفسي بيده لولا الهجرة لكنت امراءا من الأنصار، ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت
271

شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار. قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا: رضينا برسول الله قسما وحظا، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرقوا.
ثم اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة وعاد إلى المدينة واستخلف على مكة عتاب بن أسيد وترك معه معاذ بن جبل يفقه الناس في الدين ويعلمهم القران، وحج عتاب بن أسيد بالناس وبم الناس تلك السنة على ما كانت العرب تحج، وعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة في ذي القعدة أوذي الحجة.
وفيها بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص إلى جيفر وعياذ ابني الجلندي من الأزد بعمان مصدقا فاخذ الصدقة من أغنيائهم وردها على فقرائهم وأخذ الجزية من المجوس الذين بها وهم كانوا أهل البلد وكان العرب حولها، وقيل: سنة سبع.
وفيها تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلابية واسمها فاطمة بنت الضحاك بن سفيان فاختارت الدنيا حين خيرت، وقيل: إنها استعاذت منه ففارقها. وفيها ولدت مارية إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم في ذي الحجة فدفعه إلى أم بردة بنت المنذر الأنصارية فكانت ترضه وزوجها البراء بن أوس الأنصاري، وكانت قابلتها سلمى مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلت أبا رافع إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبشره بإبراهيم فوهب له مملوكا، وغار نساء النبي صلى الله عليه وسلم وعظم عليهن حين رزقت مارية منه ولدا.
وفيها بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن عمير إلى
272

ذات إطلاح من الشام إلى نفر من قضاعة يدعوهم إلى الاسلام ومعه خمسة عشر رجلا، فوصل إليهم فدعاهم إلى الإسلام فلم يجيبوه، وكان رئيس قضاعة رجلا يقال له: سدوس فقتلوا المسلمين ونجا عمير فتقدم إلى المدينة.
وفيها بعث أيضا عيينة بن حصن الفزاري إلى بني العنبر من تميم فأغار عليهم وسبى منهم نساء، وكان على عائشة عتق رقبة من بني إسماعيل، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا سبي بني العنبر يقدم علينا فنعطيك إنسانا فتعتقينه.
273

9
ثم دخلت سنة تسع
ذكر إسلام كعب بن زهير
قيل: خرج كعب بن زهير بن أبي سلمى، أو أبو سلمى ربيعة المزني ومعه أخوه بجير حتى أتيا أبرق العزاف فقال له بجير: أثبت في غنمنا حتى آتي هذا الرجل يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسمع منه، فأقام كعب وسار بجير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم وبلغ ذلك كعبا فقال:
ألا أبلغا عني بجيرا رسالة * على أقي شيء وشب غيرك دلكا
على خلق لم تلف أما ولا أبا * عليه ولم تدرك عليه أخالكا
سقاك. بها المأمور كأس روية * فأنهلك المأمور منها وعلكا
فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله غضب وأهدر دمه، فكتب بذلك بجير إلى أخيه بعد عود رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف، وقال: النجاء النجاء وما أدري إن تتفلت ثم كتب إليه إذا أتاك كتابي هذا فأسلم وأقبل إليه فإنه لا يأخذ مع الاسلام بما كان قبله، فأسلم كعب وجاء حتى أناخ راحلته بباب المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه. قال كعب: فعرفته بالصفة فتخطيت الناس إليه فأسلمت، وقلت: الأمان يما رسول الله هذا مقام العائذ بك. قال: من أنت؟ فقلت: كعب بن زهير. قال: الذي يقول ثم التفت إلى أبي بكر فقال:
274

كيف قال؟ فأنشده أبو بكر الأبيات التي أولها.
ألا أبلغا عني بجيرا رسالة
فقال كعب: ما هكذا قلت: يا رسول الله إنما قلت:
سقاك أبو بكر بكأس روية * فأنهلك المأمون منها وعلكا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مأمون والله. فتجهمته الأنصار وأغلظت له، ولانت له قريش وأحبت إسلامه فأنشده قصيدته التي أولها:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول * متيم عندها لم يفد مكبول
فلما انتهى إلى قوله:
وقال كل خليل كنت آمله * لا ألهينك إني عنك مشغول
نبئت أن رسول الله أوعدني * والعفو عند رسول الله مأمول
في فتية من قريش قال قائلهم * ببطن مكة لما أسلموا زولوا
زالوا فما زال أنكاس ولا كشف * عند اللقاء ولا ميل معازيل
نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قريش فأومأ إليهم أن اسمعوا حتى قال:
يمشون مشي الجمال الزهر يعصمهم * ضرب إذا عرد السود التنابيل
يعرض بالأنصار لغلظتهم التي كانت عليه، فأنكرت قريش قوله وقالوا:
275

لم تمدحنا إذ هجوتهم ولم يقبلوا ذلك منه وعظم على الأنصار هجوه فشكوه فقال يمدحهم:
من سره كرم الحياة فلا يزل * في مقنب من صالحي الأنصار
الباذلون نفوسهم ودماءهم * يوم الهياج وسطوة الجبار
يتظهرون يرونه نسكا لهم * بدماء من قتلوا من الكفار
في أبيات. فكساه النبي صلى الله عليه وسلم بردة كانت عليه، فلما كان زمن معاوية أرسل إلى كعب أن بعنا بردة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما كنت لأوثر بثوب رسول الله أحدا، فلما مات كعب اشتراها معاوية من أولاده بعشرين ألف درهم، وهي البردة التي عند الخلفاء الآن.
وقيل: إنما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله وقطع لسانه لأنه كان تشبب بأم هانىء بنت أبي طالب.
(أبو سلمى بضم السين والإمالة، والمأمور بالراء. قال بعض العلماء: أنما كره رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك لأن العرب كانت تقول لكل من يتكلم بالشيء من تلقاء نفسه مأمور بالراء يريدون أن الذي يقول تأمره به الجن وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مأمورا من الله تعالى ولكنه كرهه لعادتهم فلما قال: المأمون بالنون: رضي به لأنه مأمون على الوحي، وبجير بالباء الموحدة المضمومة وبالجيم)
ذكر غزوة تبوك
لما عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بالمدينة بعد عوده من الطائف ما بين ذي الحجة إلى رجب، أم أمر الناس بالتجهز لغزو الروم
276

وأعلم الناس لبعد الطريق وشدة الحر وقوة العدو، وكان قبل ذلك إذا أراد غزوة وري بغيرها.
وكان سببها أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن هرقل ملك الروم ومن عنده من متنصرة العرب قد عزموا على قصده فتجهز هو والمسلمون وساروا إلى الروم، وكان الحر شديدا والبلاد مجدبة والناس في عسرة، وكانت الثمار قد طابت فأحب الناس المقام في ثمارهم فتجهزوا على كره، فكان ذلك الجيش يسمى جيش العسرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للجد بن قيس - وكان من رؤساء المنافقين - هل لك يا جد العام في جلاد بني الأصفر؟ فقال: والله لقد عرف قومي حبي للنساء وأخشى أن لا أصبر على نساء بني الأصفر، فإن رأيت أن تأذن لي ولا تفتني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أذنت لك. فأنزل الله تعالى: (ومنهم من يقول: ائذن لي ولا تفتني) الآية. وقال قائل من المنافقين: لا تنفروا في الحر فنزل قوله تعالى: (وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشذ حرا) الآية.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم تجهز وأمر بالنفقة في سبيل الله وأنفق أهل الغنى وأنفق أبو بكر جميع ما بقي عنده من ماله، وأنفق عثمان نفقة عظيمة لم ينفق أحد أعظم منها قيل: كانت ثلاثمائة بعير وألف دينار.
ثم إن رجالا من المسلمين أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهم البكاؤن وكانوا سبعة نفر من الأنصار وغيرهم، وكانوا أهل حاجة فاستحملوه فقال: لا أجد ما أحملكم عليه فتولوا يبكون، فلقيهم يامين بن عمير بن كعب النضري فسألهم عما يبكيهم فأعلموه فأعطى أبا ليلى
277

عبد الرحمن بن كعب وعبد الله بن مغفل المزني بعيرا فكانا يعتقبانه مع رسول صلى الله عليه وسلم.
وجاء المعذرون من الأعراب فاعتذروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يعذرهم الله، وكان عدة من المسلمين تخلفوا من غير شك، منهم كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، وأبو خيثمة وكانوا نفر صدق لا يتهمون في اسلامهم.
فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم تخلف عنه عبد الله بن أبي المنافق فيمن تبعه من أهل النفاق، واستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة سباع بن عرفطة، وعلى أهله علي بن م بي طالب فأرجف به المنافقون وقالوا: ما خلفه إلا استثقالا له، فلما سمع على ذلك أخذ سلاحه ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره ما قال المنافقون، فقال: كذبوا وإنما خلفتك لما ورائي فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك، أما ترضى يا علي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ إلا أنه لا نبي بعدي. فرجع علي إلى المدينة. فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إن أبا خيثمة أقام أياما فجاء يوما إلى أهله، وكانت له امرأتان وقد رشت كل امرأة منهما عريشها وبردت له ماء وصنعت طعاما، فلما رآه قال: يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحر والريح وأبو خيثمة في الظل البارد والماء البارد مقيم! ما هذا بالنصف، والله ما أحل عريشا منهما حتى ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم. فهيأ زاده وخرج إلى ناضحه فركبه وطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدركه بتبوك. فقال الناس: يا رسول الله هذا راكب مقبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كن أبا خيثمة. فقالوا: هو والله أبو خيثمة. وأتن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بخبره فدعا له.
278

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مر بالحجر وهو بطريقه وهو منزل ثمود قال لأصحابه: لا تشربوا من هذا الماء شيئا ولا تتوضأوا منه، وما كان من عجين فألقوه واعلفوه الإبل ولا تأكلوا منه شيئا؛ ولا يخرج الليلة أحد إلا مع صاحب له، ففعل ذلك الناس ولم يخرج أحد إلا رجلين من بني ساعدة خرج أحدهما لحاجته فأصابه جنون، وأما الذي طلب بعيره فاحتمله الريح إلى جبلي طيء فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألم أنهكم أن لا يخرج أحد إلا مع صاحب له؟ فأما الذي خنق فدعا له فشفي، وأما الذي حملته الريح فأهدته طيئ إلى رسول الله بعد عوده إلى المدينة. وأصبح الناس بالحجر ولا
ماء معهم فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فدعا الله فأرسل سحابة فأمطرت حتى روى الناس.
وكان بعض المنافقين يسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جاء المطر قال له بعض المسلمين: هل بعد هذا شيء؟ قال: سحابة مارة.
وضلت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطريق فقال لأصحابه وفيهم عمارة بن حزم وهو عقبي بدري: إن رجلا قال: إن محمدا يخبركم الخبر من السماء وهو لا يدري أين ناقته؟ وإني والله لا أعلم إلا ما علمني الله عز وجل وقد دلني الله عليها، وهي في الوادي في شعب كذا قد حبستها شجرة بزمامها فانطلقوا فأتوه بها، فرجع عمارة إلى أصحابه فخبرهم بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الناقة تعجبا مما رأي. وكان زيد بن لصيب القينقاعي منافقا وهو في رحل عمارة قد قال: هذه المقالة، فأخبر عمارة بأن زيدا قد قالها فقام عمارة يطأ عنقه وهو يقول: في رحلي داهية ولا أدري
279

اخرج عني يا عدو الله من رحلي ولا تصحبني. فزعم بعض الناس أن زيدا تاب [بعد ذلك] وحسن إسلامه، وقيل: لم يزل متهما حتى هلك.
ووقف بأبي ذر جمله فتخلف عليه فقيل: يا رسول الله تخلف أبو ذر فقال: ذروه فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم فكان يقولها لكل من تخلف عنه، فوقف أبو ذر على جمله، فلما أبطأ عليه أخذ رحله عنه وحمله على ظهره وتبع النبي صلى الله عليه وسلم ماشيا، فنظر الناس فقالوا: يا رسول الله هذا رجل على الطريق وحده. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كن أبا ذر. فلما تأمله الناس قالوا: هو أبو ذر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يرحم الله أبا ذر يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده، ويشهده عصابة من المؤمنين.
فلما نفى عثمان أبا ذر إلى الربذة فأصابه بها أجله ولم يكن معه إلا امرأته وغلامه فأوصاهما أن يغسلاه ويكفناه ثم يضعاه على الطريق فأولى ركب يمر بهما يستعينان بهم على دفنه ففعلا ذلك، فاجتاز بهما عبد الله بن مسعود في رهط من أهل العراق فأعلمته امرأة أبي ذر بموته فبكى ابن مسعود وقال: صدق. رسول الله صلى الله عليه وسلم تمشي وحدك. وتموت وحدك. وتبعث وحدك، ثم واروه.
وانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك فأتى يوحنا بن رؤبة صاحب أيلة فصالحه على الجزية وكتب له كتابا فبلغت جزيتهم ثلاثمائة دينار، ثم زاد فيها الخلفاء من بني أمية، فلما كان عمر بن عبد العزيز لم يأخذ منهم غير ثلاثمائة وصالح أهل أذرح على مائة دينار في كل رجب، وصالح أهل جرباء على الجزية؛ وصالح أهل مقنا على ربع ثمارهم.
280

وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد الملك صاحب دومة الجندل وكان نصرانيا من كندة فقال لخالد: إنك تجده يصيد البقر. فخرج خالد بن الوليد حتى إذا كان من حصنه على منظر العين وأكيدر على سطح داره فباتت البقرة تحك بقرونها باب الحصن فقالت امرأته: هل رأيت مثل هذا قط؟ قال: لا والله. قالت فمن يترك هذا؟ قال: لا أحد، ثم نزل وركب فرسه ومعه نفر من أهل بيته، ثم خرج يطلب البقر فتلقتهم خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذته وقتلوا أخاه حسانا، وأخذ خالد من أكيدر قباء ديباج مخوص بالذهب فأرسله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل قدومه فجعل المسلمون يلمسونه ويتعجبون منه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتعجبون من هذا! لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا. وقدم خالد بأكيدر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فحقن دمه وصالحه على الجزية وخلى سبيله فرجع إلى قريته.
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك بضع عشرة ليلة ولم يجاوزها ولم يقدم عليه الروم والعرب المنتصرة فعاد إلى المدينة، وكان في الطريق ماء يخرج من وشل لا يروي إلا الراكب والراكبين بواد يقال له: وادي المشقق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سبقنا فلا يستقين منه شيئا حتى نأتيه فسبقه نفر من المنافقين فاستقوا ما فيه، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبروه بفعلهم فلعنهم ودعا عليهم، ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه فوضع يده تحته [وجعل] يصب إليها يسيرا من الماء فدعا فيه ونضحه في الوشل فانخرق الماء جريا شديدا فشرب الناس واستقوا. وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قارب المدينة فأتاه خبر مسجد الضرار فأرسل مالك بن الدخشم فحرقه
281

وهدمه، وأنزل الله فيه (والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين) الآيات، وكان الذين بنوه اثني عشر رجلا وكان قد أخرج من دار خذام بن خالد من بني عمرو بن عوف. وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قد تخلف عنه رهط من المنافقين فأتوه يحلفون له ويعتذرون فصفح عنهم رسول الله صلى الله عليه
وسلم ولم يعذرهم الله ورسوله، وتخلف أولئك النفر الثلاثة وهم كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع تخلفوا من غير شك ولا نفاق فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامهم فاعتزلهم الناس فبقوا كذلك خمسين ليلة؛ ثم أنزل الله توبتهم: (وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم) الآيات إلى قوله (صادقين)، وكان قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، [المدينة من تبوك] في رمضان.
(يامين النضري بالنون والضاد المعجمة، وعبد الله بن مغفل بالغين المعجمة والفاء المفتوحة؛ وزيد بن لصيت باللام المضمومة والصاد المهملة وآخره تاء مثناة من فوقها، وخذام بن خالد بالخاء المكسورة والذال المعجمتين، وأكيدر بالهمزة المضمومة والكاف المفتوحة والدال المهملة المكسورة وآخره راء مهملة).
282

ذكر قدوم عروة بن مسعود الثقفي على رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وفيها قدم عروة بن مسعود الثقفي على النبي صلى الله عليه وسلم مسلما، وقيل: بل أدركه في الطريق مرجعه من الطائف وسأله أن يرجع إلى قومه بالإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنهم قاتلوك. فقال: أنا أحب إليهم من أبكارهم، ورجا أن يوافقوه لمنزلته فيهم، فلما رجع إلى الطائف صد إلى علية له وأشرف منها عليهم وأظهر الإسلام ودعاهم إليه فرموه بالنبل من كل وجه فأصابه سهم فقتله، فقيل له؛ ما ترى في دمك؟ فقال: كرامة أكرمني الله بها وشهادة ساقها إلي ليس في إلا ما في الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله فادفنوني معهم. فلما مات دفنوه معهم، وقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه إن مثله في قومه كمثل صاحب يش في قومه.
ذكر قدوم وفد ثقيف
وفي هذه السنة في رمضان قدم وفد ثقيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وسبب ذلك أنهم رأوا أن من يحيط بهم من العرب قد نصبوا لهم القتال وشنوا الغارات عليهم وكان أشدهم في ذلك مالك بن عوف النصري، فلا يخرج منهم مال إلا نهب ولا إنسان إلا أخذ، فلما رأوا عجزهم اجتمعوا وأرسلوا عبد ياليل بن عمرو بن عمير، والحكم بن عمرو بن
283

وهب، وشرحبيل بن غيلان وهؤلاء من الأحلاف، وأرسلوا من بني مالك عثمان بن أبي العاص، وأوس بن عوف، ونمير بن خرشة فخرجوا حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزلهم في قبة في المسجد. فكان خالد بن سعيد بن العاص يمشي بينهم، وبين النبي صلى الله عليه وسلم؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل إليهم ما يأكلونه مع خالد وكانوا لا يأكلون طعاما حتى يأكل خالد منه حتى أسلموا.
وكان فيما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدع الطاغية وهي اللات لا يهدمها ثلاث سنين، فأبن عليهم وكان قصدهم بذلك أن يتسلموا بتركها من سفهائهم ونسائهم، فنزلوا إلى شهر فلم يجبهم وسألوه أن يعفيهم من الصلاة فقال: لا خير في دين لا صلاة فيه. فأجابوا وأسلموا، وأمر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن أبي العاص، وكان أصغرهم لما رأى من حرصه على الاسلام والتفقه في الدين، ثم رجعوا إلى بلادهم، وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم المغيرة بن شعبة، وأبا سفيان بن حرب ليهدما الطاغية فخرجا مع القوم حتى قدما الطائف، فتقدم المنيرة فهدمها، وقام قومه من بني شعيب دونه خوفا أن يرمى بسهم، وخرج نساء ثقيف حسرا يبكين عليها، وأخذ حليها ومالها وكان أبو مليح بن عروة بن مسعود، وقارب بن الأسود بن مسعود قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قتل عروة والأسود فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقضي منه دين عروة والأسود ابني مسعود ففعلا، وكان الأسود مات كافرا فسأل ابنه قارب بن الأسود رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقضي دين أبيه، فقال: إنه كافر. فقال: يصل مسلم ذا قرابته يعني أنه أسلم فيصل أباه وإن كان مشركا.
284

ذكر غزوة طيء واسلام عدي بن حاتم
في هذه السنة في شهر ربيع الآخر أرسل النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب في سرية إلى ديار طيء وأمره أن يهدم ص ضمهم الفلس فسار إليهم وأغار عليهم فغنم وسبى وكمي ى الصنم، وكان متقلدا سيفين، يقال: لأحدهما مخذم، وللآخر رسوب فأخذهما علي وحملهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الحارث بن أبي شمر أهدي السيفين للصنم فعلقا عليه، وأسر بنتا لحاتم الطائي وحملت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فأطلقها.
وأما إسلام عدي بن حاتم فقال عدي: جاءت خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذوا أختي وناسا فأتوا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت أختي: يا رسول الله هلك الوالد، وغالب الوافد فامنن على من الله عليك: فقال: ومن وافدك؟ قالت: عدي بن حاتم. قال: الذي فر من الله ورسوله. فمن عليها وإلى جانبه رجل قائم وهو علي بن أبي طالب قال: سليه حملانا، فسألته فأمر لها به، وكساها وأعطاها نفقة. قال عدي: وكنت ملك طيئ آخذ منهم المرباع وأنا نصراني فلما قدمت خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم هربت إلى الشام من الاسلام وقلت: أكون عند أهلي ديني فبينا أنا بالشام إذ جاءت أختي وأخذت تلومني على تركها وهربي بأهلي دونها، ثم قالت لي: أري أن تلحق بمحمد سريعا فإن كان نبيا كان
285

للسابق فضله، وإن كان ملكا كنت في عز وأنت أنت. قال: فقدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه وعرفته نفسي فانطلق إلى بيتي فلقيته امرأة ضعيفة فاستوقفته فوقف لها طويلا تكلمه في حاجتها فقلت: ما هذا بملك. ثم دخلت بيته فأجلسني على وسادة وجلس على الأرض، فقلت في نفسي: ما هذا ملك. فقال لي: يا عدي إنك تأخذ المرباع وهو لا يحل في دينك، ولعلك إنما يمنعك من الاسلام ما تري من حاجتنا وكثرة عدونا، والله ليفيضن المال فيهم حتى لا يوجد من يأخذه، ووالله لتسمعن بالمرأة تسير من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت لا تخاف إلا الله، ووالله لتسمعن بالقصور البيض من بابل وقد فتحت. قال: فأسلمت فقد رأيت القصور البيض وقد فتحت؟ ورأيت المرأة تخرج إلى البيت لا تخاف إلا الله، ووالله لتكونن الثالثة ليفيضن المال حتى لا يقبله أحد.
ذكر قدوم الوفود على رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وأسلمت ثقيف وفرغ من تبوك ضربت إليه وفود العرب من كل وجه، وإنما كانت العرب تنتظر بإسلامها قريشا إذ كانوا إمام الناس، وأهل الحرم، وصريح ولد إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام، لا تنكر العرب ذلك؛ وكانت قريش هي التي نصبت الحرب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وخلافه، فلما فتحت مكة
286

وأسلمت قريش عرفت العرب أنها لا طاقة لها بحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عداوته فدخلوا في الدين أفواجا كما قال الله تعالى: (إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا).
وقدمت وفودهم في هذه السنة، قدم وفد بني أسد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: أتيناك قبل أن ترسل إلينا رسولا فأنزل الله تعالى: (يمنون عليك أن أسلموا) الآية. وفيها قدم وفد بلى في شهر ربيع الأول. وفيها قدم وفد الزاريين وهم عشرة نفر. وفيها قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد بني تميم مع حاجب بن زرارة بن عدس وفيهم الأقرع بن حابس، والزبرقان بن بدر، وعمرو بن الأهتم، وقيس بن عاصم، والحتات ومعتمر بن زيد في وفد عظيم ومعهم عيينة بن حصن الفزاري فلما دخلوا المسجد نادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء حجراته أن اخرج إلينا يا محمد. فآذى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج إليهم، فقالوا: جئنا نفاخرك، فأذن لشاعرنا وخطيبنا. فأذن لهم، فقام عطارد فقال: الحمد لله الذي له علينا الفضل الذي جعلنا ملوكا، س وهب لنا أموالا عظاما نفعل فيها المعروف، وجعلنا أعز أهل المشرق وأكثرهم عددا فمن يفاخرنا فليعدد مثل عددنا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس: أجب الرجل. فقام ثابت فقال:
الحمد لله الذي له السماوات والأرض خلقه، قضى فيهن أمره، ووسع
287

كرسيه علمه، ولم يكن شيء قط إلا من فضله، ثم كان من قدرته أن جعلنا ملوكا واصطفى من خير خلقه رسولا أكرمهم نسبا، وأصدقهم حديثا، وأفضلهم حسبا، فأنزل عليه كتابه، وائتمنه كل لي خلقه، فكان خيرة الله تعالى من العالمين، ثم دعا الناس إلى الإيمان فآمن به المهاجرون من قومه وذوي رحمه، أكرم الناس نسبا، وأحسن الناس وجوها، وخير الناس فعالا، ثم كان أول الخلق استجابة لله حين دعاه نحن فنحن أنصار الله ووزراء رسوله، نقاتل الناس حتى يؤمنوا فمن آمن بالله ورسوله منع ماله ودمه، ومن كفر جاهدناه في الله أبدا، وكان قتله علينا يسيرا والسلام عليكم.
فقالوا: يا رسول الله ائذن لشاعرنا. فأذن له، فقام الزبرقان بن بدر فقال:
نحن الكرام فلا حف يعادلنا * منا الملوك وفينا تنصب البيع
وكم قسرنا من الأحياء كلهم * عند النهاب وفضل العرب يتبع
ونحن يطعم عند القحط مطعمنا * من الشواء إذا لم يؤنس القزع
بما ترى الناس تأتينا سراتهم * من كل أرض هويا ثم تصطنع
فننحر الكوم عبطا في أرومتنا * للنازلين إذا ما أنزلوا شبعوا
فلا ترانا إلى حي نفاخر هم * ألا استقادوا وكان الرأس يقتطع
إنا أبينا ولم يأب لنا أحد * إنا كذلك عند الفخر نرتفع
فمن يفاخرنا في ذاك يعرفنا * فيرجع القول والأخبار تستمع
288

قال: وكان حسان بن ثابت غائبا فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليجيب شاعرهم، قال حسان: فلما سمعت قوله قلت على نحوه:
إن الذوائب من فهر وإخوتهم * قد بينوا سنة للناس تتبع
قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم * أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا
يرضى بها كل من كانت سريرته * تقوى الإله وكل البر يصطنع
سجية تلك منهم غير محدثة * إن الخلائق فاعلم شرها البدع
إن كان في الناس سباقون بعدهم * فكل سبق لأدنى سبقهم تبع
لا يرقع الناس ما أوهت أكفهم * عند الدفاع ولا يوهون ما رقعوا
إن سابقوا الناس يوما فاز سبقهم * أو وازنوا أهل مجد بالندى متعوا
أعفة ذكرت في الوحي عفتهم * لا يطمعون ولا يزرى بهم طمع
لا يبخلون على جار بفضلهم * ولا يمسهم من مطمع طبع
إذا نصبنا لحي لم ندب لهم * كما يدب إلى الوحشية الذرع
كأنهم في الوغى والموت مكتنع * أسد بحلية في أرساغها فدع
أكرم بقوم رسول الله شيعتهم * إذا تفرقت الأهواء والشيع
فإنهم أفضل الأحياء كلهم * إن جد بالناس جد القول أو شمعوا
فلما فرغ حسان قال الأقرع بن حابس: إن هذا الرجل لمؤتى له خطيبهم أخطب من خطيبنا، وشاعرهم أشعر من شاعرنا؛ ثم أسلموا وأجازهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيهم أنزل الله تعالى (إن الذين
289

ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون) الآيات.
(الختات بالحاء المهملة وتائين كل واحدة منهما معجمة باثنتين من فوق. وعيينة بضم العين المهملة وياءين كل واحدة منهما مثناة من تحت ونون).
* * *
وفيها قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب ملوك حمير مقرين بالإسلام مع رسولهم الحارث بن عبد كلال، والنعمان قيل ذي رعين، وهمدان فأرسل إليه زرعة ذو يزن مالك بن مرة الرهاوي بإسلامهم، وكتب إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرهم بما عليهم في الإسلام وينهاهم عما حرم عليهم. وفيها قدم وفد بهراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلوا على المقداد بن عمرو، وكانوا ثلاثة عشر رجلا. وفيها قدم وفد بني البكاء. وفيها قدم وفد بني فزارة وهم بضعة عشر رجلا، فيهم خارجة بن حصن. وفيها قدم وفد ثعلبة بن منقذ. وفيها قدم وفد سعد بن بكر وكان وافدهم ضمام بن ثعلبة، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شرائع الإسلام وأسلم، فلما رجع إلى قومه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لئن صدق ليدخلن الجنة. فلما قدم على قومه اجتمعوا إليه، فكان أول ما تكلم به أن قال: بئست اللات والعزى، فقالوا: اتق البرص، والجذام، والجنون. فقال: ويحكم إنهما لا يضران ولا ينفعان وإن الله قد بعث رسولا وأنزل عليه كتابا، وقد استنقذكم به مما كنتم فيه. وأظهر اسلامه، فما أمسى ذلك اليوم في حاضره رجل مشرك لا امرأة مشركة، فما سمع بوافد قوم كان أفضل من ضمام بن ثعلبة.
290

ذكر حج أبي بكر رضي الله عنه
وفيها حج أبو بكر بالناس ومعه عشرون بدنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولنفسه خمس بدنات وكان في ثلاثمائة رجل، فلما كان بذي الحليفة أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثره عليا وأمره بقراءة سورة براءة على المشركين، فأدركه بالعرج، وأخذها منه، فعاد أبو بكر وقال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي أنزل في شيء؟ قال: لا، ولكن لا يبلغ إلا أنا أو رجل مني، ألا ترضى يا أبا بكر أنك كنت معي في الغار وصاحبي على الحوض؟ قال: بلى، فسار أبو بكر أميرا على الموسم فأقام الناس الحج وحجت العرب الكفار على عادتهم في الجاهلية؟ وعلى يؤذن ببراءة، فنادي يوم الأضحى: لا يحجن بعد العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان، ومات كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فأجله إلى مدته. فقالوا: نحن نبرأ من عهدك وعهد ابن عمك إلا من الطعن والضرب، ورجع المشركون فلام بعضهم بعضا، وقالوا: ما تصنعون وقد أسلمت قريش؟ فأسلموا.
وفي هذه السنة فرضت الصدقات وفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها عماله.
وفيها في شعبان توفيت أم كلثوم بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وهي زوج عثمان بن عفان وغسلتها أسماء بنت عميس، وصفية بنت عبد المطلب، وقيل: غسلتها نسوة من الأنصار. منهن أم عطية، وصلى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل في حفرتها أبو طلحة. وفيها مات عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين وكان ابتداء مرضه في شوال، ومكث عشرين ليلة، فلما توفي جاء ابنه عبد الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله قميصه فأعطاه فكفنه فيه، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه فقام عمر في صدره وقال: يا رسول الله أتصلي عليه وقد قال: يوم
291

كذا كذا وكذا؟ يعدد أيامه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم، ثم قال: أخر عني عمر قد خيرت فاخترت، قد قيل لي: (استغفر لهم أولا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) ولو علمت أن لو زدت على السبعين غفر لهم لزدت. ثم صلى عليه وقام على قبره حتى فرغ منه. فأنزل الله تعالى (ولا تصل على أحد منهم مات ابدا ولا تقم على قبره) الآية. وفيها نعى النبي صلى الله عليه وسلم النجاشي للمسلمين وكان موته في رجب سنة تسع، وصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفيها توفي أبو عامر الراهب عند النجاشي.
292

ذكر الأحداث في سنة عشر
ذكر وفد نجران مع العاقب والسيد
وفيها أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني الحارث بن كعب بنجران في شهر ربيع الآخر، وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام ثلاثا فإن أجابوا أقام فيهم وعلمهم شرائع الإسلام وإن لم يفعلوا قاتلهم، فخرج إليهم ودعاهم إلى الإسلام فأجابوا وأسلموا فأقام فيهم وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمه إسلامهم، وعاد خالد ومعه وفدهم، فيهم قيس بن الحصين بن يزيد بن قينان ذي. الغصة، ويزيد بن عبد المدان
وغيرهما فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم عادوا عنه في بقية شوال أو في ذي الحجة، وأرسل إليهم عمرو بن حزم يعلمهم شرائع الإسلام ويأخذ صدقاتهم وكتب معه كتابا، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمرو بن حزم على نجران.
وأما نصارى نجران فإنهم أرسلوا العاقب والسيد في نفر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرادوا مباهلته، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه علي، وفاطمة والحسن، والحسين، فلما رأوهم قالوا: هذه وجوه لو أقسمت على الله أن يزيل الجبال لأزالها ولم يباهلوه وصالحوه على ألفي حلة، ثمن كل حلة أربعون درهما. وعلى أن يضيفوا رسل رسول الله
293

صلى الله عليه وسلم وجعل لهم ذمة الله تعالى وعهده أن لا يفتنوا عن دينهم ولا يعشروا، وشرط عليهم أن لا يأكلوا الربا ولا يتعاملوا به. فلما استخلف أبو بكر عاملهم [بذلك]، فلما استخلف عمر أجلى أهل الكتاب عن الحجاز وأجلى أهل نجران فخرج بعضهم إلى الشام، وبعضهم إلى نجرانية الكوفة، واشترى منهم عقارهم وأموالهم، وقبل: إنهم كانوا قد كثروا فبلغوا أربعين ألفا فتحاسدوا بينهم فأتوا عمر بن الخطاب وقالوا: أجلنا. وكان عمر بن الخطاب قد خافهم على المسلمين فاغتنمها فأجلاهم فندموا بعد ذلك ثم استقالوه فأبى فبقوا كذلك إلى خلافة عثمان. فلما ولي علي أتوه وقالوا: ننشدك الله خطك بيمينك فقال: إن عمر كان رشيد الأمر وأنا أكره خلافه وكان عثمان قد أسقط عنهم مائتي حلة، وكان صاحب النجرانية. بالكوفة يبعث إلى من بالشام والنواحي من أهل نجران يجبونهم الحلل.
فلقا ولي معاوية، ويزيد بن معاوية شكوا إليه تفرقهم وموت من مات منهم وإسلام من أسلم منهم، وكانوا قد قلوا وأروه كتاب عثمان فوضع عنهم مائتي حلة تكملة أربعمائة حلة. فلما ولي الحجاج العراق، وخرج عليه عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث اتهم الدهاقين بموالاته واتهمهم معهم فردهم إلى ألف وثلاثمائة حلة؛ وأخذهم بحلل وشئ. فلما ولي عمر بن عبد العزيز شكوا إليه فناءهم ونقصهم وإلحاح العرب عليهم بالغارة وظلم الحجاج فأمر بهم فأحصوا فوجدوا على العشر من عدتهم الأولى، فقال: أرى هذا الصلح جزية وليس على أرضهم شيء، وجزية المسلم والميت ساقطة فألزمهم مائتي حلة، فلما تولى يوسف بن عمر الثقفي ردهم إلى أمرهم الأول
294

عصبية للحجاج، فلما استخلف السفاح عمدوا إلى طريقه يوم ظهوره من الكوفة فألقوا فيها الريحان ونثروا عليه فأعجبه ذلك من فعلهم ثم رفعوا إليه أمرهم وتقربوا إليه بأخواله بني الحارث بن كعب فكلمه فيهم عبد الله بن الحارث فردهم إلى مائة حلة، فلما ولي الرشيد شكوا إليه العمال فأمر أن يعفوا من العمال وأن يكون مؤداهم بيت المال.
* * *
وفيها قدم وفد سلامان في شوال وهم سبعة نفر رأسهم حبيب السلاماني. وفيها قدم وفد غسان في رمضان، ووفد عامر في شهر رمضان أيضا. وفيها قدم وفد الأزد رأسهم صرد بن عبد الله في بضعة عشر رجلا فأسلم وأقره رسول الله صلى الله عليه وسلم على من أسلم من. قومه، وأمره أن يجاهد بمن أسلم من أهل بيته المشركين فسار إلى مدينة جرش وفيها قبائل من اليمن فيهم خثعم فحاصرهم قريبا من شهر فامتنعوا منه فرجع حتى كان بجبل يقال له: كشر فظن أهل جرش أنه منهزم فخرجوا في طلبه فأدركوه فعطف عليهم فقاتلهم قتالا شديدا، وقد كان أهل جرش قد بعثوا رجلين منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة ينظران حاله فبينما هما عنده بعد العصر إذ قال: بأي بلاد الله شكر؟ فقالا: ببلادنا جبل يقال له: كشر. فقال: إنه ليس بكشر ولكنه شكر. قالا: فما له يا رسول الله؟ قال: إن بدن الله لتنحر عنده الآن. فقال لهما: أبو بكر أو عثمان: ويحكما انه ينعي لكما قومكما فقوما إلى رسول الله فاسألاه أن يدعو الله أن يرفع عنهم ففعلا، فقال: اللهم ارفع عنهم. فخرجا من عنده إلى قومهما فوجداهم قد أصيبوا ذلك اليوم في تلك الساعة التي ذكر فيها النبي صلى الله عليه وسلم حالهم، وخرج وفد جرش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قدموا عليه فأسلموا.
وفيها قدم وفد مراد مع فروة بن مسيك المرادي على رسول الله صلى الله عليه وسلم مفارقا لملوك كندة ومعاندا لهم، وقد كان قبيل الإسلام بين
295

مراد وهمدان وقعة ظفرت [فيها] همدان وأكثروا القتلى في مراد، وكان يقال لذلك اليوم: يوم الرزم وكان رئيس همدان الأجدع بن مالك والد مسروق، وفي ذلك يقول فروة:
فإن نغلب فغلابون قدما * وإن نهزم فغير مهزمينا
وما إن طبنا جبن ولكن * منايانا ودولة آخرينا
كذاك الدهر دولته سجال * تكر صروفه حينا وحينا
فبينا ما يسر به ويرضى * ولو لبست غضارته سنينا
إذا انقلبت به كرات دهر * فألفى للأولى غبطوا طحينا
ومن يغبط بريب الدهر منهم * يجد ريب الزمان له خونا
فلو خلد الملوك إذن خلدنا * ولو بقي الكرام إذن بقينا
فأفنى ذلكم سروات قوم * كما أفنى القرون الأولينا
ولما توجه فروة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مفارقا لقومه قال:
لما رأيت ملوك كندة أعرضت * كالرجل خان الرجل عرق نسائها
يممت راحلتي أؤم محمدا * أرجو فضائلها وحسن ثرائها
فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: يا فروة هل ساءك ما أصاب قومك يوم الرزم؟ فقال: يا رسول الله من ذا يصيب قومه مثل ما أصاب قومي ولم يسؤه ذلك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ذلك لا يزيد قومك في الإسلام إلا خيرا، فاستعمله رسول الله صلى
296

الله عليه وسلم على مراد، وزبيد، ومذحج كلها، وبعث معه خالد بن سعيد بن العاص فكان على الصدقات، وكان معه في بلاده إلى أن توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفيها أرسل فروة بن عمرو الجذامي ثم النفاثي رسولا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامه وأهدى له بغلة بيضاء، وكان فروة عاملا للروم على من يليهم من العرب، وكان منزله معان في أرض الشام، فلما بلغ الروم إسلامه طلبوه حتى أسروه فحبسوه فقال في محبسه ذلك:
طرقت سليمى موهنا فشجاني * والروم بين الباب والقروان
صد الخيال وساءه ما قد رأى * وهممت أن أغفي وقد أبكاني
لا تكحلن العين بعدي إثمدا * سلمى ولا تدنن للانسان
فلما اجتمعت الروم لصلبه على ماء لهم يقال له عفرى بفلسطين قال:
ألا هل أتى سلمى بأن خليلها * على ماء لهم فوق إحدى الرواحل
على ناقة لم يلقح الفحل أمها * مشذبة أطرافها بالمناجل
وهذا من أبيات المعاني. فلما قدموه ليصلبوه قال:
بلغ سراة المسلمين بأنني * سلم لربي أعظمي ومقامي
ثم ضربوا عنقه وصلبوه.
وفيها قدم وفد زبيد على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عمرو
297

ابن معد يكرب، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استعمل على زبيد ومراد فروة بن مسيك في هذه السنة قبل قدوم عمرو، فلما عاد عمرو من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام في قومه بني زبيد وعليهم فروة بن مسيك فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتد عمرو.
وفيها قدم وفد عبد القيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم الجارود بن عمرو، وكان نصرانيا فاسلم وأسلم من معه، وكان الجارود حسن الإسلام صلبا على دينه حتى هلك، وكان نهى قومه عن الردة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم لما ارتدوا مع الغرور، وهو المنذر بن النعمان، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث العلاء بن الحضرمي قبل الفتح إلى المنذر بن ساوي العبدي فأسلم وحسن إسلامه، ثم هلك بعد وفاة
رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبل ردة أهل البحرين والعلاء أمير لرسول الله على البحرين.
وفيها قدم وفد بني حنيفة وفيهم مسيلمة الكذاب وكان منزله في دار ابنة الحارث امرأة من الأنصار واجتمع مسيلمة برسول الله صلى الله عليه وسلم ثم عاد إلى اليمامة وتنبأ وتكذب [لهم] وادعى أنه شريك رسول الله في النبوة. فاتبعه بنو حنيفة.
وفيها قدم وفد كندة مع الأشعث بن قيس وكانوا ستين راكبا فقال الأشعث: نحن بنو آكل المرار وأنت ابن آكل المرار.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفوا أمنا ولا ننتفي من أبينا.
وفيها قدم وفد محارب. وفيها قدم وفد الرهاويين، وهم بطن من مذحج.
(ورهاء بفتح الراء قاله عبد الغني بن سعيد). وفيها قدم وفد عبس. وفيها قدم وفد صدف وافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع. وفيها قدم وفد خولان وكانوا عشرة.
وفيها قدم وفد بني عامر بن صعصعة فيهم عامر بن الطفيل، وأربد بن قيس
298

وجبار بن سلمى، بضم السين وبالإمالة، بن مالك بن جعفر، وكان هؤلاء الثلاثة رؤوس القوم وشياطينهم، وكان عامر يريد الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له قومه: إن الناس قد أسلموا فأسلم. فقال: لا أتبع عقب هذا الفتى، ثم قال لأربد: إذا قدمنا عليه فإني شاغله عنك فاعله بالسيف من خلفه، فلما قدموا جعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم ويقول له: يا محمد خائني. فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: لا والله حتى تؤمن بالله وحده - قالها ثلاثا - يشغله ليفتك به أربد فلم يفعل أربد شيئا فقال عامر للنبي صلى الله عليه وسلم: لأملأنها عليك خيلا حمرا ورجالا، فلما ولي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اكفني عامرا. فلما خرجوا قال عامر لأربد: لم لا قتلته؟ قال: كلما هممت بقتله دخلت بيني وبينه حتى ما أرى غيرك أفأضربك بالسيف؟ وخرجوا راجعين إلى بلادهم، فلما كانوا ببعض الطريق أرسل الله على عامر بن الطفيل الطاعون في عنقه فقتله وإنه لفي بيت امرأة سلولية فمات وجعل يقول: يا بني عامر أغدة كغدة البعير وموت في بيت سلولية! وأرسل الله على أربد صاعقة فأحرقته، وكان أربد بن قيس أخا لبيد بن ربيعة لأمه.
وفيها قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد طيء فيهم زيد الخيل وهو سيدهم فأسلموا وحسن إسلامهم وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ذكر لي رجل من العرب [بفضل] ثم جاءني إلا رأيته دون ما يقال فيه إلا ما كان من زيد الخيل، ثم سماه زيد الخير وأقطع له فيد وأرضين معها؛ فلما رجع أصابته الحمى بقرية من نجد فمات بها.
وفيها كتب مسيلمة الكذاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر أنه شريكه في النبوة وأرسل الكتاب مع رسولين فسألهما رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه فصدقاه فقال لهما: لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكما.
299

وكان كتاب مسيلمة: من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله أما بعد فإني قد أشركت معك في الأمر وإن لنا نصف الأرض ولقريش نصفها ولكن قريشا قوم يعتدون.
فكتب إليه رسول الله: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب: أما بعد فالسلام على من اتبع الهدى فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.
وقيل: إن دعوى مسيلمة وغيره النبوة كانت بعد حجة الوداع ومرضته التي مات فيها، فلما سمع الناس بمرضه وثب الأسود العنسي باليمن، ومسيلمة باليمامة، وطليحة في بني أسد.
ذكر إرسال علي إلى اليمن وإسلام همدان
في هذه السنة بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا إلى اليمن وقد كان أرسل قبله خالد بن الوليد إليهم يدعوهم إلى الإسلام فلم يجيبوه فأرسل عليا وأمره أن يعقل خالدا ومن شاء من أصحابه ففعل، وقرأ علي كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل اليمن فأسلمت همدان كلها في يوم واحد فكتب بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: السلام على همدان يقوله ثلاثا، ثم تتابع أهل اليمن على الإسلام، وكتب بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسجد شكرا لله تعالى.
300

ذكر بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم
أمراءه على الصدقات
وفيها بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراءه وعماله على الصدقات، فبعث المهاجرين أبي أمية بن المغيرة إلى صنعاء فخرج عليه العنسي وهو بها، وبعث زياد بن لبيد الأنصاري إلى حضرموت على صدقاتهم، وبعث عدي بن حاتم الطائي على
صدقات طيء وأسد، وبعث مالك بن نويرة على صدقات بني حنظلة، وجعل الزبرقان بن بدر، وقيس بن عاصم على صدقات سعد بن زيد مناة بن تميم. وبعث العلاء بن الحضرمي إلى البحرين، وبعث علي بن أبي طالب إلى نجران ليجمع صدقاتهم وجزيتهم ولعود، ففعل وعاد ولغي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة في حجة الوداع، واستخلف على الجيش الذي معه رجلا من أصحابه وسبقهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلقيه بمكة فعمد الرجل إلى الجيش فكساهم كل رجل حلة من البز الذي كان مع علي، فلما دنا الجيش خرج علي ليتلقاهم فرأى عليهم الحلل فنزعها عنهم فشكاه الجيش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا فقال: أيها الناس لا تشكوا عليا فوالله إنه لأخشن في ذات الله، وفي سبيل الله.
301

ذكر حجة الوداع
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحج لخمس ليال بقين من ذي القعدة لا يذكر الناس إلا الحج، فلما كان بسرف أمر الناس أن يحلوا بعمرة إلا من ساق الهدي، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ساق الهدي وناس معه، وكان علي بن أبي طالب قد لقيه محرما فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: حل كما حل أصحابك فقال: إني قد أهللت بما أهل به رسول الله فبقي على! حرا مه، ونحر رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدي عنه وعن علي. وحج بالناس فأراهم مناسكهم وعلمهم سنن حجهم وخطب خطبته التي بين فيها للناس ما بين، وكان الذي يبالغ عنه بعرفة ربيعة بن أمية بن خلف لكثرة الناس، فقال بعد حمد الله:
أيها الناس: اسمعوا قولي فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا. أيها الناس إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، وكل ربا موضوع لكم رؤوس أموالكم، وإن ربا العباس بن عبد المطلب موضوع كله، وكل دم كان في الجاهلية موضوع، وأول دم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وكان مسترضعا في بني ليث فقتله بنو هذيل، أيها الناس إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه أبدا ولكنه رضي أن يطاع فيما سوي ذلك مما تحقرون من أعمالكم، فاحذروه على دينكم. أيها الناس (إنما النسيء زيادة في الكفر)، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، و (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا). أبها الناس استوصوا بالنساء خيرا. وهي خطبة طويلة.
302

وقال حين وقف بعرفة: هذا الموقف - للجبل الذي هو عليه -، وكل عرفة موقف. وقال بالمزدلفة: هذا الموقف، وكل مزدلفة موقف. ولما نحر بمنى قال: هذا المنحر وكل منى منحر. فقض رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج، وكانت حجة الوداع وحجة البلاغ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحج بعدها. وأرى الناس مناسكهم وعلمهم حجهم.
ذكر عدد غزواته صلى الله عليه وسلم وسراياه
وكان آخر غزوة [غزاها] رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه غزوة تبوك، وجميع غزواته بنفسه تسع عشرة غزوة. قال الواقدي: هكذا يرويه أهل العراق عن زيد بن أرقم وهو خطأ لأن زيدا غزا مؤتة مع عبد الله بن رواحة وهو رديفه على رحله ولم يغز مع النبي صلى الله عليه وسلم غير ثلاث غزوات أو أربع. وقيل: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم ستا وعشرين غزوة، وقيل: سبعا وعشرين. فمن قال: ستا وعشرين جعل غزوة خيبر ووادي القرى واحدة لأنه لم يرجع من خيبر حين فرغ من أمرها إلى منزله ولكنه مض منها إلى وادي القرى ومن فرق بينهما جعل غزواته سبعا وعشرين جعل خيبر غزوة ووادي القرى غزوة.
وأول غزوة غزاها ودان، وهي الأبواء، ثم بواط بناحية رضوى، ثم العشيرة، ثم بدر الأولى لطلب كرز بن
جابر، ثم بدر التي قتل فيها قريشا، ثم غزوة بني سليم، ثم غزوة السويق، ثم غزوة غطفان وهي غزوة ذي أمر، ثم غزوة بحران بالحجاز، ثم غزوة أحد؛ ثم غزوة حمراء الأسد، ثم غزوة بني النضير، ثم غزوه ذات الرقاع، ثم غزوة بدر الآخرة،
303

ثم غزوة دومة الجندل، ثم غزوة الخندق، ثم غزوة بني قريظة، ثم غزوة بني لحيان من هذيل، ثم غزوة ذي قرد، ثم غزوة بني المصطلق، ثم غزوة الحديبية ثم غزوة خيبر، ثم عمرة القضاء، ثم غزوة فتح مكة، ثم غزوة حنين، ثم غزوة الطائف، ثم غزوة تبوك. قاتل منها في تسع غزوات بدر، وأحد، والخندق، وقريظة، والمصطلق، وخيبر، والفتح، وحنين، والطائف.
واختلف في عدد سراياه فقيل: كانت خمسا وثلاثين ما بين سرية وبعث، وقيل: ثمانيا وأربعين.
وفي هذه السنة قدم جرير بن عبد الله البجلي في رمضان مسلما فبعثه إلى ذي الخلصة فهدمها، وكان من حجر أبيض بتبالة وهو صنم بجبلة، وخثعم، وأزد السراة، فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر هدمه سجد شكرا لله تعالى.
وفيها أسلم باذان باليمن وبعث بإسلامه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
304

ذكر عدد حج النبي صلى الله عليه وسلم وعمره
قال جابر: حج النبي صلى الله عليه وسلم حجتين، حجة قبل أن يهاجر، وحجة بعدما هاجر معها عمرة. وقال عمر: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عمر، وقالت عائشة أربع عمر؟ وروي مثل ذلك عن ابن عمر.
ذكر صفة النبي صلى الله عليه وسلم وأسمائه وخاتم النبوة
قال علي بن أبي طالب: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بالطويل ولا بالقصير، ضخم الرأس واللحية، شثن الكفين والقدمين، ضخم الكراديس، مشربا وجهه حمرة. طويل المسربة، إذا مشى تكفأ تكفئا كأنما ينحط من صبب، لم أر قبله ولا بعده مثله، وكان أدعج العينين، سبط الشعر، سهل الخدين، ذا وفرة كأن عنقه إبريق فضة، وإذا التفت التفت جميعا كأن العرق في وجهه اللؤلؤ الرطب لطيب عرقه وريحه.
قال أبو عبيدة وغيره: شثن الكفين والقدمين: يعني أنهما إلى الغلظ [أقرب]، وقوله: ضخم الكراديس: يعني ألواح الأكتاف. والمسربة: الشعر ما بين السرة واللبة. والصبب: الانحدار. والدعج في العين: السواد، والسبط من الشعر: ضد الجعد.
وكان بين كتفيه صلى الله عليه وسلم خاتم النبوة وهي بضعة ناشزة حولها شعر.
305

وأما أسماؤه فهي كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا محمد، وأنا أحمد، والمقفي، والحاشر، ونبي الرحمة، ونبي التوبة، ونبي الملحمة، والعاقب، والماحي الذي يمحو الله به الكفر. والحاشر الذي يحشر الناس على قدمه. والعاقب: آخر الأنبياء.
وأما شعره وشيبه، فقال أنجس: لم يشنه الله بالشيب. وقيل كان في مقدم لحيته عشرون شعرة بيضاء ولم يخضب. قال جابر بن سمرة: وكان في مفرق رأسه شعرات بيض إذا دهنه غطاهن الدهن، وأخرجت أم سلمة شعره مخضوبا بالحناء والكتم. وقال أبو رمثة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخضب وكان شعره يبلغ كتفيه أو منكبيه. وقالت أم هانىء: كان له ضفائر أربع.
ذكر شجاعته صلى الله عليه وسلم وجوده
قال أنس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشجع الناس، وأسمح الناس، وأحسن الناس، وقع في المدينة فزع فركب فرسا عريانا [لأبي طلحة ما عليه سرج، وعليه السيف] فسبق الناس إليه فجعل يقول: أيها الناس لم تراعوا لم تراعوا. وقال علي بن أبي طالب: كنا إذا اشتد البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أقربنا إلى العدو.
وكفى بهذا شجاعة أن مثل علي الذي هو هو في شجاعته يقول: هذا، وقد تقدم في غزواته ما يستدل به على تمكنه من الشجاعة وأنه لم يقاربه فيها أحد.
306

ذكر عدد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم
وسراريه وأولاده
قال ابن الكلبي: إن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج خمس عشرة امرأة، ودخل بثلاث عشرة، وجمع بين أحدى عشرة، وتوفي عن تسع. وأول امرأة تزوجها خديجة بنت خويلد، وكان تزوجها قبله عتيق بن عابد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، ومات عنها، وتزوجها بعد عتيق أبو هالة بن زرارة بن نباش بن عدي التميمي فولدت له هند بن أبي هالة ثم مات عنها، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم فولدت له ثمانية: القاسم، والطيب، والطاهر، وعبد الله، وزينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة، فأما الذكور فماتوا وهم صغار، وأما الإناث فبلغن ونكحن وولدن. ولم، بتزوج على خديجة في حياتها أحدا، وكان موتها قبل الهجرة بثلاث سنين، ولم يولد له، ولد من غيرها إلا إبراهيم.
فلما توفيت خديجة نكح بعدها سودة بنت زمعة، وميل: عائشة، فأما عائشة ظ. فكانت يوم تزوجها صغيرة بنت ست سنين.
وأما سودة فكانت امرأة ثيبا، وكانت قبله عند السكران بن عمرو بن عبد شمس أخي سهيل بن عمرو، وكان من مهاجرة الحبشة، فتنصر بها ومات فخلف عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة، وكان الذي خطبها عليه خولة بنت حكيم زوجة عثمان بن مظعون، فدخل بسودة بمكة زوجها منه أبوها زمعة بن قيس، فلما تزوجها كان أخوها عبد بن زمعة غائبا، فلما قدم جعل يحثي
307

التراب على رأسه فلما أسلم قال: إني سفيه حيث فعلت ذلك، وندم على ما كان منه.
وأما عائشة فدخل بها بالمدينة وهي ابنة تسع سنين ومات عنها وهي ابنة ثمان عشرة سنة ولم يتزوج بكرا غيرها، وماتت سنة ثمان وخمسين.
ثم تزوج بعدها حفصة بنت عمر بن الخطاب وكانت قبله عند خنيس بن حذافة السهمي (خنيس بالخاء المعجمة والنون والسين المهملة)، وكان بدريا ولم يشهد، من بني سهم بدرا غيره ولم تلد له شيئا، وماتت بالمدينة في خلافة عثمان.
ثم تزوج، بعدها أم سلمة ابنة أبي أمية زاد الركب المخزومية، وكانت قبله عند أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي شهد بدرا وأصابته جراحة يوم أحد فمات منها - وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الأحزاب وماتت سنة تسع وخمسين، وقيل: بعد قتل الحسين رضي الله عنه.
ثم تزوج زينب بنت خزيمة من بني عامر بن صعصعة، ويقال لها أم المساكين وتوفيت في حياته ولم يمت في حياته غيرها وغير خديجة بنت خويلد، وكانت زينب قبله عند الطفيل بن الحارث بن عبد المطلب.
ثم تزوج عام المريسيع جويرية ابنة الحارث بن أبي ضرار الخزاعية من بني المصطلق، وكانت قبله عند مسافع بن صفوان المصطلقي لم تلد له شيئا.
ثم تزوج أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب، وكانت عند عبيد الله به جحش، وكان من مهاجرة الحبشة فتنصر ومات بها فأرسل النبي صلى الله
308

عليه وسلم إلى النجاشي فخطبها عليه وتزوجها وهي بالحبشة، وزوجها منه خالد بن سعيد بن العاص، وقيل: بل خطبها إلى عثمان بن عفان فزوجها منه وبعث فيها إلى النجاشي فساق منه المهر أربعمائة دينار وأرسلها إليه، وتوفيت في خلافة أخيها معاوية فلم تلد له شيئا.
ثم تزوج زينب بنت جحش وكانت قبله عند زيد بن حارثة مولاه فلم تلد له شيئا، فزوجها الله إياه، وبعث في ذلك جبرائيل، وكانت تفخر على نساء النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: أنا أكرمهن وليا وسفيرا وهي أول [من توفي من] أزواجه بعده، توفيت في خلافة عمر.
ثم تزوج عام خيبر صفية بنت حيي بن أخطب وكانت قبله تحت سلام بن مشكم فتوفي عنها وخلف عليها كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق فقتله محمد بن مسلمة صبرا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أعتقها النبي صلى الله
عليه وسلم وتزوجها سنة ست، وماتت سنة ست وثلاثين. ثم تزوج ميمونة ابنة الحارث الهلالية، وكانت قبله عند مسعود بن عمرو بن عمير الثقفي ولم تلد له شيئا ثم خلف عليها أبو رهم بن عبد العزى بعد مسعود، ثم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده، وهي خالة ابن عباس وخالد بن الوليد وتزوجها في عمرة القضاء بسرف.
ثم تزوج امرأة من بني كلاب يقال لها: شاه بنت رفاعة وقيل: هي سني ابنة أسماء بن الصلت وقيل: ابنة الصلت بن حبيب، توفيت قبل أن يدخل بها.
ثم تزوج الشنباء ابنة عمرو الغفارية، وقيل: الكنانية فمات إبراهيم ابنه قبل أن يدخل بها؛ فقالت: لو كان نبيا ما مات ابنه فطلقها.
309

ثم تزوج غزية ابنة جابر الكلابية خطبها عليه أبو أسيد - بضم الهمزة - الساعدي فلما قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم استعاذت بالله منه ففارقها.
ثم تزوج أسماء ابنة النعمان بن الأسود بن شراحيل الكندي، فلما دخل بها وجد بها بياضا فمتعها وردها إلى أهلها، وقيل: بل استعاذت منه أيضا فردها.
والعالية ابنة ظبيان فجمعها ثم فارقها.
وقتيلة بنت قيس أخت الأشعث ة فتوفي عنها قبل أن يدخل بها فارتدت. وفاطمة ابنة شرع.
وقال ابن الكلبي: غزية هي أم شريك، قال وقيل: إنه تزوج خولة ابنة الهذيل بن هبيرة وليلى ابنة الخطيم الأنصارية، عرضت نفسها عليه فتزوجها فأخبرت قومها فقالوا: أنت غيور وله نساء فاستقيليه فاستقالته فأقالها ففارقها.
وأما من خطب النبي صلى الله عليه وسلم من النساء ولم ينكحها: فمنهن أم هانىء بنت أبي طالب خطبها ولم يتزوجها. ومنهن ضباعة بنت عامر من بني قشير. ومنهن صفية بنت بشامة أخت الأعور العنبري. ومنهن أم حبيبة ابنة عمه العباس فوجد العباس أخاه من الرضاعة فتركها. ومنهن جمرة ابنة الحارث ابن أبي حارثة خطبها فقال أبوها: بها سوء ولم يكن بها
310

فرجع إليها فوجدها قد برصت.
وأما سراريه، فهي مارية ابنة شمعون القبطية وولدت له إبراهيم، وريحانة ابنة زيد القرظية وقيل: هي من بني النضير.
ذكر موالي رسول الله صلى الله عليه وسلم
فمنهم زيد بن حارثة، وابنه أسامة بن زيد. وثوبان ويكنى أبا عبد الله أصله من السراة وسكن حمص بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، ومات سنة سبع وخمسين، وقيل: سكن الرملة ولا عقب له.
وشقران، وكان من الحبشة، وقيل: من الفرس واسمه صالح [بن عدي. واختلف في أمره]، فقيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورثه من أبيه، وقيل: كان لعبد الرحمن بن عوف فوهبه للنبي صلى الله عليه وسلم وأعقب.
وأبو رافع، واسمه إبراهيم، وقيل: أسلم فقيل: كان للعباس فوهبه للنبي صلى الله عليه وسلم فأعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: كان لأبي أحيحة بن ص يد بن العاص فأعتق ثلاثة من بنيه أنصباءهم منه، وشهد معهم بدرا وهم كفار وقتلوا يومئذ؛ ووهب خالد بن سعيد نصيبه منه للنبي صلى الله عليه وسلم فأعتقه، وابنه البهي واسمه رافع وأخوه عبيد الله بن أبي رافع، كان يكتب لعلي بن أبي طالب.
311

وسلمان الفارسي؛ وكنيته أبو عبد الله من أهل أصبهان، وقيل: من أهل رامهرمز أصابه سبيا بعض من كلب وبيع من يهودي بوادي القرى فكاتب اليهودي وأعانه النبي صلى الله عليه وسلم حتى عتق.
وسفينة كان لأم سلمة فأعتقته وشرطت عليه خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، [حياته]. قيل: اسمه مهران، وقيل: رباح، وقيل: كان من عجم الفرس.
وأنسة يكنى أبا مسروح، وهو من مولدي السراة وكان يأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهد معه بدرا وأحدا والمشاهد كلها وقيل: كان من الفرس.
وأبو كبشة واسمه سليم قيل: كان من موالي مكة، وقيل: كان من مولدي أرض دوس اشتراه رسول الله في طينه وأعتقه، وشهد بدرا والمشاهد كلها، وتوفي يوم استخلف عمر بن الخطاب سنة ثلاث عشرة.
ورويقع أبو مويهبة كان من مولدي مزينة فاشتراه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعتقه.
ورباح الأسود كان يأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفضالة نزل الشام.
ومدعم قتل بوادي القرى.
312

وأبو ضميرة قيل: كان من الفرس من ولد بشتاسب الملك فأصابه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض وقائعه فأعتقه وهو جد أبي حسين.
ويسار وكان نوبيا أصابه في بعض غزواته فأعتقه وهو الذي قتله العرنيون الذين أغاروا على لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومهران مولاه حدث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وكان له خصي، يقال له: مأبور أهداه له المقوقس مع مارية وسيرين، قيل: إنه الذي قذفت مارية به فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا ليقتله فرآه خصيا، فتركه. وخرج إليه من الطائف، وهو محاصرهم أربعة أعبد فأعتقهم منهم أبو بكرة.
ذكر من كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم
ذكر أن عثمان بن عفان كان يكتب له أحيانا، وعلي بن أبي طالب أحيانا، وخالد بن سعيد، وأبان بن سعيد، والعلاء بن الحضرمي. وأول من كتب له أبي بن كعب، وكتب له زيد بن ثابت، وكتب له عبد الله بن سعد بن أبي سرح ثم ارتد ورجع إلى الإسلام يوم الفتح، وكتب له معاوية بن أبي سفيان، وحنظلة الأسيدي (بضم الهمزة وتشديد الياء كذلك يقوله المحدثون وهو منسوب إلى أسيد بن عمرو بن تميم بالتشديد إجماعا).
313

ذكر أسماء خيله صلى الله عليه وسلم
قيل: أول فرس ملكه صلى الله عليه وسلم فرس اشتراه بالمدينة من أعرابي من فزارة بعشرة أوراق، [وكان اسمه الضرس] فسماه رسول الله السكب، وأول غزوة غزاها عليه أحد. وفرس لأبي بردة بن نيار اسمه ملاوح. وكان له فرس يدعى المرتجز وهو الفرس الذي شهد به خزيمة بن ثابت وكان صاحبه من بني مرة. وكان له ثلاثة أفراس لزاز، والظرب، واللحيف، فأما لزاز فأهداه له المقوقس، وأما اللحيف فأهداه له ربيعة بن أبي البراء. وأما الظرب فأهداه له فروة بن عمرو
الجذامي. وكان له فرس يقال له: الورد أهداه له تميم الداري فوهبه النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب فحمل عليه. في سبيل الله فوجده يباع. وقيل: كان له فرس اسمه اليعسوب.
تفسير هذه الأسماء: السكب الكثير الجري كأنما يصب جريه صبا. واللحيف سمي به لطول ذنبه كأنه يلحف الأرض بذنبه أي يغطيها. ولزاز سمي به لشدة تلززه. والظرب سمي به لشدة خلقه سمي بالجبل الصغير. والمرتجز سمي به لحسن صهيله. واليعسوب سمي به لأنه أجود خيله، لأن اليعسوب الرئيس.
ذكر بغاله وحميره وإبله، صلى الله عليه وسلم
كانت له دلدل، وهي أول بغلة رؤيت في الاسلام أهداها له المقوقس
314

ومعها حمار اسمه عفير، وبقيت البغلة إلى زمن معاوية، وأهدى له فروة بن عمرو بغلة، يقال لها: فضة فوهبها لأبي بكر، وحماره يعفور نفق بعد منصرفه من حجة الوداع.
وأما إبله فكانت له القصواء، وهي التي أخذها من أبي بكر بأربعمائة درهم وهاجر عليها، وكانت من نعم بني الحريش، وبقيت مدة، وهي العضباء، والجدعاء أيضا، قال ابن المسيب: كان في طرف أذنها جدع، وقيل: لم يكن بها جدع.
وأما لقاحه، فكان له عشرون لقحة بالغابة، وهي التي أغار عليها القوم يأتي لبنها أهله كل ليلة، وكان له لقاح
غزار منهن: الحناء، والسمراء والعريس والسعدية، والبغوم، واليسيرة، والرياء، ومهرة، والشقراء. وأما منائحه فكانت له سبع منائح من الغنم: عجرة، وزمزم، وسقيا، وبركة، وورسة، وأطلال، وأطراف. وسبعة أعنز يرعاهن أيمن بن أم أيمن.
تفسير هذه الأسماء: عفير تصغير ترخيم الأعفر وهو الأبيض بياضا غير خالص، ومنه أيضا اسم حماره يعفور كأخضر ويخضور. البغام صوت الإبل، ومنه البغوم، والباقي لا يحتاج إلى شرح.
315

ذكر أسماء سلاحه صلى الله عليه وسلم
كان له ذو الفقار غنمه يوم بدر، وكان لمنبه بن الحجاج، وقيل: لغيره، وغنم من بني قينقاع ثلاثة أسياف، سيفا قلعيا، وسيفا يدعى بتارا، وسيفا يدعى الحتف. وكان له المخذم، ورسوب. وقدم معه المدينة سيفان شهد بأحدهما بدرا يسمى العضب. وكان له ثلاثة أرماح وثلاثة قسي: قوس اسمه الروحاء، وقوس يدعى البيضاء، وقوس نبع يدعى الصفراء.
وكان له درع يقال لها: الصعدية، وكان له درع. يقال لها: فضة غنمها من بني قينقاع، وكان له درع تسمى ذات الفضول كانت عليه يوم أحد. هي وفضة. وكان له ترس فيه تمثال رأس كبش فكرهه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصبح وقد أذهبه الله عز وجل.
تفسير هذه الأسماء: سمي السيف ذو الفقار لحفر فيه. والسيف المخذم القاطع. والرسوب الذي يمضي في الضربة ويثبت فيها.
316

11
ذكر أحداث سنة إحدى عشرة
في المحرم من هذه السنة بعث النبي صلى الله عليه وسلم بعثا إلى الشام وأميرهم أسامة بن زيد هؤلاء وأمره أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين فتكلم المنافقون في إمارته وقالوا: أمر غلاما على جلة المهاجرين والأنصار!
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبل، وإنه لخليق للامارة، وكان أبوه خليقا لها، وأوعب مع أسامة المهاجرون الأولون. منهم أبو بكر، وعمر، فبينما الناس على ذلك ابتدأ برسول الله صلى الله عليه وسلم مرضه.
ذكر مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ووفاته
. ابتدأ برسول الله صلى الله عليه وسلم مرضه أواخر صفر في بيت زينب بنت جحش، وكان يدور على نسائه حتى اشتد مرضه في بيت ميمونة فجمع نساءه فاستأذنهن أن يمرض في بيت عائشة ووصلت أخبار بظهور الأسود العنسي باليمن، ومسيلمة باليمامة، وطليحة في بني أسد وعسكر بسميراء، وسيجئ ذكر أخبارهم إن شاء الله تعالى.
فتأخر مسير أسامة لمرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولخبر الأسود العنسي، ومسيلمة فخرج النبي صلى الله عليه وسلم عاصبا رأسه
317

من الصداع، فقال: إني رأيت [فيما يرى النائم أن] في عضدي سوارين من ذهب فنفختهما فطارا فأولتهما بكذاب اليمامة، وكذاب صنعاء، وأمر بإنفاذ جيش أسامة وقال: لعن الله الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد.
وخرج أسامة، فضرب بالجرف العسكر وتمهل الناس وثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ولم يشغله شدة مرضه عن إنفاذ أمر الله فأرسل إلى نفر من الأنصار في أمر الأسود فأصيب الأسود في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بيوم؛ فأرسل إلى جماعة من الناس يحثهم على جهاد من عندهم من المرتدين.
وقال أبو مويهبة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيقظني رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة، وقال: إني قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع [فانطلق معي]. فانطلقت معه فسلم عليهم، ثم قال: ليهنئكم ما أصبحتم فيه قد أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم. ثم قال: قد أوتيت مفاتيح خزائن الأرض والخلد بها، ثم الجنة وخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي فاخترت لقاء ربي. ثم استغفر لأهل البقيع، ثم انصرف فبدئ بمرضه الذي قبض فيه.
قالت عائشة: فلما رجع من البقيع وجدني وأنا أجد صداعا وأنا أقول: وا رأساه. قال: بل أنا والله يا عائشة وا رأساه. ثم قال: ما ضرك لو مت قبلي فقمت عليك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك؟ فقلت: كأني بك والله لو فعلت ذلك فرجعت إلى بيتي فعرست ببعض نسائك فتبسم وتتام به وجعه، وتمرض في بيتي.
فخرج منه يوما بين رجلين، أحدهما الفضل بن العباس، والآخر علي،
318

قال الفضل: فأخرجته حتى جلس على المنبر [ثم قال ناد بالناس فاجتمعوا إليه] فحمد الله، وكان أول ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم أن صلن على أصحاب أحد فأكثر واستغفر لهم، ثم قال: أيها الناس ان قد دنا مني حقوق من بين أظهركم فمن كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقد منه ومن كنت شتمت له عرضا، فهذا عرضي فليستقد منه، ومن أخذت له مالا فهذا مالي فليأخذ منه ولا يخش الشحناء من قبلي فإنها ليست من شأني. ألا وإن أحبكم إلي من أخذ مني حقا إن كان له أو حللني فلقيت ربي وأنا طيب النفس. ثم نزل فصلى الظهر ثم رجع إلى المنبر فعاد لمقالته الأولى فادعى عليه رجل بثلاثة دراهم فأعطاه عوضها، ثم قال: أيها الناس من كان عنده شيء فليؤده ولا يقل فضوح الدنيا ألا وإن فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة. ثم صلى على أصحاب أحد واستغفر لهم، ثم قال: إن عبدا خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده. فبكى أبو بكر وقال: فديناك بأنفسنا وآبائنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يبقين في المسجد باب إلا باب أبي بكر فإني لا أعلم أحدا أفضل في الصحبة عندي منه، ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن أخوة الإسلام. ثم أوصى بالأنصار فقال: يا معشر المهاجرين أصبحتم تزيدون وأصبحت الأنصار لا تزيد. والأنصار عيبتي التي أويت إليها فأكرموا كريمهم وتجاوزوا عن مسيئهم.
قال ابن مسعود: نعى إلينا نبينا وحبيبنا نفسه قبل موته بشهر، فلما دنا الفراق جمعنا في بيت عائشة فنظر إلينا فشدد ودمعت عيناه، وقال: مرحبا بكم، حياكم الله، رحمكم الله، آواكم الله، حفظكم الله، رفعكم الله،
319

وفقكم الله، سلمكم الله، قبلكم الله، أوصيكم بتقوى الله، وأوصي الله بكم، واستخلفه عليكم، وأؤديكم إليه أني لكم فنه نذير وبشير أن لا تعلوا على الله في عباده وبلاده فإنه قال لي ولكم: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين) قلنا: فمتى أجلك؟ قال: دنا الفراق والمنقلب إلى الله، وسدرة المنتهى، والرفيق الأعلى، وجنة المأوى. فقلنا: من يغسلك؟ قال: أهلي [الأدنى فالأدنى] قلنا: فيم نكفنك؟ قال: في ثيابي [هذه إن شئتم] أوفي بياض. قلنا: فمن يصلي عليك؟ قال: مهلا غفر الله لكم وجزاكم عن نبيكم خيرا. فبكينا وبكى، ثم قال: [إذا غسلتموني وكفنتموني] فضعوني على سريري [في بيتي هذا] على شفير قبري ثم اخرجوا عني ساعة ليصلي علي جبرائيل، لإسرافيل، وميكائيل، وملك الموت مع الملائكة، ثم ادخلوا علي فوجا فوجا فصلوا علي ولا تؤذوني بتزكية ولا رنة [ولا صيحة، وليبدأ بالصلاة علي رجال أهل بيتي ثم نساؤهم ثم أنتم بعد] اقرؤا أنفسكم مني السلام، ومن غاب من أصحابي فاقرئوه مني السلام ومن تابعكم على ديني فأقرئوه السلام.
قال ابن عباس: يوم الخميس وما يوم الخميس ثم جرت دموعه على خديه: اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم مرضه ووجعه فقال: ائتوني بدواة وبيضاء اكتب لكم كتابا لا تضلون بعدي أبدا. فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع فقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يهجر فجعلوا يعيدون عليه فقال: دعوني فما أنا فيه خير مما تدعونني إليه فأوصى [بثلاث] أن يخرج المشركون من جزيرة العرب، وأن يجازى الوفد بنحو مما كان يجيزهم، وسكت عن الثالثة عمد أو قال: نسيتها.
320

وخرج علي بن أبي طالب من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه، فقال الناس: كيف أصبح رسول الله؟ فقال: أصبح بحمد الله بارئا فأخذ بيده العباس بن عبد المطلب، فقال: أنت بعد ثلاث عبد العصا، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيتوفى في مرضه هذا، وأني لأعرف الموت في وجوه بني عبد المطلب فاذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسأله فيمن يكون هذا الأمر فإن كان فينا علمناه وإن كان في غيرنا أمره
فأوصى بنا. فقال علي: لئن سألناها رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعناها لا يعطيناها الناس أبدا، والله لا أسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم [أبدا].
قال: فما اشتد الضحى حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت عائشة: قالت أسماء بنت في صلى الله عليه وسلم عميس: ما وجعه إلا ذات الجنب فلو لددتموه ففعلوا فلما أفاق قال: لم فعلتم هذا؟ قالوا: ظننا أن ك ذات الجنب. قال: لم يكن الله ليسلطها على: ثم قال: لا يبقى أحد في البيت إلا لذ وأنا انظر إلا عمي، وكان العباس حاضرا ففعلوا.
قال أسامة: لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم هبطت أنا ومن معي إلى المدينة فدخلنا عليه وقد أصمت فلا يتكلم فجعل يرفع يده إلى السماء ثم يضعها علي فعلمت أنه يدعو لي قالت عائشة: وكنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كثيرا: إن الله لم يقبض نبيا حتى يخيره. قالت؛ فلما احتضر كان آخر كلمة سمعتها منه وهو يقول: بل الرفيق الأعلى قالت قلت: إذا والله لا يختارنا. وعلمت أنه تخير.
321

ولما اشتد مرضه آذنه بلال بالصلاة فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس. قالت عائشة: فقلت: أنه رجل رقيق وإنه متن يقم مقامك لا يطيق ذلك. فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس. فقلت: مثل ذلك فغضب وقال: إنكن صواحبات يوسف مروا أبا بكر فليصل بالناس. فتقدم أبو بكر فلما دخل في الصلاة وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم خفة، فخرج بين رجلين فلما دنا من أبي بكر تأخر أبو بكر فأشار إليه أن قم مقامك فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى جنب أبي بكر جالسا، فكان أبو بكر يصلي بصلاة النبي، والناس يصلون بصلاة أبي بكر. وصلى أبو بكر بالناس سبع عشرة صلاة؛ وقيل: ثلاثة أيام، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في اليوم الذي توفي فيه إلى الناس في صلاة الصبح، فكاد الناس يفتتنون في صلاتهم فرحا برسول الله بن، وتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فرحا لما رأى من هيئتهم في الصلاة. ثم رجع وانصرف الناس وهم يظنون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أفاق من وجعه ورجع أبو بكر إلى منزله بالسنح. قالت عائشة: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يموت وعنده قدح فيه ماء يدخل يده في القدح ثم يمسح وجهه بالماء ثم يقول: اللهم أعني على سكرات الموت. قال: ثم دخل بعض آل أبي بكر وفي يده سواك فنظر إليه نظرا [عرفت أنه يريده] فأخذته فلينته ثم ناولته إياه، فاستن به ثم وضعه، ثم ثقل في حجري قالت: فذهبت أنظر في وجهه وإذا بصره قد شخص وهو يقول: بل الرفيق الأعلى. فقبض. قالت: توفي وهو بين
322

سحري ونحري فمن سفهي وحداثة سني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض في حجري فوضت رأسه على وسادة وقمت التدم مع النساء وأضرب وجهي.
ولما اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه ونزل به الموت جعل يأخذ الماء بيده ويجعله على وجهه ويقول: واكرباه فتقول فاطمة: واكربي لكربك يا أبتي. فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا كرب على أبيك بعد اليوم، فلما رأى شدة جزعها استدناها وسارها فبكت، ثم سارها الثانية فضحكت، فلما توفي رسول الله سألتها عائشة عن ذلك قال: أخبرني أنه ميت فبكيت، ثم أخبرني أني أول أهله لحوقا به فضحكت. وروي عنها أنها قالت: ثم سارني الثاني وأخبرني أني سيدة نساء أهل الجنة فضحكت.
وكان موته يوم الاثنين لثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، ودفن من الغد نصف النهار، وقيل: مات نصف النهار يوم الاثنين لليلتين بقيتا من ربيع الأول.
ولما توفي كان أبو بكر بمنزله بالسنح وعمر حاضر فلما توفي قام عمر فقال: إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي وإنه والله ما مات ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران والله ليرجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أنه مات. وأقبل أبو بكر وعمر يكلم الناس، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مسجى في ناحية البيت
323

فكشف عن وجهه ثم قبله وقال: بأبي أنت وأمي طيب حيا وميتا، أما الموتة التي كتب الله عليك فقد منها، ثم رد الثوب على وجهه ثم خرج وعمر يكلم الناس، فأمره بالسكوت فأبن [إلا أن يتكلم، فلما رآه أبو بكر لا ينصت أقبل] على الناس فلما سمع الناس أمه أقبلوا عليه وتركوا عمر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. ثم تلا هذه الآية (وما محمد إلا رسول قد خلط من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين) قال ة فوالله لكأن الناس ما سمعوها إلا منه. قال عمر: فوالد ما هو إلا إذ سمعتها فعقرت حتى وقعت على الأرض ما تحملني رجلاي وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات.
ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصل خبره إلى مكة وعامله عليها عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أمية استخفى عتاب وارتجت مكة وكاد أهلها يرتدون فقام سهيل بن عمر وعلى باب الكعبة وصاح بهم فاجتمعوا إليه فقال: يا أهل مكة لا تكونوا آخر من أسلم وأول من ارتد، والله ليتمن الله هذا الأمر كما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقد رأيته قائما مقامي هذا وحده وهو يقول: قولوا معي: لا إله إلا الله تدين لكم العرب؛ وتؤدي إليكم العجم الجزية، والله لتنفقن كنوز كسرى وقيصر سبيل الله، فمن بين مستهزئ ومصدق فكان ما رأيتم، والله ليكونن
324

الباقي فامتنع الناس من الردة، وهذا المقام الذي قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أسر سهيل بن عمرو في بدر لعمر بن الخطاب وقد ذكر هناك.
حديث السقيفة وخلافة أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه
لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة ليبايعوا سعد بن عبادة: فبلغ ذلك أبا بكر فأتاهم ومعه عمر، وأبو عبيدة بن الجراح فقال: ما هذا؟ فقالوا: منا أمير ومنكم أمير، فقال أبو بكر: منا الأمراء ومنكم الوزراء. ثم قال أبو بكر: قد رضيت لكم أحد فذين الرجلين عمر وأبا عبيدة أمين هذه الأمة. فقال عمر: أيكم يطيب نفسا أن يخلف قدمين قدمهما النبي صلى الله عليه وسلم فبايعه عمر وبايعه الناس. فقالت الأنصار أو بعض الأنصار: لا نبايع إلا عليا. قال: وتخلف علي، وبنو هاشم، والزبير؛ وطلحة عن البيعة وقال الزبير: لا أغمد سيفا حتى يبايع علي. فقال عمر: خذوا سيفه واضربوا به الحجر، ثم أتاهم عمر فأخذهم للبيعة.
وقيل: لما سمع علي بيعة أبي بكر خرج في قميص ما عليه إزار ولا رداء عجلا حتى بايعه ثم استدعى إزاره ورداءه فتجلله.
والصحيح أن أمير المؤمنين ما بايع إلا بعد ستة أشهر، والله أعلم، وقيل: لما اجتمع الناس على بيعة أبي بكر أقبل أبو سفيان وهو يقول:
325

إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلا دم يا آل عبد مناف: فيم أبو بكر من أموركم؟ أين المستضعفان؟ أين الأذلان؟ علي والعباس؟ ما بال هذا الأمر في أقل حي من قريش؟ ثم قال لعلي: أبسط يدك أبايعك، فوالله لئن شئت لأملأنها عليه خيلا ورجلا فأبى علي عليه السلام عليه فتمثل بشعر المتلمس:
ولن يقيم على خسف يراد به * إلا الأذلان عير الحي والوتد
هذا على الخسف مربوط برمته * وذا يشج فلا يبكي له أحد
فزجره علي وقال: والله إنك ما أردت بهذا إلا الفتنة وإنك والله طالما بغيت للاسلام شرا لا حاجة لنا في نصيحتك.
وقال ابن عباس: كنت أقرئ عبد الرحمن بن عوف القرآن فجيم عمر وحججنا معه، فقال لي عبد الرحمن: شهدت أمير المؤمنين اليوم بمنى وقال له رجل: سمعت فلانا يقول: لو مات عمر لبايعت فلانا. فقال عمر: إني لقائم العشية في الناس أحذرهم هؤلاء الرهط الذين يريدون أن يغتصبوا الناس أمرهم، قال: فقلت: يا أمير المؤمنين إن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم وهم الذين يغلبون على مجلسك وأخاف أن تقول مقالة لا يعوها ولا يحفظوها ويطيروا بها، ولكن أمهل حتى تقدم المدينة وتخلص بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقول ما قلت [متمكنا] فيعوا مقالتك. فقال: والله لأقومن بها أول مقام أقومه بالمدينة.
قال: فلما قدمت المدينة هجرت يوم الجمعة لحديث عبد الرحمن، فلما جلس عمر على المنبر حمد الله وأثنى
عليه، ثم قال بعد أن ذكر الرجم وما نسخ من القرآن فيه: إنه بلغني أن قائلا منكم يقول: لو مات أمير المؤمنين بايعت
326

فلانا، فلا يغرن امرءا أن يقول إن بيعة أبي بكر كانت فلتة، فقد كانت كذلك ولكن الله وقى شرها وليس منكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر وإنه كان خيرنا حين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن عليا، والزبير ومن معهما تخلفوا عنا في بيت فاطمة وتخلف عنا الأنصار واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر فقلت له: انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار. فانطلقنا نحوهم فلقينا رجلان صالحان من الأنصار أحدهما عويم بن ساعدة، والثاني معن بن عدي، فقالا لنا: ارجعوا اقضوا أمركم بينكم. [فقلنا والله لنأتينهم] قال: فأتينا الأنصار وهم مجتمعون في سقيفة بني ساعدة وبين أظهرهم رجل مزمل قلت: من هذا؟ قالوا: سعد بن عبادة. [فقلت: ما شأنه؟ قالوا:] وجع. فقام رجل منهم فحمد الله وأثنى عليه وقال: أما بعد فنحن الأنصار، وكتيبة الاسلام، وأنتم يا معشر قريش رهط بيننا وقد دفت إلينا دافة من قومكم فإذا هم يريدون أن يغصبونا الأمر.
فلما سكت وكنت قد زورت في نفسي مقالة أقولها بين يدي أبي بكر؛ فلما أردت أن أتكلم قال أبو بكر على رسلك. [فكرهت أن أعصيه] فقام فحمد الله وما ترك شيئا كنت زورت في نفسي إلا جاء به أو بأحسن منه وقال: يا معشر الأنصار إنكم لا تذكرون فضلا إلا وأنتم له أهل، وإن العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لقريش، هم أوسط العرب دارا أو نسبا، وقد رضيت لكم أحد فذين الرجلين - وأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح وإني والله ما كرهت من كلامه كلمة غيرها إن كنت أقدم فتضرب عنقي فيما لا يقربني إلى إثم أحب إلي من أن أؤمر على قوم فيهم أبو بكر.
فلما قضى أبو بكر كلامه قام منهم رجل فقال: أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب منا أمير ومنكم أمير. وارتفعت الأصوات وكثر اللغط فلما خفت الاختلاف قلت لأبي بكر: ابسط يدك أبايعك فبسط يده فبايعته
327

وبايعه الناس، ثم نزونا على سعد بن عبادة، فقال قائلهم: قتلتم سعدا. فقلت قتل الله سعدا وإنا والله ما وجدنا أمرا هو أقوى من بيعة أبي بكر خشيت إن فارقت القوم ولم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة، فإما أن نتابعهم على ما لا نرضى به وإما أن نخالفهم فيكون فسادا.
وقال أبو عمرة الأنصاري: لما قبض النبي صلى الله عليه وسلم اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة وأخرجوا سعد بن عبادة ليولوه الأمر وكان مريضا، فقال بعد أن حمد الله: يا معشر الأنصار لكم سابقة [في الدين] وفضيلة [في الإسلام] ليست لأحد من العرب،! إن محمدا صلى الله عليه وسلم لبث في قومه بضع عشرة سنة يدعوهم [إلى عبادة الرحمن، وخلع الأنداد والأوثان] فما آمن به إلا القليل ما كانوا يقدرون على منعه، ولا على إعزاز دينه، ولا على دفع ضيم حتى إذا أراد الله بكم الفضيلة ساق إليكم الكرامة ورزقكم الإيمان به وبرسوله، والمنع له ولأصحابه، والإعزاز له ولدينه، والجهاد لأعدائه، فكنتم أشد الناس على عدوه حتى استقامت العرب لأمر الله طوعا وكرها، وأعطى البعيد المقادة صاغرا، فدانت لرسوله بأسيافكم العرب وتوفاه الله وهو عنكم راض، [وبكم] قرير العين، استبدوا بهذا الأمر دون الناس فإنه لكم دونهم.
فأجابوه بأجمعهم أن قد وفقت وأصبت الرأي، ونحن نوليك هذا الأمر فإنك مقنع ورضا للمؤمنين. ثم إنهم ترادوا الكلام [بينهم فقالوا: فإن] أبن المهاجرون من قريش وقالوا: نحن المهاجرون وأصحابه الأولون وعشيرته وأولياؤه ر فعلام تنازعوننا هذا الأمر بعده] فقالت طائفة منهم: فإنا نقول: منا أمير ومنكم أمير، ولن نرضى بدون هذا أبدا. فقال سعد: هذا: أول الوهن.
وسمع عمر الخبر فأتى منزل النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر فيه فأرسل إليه أن اخرج إلي فأرسل إليه إني مشتغل، فقال عمر:
328

قد حدث أمر لا بد لك من حضوره فخرج إليه فأعلمه الخبر، فمضيا مسرعين نحوهم، ومعهما أبو عبيدة. قال عمر: فأتيناهم وقد كنت زورت كلاما أقوله لهم، فلما دنوت أقول أسكتني أبو بكر وتكلم بكل ما أردت أن أقول فحمد الله، وقال: إن الله قد بعث فينا رسولا [إلى خلقه] وشهيدا على أمته ليعبدوه ويوحدوه وهم يعبدون من دونه آلهة شتى من حجر، وخشب فعظم على العرب أن يتركوا دين آبائهم فخص الله المهاجرين الأولين من قومه بتصديقه [والإيمان به] والمواساة له والصبر معه على شدة أذى قومهم وتكذيبهم إياه وكل الناس لهم مخالف زأر عليهم فلم يستوحشوا لقلة عددهم وشنف الناس لهم، فهو أول فن عبد الله في هذه الأرض وآمن بالله وبالرسول وهم أولياؤه وعشيرته وأحق الناس بهذا الأمر من بعده، لا ينازعهم إلا ظالم، وأنتم يا معشر الأنصار من لا ينكر فضلهم في الدين ولا سابقتهم في الاسلام رضيكم الله أنصارا لدينه ورسوله، وجعل إليكم هجرته، [وفيكم جلة أزواجه وأصحابه] فليس بعد المهاجرين الأولين عندنا بمنزلتكم فنحن الأمراء، وأنتم الوزراء، لا تفاوتون بمشورة ولا تقضى دونكم الأمور.
فقام الحباب بن المنذر بن الجموح فقال: يا معشر الأنصار أملكوا عليكم أمركم فإن الناس في ظلكم، ولن يجترئ مجترئ على خلافكم، ولا يصدر [الناس] إلا عن رأيكم، أنتم أهل العز [والثروة]، وأولو العدد والمنعة، وذوو البأس [والنجدة]، وإنما ينظر الناس إلى ما تصنعون، ولا تختلفوا فيفسد عليكم [رأيكم، وينتقض عليكم] أمركم، أبن هؤلاء إلا ما سمعتم فمنا أمير ومنكم أمير.
فقال عمر: هيهات لا يجتمع اثنان [في قرن]! والله لا ترضى العرب
329

أن تؤمركم ونبينا من غيركم، ولا تمتنع العرب أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم ولنا بذلك الحجة الظاهرة على من ينازعنا سلطان محمد، ونحن أولياؤه وعشيرته!
فقال الحباب بن المنذر: يا معشر الأنصار املكوا على أيديكم، ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر، فإن أبوا عليكم [ما سألتموه] فأجلوهم عن هذه البلاد، وتولوا عليهم هذه الأمور، فأنتم والله أحق بهذا الأمر منهم، فإنه بأسيافكم دان الناس لهذا الدين، أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب، أنا أبو شبل في عرينة الأسد. والله لئن شئتم لنعيدنها جذعة.
فقال عمر: إذا ليقتلك الله فقال: بل إياك يقتل.
فقال أبو عبيدة: يا معشر الأنصار إنكم أول من نصر [وآزر] فلا تكونوا أول من بذل وغير، فقام بشير بن سعد أبو النعمان بن بشير فقال: يا معشر الأنصار إنا والله وإن كنا أولى فضيلة في جهاد المشركين وسابقة في الدين ما أردنا به إلا رضا ربنا وطاعة نبينا والكدح لأنفسنا، فما ينبغي أن نستطيل على الناس بذلك، ولا نبتغي به [من] الدنيا عرضا إلا أن محمدا صلى الله عليه وسلم من قريش وقومه أولى به، وأيم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر أبدا فاتقوا الله ولا تخالفوهم.
فقال أبو بكر: هذا عمر، [وهذا] أبو عبيدة فأيهما شئتم فبايعوا. فقالا: والله لا نتولى هذا الأمر عليك وأنت أفضل المهاجرين، وخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة، وهي أفضل لين المسلمين، أبسط يدك نبايعك. فلما ذهبا يبايعانه سبقهما بشير بن سعد فبايعه، فناداه الحباب بن المنذر عقتك
330

عقاق! أنفست على ابن عمك الامارة؟ فقال: لا والله ولكني كرهت أن أنازع القوم حقهم.
ولما رأت الأوس ما صنع بشير وما تطلب الخزرج من تأمير سعد قال بعضهم لبعض وفيهم أسيد بن حضير، وكان نقيبا: والله لئن وليتها الخزرج مرة لا زالت لهم عليكم بذلك الفضيلة ولا جعلوا لكم [معهم] فيها نصيبا أبدا فقوموا فبايعوا أبا بكر. [فقاموا إليه] فبايعوه فانكسر على سعد والخزرج ما أجمعوا عليه، وأقبل الناس يبايعون أبا بكر من كل جانب.
ثم تحول سعد بن عبادة إلى داره فبقى أياما وأرسل إليه [أن أقبل] فبايعه فإن الناس قد بايعوا، فقال: لا والله حتى أرميكم بما في كنانتي [من نبلي] وأخضب سنان رمحي وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي وأقاتلكم بأهل بيتي ومن أطاعني ولو اجتمع معكم الجن والانس ما بايعتكم حتى أعرض على ربي، فقال عمر: لا تدعه حتى يبايع، فقال بشير بن سعد: إنه قد لج وأبن ولا يبايعكم حتى يقتل وليس بمقتول حتى يقتل معه أهله وطائفة من عشيرته [فاتركوه] ولا يضركم تركه، ط نما هو رجل واحد فتركوه.
وجاءت أسلم فبايعت فقوي أبو بكر بهم وبايع الناس بعد.
قيل: إن عمرو بن حريث قال لسعيد بن زيد: متى بويع أبو بكر؟ قال: يوم مات رسول الله صلى الله عليه
وسلم كرهوا أن يبقوا بعض يوم، وليسوا في جماعة.
قال الزهري: بقي علي، وبنو هاشم، والزبير ستة أشهر لم يبايعوا أبا بكر حتى ماتت فاطمة رضي الله عنها فبايعوه.
331

فلما كان الغد من بيعة أبي بكر جلس على المنبر وبايعه الناس بيعة عامة، ثم تكلم فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس قد وليت عليكم، ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة. والكذب خيانة، والضعيف فيكم
قوي عندي حتى آخذ له حقه، والقوي ضعيف عندي حتى آخذ منه الحق إن شاء الله نعالى، لا يدع أحد منكم الجهاد فإنه لا يدعه قوم إلا ضربهم الله بالذل، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم. قوموا إلى صلاتكم رحمكم الله.
(أسيد بن حضير بضم الهمزة وبالحاء المهملة المضمومة وبالضاد المعجمة وآخره راء).
ذكر تجهيز النبي صلى الله عليه وسلم ودفنه
فلما بويع أبو بكر أقبل الناس على جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودفن يوم الثلاثاء، وقيل: بقي ثلاثة أيام لم يدفن والأول أصح. وكان الذي ولي غسله علي، والعباس، والفضل، وقثم ابنا العباس، وأسامة بن زيد؛ وشقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحضرهم أوس بن خولي الأنصاري وكان بدريا، وكان العباس وابناه يقلبونه، وأسامة، وشقران يصبون الماء وعلى ينسله، وعليه قميصه وهو يقول: بأبي أنت وأمي ما أطيبك حيا وميتا. ولم ير من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يري من ميت.
332

واختلفوا في غسله في ثيابه أو مجردا، فألقى الله عليهم النوم، ثم كلمهم مكلم لا يدرى من هو أن غسلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه ثيابه ففعلوا ذلك.
وكفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب. ثوبين صحاريين. وبرد حبرة أدرج فيها إدراجا.
واختلفوا في موضع دفنه فقال أبو بكر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما قبض نبي إلا دفن حيث قبض فرفع فراشه ودفن موضعه، وحفر له أبو طلحة الأنصاري لحدا، ودخل الناس يصلون عليه أرسالا. الرجال، ثم النساء، ثم الصبيان، ثم العبيد، ودفن ليلة الأربعاء، وكان الذي نزل قبره علي بن أبي طالب، والفضل وقثم ابنا العباس، وشقران، وقال أوس بن خولي الأنصاري: لعلي أنشدك الله وحظنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره بالنزول، فنزل.
وكان المغيرة بن شعبة يدعي أنه أحدث الناس عهدا برسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: ألقيت خاتمي في قبره عمدا فنزلت لاخذها، وسأل ناس من أهل العراق عليا عن ذلك، فقال: كذب المغيرة أحدثنا عهدا به قثم بن العباس.
واختلفوا في عمره يوم مات. فقال ابن عباس، وعائشة، ومعاوية وابن المسيب: كان عمره ثلاثا وستين سنة، وقال ابن عباس أيضا ودغفل بن حنظلة: كان عمره خمسا وستين سنة، وقال عروة بن الزبير: كان عمره ستين سنة.
333

ذكر إنفاذ جيش أسامة بن زيد
قد ذكرنا استعمال النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد على جيش وأمره بالتوجه إلى الشام - وكان قد ضرب البعث على أهل المدينة ومن حولها وفيهم عمر بن الخطاب، فتوفي النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسر الجيش وارتدت العرب إما عامة أو خاصة من كل قبيلة وظهر النفاق واشرأبت يهود والنصرانية، وبقي المسلمون كالغنم في الليلة المطيرة لفقد نبتهم وقلتهم وكثرة عدوهم، فقال الناس لأبي بكر: إن هؤلاء، يعنون جيش أسامة، جند المسلمين، والعرب _ على ما تري _ قد انتقضت بك فلا ينبني أن تفرق جماعة المسلمين عنك. فقال أبو بكر: والذي نفسي بيده لو ظننت أن السباع تختطفني لأنفذت جيش أسامة كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم. فخاطب الناس وأمرهم بالتجهز للغزو، وأن يخرج كل من هو من جيش أسامة إلى معسكره بالجرف. فخرجوا كما أمرهم، وحبس أبو بكر من بقي من تلك القبائل التي كانت لهم الهجرة في ديارهم فصاروا مسايح حول قبائلهم وهم قليل.
فلما خرج الجيش إلى معسكرهم بالجرف وتكاملوا أرسل أسامة عمر بن الخطاب - وكان معه في جيشه إلى أبي بكر يستأذنه أن يرجع بالناس، وقال: إن معي وجوه الناس وجئتهم ولا آمن على خليفة رسول الله وحرم رسول الله والمسلمين أن يتخطفهم المشركون. وقال من مع أسامة من الأنصار
334

لعمر بن الخطاب: إن أبا بكر خليفة رسول الله [فان أبي] إلا أن نمضي فأبلغه عنا واطلب إليه أن يولي أمرنا [رجلا] أقدم سنا من أسامة.
فخرج عمر بأمر أسامة إلى أبي بكر فأخبره بما قال أسامة، فقال: لو خطفتني الكلاب والذئاب لأنفذته كما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أرد قضاء قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو لم يبق في القري غيري لأنفذته. قال عمر: فإن الأنصار تطلب رجلا أقدم سنا من أسامة. فوثب أبو بكر - وكان جالسا - وأخذ بلحية عمر، وقال: ثكلتك أقك يا بن الخطاب! استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأمرني أن أعزله؟
ثم خرج أبو بكر حتى أتاهم، وأشخصهم وشيعهم وهو ماش وأسامة راكب، فقال له أسامة: يا خليفة رسول الله: لتركبن أو لأنزلن. فقال: والله لا نزلت ولا أركب، وما علي أن أغبر قدمي ساعة في سبيل الله! فإن للغازي بكل خطوة يخطوها سبعمائة حسنة تكتب له وسبعمائة درجة ترفع له، وسبعمائة سيئة تمحى عنه.
فلما أراد أن يرجع قال لأسامة: إن رأيت أن تعينني بعمر فافعل فأذن له. ثم وصاهم، فقال: لا تخونوا، ولا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلا ولا شيخا كبيرا، ولا امرأة، ولا تعقروا نخلا وتحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة، ولا بقرة، ولا بعيرا [إلا لمأكلة]. وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له، وسوف تقدمون على قوم قد فحصوا أوساط رؤوسهم وتركوا حولها مثل العصائب فاخفقوهم بالسيف خفقا. اندفعوا باسم الله.
وأوصى أسامة أن يفعل ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فسار وأوقع بقبائل من ناس قضاعة التي ارتدت وغنم، وعاد وكانت غيبته
335

أربعين يوما، وقيل: سبعين يوما.
وكان إنفاذ جيش أسامة أعظم الأمور نفعا للمسلمين، فإن العرب قالوا: لو لم يكن بهم قوة لما أرسلوا هذا الجيش فكفوا عن كثير مما كانوا يريدون أن يفعلوه.
ذكر أخبار الأسود العنسي باليمن
واسمه عيهلة بن كعب بلى ظ عوف العنسي بالنون، وعنس بطن من مذحج، وكان يلقب ذا الخمار لأنه معتما متخمرا أبدا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جمع لباذان حين أسلم وأسلم أهل اليمن عمل اليمن جميعه، وأمره على جميع مخاليفه فلم يزل عاملا عليه حتى مات، فلما مات باذان فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراءه في اليمن فاستعمل عمرو بن حزم على نجران، وخالد بن سعيد بن العاص على ما بين نجران وزبيد، وعامر بن شهر على همدان، وعلى صنعاء شهر بن باذان، وعلى عك والأشعريين الطاهر بن أبي هالة، وعلى مأرب أبا موسى، وعلى الجند يعلى بن أمية، وكان معاذ معلما يتنقل في عمالة كل عامل باليمن وحضرموت، واستعمل على أعمال حضرموت زياد بن لبيد الأنصاري، وعلى السكاسك والسكون عكاشة بن ثور، وعلى بني معاوية بن كندة عبد الله أو المهاجر، فاشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم
336

فلم يذهب حتى وجهه أبو بكر فمات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء عماله على اليمن وحضرموت.
وكان أول من اعترض الأسود الكاذب شهر، وفيروز، وداذويه، وكان الأسود العنسي لما عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع وتمرض من السفر غير مرض موته بلغه ذلك فادعى النبوة، وكان مشعبذا يريهم الأعاجيب، فاتبعته مذحج، وكانت ردة الأسود أول ردة في الاسلام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغزا نجران، فأخرج عنها عمرو بن حزم، وخالد بن سعيد، ووثب قيس بن عبد يغوث بن مكشوح
على فروة بن مسيك. وهو على مراد فأجلاه ونزل منزله، وسار الأسود عن نجران إلى صنعاء، وخرج إليه شهر بن باذان فلقيه فقتل شهر لخمس وعشرين ليلة من خروج الأسود، وخرج معاذ هاربا حتى لحق بأبي موسى وهو بمأرب فلحقا بحضرموت. ولحق بفروة من تم على إسلامه من مذحج.
واستتب للأسود ملك اليمن، ولحق أمراء اليمن إلى الطاهر بن أبي هالة إلا عمرا وخالدا فإنهما رجعا إلى المدينة والطاهر بجبال عك وجبال صنعاء، وغلب الأسود على ما بين مفازة حضرموت إلى الطائف إلى البحرين والأحساء إلى عدن، واستطار أمره كالحريق وكان معه سبعمائة فارس يوم لقي شهرا سوى الركبان واستغلظ أمره، وكان خليفته في مذحج عمرو بن معد يكرب، وكان خليفته على جنده قيس بن عبد يغوث. وأمر الأبناء إلى فيروز وداذويه.
وكان الأسود تزوج امرأة شهر بن باذان بعد قتله، وهي ابنة عم فيروز. وخاف من بحضرموت من المسلمين أن يبعث إليهم جيشا أو يظهر بها كذاب
337

مثل الأسود فتزوج معاذ إلى السكون فعطفوا عليه.
وجاء إليهم وإلى من باليمن من المسلمين كتاب النبي صلى الله عليه وسلم يأمرهم بقتال الأسود فقام معاذ في ذلك، وقويت نفوس المسلمين، وكان الذي قدم بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم وبر بن يحنس الأزدي، قال جشنس الديلمي فجاءتنا كتب النبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا بقتاله إما مصادمة آو غيلة يعني إليه وإلى فيروز وداذويه وأن نكاتب من عنده دين، فعملنا في ذلك. فرأينا أمرا كثيفا، وكان قد تغير لقيس بن عبد يغوث، فقلنا: إن قيسا يخاف على دمه فهو لأول دعوة فدعوناه وأبلغناه عن النبي صلى الله عليه وسلم فكأنما نزلنا عليه من السماء فأجابنا وكاتبنا الناس فأخبره الشيطان شيئا من ذلك فدعا قيسا أن شيطانه يأمره بقتله لميله إلى عدوه. فحلف قيس لأنت أعظم في نفسي من أن أحدث نفسي بذلك. ثم أتانا فقال: يا جشنس، ويا فيروز؛ ويا داذويه فاخبرنا بقول الأسود، فبينا نحن معه يحدثنا إذا أرسل إلينا الأسود فتهددنا، فاعتذرنا إليه ونجونا منه ولم نكد وهو مرتاب بنا ونحن نحذره فبينا نحن على ذلك إذ جاءتنا كتب عامر بن شهر، وذي زود وذي مران، وذي الكلاع، وذي ظلم يبذلون لنا النصر فكاتبناهم وأمرناهم أن لا يفعلوا شيئا حتى نبرم أمرنا وإنما اهتاجوا لذلك حين كاتبهم النبي صلى الله عليه وسلم، وكتب أيضا إلى أهل نجران فأجابوه، وبلغ ذلك الأسود وأحس بالهلاك.
قال: فدخلت على آزاد وهي امرأته التي تزوجها بعد قتل زوجها شهر بن باذان فدعوتها إلى ما نحن عليه وذكرتها قتل زوجها شهر وإهلاك عشيرتها وفضيحة النساء فأجابت وقالت: والله ما خلق الله شخصا أبغض إلي منه ما يقوم لله على حق ولا ينتهي عن محرم فأعلموني أمركم أخبركم بوجه الأمر. قال: فخرجت وأخبرت فيروز، وداذويه، وقيسا، قال: وإذ قد جاء رجل فدعا
338

قيسا إلى الأسود فلي خل في عشرة من مذحج، وهمدان فلم يقدر على قتله معهم وقال له: ألم أخبرك الحق وتخبرني الكذب؟ إنه يعني شيطانه - يقول لي: إن لا تقطع من قيس يده يقطع رقبتك. فقال قيس: أنه ليس من الحق أن أهلك وأنت رسول الله فمرني بما أحببت أو اقتلني فموتة أهون من موتات.
فرق له وتركه، وخرج قيس فمر بنا وقال: اعملوا عملكم ولم يقعد عندنا، فخرج علينا الأسود في جمع فقمنا له وبالباب مائة ما بين بقرة وبعير فنحرها ثم خلاها، ثم قال: أحق ما بلغني عنك يا فيروز وبوأ له الحربة لقد هممت أن أنحرك. فقال: لقد اخترتنا لصهرك وفضلتنا [على الأبناء فلو لم تكن نبيا لما بعنا نصيبنا منك بشيء، فكيف وقد اجتمع لنا بك أمر الدنيا والآخرة. فقال له: اقسم هذه فقسمها ولحق به، وهو يسمع سعاية رجل بفيروز وهو يقول له: أنا قاتله غدا وأصحابه ثم ألتفت فإذا فيروز فأخبره بقسمتها ودخل الأسود ورجع فيروز فأخبرنا الخبر فأرسلنا إلى قيس فجاءنا فاجتمعنا على أن أعود إلى المرأة فأخبرها بعزيمتنا ونأخذ رأيها فأتيتها فأخبرتها فقالت: هو متحرز. وليس من القصر شيء إلا والحرس محيطون به غير هذا البيت فإن ظهره إلى مكان كذا وكذا فإذا أمسيتم فانقبوا عليه فإنكم من دون الحرس وليس دون قتله شيء وستجدون فيه سراجا وسلاحا.
فتلقاني الأسود خارجا من بعض منازلة فقال: ما أدخلك علي؟ ووجأ رأسي حتى سقطت، وكان شديدا، فصاحت المرأة فأدهشته [عني ولولا ذلك لقتلني] وقالت: جاءني ابن عمي زائرا ففعلت به هذا! فتركني، فأتيت أصحابي فقلت النجاء الهرب وأخبرتهم الخبر.
فإنا على ذلك حيارى إذ جاءنا رسولها يقول: لا تدعن ما فارقتك عليه فلم أزل به حتى اطمأن. فقلنا لفيروز: أيتها فتثبت منها. ففعل فلما أخبرته قال: ننقب على بيوت مبطنة، فدخل فاقتلع البطانة وجلس عندها
339

كالزائر. فدخل عليها الأسود فأخذته غيرة فأخبرته برضاع وقرابة منها محرم، فأخرجه فلما أمسيا عملنا في أمرنا وأعلمنا أشياعنا وعجلنا عن مراسلة الهمدانيين والحميريين فنقبنا البيت [من خارج] ودخلنا وفيه سراج تحت جفنة واتقينا بفيروز كان أشدنا فقلنا: انظر ماذا ترى؟ فخرج ونحن بينه وبين الحرس [معه في مقصورة] فلما دنا من باب البيت سمع غطيطا شديدا والمرأة قاعدة؟ فلما قام على باب أجلسه الشيطان وتكلم على لسانه وقال: ما لي ولك يا فيروز؟ فخشي إن رجع أن يهلك وتهلك المرأة فعاجله وخالطه وهو مثل الجمل فأخذ برأسه فقتله ودق عنقه ووضع ركبته في ظهره فدقه.. ثم قام ليخرج فأخذت المرأة بثوبه وهي ترى أنه لم يقتله، فقال: قد قتلته وأرحتك منه، وخرج فأخبرنا فدخلنا معه فخار كما يخور الثور فقطعت رأسه بالشفرة. وابتدر الحرس المقصورة يقولون ما هذا؟ فقالت المرأة: النبي يوحى إليه فخمدوا، وقعدنا نأتمر بيننا فيروز. وداذويه. وقيس كيف نخبر أشياعنا؟ فاجتمعنا على النداء فلما طلع الفجر نادينا بشعارنا الذي بيننا وبين أصحابنا ففزع المسلمون. والكافرون، ثم نادينا بالأذان فقلت: أشهد أن محمدا رسول الله. وأن عيهلة كذاب. وألقينا إليهم رأسه، وأحاط بنا أصحابه وحرسه وشنوا الغارة وأخذوا صبيانا كثيرة وانتهبوا فنادينا أهل صنعاء من عنده منهم فأمسكه ففعلوا، فلما خرج أصحابه فقدوا سبعين رجلا فراسلونا وراسلناهم على أن يتركوا لنا ما في أيديهم ونترك ما في أيدينا ففعلنا ولم يظفروا منا بشيء وترددوا فيما بين صنعاء ونجران وتراجع أصحاب النبي صلى الله عليه
340

وسلم إلى أعمالهم، وكان يصلي بنا معاذ بن جبل وكتبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبره وذلك في حياته.
وأتاه الخبر من ليلته وقدمت رسلنا وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجابنا أبو بكر، قال ابن عمر: أتى الخبر من السماء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في ليلته التي قتل فيها فقال: قتل العنسي قتله رجل مبارك من أهل بيت مباركين، قيل: من قتله؟ قال: قتله فيروز.
قيل: كان أول أمر العنسي إلى آخره ثلاثة أشهر، وقيل: قريب من أربعة أشهر، وكان قدوم البشير بقتله في آخر ربيع الأول بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فكان أول بشارة أتت أبا بكر وهو بالمدينة.
قال فيروز: لما قتلنا الأسود عاد أمرنا كما كان وأرسلنا إلى معاذ بن جبل فصلى بنا ونحن راجون مؤملون لم يبق شيء نكرهه إلا تلك الخيول من أصحاب الأسود فأتى موت النبي صلى الله عليه وسلم فانتقضت الأمور واضطربت الأرض.
(العنسي بالعين والنون).
* * *
وفي هذه السنة ماتت فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم [ليلة الثلاثاء] لثلاث خلون من رمضان. وهي ابنة تسع وعشرين سنة أو نحوها، وقيل: توفيت بعد النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشهر، وقيل: بستة أشهر. وغسلها علي وأسماء بنت عميس وصلى عليها العباس بن عبد المطلب، ودخل قبرها العباس وعلي والفضل بن العباس.
وفيها توفي عبد الله بن أبي بكر الصديق، وكان أصابه سهم بالطائف وهو مع النبي صلى الله عليه وسلم رماه به أبو محجن [ودمل الجرح] ثم انتقض عليه فمات في شوال.
341

وفي هذا العام الذي بويع فيه أبو بكر ملك يزدجرد بلاد فارس.
وفيه أعني سنة إحدى عشرة اشترى عمر بن الخطاب مولاه أسلم بمكة من ناس من الأشعريين.
ذكر أخبار الردة
قال عبد الله بن مسعود: لقد قمنا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما كدنا نهلك فيه لولا أن الله من علينا بأبي بكر أجمعنا على أن لا نقاتل على ابنة مخاض وابنة لبون؛ وأن نأكل قرى عربية ونعبد الله حتى يأتينا اليقين، فعزم الله لأبي بكر على قتالهم، فوالله ما رضي منهم إلا بالخطة المخزية أو الحرب المجلية. فأما الخطة المخزية فأن يقروا بأن من قتل منهم في النار ومن قتل منا في الجنة، وأن يدوا قتلانا ونغنم ما أخذنا منهم، وأن ما أخذوا منا مردود علينا وأما الحرب المجلية فان يخرجوا من ديارهم.
وأما أخبار الردة فإنه لما مات النبي صلى الله عليه وسلم وسير أبو بكر جيش أسامة ارتدت العرب وتضرمت الأرض نارا وارتدت كل قبيلة عامة أو خاصة إلا قريشا وثقيفا، واستغلظ أمر مسيلمة وطليحة واجتمع على طليحة عوام طيء، وأسد، وارتدت غطفان تبعا لعيينة بن حصن فإنه قال: نبي من الحليفين - يعني أسدا وغطفان - أحب إلينا من نبي من قريش، وقد مات محمد وطليحة حي فاتبعه وتبعته غطفان، وقدمت
342

رسل النبي صلى الله عليه وسلم من اليمامة وأسد وغيرهما وقد مات فدفعوا كتبهم لأبي بكر وأخبروه الخبر عن مسيلمة وطليحة فقال: لا تبرحوا حتى تجيء رسل أمرائكم وغيرهم بأدهى مما وصفتم، فكان كذلك وقدمت كتب أمراء النبي صلى الله عليه وسلم من كل مكان بانتقاض العرب عامة وخاصة وتسلطهم على المسلمين. فحاربهم أبو بكر بما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحاربهم بالرسل فرد رسلهم بأمره وأتبع رسلهم رسلا وانتظر بمصادمتهم قدوم أسامة، فكان عمال رسول الله صلى الله عليه وسلم على قضاعة وكلب امرؤ القيس بن الأصبغ الكلبي، وعلى القين عمرو بن الحكم، وعلى سعد هذيم معاوية الوالبي فارتد وديعة الكلبي فيمن تبعه وبقي امرؤ القيس على دينه، وارتد زميل بن قطبة القيني وبقي عمرو، وارتد معاوية فيمن اتبعه من سعد هذيم، فكتب أبو بكر امرئ القيس وهو جد سكينة بنت الحسين فسار بوديعة إلى عمرو فأقام لزميل والي معاوية العذري وتوسطت خيل أسامة ببلاد قضاعة فشن الغارة فيهم فغنموا وعادوا سالمين.
ذكر خبر طليحة الأسدي
وكان طليحة بن خويلد الأسدي من بني أسد بن خزيمة قد تنبأ في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجه إليه النبي صلى الله عليه وسلم ضرار بن الأزور عاملا على بني أسد وأمرهم بالقيام على من ارتد فضعف أمر طليحة حتى لم يبق إلا أخذه فضربه بسيف فلم يصنع فيه
343

شيئا، فظهر بين الناس أن السلاح لا يعمل فيه، فكثر جمعه، ومات النبي صلى الله عليه وسلم وهم على ذلك، فكان طليحة يقول: إن جبرائيل يأتيني وسجع للناس الأكاذيب، وكان يأمرهم بترك السجود في الصلاة ويقول: إن الله لا يصنع بتعفر وجوهكم وتقبح أدباركم شيئا. اذكروا الله، اعبدوه قياما إلى غير ذلك، وتبعه كثير من العرب عصبية، فلهذا كان أكثر أتباعه من أسد، وغطفان، وطيئ فسارت فزارة وغطفان إلى جنوب طيبة، وأقامت طيئ على حدود أراضيهم، وأسد بسميراء، واجتمعت عبس وثعلبة بن سعد ومرة بالأبرق من الربذة، واجتمع إليهم ناس من بني كنانة. فلم تحملهم البلاد فافترقوا فرقتين أقامت فرقة بالأبرق وسارت فرقة إلى ذي القصة، وأمدهم طليحة بأخيه حبال فكان عليهم وعلى من معهم من الدئل وليث ومدلج، وأرسلوا إلى المدينة يبذلون الصلاة ويمنعون الزكاة. فقال أبو بكر: والله لو منعوني عقالا لجاهدتهم عليه، وكان عقل الصدقة على أهل الصدقة [مع الصدقة] وردهم، فرجع وفدهم فأخبروهم بقلة من في المدينة، وأطمعوهم فيها، وجعل أبو بكر بعد مسير الوفد على أنقاب المدينة عليا، وطلحة، والزبير، وابن مسعود، وألزم أهل المدينة بحضور المسجد خوف الغارة من العدو لقربهم فما لبثوا إلا ثلاثا حتى طرقوا المدينة غارة مع الليل وخلفوا بعضهم بذي حسي ليكونوا لهم رداءا فوافوا ليلا الأنقاب وعليها المقاتلة فمنعوهم، وأرسلوا إلى أبي بكر بالخبر، [فأرسل إليهم أبو بكر أن الزموا أماكنكم ففعلوا]، فخرج في أهل المسجد على النواضح فردوا العدو واتبعوهم حتى بلغوا ذا حسي، فخرج عليهم الردء بانحاء قد نفخوها و [جعلوا] فيها الحبال ثم دهدهوها على الأرض فنفرت إبل المسلمين، وهم عليها [ولا تنفر من شيء نفارها من الانحاء] ورجعت بهم إلى المدينة ولم يصرع مسلم.
344

وظن الكفار بالمسلمين الوهن وبعثوا إلى أهل ذي القصة بالخبر فقدموا عليهم، وبات أبو بكر [ليلته يتهيأ] يعبي الناس، وخرج على تعبئة يمشي وعلى ميمنته النعمان بن مقرن، وعلى ميسرته عبد الله بن مقرن، وعلى أهل الساقة سويد بن مقرن
[معه الركائب]، فما طلع الفجر إلا وهم والعدو على صعيد واحد، فما شعروا بالمسلمين حتى وضعوا فيهم السيوف فما ذر قرن الشمس حتى ولوهم الأدبار وغلبوهم على عامة ظهرهم وقتل رجال، وأتبعهم أبو بكر حتى نزل بذي القصة، وكان أول الفتح، ووضع بها النعمان بن مقرن في عدد ورجع إلى المدينة فذل له المشركون. فوثب بنو عبس وذبيان على من فيهم من المسلمين فقتلوهم فحلف أبو بكر ليقتلن في المشركين بمن قتلوا من المسلمين وزيادة وازداد المسلمون قوة وثباتا.
وطرقت المدينة صدقات نفر كانوا على صدقة الناس، منهم. صفوان، والزبرقان بن بدر، وعدي بن حاتم وذلك لتمام ستين يوما من مخرج أسامة، وقدم أسامة بعد ذلك بأيام، وقيل: كانت غزوته وعوده في أربعين يوما، فلما قدم أسامة استخلفه أبو بكر على المدينة وجنده معه ليستريحوا ويريحوا ظهرهم، ثم خرج فيمن كان معه فناشده المسلمون ليقيم فأبن وقال: لأواسينكم بنفسي، وسار إلى ذي حسي وذي القصة حتى نزل بالأبرق فقاتل من به، فهزم الله المشركين وأخذ الحطيئة أسيرا، فطارت عبس وبنو بكر. وأقام أبو بكر بالأبرق أياما وغلب على بني ذبيان وبلادهم وحماها لدواب المسلمين وصدقاتهم.
ولما انهزمت عبس وذبيان رجعوا إلى طليحة وهو ببزاخة وكان رحل من سميراء إليها فأقام عليها، وعاد أبو بكر إلى المدينة.
فلما استراح أسامة وجنده - وكان قد جاءهم صدقات كثيرة تفضل عليهم - قطع أبو بكر
345

البعوث وعقد الألوية فعقد أحد عشر لواء، عقد لواء لخالد بن الوليد وأمره بطليحة بن خويلد فإذا فرغ سار إلى مالك بن نويرة بالبطاح إن أقام له وعقد لعكرمة بن أبي جهل وأمره بمسيلمة. وعقد للمهاجر بن أبي أمية وأمره بجنود العنسي، ومعونة الأبناء على قيس بن مكشوح ومن أعانه من أهل اليمن عليهم، ثم يمضي إلى كندة بحضرموت. وعقد لخالد بن سعيد وبعثه إلى مشارف الشام. وعقد لعمرو بن العاص وأرسله إلى قضاعة، وعقد لحذيفة بن محصن الغلفاني وأمره بأهل دبا، وعقد لعرفجة بن هرثمة وأمره بمهرة وأمرهما أن يجتمعا وكل واحد منهما على صاحبه في عمله. وبعث شرحبيل بن حسنة في أثر عكرمة بن أبي جهل وقال: إذا فرغ من اليمامة فالحق بقضاعة وأنت على خيلك تقاتل أهل الردة. وعقد لمعن بن جابر وأمره ببني سليم ومن معهم من هوازن. وعقد لسويد بن مقرن وأمره بتهامة باليمن، وعقد للعلاء بن الحضرمي وأمره بالبحرين. ففصلت الأمراء من ذي القصة ولحق بكل أمير جنده وعهد إلى كل أمير، وكتب إلى جميع المرتدين نسخة واحدة يأمرهم بمراجعة الاسلام ويحذرهم، وسير الكتب إليهم مع رسله. ولما انهزمت عبس وذبيان ورجعوا إلى طليحة ببزاخة أرسل إلى جديلة والغوث من طيء يأمرهم باللحاق به فتعجل إليه بعضهم وأمروا قومهم باللحاق بهم فقدموا على طليحة وكان أبو بكر بعث عدي بن حاتم قبل خالد إلى طيء واتبعه خالدا وأمره أن يبدأ بطيء، ومنهم يسير إلى بزاخة ثم يثلث بالبطاح ولا يبرح إذا فرغ من قوم حتى يأذن له، وأظهر أبو بكر للناس أنه خارج إلى خيبر بجيش حتى يلاقي خالدا يرهب العدو بذلك، وقدم عدي على طيء فدعاهم وخوفهم فأجابوه، وقالوا له: استقبل الجيش فأخره عنا حتى نستخرج من عند طليحة منا لئلا يقتلهم فاستقبل
346

عدي خالدا وأخبره بالخبر فتأخر خالد، وأرسلت طيء إلى إخوانهم عند طليحة، فلحقوا بهم فعادت طيء إلى خالد بإسلامهم، ورحل خالد يريد جديلة فاستمهله عدي عنهم، ولحق بهم عدي يدعوهم إلى الإسلام فأجابوه، فعاد إلى خالد بإسلامهم ولحق بالمسلمين ألف راكب منهم، وكان خير مولود
في أرض طي وأعظمه بركة عليهم.
وأرسل خالد بن الوليد عكاشة بن محصن، وثابت بن أقرم الأنصاري طليعة فلقيهما حبال أخو طليحة فقتلاه فبلغ خبره طليحة، فخرج هو وأخوه سلمة فقتل طليحة عكاشة وقتل أخوه ثابتا ورجعا.
وأقبل خالد بالناس فرأوا عكاشة وثابتا قتيلين فجزع لذلك المسلمون وانصرف بهم خالد نحو طيء فقال له طيء:
نحن نكفيك قيسا فإن بني أسد حلفاؤنا، فقال: قاتلوا أي الطائفتين شئتم. فقال عدي بن حاتم: لو نزل هذا على الذين [هم] أسرتي الأدنى فالأدنى لجاهدتهم عليه، والله لا أمتنع عن جهاد بني أسد لحلفهم. فقال له خالد: إن جهاد الفريقين جهاد، لا تخالف رأي أصحابك وامض بهم إلى القوم الذين هم لقتالهم أنشط، ثم تعبى لقتالهم ثم سار حتى التقيا على بزاخة وبنو عامر قريبا يتربصون على من تكون الدائرة؛ قال: فاقتتل الناس على بزاخة.
وكان عيينة بن حصن مع طليحة في سبعمائة من بني فزارة، فقاتلوا قتالا شديدا وطليحة متلفف في كسائه يتنبأ لهم، فلما اشتدت الحرب كر عيينة على طليحة، وقال له: هل جاءك جبرائيل بعد؟ قال لا. فرجع فقاتل ثم كر على طليحة فقال له: لا أبالك أجاءك جبرائيل؟ قال: لا. فقال عيينة: حتى متى؟ قد والله بلغ منا. ثم رجع فقاتل قتالا شديدا ثم
347

كر على طليحة فقال: هل جاءك جبرائيل؟ قال: نعم. قال: فماذا قال لك؟ قال قال لي: إن لك رحى كرحاه وحديثا لا تنساه. فقال عيينة: قد علم الله أنه سيكون حديث لا ننساه، انصرفوا يا بني فزارة فإنه كذاب. فانصرفوا وانهزم الناس.
وكان طليحة قد أعد فرسه وراحلته لامرأته النوار، فلما غشوه ركب فرسه وحمل امرأته ثم نجا بها وقال: يا معشر فزارة من استطاع أن يفعل هكذا وينجو بامرأته فليفعل. ثم انهزم فلحق بالشام، ثم نزل على كلب فأسلم حين بلغه أن أسدا وغطفان قد أسلموا ولم يزل مقيما في كلب حتى مات أبو بكر.
وكان خرج معتمرا [في إمارة أبي بكر] ومر بجنبات المدينة فقيل: لأبي بكر هذا طليحة. فقال: ما أصنع به قد أسلم. ثم أتن عمر فبايعه حين استخلف فقال له: أنت قاتل عكاشة وثابت والله لا أحبك أبدا. فقال: يا أمير المؤمنين ما يهمك من رجلين أكرمهما الله بيدي ولم يهني بأيديهما. فبايعه عمر وقال له: ما بقي من كهانتك؟ فقال: نفخة أو نفختان ثم رجع إلى قومه فأقام عندهم حتى خرج إلى العراق.
ولما انهزم الناس عن طليحة أسر عيينة بن حصن فقدم به على أبي بكر فكان صبيان المدينة يقولون له وهو مكتوف: يا عدو الله أكفرت بعد إيمانك؟ فيقول: والله ما آمنت بالله طرفة عين فتجاوز عنه أبو بكر وحقن دمه.
وأخذ من أصحاب طليحة رجل كان عالما به فسأله خالد عما كان يقول: فقال: إن مما أتى به والحمام واليمان، والصرد الصوام، قد صمن
348

قبلكم بأعوام، ليبلغن ملكنا العراق والشام.
قال: ولم يؤخذ منهم سبي لأنهم كانوا قد أحرزوا حريمهم فلما انهزموا أقروا بالاسلام خشية على عيالاتهم فأمنهم.
(حبال بكسر الحاء المهملة وفتح الباء الموحدة وبعد الألف لام، وذو القصة بفتح القاف والصاد المهملة، وذو حسى بضم الحاء المهملة والسين المهملة المفتوحة ودبا بفتح الدال المهملة وبالباء الموحدة وبزاخة بضم الباء الموحدة وبالزاي والخاء المعجمة).
ذكر ردة بني عامر، وهوازن، وسليم
وكانت بنو عامر تقدم إلى الردة رجلا وتؤخر أخرى، وتنظر ما تصنع م سد، وغطفان، فلما أحيط بهم وبنو عامر على قادتهم وسادتهم كان قرة بن هبيرة في كعب ومن لافها، وعلقمة بن علاثة في كلاب ومن لافها، وكان أسلم ثم ارتد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولحق بالشام بعد فتح الطائف، فلما توفي النبي صلى الله عليه وسلم أقبل مسرعا حتى عسكر في بني كعب، فبلغ ذلك أبا بكر فبعث إليه سرية عليها القعقاع بن عمرو - وقيل: بل قعقاع بن سور - وقال له: لتغير على علقمة لعله تقتله أو يستأسره. فخرج [في تلك السرية] حتى أغار على الماء الذي عليه علقمة، وكان لا يبرح! لا مستعدا فسابقهم على فرسه فسبقهم وأسلم أهله وولده، وأخذهم القعقاع، وقدم بهما على أبي بكر فجحدوا أن يكونوا على حال علقمة، ولم يبلغ أبا بكر عنهم أنهم فارقوا دارهم وقالوا له: ما ذنبنا فيما صنع علقمة؟ فأرسلهم، ثم أسلم فقبل ذلك منه.
349

وأقبلت بنو عامر بعد هزيمة أهل بزاخة يقولون: ندخل فيما خرجنا منه ونؤمن بالله ورسوله وأتوا خالدا فبايعهم على ما بايع أهل بزاخة وأعطوه بأيديهم على الاسلام، وكانت بيعته (عليكم عهد الله وميثاقه لتؤمنن بالله ورسوله ولتقيمن الصلاة ولتؤتن الزكاة وتبايعون على ذلك أبناءكم ونساءكم) فيقولون: نعم، ولم يقبل من أحد من أسد وغطفان وطئ وسليم وعامر ألا أن يأتوه بالذين حرقوا ومثلوا وعدوا على الإسلام في حال ردتهم فأتوه بهم فمثل بهم، وحرقهم، ورضخهم بالحجارة، ورمى بهم من الجبال، ونكسهم في الآبار، وخزق بالنبال، وأرسل إلى أبي بكر يعلمه ما فعل، وأرسل إليه قرة بن هبيرة ونفرا معه موثقين وزهير أيضا.
وأما أم زمل فاجتمع فلال غطفان، وطيء، وسليم، وهوازن وغيرها إلى أم زمل سلمى بنت مالك بن حذيفة بن بدر وكانت أمها أم قرفة بنت ربيعة بن بدر، وكانت أم زمل قد سبيت أيام أمها أم قرفة، وقد تقدمت النزوة. فوقعت لعائشة فأعتقتها، ورجعت إلى قومها وارتدت؛ واجتمع إليها الفل فأمرتهم بالقتال وكثف جمعها وعظمت شوكتها، فلما بلغ خالدا أمرها سار إليها فاقتتلوا قتالا شديدا أول يوم، وهي واقفة على جمل كان لأمها وهي في مثل عزها فاجتمع على الجمل فوارس فعقروه وقتلوها، وقتل حول جملها مائة رجل، وبعث بالفتح إلى أبي بكر.
وأما خبر الفجاءة السلمي واسمه إياس بن عبد ياليل فإنه جاء إلى أبي بكر، فقال له: أعني بالسلاح أقاتل به أهل الردة. فأعطاه سلاحا وأمره أمرة فخالف إلى المسلمين، وخرج حتى نزل بالجواء وبعث نخبة بن أبي الميثاء، من بني الشريد وأمره بالمسلمين، فشن الغارة على كل مسلم في سليم وعامر وهوازن، فبلغ ذلك أبا بكر، فأرسل إلى طريفة بن حاجز يأمره
350

أن يجمع له ويسير إليه، وبعث إليه عبد الله بن قيس الحاشي عونا فنهضا إليه وطلباه فلاذ منهما ثم لقياه على الجواء فاقتتلوا، وقتل نخبة، وهرب الفجاءة فلحقه طريفة فأسره ثم بعث به إلى أبي بكر، فلما قدم أمر أبو بكر أن توقد له نار في مصلى المدينة ثم رمي به فيها مقموطا.
وأما خبر أبي شجرة بن عبد العزى السلمي وهو ابن الخنساء فإنه تهان قد ارتد فيمن ارتد من سليم وثبت بعضهم على الاسلام مع معن بن حاجز وكان أميرا لأبي بكر، فلما سار خالد إلى طليحة كتب إلى معن أن يلحقه فيمن معه على الاسلام من بني سليم فسار واستخلف على عمله أخاه طريفة بن حاجز فقال أبو شجرة حين ارتد:
صحا القلب عن مي هواه وأقصرا * وطاوع فيها العاذلين فأبصرا
ألا أيها المدلي بكثرة قومه * وحظك منهم أن تضام وتقهرا
سل الناس عنا كل يوم كريهة * إذا ما التقينا دار عين وحسرا
ألسنا نعاطي ذا الطماح لجامة؟ * ونطعن في الهيجا إذا الموت أقفرا!
فرويت رمحي من كتيبة خالد * وإني لأرجو بعدها أن أعمرا
ثم إن أبا شجرة أسلم، فلما كان زمن عمر قدم المدينة فرأي عمر وهو يقسم في المساكين فقال: أعطني فإني ذو حاجة، فقال: ومن أنت؟ فقال: أنا أبو شجرة بن عبد العزى السلمي. قال: أي عدو الله لا والله ألست الذي تقول:
351

فريت رمحي من كتيبة خالد * وإني لأرجو بعدها أن أعمرا
وجعل يعلوه بالدرة في رأسه حتى سبقه عدوا إلى ناقته فركبها ولحق بقومه وقال:
ضن علينا أبو حفص بنائله * وكل مختبط يوما له ورق
في أبيات.
ذكر قدوم عمرو بن العاص من عمان
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أرسل عمرو بن العاص إلى جيفر عند منصرفه من حجة الوداع فمات رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمرو بعمان، فأقبل حتى انتهى إلى البحرين فوجد المنذر بن ساوي في الموت، ثم خرج عنه إلى بلاد بني عامر فنزل بقرة بن هبيرة، وقرة يقدم رجلا ويؤخر أخري ومعه عسكر من بني عامر فذبح له وأكرم مثواه، فلما أراد الرحلة خلا به قرة، وقال: يا هذا إن العرب لا تطيب لكم نفسا بالإتاوة فإن أعفيتموها من أخذ أموالها فستسمع لكم وتطيع، وإن أبيتم فلا تجتمع عليكم.
فقال له عمرو: أكفرت يا قرة؟ أتخوفنا بالعرب! فوالله لأوطئن عليك الخيل في حفش أمك. والحفش: بيت تنفرد فيه النفساء. وقدم على المسلمين
352

بالمدينة فأخبرهم، فأطافوا به يسألونه فأخبرهم أن العساكر معسكرة من دبا إلى المدينة فتفرقوا وتحلقوا حلقا، وأقبل عمر يريد التسليم على عمرو فمر على حلقة فيها علي، وعثمان، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن، وسعد، فلما دنا عمر منهم سكتوا، فقال: فيم أنتم؟ فلم يجيبوه. فقال لهم: إنكم تقولون: ما أخوفنا على قريش من العرب. قالوا: صدقت. قال: فلا تخافوهم إنا والله منكم على العرب أخوف مني من العرب عليكم، والله لو تدخلون معاشر قريش جحرا لدخلته العرب في آثاركم فاتقوا الله فيهم.
ومض عمر، فلما قدم بقرة بن هبيرة على أبي بكر أسيرا استشهد بعمرو على إسلامه، فأحضر أبو بكر عمرا فسأله فأخبره بقول قرة إلى أن وصل إلى ذكر الزكاة، فقال قرة: مهلا يا عمرو. فقال: كلا والله لأخبرنه بجميعه فعفا عنه أبو بكر وقبل إسلامه.
ذكر بني تميم وسجاح
وأما بنو تميم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرق فيهم عماله، فكان الزبرقان منهم، وسهل بن منجاب، وقيس بن عاصم، وصفوان بن صفوان، وسبرة بن عمرو، ووكيع بن مالك، ومالك بن نويرة، فلما وقع الخبر بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم سار صفوان بن صفوان إلى أبي بكر بصدقات بني عمرو، وأقام قيس بن عاصم ينظر ما الزبرقان صانع ليخالفه، فقال حين أبطأ عليه الزبرقان في عمله: وا ويلتاه من ابن العكلية! والله ما
353

أدري ما أصنع؟ لئن أنا بعثت بالصدقة إلى أبي بكر وبايعته لينحرن ما معه قي بني سعد فيسودني فيهم ولئن نحرتها في بني سعد ليأتين أبا بكر فيسودني عنده فقسمها على المقاعس والبطون. ووافى الزبرقان فاتبع صفوان بن صفوان بصدقات الرباب. وهي ضبة بن أد بن طابخة، وعدي، وتيم، وعكل، وثور بنو عبد مناة بن أد، وبصدقات عوف والأبناء، وهذه بطون من تميم، ثم ندم قيس [بعد ذلك] فلما أظله العلاء بن الحضرمي أخرج الصدقة. فتلقاه - بها. ثم خرج معه، وتشاغلت تميم بعضها ببعض.
وكان ثمامة بن أثال الحنفي يأتيه أمداد تميم، فلما حدث هذا الحديث أضر ذلك بثمامة، وكان مقاتلا لمسيلمة الكذاب حتى قدم عليه عكرمة بن أبي جهل، فبينما الناس ببلاد تميم مسلمهم بإزاء من أراد الردة وارتاب إذ جاءتهم سجاح بنت الحارث بن سويد بن عقفان التميمية، قد أقبلت من الجزيرة، وادعت النبوة وكانت ورهطها في أخوالها من تغلب تقود. أفناء ربيعة معها الهذيل بن عمران في بني تغلب، وكان نصرانيا فترك دينه وتبعها، وعقبة بن هلال في النمر، وزياد بن فلان في إياد، والسليل بن قيس في شيبان فأتاهم أمر أعظم مما هم فيه لاختلافهم.
وكانت سجاح تريد غزو أبي بكر فأرسلت إلى مالك بن نويرة تطلب الموادعة فأجابها وردها عن غزوها وحملها على أحياء من بني تميم، فأجابته، وقالت: أنا امرأة من بني يربوع. فإن كان ملك فهو لكم. وهرب منها
354

عطارد بن حاجب. وسادة بني مالك، وحنظلة إلى بني العنبر وكرهوا ما صنع وكيع وكان قد وادعها، وهرب منها أشباههم من بني يربوع وكرهوا ما صنع مالك بن نويرة واجتمع مالك. ووكيع. وسجاح، فسجعت لهم سجاح. وقالت: أعدوا الركاب، واستعدوا للنهاب. ثم أغيروا على الرباب. فليس دونهم حجاب. فساروا إليهم فلقيهم ضبة وعبد مناة فقتل بينهم قتلى كثيرة وأسر بعضهم من بعض. ثم تصالحوا. وقال قيس بن عاصم: شعرا ظهر فيه ندمه عنى تخلفه عن أبي بكر بصدقته.
ثم سارت سجاح في جنود الجزيرة حتى بلغت النباج. فأغار عليهم أوس بن خزيمة الهجيمي في بني عمرو فأسر الهذيل وعقة ثم اتفقوا على أن يطلق أسرى سجاح ولا يطأ أرض أوس، ومن معه.
ثم خرجت سجاح في الجنود وقصدت اليمامة، وقالت: عليكم باليمامة. ودفوا دفيف الحمامة. فإنها غزوة صرامه. لا يلحقكم بعدها ملامه. فقصدت بني حنيفة، فبلغ ذلك مسيلمة فخاف إن هو شغل بها أن يغلب ثمامة وشرحبيل بن حسنة والقبائل التي حولها على حجر وهي اليمامة فأهدى لها، ثم أرسل إليها يستأمنها على نفسه حتى يأتيها فأمنته، فجاءها في أربعين من بني. حنيفة [وكانت راسخة في علم النصرانية] فقال مسيلمة: لنا نصف الأرض. وكان لقريش نصفها لو عدلت، وقد رد الله عليك النصف الذي ردت قريش 0
وكان مما شرع [مسيلمة] لهم أن من أصاب ولدا واحدا ذكرا لا يأتي النساء حتى يموت ذلك الولد فيطلب الولد حتى يصيب ابنا ثم يمسك.
وقيل: بل تحصن منها فقالت له: أنزل. فقال لها: أبعدي أصحابك. ففعلت وقد ضرب لها قبة وجمرها فتذكر بطيب الريح الجماع واجتمع بها.
355

فقالت له: ما أوحى إليك ربك. فقال: ألم تر إلى ربك كيف فعل بالحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، بين صفاق وحشى. قالت: وماذا أيضا؟ قال: ان الله خلق للنساء أفراجا وجعل الرجال لهن أزواجا، فتولج فيهن إيلاجا ثم تخرجها إذا تشاء إخراجا، فينتجن لنا سخالا إنتاجا. قالت: أشهد إنك نبي.
قال: هل لك أن أتزوجك واكل بقومي وقومك العرب؟ قالت: نعم. قال:
ألا قومي إلى النيك * فقد هيء لك المضجع
فإن شئت ففي البيت * وإن شئت ففي المخدع
وإن شئت سلقناك * وإن شئت عنى أربع
وإن شئت بثلثيه * وإن شئت به أجمع
قالت: بل به أجمع فإنه للشمل أجمع. قال: بذلك أوحى إلي. فأقامت عنده ثلاثا ثم انصرفت إلى قومها فقالوا لها: ما عندك؟ قالت: كان على الحق فتبعته. وتزوجته. قالوا: هل أصدقك شيئا؟ قالت لا. قالوا: فارجعي فاطلبي الصداق فرجعت فلما رآها أغلق باب الحصن وقال: مالك؟ قالت: أصدقني. قال: من مؤذنك. قالت: شبث بن ربعي الرياحي. فدعاه وقال له: ناد في أصحابك أن مسيلمة رسول الله قد وضع عنكم صلاتين مما جاءكم به محمد صلاة الفجر وصلاة العشاء الآخرة فانصرفت ومعها أصحابها، منهم عطارد بن حاجب، وعمرو بن الأهتم، وغيلان بن خرشة، وشبث بن ربعي. فقال عطارد بن
حاجب:
أمت نبيتنا أنثى نطوف بها * وأصبحت أنبياء الناس ذكرانا
356

وصالحها مسيلمة على غلات اليمامة سنة تأخذ النصف، وتترك عنده من يأخذ النصف فأخذت النصف وانصرفت إلى الجزيرة. وخلفت الهذيل، وعقة، وزيادا لأخذ النصف الباقي فلم يفاجئهم إلا دنو خالد إليهم فارفضوا.
فلم تزل سجاح في تغلب حتى نقلهم معاوية عام المجاعة [في زمانه] وجاءت معهم وحسن إسلامهم لإسلامها وانتقلت إلى البصرة وماتت بها، وصلى عليها سمرة بن جندب، وهو على البصرة لمعاوية قبل قدوم عبيد الله بن زياد من خراسان وولايته البصرة.
وقيل: انها لما قتل مسيلمة سارت إلى أخوالها تغلب بالجزيرة فماتت عندهم ولم يسمع لها بذكر.
ذكر مالك بن نويرة
لما رجعت سجاح إلى الجزيرة ارعوى مالك بن نويرة وندم وتحير في أمره وعرف وكيع وسماعة قبح ما أتيا فراجعا رجوعا حسنا ولم يتجبرا، وأخرجا الصدقات فاستقبلا بها خالدا وسار خالد بعد أن فرغ من فزارة وغطفان وأسد وطيء يريد البطاح. وبها مالك بن نويرة قد تردد عليه أمره وتخلفت الأنصار عن خالد. وقالوا: ما هذا بعهد الخليفة إلينا [إن الخليفة عهد إلينا] إن نحن فرغنا من بزاخة أن نقيم حتى يكتب إلينا. فقال خالد: قد عهد إلي أن أمضي وأنا الأمير، * ولو لم يأت كتاب بما رأيته فرصة وكنت إن أعلمته فاتتني لم أعلمه، وكذلك لو ابتلينا بأمر ليس فيه منه عهد لم ندع أن نرى أفضل ما يحضرنا ثم
357

نعمل به، فأنا قاصد إليه ومن معي ولست أكرههم. ومضى خالد وندمت الأنصار وتذامروا وقالوا: إن أصاب القوم خيرا حرمتموه وإن أصيبوا ليجتنبنكم الناس فلحقوه.
ثم سار حتى قدم البطاح فلم يجد بها أحدا، وكان مالك بن نويرة قد فرقهم ونهاهم عن الاجتماع، وقال: يا بني
يربوع إنا دعينا إلى هذا الأمر فأبطأنا عنه فلم نفلح، وقد نظرت فيه فرأيت الأمر يتأتى لهم بغير سياسة وإذا الأمر لا يسوسه الناس فإياكم ومناوأة قوم صنع لهم فتفرقوا وادخلوا في هذا الأمر فتفرقوا على ذلك. ولما قدم خالد البطاح بث السرايا وأمرهم بداعية الإسلام وأن يأتوه بكل من لم يجب وإن امتنع أن يقتلوه. وكان قد أوصاهم أبو بكر أن يؤذنوا إذا نزلوا منزلا فإن أذن القوم فكفوا عنهم وإن لم يؤذنوا فاقتلوا وانهبوا وإن أجابوكم إلى داعية الاسلام فسائلوهم عن الزكاة، فإن أقروا فاقبلوا منهم وإن أبوا فقاتلوهم.
قال: فجاءته الخيل بمالك بن نويرة في نفر معه من بني ثعلبة بن يربوع فاختلفت السرية فنهم. وكان فيهم أبو قتادة فكان فيمن شهد أنهم قد أذنوا وأقاموا وصلوا فلما اختلفوا أمر بهم فحبسوا في ليلة باردة لا يقوم لها شيء فأمر خالد مناديا فنادى أدفئوا أسراكم وهي في لغة كنانة القتل فظن القوم أنه أراد القتل ولم يرد إلا الدفء فقتلوهم فقتل ضرار بن الأزور مالكا، وسمع خالد الواعية فخرج وقد فرغوا منهم. فقال: إذا أراد الله أمرا أصابه. [وقد اختلف القوم فيهم، فقال أبو قتادة: هذا عملك فزبره خالد فغضب ومضى حتى أتى أبا بكر فغضب أبو بكر حتى كلمه عمر فيه فلم يرض إلا أن يرجع إليه فرجع إليه حتى قدم معه المدينة] وتزوج خالد أم تميم امرأة مالك فقال عمر لأبي بكر: إن سيف خالد فيه رهق وأكثر عليه في ذلك فقال: [هيه] يا عمر! تأول
358

فأخطأ فارفع لسانك عن خالد فإني لا أشيم سيفا سله الله على الكافرين. وودي مالكا، وكتب إلى خالد أن يقدم عليه ففعل. ودخل المسجد وعليه قباء [له عليه صدأ الحديد] وقد غرز في عمامته أسهما فقام إليه عمر فنزعها وحطمها وقال له [أرئاء] قتلت امرءا مسلما ثم نزوت على امرأته! والله لأرجمنك بأحجارك. وخالد لا يكلمه يظن أن رأي أبي بكر مثله، ودخل على أبي بكر فأخبره الخبر، واعتذر إليه فعذره وتجاوز عنه وعنفه في التزويج الذي كانت عليه العرب من كراهته أيام الحرب. فخرج خالد وعمر جالس فقال: هلم إلي يا ابن أم سلمة فعرف عمر أن أبا بكر قد رضى عنه فلم يكلمه.
وقيل: إن المسلمين لما غشوا مالكا وأصحابه ليلا أخذوا السلاح. فقالوا: نحن المسلمون، فقال أصحاب مالك: ونحن المسلمون قالوا لهم: ضعوا السلاح فوضعوه. ثم صلوا. وكان يعتذر في قتله إنه قال: ما أخال صاحبكم إلا قال: كذا وكذا، فقال له: أو ما تعده لك صاحبا؟ ثم ضرب عنقه.
وقدم متمم بن نويرة على أبي بكر يطلب بدم أخيه، ويسأله أن يرد عليهم سبيهم، فأمر أبو بكر برد السبي وودى مالكا من بيت المال، ولما قدم على عمر قال له: ما بلغ بك الوجد على أخيك؟ قال: بكيته حولا حتى أسعدت عيني الذاهبة عيني الصحيحة، وما رأيت نارا قط إلا كدت أتقطع أسفا عليه لأنه كان يوقد ناره إلى الصبح مخافة أن يأتيه ضيف ولا يعرف مكانه. قال: فصفه لي. قال: كان يركب الفرس لا الحرون ويقود الجمل الثفال وهو بين المزادتين النضوختين في الليلة القرة. وعليه شملة فلوت معتقلا رمحا خطلا فيسري ليلته ثم يصبح. وكأن وجهه فلقة قمر. قال: أنشدني بعض ما قلت فيه: فأنشده مرثيته التي يقول فيها:
359

وكنا كندماني جذيمة حقبة * من الدهر حتى قيل: لن يتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكا * لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
فقال عمر: لو كنت أقول الشعر لرثيت أخي زيدا. فقال: متمم ولا سواء يا أمير المؤمنين لو كان أخي صرع مصرع أخيك لما بكيته. فقال عمر: ما عزاني أحد بأحسن مما عزيتني به.
وفي هذه الوقعة قتل الوليد، وأبو عبيدة ابنا عمارة بن الوليد وهما ابنا أخي خالد، لهما صحبة.
ذكر مسيلمة وأهل اليمامة
قد ذكرنا فيما تقدم مجيء مسيلمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم وبعث أبو بكر السرايا إلى المرتدين أرسل عكرمة بن أبي جهل في عسكر إلى مسيلمة وأتبعه شرحبيل بن حسنة فعجل عكرمة ليذهب بصوتها. فواقعهم فنكبوه، وأقام شرحبيل بالطريق حين أدركه الخبر وكتب عكرمة إلى أبي بكر بالخبر، فكتب إليه أبو بكر لا أرينك ولا تراني لا ترجعن فتوهن الناسا، امض إلى حذيفة، وعرفجة فقاتل أهل عمان ومهرة، ثم تسير أنت وجندك لم تستبرون الناس حتى تلقى مهاجر بن أبي أمية باليمن وحضرموت. فكتب إلى شرحبيل يأمره بالمقام إلى أن يأتي خالد فإذا فرغوا من مسيلمة تلحق بعمرو بن العاص تعينه على قضاعة.
فلما رجع خالد من البطاح إلى أبي بكر واعتذر إليه فقبل عذره ورضي
360

عنه ووجهه إلى مسيلمة، وأوعب معه المهاجرين والأنصار، وعلى الأنصار ثابت بن قيس بن شماس، وعلى المهاجرين أبو حذيفة وزيد بن الخطاب، وأقام خالد بالبطاح ينتظر وصول البعث اليه، فلما وصلوا إليه سار إلى اليمامة، وبنو حنيفة يومئذ كثيرون؛ وكانت عدتهم أربعين ألف مقاتل، وعجل شرحبيل ابن حسنة، وبادر خالدا بقتال مسيلمة، فلأمه خالد، وأمد أبو بكر خالدا بسليط ليكون ردءا له لئلا يؤتى من خلفه. وكان أبو بكر يقول: لا أستعمل أهل بدر أدعهم حتى يلقوا الله بصالح أعمالهم فإن الله يدفع بهم وبالصالحين أكثر وأفضل مما ينتصر بهم، وكان عمر يرى استعمالهم على الجند وغيره.
وكان مع مسيلمة نهار الرجال بن عنفوة، وكان قد هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ القرآن وفقه في الدين وبعثه معلما لأهل اليمامة، وليشغب على مسيلمة، فكان أعظم فتنة على بني حنيفة من مسيلمة، شهد أن محمدا صلى الله عليه وسلم يقول: إن مسيلمة قد أشرك معه، فصدقوه واستجابوا له، وكان مسيلمة ينتهي إلى أمره، وكان يؤذن له عبد الله بن النواجة والذي يقيم له حجير بن. عمير فكان حجير يقول: أشهد أن مسيلمة يزعم أنه رسول الله. فقال له مسيلمة: افصح حجير. فليس في المجمجة خير. وهو أول من قالها.
وكان مما جاء به وذكر أنه وحي: يا ضفدع بنت ضفدع نقي ما تنقين، أعلاك في الماء. وأسفلك في الطين. لا الشارب تمنعين ولا الماء تكدرين. وقال أيضا: والمبديات زرعا. والحاصدات حصدا. والذاريات قمحا والطاحنات طحنا. والخابزات خبزا. والثاردات ثردا. واللاقمات لقما. إهالة وسمنا. لقد فضلتم على أهل الوبر. وما سبقكم أهل المدر، ريقكم
361

فامنعوه، والمعتر فآووه، والباغي فنائوه. وأتته امرأة فقالت: إن نخلنا لسحيق وأن آبارنا لجرز، فادع الله لمائنا ونخلنا كما دعا محمد صلى الله عليه وسلم لأهل هزمان فسأل نهارا عن ذلك فذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لهم وأخذ من ماء آبارهم فتمضمض منه. ومجه في الآبار ففاضت ماء وأنجيت كل نخلة وأطلعت فسيلا قصيرا مكمما. ففعل مسيلمة ذلك فغار ماء الآبار ويبسن النخل - وإنما ظهر ذلك بعد مهلكه.
وقال له نهار: أمر يدك عنى أولاد بني حنيفة مثل محمد. ففعل وأمر يده على رؤسهم وحنكهم، فقرع كل صبي مسح رأسه، ولثغ كل صبي حنكه، وإنما استبان ذلك بعد مهلكه.
وقيل جاءه طلحة النمري فسأله عن حاله فأخبره أنه يأتيه رجل في ظلمة، فقال: أشهد أنك الكاذب وأن محمدا صادق، ولكن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر، فقتل معه يوم عقرباء كافرا.
ولما بلغ مسيلمة دنو خالد ضرب عسكره بعقرباء. وخرج إليه الناس وخرج مجاعة بن مرارة في سرية يطلب ثارا لهم في بني عامر، فأخذه المسلمون وأصحابه فقتلهم خالد واستبقاه لشرفه في بني حنيفة، وكانوا ما بين أربعين إلى ستين.
وترك مسيلمة الأموال وراء ظهره. فقال شرحبيل بن مسيلمة: يا بني حنيفة قاتلوا فإن اليوم يوم الغيرة، فإن انهزمتم تستردف النساء سبيات، وينكحن غير خطيبات، فقاتلوا عن أحسابكم، وامنعوا نساءكم. فاقتتلوا بعقرباء، وكانت راية المهاجرين مع سالم مولى أبي حذيفة، وكانت قبله
362

مع عبد الله بن حفص بن غانم فقتل فقالوا: نخشى عليك من نفسك [شيئا]! فقال: بئس حامل القرآن أنا إذا. وكانت راية الأنصار مع ثابت بن قيس بن شماس. وكانت العرب على راياتهم والتقى الناس وكان أول من لقي المسلمين نهار الرجال بن عنفوة فقتل قتله زيد بن الخطاب، واشتد القتال ولم يلق المسلمون حربا مثلها قط، وانهزم المسلمون وخلص بنو حنيفة إلى مجاعة وإلى خالد فزال خالد عن الفسطاط ودخلوا إلى مجاعة وهو عند امرأة خالد وكان سلمه إليها فأرادوا قتلها فنهاهم مجاعة عن قتلها وقال: أنا لها جار فتركوها، وقال لهم: عليكم بالرجال فقطعوا الفسطاط ثم إن المسلمين تداعوا فقال ثابت بن قيس: بئس ما عودتم أنفسكم يا معشر المسلمين،
اللهم إني أبرأ إليك مما يصنع هؤلاء - يعني أهل اليمامة - وأعتذر إليك مما يصنع هؤلاء - يعني المسلمين، ثم قاتل حتى قتل.
وقال زيد بن الخطاب: لا نحور بعد الرجال والله لا أتكلم اليوم حتى نهزمهم أو أقتل، فأكلمه بحجتي، غضوا أبصاركم، وعضوا على أضراسكم أيها الناس، واضربوا في عدوكم، وامضوا قدما. وقال أبو حذيفة: يا أهل القرآن زينوا القرآن بالفعال؛ وحمل خالد في الناس حتى ردوهم إلى أبعد مما كانوا، واشتد القتال وتذامرت بنو حنيفة وقاتلت قتالا شديدا، وكانت الحرب يومئذ تارة للمسلمين، وتارة للكافرين، وقتل سالم، وأبو حذيفة، وزيد بن الخطاب وغيرهم من أولي البصائر.
فلما رأى خالد ما الناس فيه قال: امتازوا أيها الناس لنعلم بلاء كل حي، ولنعلم من أين نؤتى. فامتازوا، وكان أهل البوادي قد جنبوا المهاجرين والأنصار وجنبهم المهاجرون والأنصار، فلما امتازوا قال بعضهم لبعض: اليوم يستحي من الفرار فما رؤي يوم كان أعظم نكاية من ذلك اليوم، ولم يدر أي الفريقين كان
363

أعظم نكاية غير أن القتل كان في المهاجرين والأنصار وأهل القرى أكثر منهم في أهل البوادي.
وثبت مسيلمة فدارت رحاهم عليه، فعرف خالد أنها لا تركد إلا بقتل مسيلمة، ولم تحفل بنو حنيفة بمن قتل منهم، ثم برز خالد، ودعا إلى البراز ونادى بشعارهم وكان شعارهم: يا محمداه! فلم يبرز إليه أحد إلا قتله. ودارت رحى المسلمين، ودعا خالد مسيلمة فأجابه فعرض عليه أشياء مما يشتهي مسيلمة، فكان إذا هم بجوابه أعرض بوجهه ليستشير شيطانه. فينهاه أن يقبل. فأعرض بوجهه مرة، وركبه خالد وأرهقه فأدبر وزال أصحابه، وصاح خالد في الناس فركبوهم فكانت هزيمتهم. وقالوا لمسيلمة: أين ما كنت تعدنا؟ فقال: قاتلوا عن أحسابكم. ونادى المحكم: يا بني حنيفة الحديقة الحديقة فدخلوها وأغلقوا عليهم بابها.
وكان البراء بن مالك، وهو أخو أسد بن مالك، إذا حضر الحرب أخذته رعدة حتى يقعد عليه الرجال، ثم يبول فإذا بال ثار كما يثور الأسد؛ فأصابه ذلك فلما بال وثب وقال: إلى أيها الناس، أنا البراء بن مالك إلى إلف، وقاتل قتالا شديدا؛ فلما دخلت بنو حنيفة الحديقة قال البراء: يا معشر المسلمين ألقوني عليهم في الحديقة. فقالوا: لا نفعل. فقال: والله لتطرحنني عليهم بها فاحتمل حتى أشرف على الجدار فاقتحمها عليهم وقاتل على الباب وفتحه للمسلمين، ودخلوها عليهم فاقتتلوا أشد قتال وكثر القتلى في الفريقين لا سيما في بني حنيفة فلم يزالوا كذلك حتى قتل مسيلمة، واشترك في قتله وحشي مولى جبير بن مطعم ورجل من الأنصار، أما وحشي فدفع عليه حربته، وضربه الأنصاري بسيفه. قال ابن عمر: فصرخ رجل قتله
364

العبد الأسود، فولت بنو حنيفة عند قتله منهزمة، وأخذهم السيف من كل جانب، وأخبر خالد بقتل مسيلمة فخرج بمجاعة يرسف في الحديد ليدله على مسيلمة فجعل يكشف له القتلى حتى مر بمحكم اليمامة، وكان وسيما فقال: هذا صاحبكم؟ فقال مجاعة: لا، هذا والله خير منه وأكرم هذا محكم اليمامة، ثم دخل الحديقة فإذا رويجل أصيفر اخينس فقال مجاعة: هذا صاحبكم قد فرغتم منه. وقال خالد: هذا الذي فعل بكم ما فعل.
وكان الذي قتل محكم اليمامة عبد الرحمن بن أبي بكر رماه بسهم في نحره وهو يخطب ويحرض الناس فقتله. وقال مجاعة لخالد: ما جاءك إلا سرعان الناس وإن الحصون مملؤة فهلم إلى الصلح على ما ورائي فصالحه على كل شيء دون النفوس. وقال: أنطلق إليهم فأشاورهم فانطلق إليهم، وليس في الحصون إلا النساء والصبيان ومشيخة فانية ورجال ضعفي فألبسهم الحديد، وأمر النساء أن ينشرن شعورهن ويشرفن على الحصون حتى يرجع إليهم، فرجع إلى خالد فقال: قد أبوا أن يجيزوا ما صنعت، فرأى خالد الحصون مملؤة وقد نهكت المسلمين الحرب وطال اللقاء وأحبوا أن يرجعوا على الظفر، ولم يدروا ما هو كائن، وقد قتل من المهاجرين والأنصار من أهل المدينة ثلاثمائة وستون، ومن المهاجرين من غير المدينة ثلاثمائة رجل، وقتل ثابت بن قيس قطع رجل من المشركين رجله فأخذها ثابت وضربه بها فقتله، وقتل من بني حنيفة بعقرباء سبعة آلاف وبالحديقة مثلها، وفي الطلب نحو منها، وصالحه خالد على الذهب، والفضة، والسلاح ونصف السبي، وقيل: ربعه.
فلما فتحت الحصون لم يكن فيها إلا النساء والصبيان والضعفاء فقال خالد لمجاعة: ويحك خدعتني. فقال: هم قومي، ولم أستطع إلا ما صنعت.
ووصل كتاب أبي بكر إلى خالد أن يقتل كل محتلم، وكان قد صالحهم فوفى لهم ولم يغدر. ولما رجع الناس قال عمر لابنه عبد الله وكان معهم:
365

ألا هلكت قبل زيد هلك زيد وأنت حي! ألا واريت وجهك عني؟ فقال عبد الله: سأل الله الشهادة فأعطيها وجهدت أن تساق إلي فلم أعطها.
* * *
وفي هذه السنة بعد وقعة اليمامة أمر أبو بكر بجمع القرآن لما رأي من كثرة من قتل من الصحابة لئلا يذهب القرآن - وسيرد مبينا سنة ثلاثين.
وممن قتل باليمامة شهيدا من الصحابة: عباد بن بشر الأنصاري شهد بدرا وغيرها. وقتل عباد بن الحارث الأنصاري وكان شهد أحدا. وقتل بها عمير بن أوبر بن عتيك الأنصاري وكان شهد أحد. وفيها قتل عامر بن ثابت بن سلمة الأنصاري. وفيها قتل عمارة بن حزم الأنصاري أخو عمرو وكان بدريا. وفيها قتل علي بن عبد الله بن الحارث من بني عامر بن لؤي، وكان له صحبة. وقتل بها عائذ بن ماعص الأنصاري. وقيل قتل يوم بئر معونة. وقتل فيها فروة بن النعمان وقيل: ابن الحارث بن النعمان الأنصاري، وكان قد شهد أحدا وما بعدها. وفيها قتل قيس بن الحارث بن عدي الأنصاري عم البراء بن عازب، وقيل: بل قتل بأحد. وقتل بها سعد بن جماز الأنصاري، وكان قد شهد أحدا. وقتل بها أبو دجانة الأنصاري، وهو بدري وقيل: بل عاش بعد ذلك وشهد صفين مع علي عليه السلام والله أعلم. وقتل باليمامة سلمة بن مسعود بن سنان الأنصاري. وقتل فيها السائب بن عثمان بن مظعون الجمحي، وهو من مهاجرة الحبشة؟ وشهد بدرا. وقتل أيضا السائب بن العوام أخو الزبير لأبويه. وقتل بها الطفيل بن عمرو الدوسي شهد خيبر. وقتل بها زرارة بن قيس الأنصاري له صحبة. وقتل فيها مالك بن عمرو السلمي حليف بني عبد شمس وهو بدري. وقتل مالك بن أمية السلمي، وهو بدري. ومالك بن عوس بن عتيك الأنصاري. وهو ممن شهد أحدا. وقتل بها معن بن عدي بن الجد
366

البلوي حليف الأنصار شهد العقبة وبدرا وغيرها ومسعود بن سنان الأسود حليف بني غانم وشهد أحدا. وفيها قتل النعمان بن عصر بن الربيع البلوي، وهو بدري، وقيل: هو بكسر العين وسكون الصاد، وقيل: بفتحهما. وفيها قتل صفوان، ومالك ابنا عمرو السلمي، وهما بدريان. وضرار بن الأزور الأسدي، وهو الذي قتل مالك بن نويرة بأمر خالد. وفيها قتل عبد الله بن الحارث بن قيس بن عدي السهمي، وقيل: قتل عبد الله بالطائف هو وأخوه السائب. وفيها قتل عبد الله بن مخرمة بن عبد العزى العامري عامر قيس، وشهد بدرا وغيرها. وفيها قتل عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول، وهو بدري. وعبد الله بن عتيك الأنصاري وهو قاتل ابن أبي الحقيق، وهو بدري. وفيها قتل شجاع ابن أبي وهب الأسدي أسد خزيمة شهد بدرا. وهريم بن عبد الله المطلبي القرشي، وأخوه جنادة، والوليد بن عبد شمس بن المغيرة المخزومي ابن عم خالد. وقتل ورقة بن إياس بن عمرو الأنصاري، وهو بدري. ويزيد بن أوس حليف بني عبد الدار أسلم يوم الفتح. وأبو حبة بن غزية الأنصاري. شهد أحدا.
وأبو عقيل البلوي حليف الأنصار، وهو بدري. وأبو قيس بن الحارث بن قيس بن عدي السهمي من مهاجرة الحبشة شهد أحدا. ويزيد بن ثابت أخو زيد بن ثابت.
(الرجال بن عنفوة بالراء المفتوحة وبالجيم المشددة، وقيل بالحاء المهملة والأول أكثر. ومجاعة بتشديد الجيم. ومحكم اليمامة بالحاء المهملة والكاف المشددة. وسعد بن جماز بالجيم والميم المشددة وآخره زاي).
367

ذكر ردة أهل البحرين
لما قدم الجارود بن المعلى العبدي على النبي صلى الله عليه وسلم وتفقه رده إلى قومه عبد القيس فكان فيهم. فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم وكان المنذر بن ساوى العبدي مريضا فمات بعد النبي صلى الله عليه وسلم بقليل، فلما مات المنذر بن ساوى ارتد بعده أهل البحرين فأما بكر فتمت على ردتها، وأما عبد القيس فإنهم جمعهم الجارود، وكان بلغه أنهم قالوا: لو كان محمد نبيا لم يمت، فلما اجتمعوا إليه قال لهم: أتعلمون أنه كان
لله أنبياء فيما مض؟ قالوا: نعم قال: فما فعلوا؟ قالوا: ماتوا قال: فإن محمدا صلى الله عليه وسلم قد مات كما ماتوا؛ وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
فأسلموا وثبتوا على إسلامهم، وحضر أصحاب المنذر بعده حتى استنقذهم العلاء بن الحضرمي، واجتمعت ربيعة بالبحرين على الردة إلا الجارود ومن تبعه وقالوا: نرد الملك في المنذر بن النعمان بن المنذر. وكان يسمى الغرور، فلما أسلم كان يقول: أنا المغرور ولست بالغرور.
وخرج الحطم بن ضبيعة أخو بني قيس بن ثعلبة في بكر بن وائل فاجتمع إليه من غير المرتدين ممن لم يزل مشركا حتى نزل القطيف، وهجر، واستغوى الخط ومن بها من الزط، والسبابجة، وبعث بعثا إلى دارين، وبعث إلى جواثا فحصر المسلمين فاشتد الحصر على من بها، فقال عبد الله بن حذف، وقد قتلهم الجوع:
ألا أبلغ أبا بكر رسولا * وفتيان المدينة أجمعينا
368

فهل لكم إلى قوم كرام * قعود في جواثا محصرينا
كأن دماءهم في كل فج * شعاع الشمس تغشى الناظرينا
توكلنا على الرحمن إنا * وجدنا النصر للمتوكلينا
وكان سبب استنقاذ العلاء بن الحضرمي إياهم أن أبا بكر كان قد بعثه على قتال أهل الردة بالبحرين فلما كان بحيال اليمامة لحق به ثمامة بن أثال الحنفي في مسلمة بني حنيفة ولحق به أيضا قيس بن عاصم المنقري، وأعطاه بدل ما كان قسم من الصدقة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، وانضم إليه عمرو والأبناء، وسعد بن تميم، والرباب أيضا لحقته في مثل عدته، فسلك بهم الدهناء حتى [إذا] كانوا في بحبوحتها نزل وأمر الناس بالنزول في الليل فنفرت إبلهم بأحمالها فما بقي عندهم بعير ولا زاد ولا ماء، فلحقهم من الغم ما لا يعلمه إلا الله، ووصى بعضهم بعضا فدعاهم العلاء فاجتمعوا إليه. فقال: ما هذا الذي غلب عليكم من الغم؟ فقالوا: كيف نلام؟ ونحن إن بلغنا غدا لم تحم الشمس حتى نهلك. فقال: لن تراعوا أنتم المسلمون، وفي سبيل الله، وأنصار الله فأبشروا، فوالله لن تخذلوا.
فلما صلوا الصبح دعا العلاء ودعوا معه فلمع لهم الماء فمشوا إليه وشربوا واغتسلوا فما تعالى النهار حتى أقبلت الإبل تجمع من كل وجه فأناخت إليهم فسقوها، وكان أبو هريرة فيهم، فلما ساروا عن ذلك المكان قال لمنجاب بن راشد: كيف علمك بموضع الماء؟ قال: عارف به. فقال له: كن معي حتى تقيمني عليه. قال: فرجعت به إلى ذلك المكان فلم نجد إلا غدير الماء. فقلت له: والله لولا الغدير لأخبرتك أن هذا هو المكان، وما رأيت بهذا المكان ماء أ قبل اليوم، وإذا إداوة مملؤة ماء. فقال أبو هريرة: هذا والله المكان: وما رأيت ولهذا رجعت بك وملأت إداوتي ثم وضعتها على شفير الغدير، وقلت: إن كان منا من المن عرفته وإن كان عينا عرفته فإذا
369

من من المن فحمد الله.
ثم ساروا فنزلوا بهجر، وأرسل العلاء إلى الجارود يأمره أن ينزل بعبد القيس على الحطم مما يليه، وسار هو فيمن معه حتى نزل عليه مما يلي هجر فاجتمع المشركون كلهم إلى الحطم إلا أهل دارين، واجتمع المسلمون إلى العلاء، وخندق المسلمون على أنفسهم والمشركون، وكانوا يتراوحون القتال ويرجعون إلى خندقهم فكانوا كذلك شهرا، فبيناهم كذلك إذ سمع المسلمون ضوضاء هزيمة أو قتال، فقال العلاء: من يأتينا بخبر القوم؟ فقال عبد الله بن حذف: أنا. فخرج حتى دنا من خندقهم فأخذوه، وكانت أمه عجلية فجعل ينادي يا أبجراه. فجاء أبجر بن بجير فعرفه فقال: ما شأنك؟ فقال: علام أقتل وحولي عساكر من عجل وتيم اللات وغيرها؟ فخلصه، فقال له: والله إني لأظنك بئس ابن أخت أتيت الليلة أخوالك. فقال: دعني من هذا وأطعمني فقد مت جوعا فقرب له طعاما فأكل، ثم قال: زودني واحملني يقول هذا لرجل قد غلب عليه السكر فحمله على بعير وزوده وجوزه فدخل عسكر المسلمين فأخبرهم أن القوم سكارى، فخرج المسلمون عليهم فوضعوا فيهم السيف كيف شاؤوا، وهرب الكفار فمن بين مترد، وناج ومقتول، ومأسور، واستولى المسلمون على العسكر ولم يفلت رجل إلا بما عليه.
فأما أبجر فأفلت، وأما الحطم فقتل قتله قيس بن عاصم بعد أن قطع عفيف بن المنذر التميمي رجله، وطلبهم المسلمون، فأسر عفيف المنذر بن النعمان بن المنذر الغرور فأسلم، وأصبح العلاء فقسم الأنفال، ونقل رجالا من أهل البلاء ثيابا فأعطى ثمامة بن أثال الحنفي خميصة ذات أعلام كانت للحطم يباهي بها، فلما رجع ثمامة بعد فتح دارين رآها بنو قيس بن ثعلبة فقالوا له: أنت قتلت الحطم. فقال: لم أقتله ولكني اشتريتها من المغنم.
370

فوثبوا عليه فقتلوه.
وقصد عظم الفلال إلى دارين فركبوا إليها السفن، ولحق الباقون ببلاد قومهم، فكتب العلاء إلى من ثبت على إسلامه من بكر بن وائل منهم عتيبة بن النهاس، والمثنى بن حارثة، وغيرهما يأمرهم بالقعود للمنهزمين والمرتدين بكل طريق، ففعلوا وجاءت رسلهم إلى العلاء بذلك فأمر أن يؤتى من وراء ظهره فندب حينئذ الناس إلى دارين، وقال لهم: قد أراكم الله من آياته في البر لتعتبروا بها في البحر فانهضوا إلى عدوكم، واستعرضوا البحر. وارتحل وارتحلوا حتى اقتحم البحر على الخيل والإبل والحمير وغير ذلك، وفيهم الراجل ودعا ودعوا وكان من دعائهم: (يا أرحم الراحمين، يا كريم، يا حليم، يا
أحد، يا صمد، يا حي، يا محي الموتى، يا حي، يا قيوم، لا إله إلا أنت، يا ربنا. فاجتازوا ذلك الخليج بإذن الله يمشون على مثل رملة فوقها ماء يغمر أخفاف الإبل، وبين الساحل ودارين يوم وليلة بسفن البحر فالتقوا واقتتلوا قتالا شديدا فظفر المسلمون؛ وانهزم المشركون؛ وأكثر المسلمون القتل فيهم فما تركوا بها مخبرا وغنموا وسبوا، فلما فرغوا رجعوا حتى عبروا وضرب الإسلام فيها بجرانه.
وكتب العلاء إلى أبي بكر يعرفه هزيمة المرتدين، وقتل الحطم، وكان مع المسلمين راهب من أهل هجر فأسلم فقيل له: ما حملك على الاسلام؟ قال: ثلاثة أشياء: خشيت أن يمسخني الله بعدها فيض في الرمال، وتمهيد أثباج البحر، ودعاء سمعته في عسكرهم في الهواء سحرا: اللهم أنت الرحمن الرحيم، لا إله غيرك، والبديع فليس قبلك شيء، والدائم غير الغافل، الحي الذي لا يموت، وخالق ما يرى وما لا يرى وكل يوم أنت في شأن، علمت كل شيء
371

بغير تعلم. فعلمت أن القوم لم يعانوا بالملائكة إلا وهم على حق، فكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يسمعون هذا منه بعد.
(عتيبة بعد العين تاء معجمة باثنتين من فوقها وياء تحتها نقطتان ثم باء موحدة. وحارثة بحاء مهملة وثاء مثلثة).
ذكر ردة أهل عمان ومهرة
قد اختلف في تاريخ حرب المسلمين هؤلاء المرتدين، فقال ابن إسحاق: كان فتح اليمامة واليمن والبحرين وبعث الجنود إلى الشام سنة اثنتي عشرة، وقال أبو معشر، ويزيد بن [عياض] بن جعدبة، وأبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر: إن فتوح الردة كلها لخالد وغيره سنة إحدى عشرة إلا أمر ربيعة بن بجير فإنه كان سنة ثلاث عشرة، وقضته أنه بلغ خالد بن الوليد أن ربيعة بالمصيخ والحصيد في جمع من المرتدين، فقاتله وغنم وسبى وأصاب ابنة لربيعة فبعث بها إلى أبي بكر فصارت إلى على بن أبي طالب.
* * *
وأما عمان فإنه نبغ بها ذو التاج لقيط بن مالك الأزدي، وكان يسامى في الجاهلية الجلندي، وادعى بمثل ما ادعى من تنبأ، وغلب على عمان مرتدا، والتجأ جيفر وعباد إلى الجبال وبعث جيفر إلى أبي بكر يخبره ويستمده عليه، وبعث أبو بكر حذيفة بن محصن الغلفاني من حمير،
372

وعرفجة البارقي من الأزد حذيفة إلى عمان، وعرفجة إلى مهرة، وكل منهما أمير على صاحبه في وجهه فإذا قربا من عمان يكاتبان جيفرا فسار إلى عمان، وأرسل أبو بكر إلى عكرمة بن أبي جهل وكان بعثه إلى اليمامة فأصيب، فأرسل إليه أن يلحق بحذيفة وعرفجة بمن معه يساعدهما على أهل عمان ومهرة فإذا فرغوا منهم سار إلى اليمن فلحقهما عكرمة قبل عمان، فلما وصلوا رجاما، وهي قريب من عمان، كاتبوا جيفرا وعبادا، وجمع لقيط جموعه، وعسكر بدبا، وخرج جيفر وعباد وعسكرا بصحار، وأرسلا إلى حذيفة وعكرمة وعرفجة
فقدموا عليهما، وكاتبوا رؤساء مع لقيط ارفضوا عنه. ثم التقوا على دبا فاقتتلوا قتالا شديدا، واستعلى لقيط، ورأى المسلمون الخلل، ورأى المشركون الظفر، فبينما هم كذلك جاءت المسلمين موادهم العظمى من بني ناجية وعليهم الخريت بن راشد، ومن عبد القيس، وعليهم سيحان بن صوحان وغيرهم فقوي الله المسلمين [بهم ووهن بهم أهل الشرك] فولى المشركون الأدبار، فقتل منهم في المعركة عشرة آلاف، وركبوهم حتى أثخنوا فيهم وسبوا البن الذراري، وقسموا الأموال وبعثوا بالخمس إلى أبي بكر مع عرفجة، وأقام حذيفة بعمان [حتى يوطئ الأمور]، ويسكن الناس.
* * *
وأما مهرة فإن عكرمة بن أبي جهل سار إليهم لما فرغ من عمان ومعه من استنصر من ناجية، وعبد القيس، وراسب وسعد، فاقتحم عليهم بلادهم. فوافق بها جمعين من مهرة أحدهما مع سخريت رجل منهم، والثاني مع المصبح أحد بني محارب،
ومعظم الناس معه، وكانا مختلفين فكاتب عكرمة سخريتا فأجابه وأسلم، وكاتب المصبح يدعوه فلم يجب؟ فقاتله قتالا شديدا [أشد من قتال دبا] فانهزم المرتدون وقتل رئيسهم وركبهم المسلمون فقتلوا من شاؤوا منهم وأصابوا ما شاؤوا من الغنائم، وبعث الأخماس إلى أبي بكر مع
373

سخريت وازداد عكرمة وجنده قوة بالظهر والمتاع، وأقام عكرمة حتى اجتمع الناس على الذي يحب وبايعوا على الاسلام.
(دبا بفتح الباء الموحدة المخففة وفتح الدال المهملة. والخريت بكسر الخاء المعجمة وتشديد الراء المهملة المكسورة ثم ياء مثناة من تحتها وآخره تاء. وسيحان بفتح السين المهملة وبالياء المثناة من تحت وبالحاء المهملة وآخره نون).
ذكر خبر ردة اليمن
لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى مكة وأرضها عتاب بن أسيد، وعلى عك والأشعريين الطاهر بن أبي هالة، وعلى الطائف عثمان بن أبي العاص، ومالك بن عوف النصري: عثمان على المدن. ومالك على أهل الوبر وبصنعاء فيروز، وداذويه يسانده، وقيس بن مكشوح، وعلى الجند يعلى بن أمية، وعلى مارب أبو موسى، وكان منهم مع الأسود الكذاب ما ذكرناه، فلما أهلك الله الأسود العنسي بقي طائفة من أصحابه يترددون بين صنعاء ونجران لا تأوي إلى أحد، ومات النبي صلى الله عليه وسلم على أثر ذلك فارتد الناس، فكتب عتاب بن أسيد إلى أبي بكر يعرفه خبر من ارتد في عمله، وبعث عتاب أخاه خالدا إلى أهل تهامة، وبها جماعة من مدلج وخزاعة، وأبناء كنانة.
وأما كنانة فعليهم جندب بن سلمى فالتقوا بالأبارق فقتلهم خالد وفرقهم وأفلت جندب وعاد، وبعث عثمان بن أبي العاص بعثا إلى شنوءة
374

وبها جماعة من الأزد وبجيلة وخثعم، وعليهم حميضة بن النعمان، واستعمل عثمان على السرية عثمان بن أبي ربيعة فالتقوا بشنوءة فانهزم الكفار وتفرقوا وهرب حميضة في البلاد.
وأما الأخابث من العك فكانوا أول منتقض بتهامة بعد النبي صلى الله عليه وسلم ثم تجمع عك والأشعريون وأقاموا على الأعلاب فسار إليهم الطاهر بن أبي هالة ومعه مسروق وقومه من عك ممن لم يرتد فالتقوا على الأعلاب، فانهزمت عك ومن معهم وقتلوا قتلا ذريعا وكان ذلك فتحا عظيما، وورد كتاب أبي بكر على الطاهر يأمره بقتالهم وسماهم الأخابث وسمى طريقهم طريق الأخابث فبقي الاسم عليهم إلى الآن.
وأما أهل نجران فلما بلغهم موت النبي صلى الله عليه وسلم [وهم يومئذ أربعون ألف مقاتل] أرسلوا وفدا ليجددوا عهدهم مع أبي بكر، فكتب بذلك كتابا.
وأما بجيلة فإن أبا بكر رد جرير بن عبد الله وأمره أن يستنفر من قومه من ثبت على الإسلام ويقاتل بهم من ارتد عن الاسلام، وأن يأتي خثعم فيقاتل من خرج غضبا لذي الخلصة. فخرج جرير وفعل ما أمره فلم يقم له أحد إلا نفر يسير فقتلهم وتتبعهم.
(حميضة بالحاء المهملة المضمومة والضاد المعجمة).
ذكر خبر ردة اليمن ثانية
وكان ممن ارتد ثانية قيس بن عبد يغوث بن مكشوح، وذلك أنه لما بلغه موت النبي صلى الله عليه وسلم عمل في قتل فيروز وداذويه وجشنس،
375

وكتب أبو بكر إلى عمر ذي مران وإلى سعيد ذي زود، وإلى ذي الكلاع، وإلى حوشب ذي ظليم، وإلى شهر ذي نياف يأمرهم بالتمسك بدينهم والقيام بأمر الله ويأمرهم بإعانة الأبناء على من ناوأهم، والسمع لفيروز. وكان فيروز، وداذويه، وقيس قبل ذلك متساندين، فلما سمع قيس بذلك كتب إلى ذي الكلاع وأصحابه يدعوهم إلى قتل الأبناء، وإخراج أهلهم من اليمن فلم يجيبوه ولم ينصروه على الأبناء، فاستعد لهم قيس، وكاتب أصحاب الأسود المترددين في البلاد سرا يدعوهم ليجتمعوا معه فجاؤوا إليه، فسمع بهم أهل صنعاء فقصد قيس فيروز وداذويه، فاستشارهما في أمره خديعة منه ليلبس عليهما، فاطمأنا إليه، ثم إن قيسا صنع من الغد طعاما ودعا داذويه وفيروز وجشنس، فخرج داذويه فدخل عليه فقتله، وجاء إليه فيروز فلما دنا منه سمع امرأتين تتحدثان فقالت إحداهما: هذا مقتول كما قتل داذويه، فخرج فطلبه أصحاب قيس فخرج يركض ولقيه جشيش فرجع معه فتوجها نحو جبل خولان وهم أخوال فيروز فصعدا الجبل ورجعت خيول قيس فأخبروه فثار بصنعاء وما حولها، وأتته خيول الأسود.
واجتمع إلى فيروز جماعة من الناس، وكتب إلى أبي بكر يخبره، واجتمع إلى قيس عوام قبائل من كتب أبو بكر إلى رؤسائهم، واعتزل الرؤساء. وعمد قيس إلى الأبناء ففرقهم ثلاث فرق من أقام أقر عياله، والذين ساروا مع فيروز فرق عيالهم فرقتين فوجه إحداهما إلى عدن ليحملوا في البحر وحمل الأخرى في البر، وقال لهم جميعهم: ألحقوا بأرضكم.
فلما علم فيروز ذلك جد في خربه وتجرد لها وأرسل إلى بني عقيل بن ربيعة بن عامر يستمدهم وإلى عك ليستمدهم فركبت عقيل، فلقوا
376

خيل قيس بن عامر، ومعهم عيالات الأبناء الذين كان قد سيرهم قيس فاستنقذوهم، وقتلوا خيل قيس، وسارت عك فاستنقذوا طائفة أخرى من عيالات الأبناء وقتلوا من معهم من أصحاب قيس، وأمدت عقيل وعك فيروز بالرجال، فلما أتته أمدادهم خرج بهم وبس اجتمع عنده فلقوا قيسا دون صنعاء فاقتتلوا قتالا شديدا وانهزم قيس وأصحابه، وتذبذب أصحاب العنسي وقيس معهم فيما بين صنعاء ونجران.
قيل: وكان فروة بن مسيك قدم على النبي صلى الله عليه وسلم مسلما فاستعمله النبي صلى الله عليه وسلم على صدقات مراد ومن نازلهم ونزل دارهم.
وكان عمرو بن معد يكرب الزبيدي قد فارق قومه سعد العشيرة وانحاز إليهم، وأسلم معهم، فلما ارتد العنسي ومعه مذحج ارتد عمرو فيمن ارتد، وكان عمرو مع خالد بن سعيد بن العاص فلما ارتد سار إليه خالد فلقيه فضربه خالد على عاتقه فهرب منه وأخذ خالد سيفه الصمصامة وفرسه، فلما ارتد عمر وجعله العنسي بإزاء فروة فامتنع كل واحد منهما من البراح لمكان صاحبه فبينما هم كذلك قدم عكرمة بن أبي جهل أبين، من مهرة - وقد تقدم ذكر قتال مهرة - ومعه بشر كثير من مهرة وغيرهم، فاستبرأ النخع، وحمير، وقدم أيضا المهاجر بن أبي أمية في جمع من مكة والطائف وبجيلة مع جرير إلى نجران فانضم إليه فروة بن مسيك المرادي فأقبل عمرو بن معد يكرب مستخفيا حتى دخل على المهاجر من غير أمان فأوثقه المهاجر وأخذ قيسا أيضا فأوثقه، وسيرهما إلى أبي بكر فقال: يا قيس قتلت عباد الله؛ واتخذت المرتدين والمشركين وليجة من دون المؤمنين [وهم بقتله لو وجد أمرا جليا]، فانتفى قيس من أن يكون قارف من أمر داذويه شيئا، وكان قتله سرا، فتجافى له
377

عن دمه وقال لعمرو: أما تستحي أنك كل يوم مهزوم أو مأسور؟ لو نصرت هذا الدين لرفعك الله. فقال: لا جرم لأقبلن ولا أعود. ورجعا إلى عشائرهما، فسار المهاجر من نجران والتقت الخيول على أصحاب العنسي
فاستأمنوا فلم يؤمنهم وقتلهم بكل سبيل، ثم سار إلى صنعاء فدخلها وكتب إلى أبي بكر بذلك.
ذكر ردة حضرموت وكندة
لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعماله على بلاد حضرموت: زياد بن لبيد الأنصاري على حضرموت، وعكاشة بن أبي أمية على السكاسك والسكون، والمهاجر بن أبي أمية على كندة استعمله النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يخرج إليها حتى توفي النبي صلى الله عليه وسلم، فبعثه أبو بكر إلى قتال من بم اليمن، ثم المسير بعد إلى عمله، وكان قد تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عاتب عليه فبينما أم سلمة تغسل رأس النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كيف ينفعني عيش وأنت عاتب على أخي؟ فرأت منه رقة فأومأت إلى خادمها فدعته فلم يزل بالنبي صلى الله عليه وسلم يذكر عذره حتى ورضي عنه واستعمله على كندة. فتوفي النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسر إلى عمله ثم سار بعده.
وكان سبب ردة كندة وإجابتهم الأسود الكذاب حتى لعن النبي صلى الله عليه وسلم الملوك الأربعة منهم أنهم لما أسلموا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوضع بعض صدقة حضرموت في كندة، وبعض صدقة كندة في حضرموت، وبعض
378

صدقة حضرموت في السكون، وبعض صدقة السكون في حضرموت، فقال بعض بني وليعة من كندة لحضرموت: ليس لنا ظهر فإن رأيتم أن تبعثوا إلينا بذلك على ظهر، قالوا: فإنا ننظر فإن لم يكن لكم ظهر فعلنا. فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت بنو وليعة: أبلغونا كما وعدتم رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقالوا: إن لكم ظهرا فاحتملوا. فقالوا لزياد: أنت معهم علينا فأتي الحضرميون ولج الكنديون ورجعوا إلى دارهم وترددوا في أمرهم، وأمسك عنهم زياد انتظارا للمهاجر.
وكان المهاجر لما تأخر بالمدينة قد استخلف زيادا على عمله، وسار المهاجر من صنعاء إلى عمله، وعكرمة بن أبي جهل أيضا فنزل أحدهما على الأسود والآخر على وائل، وكان زياد بن لبيد قد ولي صدقات بني عمرو بن معاوية من كندة بنفسه فقدم عليهم فكان أول من انتهى إليه منهم شيطان بن حجر فأخذ منهم بكرة ووسمها، فإذا الناقة للعداء بن حجر أخي شيطان، وكان أخوه قد أوهم حين أخرجها، وكان اسمها شذرة وظنها غيرها. فقال العداء: هذه ناقتي. فقال شيطان: صدق فأطلقها وخذ غيرها. فاتهمه زياد بالكفر ومباعدة الإسلام. فمنعهما عنها، وقال: صارت في حق الله فلجا في أخذها. فقال لهما: لا تكونن شذرة عليكم كالبسوس. فنادى العداء يا آل عمرو [بالرياض] أضام وأضطهد! إن الذليل من أكل في داره، ونادى حارثة بن سراقة بن معد يكرب فأقبل إلى زياد وهو واقف فقال: أطلق بكرة الرجل وخذ غيرها. فقال زياد: مالي إلى ذلك سبيل؟ فقال حارثة: ذاك إذا كنت يهوديا؛ وأطلق عقالها وبعثها وقام دونها، فأمر زياد شبابا من حضرموت والسكون فمنعوه وكتفوه وكتفوا أصحابه وأخذوا البكرة،
379

وتصايحت كندة وغضبت بنو معاوية لحارثة وأظهروا أمرهم، وغضبت حضرموت والسكون لزياد وتوافى عسكران عظيمان من هؤلاء ولم يحدث بنو معاوية شيئا لمكان أسراهم ولم يجد أصحاب زياد سبيلا يتعلقون به عليهم، وأمرهم زياد بوضع السلاح فلم يفعلوا، وطلبوا أسراهم فلم يطلقهم ونهد إليهم ليلا فقتل منهم وتفرقوا، فلما تفرقوا أطلق حارثة ومن معه، فلما رجع الأسرى إلى أصحابهم حرضوهم على زياد ومن معه، واجتمع منهم عسكر كثير، ونادوا بمنع الصدقة، فأرسل الحصين بن نمير سكن بعضهم عن بعض فأقاموا بعد ذلك يسيرا.
ثم إن بني عمرو بن معاوية من كندة نزلوا المحاجر، وهي أحماء حموها، فنزل جمد محجرا، ومخوص محجرا، ومشرح محجرا، وأبضعة حجرا، وأختهم العمردة محجرا، وهم الملوك الأربعة رؤساء عمرو الذين لعنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ذكروا قبل، ونزلت بنو الحارث بن معاوية محاجرها فنزل الأشعث بن قيس محجرا، والسمط بن الأسود محجرا وأطبقت بنو معاوية كلها على منع الصدقة إلا شرحبيل بن السمط وابنه فإنهما قالا لبني معاوية: إنه لقبيح بالأحرار التنقل، إن الكرام ليلزمون الشبهة فيتكرمون أن ينتقلوا إلى أوضح منها مخافة العار فكيف الانتقال من الأمر الحسن الجميل والحق إلى الباطل والقبيح! اللهم إنا لا نمالىء قومنا على ذلك. وانتقل ونزل مع زياد ومعهما امرؤ القيس بن عابس وقالا له: بتت القوم فإن أقواما من السكاسك والسكون قد انضموا إليهم، وكذلك شذاذ من حضرموت فإن لم تفعل خشينا أن تتفرق الناس عنا إليهم.
فأجابهم إلى تبييت القوم فاجتمعوا وطرقوهم فوجدوهم جلوسا حول نيرانهم فأكبوا على بني عمرو بن معاوية وفيهم العدد والشوكة من خمسة أوجه
380

فأصابوا مشرحا، ومخوصا، وجمدا، وأبضعة وأختهم العمردة، وأدركتهم لعنة النبي صلى الله عليه وسلم، وقتلوا فأكثروا، وهرب من أطلق الهرب، وعاد زياد بن لبيد بالأموال والسبي واجتازوا بالأشعث، فثار في قومه واستنقذهم، وجمع الجموع.
وكتب زياد إلى المهاجر يستحثه فلقيه الكتاب بالطريق فاستخلف على الجند عكرمة بن أبي جهل وتعجل في سرعان الناس وقدم على زياد، وسار إلى كندة فالتقوا بمحجر الزرقان فاقتتلوا فانهزمت كندة وقتلت وخرجوا هرابا فالتجأوا إلى النجير، وقد رموه وأصلحوه. وسار المهاجر فنزل عليهم واجتمعت كندة في النجير فتحصنوا به فحصرهم المسلمون، وقدم إليهم عكرمة فاشتد الحصر على كندة وتفرقت السرايا قي طلبهم، فقتلوا منهم، وخرج من بالنجير من كندة وغيرهم فقاتلوا المسلمين فكثر فيهم القتل، فرجعوا إلى حصنهم، وخشعت نفوسهم، وخافوا القتل، وخاف الرؤساء على نفوسهم، فخرج الأشعث ومعه تسعة نفر، فطلبوا من زياد أن يؤمنهم وأهليهم على أن يفتحوا له الباب فأجابهم إلى ذلك وقال: اكتبوا ما شئتم، ثم هلموا الكتاب حتى اختمه. ففعلوا، ونسي الأشعث أن يكتب نفسه لأن جحدما وثب عليه بسكين. فقال: تكتبني أو أقتلك فكتبه، ونسي نفسه ففتحوا الباب فدخل المسلمون فلم يدعوا مقاتلا إلا قتلوه وضربوا أعناقهم صبرا وأخذوا الأموال والسبي فلما فرغوا منهم، دعا الأشعث أولئك النفر والكتاب معهم فعرضهم فأجاز من في الكتاب فإذا الأشعث ليس منهم، فقال المهاجر: الحمد لله الذي خطأك نوءك: يا أشعث، يا عدو الله، قد كنت أشتهي أن يخزيك الله. وشده كتافا [وهم بقت له] فقيل له: أخره وسيره إلى أبي بكر فهو أعلم بالحكم فيه،
381

فسيره إلى أبي بكر مع السبي.
وقيل: إن الحصار لما اشتد على من بالنجير نزل الأشعث إلى المهاجر وزياد والمسلمين فسألهم الأمان على دمه وماله حتى يقدموا به على أبي بكر فيرى فيه رأيه على أن يفتح لهم النجير، ويسلم إليهم من فيه، وغدر بأصحابه، فقبلوا ذلك منه، ففتح لهم الحصن فاستنزلوا من فيه من الملوك، فقتلوهم، وأوثقوا الأشعث، وأرسلوه مع السبي إلى أبي بكر، فكان المسلمون يلعنونه ويلعنه سبايا قومه، وسماه نساء قومه عرف النار وهو اسم الغادر عندهم، فلما قدم المدينة قال له أبو بكر: ما تراني أصنع بك؟ قال: لا علم. قال: فإني أري قتلك. قال: فإني أنا الذي راوضت القوم في عشرة فما يحل دمي. قال: إنما وجب الصلح بعد ختم الصحيفة على من فيها، وإنما كنت قبل ذلك مراوضا. فلما خشي القتل قال: أو تحتسب في خيرا فتطلق أسارى، وتقيلني عثرتي، وتفعل بي مثل ما فعلت بأمثالي وترد علي زوجتي؟ - وقد كان خطب أم فروة أخت أبي بكر فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم أخرها إلى أن يقدم الثانية فمات النبي صلى الله عليه وسلم وارتد - فإن فعلت ذلك تجدني خير أهل بلادي لدين الله. فحقن دمه ورد عليه أهله وأقام بالمدينة حتى فتح العراق، وقسم الغنائم بين الناس.
وقيل: إن عكرمة قدم بعد الفتح فقال زياد والمهاجر لمن معهما: إن إخوانكم قدموا مددا لكم فأشركوهم في الغنيمة. ففعلوا وأشركوهم.
ولما ولي عمر بن الخطاب قال: إنه لقبيح بالعرب أن يملك بعضهم بعضا، وقد وسع الله عز وجل وفتح الأعاجم واستشار في فداء سبايا العرب في الجاهلية والإسلام إلا امرأة ولدت لسيدها وجعل فداء لكل انسان ستة أبعرة أو سبعة إلا حنيفة وكندة فإنه خفف عليهم لقتل رجالهم فتتبع النساء بكل مكان فقدوهن.
382

وفيها انصرف معاذ بن جبل من اليمن. وفيها استقضى أبو بكر عمر بن الخطاب، وكان يقضي بين الناس
خلافته كلها.
وحج بالناس في هذه السنة عتاب بن أسيد، وقيل: عبد الرحمن بن عوف.
(النجير بضم النون وفتح الجيم وسكون الياء تحتها نقطتان وآخره راء حصن باليمن منيع).
383

12
ثم دخلت سنة اثنتي عشرة
ذكر مسير خالد بن الوليد إلى العراق وصلح الحيرة
في هذه السنة في المحرم منها أرسل أبو بكر إلى خالد بن الوليد وهو باليمامة يأمره بالمسير إلى العراق، وقيل: بل قدم المدينة من اليمامة فسيره أبو بكر إلى العراق فسار حتى نزل ببانقيا وباروسما وأتيس وصالحه أهلها. وكان الذي صالحه عليها ابن صلوبا على عشرة آلاف دينار سوى حرزة كسرى، وكانت على كل رأس أربعة دراهم، وأخذ منهم الجزية، ثم سار حتى نزل الحيرة. فخرج إليه أشرافها مع إياس بن قبيصة الطائي - وكان أميرا عليها بعد النعمان بن المنذر - فدعاهم خالد إلى الإسلام أو الجزية أو المحاربة. فاختاروا الجزية فصالحهم على تسعين ألف درهم فكانت أول جزية أخذت من الفرس في الاسلام. هي والقريات التي صالح عليها.
وقيل: إنما أمره أبو بكر أن يبدأ بالأبلة وكتب إلى عياض بن غنم أن يقصد العراق ويبدأ بالمصيخ ويدخل العراق من أعلاه، ويسير حتى يلقى خالدا، وكان المثنى بن حارثة الشيباني قد استأذن أبا بكر أن يغزو بالعراق
384

فأذن له، فكان يغزوهم قبل قدوم خالد، وأمر أبو بكر خالدا، وعياضا أن يستنفرا من قاتل أهل الردة وأن لا يغزون معهما مرتدا ففعلا، وكتبا إليه يستمدانه، فأمد خالدا بالقعقاع بن عمرو التميمي فقيل له: أتمد برجل واحد؟ فقال: لا يهزم جيش فيهم مثل هذا. وأمد عياضا بعبد بن غوث الحميري، وكتب أبو بكر إلى المثنى، وحرملة، ومعذور، وسلمى أن يلحقوا بخالد بالأبلة فقدم خالد ومعه عشرة آلاف مقاتل، وكان مع المثنى وأصحابه ثمانية آلاف.
ولما قدم خالد فرق جنده ثلاث فرق ولم يحملهم على طريق واحد، على مقدمته المثنى، وبعده عدي بن حاتم، وجاء خالد بعدهما، ووعدهما الحفير ليصادموا عدوهم، وكان ذلك الفرج أعظم فروج فارس شأنا وأشدها شوكة، فكان صاحبه أسوار اسمه هرمز، فكان يحارب العرب في البر. والهند في البحر، فلما سمع هرمز بهم كتب إلى أردشير الملك بالخبر وتعجل هو إلى الكواظم في سرعان أصحابه، فسمع أنهم تواعدوا الحفير فسبقهم إليه، ونزل به، وجعل على مقدمته قباذ وأنوشجان وكانا من أولاد أردشير الأكبر واقترنوا في السلاسل لئلا يفروا فسمع بهم خالد فمال بالناس إلى كاظمة فسبقه هرمز إليها، وكان سيئ المجاورة للعرب، فكلهم عليه حنق، وكانوا يضربونه مثلا فيقولون: أكفر من هرمز.
وقدم خالد فنزل على غير ماء فقال له أصحابه في ذلك: ما تفعل؟ فقال لهم: لعمري ليصيرن الماء لأصبر الفريقين. فحطوا أثقالهم وتقدم خالد إلى الفرس. فلاقاهم وأرسل الله سحابة فأغدرت وراء صف المسلمين فقويت قلوبهم، وخرج هرمز ودعا خالدا إلى البراز وواطأ أصحابه على الغدر بخالد
385

فبرز إليه خالد ومشى نحوه راجلا ونزل هرمز أيضا وتضاربا، فاحتضنه خالد، وحمل أصحاب هرمز فما شغله ذلك عن قتله، وحمل القعقاع بن عمرو فأزاحهم، وانهزم أهل فارس، وركبهم المسلمون [إلى الليل]. وسميت الوقعة ذات السلاسل، ونجا قباذ وأنوشجان، وأخذ خالد سلب هرمز، وكانت قلنسوته بمائة ألف لأنه كان قد تم شرفه في الفرس، وكانت هذه عادتهم إذا تم شرف الانسان تكون قلنسوته بمائة ألف، وبعث خالد بالفتح والأخماس إلى أبي بكر، وسار حتى نزل بموضع الجسر الأعظم بالبصرة، وبعث المثنى بن حارثة في آثارهم، وأرسل معقل بن مقرن إلى الأبلة ففتحها فجمع الأموال بها والسبي.
وهذا القول خلاف ما يعرفه أهل النقل لأن فتح الأبلة كان على يد عتبة بن غزوان أيام عمر بن الخطاب سنة أربع عشرة.
وحاصر المثنى بن حارثة حصن المرأة ففتحه، وأسلمت، ولم يعرض خالد وأصحابه إلى الفلاحين لأن أبا بكر أمرهم بذلك.
ذكر وقعة الثني
لما وصل كتاب هرمز إلى أردشير بخبر خالد أمده بقارن بن قريانس [فخرج قارن من المدائن ممد الهرمز]؛ فلما انتهى إلى المذار لقيته المنهزمون، فاجتمعوا، ورجعوا ومعهم قباذ وأنوشجان، ونزلوا الثني، وهو النهر، وسار إليهم خالد فلقيهم، واقتتلوا فبرز قارن فقتله معقل بن. الأعشى بن النباش، وقتل عاصم أنوشجان، وقتل عدي بن حاتم قباذ، وكان شرف قارن قد انتهى، ولم يقاتل المسلمون بعده أحدا
386

انتهى شرفه، وقتل من الفرس مقتلة عظيمة يبلغون ثلاثين ألفا سوي من غرق، ومنعت المياه المسلمين من طلبهم، وقسم الفيء وأنفذ الأخماس إلى المدينة وأعطى الأسلاب من سلبها، وكانت الغنيمة عظيمة وسبى عيالات المقاتلة، وأخذ الجزية من الفلاحين وصاروا ذمة، وكان في السبي أبو الحسن البصري، وكان نصرانيا، وأمر على الجند سعيد بن النعمان، وعلى الحرز سويد بن مقرن المزني، وأمره بنزول الحفير، وأقام يتجسس الأخبار.
ذكر وقعة الولجة
ولما فرغ خالد من الثني وأتى الخبر أردشير بعث الأندرزغر وكان فارسا من مولدي السواد، وأرسل بهمن جاذويه في أثره في جيش وحشر إلى الأندرزغر من بين الحيرة وكسكر، ومن عرب الضاحية، والدهاقين، وعسكروا بالولجة، وسمع بهم خالد فسار إليهم من الثني فلقيهم بالولجة، وكمن له، فقاتلهم قتالا شديدا أشد من الأول حتى ظن الفريقان أن الصبر قد فرغ واستبطأ خالد كمينه [وكان قد وضع لهم كمينا في ناحيتين عليهم بسر بن أبي رهم؛ وسعيد بن مرة العجلي] فخرجوا من ناحيتين فانهزمت صفوف الأعاجم وأخذ خالد من بين أيديهم، والكمين من خلفهم، فقتل منهم خلقا كثيرا، ومض الأندرزغر منهزما فمات عطشا، وأصاب خالد ابنا لجابر بن بجير وابنا لعبد الأسود من بكر بن وائل، وكانت وقعة الولجة في صفر وبذل الأمان للفلاحين فعادوا وصاروا ذمة، وسبي ذراري المقاتلة ومن أعانهم.
387

ذكر وقعة أليس وهو على الفرات
لما أصاب خالد يوم الولجة ما أصاب من نصارى بكر بن وائل، الذين أعانوا الفرس غضب لهم نصارى قومهم فكاتبوا الفرس، واجتمعوا على أليس، وعليهم عبد الأسود العجلي، وكان مسلمو بني عجل منهم عتيبة بن النهاس، وسعيد بن مرة، وفرات بن حيان، ومذعور بن عدي، والمثنى بن لاحق أشد الناس على أولئك النصارى، وكتب أردشير إلى بهمن جاذويه، وهو بقشيناثا يأمره بالقدوم على نصارى العرب بأليس، فقدم بهمن جاذويه جابان إليهم، وأمره بالتوقف عن المحاربة إلى أن يقدم عليه، ورجع بهن جاذويه إلى أردشير ليشاوره فيما يفعل. فوجده مريضا. فتوقف عليه، فاجتمع على جابان نصارى عجل، وتيم اللات، وضبيعة، وجابر بن بجير، وعرب الضاحية من أهل الحيرة.
وكان خالد لما بلغه تجمع نصارى بكر، وغيرهم سار إليهم ولا يشعر بدنو جابان. فلما طلع جابان باليس قالت العجم له: أنعاجلهم أم نغدي الناس، ولا نريهم أنا نحفل بهم. ثم نقاتلهم؟ فقال جابان: إن تركوكم فتهاونوا بهم. فعصوه، وبسطوا الطعام [ووضعوا الأطعمة، وتداعوا إليها، وتوافوا إليها]، وانتهى خالد إليهم، وحط الأثقال، فلما وضعت
388

توجه إليهم وطلب مبارزة عبد الأسود، وابن أبجر، ومالك بن قيس فبرز إليه مالك من بينهم، فقتله خالد، وأعجل الأعاجم عن طعامهم. فقال لهم جابان: ألم أقل لكم والله ما دخلتني من مقدم جيش وحشة إلا هذا؟ وقال لهم: حيث لم تقدروا على الأكل فسموا الطعام فإن ظفرتم فأيسرها لك وإن كانت لهم هلكوا بأكله. فلم يفعلوا، واقتتلوا قتالا شديدا، والمشركون يزيدهم كلبا وثبوتا توقعهم قدوم بهمن جاذويه فصابروا المسلمين، فقال خالد: اللهم إن هزمتهم فعلي أن لا أستبقي منهم من أقدر عليه حتى أجرى من دمائهم نهرهم، فانهزمت فارس، فنادى منادي خالد الأسراء الأسراء إلا من امتنع. فاقتلوه فأقبل بهم المسلمون أسراء ووكل بهم من يضرب أعناقهم يوما
وليلة. فقال له القعقاع وغيره: لو قتلت أهل الأرض لم تجر دماؤهم، فأرسل عليها الماء تبر يمينك، ففعل وسمى نهر الدم، ووقف خالد على الطعام وقال للمسلمين: قد نفلتكموه. فتعشى به المسلمون، وجعل من لم ير الرقاق يقول: ما هذه الرقاع البيض!
وبلغ عدد القتلى سبعين ألفا، وكانت الوقعة في صفر.
[ذكر وقعة أمغيشيا]
فلما فرغ من أليس. سار إلى أمغيشيا - وقيل اسمها: منيشيا - فأصابوا فيها ما لم يصيبوا مثله لأن أهلها أعجلهم المسلمون أن ينقلوا أموالهم، وأثاثهم، وكراعهم وغير ذلك، وأرسل إلى أبي بكر بالفتح. ومبلغ الغنائم، والسبي، وأخرب أمغيشيا، فلما بلغ ذلك أبا بكر قال:
عجزت النساء أن يلدن مثل خالد.
389

ذكر وقعة يوم فرات بادقلى وفتح الحيرة
ثم سار خالد من أمغيشيا إلى الحيرة، وحمل الرجال والأثقال في السفن فخرج مرزبان الحيرة، وهو الأزاذبه فعسكر عند الغريين وأرسل ابنه فقطع الماء عن السفن فبقيت على الأرض، فسار خالد في خيل نحو ابن الأزاذبه فلقيه على فرات
بادقلى فضربه وقتله وقتل أصحابه، وسار نحو الحيرة فهرب منه الأزاذبه، وكان قد بلغه موت أردشير وقتل ابنه فهرب بغير قتال، ونزل المسلمون عند الغريين وتحصن أهل الحيرة فحصرهم في قصورهم، وكان ضرار بن الأزور محاصرا القصر الأبيض، وفيه إياس بن قبيصة الطائي، وكان ضرار بن الخطاب محاصرا قصر الغريين، وفيه عدي بن عدي المقتول، وكان ضرار بن مقرن المزني عاشر عشرة إخوة محاصرا قصر ابن مازن، وفيه ابن أكال، وكان المثنى محاصرا قصر ابن بقيلة، وفيه عمرو بن المسيح بن بقيلة، فدعوهم جميعا وأجلوهم يوما وليلة فأبى أهل الحيرة. وقاتلهم المسلمون فافتتحوا الدور والأديار وأكثروا القتل فنادى القسيسون والرهبان: يا أهل القصور ما يقتلنا غيركم! فنادى أهل القصور المسلمين قد قبلنا واحدة من ثلاث وهي: إما الاسلام، أو الجزية، أو المحاربة. فكفوا عنهم؛ وخرج إليهم إياس بن قبيصة، وعمرو بن عبد المسيح بن قيس بن حيان بن الحارث، وهو بقيلة، وإنما سمي بقيلة لأنه خرج على قومه في بردين أخضرين فقالوا: ما أنت إلا بقيلة خضراء. فأرسلوهم إلى خالد فكان الذي يتكلم عنهم عمرو بن عبد المسيح، فقال له خالد: كم أتى عليك؟ قال: مئو سنين. قال: فما أعجب ما رأيت؟ قال: رأيت القرى منظومة ما بين دمشق. والحيرة تخرج المرأة فلا تتزود إلا رغيفا. فتبسم خالد وقال لأهل الحيرة:
390

ألم يبلغني أنكم خبثة خدعة، فما بالكم تتناولون حوائجكم بخرف لا يدري من أين جاء؟
فأحب عمرو أن يريه من نفسه ما يعرف به عقله وصحة ما حدثه به. قال: وحقك إني لأعرف من أين جئت؟. قال: فمن أين خرجت؟ قال: من بطن أمي. قال: فأين تريد؟ قال: أمامي. قال: وما هو؟ قال: الآخرة. قال: فمن أين أقص أثرك؟ قال: من صلب أبي. قال: ففيم أنت؟ قال: في ثيابي. قال: أتعقل؟ قال: أي والله وأقيد. قال خالد: إنما أسألك. قال: فأنا أجيبك. قال: أسلم أنت أم حرب؟ قال: بل سلم قال: فما هذه الحصون؟ قال: بنيناها للسفيه نحبسه حتى ينهاه الحليم. قال: خالد: قتلت أرض جاهلها وقتل أرضا عالمها القوم أعلم بما فيهم.
وكان مع ابن بقيلة خادم معه كيس فيه سم فأخذه خالد ونثره في يده وقال: لم تستصحب هذا؟ قال: خشيت أن تكونوا على غير ما رأيت فكان الموت أحب إلي من مكروه ادخله على قومي فقال خالد: أنها لن تموت نفسي حتى تأتي على أجلها، وقال: باسم الله خير الأسماء، رب الأرض والسماء، الذي لا يضر مع اسمه داء، الرحمن الرحيم وابتلع السم، فقال ابن بقيلة: والله لتبلغن ما أردتم ما دام أحد منكم هكذا.
وأبى خالد أن يصالحهم إلا على تسليم كرامة بنت عبد المسيح إلى شويل فأبوا فقالت لهم: هونوا وأسلموني فإني سأفتدي، ففعلوا فأخذها شويل، فافتدت منه بألف درهم فلامه الناس. فقال: ما كنت أظن أن عددا أكثر من هذا.
وكان سبب تسليمها إليه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر استيلاء
391

أمته على ملك فارس والحيرة سأله شويل أن يعطي كرامة ابنة عبد المسيح وكان رآها شابة فمال إليها فوعده النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فلما فتحت الحيرة طلبها، وشهد له شهود بوعد النبي صلى الله عليه وسلم أن يسلمها إليه فسلمها إليه خالد.
وصالحهم على مائة ألف وتسعين ألفا. وقيل: على مائتي ألف وتسعين ألفا، وأهدوا له هدايا، فبعث بالفتح والهدايا إلى أبي بكر فقبلها أبو بكر من الجزية؟ وكتب إلى خالد أن يأخذ منهم بقية الجزية. ويحسب لهم الهدية.
وكان فتح الحيرة في شهر ربيع الأول سنة اثنتي عشرة، وكتب لهم خالد كتابا فلما كفر أهل السواد ضيعوا الكتاب، فلما افتتحها المثنى ثانية عاد بشرط آخر، فلما عادوا كفروا، وافتتحها سعد بن أبي وقاص ووضع عليهم أربعمائة ألف.
قال خالد: ما لقيت قوما كأهل فارس وما لقيت من أهل فارس كأهل أليس.
ذكر ما بعد الحيرة
قيل: كان الدهاقين يتربصون بخالد، [وينظرون] ما يصنع أهل الحيرة، فلما صالحهم واستقاموا له. اتته الدهاقين من تلك النواحي، أتاه دهقان فرات سريا، وصلوا بابن نسطونا، ونسطونا. فصالحوه على ما بين الفلاليج إلى هرمز جرد على ألفي ألف، وقيل: ألف ألف سوى ما كان لآل كسرى، وبعث خالد عماله ومسالحه، وبعث ضرار بن الأزور، وضرار بن الخطاب، والقعقاع بن عمرو، والمثنى بن حارثة، وعيبة بن النهاس. فنزلوا على السيب، وهم كانوا أمراء
392

الثغور مع خالد، وأمرهم بالغارة فمخروا ما وراء ذلك إلى شاطيء دجلة، وكتب خالد إلى أهل فارس يدعوهم إلى الاسلام أو الجزية فإن أجابوا وإلا حاربهم، فكان العجم مختلفين بموت أردشير إلا إنهم قد أنزلوا بهمن جاذويه بهر سير ومعه غيره كأنه مقدمة لهم، وجبى خالد الخراج في خمسين ليلة، وأعطاه المسلمين، ولم يبق لأهل فارس فيما بين الحيرة. ودجلة أمر لاختلافهم بموت أردشير إلا أنهم مجمعون على حرب خالد، وخالد مقيم بالحيرة يصعد ويصوب سنة قبل خروجه إلى الشام والفرس يخلعون ويملكون ليس إلا الدفع عن بهر سير، وذلك أن شيري بن كسرى قتل كل من كان يناسبه إلى أنو شروان، وقتل أهل فارس بعده وبعد أردشير ابنه من كان بين أنو شروان. وبين بهرام جور فبقوا لم يقدروا على من يملكونه ممن يجتمعون عليه، فلما وصلهم كتب خالد تكلم نساء آل كسرى فولى الفرخزاد بن البنذوان إلى أن يجتمع آل كسرى على من يملكونه إن وجدوه.
ووصل جرير بن عبد الله البجلي إلى خالد بعد فتح الحيرة، وكان سبب وصوله اليه أنه كان مع خالد بن سعيد بن العاص بالشام فاستأذنه في المسير إلى أبي بكر ليكلمه في قومه ليجمعهم له وكانوا أوزاعا متفرقين في العرب، فأذن له فقدم على أبي بكر فذكر له ذلك وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعده به وشهد له شهود [وسأله إنجاز ذلك] فغضب أبو بكر، وقال: [له] نرى شغلنا وما نحن فيه بغوث المسلمين ممن بإزائهم [من الأسدين] فارس والروم، ثم أنت تكلفني [التشاغل] بما لا يغني [عما هو أرضى لله ولرسوله! دعني]. وأمره بالمسير إلى خالد بن الوليد، فسار حتى قدم عليه بعد فتح الحيرة، ولم يشهد شيئا مما قبلها بالعراق ولا شيئا مما كان خالد فيه من قتل أهل الردة.
(عتيبة بالتاء المثناة من فوقها وبالياء المثناة من تحتها وبالباء الموحدة).
393

ذكر فتح الأنبار
ثم سار خالد على تعبيته إلى الأنبار، وأنما سمي الأنبار لأن أهراء الطعام كانت بها أنابير، وعلى مقدمته الأقرع بن حابس. فلما بلغها أطاف بها، وأنشب القتال، وكان قليل الصبر عنه وتقدم إلى رماله أن يقصدوا عيونهم فرموا رشقا واحدا، ثم تابعوا فأصابوا ألف عين، فسميت تلك الوقعة ذات العيون، وكان على من بها من الجند شيرزاد صاحب ساباط، فلما رأى ذلك أرسل يطلب الصلح على أمر لم يرضه خالد، فرد رسله ونحر من إبل
العسكر كل ضعيف وألقاه في خندقهم ثم عبره، فاجتمع المسلمون والكفار في الخندق. فأرسل شيرزاد إلى خالد وبذل له ما أراد. فصالحه على أن يلحقه بمأمنه في جريدة ليس معهم من متاع شيء وخرج شير زاد إلى بهمن جاذويه، ثم صالح خالد من حول الأنبار وأهل كلواذى.
ذكر فتح عين التمر
ولما فرغ خالد من الأنبار استخلف عليها الزبرقان بن بدر وسار إلى عين التمر، وبها مهران بن بهرام جوبين في جمع عظيم من العجم، وعقة بن أبي عقة في جمع عظيم من العرب. من النمر، وتغلب، وإياد، وغيرهم، فلما سمعوا بخالد. قال عقة لمهران: إن العرب أعلم بقتال العرب فدعنا وخالدا. قال: صدقت فأنتم أعلم بقتال العرب وإنكم لمثلنا في قتال العجم فجدعه
394

واتقى به، وقال: وإن احتجتم إلينا أعناكم فلامه أصحابه من الفرس على هذا القول، فقال لهم إنه قد جاءكم من قتل ملوككم، وفل حدكم. فاتقيته بهم فإن كانت لكم على خالد فهي لكم، وإن كانت الأخرى لم يبلغوا منهم حتى يهنوا فنقاتلهم ونحن أقوياء، فاعترفوا له وسار عقة إلى خالد فالتقوا فحمل خالد بنفسه على عقة، وهو يقيم صفوفه فاحتضنه، وأخذه أسيرا وانهزم عسكره من غير قتال، فأسر أكثرهم.
فلما بلغ الخبر مهران هرب في جنده وتركوا الحصن، فلما انتهى المنهزمون إليه تحصنوا به فنازلهم خالد فطلبوا منه الأمان، فأبن فنزلوا على حكمه فأخذهم أسرى، وقتل عقة ثم قتلهم أجمعين وسبى كل من في الحصن وغنم ما فيه، ووجد في بيعتهم أربعين غلاما يتعلمون الإنجيل فأخذهم فقسمهم في أهل البلاء منهم سيرين أبو محمد، ونصير أبو موسى، وحمران مولى عثمان، وأرسل إلى أبي بكر بالخبر والخمس.
وفي عين التمر قتل عمير بن رئاب السهمي وكان من مهاجرة الحبشة، ومات بها بشير بن سعد الأنصاري والد النعمان فدفن بها إلى جانب عمير.
ذكر خبر دومة الجندل
ولما فرغ خالد من عين التمر أتاه كتاب عياض بن غنم يستمده على من بإزائه من المشركين فسار خالد إليه فكان بإزائه بهراء، وكلب، وغسان، وتنوخ، والضجاعم، وكانت دومة على رئيسين، أكيدر بن عبد الملك والجودي
395

ابن ربيعة، فأما أكيدر فلم ير قتال خالد وأشار بصلحه خوفا فلم يقبلوا منه، فخرج عنهم وسمع خالد بمسيره فأرسل إلى طريقه فأخذه أسيرا فقتله وأخذ ما كان معه، وسار حتى نزل على أهل دومة الجندل فجعلها بينه وبين عياض، فلما اطمئن خالد خرج إليه الجودي في جمع ممن عنده من العرب لقتاله، وأخرج طائفة أخرى إلى عياض فقاتلهم عياض فهزمهم فهزم خالد من يليه، وأخذ الجودي أسيرا وانهزموا إلى الحصن، فلما امتلأ أغلقوا الباب دون أصحابهم فبقوا حوله، فأخذهم خالد فقتلهم حتى سد باب الحصن، وقتل الجودي، وقتل الأسرى إلا أسرى كلب فإن بني تميم قالوا لخالد: قد أمناهم وكانوا حلفاءهم فتركهم.
ثم أخذ الحصن قهرا فقتل المقاتلة وسبى الذرية والسرح فباعهم واشترى خالد ابنة الجودي، وكانت موصوفة.
وأقام خالد بدومة الجندل فطمع الأعاجم وكاتبهم عرب الجزيرة غضبا لعقة، فخرج زرمهر وروزبه يريدان الأنبار واتعدا حصيدا والخنافس، فسمع القعقاع بن عمرو وهو خليفة خالد على الحيرة فأرسل أعبد بن فدكي وأمره بالحصيد، وأرسل عروة بن الجعد البارقي إلى الخنافس فخرجا فحالا بينهما وبين الريف، ورجع خالد إلى الحيرة فبلغه ذلك - وكان عازما على مصادمة أهل المدائن فمنعه من ذلك كراهية مخالفة أبي بكر - فعجل القعقاع بن عمرو وأبا ليلى بن فدكي إلى روزبه وزرمهر، ووصل إلى خالد أن الهذيل بن عمران قد عسكر بالمصيخ، ونزل ربيعة بن بجير بالثني وبالبشر غضبا لعقة يريدان زرمهر، وروزبه، فخرج خالد وسار إلى القعقاع وأبي ليلى. فاجتمع بهما بالعين فبعث القعقاع إلى حصيد وبعث أبا ليلى إلى الخنافس.
396

ذكر وقعة حصيد والخنافس
فسار القعقاع نحو حصيد، وقد اجتمع بها روزبه، وزرمهر فالتقوا بحصيد، فقتل من العجم مقتلة عظيمة فقتل القعقاع زرمهر، وقتل عصمة بن عبد الله أحد بني الحارث بن طريف الضبي روزبه، وكان عصمة من البررة، وهم كل فخذ هاجرت
بأسرها، والخيرة كل قوم هاجروا من بطن، وغنم المسلمون ما في حصيد، وانهزمت الأعاجم إلى الخنافس، وسار أبو ليلى بمن معه إلى الخنافس، وبها المهبوذان على العسكر، فلما أحس المهبوذان بهم هرب إلى المصيخ إلى الهذيل بن عمران.
ذكر وقعة مصيخ بني البرشاء
ولما انتهى الخبر إلى خالد بمصاب أهل الحصيد - وهرب أهل الخنافس كتب إلى القعقاع، وأبي ليلى، وأعبد، وعروة، ووعدهم ليلة وساعة يجتمعون فيها إلى المصيخ، وخرج خالد من العين قاصدا إليهم. فلما كانت تلك الساعة من ليلة الموعد اتفقوا جميعا بالمصيخ فأغاروا على الهذيل، ومن معه وهم نائمون من ثلاثة أوجه فقتلوهم، وأفلت الهذيل في ناس قليل، وكثر فيهم القتل، وكان مع الهذيل عبد العزى بن أبي رهم أخو أوس مناة، ولبيد بن جرير وكانا قد أسلما ومعهما كتاب أبي بكر بإسلامهما فقتلا في المعركة، فبلغ ذلك أبا بكر وقول عبد العزى:
397

أقول إذ طرق الصباح بغارة * سبحانك اللهم رب محمد
سبحان ربي لا إله غيره * رب البلاد ورب من يتورد
فوداهما وأوصى بأولادهما فكان عمر يعتد بقتلهما، وقتل مالك بن نويرة على خالد فيقول أبو بكر: كذلك يلقى من نازل أهل الشرك، وقد كان حرقوص بن النعمان بن النمر قد نصحهم فلم يقبلوا منه فجلس مع زوجته وأولاده يشربون، فقال لهم: اشربوا شراب مودع هذا خالد بالعين وجنوده بالحصيد، ثم قال:
ألا اسقياني قبل خيل أبي بكر * لعل منايانا قريب وما ندري
فضرب رأسه، فإذا هو في جفنة فيها الخمر، وقتلوا أولاده: فأخذوا بناته.
وقيل: إن قتل حرقوص، وهذه الوقعة ووقعة الثني كان في مسير خالد بن الوليد من العراق إلى الشام، وسيذكر ان شاء الله تعالى.
ذكر وقعة الثني والزميل
وكان ربيعة بن بجير التغلبي بالثني، والبشر، وهو الزميل، وهما شرقي الرصافة، قد خرج غضبا لعقة وواعد روزبه، وزرمهر، والهذيل؛ ولما أصاب خالد أهل المصيخ، واعد القعقاع، وأبا ليلى ليلة. وأمرهما بالمسير ليغيروا عليهم، فسار خالد من المصيخ فاجتمع هو وأصحابه بالثني فبيتهم من ثلاثة أوجه وجردوا فيهم السيوف، فلم يفلت منهم مخبر، وغنم وسبى
398

وبعث بالخبر والخمس إلى أبي بكر، فاشترى علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه بنت ربيعة بن بجير التغلبي. فولدت له عمر ورقية.
ولما انهزم الهذيل بالمصيخ لحق بعتاب بن فلان وهو بالبشر في عسكر ضخم فبيتهم خالد بغارة شعواء من ثلاثة أوجه قبل أن يصل إليهم خبر ربيعة فقتل منهم مقتلة عظيمة لم يقتلوا مثلها وقسم الغنائم وبعث الخمس إلى أبي بكر، وسار خالد من البشر إلى الرضاب، وبها هلال بن عقة. فتفرق عنه أصحابه، وسار هلال عنها فلم يلق خالد بها كيدا.
ذكر وقعة الفراض
ثم سار خالد من الرضاب إلى الفراض وهي تخوم الشام، والعراق، والجزيرة، وأفطر بها رمضان لاتصال الغزوات، وحميت الروم واستعانوا بمن يليهم من مسالح الفرس فأعانوهم، واجتمع معهم تغلب، وإياد، والنمر، وساروا إلى خالد، فلما بلغوا الفرات قالوا له: إما أن تعبروا إلينا وإما أن نعبر إليكم. قال خالد: اعبروا. قالوا له: تنخ عن طريقنا حتى نعبر. قال: لا أفعل ولكن اعبروا أسفل منا. فعبروا أسفل من خالد، وعظم في أعينهم، وقالت الروم: امتازوا حتى نعرف اليوم من يثبت ممن يولي، ففعلوا فاقتتلوا قتالا عظيما، وانهزمت الروم ومن معهم، وأمر خالد المسلمين أن لا يرفعوا عنهم فقتل في المعركة وفي الطلب مائة ألف، وأقام خالد
على الفراض عشرا، ثم أذن بالرجوع إلى الحيرة لخمس بقين من ذي القعدة [وأمر عاصم بن عمرو أن يسير بهم]، وجعل شجرة بن الأعز على الساقة وأظهر خالد أنه في الساقة.
399

ذكر حجة خالد
ثم خرج خالد حاجا من الفراض سرا ومعه عدة من أصحابه يعسف البلاد فأتى مكة وحج ورجع فما توافى جنده بالخبر حتى وافاهم مع صاحب الساقة فقدما معا، وخالد وأصحابه محلقون ولم يعلم بحجه إلا من أعلمه به ولم يعلم أبو بكر بذلك إلا بعد رجوعه فعتب عليه، وكانت عقوبته إياه أن صرفه إلى الشام من العراق ممدا جموع المسلمين باليرموك، وكان أهل العراق أيام علي إذا بلغهم عن معاوية شيء يقولون: نحن أصحاب ذات السلاسل ويسمون ما بينها، وبين الفراض، ولا يذكرون ما بعد الفراض احتقارا للذي كان بعدها.
وأغار خالد بن الوليد على سوق بغداد، ووجه المثنى فأغار على سوق فيها جمع لقضاعة وبكر، وأغار أيضا على مسكن، وقطربل وتل عقرقوف وبادوريا، قال الشاعر:
وللمثنى بالعال معركة * شاهدها من قبيله بشر
كتيبة أفزعت بوقعتها * كسرى وكاد الإيوان ينفطر
وشجع المسلمون إذ حذروا * وفي صروف التجارب العبر
سهل نهج السبيل فاقتفروا * آثاره والأمور تقتفر
يعني بالعال الأنبار، ومسكن، وقطربل، وبادوريا.
* * *
وفيها تزوج عمر عاتكة بنت زيد. وفيها مات أبو العاص بن الربيع في
400

ذي الحجة وأوصى إلى الزبير، وتزوج علي عليه السلام ابنته امامة، وأمها زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفيها اشترى عمر أسلم مولاه في قول، وحج بالناس هذه السنة أبو بكر، واستخلف على المدينة عثمان بن عفان، وقيل: حج بالناس عمر بن الخطاب أو عبد الرحمن بن عوف، وفيها مات أبو مرثد الغنوي، وهو بدري؟ وكان ابنه مرثد بن أبي مرثد قد قتل بالرجيع وهو بدري أيضا.
401

13
ثم دخلت سنة ثلاث عشرة
ذكر فتوح الشام
قيل: في سنة ثلاث عشرة وجه أبو بكر الجنود إلى الشام بعد عوده من الحج، فبعث خالد بن سعيد بن العاص، وقيل: إنما سيره لما سير خالد بن الوليد إلى العراق، وكان أول لواء عقده إلى الشام لواء خالد، ثم عزله قبل أن يسير.
وكان سبب عزله أنه تربص ببيعة أبى بكر شهرين ولقي علي بن أبي طالب؟ وعثمان بن عفان. فقال: يا أبا الحسن، يا بني عبد مناف أغلبتم عليها؟ فقال: على أمغالبة تري أم خلافة.
فأما أبو بكر فلم يحقدها عليه، وأما عمر فاضطغنها عليه. فلما ولاه أبو بكر لم يزل به عمر حتى عزله عن الامارة وجعله ردءا للمسلمين بتيماء، وأمره أن لا يفارقها إلا بأمره وأن يدعو من حوله من العرب إلا من ارتد، وأن لا يقاتل إلا من قاتله، فاجتمع إليه جموع كثيرة. وبلغ خبره الروم فضربوا البعث على العرب الضاحية بالشام من بهراء، وسليح، وتنوخ، وغسان، وكلب، ولخم، وجذام، فكتب خالد بن سعيد إلى أبي بكر بذلك فكتب إليه أبو بكر أقدم ولا تقتحمن. فسار إليهم، فلما دنا منهم تفرقوا فنزل منزلهم وكتب إلى أبي بكر بذلك، فأمره بالإقدام بحيث لا يؤتى من خلفه، فسار حتى جازه
402

قليلا ونزل فسار إليه بطريق [من بطارقة] الروم يدعى باهان فقاتله، فهزمه، وقتل من جنده، فكتب خالد إلى أبي بكر يستمده، وكان قد قدم على أبي بكر أوائل مستنفري اليمن، وفيهم ذو الكلاع، وقدم عكرمة بن أبي جهل فيمن كان معه من تهامة، وعمان، والبحرين، والسرو فكتب لهم أبو بكر إلى أمراء الصدقات أن يبدلوا من استبدل. فكلهم استبدل فسمى جيش البدال، وقدموا على خالد بن سعيد.
وعندها اهتم أبو بكر بالشام وعناه أمره، وكان أبو بكر قد رد عمرو بن العاص إلى عمله الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولاه إياه من صدقات سعد هذيم، وعذرة، وغيرهم قبل ذهابه إلى عمان، ووعده أن يعيده إلى عمله بعد عوده من عمان فأنجز له أبو بكر عدة رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فلما عزم على قصد الشام كتب له: إني كنت قد رددتك على العمل الذي ولاك رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة، ووعدك به أخري إنجازا لمواعيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وليته، وقد أجبت أن أفرغك لما هو خير لك في الدنيا والآخرة إلا أن يكون الذي أنت فيه أحب إليك.
فكتب إليه عمرو: لا إني سهم من سهام الإسلام وأنت بعد الله الرامي بها؟ والجامع لها، فانظر أشدها، وأخشاها، وأفضلها فارم به فأمره، وأمر الوليد بن عقبة، وكان على بعض صدقات قضاعة، أن يجمعا العرب، ففعلا، وأرسل أبو بكر إلى عمرو بعض من اجتمع إليه وأمره بطريق سماها له إلى فلسطين، وأمر الوليد بالأردن وأمده ببعضهم، وأمر يزيد بن أبي سفيان
403

على جيش عظيم هو جمهور من انتدب إليه فيهم سهيل بن عمر وفي أمثاله من أهل مكة، وشيعه ماشيا، وأوصاه وغيره من الأمراء. فكان مما قال ليزيد:
إني قد وليتك لأبلوك وأجربك وأخرجك، فإن أحسنت رددتك إلى عملك وزدتك، وإن أسأت عزلتك، فعليك بتقوي الله فإنه يري من باطنك مثل الذي من ظاهرك، وإن أولى الناس بالله أشدهم توليا له، وأقرب الناس من الله أشدهم تقربا إليه بعمله، وقد وليتك عمل خالد فإياك وعبية الجاهلية فإن الله يبغضها ويبغض أهلها، وإذا قدمت على جندك فأحسن صحبتهم، وابدأهم بالخير، وعدهم إياه، وإذا وعظتهم فأوجز، فإن كثير الكلام ينسي بعضه بعضا، وأصلح نفسك يصلح لك الناس، وصل الصلوات لأوقاتها بإتمام ركوعها وسجودها والتخشع فيها، وإذا قدم عليك رسل عدوك فأكرمهم، وأقلل لبثهم حتى يخرجوا من عسكرك، وهم جاهلون به، ولا ترينهم فيروا خللك، ويعلموا علمك، وأنزلهم في ثروة عسكرك، وامنع من قبلك من محادثتهم، وكم أنت المتولي لكلامهم، ولا تجعل سرك لعلانيتك فيخلط أمرك، وإذا استشرت فاصدق الحديث تصدق المشورة، ولا تخزن عن المشير خبرك فتؤتى من قبل نفسك، واسمر بالليل في أصحابك تأتك الأخبار، وتنكشف عندك الاستار، وأكثر حرسك، وبددهم في عسكرك وأكثر مفاجأتهم في محارسهم بغير علم منهم بك، فمن وجدته غفل عن محرسه فأحسن أدبه، وعاقبه في غير إفراط، وأعقب بينهم بالليل، واجعل النوبة الأولى أطول من الأخيرة
404

فإنها أيسرهما لقربها من النهار، ولا تخف من عقوبة المستحق، ولا تلجن فيها، ولا تسرع إليها ولا تخذلها مدفعا، ولا تغفل عن أهل عسكرك. فتفسده، ولا تجسس عليهم فتفضحهم ولا تكشف الناس عن أسرارهم، واكتف بعلانيتهم، ولا تجالس العباثين وجالس أهل الصدق، والوفاء، وأصدق اللقاء ولا تجبن فيجبن الناس، واجتنب الغلول فإنه يقرب الفقر، ويدفع النصر. وستجدون أقواما حبسوا أنفسهم في الصوامع. فدعهم وما حبسوا أنفسهم له.
وهذه من أحسن الوصايا وأكثرها نفعا لولاة الأمر. ثم إن أبا بكر استعمل أبا عبيدة بن الجراح على من اجتمع وأمره بحمص، وسار أبو عبيدة على باب من البلقاء. فقاتله أهله ثم صالحوه فكان أول صلح في الشام.
واجتمع للروم جمع بالعربة من أرض فلسطين فوجه إليهم يزيد بن أبي سفيان أبا أمامة الباهلي فهزمهم، فكان أول قتال بالشام بعد سرية أسامة بن زيد. ثم أتوا الداثن فهزمهم أبو أمامة أيضا، ثم مرج الصفر استشهد فيها ابن لخالد بن سعيد، وقيل: استشهد فيها خالد أيضا، وقيل: بل سلم وانهزم على ما نذكره، وذلك أنه لما سمع توجيه الأمراء بالجنود بادر لقتال الروم فاستطرد له باهان فاتبعه خالد ومعه ذو الكلاع، وعكرمة، والوليد فنزل مرج الصفر فاجتمعت عليه مسالح باهان، وأخذوا الطرق، وخرج باهان فرأي ابن خالد بن سعيد فقتله، ومن معه فسمع خالد فانهزم فوصل في هزيمته إلى ذي المروة قريب المدينة. فأمره أبو بكر بالمقام بها، وبقي عكرمة في الناس ردءا للمسلمين يمنع من يطلبهم.
وكان قد قدم شرحبيل بن حسنة من عند خالد بن الوليد إلى أبي بكر
405

وافدا، فأمره أبو بكر بالشام وندب معه الناس واستعمله على عمل الوليد بن عقبة فأتى شرحبيل على خالد بن سعيد ففصل عنه بعض أصحابه واجتمع إلى أبي بكر ناس فأرسلهم مع معاوية بن أبي سفيان، وأمره باللحاق بأخيه يزيد، فلما مر بخالد فصل عنه بباقي أصحابه فأذن أبو بكر لخالد بدخول المدينة فلما وصل الأمراء إلى الشام نزل أبو عبيدة الجابية، ونزل يزيد البلقاء ونزل شرحبيل الأردن، وقيل: بصري، ونزل عمرو بن العاص العربة فبلغ الروم ذلك فكتبوا! لي هرقل، وكان بالقدس، فقال: أرى أن تصالحوا المسلمين، فوالله لأن تصالحوهم علن نصف ما يحصل من الشام ويبقى لكم نصفه مع بلاد الروم أحب إليكم من أن يغلبوكم على الشام ونصف بلاد الروم. فتفرقوا عنه وعصوه فجمعهم وسار بهم إلى حمص فنزلها، وأعد الجنود والعساكر وأراد إشغال كل طائفة من المسلمين بطائفة من عسكره لكثرة جنده لتضعف كل فرقة من المسلمين عمن بإزائها، فأرسل تذارق أخاه لأبيه وأمه في تسعين ألفا إلى عمرو، وأرسل جرجة بن توذر إلى يزيد بن أبي سفيان، وبعث القيقار بن نسطوس في ستين ألفا إلى أبي عبيدة بن الجراح، وبعث الدراقص نحو شرحبيل فهابهم المسلمون، وكاتبوا عمرا ما الرأي؟ فأجابهم: إن الرأي لمثلنا الاجتماع، فإن مثلنا إذا اجتمعنا لا نغلب من قلة، فإن تفرقنا لا تقوم كل فرقة لمن استقبلها لكثرة عدونا.
وكتبوا إلى أبى بكر فأجابهم مثل جواب عمرو، وقال: إن مثلكم لا يؤتى من قلة، وإنما يؤتى العشرة آلاف من الذنوب، فاحترسوا منها. فاجتمعوا باليرموك متساندين، وليصل كل واحد منكم بأصحابه. فاجتمع المسلمون باليرموك والروم أيضا، وعليهم التذارق، وعلى المقدمة جرجة، وعلى المجنبة
406

باهان، ولم يكن وصل بعد إليهم، والدراقص على الأخرى وعلى الحرب القيقار. فنزل الروم وصار الوادي خندقا لهم وإنما أرادوا أن يتأنس الروم بالمسلمين لترجع إليهم قلوبهم، ونزل المسلمون على طريقهم ليس للروم طريق إلا عليهم، فقال عمرو: أبشروا حصرت الروم، وقل ما جاء محصور بخير. وأقاموا صفرا عليهم وشهري ربيع لا يقدرون منهم على شيء من الوادي، والخندق، ولا يخرج الروم خرجة إلا أديل عليهم المسلمون.
ذكر مسير خالد بن الوليد من العراق إلى الشام
لما رأي المسلمون مطاولة الروم استمدوا أبا بكر، فكتب إلى خالد بن الوليد يأمره بالمسير إليهم، والحث، وأن يأخذ نصف الناس، ويستخلف على النصف الأخر المثنى بن حارثة الشيباني، ولا يأخذن من فيه نجدة إلا ويترك عند المثنى مثله، وإذا فتح الله عليهم رجع خالد وأصحابه إلى العراق.
فاستأثر خالد بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على المثنى، وترك للمثنى عدادهم من أهل القناعة من ليس له صحبة، ثم قسم الجند نصفين فقال المثنى: والله لا أقيم إلا على إنفاذ أمر أبي بكر وبالله ما أرجو النصر إلا بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. فلما رأي خالد ذلك أرضاه. وقيل: سار من العراق في ثمانمائة وقيل: في ستمائة، وقيل: في خمسمائة، وقيل في تسعة آلاف، وقيل: في ستة آلاف، وقيل: إنما أمره أبو بكر أن يأخذ أهل القوة والنجدة فأتى حدوداء فقاتله أهلها فظفر بهم وأتى المصيخ وبه جمع من تغلب فقاتلهم وظفر بهم وسبى وغنم.
407

وكان من السبي الصهباء بنت حبيب بن بجير، وهي أم عمر بن علي بن أبي طالب، وقيل: في أمرها ما تقدم.
وقيل: سار خالد فلما وصل إلى قراقر، وهو ماء لكلب، أغار على أهلها وأراد أن يسير عنهم مفؤزا إلى سوى وهو ماء لبهراء بينهما خمس ليال فالتمس دليلا فدل على رافع بن عميرة الطائي فقال له في ذلك فقال له رافع: إنك لن تطيق ذلك بالخيل والأثقال، فوالله إن الراكب المفرد يخافه على نفسه. فقال: أنه لا بد لي من ذلك لأخرج من وراء جموع الروم لئلا تحسبني عن غياث المسلمين. فأمر صاحب كل جماعة أن يأخذ الماء للشعبة لخمس، وأن يعطش من الإبل الشرف ما يكتفي به ثم يسقوها عللا بعد نهل، والعلل الشربة الثانية، والنهل الأولى، ثم يصروا آذان الإبل ويشدوا مشافرها لئلا تجتر، ثم ركبوا من قراقر، فلما ساروا يوما وليلة شقوا لعدة من الخيل بطون عشرة من الإبل فمزجوا ماء في كروشها بما كان من الألبان وسقوا الخيل، ففعلوا ذلك أربعة أيام. فلما دنا من العلمين قال للناس: انظروا هل ترون شجرة عوسج كقعدة الرجل؟ فقالوا: ما نراها، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون. هلكتم والله وهلكت معكم، وكان أرمد فقال لهم: انظروا ويحكم. فنظروا فرأوها قد قطعت وبقي منها بقية، فلما رأوها كبروا، فقال رافع: احفروا في أصلها فحفروا واستخرجوا عينا فشربوا حتى روي الناس. فقال رافع: والله ما وردت هذا الماء قط إلا مرة واحدة مع أبي وأنا غلام، فقال شاعر من المسلمين:
لله عينا رافع أنى اهتدى * فوز من قراقر إلى سوى
408

خمسا إذا ما ساره الجيش بكى * ما سارها قبلك إنسي يرى
فلما انتهى خالد إلى سوى أغار على أهلها وهم بهراء وهم يشربون الخمر ومغنيهم يقول:
ألا عللاني قبل جيش أبي بكر * لعل منايانا قريب ولا ندري
ألا عللاني بالزجاج وكررا * على كميت اللون صافية تجري
ألا عللاني من سلافة قهوة * تسلى هموم النفس من جيد الخمر
أظن خيول المسلمين وخالدا * ستطرقكم قبل الصباح مع النسر
فهل لكم في السير قبل قتالكم * وقبل خروج المعصرات من الخدر
فقتل المسلمون مغنيهم وسال دمه في تلك الجفنة وأخذوا أموالهم وقتل حرقوص بن النعمان البهراني ثم أتى أرك فصالحوه، ثم أتى تدمر فتحصن أهله ثم، صالحوه، ثم أتى القريتين. فقاتلهم فظفر بهم، وغنم، وأتى حوارين فقالت أهلها فهزمهم وقتل وسبى، وأتى قصم فصالحه بنو مشجعة من قضاعة، وسار فوصل إلى ثنية العقاب عند دمشق ناشرا رايته وهي راية سوداء، وكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم تسمى العقاب، وقيل: كانت رايته تسمى العقاب فسميت الثنية بها، وقيل: سميت بعقاب من الطير سقطت عليها، والأول أصح،، ثم سار فأتى مزج راهط فأغار على غسان في يوم فصحهم فقتل وسبى وأرسل سرية إلى كنيسة بالغوطة فقتلوا الرجال، وسبوا النساء، وساقوا العيال إلى خالد، ثم سار حتى وصل إلى بصري فقالت من بها فظفر بهم، وصالحهم. فكانت بصرى أول مدينة فتحت بالشام. على يد خالد، وأهل العراق،
409

وبعث بالأخماس إلى أبي بكر. ثم سار فطلع علن المسلمين في ربيع الآخر، وطلع باهان على الروم، ومعه الشمامسة، والقسيسون، والرهبان يحرضون الروم على القتال، وخرج باهان كالمعتذر فولى خالد قتاله، وقاتل الأمراء من بازائهم، ورجع باهان والروم إلى خندقهم وقد نال منهم المسلمون.
(عميرة بفتح العين المهملة وكسر الميم).
ذكر وقعة اليرموك
فلما تكامل جمع المسلمين باليرموك، وكانوا سبعة وعشرين ألفا، وقدم خالد في تسعة آلاف فصاروا ستة وثلاثين ألفا سوى عكرمة فإنه كان ردءا لهم، وقيل: بل. كانوا سبعة وعشرين ألفا وثلاثة آلاف من فلال خالد بن سعيد، وعشرة آلاف مع خالد بن الوليد فصاروا أربعين ألفا سوى ستة آلاف مع عكرمة بن أبي جهل، وقيل: في عددهم غير ذلك والله أعلم. وكان فيهم ألف صحابي منهم نحو مائة ممن شهد بدرا، وكان الروم في مائتي ألف وأربعين ألف مقاتل، منهم ثمانون ألف مقيد، وأربعون ألف مسلسل للموت، وأربعون ألفا مربطون بالعمائم لئلا يفروا، وثمانون ألف راجل، وقيل: كانوا مائة ألف، وكان قتال المسلمين لهم على تساند، كل أمير على أصحابه لا يجمعهم أحد حتى قدم خالد بن الوليد من العراق، وكان القسيسون، والرهيان، يحرضون الروم شهرا، ثم خرجوا إلى القتال الذي لم يكن بعده في جمادي الآخرة.
فلما أحس المسلمون بخروجهم أرادوا الخروج متساندين، فسار فيهم
410

خالد بن الوليد. فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن هذا يوم من أيام الله لا ينبغي فيه الفخر، ولا البغي أخلصوا جهادكم وأرضوا الله بعملكم، فإن هذا يوم له ما بعده، ولا تقاتلوا قوما على. نظام وتعبية، وأنتم متساندون، فإن ذلك لا يحل ولا ينبغي، وإن من وراءكم لو يعلم علمكم حال بينكم وبين هذا فاعملوا فيما لم تؤمروا به بالذي ترون أنه رأي من واليكم ومحبته. قالوا: هات فما الرأي. قال: إن أبا بكر لم يبعثنا إلا وهو يرى. أنا
سنتياسر، ولو علم بالذي كان ويكون لما جمعكم إن الذي أنتم فيه أشد على المسلمين. مما قد غشيهم وأنفع للمشركين من أمدادهم، ولقد علمت أن الدنيا فرقت بينكم. فالله الله فقد أفرد كل رجل منكم ببلد لا ينتقصه منه إن دان [لأحد] من الأمراء ولا يزيده عليه أن دانوا له؛ إن تأمير بعضكم لا ينتقصكم عند الله ولا عند خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم هلموا فإن هؤلاء قد تهيأوا وإن هذا يوم له ما بعده إن رددناهم إلى خندقهم اليوم لم نزل نردهم، وإن هزمونا لم نفلح بعدها فهلموا فلنتعاور الإمارة، فليكن بعضنا اليوم والآخر غدا والآخر بعد غد حتى تتأمروا كلكم ودعوني أتأمر اليوم. فأمروه وهم يرون أنها كخرجاتهم وأن الأمر [لا] يطول.
فخرجت الروم في تعبية لم ير الراؤون مثلها قط، وخرج خالد في تعبية لم تعبها العرب قبل ذلك، فخرج في ستة وثلاثين كردوسا إلى الأربعين، وقال: إن عدوكم كثير، وليس تعبية أكثر في رأي العين من الكراديس فجعل القلب كراديس وأقام فيه أبا عبيدة، وجعل الميمنة كراديس وعليها عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة، وجعل الميسرة كراديس، وعليها يزيد بن أبي سفيان، وكان على كردوس [من كراديس أهل العراق] القعقاع بن عمرو، وجعل على كل كردوس رجلا من الشجعان.
وكان القاضي أبو الدرداء، وكان القاص أبو
411

سفيان بن حرب، وعلى الطلائع قباث بن أشيم، وعلى الأقباض عبد الله ابن مسعود.
وقال رجل لخالد: ما أكثر الروم، وأقل! المسلمين! فقال خالد: ما أكثر المسلمين وأقل الروم، إنما تكثر الجنود بالنصر، وتقل بالخذلان والله لوددت أن الأشقر، يعني فرسه، براء من توجيه وأنهم أضعفوا في العدد، وكان قد حفى في مسيره.
فأمر خالد عكرمة بن أبي جهل والقعقاع بن عمرو فأنشبا القتال والتحم الناس وتطارد الفرسان وتقاتلوا فإذ هم على ذلك قدم البريد من المدينة واسمه محمية بن زنيم، فسألوه الخبر فأخبرهم بسلامة وإمداد، وإنما جاء بموت أبي بكر وتأمير أبي عبيدة، فبلغوه خالدا فأخبره خبر أبي بكر سرا.
وخرج جرجة إلى بين الصفين، وطلب خالدا فخرج إليه، فأمن كل واحد منهما صاحبه فقال جرجة: يا خالد أصدقني ولا تكذبني فإن الحر لا يكذب، ولا تخادعني، فإن الكريم لا يخادع المسترسل: هل أنزل الله علن نبيكم سيفا من السماء فأعطاكه فلا تسله على قوم إلا هزمتهم؟ قال: لا. قال: ففيم سميت سيف الله، فقال له: إن الله بعث فينا نبيه صلى الله عليه وسلم فكنت فيمن كذبه وقاتله، ثم إن الله هداني فتابعته فقال: أنت سيف الله سله الله علن المشركين ودعا لي بالنصر، قال: فأخبرني إلى ما تدعوني؟ قال خالد: إلى الاسلام، أو الجزية، أو الحرب. قال: فما منزلة الذي يجيبكم، ويدخل فيكم. قال: منزلتنا واحدة، قال: فهل له مثلكم من الأجر والذخر؟ قال: نعم وأفضل لأننا اتبعنا نبينا، وهو حي يخبرنا بالغيب، ونرى منه العجائب والآيات، وحق لمن رأى ما رأينا وسمع ما سمعنا أن يسلم، وأنتم لم تروا مثلنا
412

ولم تسمعوا مثلنا فمن دخل بنية وصدق كان أفضل منا. فقلب جرجة ترسه، ومال مع خالد، وأسلم، وعلمه الاسلام، واغتسل، وصلى ركعتين، ثم خرج مع خالد فقاتل الروم.
وحملت الروم حملة أزالوا المسلمين عن مواقفهم إلى المحامية، وعليهم عكرمة، وعمه الحارث بن هشام، فقال عكرمة [يومئذ] قاتلت مع النبي صلى الله عليه وسلم في كل موطن ثم أفز اليوم! ثم نادي: من يبايع على الموت؟ فبايعه الحارث بن هشام، وضرار بن الأزور في أربعمائة من وجوه المسلمين، وفرسانهم، فقاتلوا قدام فسطاط خالد حتى أثبتوا جميعا جراحا، فمنهم من برأ ومنهم من قتل. وقاتل خالد، وجرجة قتالا شديدا فقتل جرجة عند آخر النهار وصلى الناس الظهر والعصر، إيماء وتضعضع الروم، ونهد خالد بالقلب حتى كان بين خيلهم، ورجلهم، فانهزم الفرسان وتركوا الرجالة.
ولما رأى المسلمون خيل الروم، قد توجهت للمهرب أفرجوا لها فتفرقت، وقتل الرجالة، واقتحموا في خندقهم، فاقتحمه عليهم، وهوي فيها المقترنون وغيرهم ثمانون ألفا من المقترنين، وأربعون ألف مطلق سوي من قتل في المعركة، وتجلل القيقار، وجماعة من أشراف الروم برانسهم وجلسوا [وقالوا: لا نحب أن نرى يوم السوء إذ لم نستطع أن نرى يوم السرور وإذ لم نستطع أن نمنع النصرانية فقتلوا متزملين، ودخل خالد الخندق، ونزل في رواق تذارق، فلما أصبحوا أتى خالد بعكرمة بن أبي جهل جريحا فوضع رأسه على فخذه، وبعمرو بن عكرمة فجعل رأسه على ساقه، ومسح وجوههما، وقطر في حلوقهما الماء، وقال: زعم ابن حنتمة يعني عمر
413

أنا لا نستشهد! وقاتل النساء ذلك اليوم وأبلين.
قال عبد الله بن الزبير: كنت مع أبي باليرموك وأنا صبي لا أقاتل فلما اقتتل الناس نظرت إلى ناس على تل. لا يقاتلون، فركبت وذهبت إليهم، وإذا أبو سفيان بن حرب، ومشيخة من قريش من مهاجرة الفتح فرأوني حدثا فلم يتقوني. قال: فجعلوا والله إذا مالت المسلمون، وركبتهم الروم يقولون: إيه بني الأصفر، فإذا مالت الروم، وركبتهم المسلمون قال: ويح بنى الأصفر فلما هزم الله الروم أخبرت أبي، فضحك فقال: قاتلهم الله أبو إلا ضغنا، لنحن خير لهم من الروم!
وفي اليرموك أصيبت عين أبي سفيان بن حرب.
ولما انهزمت الروم كان هرقل بحمص فنادى بالرحيل عنها قريبا، وجعلها بينه وبين المسلمين وأمر عليها أميرا كما أمر على دمشق، وكان من أصيب من المسلمين ثلاثة آلاف منهم عكرمة، وابنه عمرو، وسلمة بن هشام، وعمرو بن سعيد، وأبان بن سعيد، وجندب بن عمرو، والطفيل بن عمرو، وطليب بن عمير، وهشام بن العاص، وعياش بن أبي ربيعة في قول بعضهم.
(عياش بالياء المثناة والشين المعجمة).
وفيها قتل سعيد بن الحارث بن قيس بن عدي السهمي، وهو من مهاجرة الحبشة، وفيها قتل نعيم بن عبد الله النحام العدوي عدي قريش، وكان إسلامه قبل عمر،، وفيها قتل النضير بن الحارث بن علقمة، وهو قديم الاسلام
414

والهجرة، وهو أخو النضر الذي قتل ببدر كافرا، وقتل فيها أبو الروم بن عمير بن هاشم العبدري، أخو مصعب بن عمير وهو من مهاجرة الحبشة شهد أحدا. وقيل: قتلوا يوم أجنادين والله أعلم.
ذكر حال المثنى بن حارثة بالعراق
وأما المثنى بن حارثة الشيباني فإنه لما ودع خالد بن الوليد، وسار خالد إلى الشام فيمن معه بالجند أقام بالحيرة، ووضع المسلحة، وأذكى العيون واستقام أمر فارس بعد مسير خالد من الحيرة بقليل، وذلك سنة ثلاث عشرة على شهربراز بن أردشير بن شهريار سابور فوجه إلى المثنى جندا عظيما عليهم هرمز جاذويه في عشرة آلاف، فخرج المثنى من الحيرة نحوه وعلى مجنبتيه المعنى ومسعود أخواه فأقام ببابل، وأقبل هرمز نحوه، وكتب كسري شهربراز إلى المثنى كتابا: إني قد بعثت إليكم جندا من وحش أهل فارس إنما هم رعاء الدجاج والخنازير، ولست أقاتلك إلا بهم، فكتب إليه المثنى: إنما أنت أحد رجلين: إما باغ فذلك شر لك وخير لنا، وإما كاذب فأعظم الكاذبين فضيحة عند الله وعند الناس الملوك، وأما الذي يدخلنا عليه الرأي فإنكم إنما اضطررتم إليهم، فالحمد لله الذي رد كيدكم إلى رعاة الدجاج والخنازير.
فجزع الفرس من كتابه [وقالوا: إنما أتى شهربراز من شؤم مولده، ولؤم. منشئه. وقالوا: جرأت علينا عدونا بالذي كتبت به إليهم، فإذا كاتبت أحدا فاستشر. فالتقى المثنى وهرمز ببابل فاقتتلوا [بعدوة الصراة الدنيا على الطريق الأول] قتالا شديدا؛ وكان فيلهم يفرق المسلمين، فانتدب له المثنى ومعه ناس فقتلوه وانهزم الفرس، وتبعهم المسلمون إلى المدائن يقتلونهم ومات شهربراز لما انهزم هرمز جاذويه، واختلف أهل فارس، وبقي ما دون دجلة بيد المثنى. ثم اجتمعت الفرس على
415

دخت زنان ابنة كسرى فلم ينفذ لها أمر وخلعت وملك سابور بن شهربراز فلما ملك قام بأمره الفرخزاد بن البنذوان فسأله أن يزوجه آزرميدخت بنت كسرى فأجابه فغضبت آزرميدخت فأرسلت إلى سياوخش الرازي فشكت إليه، فقال لها: لاتعاوديه فيه وأرسلي إليه فليأتك، فأرسلت إليه واستعد سياوخش فلما كان ليلة العرس أقبل الفرخزاد حتى دخل فثار به سياوخش فقتله، وقصدت آزرميدخت ومعها سياوخش سابور فحصروه، ثم
قتلوه، وملكت آزرميدخت، ثم تشاغلوا بذلك.
وأبطأ خبر أبي بكر علن المثنى، فاستخلف على المسلمين بشير بن الخصاصية وسار إلى المدينة إلى أبي بكر ليخبره خبر المشركين، ويستأذنه في الاستعانة بمن حسنت توبته من المرتدين فإنهم أنشط إلى القتال من غيرهم، فقدم المدينة وأبو بكر مريض قد أشفى فأخبره الخبر، فاستدعى عمر وقال له: إني لأرجو أن أموت يومي هذا، فإذا مت فلا تمسين حتى تندب الناس مع المثنى، ولا تشغلنكم مصيبة عن أمر دينكم ووصية ربكم، فقد رأيتني متوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما صنعت، وما أصيب الخلق بمثله، وإذا فتح الله على أهل الشام فاردد أهل العراق إلى العراق فإنهم أهله، وولاة أمره، وأهل [الضراوة بهم] والجراءة عليهم.
ومات أبو بكر ليلا، فدفنه عمر، وندب الناس مع المثنى، وقال عمر: قد علم أبو بكر أنه يسوءني أن أؤمر خالدا فلهذا أمرني أن أرد أصحاب خالد، وترك ذكره معهم.
وإلى آزرميدخت انتهى شأن أبي بكر. فهذا حديث العراق إلى آخر أيام أبي بكر رضي الله عنه.
416

ذكر وقعة أجنادين
قد ذكرها أبو جعفر عقيب وقعة اليرموك، وروي خبرها عن ابن إسحاق من اجتماع الأمراء ومسير خالد بن الوليد من العراق إلى الشام نحو ما تقدم، وقال: فسار خالد من مرج راهط إلى بصري، وعليها أبو عبيدة بن الجراح، وشرحبيل بن حسنة، ويزيد بن أبي سفيان، فصالحهم أهلها على الجزية، فكانت أول مدينة فتحت بالشام في خلافة أبي بكر، ثم ساروا جميعا إلى فلسطين مددا لعمرو بن العاص، وهم مقيم بالعربات واجتمعت الروم بأجنادين، وعليهم تذارق أخو هرقل لأبويه، وقيل: كان على الروم القبقلار، وأجنادين بين الرملة وبيت جبرين من أرض فلسطين، وسار عمرو بن العاص حين سمع بالمسلمين فلقيهم، ونزلوا بأجنادين وعسكروا عليهم، فبعث القبقلار عربيا إلى المسلمين يأتيه بخبرهم؛ فدخل فيهم وأقام يوما وليلة، ثم عاد إليه فقال: ما وراءك؟ فقال: بالليل رهبان، وبالنهار فرسان، ولو سرق ابن ملكهم قطعوه، ولو زنى رجم لإقامة الحق فيهم. فقال: إن كنت صدقتني لبطن الأرض خير من لقاء هؤلاء على ظهرها.
والتقوا يوم السبت لليلتين بقيتا من جمادي الأولى سنة ثلاث عشرة فظهر المسلمون وهزم المشركون وقتل القبقلار وتذارق، واستشهد رجال من المسلمين، منهم سلمة بن هشام بن المغيرة، وهبار بن الأسود، ونعيم بن عبد الله النحام، وهشام بن العاص بن وائل، وقيل: بل قتل باليرموك، وجماعة غيرهم.
قال: ثم جمع هرقل للمسلمين فالتقوا باليرموك، وجاءهم خبر وفاة أبي
417

بكر وهم مصافون وولاية أبي عبيدة، وكانت هذه الوقعة في رجب هذه سياقة الخبر.
وكان فيمن قتل ضرار بن الخطاب الفهري، وله صحبة، وعمرو بن سعيد بن العاص، وهو من مهاجرة الحبشة، وقيل: قتل باليرموك. وممن قتل الفضل بن العباس، وقيل: قتل بمرج الصفر، وقيل: مات في طاعون عمواس. وفيها قتل طليب بن عمير بن وهب القرشي، وقيل: قتل، باليرموك شهد بدرا، وهو من المهاجرين الأولين. وفيها قتل عبد الله. بن أبي جهم القرشي العدوي، وكان إسلامه يوم الفتح وفيها قتل عبد الله بن الزبير بن عبد المطلب بعد أن قتل جمعا من الروم في المعركة، وكان عمره يوم مات النبي صلى الله عليه وسلم نحو ثلاثين سنة. وفيها قتل عبد الله بن الطفيل الدوسي، وهر الملقب بذي النور، وكان من فضلاء الصحابة قديم الاسلام. هاجر إلى الحبشة.
(أجنادين بعد الجيم نون ودال مهملة مفتوحة، ومنهم من يكسرها ثم ياء مثناة من تحتها ساكنة وآخره نون).
وقد قيل: إن وقعة أجنادين كانت سنة خمس عشرة وسيرد ذكرها إن شاء الله.
ذكر وفاة أبي بكر
كانت وفاة أبي بكر رضي الله عنه لثمان ليال بقين من جمادى الآخرة ليلة الثلاثاء وهو ابن ثلاث وستين سنة، وهو الصحيح.، وقيل: غير ذلك، وكان قد سمه اليهود في أرز، وقيل: في حريرة وهي الحسو، فأكل هو
418

والحارث بن كلدة، فكف الحارث، وقال لأبي بكر: أكلنا طعاما مسموما سم سنة، فماتا بعد سنة، وقيل: إنه اغتسل وكان يوما باردا فحم خمسة عشر يوما لا يخرج إلى صلاة فأمر عمر أن يصلي بالناس، ولما مرض قال له الناس: ألا ندعو الطبيب؟ قال: قد أتاني وقال لي أنا فاعل ما أريد. فعلموا مراده وسكتوا عنه، ثم مات.
وكانت خلافته سنتين وثلاثة أشهر وعشر ليال. وقيل: كانت سنتين وأربعة أشهر إلا أربع ليال، وكان مولده بعد الفيل بثلاث سنين.
وأوصى أن تغسله زوجته أسماء نجت عميس، وابنه عبد الرحمن، وأن يكفن في ثوبيه، ويشتري معهما ثوب ثالث، وقال: الحي أحوج إلى الجديد من الميت، إنما هو للمهنة والصديد.
ودفن ليلا وصلى عليه عمر بن الخطاب في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكبر عليه أربعا؛ وحمل على السرير الذي حمل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل قبره ابنه عبد الرحمن، وعمر وعثمان، وطلحة، وجعل رأسه عند كتفي النبي صلى الله عليه وسلم وألصقوا لحده بلحد النبي صلى الله عليه وسلم، وجعل قبره مثل قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسطحا، وأقامت عائشة عليه النوح، فنهاهن عن البكاء عمر فأبين، فقال لهشام بن الوليد: ادخل فأخرج إلي ابنة أبي قحافة [أخت أبي بكر. فقالت عائشة لهشام حين سمعت ذلك من عمر: إني أحرج عليك بيتي فقال عمر لهشام: ادخل فقد أذنت لك. فدخل هشام] فأخرج إليه أم فروة ابنة أبي قحافة فعلاها بالدرة ضربات، فتفرق النوح حين سمعن ذلك.
وكان آخر ما تكلم به توفني مسلما وألحقني بالصالحين.
وكان أبيض، خفيف العارضين، أحنى لا يستمسك إزاره، معروق الوجه
419

نحيفا. أقنى غائر العينين. يخضب بالحناء والكتم، وكان أبوه حيا بمكة لما توفي.
وهو أبو بكر، عبد الله، وقيل: عتيق، بن أبي قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهربن النضر بن مالك يجتمع، مع النبي صلى الله عليه وسلم في مرة بن كعب، وأمه أم الخير سلمى بنت صخر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم، وقيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: أنت عتيق من النار فلزمه، وقيل: إنما قيل له: عتيق لرقة حسنه وجماله. وأسلمت أمه قديما بعد إسلام أبي بكر، وتزوج في الجاهلية قتيلة بنت عبد العزي بن عامر بن لؤي فولدت له: عبد الله، وأسماء. وتزوج أيضا في الجاهلية أم رومان، واسمها دعد، بنت عامر بن عميرة الكنانية فولدت له: عبد الرحمن وعائشة. وتزوج في الاسلام أسماء بنت عميس، وكانت قبله عند جعفر بن أبي طالب، فولدت له محمد بن أبي بكر، وتزوج أيضا في الإسلام حبيبة بنت خارجة بن زيد الأنصارية: فولدت له بعد وفاته: أم كلثوم.
أسماء قضاته وعماله وكتابه
لما ولي أبو بكر قال له أبو عبيدة: أنا أكفيك المال. وقال له عمر: أنا أكفيك القضاء. فمكث عمر سنة لا يأتيه رجلان.
وكان علي بن أبي طالب يكتب له، وزيد بن ثابت ج وعثمان بن عفان، وكان يكتب له من حضر. وكان عامله على مكة عتاب. بن أسيد، ومات في اليوم الذي مات فيه أبو بكر،
420

وقيل: مات بعده، وكان على الطائف عثمان بن أبي العاص، وعلى صنعاء المهاجر بن أبي أمية، وعلى حضرموت زياد بن لبيد الأنصاري، وعلى خولان يعلى بن منية، وعلى زبيد ورمع أبو موسى، وعلى الجند معاذ بن جبل، وعلى البحرين العلاء بن الحضرمي. وبعث جرير بن عبد الله إلى نجران، وعبد الله بن ثور إلى جرش، وعياض بن غنم إلى دومة الجندل. وكان بالشام أبو عبيدة وشرحبيل، ويزيد، وعمرو وكل رجل منهم على جند، وعليهم خالد بن الوليد. وكان نقش خاتمه: نعم القادر الله. وعاش أبوه بعده ستة أشهر وأياما. ومات وله سبع وتسعون سنة.
ذكر بعض أخباره ومناقبه
كان أبو بكر أول الناس إسلاما في قول بعضهم وقد تقدم الخلاف في ذلك، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت له عنه كبوة غير أبي بكر. والذي ورد له عن النبي صلى الله عليه وسلم من المناقب فكثير كشهادته له بالجنة، وعتقه من النار، وغير ذلك من الأخبار بخلافته تعريضا كقوله صلى الله
عليه وسلم للمرأة إن لم تجديني فأتي أبا بكر وكقوله اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر إلى غير ذلك.
وشهد بدرا، وأحدا، والخندق وغير ذلك من المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعتق سبعة نفر كلهم يعذب في الله تعالى منهم: بلال، وعامر بن فهيرة، وزنيرة، والنهدية، وابنها، وجارية بني مؤمل، وأم عبيس وأسلم وله أربعون ألفا أنفقها في الله مع ما كسب من التجارة.
ولما ولي الخلافة وارتدت العرب خرج شاهرا سيفه إلى ذي القصة،
421

فجاءه علي، وأخذ بزمام راحلته وقال له: أين يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم! أقول لك: ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: شم سيفك لا تفجعنا بنفسك، فوالله لئن أصبنا بك لا يكون للإسلام نظام؛ فرجع وأمضى الجيش.
وكان له بيت مال بالسنح وكان يسكنه إلى أن انتقل إلى المدينة، فقيل له: ألا نجعل. عليه من يحرسه؟ قال: لا. فكان ينفق جميع ما فيه على المسلمين فلا يبقى فيه شئ. فلما انتقل إلى المدينة جعل بيت المال معه في داره.
وفي خلافته انفتح معدن بني سليم، وكان يسوي في قسمته بين السابقين الأولين والمتأخرين في الاسلام، وبين الحر والعبد، والذكر والأنثى. فقيل له: لتقدم أهل السبق على قدر منازلهم. فقال: إنما أسلموا لله ووجب أجرهم عليه يوفيهم ذلك في الآخرة، وإنما هذه الدنيا بلاغ. وكان يشتري الأكسية، ويفرقها في الأرامل في الشتاء.
ولما توفي أبو بكر جمع عمر الأمناء، وفتح بيت المال. فلم يجدوا فيه شيئا غير دينار سقط من غرارة. فترحموا عليه.
قال أبو صالح الغفاري: كان عمر يتعهد امرأة عمياء في المدينة بم الليل فيقوم بأمرها فكان إذا جاءها وجد غيره قد سبقه إليها. ففعل ما أرادت فرصده عمر فإذا هو أبو بكر كان يأتيها ويقضي أشغالها سرا، وهو خليفة. فقال له: أنت هو لعمري! قال أبو بكر بن حفص بن عمر: لما حضرت أبا بكر الوفاة حضرته عائشة. وهو يعالج الموت، فتمثلت:
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى * إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
فنظر إليها كالغضبان ثم قال:
ليس كذلك ولكن (جاءت سكرة
422

الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد)، إني قد كنت نحلتك حائط كذا، وفي نفسي منه شيء فرديه على الميراث.
فردته، فقال: إنما هما أخواك وأختاك. قالت: من الثانية! إنما هي أسماء. قال: ذات بطن بنت خارجة، يعني زوجته، وكانت حاملا فولدت أم كلثوم بعد موته. وقال لها: أما أنا منذ ولينا أمر المسلمين لم نأكل لهم دينارا ولا درهما، ولكنا قد
أكلنا من جريش طعامهم، ولبسنا من خشن ثيابهم، وليس عندنا من فيء المسلمين إلا هذا العبد، وهذا البعير؛ وهذه القطيفة فإذا مت فابعثي بالجميع إلى عمر. فلما مات بعثته إلى عمر، فلما رآه بكى حتى سالت دموعه إلى الأرض وجعل يقول:
رحم الله أبا بكر لقد أتعب من بعده محرر ذلك وأمر برفعه. فقال عبد الرحمن بن عوف: (سبحان الله تسلب عيال أبي بكر عبدا وناضحا وسحق قطيفة ثمنها خمسة دراهم! فلو أمرت يردها عليهم. فقال: لا والذي بعث محمدا صلى الله عليه وسلم لا يكون هذا في ولايتي ولا يخرج أبو بكر منه وأتقلده أنا. وأمر أبو بكر أن يرد جميع ما أخذ من بيت المال لنفقته بعد وفاته.
وقيل: إن زوجته اشتهت حلوا. فقال: ليس لنا ما نشتري به. فقالت: أنا استفضل من نفقتنا في عدة أيام ما نشتري به. قال: افعلي. ففعلت ذلك فاجتمع لها في أيام كثيرة شيء يسير، فلما عرفته ذلك ليشتري به حلوا أخذه فرده إلى بيت المال، وقال: هذا يفضل عن قوتنا، وأسقط من نفقته بمقدار ما نقصت كل يوم وغرمه لبيت المال من ملك كان له.
هذا والله هو التقوى الذي لا مزيد عليه، وبحق قدمه الناس رضي الله عنه وأرضاه.
423

وكان منزل أبي بكر بالسنح عند زوجته حبيبة بنت خارجة فأقام هنالك ستة أشهر بعدما بويع له، وكان يغدو على رجليه إلى المدينة، وربما ركب فرسه فيصلي بالناس، فإذا صلى العشاء رجع إلى السنح، وكان إذا غاب صلى بالناس عمر، وكان يغدو كل يوم إلى السوق فيبيع ويبتاع، وكانت له قطعة غنم تروح عليه، وربما خرج هو بنفسه فيها وربما رعيت له وكان يحلب للحي أغنامهم، فلما بويع، بالخلافة، قالت جارية منهم: الآن لا يحلب لنا منائح دارنا، فسمعها فقال: بلى لعمري لأحلبنها لكم، وإني لأرجو أن لا يغيرني ما دخلت فيه. فكان يحلب لهم، ثم تحول إلى المدينة بعد ستة أشهر من خلافته وقال: ما تصلح أمور الناس مع التجارة، وما يصلح إلا التفرغ لهم والنظر في شأنهم. فترك التجارة، وأنفق من مال المسلمين ما يصلحه وعياله يوما بيوم وشج ويعتمر، فكان الذي فرضوا له في كل سنة ستة آلاف درهم، وقيل: فرضوا له ما يكفيه، فلما حضرته الوفاة أوصى أن تباع أرض له ويصرف ثمنها عوض ما أخذه من مال المسلمين.
وكان أول وال فرض له رعيته نفقته، وأول خليفة ولي وأبوه حي، وأول من سمى مصحف القرآن مصحفا، وأول من سمي خليفة.
(زنيرة بكسر الزاي والنون مشددة. وعبيس بضم العين المهملة وبالباء الموحدة المفتوحة ثم بالياء المثناة من تحت وبالسين المهملة. ومنية بالنون الساكنة والياء تحتها نقطتان).
424

ذكر استخلافه عمر بن الخطاب
لما نزل بأبي بكر رضي الله عنه الموت دعا عبد الرحمن بن عوف. فقال: أخبرني عن عمر. فقال: هو والله أفضل من رأيك فيه من رجل إلا! نه فيه غلظة. فقال أبو بكر: ذلك لأنه يراني رقيقا، ولو أفضى الأمر ألية لترك كثيرا مما هو عليه، وقد رمقته فكنت إذا غضبت على رجل أراني الرضا عنه، وإذا لنت له أراني الشدة عليه. ودعا عثمان بن عفان وقال له: أخبرني عن عمر. فقال: سريرته خير من علانيته، وليس فينا مثله. فقال أبو بكر لهما: لا تذكرا مما قلت لكما شيئا، ولو تركته ما عدوت عثمان، والخيرة له أن لا يلي من أموركم شيئا، ولوددت أني كنت من أموركم خلوا، وكنت فيمن مض من سلفكم.
ودخل طلحة بن عبيد الله على أبي بكر فقال: استخلفت على الناس عمر وقد رأيت ما يلقى الناس منه وأنت معه وكيف به إذا خلا بهم وأنت لاق ربك فسائلك عن رعيتك! فقال أبو بكر: أجلسوني. فأجلسوه. فقال: أبالله تخوفني! إذا لقيت ربي فسألني
قلت: استخلفت على أهلك خير أهلك.
ثم إن أبا بكر أحضر عثمان بن عفان خاليا لمكتب عهد عمر فقال له: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة إلى المسلمين. أما بعد،. ثم أغمي عليه، فكتب عثمان أما بعد. فإني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب ولم آلكم خيرا. ثم أفاق أبو بكر فقال: أقرأ على فقرأ عليه فكبر أبو بكر وقال: أراك خفت أن يختلف الناس إن مت في غشيتي. قال: نعم. قال: جزاك الله خيرا عن الاسلام وأهله.
425

فلما كتب العهد أمر به أن يقرأ على الناس، فجمعهم، وأرسل الكتاب مع مولى له، ومعه عمر. فكان عمر يقول للناس: أنصتوا وأسمعوا لخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يألكم نصحا. فسكن الناس، فلما قرىء عليهم الكتاب سمعوا وأطاعوا، وكان أبو بكر أشرف على الناس وقال: (أترضون بمن استخلفت عليكم؟ فإني ما استخلفت عليكم ذا قرابة، وإني قد استخلفت عليكم عمر فاسمعوا له وأطيعوا، فإني والله ما آلوت من جهد الرأي. فقالوا: سمعنا وأطعنا. ثم أحضر أبو بكر عمر فقال له: إني قد استخلفتك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأوصاه بتقوى الله، ثم قال:
يا عمر إن لله حقا بالليل ولا يقبله في النهار وحقا في النهار لا يقبله بالليل، وإنه لا يقبل نافلة حتى تؤدي الفريضة، ألم تر يا عمر إنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق وثقله عليهم؟ وحق
لميزان لا يوضع [فيه] غدا إلا حق أن يكون ثقيلا. ألم تر يا عمر إنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل؟ وخفته عليهم؟ وحق لميزان أن لا يوضع فيه إلا باطل أن يكون خفيفا. ألم تريا عمر، إنما نزلت آية الرخاء مع آية الشدة وآية الشدة مع آية الرخاء ليكون
المؤمن راغبا راهبا لا يرغب رغبة يتمنى فيها على الله ما ليس له، ولا يرهب رهبة يلقى فيها بيديه. ألم تر يا عمر إنما ذكر الله أهل النار بأسوء أعمالهم فإذا ذكرتهم قلت: إني لأرجو أن لا أكون منهم؟ وإنه إنما ذكر أهل الجنة بأحسن
426

أعمالهم لأنه تجاوز لهم عما كان من سئ فإذا ذكرتهم قلت: أين عملي من أعمالهم؟ فإن حفظت وصيتي فلا يكونن غائب أحب إليك من حاضر من الموت، ولست بمعجزه.
وتوفي أبو بكر فلما دفن صعد عمر بن الخطاب فخطب الناس، ثم قال: إنما مثل العرب مثل جمل آنف اتبع قائده. فلينظر قائده حيث يقوده وأما أنا فورب الكعبة لأحملنكم على الطريق! وكان أول كتاب كتبه إلى أبي عبيدة بن الجراح بتولية جند خالد وبعزل خالد لأنه كان عليه ساخطا في خلافة أبي بكر كلها لوقعته بابن نويرة، وما كان يعمل في حربه، وأول ما تكلم به عزل خالد، وقال: لا يلي لي عملا أبدأ. وكتب إلى أبي عبيدة. إن أكذب خالد نفسه فهو الأمير على ما كان عليه، وإن لم يكذب نفسه فأنت الأمير على ما هو عليه. وانزع عمامته عن رأسه، وقاسمه ماله. فذكر ذلك لخالد فاستشار أخته فاطمة، وكانت عند الحارث بن هشام، فقالت له: والله لا يحبك عمر أبدا، وما يريد إلا أن تكذب نفسك ثم ينزعك فقبل رأسها وقال: صدقت. فأبن أن يكذب نفسه، فأمر أبر عبيدة فنزع عمامة خالد، وقاسمه ماله، ثم قدم خالد على عمر بالمدينة؛ وقيل: بل هو أقام بالشام مع المسلمين وهو أصح.
ذكر فتح دمشق
قيل: ولما هزم الله أهل اليرموك استخلف أبو عبيدة على اليرموك بشير بن كعب الحميري وسار حتى نزل بالصفر فأتاه الخبر أن المنهزمين اجتمعوا بفحل وأتاه الخبر أيضا بأن المدد قد أتن أهل دمشق من حمص، فكتب إلى عمر في ذلك فأجابه عمر يأمره بأن يبدأ بدمشق فإنها حصن الشام
427

وبيت ملكهم، وأن يشغل أهل فحل بخيل تكون بإزائهم، وإذا فتح دمشق سار إلى فحل، فإذا فتحت عليهم سار هو وخالد إلى حمص وترك شرحبيل بن حسنة وعمرا بالأردن وفلسطين.
فأرسل أبو عبيدة إلى فحل طائفة من المسلمين فنزلوا قريبا منها، وبثق الروم الماء حول فحل، فوحلت الأرض، فنزل عليهم المسلمون فكان أول محصور بالشام أهل فحل، ثم أهل دمشق.
وبعث أبو عبيدة جندا فنزلوا بين حمص ودمشق، وأرسل جندا آخر فكانوا بين دمشق وفلسطين، وسار أبو عبيدة، وخالد فقدموا على دمشق، وعليها نسطاس فنزل أبو عبيدة على ناحية، وخالد على ناحية، وعمرو على ناحية، وكان هرقل قريب حمص فحصرهم المسلمون سبعين ليلة حصارا شديدا وقاتلوهم بالزحف، والمجانيق، وجاءت خيول هرقل مغيثة دمشق فمنعتها خيول المسلمين التي عند حمص فخذل أهل دمشق، وطمع فيهم المسلمون.
وولد للبطريق الذي على أهلها مولود. فصنع طعاما فأكل القوم وشربوا وتركوا مواقفهم، ولا يعلم بذلك أحد من المسلمين إلا ما كان من خالد فإنه كان لا ينام ولا ينيم ولا يخفن عليه من أمورهم شيء، وكان قد اتخذ حبالا كهيئة السلاليم، وأوهاقا، فلما أمسى ذلك اليوم نهض هو ومن معه من جنده الذين قدم عليهم، وتقدمهم هو والقعقاع بن عمرو، ومذعور بن عدي. وأمثاله، وقالوا: إذا سمعتم تكبيرا على السور فارقوا إلينا، واقصدوا الباب. فلما وصل هو وأصحابه إلى السور ألقوا الحبالى فعلق بالشرف منها حبلان، فصعد فيهما القعقاع ومذعور وأثبتا الحبال بالشرف، وكان ذلك المكان أحصن
428

موضع بدمشق، وأكثره ماء، فصعد المسلمون ثم انحدر خالد وأصحابه وترك بذلك المكان من يحميه، وأمرهم بالتكبير فكبروا، فأتاهم المسلمون إلى الباب وإلى الحبال، وانتهى خالد إلى من يليه فقتلهم، وقصد الباب فقتل البوابين، وثار أهل المدينة لا يدرون ما الحال، وتشاغل أهل كل ناحية بما يليهم، وفتح خالد الباب، وقتل كل من عنده من الروم.
فلما رأى الروم ذلك قصدوا أبا عبيدة وبذلوا له الصلح، فقبل منهم، وفتحوا له الباب، وقالوا له: ادخل وامنعنا من أهل ذلك الجانب. ودخل أهل كل باب بصلح مما يليهم، ودخل خالد عنوة فالتقى خالد والقواد في وسطها هذا قتلا ونهبا، وهذا صفحا وتسكينا فاجروا ناحية خالد مجرى الصلح، وكان صلحهم على المقاسمة،؟ قسموا معهم للجنود التي عند فحل وعند حمص وغيرهم ممن هو ردء للمسلمين.
وأرسل أبو عبيدة إلى عمر بالفتح، فوصل كتاب عمر إلى أبي عبيدة يأمره بإرسال جند العراق نحو العراق إلى سعد بن أبي وقاص، فأرسلهم، وأمر عليهم هاشم بن عتبة المرقال، وكانوا قد قتل منهم فأرسل أبو عبيدة عوض من قتل، وكان مس أرسل الأشتر وغيره، وسار أبو عبيدة إلى فحل.
ذكر غزوة فحل.
فلما فتحت دمشق سار أبو عبيدة إلى فحل، واستخلف على دمشق يزيد بن أبي سفيان، وبعث خالدا على المقدمة، وعلى الناس شرحبيل بن حسنة، وكان على المجنبتين أبو عبيدة، وعمرو بن العاص، وعلى الخيل ضرار بن الأزور، وعلى الرجال عياض بن غنم، وكان أهل فحل قد قصدوا بيسان
429

فهم بها، فنزل شرحبيل بالناس فحلا وبينهم وبين الروم تلك المياه والأوحال، وكتبوا إلى عمر، وكانت العرب تسمي تلك الغزاة ذات الردغة وبيسان وفحل، وأقام الناس ينتظرون كتاب عمر، فاغترهم الروم فخرجوا، وعليهم سقلار بن مخراق فأتوهم والمسلمون حذرون، وكان شرحبيل لا يبيت ولا يصبح إلا علن تعبية، فلما هجموا على المسلمين لم يناظروهم. فاقتتلوا أشد قتال. كان لهم ليلتهم ويومهم إلى الليل وأظلم الليل عليهم وقد حاروا فانهزم الروم وهم حيارى، وقد أصيب رئيسهم سقلار، والذي يليه [فيهم] نسطوس، وظفر المسلمون بهم وركبوهم، ولم تعرف الروم مأخذهم فانتهت بهم الهزيمة إلى الوحل فركبوه، ولحقهم المسلمون فأخذوهم، ولا يمنعون يد لامس، فوخزوهم بالرماح، فكانت الهزيمة بفحل والقتل بالرداغ فأصيب الروم وهم ثمانون ألفا لم يفلت منهم إلا الشريد، وقد كان الله يصنع للمسلمين، وهم كارهون، كرهوا البثوق والوحل فكانت عونا لهم على عدوهم وغنموا أموالهم فاقتسموها، وانصرف أبو عبيدة بخالد، ومن معه إلى حمص.
وممن قتل في هذه الحرب السائب بن الحارث بن قيس بن عدي السهمي له صحبة.
(فحل بكسر الفاء وسكون الحاء المهملة وآخره لام).
430

ذكر فتح بلاد ساحل دمشق
لما استخلف أبو عبيدة يزيد بن أبي سفيان على دمشق، وسار إلى فحل؟ سار يزيد إلى مدينة صيدا، وعرقة، وجبيل، وبيروت، وهي سواحل دمشق على مقدمته أخوه معاوية ففتحها فتحا يسيرا وجلا كثيرا من أهلها، وتولى فتح عرقة معاوية بنفسه في ولاية يزيد. ثم إن الروم غلبوا على بعض هذه السواحل في آخر خلافة عمر، وأول خلافة عثمان فقصدهم معاوية ففتحها، ثم رمها وشحنها بالمقاتلة، وأعطاهم القطائع.
ولما ولي عثمان الخلافة وجمع لمعاوية الشام وجه معاوية سفيان بن مجيب الأزدي إلى طرابلس؟ وهي ثلاث مدن مجتمعة ثم بنى في مرج على أميال منها حصنا سمي حصن سفيان، وقطع المادة عن أهلها من البر والبحر، وحاصرهم، فلما اشتد عليهم الحصار اجتمعوا في أحد الحصون الثلاثة وكتبوا إلى ملك الروم يسألونه أن يمدهم أو يبعث إليهم بمراكب يهربون فيها إلى بلاد الروم فوجه إليهم بمراكب كثيره ركبوا فيها ليلا وهربوا، فلما م صبح سفيان وكان يبيت هو والمسلمون في حصنه ثم يغدو على العدو فوجد الحصن خاليا فدخله، وكتب بالفتح إلى معاوية، فأسكنه معاوية جماعة كثيرة من اليهود، وهو الذي فيه الميناء اليوم، ثم بناه عبد الملك بن مروان وحصنه، ثم نقض أهله أيام عبد الملك ففتحه ابنه الوليد في زمانه.
ذكر فتح بيسان وطبرية
لما قصد أبو عبيدة حمص من فحل أرسل شرحبيل ومن معه إلى بيسان، فقاتلوا أهلها فقتلوا منهم خلقا كثيرا، ثم صالحهم من بقي على صلح
431

دمشق فقبل ذلك منهم، وكان أبو عبيدة قد بعث بالأعور إلى طبرية يحاصرها، فصالحه أهلها على صلح دمشق أيضا وأن يشاطروا المسلمين المنازل فنزلها القواد وخيولها وكتبوا بالفتح إلى عمر.
قال أبو جعفر: وقد اختلفوا في أي هذه الغزوات كان قبل الأخرى؟ فقيل: ما ذكرنا، وقيل: إن المسلمين لما فرغوا من أجنادين اجتمع المنهزمون بفحل فقصدها المسلمون فظفروا بها.
ثم لحق المنهزمون من فحل بدمشق فقصدها المسلمون فحاصروها وفتحوها، وقدم كتاب عمر بن الخطاب بعزل خالد، وولاية أبي عبيدة، وهم محاصرون دمشق. فلم يعرفه أبو عبيدة ذلك حتى فرغوا من صلح دمشق، وكتب الكتاب باسم خالد، وأظهر أبو عبيدة بعد ذلك عزله، وكانت فحل في ذي القعدة سنة ثلاث عشرة، وفتح دمشق في رجب سنة أربع عشرة. وقيل: إن وقعة اليرموك كانت سنة خمس عشرة، ولم تكن للروم بعدها وقعة وإنما اختلفوا لقرب بعض ذلك من بعض.
ذكر خبر المثنى بن حارثة، وأبي عبيد بن مسعود
قد ذكرنا قدوم المثنى بن حارثة الشيباني من العراق علن أبي بكر ووصية أبي بكر عمر بالمبادرة إلى إرسال الجيوش معه، فلما أصبح عمر من الليلة التي مات فيها أبو بكر كان أول ما عمل أن ندب الناس مع المثنى بن حارثة الشيباني، [إلى أهل فارس]، ثم بايع الناس ثم ندب الناس وهو يبايعهم ثلاثا، ولا ينتدب أحد إلى فارس، وكانوا أثقل الوجوه على المسلمين وأكرهها إليهم لشدة سلطانهم وشوكتهم وقهرهم الأمم، فلما كان اليوم
432

الرابع ندب الناس إلى العراق، فكان أول منتدب أبو عبيد بن مسعود الثقفي وهو والد المختار، وسعد بن عبيدة الأنصاري، وسليط بن قيس، وهو ممن شهد بدرا، وتتابع الناس.
وتكلم المثنى بن حارثة فقال: أيها الناس لا يعظمن عليكم هذا الوجه فإنا قد فتحنا ريف فارس وغلبناهم علن خير شقى السواد ونلنا منهم واجترأنا عليهم، ولنا إن شاء الله ما بعدها. فاجتمع الناس فقيل لعمر: أقر عليهم رجلا من السابقين من المهاجرين أو الأنصار قال: لا والله لا أفعل إنما رفعهم الله تعالى بسبقهم ومسارعتهم إلى العدو فإذا فعل فعلهم قوم وتثاقلوا كان الذين ينفرون خفافا وثقالا ويسبقون إلى الدفع أولى بالرياسة منهم، والله لا أؤمر عليهم إلا أولهم انتدابا! ثم دعا أبا عبيد، وسعدا، وسليطا وقال لهما: لو سبقتماه لوليتكما ولأدركتما بها إلى مالكما من السابقة فأمر أبا عبيد وقال له: اسمع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشركهم في الأمر، ولم يمنعني أن أؤمر سليطا إلا سرعته إلى الحرب، وفي التسرع إلى الحرب ضياع الأعراب فإنه لا يصلحها إلا الرجل المكيث، وأوصاه بجنده، فكان بعث أبي عبيد أول جيش سيره عمر، ثم بعده سير يعلى بن منية إلى اليمن وأمره بإجلاء أهل نجران بوصية رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأن لا يجتمع بجزيرة العرب دينان.
433

ذكر خبر النمارق
فسار أبو عبيد الثقفي، وسعد بن عبيد، وسليط ين قيس الأنصاريان، والمثنى بن حارثة الشيباني أحد بني هند من المدينة، وأمر عمر المثنى بالتقدم إلى أن يقدم عليه أصحابه وأمرهم باستنفار من حسن إسلامه من أهل الردة ففعلوا ذلك، وسار المثنى فقدم الحيرة، وكانت الفرس تشاغلت عن المسلمين بموت شهر براز حتى اصطلحوا على سابور بن شهريار بن اردشير فثارت به آزرميدخت فقتلته وقتلت الفرخزاد وملكت بوران وكانت عدلا بين الناس حتى يصطلحوا فأرسلت إلى رستم بن الفرخزاد بالخبر وتحثه على السير، وكان علن فرج خراسان فأقبل لا يلقى جيشا لآزرميدخت إلا هزمه حتى دخل المدائن فاقتتلوا وهزم سياوخش وحصره وازرميدخت بالمدائن، ثم افتتحها رستم وقتل سياوخش وفقأ عين آزرميدخت وتصب بوران [ودعته إلى القيام بأمر أهل فارس وشكت إليه تضعضعهم وإدبار أمرهم] على أن تملكه عشر سنين، ثم يكون الملك في آل كسرى إن وجدوا من غلمانهم أحدا وإلا ففي نسائهم، ودعت مرازبة فارس وأمرتهم أن يسمعوا له ويطيعوا وتوجته فدانت له فارس قبل قدوم أبي عبيد، وكان منجما حسن المغرفة به وبالحوادث، فقال له بعضهم: ما حملك على هذا الأمر وأنت ترى ما ترى؟ قال: حب الشرف والطمع.
ثم قدم المثنى إلى الحيرة في عشر، وقدم أبو عبيد بعده بشهر فكتب رستم إلى الدهاقين أن يثوروا بالمسلمين، وبعث في كل رستاق رجلا يثور
434

بأهله، فبعث جابان إلى فرات بادقلى، وبعث نرسي إلى كسكر ووعدهم يوما، وبعث جندا لمصادمة المثنى، وبلغ المثنى الخبر فحذر، وعجل جابان ونزل النمارق وثاروا وتوالوا على الخروج، وخرج أهل الرساتيق من أعلى الفرات إلى أسفله، وخرج المثنى من الحيرة فنزل خفان لئلا يؤتى من خلفه بشيء يكرهه، وأقام حتى قدم عليه أبو عبيد، فلما قدم لبث أياما يستريح هو وأصحابه واجتمع إلى جابان بشر كثير فنزل النمارق، وسار إليه أبو عبيد فجعل المثنى على الخيل، وكان على مجنبتي جابان جشنس ماه، ومردانشاه فاقتتلوا بالنمارق قتالا شديدا فهزم الله أهل فارس وأسر جابان أسره مطر بن فضة التيمي، وأسر مردانشاه أسره أكتل بن شماخ العكلي فقتله.
وأما جابان فإنه خدع مطرا وقال له: هل لك أن تؤمنني وأعطيك غلامين أمردين خفيفين في عملك. وكذا وكذا؟ ففعل فخلا عنه فأخذه المسلمون وأتوا به أبا عبيد وأخبروه أنه جابان وأشاروا عليه بقتله فقال: إني أخاف الله أن أقتله وقد أمنه رجل مسلم والمسلمون كالجسد الواحد ما لزم بعضهم فقد لزم كلهم [فقالوا له: إنه الملك. قال: وإن كان لا أغدر. فتركه]، وتركوه، وأرسل في طلب المنهزمين حتى أدخلوهم عسكر نرسي وقتلوا منهم.
(أكتل بفتح الهمزة وسكون الكاف وفتح التاء المثناة باثنتين من فوقها وفي آخره لام).
435

ذكر وقعة السقاطية بكسكر
ولحق المنهزمون نحو كسكر وبها نرسي، وهو ابن خالة الملك، وكان له النرسيان وهو نوع من التمر يحميه لا يأكله إلا ملك الفرس أومن أكرموه بشيء منه، ولا يغرسه غيرهم، واجتمع إلى النرسي الفالة، وهو في عسكره، فسار أبو عبيد إليهم من النمارق فنزل على نرسي بكسكر، وكان المثنى في تعبيته التي قاتل فيها بالنمارق، وكان على مجنبتي نرسي، بندويه، وتيرويه ابنا بسطام خال الملك، ومعه أهل باروسما، والزوابي. ولما بلغ الخبر بوران ورستم بهزيمة جابان بعثا الجالينوس إلى نرسي فلحقه قبل الحرب فعاجلهم أبو عبيدة فالتقوا أسفل من كسكر بمكان يدعن السقاطية فاقتتلوا [في صحارى ملس] قتالا شديدا، ثم انهزمت فارس وهرب نرسي، وغلب المسلمون على عسكره وأرضه وجمعوا الغنائم، فرأي أبو عبيد من الأطعمة شيئا كثيرا فنفله من حوله من العرب وأخذوا النرسيان فأطعموه الفلاحين وبعثوا بخمسه إلى عمر، وكتبوا إليه أن الله أطعمنا مطاعم كانت الأكاسرة تحميها وأحببنا أن تروها لتشكروا إنعام الله وإفضاله. وأقام أبو عبيد.
وبعث المثنى إلى باروسما، وبعث والقا إلى الزوابي، وعاصما إلى نهر جور فهزموا من كان تجمع، وأخربوا وسبوا أهل زندورد وغيرها وبذل لهم فروخ وفراونداد عن أهل باروسما، والزوابي وكسكر الجزاء معجلا فأجابوا إلى ذلك وصاروا صلحا وجاء فروخ وفراونداد إلى أبي عبيد بأنواع الطعام والأخبصة وغيرها فقال: هل أكرمتم الجند بمثلها؟ فقالوا: لم، يتيسر ونحن فاعلون، وكانوا يتربصون قدوم الجالينوس.
436

فقال أبو عبيد: لا حاجة لنا فيه، بئس المرء أبو عبيد إن صحب قوما من بلادهم استأثر عليهم بشيء، ولا والله لا آكل ما أتيتم به ولا مما أفاء الله إلا مثل ما يأكل أوساطهم. فلما هزم الجالينوس أتوه بالأطعمة أيضا فقال: ما آكل هذا دون المسلمين فقالوا له: ليس من أصحابك أحد إلا وقد أتي بمثل هذا فأكل حينئذ.
ذكر وقعة الجالينوس
ولما بعث رستم الجالينوس أمره أن يبدأ بنرسي، ثم يقاتل أبا عبيد فبادره أبو عبيد
إلى نرسي فهزمه، وجاء الجالينوس فنزل بباقسياثا من باروسما فسار إليه أبو عبيد وهو على تعبيته فالتقوا بها فهزمهم المسلمون وهرب الجالينوس، وغلب أبو عبيد على تلك البلاد، ثم ارتحل حتى قدم الحيرة، وكان عمر قد قال له: (إنك تقدم على أرض المكر! والخديعة والخيانة والجبرية، تقدم على قوم تجرأوا على الشر فعلموه، وتناسوا. الخير
فجهلوه، فانظر كيف تكون؟ واحرز لسانك، ولا تفشين سرك فإن صاحب السر ما يضبطه متحصن لا يؤتى من
وجه يكرهه، وإذا ضيعه كان بمضيعة.
437

ذكر وقعة قس الناطف ويقال لها الجسر ويقال
المروحة، وقتل أبي عبيد بن مسعود
ولما رجع الجالينوس إلى رستم منهزما ومن معه من جنده قال رستم: أقي العجم أشد على العرب؟ قالوا: بهمن جاذويه المعروف بذي الحاجب، وإنما قيل له: ذا الحاجب لأنه كان يعصب حاجبيه بعصابة ليرفعهما كبرا، فوجهه ومعه فيلة، ورد الجالينوس معه وقال لبهمن: إن انهزم الجالينوس ثانية فاضرب عنقه. فاقبل بهمن جاذويه ومعه درفش كابيان (راية كسرى) كانت من جلود النمر عرض ثماني أذرع وطول اثنتي عشرة ذراعا، فنزل بقس الناطف، وأقبل أبو عبيد فنزل بالمروحة، فرأت دومة امرأته أم المختار ابنه أن رجلا نزل من السماء بإناء فيه شراب فشرب أبو عبيد ومعه نفر، فأخبرت بها أبا عبيد فقال: لهذه إن شاء الله الشهادة، وعهد إلى الناس فقال: إن قتلت فعلن الناس فلان، فإن قتل فعليهم فلان!، حتى أمر الذين شربوا من الإناء، ثم قال: فإن قتل فعلى الناس المثنى.
وبعث إليه بهمن جاذويه إما أن تعبروا إلينا وندعكم والعبور، وإما أن تدعونا نعبر إليكم، فنهاه الناس عن العبور ونهاه سليط أيضا فلج وترك الرأي وقال: لا يكونوا أجرأ على الموت منا، فعبر إليهم على جسر عقده ابن صلوبا للفريقين، وضاقت الأرض بأهلها واقتتلوا، فلما نظرت الخيول إلى الفيلة والخيل عليها التجافيف رأت شيئا منكرا لم تكن رأت مثله،
438

[فجعل المسلمون إذا حملوا عليهم] فلم تقدم عليهم [خيولهم] وإذا حملت الفرس على المسلمين بالفيلة والجلاجل فرقت خيولهم وكراديسهم ورموهم بالنشاب واشتد الأمر بالمسلمين، فترجل أبو عبيد والناس ثم مشوا إليهم، ثم صافحوهم بالسيوف فجعلت الفيلة لا تحمل على جماعة إلا دفعتهم، فنادي أبو عبيد احتوشوا الفيلة، واقطعوا بطانها، واقلبوا عنها أهلها، ووثب هو على الفيل الأبيض فقطع بطانه ووقع الذين عليه وفعل القوم مثل ذلك فما تركوا فيلا إلا حطوا رحله، وقتلوا أصحابه وأهوى الفيل لأبي عبيد فضربه أبو عبيد بالسيف وخبطه الفيل بيده فوقع فوطئه الفيل وقام عليه، فلما بصر به الناس تحط الفيل خشعت أنفس بعضهم، ثم أخذ اللواء الذي أقره بعده فقاتل الفيل حتى تنحى عن أبي عبيد فأخذه المسلمون فأحرزوه، ثم قتل الفيل الأمير الذي بعد أبي عبيد وتتابع سبعة أنفس من ثقيف كلهم يأخذ اللواء، ويقاتل حتى يموت، ثم أخذ اللواء المثنى فهرب عنه الناس.
فلما رأى عبد الله بن مرثد الثقفي ما لقي أبو عبيد وخلفاؤه، وما يصنع الناس بادرهم إلى الجسر فقطعه؛ وقال: يا أيها الناس موتوا على ما مات عليه أمراؤكم أو تظفروا، وحاز المشركون المسلمين إلى الجسر فتواثب بعضهم إلى الفرات فغرق من لم يصبر، وأسرعوا فيمن صبر، وحمى المثنى وفرسان من المسلمين الناس وقال: أنا دونكم فاعبروا على هينتكم ولا تدهشوا ولا تغرقوا نفوسكم. وقاتل عروة بن زيد الخيل قتالا شديدا وأبو محجن الثقفي، وقاتل أبو زبيد الطائي حمية للعربية وكان نصرانيا قدم الحيرة لبعض
439

أمره ونادي المثنى: من عبر نجا، فجاء العلوج فعقدوا الجسر وعبر الناس.
وكان آخر من قتل عند الجسر سليط بن قيس، وعبر المثنى وحمى جانبه، فلما عبر أرفض عنه أهل المدينة وبقي المثنى قي قلة، وكان قد جرح وأثبت فيه حلق من درعه.
وأخبر عمر عس سار في البلاد من الهزيمة استحياء فاشتد عليه وقال: اللهم إن كل مسلم في حل مني، أنا فئة كل مسلم، يرحم الله أبا عبيد لو كان انحاز إلي لكنت له فئة.
وهلك من المسلمين أربعة آلاف بين قتيل وغريق، وهرب ألفان، وبقي ثلاثة آلاف، وقتل مز الفرس ستة آلاف، وأراد بهمن جاذويه العبور خلف المسلمين فأتاه الخبر باختلاف الفرس وأنهم قد ثاروا برستم ونقضوا الذي بينهم وبينه وصاروا فريقين الفهلوج على رستم، وأهل فارس على الفيرزان، فرجع إلى المدائن.
وكانت هذه الوقعة في شعبان.
وكان فيمن قتل بالجسر عقبة، وعبد الله ابنا قبطي بن قيس، وكانا شهدا أحدا، وقتل معهما أخوهما عباد ولم يشهد معهما أحدا، وقتل أيضا قيس بن السكن بن قيس أبو زيد الأنصاري وهو بدري لا عقب له، وقتل يزيد بن قيس بن الخطيم الأنصاري شهد أحدا، وفيها قتل أبو أمية الفزاري له صحبة، والحكم بن مسعود أخو أبي عبيد، وابنه جبر بن الحكم ابن مسعود.
440

ذكر خبر أليس الصغرى
لما عاد ذو الحاجب لم يشعر جابان ومردانشاه بما جاء به من الخبر فخرجا حتى أخذا بالطريق، وبلغ المثنى فعلهما فاستخلف على الناس عاصم بن عمرو وخرج في جريدة خيل يريدهما، فظنا أنه هارب فاعترضاه فأخذهما أسيرين، وخرج أهل أليس على أصحابهما فأتوه بهم أسرى وعقد لهم بها ذمة وقتلهما، وقتل الأسرى، وهرب أبو محجن من أليس ولم يرجع مع المثنى بن حارثة.
ذكر وقعة البويب
لما بلغ عمر خبر وقعة أبي عبيد بالجسر ندب الناس إلى المثنى، وكان فيمن ندب بجيلة وأمرهم إلى جرير بن عبد الله لأنه كان قد جمعهم من القبائل وكانوا متفرقين فيها فسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يجمعهم فوعده ذلك، فلما ولي أبو بكر تقاضاه بما وعده النبي صلى الله عليه وسلم فلم يفعل؟ فلما ولي عمر طلب منه ذلك فكتب إلى عماله أنه من كان ينسب إلى بجيلة في الجاهلية وثبت عليه في الإسلام فأخرجوه إلى جرير ففعلوا ذلك، فلما اجتمعوا أمرهم عمر بالعراق وأبوا إلا الشام فعزم عمر علن العراق وينفلهم ربع الخمس فأجابوا وسيرهم إلى المثنى بن حارثة، وبعث عصمة بن عبد الله الضبي فيمن تبعه إلى المثنى، وكتب إلى أهل الردة
441

فلم يأته أحد إلا رمى به المثنى، وبعث المثنى الرسل فيمن يليه من العرب فتوافوا إليه في جمع عظيم، وكان فيمن جاءه أنس بن هلال النمري في جمع عظيم من النمر نصارى، وقالوا: نقاتل مع قومنا.
وبلغ الخبر رستم، والفيرزان فبعثا مهران الهمذاني إلى الحيرة فسمع المثنى ذلك وهو بين القادسية وخفان فاستبطن فرات بادقلى وكتب إلى جرير وعصمة وكل من. أتاه ممدا له يعلمهم الخبر ويأمرهم بقصد البويب فهو الموعد فانتهوا إلى المثنى وهو بالبويب ومهران بإزائه من وراء الفرات، فاجتمع المسلمون بالبويب مما يلي الكوفة اليوم وأرسل مهران إلى المثنى يقول: إما أن تعبر إلينا وإما أن نعبر إليك، فقال المثنى: اعبروا. فعبر مهران فنزل على شاطىء الفرات وعبى المثنى أصحابه وكان في رمضان فأمرهم بالإفطار ليقووا على عدوهم فأفطروا، وكان على مجنبتي المثنى بشير بن الخصاصية وبسر بن أبي رهم، وعلى مجردته المعني أخوه، وعلى الرجل مسعود أخوه، وعلى الردء مذعور، وكان على مجنبتي مهران بن الاراذبه مرزبان الحيرة، ومردانشاه، وأقبل الفرس في ثلاثة صفوف مع كل صف فيل ورجلهم أمام فيلهم ولهم زجل. فقال المثنى للمسلمين: إن الذي تسمعون فشل فالزموا الصمت.
ودنوا من المسلمين؛ وطاف المثنى في صفوفه يعهد إليهم، وهو على فرسه الشموس وإنما سمي بذلك للينه وكان لا يركبه إلا إذا قاتل فوقف على الرايات يحرضهم ويهزهم، ولكلهم يقول: إني لأرجو أن لا يؤتى الناس من قبلكم اليوم، والله ما يسرني اليوم لنفسي شيء إلا وهو يسرني لعامتكم فيجيبونه بمثل ذلك، وأنصفهم من نفسه في القول والفعل وخلط الناس في المحبوب والمكروه فلم يقدر أحد أن يعيب له قولا ولا فعلا، وقال:
442

إني مكبر ثلاثا فتهيأوا ثم أملوا في الرابعة. فلما كبر أول تكبيرة أعجلتهم فارس وخالطوهم [مع أول تكبيرة]، وركدت خيلهم وحربهم مليا فرأي المثنى خللا في بني عجل فجعل يمد لحيته لما يري منهم وأرسل إليهم يقول: الأمير يقرأ عليكم السلام ويقول: لا تفضحوا المسلمين اليوم. فقالوا: نعم، واعتدلوا فضحك فرحا.
فلما طال القتال واشتد. قال المثنى لأنس بن هلال النمري: إنك امرؤ عربي وإن لم تكن على ديننا فإذا حملت على مهران فاحمل معي. فأجابه فحمل المثنى على مهران فأزاله حتى دخل في ميمنته. ثم خالطوهم، واجتمع القلبان، وارتفع الغبار والمجنبات تقتتل لا يستطيعون أن يفرغوا لنصر أميرهم لا المسلمون ولا المشركون، وارتث مسعود أخو المثنى يومئذ وجماعة من أعيان المسلمين، فلما أصيب مسعود تضعضع من معه، فقال: يا معشر بكر ارفعوا رايتكم رفعكم الله ولا يهولنكم مصرعي! وكان المثنى قال لهم: إذا رأيتمونا أصبنا فلا تدعوا ما أنتم فيه، ألزموا مصافكم وأغنوا غناء من يليكم.
وأوجع قلب المسلمين في قلب المشركين، وقتل غلام نصراني من تغلب مهران واستوى على فرسه، فجعل المثنى سلبه لصاحب خيله، وكان التغلبي قله جلب خيلا هو وجماعة من تغلب، فلما رأوا القتال قاتلوا مع العرب، قال: وأفنى المثنى قلب المشركين والمجنبات بعضها يقاتل بعضا، فلما رأوه قد أزال القلب وأفنى أهله وثب مجنبات المسلمين على مجنبات المشركين، وجعلوا يردون الأعاجم على أدبارهم، وجعل المثنى والمسلمون في القلب يدعون لهم بالنصر ويرسل إليهم من يذمرهم ويقول لهم: (عاداتكم في أمثالهم انصروا الله ينصركم له، حتى هزموا الفرس، وسبقهم المثنى إلى الجسر وأخذ طريق الأعاجم فافترقوا
443

مصعدين ومنحدرين، وأخذتهم خيول المسلمين حتى قتلوهم وجعلوهم جثثا.
فما كانت بين المسلمين والفرس وقعة أبقى رمة منها بقيت عظام القتلى دهرا طويلا، وكانوا يحزرون القتلى مائة ألف، وسمي ذلك اليوم الأعشار أحصي مائة رجل قتل كل رجل منهم عشرة، وكان عروة بن زيد الخيل من أصحاب التسعة، وغالب الكناني وعرفجة الأزدي، من أصحاب التسعة، وقتل المشركون فيما بين السكون اليوم وضفة الفرات، وتبعهم المسلمون إلى الليل ومن الغد إلى الليل، وندم المثنى على أخذه بالجسر؛ وقال: لم عجزت عجزة وقى الله شرها بمسابقتي إياهم إلى الجسر حتى أحرجتهم فلا تعودوا أيها الناس إلى مثلها فإنها كانت زلة، فلا ينبني إحراج من لا يقوى علف امتناع.
ومات أناس من الجرحى، منهم مسعود أخو المثنى، وخالد بن هلال فصلى عليهم المثنى وقال: والله إنه ليهون علي وجدي أن صبروا وشهدوا البويب ولم ينكلوا.
وكان قد أصاب المسلمون غنما ودقيقا وبقرا فبعثوا بها إلى عيال من قدم من المدينة وهم بالقوادس. وأرسل المثنى الخيل في طلب العجم فبلغوا السيب وغنموا من البقر والسبي وسائر الغنائم شيئا كثيرا فقسمه فيهم، ونفل أهل البلاء وأعطى بجيلة ربع الخمس، وأرسل الذين تبعوا المنهزمين إلى المثنى يعرفونه سلامتهم وأنه لا مانع دون القوم ويستأذنونه في الإقدام فأذن لهم فأغاروا حتى بلغوا ساباط، وتحصن أهله منهم واستباحوا القرى، ثم مخروا
444

السواد فيما بينهم وبين دجلة لا يخافون كيدا ولا يلقون مانعا، ورجعت مسالح العجم إليهم وسرهم أن يتركوا ما وراء دجلة.
(بسر بن أبي رهم بضم الباء الموحدة وسكون السين المهملة).
ذكر خبر الخنافس: وسوق بغداد
ثم خلف المثنى بالحيرة بشير بن الخصاصية. وسار يمخر السواد وأرسل إلى ميسان، ودست ميسان وأذكى المسالح ونزل أليس، قرية من قرى الأنبار، وهذه الغزوة تدعن غزوة الأنبار الآخرة وغزوة أليس الآخرة.
وجاء إلى المثنى رجلان أحدهما أنباري فدله على سوق الخنافس، والثاني حيري دله على بغداد، فقال المثنى: أيتهما قبل صاحبتها؟ فقالا: بينهما مسيرة أيام. قال: أيهما أعجل؟ قالا: سوق الخنافس يجتمع بها تجار مدائن كسرى والسواد، ربيعة، وقضاعة يخفرونهم. فركب المثنى وأغار على الخنافس يوم سوقها، وبها خيلان من ربيعة وقضاعة، وعلى قضاعة رومانس بن وبرة، وعلى ربيعة السليل بن قيس وهم الخفراء؛ فانتهب السوق وما فيها وسلب الخفراء، ثم رجع فأتى الأنبار فتحصن أهلها منه، فلما عرفوه نزلوا إليه وأتوه بالأعلاف والزاد، وأخذ منهم الأدلاء على سوق بغداد، وأظهر لدهقان الأنبار أنه يريد المدائن وسار منها إلى بغداد ليلا وعبر إليهم وصبحهم في أسواقهم، فوضع السيف فيهم وأخذ ما شاء، وقال المثنى: لا تأخذوا إلا
445

الذهب والفضة، والحر من كل شيء ثم عاد راجعا حتى نزل بنهر السالحين به نبار فسمع أصحابه يقولون: ما أسرع القوم في طلبنا؟ فخطبهم وقال: احمدوا الله وسلوه العافية وتناجوا بالبر والتقوى ولا تتناجوا بالاثم والعدوان، انظروا في الأمور وقدروها ثم تكلموا، انه لم يبلغ النذير مدينتهم بعد ولو بلغهم لحال الرعب بينهم وبين طلبكم، إن للغارات روعات تضعف القلوب يوما إلى الليل، ولو طلبكم المحامون من رأي العين ما أدركوكم وأنتم على الفرات حتى تنتهوا إلى عسكركم، ولو أدركوكم لقاتلتهم التماس الأجر، ورجاء النصر، فثقوا بالله وأحسنوا به الظن. فقد نصركم في مواطن كثيرة.
تم سار بهم الأنبار، وكان من خلفه من المسلمين يمخرون السواد ويشنون الغارات ما بين أسفل كسكر وأسفل الفرات، وجسوا مثقبا إلى عين التمر، وفي أرض الفلاليج، والمثنى بالأنبار.
ولما رجع المثنى من بغداد إلى الأنبار بعث المضارب العجلي في جمع إلى الكباث، وعليه فارس العناب التغلبي، ثم لحقهم المثنى فسار معهم فوجدوا الكباث قد سار من كان به عنه، ومعهم فارس العناب فسار المسلمون خلفه فلحقوه، وقد رحل من الكباث، فقتلوا في أخريات أصحابه وأكثروا القتل، فلما رجعوا إلى الأنبار سرح فرات بن حيان التغلبي، وعتيبة بن النهاس، وأمرهما بالغارة على أحياء من تغلب بصفين. ثم اتبعهما المثنى واستخلف على
446

الناس عمرو بن أبي سلمى الهجيمي، فلما دنوا من صفين فر من بها وعبروا الفرات إلى الجزيرة،، وفني الزاد الذي مع المثنى وأصحابه فأكلوا رواحلهم إلا ما لا بد منه حتى جلودها ثم أدركوا عيرا من أهل دبا، وحوران فقتلوا من بها وأخذوا ثلاثة نفر من تغلب كانوا خفراء وأخذوا العير، فقالوا لهم: دلونا. فقال أحدهم: أمنوني على أهلي ومالي وأدلكم على حي من تغلب [غدوت من عندهم اليوم]. فأمنه المثنى وسار معهم يومه، فهجم العشي على القوم والنعم صادرة عن الماء وأصحابها جلوس بأفنية البيوت [فبث غارته] فقتل المقاتلة وسبى الذرية واستاق الأموال، وكان التغلبيون بني ذي الرويحلة فاشترى من كان مع المثنى من ربيعة السبايا بنصيبه من الفيء وأعتقوهم، وكانت ربيعة لا تسابي إذا العرب يتسابون في جاهليتهم.
وأخبر المثنى أن جمهور من سلك البلاد قد انتجع شاطىء دجلة فخرج المثنى وعلى مجنبتيه النعمان بن عوف ومطر الشيبانيان. وعلى مقدمته حذيفة بن محصن الغلفاني فساروا في طلبهم فأدركوهم بتكريت، فأصابوا ما شاؤوا من النعم، وعاد إلى الأنبار ومضى عتيبة وفرات ومن معهما حتى أغاروا على صفين وبها النمر وتغلب متساندين، فأغاروا عليهم حتى رموا طائفة منهم في الماء فجعلوا ينادونهم الغرق الغرق، وجعل عتيبة، وفرات يذمران الناس ويناديانهم تغريق بتحريق يذكرانهم نهم يوما من أيام الجاهلية أحرقوا فيه قوما من بكر بن وائل في غيضة من الغياض، ثم رجعوا إلى المثنى، وقد غرقوهم وقد بلغ الخبر عمر فبعث إلى عتيبة وفرات فاستدعاهما فسألهما عن قولهما فأخبراه أنهما لم يفعلا ذلك على وجه طلب ذحل إنما هو مثل فاستحلفهما وردهما إلى المثنى.
(عتيبة بن النهاس بالتاء المثناة من فوقها والياء المثناة من تحتها والباء الموحدة).
447

ذكر الخبر عن الذي هيج أمر القادسية، وملك يزدجرد
لما رأى أهل فارس ما يفعل المسلمون بالسواد قالوا لرستم والفيرزان وهما على أهل فارس: لم يبرح بكما الاختلاف حتى وهنتما أهل فارس وأطمعتما فيهم عدوهم؛ ولم يبلغ من أمركما أن نقركما على هذا الرأي، وأن تعرضاها للهلكة ما بعد بغداد، وساباط، وتكريت إلا المدائن، والله لتجتمعان أو لنبدأن بكما ثم نهلك وقد اشتفينا منكما. فقال الفيرزان ورستم لبوران ابنة كسرى: اكتبي لنا نساء كسرى وسراريه ونساء آل كسرى وسراريهم ففعلت، فأحضروهن جميعهن وأخذوهن بالعذاب يستدلونهن على ذكر من أبناء كسرى فلم يوجد عند واحدة منهن أحد. وقال بعضهن: لم يبق إلا غلام يدعن يزدجرد من ولد شهريار بن كسرى وأمه من أهل بادوريا. فأرسلوا إليها وطلبوه منها وكانت قد أنزلته أيام شيري حين جمعهن، فقتل الذكور وأرسلته إلى أخواله، فلما سألوها عنه دلتهم عليه فجاءوا به فملكوه وهو ابن إحدى وعشرين سنة، واجتمعوا عليه فاطمأنت فارس واستوثقوا وتباري المرازبة في طاعته ومعونته فسمى الجنود لكل مسلحة وثغر، فسمى جند الحيرة والأبلة، والأنبار وغير ذلك.
وبلغ ذلك من أمرهم المثنى والمسلمين فكتبوا إلى عمر بن الخطاب بما ينتظرون من أهل السواد، فلم يصل الكتاب إلى عمر حتى كفر أهل السواد من كان له عهد ومن لم يكن له عهد، فخرج المثنى حتى نزل بذي قار ونزل الناس بالطف في عسكر واحد. ولما وصل كتاب المثنى إلى عمر قال: والله لأضربن ملوك العجم بملوك العرب! فلم يدع رئيسا، ولا ذا رأي، وذا شرف، وبسطة ولا خطيبا، ولا شاعرا إلا رماهم به. فرماهم بوجوه الناس وغررهم، وكتب عمر إلى المثنى، ومن معه يأمرهم بالخروج من بين العجم
448

والتفرق في المياه التي تلي العجم وأن لا يدعوا في ربيعة ومضر وحلفائهم أحدا من أهل النجدات ولا فارسا إلا أحضروه إما طوعا أو كرها. ونزل الناس بالخل، وشراف إلى غضي، وهو حيال البصرة، وبسلمان بعضهم ينظر إلى بعض ويغيث بعضهم بعضا، وذلك في ذي القعدة سنة ثلاث عشرة. وأرسل عمر في ذي الحجة من السنة مخرجه إلى الحج إلى عماله على العرب أن لا يدعوا من له نجدة، أو فرس، أو سلاح أو رأي لا وجهوه اليه؛ فأما من كان على النصف ما بين المدينة والعراق فجاء إليه بالمدينة لما عاد من الحج، وأما من كان أقرب! لي العراق فانضم إلى المثنى بن حارثة، وجاءت أمداد العرب إلى عمر.
وحج في هذه السنة عمر بن الخطاب بالناس وحج سنيه كلها.
وكان عامل عمر على مكة هذه السنة عتاب بن أسيد، فيما قال بعضهم،، وعلى الطائف عثمان بن أبي العاص، وعلى اليمن يعلى بن منية، وعلى عمان واليمامة حذيفة بن محصن، وعلى البحرين العلاء بن الحضرمي، وعلى الشام أبو عبيدة بن الجراح، وعلى فرج الكوفة وما فتح من أرضها المثنى بن حارثة. وكان علن القضاء فيما ذكر علي بن أبي طالب.
وفي هذه السنة مات أبو كبشة، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل بعد ذلك. وفي خلافة أبي بكر مات سهل بن عمرو، أخو سهيل،، وهو من مسلمة الفتح. وفي خلافته مات الصعب بن جثامة الليثي. وفي أول خلافته مات ابنه عبد الله بن أبي بكر، وكان قد جرح في حصار الطائف ثم انتقض عليه جرحه فمات. وقي هذه السنة توفي الأرقم بن م بي الأرقم يوم مات أبو بكر، وهو الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفيا بداره بمكة أول ما أرسل.
449

14
ثم دخلت سنة أربع عشرة
ذكر ابتداء أمر القادسية
لما اجتمع الناس إلى عمر خرج من المدينة حتى نزل على ماء يدعى صرارا فعسكر به ولا يدري الناس ما يريد أيسير أم يقيم؟ وكانوا إذا أرادوا أن يسألوه عن شيء رموه بعثمان، أو بعبد الرحمن بن عوف فإن لم يقدر هذان على علم شيء مما يريدون ثلثوا بالعباس بن عبد المطلب، فسأله عثمان عن سبب حركته فأحضر الناس فأعلمهم الخبر واستشارهم في المسير إلى العراق، فقال العامة: سر وسر بنا معك، فدخل معهم في رأيهم، وقال: اغدوا واستعدوا فإني سائر إلا أن يجيئ رأي هو أمثل من هذا. ثم جمع وجوه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم [وأعلام العرب]، وأرسل إلى علي، وكان استخلفه على المدينة فأتاه، وإلى طلحة وكان على المقدمة فرجع إليه، وإلى الزبير، وعبد الرحمن وكان على المجنبتين فحضرا، ثم استشارهم فاجتمعوا على أن يبعث رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم [ويقيم] ويرميه بالجنود فإن كان الذي يشتهي فهو الفتح وإلا أعاد رجلا وبعث آخر ففي ذلك غيظ العدو.
450

فجمع عمر الناس، وقال لهم: إني كنت عزمت على المسير حتى صرفني ذوو الرأي منكم، وقد رأيت أن أقيم وأبعث رجلا فأشيروا علي برجل.
وكان سعد بن أبي وقاص علن صدقات هوازن فكتب إليه عمر بانتخاب ذوي الرأي والنجدة والسلاح فجاءه كتاب سعد وعمر يستشير الناس فيمن يبعثه يقول: قد انتخبت لك ألف فارس كلهم له نجدة ورأي، وصاحب حيطة يحوط حريم قومه إليهم، انتهت أحسابهم ورأيهم، فلما وصل كتابه قالوا لعمر: قد وجدته. قال: من هو؟ قالوا: الأسد عاديا سعد بن مالك. فانتهى إلى قولهم وأحضره وأمره على حرب العراق ووصاه وقال: لا يغرنك من الله أن قيل: خال رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الله لا يمحو السيء بالحسن ولكنه يمحو السيء بالحسن، وليس بين الله وبين أحد نسب إلا طاعته، فالناس في ذات الله سواء، الله ربهم وهم عباده، يتفاضلون بالعافية، ويدركون ما عنده بالطاعة فانظر الأمر الذي رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلزمه فالزمه ووصاه بالصبر وسرحه فيمن اجتمع اليه من نفر المسلمين وهو أربعة آلاف فيهم حميضة بن النعمان بن حميضة على بارق، وعمرو بن معد يكرب، وأبو سبرة بن ذؤيب على مذحج، ويزيد بن الحارث الصدائي على صداء، وحبيب، ومسيلمة، وبشر بن عبد الله الهلالي في قيس عيلان.
وخرج إليهم عمر فمر بفتية من السكون مع حصين بن نمير ومعاوية بن خديج دلم سباط فأعرض عنهم فقيل له: مالك وهؤلاء؟ فقال: ما مر بي قوم من العرب أكره إلي منهم ثم أمضاهم. فكان بعد يذكرهم بالكراهة، فكان منهم سودان بن حمران قتل عثمان، وابن ملجم قتل
451

عليا، ومعاوية بن خديج جرد السيف في المسلمين يظهر الأخذ بثأر عثمان، وحصين بن نمير كان أشد الناس في قتال علي.
ثم إن عمر أخذ بوصيتهم وبعظتهم ثم سيرهم، وأمد عمر سعدا بعد خروجه بألفي يماني وألفي نجدي، وكان المثنى بن حارثة في ثمانية آلاف، وسار سعد والمثنى ينتظر قدومه فمات المثنى قبل قدوم سعد من جراحة انتقضت عليه، واستخلف على الناس بشير بن الخصاصية، وسعد يومئذ بزرود، وقد اجتمع معه ثمانية آلاف، وأمر عمر بني أسد أن ينزلوا على حد أرضهم بين الحزن، والبسيطة فنزلوا في ثلاثة آلاف. وسار سعد إلى شراف فنزلها ولحقه بها الأشعث بن قيس في ألف وسبعمائة من أهل اليمن. فكان جميع من شهد القادسية بضعة وثلاثين ألفا، وجميع من قسم عليه فيؤها نحو من ثلاثين ألفا.
ولم يكن أحد أجرأ على أهل فارس من ربيعة. فكان المسلمون يسمونهم ربيعة الأسد إلى ربيعة الفرس، ولم يدع عمر ذا رأي، ولا شرف، ولا خطيبا، ولا شاعرا، ولا وجيها من وجوه الناس إلا سيره إلى سعد. وجمع سعد من كان بالعراق من المسلمين من عسكر المثنى. فاجتمعوا بشراف فعبأهم، وأمر الأمراء، وعرف على كل عشرة عريفا، وجعل على الرايات رجالا من أهل السابقة، وولى الحروب رجالا على ساقتها، ومقدمتها، ورجلها، وطلائعها، ومجنباتها ولم يفصل إلا بكتاب عمر، فجعل على المقدمة زهرة بن عبد الله بن قتادة بن الحوية فانتهى إلى العذيب، وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل على الميمنة عبد الله بن المعتم، وكان من الصحابة أيضا، واستعمل على الميسرة شرحبيل بن السمط الكندي، وجعل خليفته خالد بن عرفطة، حليف بني عبد شمس، وجعل م عاصم بن عمرو التميمي على الساقة، وسواد بن مالك التميمي على الطلائع، وسلمان بن ربيعة الباهلي على
452

المجردة، وعلى الرجالة حمال بن مالك الأسدي، وعلى الركبان عبد الله بن ذي السهمين الحنفي. وجعل عمر على القضاء بينهم عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي وعك قسمة الفيء أيضا، وجعل رائدهم وداعيتهم سلمان الفارسي، والكاتب زياد بن أبيه.
وقدم المعنى بن حارثة الشيباني وسلمى بنت خصفة زوج المثنى بشراف. وكان المعني بعد موت أخيه قد سار إلى قابوس بن قابوس بن المنذر بالقادسية، وكان قد بعثه إليها الفرس يستنفر العرب فسار إليه المعني فقفله فأنامه ومن معه ورجع إلى ذي قار، وسار إلى سعد يعلمه برأي المثنى له وللمسلمين يم مرهم أن يقاتلوا الفرس على حدود أرضهم على أدنى حجر من أرض العرب، ولا يقاتلوهم بعقر دارهم، فإن يظهر الله المسلمين فلهم ما وراءهم،؛ وإن كانت الأخرى رجعوا إلى فئة، ثم يكونوا أعلم بسبيلهم، وأجرأ على أرضهم إلى أن يرد الله الكرة عليهم. فترحم سعد ومن معه على المثنى، وجعل المعني على عمله، وأوصى بأهل بيته خيرا، ثم تزوج سعد سلمى زوج المثنى وكان معه تسعة وتسعون بدريا، وثلاثمائة وبضعة عشر ممن كانت له صحبة فيما بين بيعة الرضوان إلى ما فوق ذلك، ثلاثمائة ممن شهد الفتح، وسبعمائة من أبناء الصحابة.
وقدم على سعد كتاب عمر بمثل رأي المثنى، وكتب عمر أيضا إلى أبي عبيدة ليصرف أهل العراق، ومن اختار أن يلحق بهم إلى العراق. وكان للفرس رابطة بقصر ابن مقاتل وعليها النعمان بن قبيصة الطائي، وهو ابن عم قبيصة بن إياس صاحب الحيرة، فلما سمع بمجيء سعد سأل عنه، وعنده عبد الله بن سنان بن خزيم الأسدي فقيل: رجل من قريش. فقال: والله لأحادنه
453

القتال، فإن قريشا عبيد من غلب، والله لا يخرجون من بلادهم الا بخفين! فغضب عبد الله بن سنان من قوله وأمهله حتى دخل قبته فقتله ولحق بسعد وأسلم.
وسار سعد من شراف فنزل العذيب، ثم سار حتى نزل القادسية بين العتيق. والخندق بحيال القنطرة، وقديس أسفل منها بميل، وكتب عمر إلى سعد: إني ألقي في روعي أنكم إذا لقيتم العدو هزمتموهم، فمتى لاعب أحد منكم أحدا من العجم بأمان أو بإشارة أو بلسان كان عندهم أمانا فاجروا له ذلك مجري الأمان والوفاء فإن الخطأ بالوفاء بقية، وإن الخطأ بالغدر هلكة، وفيها وهنكم وقوة لا عدوكم. فلما نزل زهرة في المقدمة وأمسى بعث سرية في ثلاثين معروفين بالنجدة وأمرهم بالغارة على الحيرة فلما جاروا السيلحين سمعوا جلبة فمكثوا حتى حاذوهم وإذا أخت آزادمرد بن آزاذبه مرزبان الحيرة تزف إلى صاحب الصنين وهو من أشراف العجم؛ فحمل بكير بن عبد الله الليثي أمير السرية على شيرزاد بن آزاذبه فدق صلبه وطارت الخيل على وجوهها، وأخذوا الأثقال وابنة آزاذبه في ثلاثين امرأة من الدهاقين ومائة من التوابع، ثم ومعهم ما لا يدري قيمته، فاستاق ذلك ورجع، فصبح سعدا بعذيب الهجانات فقسم ذلك على المسلمين وترد الحريم بالعذيب ومعها خيل تحوطها وأمر عليهم غالب بن عبد الله الليثي.
ونزل سعد القادسية وأقام بها شهرا لم يأته من الفرس أحد فأرسل سعد عاصم بن عمرو إلى ميسان فطلب غنما أو بقرا فلم يقدر عليها وتحصن منه من هناك فأصاب عاصم رجلا بجانب أجمة فسأله عن البقر والغنم فقال: ما أعلم. فصاح ثور من الأجمة كذب عدو الله وها نحن! فدخل فاستاق البقر فأتى بها العسكر فقسمه سعد على الناس فأخصبوا أياما فبلغ ذلك الحجاج في
454

زمانه فأرسل إلى جماعة فسألهم فشهدوا أنهم سمعوا ذلك وشاهدوه فقال: كذبتم. قالوا: ذلك إن كنت شهدتها وغبنا عنها. قال: صدقتم، فما كان الناس يقولون في ذلك. قالوا: يستدل بها على رضا الله وفتح عدونا. فقال: ما يكون هذا إلا والجمع أبرار أتقياء. قالوا: والله ما ندري ما أجنت قلوبهم فأما ما رأينا فما رأينا قوما قط أزهد في دنيا منهم ولا أشد بغضا لها ليس فيهم جبان، ولا، غال، ولا غدار. وذلك يوم الأباقر.
وبث سعد الغارات والنهب بين كسكر والأنبار فحووا من الأطعمة ما استكفوا به زمانا. وكان بين نزول خالد بن الوليد العراق وبين نزول سعد القادسية والفراغ منها سنتان وشئ، وكان مقام سعد بالقادسية شهرين وشيئا حتى ظفر.
فاستغاث أهل السواد إلى يزدجرد وأعلموه أن العرب قد نزلوا القادسية ولا يبقى على فعلهم شيء وقد أخربوا ما بينهم وبين الفرات ونهبوا الدواب والأطعمة وإن أبطأ الغياث أعطيناهم بأيدينا، وكتب إليه بذلك الذين لهم الضياع بالطف وهيجوه عك إرسال الجنود. فأرسل يزدجرد إلى رستم فدخل عليه فقال: إني أريد أن أوجهك في هذا الوجه فأنت رجل فارس اليوم وقد ترى ما حل بالفرس مما لم يأتهم مثله. فاظهر له الإجابة ثم قال له: دعني فإن العرب لا تزال تهاب العجم ما لم تضرهم بي، ولعل الدولة أن تثبت بي إذا لم أحضر الحرب فيكون الله قد كفن ونكون قد أصبنا المكيدة، والرأي في الحرب أنفع من بعض الظفر، والأناة خير من العجلة، وقتال جيش بعد جيش أمثل من هزيمة بمرة وأشد على عدونا. فأبى عليه، وأعاد رستم كلامه وقال: قد اضطرني تضييع الرأي إلى إعظام نفسي وتزكيتها ولو أجد من ذلك بدا لم أتكلم به فأنشدك الله في نفسك وملكك دعني أقم بعسكري
455

وأسرح الجالينوس فإن تكن لنا فذلك وإلا بعثنا غيره حتى إذا لم نجد بدا صبرنا لهم وقد وهناهم ونحن حامون، فإني لا أزال مرجوا في أهل فارس، ما لم أهزم. فأبى إلا أن يسير، فخرج حتى ضرب عسكره بساباط، وأرسل إلى الملك ليعفيه فأبى.
وجاءت الأخبار إلى سعد بذلك، فكتب إلى عمر فكتب إليه عمر: لا يكربنك ما يأتيك عنهم واستعن بالله، وتوكل عليه، وابعث إليه رجالا من أهل المناظرة، والرأي، والجلد يدعونه فإن الله جاعل دعاءهم توهينا لهم.
فأرسل سعد نفرا منهم: النعمان بن مقرن، وبسر ابن أبي رهم، وحملة بن جوية، وحنظلة بن الربيع، وفرات بن حيان؛ وعدي بن سهيل، وعطارد بن حاجب، والمغيرة بن زرارة بن النباش الأسدي، والأشعث بن قيس، والحارث بن حسان، وعاصم بن عمرو، وعمرو بن معد يكرب، والمغيرة بن شعبة، والمعني بن حارثة إلى يزدجرد دعاة، فخرجوا من العسكر فقدموا على يزدجرد وطووا رستم واستأذنوا على يزدجر فحبسوا وأحضر وزراءه ورستم معهم واستشارهم فيما يصنع بهم ويقوله لهم.
واجتمع الناس ينظرون إليهم وتحتهم خيول كلها صهال، وعليهم البرود وبأيديهم السياط فأذن لهم وأحضر الترجمان، وقال له: سلهم ما جاء بكم وما دعاكم إلى غزونا والولوع ببلادنا؟ أمن أجل أننا تشاغلنا عنكم اجترأتم علينا؟ فقال النعمان بن مقرن لأصحابه: إن شئتم تكلمت عنكم ومن شاء آثرته. فقالوا: بل تكلم. فقال: إن الله رحمنا فأرسل إلينا رسولا يأمرنا بالخير وينهانا عن الشر ووعدنا على إجابته خير الدنيا والآخرة فلم يدع قبيلة إلا وقار به منها فرقة، وتباعد عنه بها فرقة، ثم أمر أن نبتدئ إلى من خالفه من العرب فبدأنا بهم فدخلوا معه على وجهين، مكره عليه فاغتبط، وطائع [أتاه]
456

فازداد، فعرفنا جميعا فضل ما جاء به على الذي كنا عليه من العداوة والضيق، ثم أمرنا أن نبتدئ من يلينا من الأمم فندعوهم إلى الانصاف فنحن ندعوكم إلى ديننا وهو دين حسن الحسن وقبح القبيح كله فإن أبيتم فأمر من الشر هو أهون من اخر شر منه: الجزية، فإن أبيتم فالمناجزة، فإن أجبتم إلى ديننا خلفنا فيكم كتاب الله وأقمنا عليه على أن تحكموا بأحكامه ونرجع عنكم وشأنكم وبلادكم، لان بذلتم الجزاء قبلنا. ومنعناكم وإلا قاتلناكم.
فتكتم يزدجرد فقال: إني لا أعلم في الأرض أمة كانت أشقى ولا أقل عددا ولا
أسوأ ذات بين منكم، قد كنا نوكل بكم قرى الضواحي فيكفوننا أمركم ولا تطمعوا أن تقوموا لفارس فإن كان غرر لحقكم فلا يغرنكم منا، وإن كان الجهد فرضنا لكم قوتا إلى خصبكم، وأكرمنا وجوهكم، وكسوناكم وملكنا عليكم ملكا يرفق بكم.
فأسكت القوم، فقام المغيرة بن زرارة فقال: أيها الملك إن هؤلاء رؤوس العرب، ووجوههم وهم أشراف يستحيون من الأشراف، وإنما يكرم الأشراف ويعظم حقهم الأشراف وليس كل ما أرسلوا به قالوه ولا كل ما تكلمت به أجابوك عنه فجاوبني لأكون الذي أبلغك، وهم يشهدون على ذلك لي. فأما ما ذكرت من سوء الحال فهي علن ما وصفت وأشد، ثم ذكر من سوء عيش العرب وإرسال الله النبي صلى الله عليه وسلم إليهم نحو قول النعمان وقتال من خالفهم أو الجزية، ثم قال له،: اختر إن شئت الجزية عن يد وأنت صاغر، وإن شئت فالسيف أو تسلم فتنجي نفسك.
فقال: لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكم، لا شئ لكم عندي. ثم استدعى بوقر من تراب. فقال: احملوه على أشرف هؤلاء ثم سوقوه حتى يخرج من
457

باب المدائن، ارجعوا إلى صاحبكم فاعلموه أني مرسل إليه رستم حتى يدفنه ويدفنكم معه في خندق القادسية [وينكل به وبكم]، ثم أورده بلادكم حتى أشغلكم بأنفسكم بأشد مما نالكم من سابور.
فقام عاصم بن عمر وليأخذ التراب، وقال: أنا أشرفهم، أنما سيد هؤلاء فحمله علن عنقه وخرج إلى راحلته فركبها وأخذ التراب وقال لسعد: أبشر، فوالله لقد أعطانا الله أقاليد ملكهم.
واشتد ذلك على جلساء الملك، وقال الملك لرستم وقد حضر عنده من ساباط: ما كنت أرى أن في العرب مثل هؤلاء، ما أنتم بأحسن جوابا منهم، ولقد صدقني القوم لقد وعدوا أمرا في ركنه أو ليموتن عليه، على أني وجدت أفضلهم أحمقهم حيث حمل التراب على رأسه. فقال رستم: أيها الملك إنه أعقلهم، وتطير إلى ذلك وأبصرها دون أصحابه. وخرج رستم من عند الملك غضبان كئيبا، وبعث في أثر الوفد وقال لثقته: إن أدركهم الرسول تلافينا أرضنا، وإن أعجزه سلبكم الله أرضكم. فرجع الرسول من الحيرة بفواتهم فقال: ذهب القوم بأرضكم من غير شك. وكان منجما كاهنا.
وأغار سواد بن مالك التميمي بعد مسير الوفد إلى يزدجرد على النجاف والفراض فاستاق ثلاثمائة دابة من بين بغل، وحمار، وثور وأوقرها سمكا وصبح العسكر فقسمه سعد بين الناس وهذا يوم الحيتان وكانت السرايا تسري لطلب اللحوم فإن الطعام كان كثيرا عندهم فكانوا يسمون الأيام بها يوم الأباقر، ويوم الحيتان، وبعث سعد سرية أخرى فأغاروا فأصابوا إبلا لبني تغلب والنمر واستاقوها ومن فيها فنحر سعد الإبل وقسمها في الناس فأخصبوا، وأغار عمرو بن الحارث على النهرين فاستاق مواشي كثيرة وعاد.
وسار رستم من ساباط وجمع آلة الحرب وبعث على مقدمته الجالينوس في أربعين ألفا، وخرج هو في ستين ألفا
، وفي ساقته عشرون ألفا، وجعل
458

في ميمنته الهرمزان، وعلى الميسرة مهران بن بهرام الرازي، وقال رستم للملك يشجعه بذلك: إن فتح الله علينا توجهنا إلى ملكهم في دارهم حتى نشغلهم في أصلهم وبلادهم إلى أن يقبلوا المسالمة.
وكان خروج رستم من المدائن في ستين ألف متبوع، ومسيره عن ساباط في مائة ألف وعشرين ألف متبوع، وقيل: غير ذلك.
ولما فصل رستم عن ساباط كتب إلى أخيه البنذوان: أما بعد فرموا حصونكم وأعدوا واستعدوا فكأنكم بالعرب قد [وردوا بلادكم] وقارعوكم عن أرضكم وأبنائكم، وقد كان من رأيي مدافعتهم ومطاولتهم حتى تعود سعودهم نحوسا، فإن السمكة قد كدرت الماء، وإن النعائم قد حسنت والزهرة قد حسنت، واعتدل الميزان، وذهب بهرام، ولا أرى هؤلاء القوم إلا سيظهرون علينا، ويستولون على ما يلينا، وإن أشد ما رأيت أن الملك قال: لتسيرن أو لأسيرن بنفسي.
ولقي جابان رستم على قنطرة ساباط وكانا منجمين فشكى إليه وقال له: ألا ترى ما أري؟ فقال له رستم: أما أنا فأقاد بخشاش وزمام ولا أجد بدا من الانقياد، ثم سار فنزل بكوثى فأتى برجل من العرب فقال له: ما جاء بكم؟ وماذا تطلبون؟ فقال: جئنا نطلب موعود الله بملك أرضكم وأبنائكم إن أبيتم أن تسلموا. قال رستم: فإن قتلتم قبل ذلك؟ قال: من قتل منا دخل الجنة ومن بقي منا أنجزه الله ما وعده فنحن على يقين.
فقال رستم: قد وضعنا إذن في أيديكم. فقال: أعمالكم وضعتكم فأسلمكم الله بها فلا يغرنك من ترى حولك فإنك لست تجاول الإنس إنما تجاول القدر. فضربت عنقه، ثم سار فنزل البرس فغصب أصحابه الناس أبناءهم
459

وأموالهم، ووقعوا على النساء، وشربوا الخمور فضج أهلها إلى رستم فقال: يا معشر فارس: والله لقد صدق العربي، والله ما أسلمنا إلا أعمالنا، والله إن العرب مع هؤلاء وهم لهم حرب أحسن سيرة منكم، إن الله كان ينصركم على العدو ويمكن لكم في البلاد بحسن السيرة وكف الظلم والإحسان، فإذا تغيرتم فلا أرى الله إلا مغيرا ما بكم، وما أنا بآمن من أن ينزع الله سلطانه منكم. وأتى ببعض من يشكي منه فضرب عنقه.
ثم سار حتى نزل الحيرة ودعا أهلها وتهددهم وهم بهم، فقال له ابن بقيلة: لا تجمع علينا أن تعجز عن نصرتنا، وتلومنا على الدفع عن أنفسنا.
ولما نزل رستم بالنجف رأي كأن ملكا نزل من السماء ومعه النبي صلى الله عليه وسلم وعمر فأخذ الملك سلاح أهل فارس فختمه ثم دفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فدفعه النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمر، فأصبح رستم حزينا.
وأرسل سعد السرايا ورستم بالنجف، والجالينوس بين النجف والسيلحين، فطافت في السواد فبعث سوادا، وحميضة في مائة مائة فأغاروا علن النهرين، وبلغ رستم الخبر فأرسل إليهم خيلا، وسمع سعد أن خيله قد وغلت فأرسل عاصم بن عمرو وجابرا الأسدي في آثارهم. فلقيهم عاصم وخيل فارس تحوشهم ليخلصوا ما بأيديهم فلما رأته الفرس هربوا ورجع المسلمون بالغنائم، وأرسل سعد عمرو بن معد يكرب، وطليحة الأسدي طليعة فسارا في عشرة فلم يسيروا إلا فرسخا وبعض آخر حتى رأوا مسالحهم وسرحهم على الطفوف قد ملؤها فرجع عمرو ومن معه وأبى طليحة الا التقدم، فقالوا له: أنت رجل في نفسك غدر ولن تفلح بعد قتل عكاشة بن محصن فارجع معنا فأبن، فرجعوا إلى سعد فأخبروه بقرب القوم.
ومضى طليحة حتى دخل عسكر رستم وبات فيه يجوسه ويتوسم، فهتك
460

أطناب بيت رجل عليه، واقتاد فرسه، ثم هتك علن آخر بيته وحل فرسه، نم فعل بآخر كذلك، ثم خرج يعدو به فرسه ونذر به الناس فركبوا في طلبه فأصبح وقد لحقه فارس من الجند فقتله طليحة، ثم آخر فقتله ثم لحق به ثالث فرأي مصرع صاحبيه، وهما ابنا عمه فازداد حنقا فلحق طليحة فكر عليه طليحة وأسره، ولحقه الناس فرأوا فارسي الجند قد قتلا وأسر الثالث وقد شارف طليحة عسكره فأحجموا عنه، ودخل طليحة على سعد ومعه الفارسي وأخبره الخبر فسأل الترجمان الفارسي فطلب الأمان فأمنه سعد قال: أخبركم عن صاحبكم هذا قبل أن أخبركم عمن قبلي: باشرت الحروب منذ أنا غلام إلى الآن وسمعت بالإبطال ولم أسمع بمثل هذا، إن رجلا قطع فرسخين إلى عسكر فيه سبعون ألفا يخدم الرجل منهم الخمسة والعشرة فلم يرض أن يخرج كما دخل حتى سلب فرسان الجند وهتك عليهم البيوت فلما أدركناه قتل الأول وهو يعد بألف فارس ثم الثاني وهو نظيره ثم أدركته أنا [ولا أظن أنني] خلفت من بعدي من يعدلني وأنا الثائر بالقتيلين فرأيت الموت واستؤسرت. ثم أخبره عن الفرس وأسلم ولزم طليحة، وكان من أهل البلاء بالقادسية، وسماه سعد مسلما.
ثم سار رستم وقدم الجالينوس وذا الحاجب فنزل الجالينوس بحيال زهرة من دون القنطرة، ونزل ذو الحاجب بطيزناباذ، ونزل رستم بالخرارة. ثم سار رستم فنزل بالقادسية، وكان بين مسيره من المدائن ووصوله القادسية أربعة أشهر لا يقدم رجاء أن يضجروا بمكانهم فينصرفوا، وخاف أن يلقى ما لقي من قبله وطاولهم لولا ما جعل الملك يستعجله ينهضه [ويقدمه حتى أقحمه].
وكان عمر قد كتب إلى سعد يأمره بالصبر والمطاولة أيضا فأعد للمطاولة.
461

فلما وصل رستم القادسية وقف على العتيق بحيال عسكر سعد، ونزل الناس فما زالوا يتلاحقون حتى اعتموا من كثرتهم والمسلمون ممسكون عنهم، وكان مع رستم ثلاثة وثلاثون فيلا منها فيل سابور الأبيض، وكانت الفيلة تألفه فجعل في القلب ثمانية عشر فيلا، وفي المجنبتين خمسة عشر فيلا. فلما أصبح رستم من تلك الليلة ركب وسار من العتيق نحو خفان حتى أتى
على منقطع عسكر المسلمين ثم صد حتى انتهى إلى القنطرة فتأمل المسلمين ووقف علن موضع يشرف منه عليهم ووقف على القنطرة، وأرسل إلى زهرة فواقفه فأراده علي أن يصالحه ويجعل له جعلا على أن ينصرفوا عنه من غير أن يصرح له بذلك بل يقول له: كنتم جيراننا وكنا نحسن إليكم، ونحفظكم، ويخبره عن صنيعهم مع العرب.
فقال له زهرة: ليس أمرنا أمر أولئك، إنا لم نأتكم لطلب الدنيا إنما طلبتنا وهمتنا الآخرة وقد كنا كما ذكرت إلى أن بعث الله فينا رسولا فدعانا إلى ربه فأجبناه فقال لرسوله: اني قد سلطت هذه الطائفة علن من لم يدن بديني فأنا منتقم بهم منهم، وأجعل لهم الغلبة ما داموا مقرين به وهو دين الحق لا يرغب عنه أحد إلا ذل، ولا يعتصم به أحد إلا عز.
فقال له رستم: ما هو؟ قال؛ أما عموده الذي لا يصلح إلا به فشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قال: وأي شيء أيضا؟ قال؛ وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله، والناس بنو آدم وحواء إخوة لأب وأم قال: ما أحسن هذا؟ [ثم] قال رستم: أرأيت إن أجبت إلى هذا ومعي قومي كيف يكون أمركم؟ أترجعون؟ قال: أي والله. قال: صدقتني والله، أما إن أهل فارس منذ ولي أردشير لم يدعوا أحدا يخرج من عمله من السفلة، وكانوا يقولون: إذا خرجوا من أعمالهم تعدوا طورهم وعادوا اشرافهم. فقال له زهرة: نحن خير الناس للناس فلا نستطيع أن نكون كما تقولون بل نطيع الله
462

في السفلة ولا يضرنا من عصى الله فينا.
فانصرف عنه ودعا رجال فارس فذاكرهم هذا فأنفوا، فأرسل إلى سعد أن ابعث إلينا رجلا نكلمه ويكلمنا. فدعا سعد جماعة ليرسلهم إليهم فقال له ربعي بن عامر: متى نأتهم جميعا يروا أنا قد احتفلنا بهم فلا تزدهم على رجل.
فأرسله وحده، فسار إليهم فحبسوه على القنطرة وأعلم رستم بمجيئه فأظهر زينته، وجلس على سرير من ذهب، وبسط
البسط، والنمارق، والوسائد المنسوجة بالذهب، وأقبل ربعي على فرسه وسيفه في خرقه ورمحه مشدود بعصب وقد، فلما انتهى إلى البسط قيل له: انزل فحمل فرسه عليها ونزل، وربطها بوسادتين شقهما وأدخل الحبل فيهما فلم ينهوه وأروه التهاون وعليه درع وأخذ عباءة بعيره فتدرعها وشدها على وسطه فقالوا: ضع سلاحك. فقال: لم آتكم فأضع سلاحي بأمركم، أنتم دعوتموني. فأخبروا رستم فقال: ائذنوا له، فأقبل يتوكأ على رمحه ويقارب خطوه فلم يدع لهم نمرقا ولا بساطا إلا أفسده وهتكه، فلما دنا من رستم جلس على الأرض
وركز رمحه على البسط لقيل له: ما حملك على هذا؟ قال: إنا لا نستحب القعود على زينتكم فقال له ترجمان رستم واسمه عبود من أهل الحيرة ما جاء بكم؟ قال: الله جاء بنا وهو بعثنا لنخرج من يشاء من عباده من ضيق الدنيا إلف سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه فمن قبله قبلنا منه ورجعنا عنه وتركناه وأرضه دوننا، ومن أبى قاتلناه حتى نفضي إلى الجنة أو الظفر. فقال رستم: قد سمعنا قولكم فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه؟ قال: نعم، وإن مما سن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن لا نمتهن الأعداء أكثر من ثلاث فنحن مترددون عنكم ثلاثا فانظر في أمرك واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل: إما الإسلام
463

وندعك وأرضك، أو الجزاء فنقبل ونكف عنك، وإن احتجت الينا نصرناك، أو المنابذة في اليوم الرابع إلا أن تبدأ بنا، أنا كفيل بذلك عن أصحابي.
قال: أسيدهم أنت؟ قال: لا ولكن المسلمين كالجسد الواحد بعضهم من بعض يجير أدناهم على أعلاهم.
فخلا رستم برؤساء قومه فقال: هل رأيتم كلاما قط أعزو أوضح من كلام هذا الرجل؟ فقالوا: معاذ الله أن نميل إلى دين هذا الكلب، أما تري إلى ثيابه فقال: ويحكم لا تنظروا إلى الثياب ولكن انظروا إلى الرأي والكلام، والسيرة إن العرب تستخف باللباس وتصون الأحساب ليسوا مثلكم.
فلما كان من الغد أرسل رستم إلى سعد أن ابعث إلينا ذلك الرجل فبعث إليهم حذيفة بن محصن فأقبل في نحو من ذلك الزي، ولم ينزل عن فرسه، ووقف على رستم راكبا قال له: انزل قال: لا أفعل فقال له: ما جاء بك ولم يجئ الأول؟ قال له: إن أميرنا يحب أن يعدل بيننا في الشدة والرخاء، وهذه نوبتي فقال: ما جاء بكم؟ فأجابه مثل الأول فقال رستم: المواعدة إلى يوم ما، قال: نعم ثلاثا من أمس، فرده، وأقبل على أصحابه وقال: ويحكم أما ترون ما أرى؟ جاءنا الأول بالأمس فغلبنا على أرضنا وحقر ما نعظم وأقام فرسه على زبرجنا، وجاءنا هذا اليوم فوقف علينا وهو في يمن الطائر يقوم علن أرضنا دوننا.
فلما كان الغد أرسل؛ ابعثوا الينا رجلا. فبعث المغيرة بن شعبة فاقبل إليهم وعليهم التيجان والثياب المنسوجة بالذهب وبسطهم على غلوة لا يوصل إلى صاحبهم حتى يمشي عليها، فأقبل المغيرة حتى جلس مع رستم علن سريره فوثبوا عليه وأنزلوه ومعكوه، وقال: قد كانت تبلغنا عنكم الأحلام ولا أرى قوما
464

أسفه منكم إنا معشر العرب لا نستعبد بعضنا بعضا فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى، فكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض فإن هذا الأمر لا يستقيم فيكم ولا يصنعه أحد، واني لم آتكم ولكن دعوتموني، العوم علمت أنكم مغلبون، وأن ملكا لا يقوم على هذه السيرة ولا على هذه العقول. فقالت السفلة: صدق والله العربي، وقالت الدهاقين: والله لقد رمن بكلام لا تزال عبيدنا ينزعون إليه قاتل الله أولينا حين كانوا يصغرون أمر هذه الأمة!
ثم تكلم رستم فحمد قومه وعظم أمرهم وقال: لم نزل متمكنين في البلاد ظاهرين على الأعداء، أشرافا في الأمم فليس لأحد مثل عزنا وسلطاننا ننصر عليهم ولا ينصرون علينا إلا اليوم، واليومين، والشهر للذنوب، فإذا انتقم الله منا ورضي علينا رد لنا الكرة على عدونا، ولم يكن في الأمم أمة أصغر عندنا أمرا منكم كنتم أهل قشف ومعيشة سيئة لا نراكم شيئا وكنتم تقصدوننا إذا قحطت بلادكم فنأمر لكم بشيء من التمر، والشعير، ثم نردكم، وقد علمت أنه لم يحملكم على ما صنعتم إلا الجهد في بلادكم فأنا آمر لأميركم بكسوة وبغل، وألف درهم، وأمر لكل منكم بوقر تمر وتنصرفون عنا فإني لست أشتهي أن أقتلكم.
فتكلم المغيرة فحمد الله وأثنى عليه وقال: إن الله خالق كل شيء ورازقه فمن صنع شيئا فإنما هو بصنعه، وأما الذي ذكرت به نفسك وأهل بلادك فنحن نعرفه فالله صنعه بكم ووضعه فيكم وهو له دونكم، وأما الذي ذكرت فينا من سوء الحال والضيق والاختلاف فنحن نعرفه ولسنا ننكره والله
465

ابتلانا به والدنيا دول، ولم يزل أهل الشدائد يتوقعون الرخاء حتى يصيروا إليه، ولم يزل أهل الرخاء يتوقعون الشدائد حتى تنزل بهم ولو شكرتم ما آتاكم الله لكان شكركم يقصر عما أوتيتم وأسلمكم ضعف الشكر إلى تغير الحال، ولو كنا فيما ابتلينا به أهل الكفر لكان عظيم ما ابتلينا به مستجلبا من الله رحمة ورأفة علينا، إن الله تبارك وتعالى بعث فينا رسولا، ثم ذكر مثل ما تقدم من ذكر الإسلام، والجزية، والقتال. وقال له: وإن عيالنا قد ذاقوا طعام بلادكم فقالوا: لا صبر لنا عنه.
فقال رستم: إذا تموتون دونها فقال المغيرة: يدخل من قتل منا الجنة ومن قتل منكم النار، ويظفر من بقي منا بمن بقي منكم.
فاستشاط رستم غضبا ثم حلف أن لا يرتفع الصبح غدا حتى نقتلكم أجمعين. وانصرف المغيرة وخلص رستم بأهل فارس وقال: أين هؤلاء منكم! هؤلاء والته الرجال صادقين كانوا أم كاذبين، والله لئن كان بلغ من عقلهم وصوبهم لسرهم أن لا يختلفوا فما قوم أبلغ لما أرادوا منهم، ولئن كانوا صادقين فما يقوم لهؤلاء شيء. فلجوا وتجلدوا.
فأرسل رستم رسولا مع المغيرة وقال له: إذا قطع القنطرة فأعلمه أن عينه تفقا غدا فأعلمه الرسول ذلك فقال المغيرة: بشرتني بخير وأجر، ولولا أن أجاهد بعد هذا اليوم أشباهكم من المشركين لتمنيت أن الأخرى ذهبت. فرجع إلى رستم فأخبره فقال: أطيعوني يا أهل فارس إني لأرى لله فيكم نقمة لا تستطيعون ردها.
ثم أرسل إليه سعد بقية ذوي الرأي فساروا، وكانوا ثلاثة، إلى رستم
466

فقالوا له: إن أميرنا يدعوك إلى ما هو خير لنا ولك، والعافية أن تقبل ما دعاك إليه ونرجع إلى أرضنا وترجع إلى أرضك وداركم لكم، وأمركم فيكم، وما أصبتم كان زيادة لكم دوننا، وكنا عونا لكم علن أحد إن أرادكم، فاتق الله ولا يكونن هلاك قومك علن يدك، وليس بينك وبين أن تغبط بهذا الأمر إلا أن تدخل فيه وتطرد به الشيطان عنك.
فقال لهم: إن الأمثال أوضح من كثير من الكلام إنكم كنتم أهل جهد وقشف لا تنتصفون ولا تمتنعون فلم نسىء جواركم، وكنا نميركم ونحسن إليكم، فلما طعمتم طعامنا وشربتم شرابنا وصفتم لقومكم ذلك ودعوتموهم، ثم أتيتمونا. وإنما مثلكم ومثلنا كمثل رجل كان له كرم فرأي فيه ثعلبا، فقال: وما ثعلب! فانطلق الثعلب فدعا الثعالب إلى ذلك الكرم، فلما اجتمعوا إليه سد صاحب الكرم النقب الذي كن يدخلن منه فقتلهن؛ فقد علمت أن الذي حملكم على هذا: الحرص والجهد فارجعوا ونحن نميركم. فإني لا أشتهي أن أقتلكم. ومثلكم أيضا: كالذباب يرى العسل فيقول: من يوصلني إليه وله درهمان؟ فإذا دخله غرق ونشب، فيقول: من يخرجني وله أربعة دراهم؟ وقال أيضا: إن رجلا وضع سلة، وجعل طعاما فيها فأتى الجرذان فخرقوا السلة. فدخلوا فيها فأراد سدها فقيل له: لا تفعل إذن تخرقه لكن انقب بحياله ثم اجعل [فيها] قصبة مجوفة فإذا دخلها الجرذان وخرجن منها فاقتل كل ما خرج منها؛ وقد سددت عليكم [فإياكم] أن يقتحموا القصبة ولا يخرج منها أحد إلا قتل. فما دعاكم إلى ما صنعتم؟ ولا أري عددا ولا عدة!
قال: فتكلم القوم وذكروا سوء حالهم وما من الله به عليهم من إرسال رسوله واختلافهم أولا ثم اجتماعهم على الإسلام، وما أمرهم به من الجهاد،
467

وقالوا: وأما ما ضربت لنا من الأمثال فليس كذلك ولكن إنما مثلكم كمثل رجل غرس أرضا واختار لها الشجر وأجرى إليها الأنهار، وزينها بالقصور، وأقام فيها فلاحين يسكنون قصورها ويقومون على جناتها، فخلا الفلاحون في القصور على ما لا يحب فأطال إمهالهم فلم يستحيوا، فدعا إليها غيرهم وأخرجهم منها، فإن ذهبوا عنها تخطفهم الناس، وإن أقاموا فيها صاروا خولا لهؤلاء فيسومونهم الخسف أبدا؛ والله لو لم يكن ما نقول، حقا ولم يكن إلا الدنيا لما صبرنا عن الذي نحن فيه من لذيذ عيشكم ورأينا من زبرجكم ولقارعناكم عليه!
فقال رستم: أتعبرون إلينا أم نعبر إليكم، فقالوا: بل اعبروا إلينا.
ورجعوا من عنده عشيا، وأرسل سعد إلى الناس أن يقفوا مواقفهم، وأرسل إليهم شأنكم والعبور فأرادوا القنطرة فقال: لا ولا كرامة أما شيء غلبناكم عليه فلن نرده عليكم. فباتوا يسكرون العتيق حتى الصباح بالتراب والقصب والبراذع حتى جعلوه طريقا واستتم بعدما ارتفع النهار.
ورأى رستم من الليل كأن ملكا نزل من السماء فأخذ قسي أصحابه فختم عليها ثم صد بها إلى السماء، فاستيقظ
مهموما واستدعى خاصته فقصها عليهم، وقال: إن الله ليعظنا لو اتعظنا. ولما ركب رستم ليعبر كان عليه درعان، ومغفر، وأخذ سلاحه، [وأمر بفرسه فأسرج فأتى به] فوثب فإذا هو على فرسه ولم يضع رجله في الركاب، وقال: غدا ندقهم دقا:
فقال له رجل: إن شاء الله، فقال: وإن لم يشأ. ثم قال: إنما ضغا الثعلب
حين مات الأسد، يعني كسرى،، وإني أخشن أن تكون هذه سنة القرود، وإنما قال: هذه الأشياء توهينا للمسلمين عند الفرس؛ وإلا فالمشهور عنه الخوف من المسلمين وقد أظهر ذلك إلى من يثق به.
468

ذكر يوم أرماث
لما عبر الفرس العتيق جلس رستم علن سريره وضرب عليه طيارة. وعبى في القلب ثمانية عشر فيلا عليها صناديق ورجال، وفي المجنبتين ثمانية أو سبعة، وأقام الجالينوس بينه وبين ميمنته والفيرزان بينه وبين ميسرته، وكان يزدجرد قد وضع بينه وبين رستم رجالا على كل دعوة رجلا أولهم على باب إيوانه وآخرهم مع رستم، فكلما فعل رستم شيئا قال الذي معه للذي يليه: كان كذا وكذا، ثم يقول الثاني ذلك للذي يليه وهكذا إلى أن ينتهي إلى يزدجرد في أسرع وقت. وأخذ المسلمون مصافهم، وكان بسعد دماميل وعرق النسا فلا يستطيع الجلوس إنما هو مكب على وجهه في صدره وسادة على سطح القصر يشرف علن الناس والصف في أصل حائطه لو تعداه الصف فواق ناقة لأخذ برمته فما كرته هول تلك الأيام شجاعة، وذكر ذلك الناس وعابه بعضهم بذلك فقال:
نقاتل حتى انزل الله نصره * وسعد بباب القادسية معصم
فابنا وقد أمت نساء كثيرة * ونسوة سعد ليس فيهن أيم
فبلغت أبياته سعدا فقال: اللهم إن كان هذا كاذبا وقال الذي قاله، رياء وسمعة فاقطع عني لسانه! فإنه لواقف في الصف يومئذ اتاه سهم غرب فأصاب لسانه فما تكلم بكلمة حتى لحق بالله تعالى، وقال جرير بن عبد الله نحو ذلك أيضا: وكذلك غيره.
ونزل سعد إلى الناس فاعتذر إليهم وأراهم ما به من القروح في فخذيه وأليتيه، فعذره الناس وعلموا حاله، ولما عجز عن
469

الركوب استخلف خالد بن عرفطة على الناس فاختلف عليه فأخذ نفرا ممن شغب عليه فحبسهم في القصر، منهم أبو محجن الثقفي وقيدهم وقيل: بل كان حبس أبي محجن بسبب الخمر، وأعلم الناس أنه قد استخلف خالدا وإنما يأمرهم خالد فسمعوا وأطاعوا، وخطب الناس يومئذ، وهو يوم الاثنين من المحرم سنة أربع عشرة وحثهم على الجهاد وذكرهم ما وعدهم الله من فتح البلاد وما نال من كان قبلهم من المسلمين من الفرس، وكذلك فعل أمير كل قوم، وأرسل سعد نفرا من ذوي الرأي والنجدة، منهم المغيرة وحذيفة، وعاصم، وطليحة، وقيس الأسدي، وغالب، وعمرو بن معد يكرب وأمثالهم، ومن الشعراء الشماخ، والحطيئة، وأوس بن مغراء، وعبدة بن الطبيب وغيرهم، وأمرهم بتحريض الناس على القتال ففعلوا.
وكان صف المشركين على شفير العتيق، وكان صف المسلمين مع حائط قديس والخندق، فكان المسلمون والمشركون بين الخندق والعتيق ومع الفرس ثلاثون ألف مسلسل، وأمر سعد الناس بقراءة سورة الجهاد، وهي الأنفال، فلما قرئت هشت قلوب الناس وعيونهم وعرفوا السكينة مع قراءتها. فلما فرغ القراء منها قال سعد: الزموا مواقفكم حتى تصلوا الظهر فإذا صليتم فإني مكبر تكبيرة فكبروا واستعدوا فإذا سمعتم الثانية فكبروا والبسوا عدتكم، ثم إذا كبرت الثالثة فكبروا لينشط فرسانكم الناس، فإذا كبرت الرابعة فازحفوا جميعا حتى تخالطوا عدوكم وقولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله. فلما كبر سعد الثالثة برز أهل النجدات فأنشبوا القتال وخرج إليهم من الفرس أمثالهم فاعتوروا الطعن والضرب، وقال غالب بن عبد الله الأسدي:
470

قد علمت واردة المشائح * ذات اللسان والبيان الواضح
أني سمام البطل المسالح * وفارج الأمم المهم الفادح
فخرج إليه هرمز وكان من ملوك الباب، وكان متوجا فأسره غالب فجاء به سندا ورجع، وخرج عاصم وهو يقول:
قد علمت بيضاء صفراء اللبب * مثل اللجين إذ تغشاه الذهب
أني امرؤ لا من يعنيه السبب * مثلي علن مثلك يغريه العتب
فطارد فارسيا فانهزم فاتبعه عاصم حتى خالط صفهم فحموه، فأخذ عاصم رجلا على البغل وعاد به وإذ هو خباز الملك معه من طعام الملك وخبيصة فاتى به سعدا فنفله أهل موقفه، وخرج فارسي فطلب البراز فبرز إليه عمرو بن معد يكرب فأخذه وجلد به الأرض فذبحه وأخذ سواريه ومنطقته. وحملت الفيلة عليهم، ففرقت بين الكتائب فنفرت الخيل وكانت الفرس قد قصدت بجيلة بسبعة عشر فيلا فنفرت خيل بجيلة فكادت بجيلة تهلك لنفار خيلها عنها وعمن معها، وأرسل سعد إلى بني أسد أن دافعوا عن بجيلة وعمن معها من الناس، فخرج طليحة بن خويلد وحمال بن مالك في كتائبهما فباشروا الفيلة حتى عدلها ركبانها، وخرج إلى طليحة عظيم منهم فقتله طليحة، وقام الأشعث بن قيس في كندة فقال: يا معشر كندة لله در بني أسد أي فري يفرون وأي هذ يهذون عن
471

موقفهم أغنى كل قوم ما يليهم وأنتم تنتظرون من يكفيكم، أشهد ما أحسنتم أسوة قومكم من العرب. فنهد ونهدوا معه، فأزالوا الذين بإزائهم. فلما رأى الفرس مما يلقى الناس والفيلة من أسد رموهم بحدهم وحملوا عليهم وفيهم ذو الحاجب؛ والجالينوس، والمسلمون ينتظرون التكبيرة الرابعة من سعد، فاجتمعت حلبة فارس على أسد ومعهم تلك الفيلة فثبتوا لهم وكبر سعد الرابعة وزحف إليهم المسلمون، ورحا الحرب تدور علن أسد، وحملت الفيول على الميمنة والميسرة فكانت الخيول تحيد عنها.
فأرسل سعد إلى عاصم بن عمرو التميمي، فقال: يا معشر بني تميم أما عندكم لهذه الفيلة من حيلة؟ قالوا: بلى والله! ثم نادي في رجال من قومه رماة وآخرين لهم ثقافة فقال: يا معشر الرماة ذبوا ركبان الفيلة عنهم بالنبل وقال: يا معشر أهل الثقافة استدبروا الفيلة فقطعوا وضنها وخرج يحميهم ورحا الحرب تدور على أسد، وقد جالت الميمنة والميسرة غير بعيد، وأقبل أصحاب عاصم على الفيلة فأخذوا بأذناب توابيتها فقطعوا وضنها وأرتفع عواؤهم فما بقي لهم فيل إلا أوى وقتل أصحابها، ونفس عن أسد، وردوا فارسا عنهم إلى مواقفهم واقتتلوا حتى غربت الشمس، ثم حتى ذهبت هدأة من الليل، ثم رجع في هؤلاء وهؤلاء، وأصيب من أسد تلك العشية خمسمائة وكانوا ردءا للناس، وكان عاصم حامية للناس، وهذا اليوم الأول وهو يوم أرماث فقال عمرو بن شاس الأسدي:
جلينا الخيل من أكناف نيق * إلى كسري فوافقها رعالا
تركن لهم على الأقسام شجوا * وبالحقوين أياما طوالا
472

قتلنا رستما وبنيه قسرا * تثير الخيل فوقهم الهيالا
الأبيات، وكان سعد قد تزوج سلمى امرأة المثنى بن حارتة الشيباني بعده بشراف، فلما جال الناس يوم أرماث وكان سعد لا يطيق الجلوس جعل سعد يتململ جزعا فوق القصر، فلما رأت سلمى ما يصنع الفرس قالت: وامثيناه ولا مثنى للخيل
اليوم، قالت ذلك عند رجل صخر مما يرى في أصحابه ونفسه فلطم وجهها، وقال: أين المثنى عن هذه الكتيبة التي تدور عليها الرحا يعني أسدا وعاصما. فقالت: أغيرة وجبنا فقال: والله لا يعذرني اليوم أحد إن لم تعذريني وأنت ترين
ما بي! فتعلقها الناس لم يبق شاعر إلا اعتد بها عليه، وكان غير جبان ولا ملوم.
ذكر يوم أغواث
ولما أصبح القوم وكل سعد بالقتلى والجرحى من ينقلهم فسلم الجرحى إلى النساء ليقمن عليهم، وأما القتلى فدفنوا هنالك على مشرق وهو واد بين العذيب وعين الشمس. فلما نقل سعد القتلى والجرحى طلعت نواصي الخيل من الشام، وكان فتح دمشق قبل القادسية، فلما قدم كتاب عمر على أبي عبيدة بن الجراح بإرسال أهل العراق سيرهم وعليهم هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، وعلى مقدمته القعقاع بن عمرو التميمي، فتعجل القعقاع
فقدم على الناس صبيحة هذا اليوم وهو يوم أغواث: وقد عهد إلى أصحابه أن يتقطعوا أعشارا وهم ألف كلما بلغ عشرة مدى البصر سرحوا عشرة فقدم أصحابه في عشرة فأتى الناس فسلم عليهم وبشرهم بالجنود، وحرضهم على القتال، وقال: اصنعوا كما أصنع، وطلب البراز فقالوا فيه: يقول أبو بكر:
473

لا يهزم جيش فيهم مثل هذا. فخرج إليه ذو الحاجب. فعرفه القعقاع فنادي: يا لثارات أبي عبيد وسليط وأصحاب الجسر! وتضاربا فقتله القعقاع وجعلت خيله ترد إلى الليل وتنشط الناس وكأن لم يكن بالأمس مصيبة، وفرحوا بقتل ذي الحاجب، وانكسرت الأعاجم بذلك.
وطلب القعقاع البراز فخرج إليه الفيرزان والبنذوان فانضم إلى القعقاع الحارث بن ظبيان بن الحارث أحد بني تيم اللات فتبارزوا فقتل القعقاع الفيرزان وقتل الحارث البنذوان، ونادى القعقاع: يا معشر المسلمين باشروهم بالسيوف فإنما يحصد الناس فاقتتلوا حتى المساء فلم ير أهل فارس في هذا اليوم [شيئا] ما يعجبهم، وأكثر المسلمون فيهم القتل ولم يقاتلوا في هذا اليوم على فيل، كانت توابيتها تكسرت بالأمس فاستأنفوا عملها فلم يفرغوا منها حتى كان الغد.
وجعل القعقاع كلما طلعت قطعة من أصحابه كبر وكبر المسلمون، ويحمل ويحملون، وحمل بنو عم للقعقاع عشرة عشرة على إبل قد ألبسوها وهي مجللة مبرقعة وأطافت بهم خيولهم تحميهم وأمرهم القعقاع أن يحملوها على خيل الفرس يتشبهون بالفيلة ففعلوا بهم هذا اليوم وهو يوم أغواث كما فعلت فارس يوم أرماث، فجعلت خيل الفرس تفر منها وركبتها خيول المسلمين، فلما رأى الناس ذلك سروا بهم، فلقي الفرس من الإبل أعظم ما لقي المسلمون من الفيلة.
وحمل رجل من تميم على رستم يريد قتله فقتل دونه. وخرج رجل من فارس يبارز، فبرز إليه الأعراف بن الأعلم العقيلي فقتله، ثم برز إليه آخر فقتله، وأحاطت به فوارس منهم فصرعوه وأخذوا سلاحه فغبر في وجوههم
474

التراب حتى رجع إلى أصحابه. وحمل القعقاع بن عمرو يومئذ ثلاثين حملة كلما طلعت قطعة حمل حملة وأصاب فيها وقتل فكان آخرهم بزرجمهر الهمذاني. وبارز الأعور بن قطبة شهريار سجستان فقتل كل واحد منهما صاحبه، وقاتلت الفرسان إلى انتصاف النهار، فلما اعتدل النهار وتزاحف الناس فاقتتلوا حتى انتصف الليل، فكانت ليلة أرماث تدعى الهدأة، وليلة أغواث تدعى السواد. ولم يزل المسلمون يرون [في] يوم أغواث الظفر، وقتلوا فيه عامة أعلامهم، وجالت فيه خيل القلب، وثبت رجلهم، فلولا أن خيلهم عادت أخذ رستم أخذا، وبات الناس على ما بات عليه القوم ليلة أرماث، ولم يزل المسلمون ينتمون، فلما سمع سعد ذلك قال لبعض من عنده: إن تم الناس على الانتماء فلا توقظني فإنهم أقوياء وإن سكتوا ولم ينتم الآخرون فلا توقظني فإنهم على السواء، فإن سمعتهم ينتمون فأيقظني فإن انتماءهم من السوء.
ولما اشتد القتال، وكان أبو محجن قد حبس وقيد فهو في القصر، قال لسلمى زوج سعد؛ هل لك أن تخلين عني وتعيريني البلقاء فالله علي إن سلمني الله أن أرجع إليك حتى أضع رجلي في قيدي، فأبت، فقال:
كفى حزنا أن ترتدي الخيل بالقنا * وأترك مشدودا علي وثاقيا
إذا قمت عناني الحديد وأغلقت * مصارع دوني قد تصم المناديا
وقد كنت ذا مال كثير واخوة * فقد تركوني واحدا لا أخا ليا
ولله عهد لا أخيس بعهده * لئن فرجت أن لا أزور الحوانيا
فرقت له سلمى وأطلقته وأعطته البلقاء فرس سعد فركبها حتى [إذا] كان
475

بحيال الميمنة كبر، ثم حمل على ميسرة الفرس، ثم رجع خلف المسلمين وحمل على ميمنتهم، وكان يقصف الناس قصفا منكرا وتعجب الناس منه وهم لا يعرفونه، فقال بعضهم: هو من أصحاب هاشم أو هاشم بنفسه، وكان سعد يقول: لولا محبس أبي محجن لقلت: هذا أبو محجن وهذه البلقاء. وقال بعض الناس: هذا الخضر، وقال بعضهم: لولا أن الملائكة لا تباشر الحرب لقلنا إنه ملك. فلما انتصف الليل وتراجع المسلمون والفرس عن القتال أقبل أبو محجن فدخل القصر وأعاد رجليه في القيد وقال:
لقد علمت ثقيف غير فخر * بأنا نحن أكرمهم سيوفا
وأكثرهم دروعا سابغات * وأصبرهم إذا كرهوا الوقوفا
وأنا وفدهم في كل يوم * فإن عموا فسل بهم عريفا
وليلة قادس لم يشعروا بي * ولم أشعر بمخرجي الزحوفا
فإن أحبس فذلكم بلائي * وإن أترك أذيقهم الحتوفا
فقالت له سلمى: في أي شيء حبسك [هذا الرجل]؟. فقال: والله ما حبسني بحرام أكلته ولا شربته ولكنني كنت صاحب شراب في الجاهلية وأنا امرؤ شاعر يدب الشعر على لساني فقلت:
إذا مت فادفني إلى أصل كرمة * تروى عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفنني بالفلاة فإنني * أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها
فلذلك حبسني. فلما أصبحت ألت سعدا فصالحته وكانت مغاضبة له، وأخبرته بخبر أبي محجن فأطلقه فقال: أذهب فما أنا مؤاخذك بشيء تقوله حتى تفعله. قال: لا جرم [والله] لا أجيب لساني إلى [صفة] قبيح أبدا!
476

ذكر يوم عماس
ثم أصبحوا اليوم الثالث وهم على مواقفهم، وبين الصفين من قتلى المسلمين ألفان من جريح وميت، ومن المشركين عشرة آلاف، فجعل المسلمون ينقلون قتلاهم إلى المقابر والجرحى إلى النساء، وكان النساء والصبيان يحفرون القبور، وكان على الشهداء حاجب بن زيد. وأما قتلى المشركين فبين الصفين لم ينقلوا، وكان ذلك مما قوي المسلمين، وبات القعقاع تلك الليلة يسرب أصحابه إلى المكان الذي فارقهم فيه وقال: إذا طلعت الشمس فأقبلوا مائة مائة فإن جاء هاشم فذاك وإلا جددتم للناس رجاء وجدا. ولا يشعر به أحد، وأصبح الناس على مواقفهم، فلما ذر قرن الشمس أقبل أصحاب القعقاع فحين رآهم كبر وكبر المسلمون وتقدموا وتكتبت الكتائب، واختلفوا الضرب والطعن والمدد متتابع، فما جاء آخر أصحاب القعقاع حتى انتهى إليهم هاشم فأخبر بما صنع القعقاع فعبى أصحابه سبعين سبعين، وكان فيهم قيس بن هبيرة بن عبد يغوث المعروف بقيس بن المكشوح المرادي ولم يكن من أهل الأيام إنما كان باليرموك فانتدب مع هاشم حتى إذا خالط القلب كبر وكبر المسلمون؛ وقال: هاشم أول قتال المطاردة، ثم المراماة، ثم حمل على المشركين يقاتلهم حتى خرق صفهم إلى العتيق ثم عاد.
وكان المشركون قد باتوا يعملون توابيتهم حتى أعادوها وأصبحوا على مواقفهم وأقبلت الرجالة مع الفيل يحمونها أن تقطع وضنها ومع الرجالة فرسان يحمونهم، فلم تنفر الخيل منهم كما كانت بالأمس لأن الفيل إذا كان وحده كان أوحش وإذا أطافوا به كان آنس، وكان يوم عماس من أوله إلى
477

آخره شديدا، العرب والعجم فيه سواء، ولا تكون بينهم نقطة إلا أبلغوها يزدجرد بالأصوات فيبعث إليهم أهل النجدات ممن عنده، فلولا أن الله ألهم القعقاع ما فعل في اليومين وإلا كسر ذلك المسلمين.
وقاتل قيس بن المكشوح وكان قد قدم مع هاشم قتالا شديدا وحرض أصحابه، وقال عمرو بن معد يكرب: إني حامل على الفيل ومن حوله لفيل بإزائهم فلا تدعوني أكثر من جزر جزور فإن تأخرتم عني فقدتم أبا ثور يعني نفسه وأين لكم مثل أبي ثور. فحمل وضرب فيهم حتى ستره الغبار وحمل أصحابه فأفرج المشركون عنه بعد ما. صرعوه وإن سيفه لفي يده يصارمهم وقد طعن فرسه فأخذ برجل فرس أعجمي فلم يطق الجري فنزل عنه صاحبه إلى أصحابه وركبه عمرو، وبرز فارسي فبرز إليه رجل من المسلمين يقال له: شبر بن علقمة وكان قصيرا فترجل الفارسي إليه فاحتمله وجلس على صدره ثم أخذ سيفه ليذبحه، ومقود فرسه مشدود في منطقته، فلما سل سيفه نفر الفرس فجذبه المقود فقلبه عنه وتبعه المسلم فقتله وأخذ سلبه فباعه باثني عشر ألفا.
فلما رأى سعد الفيول قد فرقت بين الكتائب وعادت لفعلها أرسل إلى القعقاع وعاصم ابني عمرو اكفياني الأبيض وكانت كلها آلفة له وكان بإزائهما، وقال لحمال، والزبيل: اكفياني الأجرب وكان بإزائهما فأخذ القعقاع وعاصم رمحين وتقدما في خيل ورجل، وفعل حمال والربيل بمثل فعلهما، فحمل القعقاع وعاصم فوضعا رمحيهما في
عيني الفيل الأبيض فنفض
478

رأسه فطرح سائسه ودلى مشفره فضربه القعقاع فرمى به ووقع لجنبه وقتلوا من كان عليه، وحمل حمال، والزبيل الأسديان على الفيل الأخر فطعنه حمال في عينه فأقعى ثم استوى، وضربه الزبيل فأبان مشفره وبصر به سائسه فبقر أنفه وجبينه بالطبرزين فأفلت الزبيل جريحا فبقي الفيل جريحا متحيرا بين الصفين كلما جاء صف المسلمين وخزوه وإذا أتى صف المشركين نخسوه، وولى الفيل وكان يدعى الأجرب، وقد عور حمال عينيه فألقى نفسه في العتيق فاتبعته الفيلة فخرقت صف الأعاجم فعبرت في أثره فأتت المدائن في توابيتها وهلك من فيها. فلما ذهبت الفيلة وخلص المسلمون والفرس ومال الظل تزاحف المسلمون فاجتلدوا حق أمسوا وهم على السواء، فلما أمسى الناس اشتد القتال وصبر الفريقان فخرجا على السواء.
ذكر ليلة الهرير وقتل رستم
قيل: إنما سميت بذلك لتركهم الكلام إنما كانوا يهرون هريرا. وأرسل سعد طليحة وعمرا ليلة الهرير إلى مخاضة أسفل العسكر ليقوما عليها خشية أن يأتيه القوم منها. فلما أتياها قال طليحة: لو خضنا وأتينا الأعاجم من خلفهم. قال عمرو: بل نعبر أسفل فافترقا، وأخذ طليحة وراء العسكر وكبر ثلاث تكبيرات، ثم ذهب وقد ارتاع أهل فارس وتعجب المسلمون وطلبه الأعاجم فلم يدركوه.
479

وأما عمرو فإنه أغار أسفل المخاضة ورجع، وخرج مسعود بن مالك الأسدي؛ وعاصم بن عمرو، وابن ذي البردين الهلالي،
وابن ذي السهمين، وقيس بن هبيرة الأسدي وأشباههم فطاردوا القوم فإذا هم لا يشدون ولا يريدون غير الزحف فقدموا صفوفهم وزاحفهم الناس بغير إذن سعد، وكان أول من زاحفهم القعقاع، وقال سعد: اللهم اغفرها له وأنصره فقد أذنت له إذ لم يستأذني. ثم قال: أري الأمر ما فيه هذا فإذا كبرت ثلاثا فاحملوا. وكبر واحدة فلحقهم أسد فقال: اللهم اغفرها لهم وانصرهم، ثم حملت النخع فقال: اللهم أغفرها لهم وانصرهم، ثم حملت بجيلة فعقال: اللهم اغفرها لهم وانصرهم، ثم حملت كندة فقال: اللهم أغفرها لهم وانصرهم، ثم زحف الرؤساء ورحا الحرب تدور على القعقاع، وتقدم حنظلة بن الربيع وأمراء الأعشار وطليحة، وغالب، وحمال وأهل النجدات، ولما كبر الثالثة لحق الناس بعضهم بعضا وخالطوا القوم واستقبلوا الليل استقبالا
بعدما صلوا العشاء، وكان صليل الحديد فيها كصوت القيون ليلتهم إلى الصباح وأفرغ الله الصبر عليهم إفراغا، وبات سعد بليلة لم يبت بمثلها، ورأي العرب والعجم أمرا لم يروا مثله قط، وانقطعت الأخبار والأصوات عن سعد ورستم، وأقبل سعد على الدعاء، فلما كان عند الصبح انتمى الناس فاستدل بذلك على أنهم الأعلون، وكان أول شيء سمعه نصف الليل الباقي صوت القعقاع بن عمرو وهو يقول:
نحن قتلنا معشرا وزائدا * أربعة وخمسة وواحدا
نحسب فوق اللبد الأساودا * حتى إذا ماتوا دعوت جاهدا
الله ربي واحترزت عامدا
وقتلت كندة تركا الطبري، وكان مقدما فيهم.
* * *
480

وأصبح الناس ليلة الهرير _ وتسمى ليلة القادسية من بين تلك الليالي _ وهم حسرى لم يغمضوا ليلتهم كلها فسار القعقاع في الناس فقال: ان الدائرة بعد ساعة لمن بدأ القوم. فاصبروا ساعة واحملوا فإن النصر مع الصبر. فاجتمع إليه جماعة من الرؤساء وصمدوا لرستم حتى خالطوا الذين دونه مع الصبح، فلما رأت ذلك القبائل قام فيها رؤساؤهم وقالوا: لا يكونن هؤلاء أجد في أمر الله منكم، ولا هؤلاء يعنى الفرس أجرأ على الموت منكم فحملوا فيما يليهم وخالطوا من بإزائهم فاقتتلوا حتى قام قائم الظهيرة، فكان أول من زال الفيرزان، والهرمزان فتأخروا وثبتا حيث انتهيا، وانفرج القلب وركد عليهم النقع، وهبت ريح عاصف فقلعت طيارة رستم عن سريره فهوت في العتيق وهي دبور؛ ومال الغبار عليهم، وانتهى القعقاع ومن معه إلى السرير فعثروا به وقد قام رستم عنه حين أطارت الريح الطيارة إلى بغال قد قدمت عليه بمال فهي واقفة فاستظل في ظل بغل وحمله، وضرب هلال بن علفة الحمل الذي تحته رستم فقطع حباله ووقع عليه أحد العدلين ولا يراه هلال ولا يشعر به فأزال عن ظهره فقارا، وضربه هلال ضربة فنفحت مسكا، ومضى [رستم] نحو العتيق فرمى بنفسه فيه واقتحمه هلال عليه وأخذ برجليه، ثم خرج به فضرب جبينه بالسيف حتى قتله ثم ألقاه بين أرجا، البغال، ثم صد السرير، وقال: قتلت رستم ورب الكعبة، إلي إلي فأطافوا به [ولا يحسون السرير ولا يرونه] وكبروا فنفله سعد سلبه، وكان قد أصابه الماء ولم يظفر بقلنسوته ولو ظفر بها لكانت قيمتها مائة ألف.
وقيل: إن هلالا لما قصد رستم رماه رستم بنشابة أثبت قدمه بالركاب فحمل عليه هلال فضربه فقتله، ثم احتز رأسه وعلقه ونادى: قتلت رستم!
481

فانهزم قلب المشركين.
وقام الجالينوس على الردم ونادي الفرس إلى العبور، وأما المقترنون فإنهم جشعوا فتهافتوا في العتيق فوخزهم المسلمون برماحهم فما أفلت منهم مخبر، وهم ثلاثون ألفا. وأخذ ضرار بن الخطاب درفش كابيان وهو العلم الأكبر الذي كان للفرس فعوض منه ثلاثين ألفا، وكانت قيمته ألف ألف ومائتي ألف، وقتلوا في المعركة عشرة آلاف سوى من قتلوا في الأيام قبله.
وقتل من المسلمين قبل ليلة الهرير ألفان وخمسمائة، وقتل ليلة الهرير ويوم القادسية ستة آلاف فدفنوا في الخندق حيال مشرق، ودفن من كان قبل ليلة الهرير على مشرق، وجمعت الأسلاب، والأموال، فجمع منها شيء لم يجمع قبله ولا بعده مثله.
وأرسل سعد إلى هلال فسأله عن رستم فأحضره فقال؛ جرده إلا ما شئت فأخذ سلبه فلم يدع عليه شيئا. وأمر القعقاع وشر حبيل باتباعهم حتى بلغا مقدار الخرارة م القادسية، وخرج زهرة بن الحوية التميمي في آثارهم في ثلاثمائة فارس، ثم أدركه الناس فلحق المنهزمين والجالينوس
يجمعهم، فقتله زهرة وأخذ سلبه، وقتلوا ما بين الخرارة إلى السيلحين إلى
النجف، وعادوا من أثر المنهزمين ومعهم الأسرى، فرؤي شاب من النخع
وهو يسوق ثمانين رجلا أسرى من الفرس.
واستكبر سعد سلب الجالينوس فكتب فيه إلى عمر. فكتب عمر إلى سعد:
تعمد إلى مثل زهرة وقد صلى بمثل ما صلى به وقد بقي عليك من حريك ما بقي
482

تفسد قلبه، امض له سلبه وفضله على أصحابه عند عطائه بخمسمائة.
ولما اتبع المسلمون الفرس كان الرجل يشير إلى الفارسي فيأتيه فيقتله، وربما
أخذ سلاحه فقتله به، وربما أمر رجلين فيقتل أحدهما صاحبه.
ولحق سلمان بن ربيعة الباهلي وعبد الرحمن بن ربيعة بطائفة منهم قد
نصبوا راية وقالوا: لا نبرح حتى نموت، فقتلهم سلمان ومن معه. وكان
قد ثبت بعد الهزيمة بضع وثلاثون كتيبة استحيوا من الفرار. وقصدهم بضعة
وثلاثون من رؤساء المسلمين لكل كتيبة منها رئيس. وكان قتال أهل الكتائب
من الفرس على وجهين، منهم من هرب ومنهم من ثبت حتى قتل، وكان
ممن هرب من أمراء الكتائب الهرمزان، وكان بإزاء عطارد، ومنهم أهوذ،
وكان بإزاء حنظلة بن الربيع، وهو كاتب النبي، صلى الله عليه وسلم،
ومنهم زاد بن بهيش، وكان بإزاء عاصم بن عمرو، ومنهم قارن، وكان
بإزاء القعقاع، وكان ممن ثبت وقتل شهريار بن كنارا، وكان بإزاء سلمان
ابن ربيعة، وابن الهربذ، وكان بإزاء عبد الرحمن بن ربيعة، والفرخان
الأهوازي، وكان بإزاء بسر بن أبى رهم الجهني، ومنهم خشد سوم
الهمذاني، وكان بإزاء ابن الهذيل الكاهلي.
وتراجع الناس من طلب المنهزمين وقد قتل مؤذنهم، فتشاج المسلمون
في الأذان حتى كادوا يقتتلون، وأقرع سعد بينهم فخرج سهم رجل، فأذن.
وفضل أهل البلاء من أهل القادسية عند العطاء بخمسمائة خمسمائة وهم خمسة وعشرون رجلا، منهم زهرة، وعصمة الضبي، والكلج، وأما أهل
483

الأيام قبلها فإنهم فرض لهم على ثلاثة آلاف فضلوا على أهل القادسية، فقيل لعمر: لو ألحقت بهم أهل القادسية فقال: لم أكن لألحق بهم من لم يدركهم. وقيل له: لو فضلت من بعدت داره على من قاتلهم بفنائه. قال: كيف أفضل عليهم، وهم شجن العدو؟، وهل فعل المهاجرون بالأنصار هذا!
وكانت العرب تتوقع وقعة العرب وأهل فارس بالقادسية فيما بين العذيب إلى عدن أبين وفيما بين الأبلة وأيلة، يرون أن ثبات ملكهم وزواله بها،، وكانت في كل بلد مصيخة إليها تنظر ما يكون من أمرها. فلما كانت وقعة القادسية سارت بها الجن فأت بها أناسا من الأنس فسبقت أخبار الإنس [إليهم].
وكتب سعد إلى عمر بالفتح، وبعدة من قتلوا، وبعدة من أصيب من المسلمين وسمى من يعرف مع سعد بن عميلة الفزاري.
وكان عمر يسأل الركبان من حين يصبح إلى انتصاف النهار عن أهل القادسية، ثم يرجع إلى أهله ومنزله. قال: فلما لقي البشير سأله: من أين؟ فأخبره قال: يا عبد الله حدثني. قال: هزم الله المشركين، وعمر يخب معه يسأله والأخر يسير على ناقته لا يعرفه حتى دخل المدينة، وإذا الناس يسلمون عليه بإمرة المؤمنين. قال البشير:. هلا أخبرتني رحمك الله إنك أمير المؤمنين! فقال عمر: لا بأس عليك يا أخي.
وأقام المسلمون بالقادسية في انتظار قدوم البشير وأمر عمر الناس أن يقوموا على أقباضهم ويصلح أحوالهم ويتابع إليهم أهل الشام ممن شهد
484

اليرموك، ودمشق ممدين لهم وجاء أولهم يوم أغواث وآخرهم بعد الغد يوم الفتح فكتبوا فيهم إلى عمر يسألونه عما ينبغي أن يشار فيه مع نذير بن عمرو.
وقيل: كانت وقعة القادسية سنة ست عشرة قال: وكان بعض أهل الكوفة يقول: إنها كانت سنة خمس عشرة، وقد تقدم أنها كانت سنة أربع عشرة.
(حميضة بن النعمان بضم الحاء المهملة وفتح الميم وبالضاد المعجمة. وبسر بن أبي رهم بضم الباء الموحدة وسكون السين المهملة. والحوية بفتح الحاء المهملة وكسر الواو، وقيل: بالجيم المضمومة وفتح الواو والأول أصح. وحمال بفتح الحاء المهملة وتشديد الميم. والمعنى بضم الميم وفتح العين المهملة والنون المشددة. وحصين بن نمير بضم الحاء وفتح الصاد.
ومعاوية بن حديج بضم الحاء وفتح الدال المهملتين وآخره جيم. والمعتم بضم الميم وسكون العين المهملة وفتح التاء فوقها نقطتان وآخره ميم مشددة. وصرار بكسر الصاد المهملة بالرائين المهملتين بينهما ألف موضع عند المدينة. وصنين بكسر الصاد المهملة والنون المشددة بعدها ياء ساكنة معجمة باثنتين من تحتها وآخره نون موضع من ناحية الكوفة).
انتهى خبر القادسية.
* * *
ذكر ولاية عتبة بن غزوان البصرة
قيل: في هذه السنة بعث عمر عتبة بن غزوان إلى البصرة، وكان بها قطبة بن قتادة السدوسي يغير بتلك الناحية كما كان يغير المثنى بناحية الحيرة،
485

فكتب إلى عمر يعلمه مكانه؛ وأنه لو كان معه عدد يسير ظفر بمن كان قبله من العجم فنفاهم عن بلادهم. فكتب إليه عمر يأمره بالمقام، والحذر، ووجه إليه شريح بن عامر أحد بني سعد بن بكر فأقبل إلى البصرة وترك بها قطبة ومضى إلى الأهواز حتى انتهى إلى دارس. وفيها مسلحة الأعاجم فقتلوه، فبعث عمر عتبة بن عزوان، قال له حين وجهه:
يا عتبة إني قد استعملتك على أرض الهند، وهي حومة من حومة العدو وأرجو أن يكفيك الله ما حولها ويعينك عليها وقد كتبت إلى العلاء بن الحضرمي أن يمدك بعرفجة بن هرثمة وهو ذو مجاهدة ومكايدة للعدو، فإذا قدم عليك فاستشره وادع إلى الله فمن أجابك فاقبل منه، ومن أبى فالجزية وإلا فالسيف، واتق الله فيما وليت وإياك أن تنازعك نفسك إلى كبر مما يفسد عليك أخوتك، وقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعززت به بعد الذلة، وقويت به بعد الضعف، حتى صرت أميرا مسلطا وملكا مطاعا، تقول فيسمع منك، وتأمر فيطاع أمرك فيا لها نعمة إن لم ترفعك فوق قدرك وتبطرك على من دونك؛ واحتفظ من النعمة احتفاظك من المعصية، ولهي أخوفهما عندي عليك أن تستدرجك وتخدعك فتسقط سقطة تصير بها إلى جهنم أعيذك بالله ونفسي من ذلك. إن الناس اسرعوا إلى الله حتى رفعت لهم الدنيا فأرادوها فأرد الله ولا ترد الدنيا، واتق مصارع الظالمين.
انطلق أنت ومن معك حتى إذا كنتم في أقص أرض العرب وأدنى أرض العجم فأقيموا.
فسار عتبة ومن معه حتى إذا كانوا بالمربد تقدموا حتى بلغوا حيال
486

الجسر الصغير فنزلوا، فبلغ صاحب الفرات خبرهم فأقبل في أربعة آلاف فالتقوا فقاتلهم عتبة بعد الزوال وكان في خمسمائة فقتلهم أجمعين ولم يبق إلا صاحب الفرات فأخذه أسيرا، ثم خطب عتبة أصحابه وقال: إن الدنيا قد تصرمت وولت جدا ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الاناء؛ ألا وإنكم منتقلون منها إلى دار القرار فانتقلوا بخير ما يحضر بكم، وقد ذكر لي لو أن صخرة ألقيت من شفير جهنم لهوت سبعين خريفا ولتملأنه، أو عجبتم؟ ولقد ذكر لي أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين خريفا وليأتين عليه يوم وهو كظيظ، ولقد رأيتني وأنا سابع سبعة مع النبي صلى الله عليه وسلم ما لنا طعام إلا ورق السمر حتى تقرحت أشداقنا، والتقطت بردة فشققتها بيني وبين سعد فما منا أولئك السبعة من أحد إلا وهو أمير مصر من الأمصار، وسيجربون الناس بعدنا.
وكان نزوله البصرة في ربيع الأول أو الآخر سنة أربع عشرة، وقيل: إن البصرة مصرت سنة ست عشرة بعد جلولاء، وتكريت أرسله سعد إليها بأمر عمر، وأن عتبة لما نزل البصرة أقام نحو شهر فخرج إليه أهل الأبلة وكان بها خمسمائة أسوار يحمونها وكانت مرفأ السفن من الصين فقاتلهم عتبة فهزمهم حتى دخلوا المدينة، ورجع عتبة إلى عسكره وألقى الله الرعب في قلوب الفرس فخرجوا عن المدينة وحملوا ما خف وعبروا الماء وأخلوا المدينة ودخلها المسلمون فأصابوا متاعا وسلاحا وسبيا فاقتسموه وأخرج الخمس
487

منه، وكان المسلمون ثلاثمائة، وكان فتحها في رجب أو في شعبان. ثم نزل موضع مدينة الرزق، وخط موضع المسجد وبناه بالقصب.
وكان أول مولود بها عبد الرحمن بن أبي بكرة. فلما ولد ذبح أبوه جزورا فكفتهم لقلة الناس. وجمع لهم أهل دستميسان. فلقيهم عتبة فهزمهم وأخذ مرزبانها أسيرا؛ وأخذ قتادة منطقته فبعث بها مع أنس بن حجنة إلى عمر فقال له عمر: كيف الناس؟
فقال: انثالت عليهم الدنيا. فهم يهيلون الذهب والفضة. فرغب الناس في البصرة فأتوها، واستعمل عتبة مجاشع بن مسعود على جماعة وسيرهم إلى الفرات، واستخلف المغيرة بن شعبة على الصلاة إلى أن يقدم مجاشع بن مسعود فإذا قدم فهو الأمير، وسار عتبة إلى عمر فظفر مجاشع بأهل الفرات وجمع الفليكان عظيم من الفرس للمسلمين فخرج إليه المغيرة بن شعبة فلقيهم بالمرغاب فاقتتلوا فقال نساء المسلمين: لو لحقنا بهم فكنا معهم فاتخذن من خمرهن رايات، وسرن إلى المسلمين فلما رأى المشركون الرايات ظنوا أن مددا للمسلمين قد أقبل فانهزموا، وظفر بهم المسلمون، وكتب إلى عمر بالفتح. فقال عمر لعتبة: من استعملت على البصرة؟ فقال: مجاشع بن مسعود؟ قال: أتستعمل رجلا من أهل الوبر على أهل المدر؟ وأخبره بما كان من المغيرة، وأمره أن يرجع إلى عمله فمات في الطريق، وقيل في موته: غير ذلك، وسيرد ذكره سنة سبع عشرة.
وكان من سبي ميسان يسار أبو الحسن البصري، وأرطبان جد عبد الله بن عون بن أرطبان.
وقيل: إن إمارة عتبة البصرة كانت سنة خمس عشرة، وقيل: ست
488

عشرة والأول أصح؛ فكانت إمارته عليها ستة أشهر.
واستعمل عمر على البصرة المغيرة بن شعبة فبقي سنتين ثم رمي بما رمى، واستعمل أبا موسى، وقيل: استعمل بعد عتبة أبا موسى وبعده المغيرة.
وفيها أعني سنة أربع عشرة ضرب عمر ابنه عبيد الله وأصحابه في شراب شربوه وأبا محجن. وفيها أمر عمر بالقيام في شهر رمضان في المساجد بالمدينة وجمعهم على أبى بن كعب. وكتب إلى الأمصار بذلك. وحج بالناس في هذه السنة عمر بن الخطاب. وكان على مكة عتاب بن أسيد في قول، وعلى اليمن يعلى بن منية، وعلى الكوفة سعد، وعلى الشام أبو عبيدة بن الجراح، وعلى البحرين عثمان بن أبي العاص، وقيل: العلاء بن الحضرمي، وعلى عمان حذيفة بن محصن.
وفي هذه السنة مات أبو قحافة والد أبي بكر الصديق بعد موت ابنه. وفيها مات سعد بن عبادة الأنصاري، وقيل: سنة إحدى عشرة، وقيل: سنة خمس عشرة. وفيها قتل سليط بن عمرو بن عامر بن لؤي. وفيها ماتت هند بنت عتبة بن ربيعة أم معاوية، وكان إسلامها يوم الفتح.
489

15
ثم دخلت سنة خمس عشرة
وقيل: إن الكوفة مصرها سعد بن أبي وقاص في هذه السنة دلهم على موضعها
ابن بقيلة قال لسعد: أدلك على أرض لله ارتفعت عن البقعة وانحدرت عن الفلاة فدله على موضعها، وقيل: غير ذلك ويأتي ذكره.
ذكر الوقعة بمرج الروم
في هذه السنة كانت الوقعة بمرج الروم، وكان سبب ذلك أن أبا عبيدة، وخالد بن الوليد سارا بمن معهما من فحل قاصدين حمص فنزلا على ذي الكلاع، وبلغ الخبر هرقل فبعث توذر البطريق حتى نزل بمرج الروم غرب دمشق، ونزل أبو عبيدة بمرج الروم أيضا [وقد هجم الشتاء عليهم والجراح فيهم فاشية] ونازله يوم نزوله شنش الرومي في مثل خيل توذر أمدادا لتوذر وردءا لأهل حمص، فلما نزل أصبحت الأرض من توذر بلاقع، وكان خالد بإزائه، وأبو عبيدة بإزاء شنش، وسار توذر يطلب دمشق، فسار خالد وراءه في جريدة، وبلغ يزيد بن أبي سفيان فعل توذر فاستقبله فاقتتلوا، ولحق بهم خالد وهم يقتتلون فأخذهم من خلفهم ولم يفلت منهم إلا الشريد، وغنم المسلمون ما معهم فقسمه يزيد في أصحابه، وأصحاب خالد، وعاد يزيد إلى دمشق ورجع خالد إلى أبي عبيدة وقد قتل توذر. وقاتل
490

أبو عبيدة بعد مسير خالد شنش. فاقتتلوا بمرج الروم فقتلت الروم مقتلة عظيمة وقتل شنش، وتبعهم المسلمون إلى حمص، فلما بلغ هرقل ذلك أمر بطريق حمص بالمسير إليها، وسار هو إلى الرها، وسار أبو عبيدة إلى حمص.
ذكر فتح حمص، وبعلبك وغيرهما
فلما فرغ أبو عبيدة من دمشق سار إلى حمص فسلك طريق بعلبك فحاصرها فطلب أهلها الأمان فأمنهم وصالحهم وسار عنهم فنزل على حمص ومعه خالد؛ وقيل: إنما سار المسلمون إلى حمص من مرج الروم وقد تقدم ذكره، فلما نزلوها قاتلوا أهلها فكانوا يغادونهم القتال ويراوحونهم في كل يوم بارد، ولقي المسلمون بردا شديدا والروم حصارا طويلا فصبر المسلمون، والروم، وكان هرقل قد أرسل إلى أهل حمص يعدهم المدد، وأمر أهل الجزيرة جميعها بالتجهز إلى حمص فساروا نحو الشام لمنعوا حمص عن المسلمين، فسير سعد بن أبي وقاص السرايا من العراق إلى هيت وحصروها، وسار بعضهم إلى قرقيسيا فتفرق أهل الجزيرة وعادوا عن نجدة أهل حمص، فكان أهلها يقولون: تمسكوا بمدينتكم فإنهم حفاة فإذا أصابهم البرد تقطعت أقدامهم، فكانت أقدام الروم تسقط ولا يسقط للمسلمين إصبع.
فلما خرج الشتاء قام شيخ من الروم فدعاهم إلى مصالحة المسلمين فلم يجيبوه، وقام اخر فلم يجيبوه، فناهدهم المسلمون فكبروا تكبيرة فانهدم كثير من دور حمص وزلزلت حيطانهم فتصدعت، فكبروا ثانية فأصابهم أعظم من ذلك، فخرج أهلها إليهم يطلبون الصلح ولا يعلم المسلمون بما حدث
491

فيهم فأجابوهم وصالحوهم على صلح دمشق، وأنزلها أبو عبيدة السمط بن الأسود الكندي في بني معاوية. والأشعث بن ميناس في السكون، والمقداد في بلى، وأنزلها غيرهم، وبعث بالأخماس إلى عمر مع عبد الله بن مسعود، وكتب عمر إلى أبي عبيدة أن أقم بمدينتك وادع أهل القوة من عرب الشام فإني غير تارك البعثة إليك.
ثم استخلف أبو عبيدة على حمص عبادة بن الصامت وسار إلى حماة فتلقاه أهلها مذعنين فصالحهم أبو عبيدة على الجزية لرؤوسهم والخراج على أرضهم، ومض نحو شيزر فخرجوا إليه يسألون الصلح على ما صالح عليه أهل حماة، وسار أبو عبيدة إلى معرة، وهي معرة النعمان نسبت بعد إلى النعمان بن بشير الأنصاري فأذعنوا له بالصلح على ما صالح عليه أهل حمص، ثم أتى اللاذقية، فقاتله أهلها، وكان لها باب عظيم يفتحه جمع من الناس، فعسكر المسلمون على بعد منها، ثم أمر فحفر حفائر عظيمة تستر الحفرة منها الفارس راكبا، ثم أظهروا أنهم عائدون عنها ورحلوا، فلما جنهم الليل عادوا واستتروا في تلك الحفائر، وأصبح أهل اللاذقية. وهم يرون أن المسلمين قد انصرفوا عنهم فأخرجوا سرحهم وانتشروا بظاهر البلد، فلم يرعهم إلا والمسلمون يصيحون بهم ودخلوا معهم المدينة، وملكت عنوة، وهرب قوم من النصارى، ثم طلبوا الأمان على أن يرجعوا إلى أرضهم، فقوطعوا على خراج يؤدونه، قلوا أو كثروا، وتركت لهم كنيستهم، وبنى المسلمون بها مسجدا جامعا بناه عبادة بن الصامت، ثم وسع فيه بعد.
ولما فتح المسلمون اللاذقية جلا أهل جبلة من الروم عنها، فلما كان زمن معاوية بنى حصنا خارج الحصن الرومي، وشحنه بالرجال.
وفتح المسلمون مع عبادة بن الصامت أنطرطوس، وكان حصينا فجلا
492

عنه أهله، فبنى معاوية مدينة أنطرطوس ومصرها، وأقطع بها القطائع للمقاتلة وكذلك فعل ببانياس وفتحت سلمية أيضا، وقيل: إنما سميت سلمية لأنه كان بقربها مدينة تدعى المؤتفكة انقلبت بأهلها، ولم يسلم منهم غير مائة نفس فبنوا لهم مائة منزل وسميت سلم مائة، ثم حرف الناس فقالوا: سلمية، وهذا يتمشى لقائله لو كان أهلها عربا، ولسانهم عربيا،. وأما إذا كان لسانهم أعجميا فلا يسوغ هذا القول. ثم إن صالح بن علي بن عبد الله بن عباس اتخذها دارا وبنى ولده فيها ومصروها ونزلها من نزلها من ولده. فهي وأرضوها لهم.
ذكر فتح قنسرين ودخول هرقل القسطنطينية
ثم ارسل أبو عبيدة خالد بن الوليد إلى قنسرين. فلما نزل الحاضر زحف إليهم الروم وعليهم ميناس، وكان من أعظم الروم بعد هرقل. فاقتتلوا فقتل ميناس ومن معه مقتلة عظيمة لم يقتلوا مثلها فماتوا على دم واحد. وسار خالد حتى نزل على قنسرين فتحصنوا منه فقال: لو كنتم في السحاب لحملنا الله إليكم أو لأنزلكم إلينا. فنظروا في أمرهم ورأوا ما لقي أهل حمص فصالحوهم على صلح حمص فأبن خالد إلا على خراب المدينة فأخربها، فعند ذلك دخل هرقل القسطنطينية، وسببه أن خالدا، وعياضا أدربا إلى هرقل من الشام، وأدرب عمر بن مالك من الكوفة، فخرج من ناحية قرقيسيا، وأدرب عبد الله بن المعتم من ناحية الموصل، ثم رجعوا فعندها دخل هرقل القسطنطينية، وكانت هذه أول مدربة في الإسلام سنة خمس
493

عشرة، وقيل: ست عشرة.
فلما بلغ عمر صنيع خالد، قال أمر خالد نفسه يرحم الله أبا بكر هو كان أعلم بالرجال مني، وقد كان عزله والمثنى بن حارثة؛ وقال: إني لم أعزلهما عن ريبة ولكن الناس عظموهما فخشيت أن يوكلوا إليهما.
* * *
فأما المثنى فإنه رجع عن رأيه فيه لما قام بعد أبي عبيدة، ورجع عن خالد بعد قنسرين. وأما هرقل فإنه أخرج من الرها.
وكان أول من أنبح كلابها، ونفر دجاجها من المسلمين زياد بن حنظلة، وكان من الصحابة، وسار هرقل فنزل بشمشاط ثم أدرب منها نحو القسطنطينية، فلما أراد المسير منها علا على نشز ثم ألتفت إلى الشام فقال: السلام
عليك يا سورية، سلام لا اجتماع بعده، ولا يعود إليك رومي أبدا إلا خائفا حتى يولد المولود المشؤوم، ويا ليته لا يولد، فما أحلى فعله وأمر فتنته على الروم. ثم سار فدخل القسطنطينية، وأخذ أهل الحصون التي بين إسكندرية وطرسوس معه لئلا يسير المسلمون في عمارة ما بين أنطاكية وبلاد الروم، وشعث الحصون، فكان المسلمون لا يجدون بها أحدا، وربما كمن عندها الروم. فأصابوا غرة المتخلفين فاحتاط المسلمون لذلك.
ذكر فتح حلب وأنطاكية وغيرهما من العواصم
لما فرغ أبو عبيدة من قنسرين سار إلى حلب، فبلغه أن أهل قنسرين نقضوا وغدروا فوجه إليهم السمط الكندي فحصرهم وفتحها وأصاب
494

فيها بقرا وغنما، فقسم بعضه في جيشه، وجعل بقيته في المغنم. ووصل أبو عبيدة إلى حاضر حلب، وهو قريب منها. فجمع أصنافا من العرب، فصالحهم أبو عبيدة على الجزية، ثم أسلموا بعد ذلك، وأتى حلب وعلى مقدمته عياض بن غنم الفهري فتحصن أهلها، وحصرهم المسلمون فلم يلبثوا أن طلبوا الصلح والأمان على أنفسهم وأولادهم ومدينتهم وكنائسهم وحصنهم فأعطوا ذلك واستثنى عليهم موضع المسجد، وكان الذي صالحهم عياض فأجاز أبو عبيدة ذلك. وقيل: صولحوا على أن يقاسموا منازلهم وكنائسهم، وقيل: إن أبا عبيدة لم يصادف بحلب أحدا لأن أهلها انتقلوا إلى أنطاكية وراسلوا في الصلح، فلما تم ذلك رجعوا إليها.
وسار أبو عبيدة من حلب إلى أنطاكية، وقد تحضن بها كثير من الخلق من قنسرين وغيرها، فلما فارقها لقيه جمع العدو فهزمهم فألجأهم إلى المدينة، وحاصرها من جميع نواحيها، ثم إنهم صالحوه على الجلاء أو الجزية فجلا بعض وأقام بعض فأمنهم ثم نقضوا، فوجه أبو عبيدة إليهم عياض بن غنم، وحبيب بن مسلمة ففتحاها على الصلح الأول.
وكانت أنطاكية عظيمة الذكر عند المسلمين فلما فتحت كتب عمر إلى أبي عبيدة أن رتب بأنطاكية جماعة من المسلمين واجعلهم بها مرابطة ولا تحبس عنهم العطاء.
وبلغ أبا عبيدة أن جمعا من الروم بين معرة مصرين وحلب، فسار إليهم فلقيهم فهزمهم. وقتل عدة بطارقة وسبى وغنم، وفتح معرة مصرين على مثل صلح حلب، وجالت خيوله فبلغت بوقا وفتحت قرى الجومة وسرمين وتيزين وغلبوا على جميع أرض قنسرين وأنطاكية، ثم أتى أبو عبيدة حلب
495

وقد التاث أهلها فلم يزل بهم حتى أذعنوا وفتحوا المدينة. وسار أبو عبيدة يريد قورس وعلى مقدمته عياض فلقيه راهب من رهبانها يسأله الصلح فبعث به إلى أبي عبيدة فصالحه على صلح أنطاكية، وبث خيله فغلب على جميع أرض قورس، وفتح تل عزاز، وكان سلمان بن ربيعة الباهلي في جيش أبي عبيدة فنزل في حصن بقورس فنسب إليه فهو يعرف بحصن سلمان.
ثم سار أبو عبيدة إلى منبج وعلى مقدمته عياض فلحقه وقد صالح أهلها على مثل صلح أنطاكية. وسير عياضا إلى ناحية دلوك ورعبان فصالحه أهلها على مثل [صلح] منبج، واشترط عليهم أن يخبروا المسلمين بخبر الروم، وولى أبو عبيدة كل كورة فتحها عاملا وضم اليه جماعة وشحن النواحي المخوفة، وسار إلى بالس، وبعث جيشا مع حبيب بن مسلمة إلى قاصرين، فصالحهم أهلها على الجزية أو الجلاء فجلا أكثرهم إلى بلد الروم وأرض الجزيرة وقرية جسر منبج، ولم يكن الجسر يومئذ وإنما اتخذ في خلافة عثمان للصوائف، وقيل: بل كان له رسم قديم، واستولى المسلمون على الشام، من هذه الناحية إلى الفرات. وعاد أبو عبيدة إلى فلسطين.
وكان بجبل اللكام مدينة يقال لها: جرجرومة وأهلها يقال لهم الجراجمة، فسار حبيب بن مسلمة إليها من أنطاكية فافتتحها صلحا على أن يكونوا أعوانا للمسلمين.
وفيها سير أبو عبيدة بن الجراح جيشا مع ميسرة بن مسروق العبسي فسلكوا درب بغراس من أعمال أنطاكية إلى بلاد الروم، وهو أول من سلك ذلك الدرب فلقي جمعا للروم معهم عرب من غسان، وتنوخ، وإياد، يريدون اللحاق بهرقل، فأوقع بهم، وقتل منهم مقتلة عظيمة، ثم لحق به مالك الأشتر
496

النخعي مددا من قبل أبي عبيدة، وهو بأنطاكية فسلموا وعادوا. وسير جيشا آخر إلى مرعش مع خالد بن الوليد ففتحها على إجلاء أهلها بالأمان وأخربها، وسير جيشا آخر مع حبيب بن مسلمة إلى حصن الحدث وإنما سمي الحدث لأن المسلمين لقوا عليه غلاما حدثا فقاتلهم في أصحابه فقيل: درب الحدث، وقيل: لأن المسلمين أصيبوا به فقيل: درب الحدث، وكان بنو أمية يسمونه درب السلامة لهذا المعنى.
ذكر فتح قيسارية وحصر غزة
في هذه السنة فتحت قيسارية، وقيل: سنة تسع عشرة، وقيل: سنة عشرين.
وكان سببها أن عمر كتب إلى يزيد بن أبي سفيان أن يرسل معاوية إلى قيسارية، وكتب عمر إلى معاوية يأمره بذلك، فسار معاوية إليها فحصر أهلها فجعلوا يزاحفونه وهو يهزمهم ويردهم إلى حصنهم. ثم زاحفوه آخر ذلك مستميتين وبلغت قتلاهم في المعركة ثمانين ألفا وكملها في هزيمتهم مائة ألف وفتحها. وكان علقمة بن مجزز قد حصر القيقار بغزة وجعل يراسله فلم يشفه أحد بما يريد فأتاه كأنه رسول علقمة فأمر القيقار رجلا أن يقعد له في الطريق فإذا مر به قتله ففطن علقمة فقال: إن معي نفرا يشركونني في الرأي فأنطلق فآتيك بهم فبعث القيقار إلى ذلك الرجل أن لا يعرض له فخرج علقمة من عنده فلم يعد، وفعل كما فعل عمرو بالأرطبون.
(مجزز بجيم وزايين الأولى مكسورة [مشددة]).
497

ذكر فتح بيسان ووقعة أجنادين
ولما انصرف أبو عبيدة؛ وخالد إلى حمص نزل عمرو، وشرحبيل على أهل بيسان فافتتحاها وصالحا أهل الأردن، واجتمع عسكر الروم بغزة، وأجنادين، وبيسان، وسار عمرو، وشرحبيل إلى الأرطبون ومن معه، وهو بأجنادين، واستخلف
علن الأردن أبا الأعور فنزل بالأرطبون ومعه الروم، وكان الأرطبون أدهن الروم وأبعدها غورا، وكان قد وضع بالرملة جندا عظيما وبإيلياء جندا عظيما فلما بلغ عمر بن الخطاب الخبر قال: قد رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب فانظروا عتم تنفرج.
وكان معاوية قد شغل أهل قيسارية عن عمرو، وكان عمرو قد جعل علقمة بن حكيم الفراسي، ومسروق بن فلان العكي على قتال إيلياء فشغلوا من به عنه، وجعل أيضا أبا أيوب المالكي على من بالرملة فشغلهم عنه، وتتابعت الأمداد من عند عمر إلى عمرو، وأقام عمرو على أجنادين لا يقدر من الأرطبون على شيء ولا تشفيه الرسل، فسار إليه بنفسه فدخل عليه كأنه رسول ففطن به الأرطبون، وقال: لا شك أن هذا هو الأمير أو من يأخذ الأمير برأيه، فأمر إنسانا أن يقعد على طريقه ليقتله إذا مر به، وفطن عمرو لفعله فقال له: قد سمعت مني وسمعت منك، وقد وقع قولك مني موقعا، وأنا واحد من عشرة بعثنا عمر إلى هذا الوالي لنكانفه فأرجع فآتيك بهم الآن فإن رأوا الذي عرضت على الآن فقد رآه الأمير وأهل العسكر وإن لم يروه رددتهم إلى مأمنهم. فقال: نعم ورد الرجل الذي أمر بقتله.
498

فخرج عمرو من عنده وعلم الرومي أنها خدعة اختدعه بها فقال: هذا أدهن الخلق!
وبلغت خديعته عمر بن الخطاب فقال: لله در عمرو. وعرف عمرو مأخذه فلقيه فاقتتلوا بأجنادين قتالا شديدا كقتال اليرموك حتى كثرت القتلى بينهم، وانهزم أرطبون إلى إيلياء، ونزل عمرو أجنادين، وأفرج المسلمون الذين يحصرون بيت المقدس لأرطبون فدخل إيلياء وأزاح المسلمين عنه إلى عمرو.
وقد تقدم ذكر وقعة أجنادين على قول: من يجعلها قبل اليرموك، وسياقها على غير هذه السياقة فلهذا ذكرناها هنالك وها هنا.
ذكر فتح بيت المقدس وهو إيلياء
في هذه السنة فتح بيت المقدس، وقيل: سنة ست عشرة في ربيع الأول.
وسبب ذلك أنه لما دخل أرطبون إيلياء فتح عمرو غزة، وقيل: كان فتحها في خلافة أبي بكر، ثم فتح سبسطية وفيها قبر يحيى بن زكريا عليه السلام، وفتح نابلس بأمان على الجزية، وفتح مدينة لد ثم فتح تبني، وعمواس، وبيت جبرين، وفتح يافا، وقيل: فتحها معاوية، وفتح عمرو مرج [عيون]، فلما تم له ذلك أرسل إلى
أرطبون رجلا يتكلم بالرومية وقال له: اسمع ما يقول، وكتب معه كتابا، فوصل الرسول ودفع الكتاب إلى أرطبون وعنده وزراؤه فقال أرطبون: لا يفتح والله عمرو شيئا من
499

فلسطين بعد أجنادين. فقالوا له: من أين علمت هذا؟. فقال: صاحبها رجل صفته كذا وكذا وذكر صفة عمر. فرجع الرسول إلى عمرو فأخبره الخبر فكتب إلى عمر بن الخطاب يقول: إن أعالج عدوا شديدا وبلادا قد ادخرت لك فرأيك. فعلم عمر أن عمرا لم يقل ذلك إلا بشيء سمعه فسار عمر عن المدينة.
وقيل كان سبب قدوم عمر إلى الشام أن أبا عبيدة حصر بيت المقدس فطلب أهله منه أن يصالحهم على صلح أهل مدن الشام وأن يكون المتولي للعقد عمر بن الخطاب، فكتب اليه بذلك فسار عن المدينة، واستخلف عليها علي بن أبي طالب. فقال له علي: أين تخرج بنفسك؟ إنك تريد عدوا كلبا. فقال عمر: أبادر بالجهاد قبل موت العباس إنكم لو فقدتم العباس لأنتقض بكم الشر كما ينتقض الحبل. فمات العباس لست سنين من خلافة عثمان فانتقض بالناس الشر.
وسار عمر فقدم الجابية على فرس، وجميع ما قدم الشام أربع مرات، الأولى على فرس، والثانية على بعير، والثالثة على بغل، ورجع لأجل الطاعون، والرابعة على حمار، وكتب إلى أمراء الأجناد أن يوافوه بالجابية ليوم سماه لهم في المجردة ويستخلفوا على أعمالهم فلقوه حيث رفعت لهم الجابية. فكان أول من لقيه يزيد، وأبو عبيدة، ثم خالد على الخيول عليهم الديباج والحرير فنزل وأخذ الحجارة ورماهم بها وقال: ما أسرع ما رجعتم عن رأيكم! إياي تستقبلون في هذا الزي؛ وإنما شبعتم مذ سنتين، وبالله لو فعلتم هذا على رأس المائتين لاستبدلت بكم غيركم فقالوا: يا أمير المؤمنين إنها يلامقة
500

وإن علينا السلاح. قال: فنعم إذن. وركب حتى دخل عليه الجابية وعمرو، وشرحبيل كأنهما لم يتحركا.
فلما قدم عمر الجابية، قال له رجل من اليهود: يا أمير المؤمنين إنك لا ترجع إلى بلادك حتى يفتح الله عليك إيلياء، وكانوا قد شجوا عمرا وأشجاهم ولم يقدر عليها ولا على الرملة فبينما عمر معسكر بالجابية فزع الناس إلى السلاح، فقال: ما شأنكم؟ فقالوا: ما شأنكم؟ فقالوا: ألا تري إلى الخيل والسيوف. فنظر فإذا كردوس يلمعون بالسيوف فقال عمر: مستأمنة فلا تراعوا، فأمنوهم وإذا أهل إيلياء وحيزها فصالحهم على الجزية وفتحوها له. وكان الذي صالحه العوام لان أرطبون والتذارق دخلا مصر لما وصل عمر إلى الشام وأخذوا كتابه على إيلياء وحيزها، والرملة وحيزها فشهد ذلك اليهودي الصلح فسأله عمر عن الدجال، وكان كثير السؤال عنه، فقال له: وما مسألتك عنه يا أمير المؤمنين؟ أنتم والله تقتلونه دون باب لد ببضع عشرة ذراعا؟ وأرسل عمر إليهم بالأمان، وجعل علقمة بن حكيم على نصف فلسطين وأسكنه الرملة وجعل علقمة بن مجزز على نصفها الآخر وأسكنه إيلياء، وضم عمرا وشرحبيل إليه بالجابية، فلقياه راكبا فقبلا ركبته وضم [عمر] كل واحد منهما محتضنهما.
ثم سار إلى بيت المقدس من الجابية فركب فرسه فرأي به عرجا فنزل عنه، وأتى ببرذون فركبه فجعل يتجلجل به فنزل وضرب وجهه وقال: لا أعلم من علمك هذه الخيلاء! ثم لم يركب برذونا قبله ولا بعده.
وفتحت إيلياء وأهلها على يديه، وقيل: كان فتحها سنة ستة عشرة، ولحق أرطبون ومن أبن الصلح من الروم بمصر، فلما ملك المسلمون مصر
501

قتل، وقيل: بل لحق بالروم. فكان يكون علن صوائفهم والتقى هو وصاحب صائفة المسلمين ومع المسلمين رجل من قيس يقال له: ضريس فقطع يد القيسي وقتله القيسي فقال فيه:
فإن يكن أرطبون الروم أفسدها * فإن فيها بحمد الله منتفعا
وإن يكن أرطبون الروم قطعها * فقد تركت بها أوصاله قطعا
ذكر فروض العطاء وعمل الديوان
وفي سنة خمس عشرة فرض عمر للمسلمين الفروض، ودون الدواوين، وأعطن العطايا على السابقة، وأعطى صفوان بن أمية، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو في أهل الفتح أقل ما أخذ من قبلهم فامتنعوا من أخذه، وقالوا: لا نعترف أن يكون أحد أكرم منا. فقال: إني إنما أعطيتكم على السابقة في الإسلام لا على الأحساب قالوا: فنعم إذن. وأخذوا، وخرج الحارث وسهيل بأهليهما نحو الشام فلم يزالا مجاهدين حتى أصيبا في بعض تلك الدروب، وقيل: ماتا في طاعون عمواس.
ولما أراد عمر وضع الديوان، قال له علي، وعبد الرحمن بن عوف: ابدأ بنفسك تجال لا، بل أبدا بعم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الأقرب فالأقرب؛ ففرض للعباس وبدأ به، ثم فرض لأهل بدر خمسة آلاف خمسة آلاف، ثم فرض لمن بعد بدر إلى الحديبية أربعة آلاف أربعة آلاف، ثم فرض لمن بعد الحديبية إلى أن أقلع أبو بكر عن أهل الردة ثلاثة آلاف ثلاثة
502

آلاف في ذلك من شهد الفتح وقاتل عن أبي بكر؛ ومن ولى الأيام قبل القادسية، كل هؤلاء ثلاثة آلاف ثلاثة آلاف، ثم فرض لأهل القادسية وأهل الشام ألفين ألفين، وفرض لأهل البلاء النازع منهم ألفين وخمسمائة ألفين وخمسمائة.
فقيل له: لو ألحقت أهل القادسية بأهل الأيام. فقال: لم أكن لألحقهم بدرجة من لم يدركوا. وقيل له: قد سويت من بعدت داره بمن قربت داره وقاتلهم عن فنائه. فقال: من قربت داره أحق بالزيادة لأنهم كانوا ردءا للحتوف وشجى للعدو فهلا قال المهاجرون: مثل قولكم حين سوينا بين السابقين منهم والأنصار فقد كانت نصرة الأنصار بفنائهم وهاجر إليهم المهاجرون من بعد.
وفرض لمن بعده القادسية واليرموك ألفا ألفا، ثم فرض للروادف المثنى خمسمائة خمسمائة، ثم للروادف الليث بعدهم ثلاثمائة ثلاثمائة سوي كل طبقة في العطاء قويهم وضعيفهم عربهم وعجمهم، وفرض للروادف الربيع على مائتين وخمسين، وفرض لمن بعدهم وهم أهل هجر، والعباد على مائتين، وألحق بأهل بدر أربعة من لم غير أهلها الحسن، والحسين، وأبا ذر وسلمان. وكان فرض للعباس خمسة وعشرين ألفا، وقيل: اثني عشر ألفا، وأعطى نساء النبي صلى الله عليه وسلم، عشرة آلاف عشرة آلاف. إلا من جرى عليها الملك. فقال نسوة رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفضلنا عليهن في القسمة فسو بيننا ففعل، وفضل عائشة بألفين لمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها
503

فلم تأخذ، وجعل نساء أهل بدر في خمسمائة خمسمائة، ونساء من بعدهم إلى الحديبية على أربعمائة أربعمائة، ونساء من بعد ذلك إلى الأيام ثلاثمائة ثلاثمائة، ونساء أهل القادسية مائتين مائتين، ثم سوي بين النساء بعد ذلك وجعل الصبيان سواء على مائة مائة، ثم جمع ستين مسكينا وأطعمهم الخبز فأحصوا ما أكلوا فوجدوه يخرج من جريبتين، ففرض لكل إنسان منهم ولعياله جريبتين في الشهر.
وقال عمر قبل موته: لقد هممت أن أجعل العطاء أربعة آلاف أربعة آلاف ألفا يجعلها الرجل في أهله، وألفا يزودها معه، وألفا يتجهز بها وألفا يترفق بها، فمات قبل أن يفعل.
وقال له قائل عند فرض العطاء: يا أمير المؤمنين لو تركت في بيوت الأموال عدة لكون إن كان فقال: كلمة ألقاها الشيطان علن فيك وقاني الله شرها وهي فتنة لمن بعدي، بل أعد لهم ما أعد الله ورسوله: طاعة الله ورسوله هما عدتنا التي بها أفضينا إلى ما ترون، فإذا كان المال ثمن دين أحدكم هلكتم.
وقال عمر للمسلمين إني كنت امرءا تاجرا يغني الله عيالي بتجارتي وقد شغلتموني بأمركم هذا فما ترون أنه يحل لي في هذا المال؟ وعلى ساكت فقال: ما تقول يا علي؟ فقال: ما أصلحك وعيالك بالمعروف ليس لك غيره فقال القوم: القول ما قال علي فأخذ قوته. واشتدت حاجة عمر فاجتمع نفر من الصحابة منهم عثمان، وعلي، وطلحة، والزبير فقالوا: لو قلنا لعمر في زيادة نزيده إياها في رزقه. فقال عثمان: هلموا فلنستبرىء، ما عنده
504

من وراء وراء. فأتوا حفصة ابنته فأعلموها الحال واستكتموها أن لا تخبر بهم عمر، فلقيت عمر في ذلك فغضب وقال: من هؤلاء؟ لأسوءهم؟ قالت: لا سبيل إلى علمهم قال: أنت بيني وبينهم ما أفضل ما اقتنى رسول الله في في بيتك من الملبس؟ قالت: ثوبين ممشقين كان يلبسهما للوفد وللجمع قال: فأي الطعام ناله عندك أرفع؟ قالت: حرفا من خبز شعير فصببنا عليه وهو حار أسفل عكة لنا فجعلتها دسمة حلوة فأكل كل منها قال: وأي مبسط كان يبسط عندك كان أوطأ؟ قالت: كساء ثخين كنا نربعه في الصيف فإذا كان الشتاء بسطنا نصفه
وتدثرنا بنصفه قال: يا حفصة فأبلغيهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدر فوضع الفضول مواضعها وتبلغ بالترجية، فوالله لأضعن الفضول مواضعها ولأتبلغن بالترجية، وإنما مثلي ومثل صاحبي كثلاثة سلكوا طريقا فمضى الأول وقد تزود فبلغ المنزل، ثم اتبعه الأخر فسلك طريقه فأفضى إليه، ثم اتبعه الثالث فإن لزم طريقهما ورضي بزادهما ألحق بهما وإن سلك غير طريقهما لم يجامعهما.
ذكر الحروب إلى آخر السنة فمن ذلك
يوم برس وبابل وكوثى
لما فرغ سعد من أمر القادسية أقام بها بعد الفتح شهرين؟ وكاتب عمر فيما يفعل، فكتب إليه عمر يأمره بالمسير إلى المدائن وأن يخلف النساء والعيال بالعتيق، وأن يجعل معهم جندا كثيفا، وأن يشركهم في كل مغنم ما داموا يخلفون
505

وكل الناس مؤد مذ نقل الله إليهم ما كان في عسكر الفرس، فلما وصلت مقدمة المسلمين برس وعليهم عبد الله بن المعتم، وزهرة بن حوية، وشرحبيل بن السمط لقيهم بها بصبهرا في جمع من الفرس فهزمه المسلمون ومن معه إلى بابل، وبها فالة القادسية وبقايا رؤسائهم النخير خان ومهران الرازي، والهرمزان وأشباههم، وقد استعملوا عليهم الفيرزان وقدم بصبهرا منهزما من برس فوقع في النهر ومات من طعنة كان طعنه زهرة، ولما هزم بصبهرا أقبل بسطام دهقان برس فصالح زهرة وعقد له الجسور وأخبره بمن اجتمع ببابل فأرسل زهرة إلى سعد يعرفه ذلك، فقدم عليه سعد ببرس، وستره في المقدمة واتبعه عبد الله، وشرحبيل، وهاشما المرقال واتبعهم فنزلوا على الفيرزان ببابل، وقد قالوا: نقاتلهم قبل أن نفترق فاقتتلوا فهزمهم المسلمون، فانطلقوا على وجهين فسار الهرمزان نحو الأهواز فأخذها فأكلها، وخرج الفيرزان نحو نهاوند فأخذها فأكلها وبها كنوز كسرى، وأكل الماهين، وسار النخير خان، ومهران إلى المدائن وقطعا الجسر.
وأقام سعد ببابل فقدم زهرة بين يديه بكير بن عبد الله الليثي، وكثير بن شهاب السعدي حتى عبرا الصراة فلحقا بأخريات القوم، وفيهم فيومان، والفرخان فقتل بكير الفرخان، وقتل كثير فيومان بسورا، وجاء زهرة فجاز سورا ونزل، وجاء سعد وهاشم والناس ونزلوا عليه، وتقدم زهرة نحو الفرس، وكانوا قد نزلوا بين الدير وكوثى، وقد استخلف النخير خان ومهران على جنودهما شهريار دهقان الباب فنازلهم زهرة فبرزوا إلى قتاله، وخرج شهريار يطلب
506

المبارزة، فأخرج زهرة إليه أبا نباتة نايل بن جعشم الأعرجي، وكان من شجعان بني تميم وكلاهما وثيق الخلق، فلما رأي شهريار نائلا ألقى الرمح ليعتنقه وألقى أبو نباتة رمحه ليعتنقه أيضا وانتضيا سيفيهما فاجتلدا. ثم اعتنقا فسقطا عن دابتيهما فوقع شهريار عليه كأنه، جمل. فضغطه بفخذه وأخذ الخنجر وأراد حل أزرار درعه فوقعت إصبعه في فن نايل فكسر عظمها ورأى منه فتورا فبادره وجلد به الأرض، ثم قعد على صدره وأخذ خنجره وكشف درعه عن بطنه، وطعن به بطنه وجنبه حتى مات، وأخذ فرسه وسواريه وسلبه، وأنهزم أصحابه فذهبوا في البلاد، وأقام زهرة بكوثى حتى قدم عليه سعد فقدم إليه نائلا وألبسه سلاح شهريار وسواريه وأركبه برذونه وغنمه الجميع، فكان أول أعرجي سور بالعراق، وأقام بها سعد أياما، وزار مجلس إبراهيم الخليل عليه السلام.
وقيل: كانت هذه الوقعات سنة ست عشرة.
(نايل بالنون وبعد الألف ياء تحتها نقطتان وآخره لام).
507

ذكر بهر سير وهي المدينة العتيقة، وهي المدائن الدنيا من الغرب
ثم إن سعدا قدم زهرة إلى بهرسير، فمضى في المقدمات فتلقاه شير زاد دهقان
ساباط بالصلح فأرسله إلى سعد فصالحه على تأدية الجزية، ولقى زهرة كتيبة بنت
كسرى التي تدعى بوران، وكانوا يحلفون كل يوم أن لا يزول ملك فارس ما عشنا فهزمهم، وقتل هاشم بن عتبة، وهو ابن أخي سعد المقرط وهو أسد كان لكسرى قد ألفه، فقبل سعد رأس هاشم، وقبل هاشم قدم سعد، وأرسله سعد في المقدمة إلى بهرسير فنزل إلى المظلم وقرأ (أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال)؛ ثم أرتحل فنزل على بهرسير، ووصلها سعد والمسلمون فرأوا الإيوان، فقال ضرار بن الخطاب: الله أكبر أبيض كسري، هذا ما وعد الله ورسوله. وكبر وكبر الناس معه، فكانوا كلما وصلت طائفة كبروا، ثم نزلوا على المدينة، وكان نزولهم عليها في ذي الحجة.
وحج بالناس في هذه السنة عمر بن الخطاب، وكان عامله فيها على مكة عتاب بن أسيد في قول، وعلى الطائف يعلى بن منية، وعلى اليمامة والبحرين عثمان بن أبي العاص، وعلى عمان حذيفة بن محصن، وعلى الشام أبو عبيدة بن الجراح، وعلى الكوفة وأرضها سعد بن أبي وقاص، وعلى البصرة المغيرة بن شعبة.
وفيها مات سعد بن عبادة الأنصاري، وقيل: توفي في خلافة أبي بكر، ونوفل بن الحرث بن عبد المطلب، وكان أسن من أسلم من بني هاشم.
508

16
ثم دخلت سنة ست عشرة
ذكر فتح المدائن الغربية، وهى بهرسير
في هذه السنة في صفر دخل المسلمون بهرسير، وكان سعد محاصرا لها، وأرسل الخيول فأغارت على من ليس له عهد فأصابوا مائة ألف فلاح فأصاب كل واحد منهم فلاحا لأن كل المسلمين كان فارسا، فأرسل سعد إلى عمر يستأذنه فأجابه أن من جاءكم من الفلاحين ممن لم يعينوا عليكم فهو أمانهم ومن هرب فأدركتموه فشأنكم به فخلى سعد عنهم وأرسل إلى الدهاقين ودعاهم إلى الإسلام أو الجزية ولهم الذمة؛ فتراجعوا ولم يدخل في ذلك ما كان لآل كسرى، فلم يبق [في] غربي دجلة إلى أرض العرب سوادي إلا آمن، واغتبط بملك الإسلام.
وأقاموا على بهرسير شهرين يرمونهم بالمجانيق، ويدنون إليهم بالدبابات، ويقاتلونهم بكل عدة، ونصبوا عليها عشرين منجنيقا، فشغلوهم بها، وربما خرج العجم فقاتلوهم فلا يقومون لهم، وكان آخر ما خرجوا متجردين للحرب وتبالغوا على الصبر، فقاتلهم المسلمون. وكان على زهرة بن الحوية درع
509

مفصومة، فقيل له: لو أمرت بهذا الفصم فسرد. فقال لهم: إني علن الله لكريم إن نزل سهم فارس الجند كلهم أن لا يؤمنني من هذا الفصم حتى يثبت في، فكان أول رجل أصيب من المسلمين يومئذ هو بنشابة من ذلك الفصم فقال بعضهم: انزعوها. فقال: دعوني فإن نفسي معي ما دامت في لعلي أن أصيب منهم بطعنة أو ضربة. فمضى نحو العدو فضرب بسيفه شهريار من أهل إصطخر فقتله وأحيط به فقتل وما انكشفوا.
وقيل: إن زهرة عاش إلى أيام الحجاج فقتله شبيب الخارجي، وسيرد ذكره.
واشتد الحصار بأهل المدائن الغربية حتى أكلوا السنانير والكلاب، وصبروا من شدة الحصار على أمر عظيم، فبيناهم يحاصرونهم إذ أشرف عليهم رسول الملك، فقال: الملك يقول لكم: هل لكم إلى المصالحة على أن لنا ما يلينا من دجلة إلى جبلنا ولكم ما يليكم من دجلة إلى جبلكم؟ أما شبعتم لا أشبع الله بطونكم. فقال لهم أبو مفزر الأسود بن قطبة وقد أنطقه الله تعالى بما لا يدري ما هو ولا من معه، فرجع الرجل فقطعوا دجلة إلى المدائن الشرقية التي فيها الإيوان فقال له من معه: يا أبا مفزر ما قلت له؟ قال: والذي بعث محمدا بالحق ما أدري، وأنا أرجو أن أكون قد نطقت بالذي هو خير. وسأله سعد والناس عما قال فلم يعلم، فنادي سعد في الناس فنهدوا إليهم فما ظهر على المدينة أحد ولا خرج رجل إلا رجل ينادي بالأمان فأمنوه، فقال لهم: ما بقي بالمدينة من يمنعكم فدخلوا فما وجدوا فيها شيئا ولا أحدا إلا أسارى
510

وذلك الرجل، فسألوه لأي شيء هربوا؟ فقال: بعث الملك إليكم يعرض عليكم الصلح فأجبتموه أنه لا يكون بيننا وبينكم صلح أبدا حتى نأكل عسل أفريدون بأترج كوثى فقال الملك: يا ويلتيه إن الملائكة تتكلم على ألسنتهم ترد علينا.
فساروا إلى المدينة القصوى فلما دخلها المسلمون أنزلهم سعد المنازل وأرادوا العبور إلى المدائن فوجدوا المعابر قد أخذوها ما بين المدائن وتكريت.
ذكر فتح المدائن التي فيها إيوان كسرى
وكان فتحها في صفر أيضا سنة ست عشرة، قيل: وأقام سعد ببهرسير أياما من صفر فأتاه علج فدله على مخاضة تخاض إلى صلب الفرس فأبن وتردد عن ذلك وقحمهم المد وكانت السنة كثيرة المدود، ودجلة تقذف بالزبد فأتاه علج فقال: ما يقيمك لا يأتي عليك ثالثة حتى يذهب يزدجرد بكل شيء في المدائن فهيجه ذلك على العبور، ورأوا رؤيا أن خيول المسلمين اقتحمت دجلة فعبرت، فعزم سعد لتأويل الرؤيا فجمع الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن عدوكم قد اعتصم منكم بهذا البحر فلا تخلصون إليه معه ويخلصون إليكم إذ شاؤوا في سفنهم فينا وشؤونكم وليس وراءكم شيت تخافون أن تؤتوا منه قد كفاكم أهل الأيام، وعطلوا ثغورهم وقد رأيت من الرأي أن تجاهدوا العدو قبل أن تحصدكم الدنيا ألا إني قد
511

عزمت علن قطع هذا البحر إليهم.
فقالوا جميعا: عزم الله لنا ولك على الرشد فافعل فندب الناس إلى العبور وقال: من يبدأ ويحمي لنا الفراض حتى تتلاحق به الناس لكي لا يمنعوهم من العبور؟ فانتدب له عاصم بن عمرو ذو الباس في ستمائة من أهل النجدات فاستعمل عليهم عاصما فقدمهم عاصم في ستين فارسا وجعلهم على خير ذكور لإناث ليكون أسلس لسباحة الخيل، ثم اقتحموا دجلة. فلما رآهم الأعاجم وما صنعوا أخرجوا للخيل التي تقدمت مثلها فاقتحموا عليهم دجلة فلقوا عاصما وقد دنا من الفراض فقال عاصم: الرماح الرماح أشرعوها وتوخوا العيون فالتقوا فاطعنوا وتوخى المسلمون عيونهم فوتوا، ولحقهم المسلمون فقتلوا أكثرهم، ومن نجا منهم صار أعور من الطعن، وتلاحق الستمائة بالستين غير متعتعين.
ولما رأى سعد عاصما على الفراض قد منعها أذن للناس في الاقتحام، وقال: قولوا: نستعين بالله ونتوكل عليه حسبنا الله ونعم الوكيل، والله لينصرن الله وليه، وليظهرن دينه، وليهز من عدوه [لا حول] ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وتلاحق الناس في دجلة وإنهم يتحدثون كما يتحدثون في البر، وطبقوا دجلة حتى ما يري من الشاطئ شئ وكان الذي يساير سعدا، سلمان الفارسي فعامت بهم خيولهم وسعد يقول: حسبنا الله ونعم الوكيل، والله لينصرن الله وليه وليظهرن دينه وليهزمن عدوه إن لم يكن في الجيش بغي أو ذنوب تغلب الحسنات. فقال له سلمان: الاسلام جديد ذللت لهم البحور كما ذلل لهم البر، أما والذي نفس سلمان بيده ليخرجن منه أفواجا كما دخلوا فيه أفواجا، فخرجوا منه كما قال سلمان لم يفقدوا شيئا،
512

إلا أن مالك بن عامر العنبري سقط منه قدح فذهبت به جرية الماء فقال له الذي يسايره معيرا له: أصابه القدر فطاح فقال: والله إني لعلى حالة ما كان الله ليسلبني قدحي من بين العسكرين. فلما عبروا ألقته الريح إلى الشاطئ فتناوله بعض الناس وعرفه صاحبه فأخذه صاحبه، ولم يغرق منهم أحد غير أن رجلا من بارق يدعى غرقدة زال عن ظهر فرس له أشقر فثنى القعقاع عنان فرسه إليه فأخذ بيده فأخرجه سالما. وخرج الناس سالمين وخيلهم تنفض أعرافها.
فلما رأي الفرس ذلك وأتاهم أمر لم يكن في حسابهم خرجوا هاربين نحو حلوان، وكان يزدجرد قد قدم عياله إلى حلوان قبل ذلك وخلف مهران الرازي، والنخيرخان وكان على بيت المال بالنهروان وخرجوا معهم بما قدروا عليه من خير متاعهم وخفيفه وما قدروا عليه من بيت المال وبالنساء والذراري وتركوا في الخزائن من الثياب والمتاع والآنية والفصوص والألطاف، والأدهان ما لا يدري قيمته، وخلفوا ما كانوا أعدوا للحصار من البقر والغنم والأطعمة، وكان في بيت المال ثلاثة آلاف ألف ألف ألف ثلاث مرات أخذ منها رستم عند مسيره إلى القادسية النصف، وبقي النصف. وكان أول من دخل المدائن كتيبة الأهوال وهى كتيبة عاصم بن عمرو، ثم كتيبة الخرساء وهي كتيبة القعقاع بن عمرو؟ فاخذوا في سككها لا يلقون فيها أحدا يخشونه إلا من كان في القصر الأبيض فأحاطوا بهم، ودعوهم، فاستجابوا على تأدية
513

الجزية والذمة، فتراجع إليهم أهل المدائن على مثل عهدهم ليس في ذلك ما كان لآل كسرى.
ونزل سعد القصر الأبيض، وسرح سعد زهرة في آثارهم إلى النهروان، مقدار ذلك من كل جهة، وكان سلمان الفارسي رائد المسلمين وداعيتهم دعا أهل بهرسير ثلاثا، وأهل القصر الأبيض ثلاثا، وأتخذ سعد إيوان كسري مصلى ولم يغير ما فيه من التماثيل، ولم يكن بالمدائن أعجب من عبور الماء، وكان يدعى يوم الجراثيم لا يبقى أحد إلا اشمخرت له جرثومة من الأرض يستريح عليها ما يبلغ الماء حزام فرسه، ولذلك يقول أبو بجيد نافع بن الأسود:
وأملنا على المدائن خيلا * بحرها مثل برهن أريضا
فانتثلنا خزائن المرء كسرى * يوم ولوا وخاض منها جريضا
ولما دخل سعد الإيوان قرأ: (كم تركوا من جنات وعيون وزروع) إلى قوله: (قوما آخرين) وصلى فيه صلاة الفتح ثماني ركعات لا يفصل بينهن ولا يصلي جماعة، وأتم الصلاة لأنه نوي الإقامة، وكانت أول جمعة بالعراق، وجمعت بالمدائن في صفر سنة ست عشرة.
ولما سار المسلمون وراءهم أدرك رجل من المسلمين فارسيا يحمي أصحابه فضرب فرسه ليقدم على المسلم فأحجم وأراد الفرار فتقاعس فأدركه المسلم
514

فقتله وأخذ سلبه، وأدرك رجل آخر من المسلمين جماعة من الفرس يتلاومون وقد نصبوا لأحدهم كرة وهو يرميها لا يخطئها، فرجعوا فلقيهم المسلم فتقدم إليه ذلك الفارسي فرماه بأقرب مما كانت الكرة فلم يصبه فوصل المسلم إليه فقتله وهرب أصحابه.
(أبو بجيد بضم الباء الموحدة وفتح الجيم وبعدها ياء تحتها نقطتان ودال مهملة).
ذكر ما جمع من غنائم أهل المدائن وقسمتها
كان سعد قد جعل على الأقباض عمرو بن عمرو بن مقرن، وعلى القسمة سلمان بن ربيعة الباهلي، فجمع ما في القصر والإيوان والدور، وأحص ما يأتيه به الطلب؛ وكان أهل المدائن قد نهبوها عند الهزيمة وهربوا في كل وجه فما أفلت أحد منهم بشيء ألا أدركهم الطلب، فأخذوا ما معهم، ورأوا بالمدائن قبابا تركية مملؤة سلالا مختومة برصاص فحسبوه طعاما فإذا فيها آنية الذهب والفضة، وكان الرجل يطوف ليبيع الذهب بالفضة متماثلين، ورأوا كافورا كثيرا فحسبوه ملحا فعجنوا به فوجدوه مرا.
وأدرك الطلب مع زهرة جماعة من الفرس على جسر النهروان فازدحموا عليه فوقع منهم بغل في الماء فعجلوا وكلبوا عليه، فقال بعض المسلمين:
515

إن لهذا البغل لشأنا، فجالدهم المسلمون عليه حتى أخذوه وفيه حلية كسرى، ثيابه وخرزاته ووشاحه ودرعه التي فيها الجوهر، وكان يجلس فيها للمباهاة، ولحق الكلج بغلين معهما فارسيان فقتلهما وأخذ البغلين فأبلغهما صاحب الأقباض وهو يكتب ما يأتيه به الرجال، فقال له: قف حتى ننظر ما معك فحط عنهما فإذا سفطان فيهما تاج كسري مرصعا وكان لا يحمله إلا أسطوانتان وفيه الجوهر، وعلى البغل الآخر سفطان فيهما ثياب كسري التي كان يلبس من الديباج المنسوج بالذهب المنظوم بالجوهر وغير الديباج منسوجا منظوما.
وأدرك القعقاع بن عمرو فارسيا فقتله، وأخذ منه عيبتين في أحدهما خمسة أسياف وفي الآخر ستة أسياف، وأدراع منها درع كسرى ومغافره، ودرع هرقل، ودرع خاقان ملك الترك، ودرع داهر ملك الهند، ودرع بهرام جوبين،؛ ودرع سياوخش، ودرع النعمان استلبها الفرس أيام غزاهم خاقان، وهرقل، وداهر، وأما النعمان وجوبين فحين هربا من كسرى والسيوف من سيوف كسرى، وهرمز، وقباذ، وفيروز، وهرقل، وخاقان وداهر، وبهرا م، وسياوخش، والنعمان فأحضر القعقاع الجميع عند سعد فخيره بين الأسياف فاختار سيف هرقل، وأعطاه درع بهرام ونفل سائرها في الخرساء إلا سيف كسري، والنعمان بعث بهما إلى عمر بن الخطاب لتسمع العرب بذلك
516

وحسبوهما في الأخماس. وبعثوا بتاج كسرى وحليته وثيابه إلى عمر ليراه المسلمون.
وأدرك عصمة بن خالد الضبي رجلين معهما حماران فقتل أحدهما وهرب الأخر
وأخذ الحمارين فأتى بهما صاحب الأقباض فإذا على أحدهما سفطان في أحدهما فرس من ذهب بسرج من فضة، وعلى ثفره ولببه الياقوت والزمرد المنظوم على الفضة، ولجام كذلك، وفارس من فضة مكلل بالجوهر، وفي الآخر ناقة من فضة عليها شليل من ذهب، وبطان من ذهب، ولها زمام من ذهب، وكل ذلك منظوم بالياقوت
، وعليها رجل من ذهب مكلل بالجواهر كان كسرى يضعهما على أسطوانتي التاج.
وأقبل رجل بحق إلى صاحب الأقباض فقال: هو والذين معه: ما رأينا مثل هذا [قط] ما يعدله ما عندنا ولا يقاربه، فقالوا: هل أخذت منه شيئا؟ فقال: والله لولا الله ما أتيتكم به. فصالوا: من أنت؟ فقال: والله لا أخبركم فتحمدوني ولكني أحمد الله وأرضى بثوابه. فأتبعوه رجلا، فسأل عنه. فإذا هو عامر بن عبد قيس. وقال سعد: والله إن الجيش لذو أمانة ولولا ما سبق لأهل بدر لقلت إنهم على فضل أهل بدر لقد تتبعت منهم هناة ما أحسبها من هؤلاء.
وقال جابر بن عبد الله: والذي لا إله إلا هو ما أطلعنا على أحد من أهل القادسية أنه يريد الدنيا مع الآخرة فلقد اتهمنا ثلاثة نفر فما رأينا كأمانتهم وزهدهم. وهم طليحة، وعمرو بن معد يكرب، وقيس بن المكشوح، وقال عمر لما قدم عليه بسيف كسري ومنطقته وبزبرجه: إن قوما
517

أدوا هذا لذوو أمانة. فقال علي: إنك عففت فعفت الرعية.
فلما جمعت الغنائم قسم سعد الفيء بين الناس بعدما خمسه، وكانوا ستين ألفا، فأصاب الفارس اثني عشر ألفا، وكلهم كان فارسا نيس فيهم راجل، ونفل من الأخماس في أهل البلاء وقسم المنازل بين الناس، وأحضر العيالات فأنزلهم الدور فأقاموا بالمدائن حتى فرغوا من جلولاء وحلوان، وتكريت، والموصل، ثم تحولوا إلى الكوفة، وأرسل سعد في الخمس كل شيء أراد أن يعجب منه العرب وما كان يعجبهم أن يقع، وأراد إخراج خمس القطيف فلم تعتدل قسمته، وهو بهار كسرى، فقال للمسلمين: هل تطيب أنفسكم عن أربعة أخماسه فنبعث به إلى عمر يضعه حيث يشاء؟ فإنا لا نراه ينقسم وهو بيننا قليل وهو يقع من أهل المدينة موقعا. فقالوا: نعم. فبعثه إلى عمر. والقطيف بساط واحد طوله ستون ذراعا وعرضه ستون ذراعا مقدار جريب كانت الأكاسرة تعده للشتاء إذا ذهبت الرياحين شربوا عليه فكأنهم في رياض فيه طرق كالصور، وفيه فصوص كالأنهار أرضها مذهبة، وخلال ذلك فصوص كالدر، وفي حافاته كالأرض المزروعة والأرض المبقلة بالنبات في الربيع والورق من الحرير على قضبان، الذهب وزهره الذهب والفضة، وثمره الجوهر وأشباه ذلك، وكانت العرب تسميه القطيف.
فلما قدمت الأخماس على عمر نفل منها من غاب ومن شهد من أهل البلاء، ثم قسم الخمس في مواضعه. ثم قال: أشيروا على في هذا القطيف فمن بين مشير بقبضه، وآخر مفوض إليه، فقال له علي: لم يجعل الله علمك جهلا، ويقينك شكا إنه ليس لك من الدنيا إلا ما أعطيت فأمضيت، أو لبست فأبليت، أو أكلت فأفنيت، وإنك إن تبقه على هذا اليوم لم تعدم في غد من يستحق به ما ليس له. فقال: صدقتني، ونصحتني. فقطعه بينهم فأصاب
518

عليا قطعة منه فباعها بعشرين ألفا، وما هي بأجود تلك القطع.
وكان الذي سار بالأخماس بشير بن الخصاصية، وأثنى الناس على أهل القادسية فقال عمر: أولئك أعيان العرب، ولما رأى عمر سيف النعمان سأل جبير بن مطعم عن نسب النعمان فقال جبير: كانت العرب تنسبه إلى أشلاء قنص، وكان أحد بني عجم بن قنص. فجهل الناس عجم فقالوا: لخم فنفله سيفه، وولى عمر بن الخطاب سعد بن أبي وقاص صلاة ما غلب عليه وحربه، وولى الخراج النعمان وسويدا ابني عمرو بن مقرن، سويدا على ما سقت الفرات، والنعمان على ما سقت دجلة، ثم استعفيا فولي عملهما حذيفة أبي أسيد، وجابر بن عمرو المزني، ثم ولي عملهما بعد حذيفة ابن النعمان، وعثمان بن حنيف.
(حذيفة بن أسيد بفتح الهمزة وكسر السين).
ذكر وقعة جلولاء وفتح حلوان
وفي هذه السنة كانت وقعة جلولاء.
وسببها أن الفرس لما انتهوا بعد الهرب من المدائن إلى جلولاء وافترقت
519

الطرق بأهل أذربيجان والباب، وأهل الجبال، وفارس وقالوا: لو افترقتم لم تجتمعوا أبدا، وهذا مكان يفرق بيننا، فهلموا فلنجتمع للعرب به، ولنقاتلهم فإن كانت لنا فهو الذي نحب، وإن كانت الأخرى كنا قد قضينا الذي علينا وأبدينا عذرا.
فاحتفروا خندقا، واجتمعوا فيه على مهران الرازي، وتقدم يزدجرد إلى حلوان وأحاطوا خندقهم بحسك الحديد إلا طرقهم.
فبلغ ذلك سعدا، فأرسل بذلك إلى عمر، فكتب إليه أن عمر: أن سرح هاشم بن عتبة إلى جلولاء واجعل على مقدمته القعقاع بن عمرو، وإن هزم الله الفرس فاجعل القعقاع بين السواد والجبل على حد سوادكم، وليكن الجند اثني عشر ألفا.
ففعل سعد ذلك. وسار هاشم من المدائن بعد قسمة الغنيمة في اثني عشر ألفا منهم وجوه المهاجرين، والأنصار، وأعلام العرب ممن كان ارتد ومن لم يرتد، فسار من المدائن فمر ببابل مهروذ، فصالحه دهقانها على أن يفرش له جريب الأرض دراهم، ففعل وصالحه، ثم مضى حتى قدم جلولاء فحاصرهم في خنادقهم وأحاط بهم وطاولهم الفرس، وجعلوا لا يخرجون [إليهم] إلا إذا أرادوا وزاحفهم المسلمون نحو ثمانين يوما كل ذلك ينصر المسلمون عليهم، وجعلت الأمداد ترد من يزدجرد إلى مهران وأمد سعد المسلمين، وخرجت الفرس، وقد اختلفوا فاقتتلوا؛ فأرسل الله عليهم الريح حتى أظلمت عليهم البلاد فتحاجزوا فسقط فرسانهم في الخندق فجعلوا فيه طرقا مما يليهم تصعد منه خيلهم فأفسدوا حصنهم، وبلغ ذلك المسلمين فنهضوا إليهم وقاتلوهم قتالا شديدا لم يقتتلوا مثله إلا ليلة الهرير إلا أنه كان أعجل، وانتهى القعقاع بن عمرو من الوجه الذي زحف فيه إلى باب خندقهم، فأخذ به وأمر مناديا فنادي: يا معشر المسلمين هذا أميركم قد دخل الخندق، وأخذ به
520

فأقبلوا إليه ولا يمنعكم من بينكم وبينه من دخوله، وإنما أمر بذلك ليقوي المسلمين فحملوا ولا يشكون بأن هاشما في الخندق فإذا هم بالقعقاع بن عمرو، وقد أخذ به، فانهزم المشركون عن المجال يمنة ويسرة فهلكوا فيما أعدوا من الحسك، فعقرت دوابهم وعادوا رجالة، واتبعهم المسلمون فلم يفلت منهم إلا من لا يعد، وقتل يومئذ منهم مائة ألف فجللت القتلى المجال وما بين يديه وما خلفه فسميت جلولاء بما جللها من قتلاهم فهي جلولاء الوقيعة، فسار القعقاع بن عمرو في الطلب حتى بلغ خانقين.
ولما بلغت الهزيمة يزدجرد سار من حلوان نحو الري، وقدم القعقاع حلوان فنزلها في جند من الأفناء والحمراء، وكان فتح جلولاء في ذي القعدة سنة ست عشرة. ولما سار يزدجرد عن حلوان استخلف عليها خشرشنوم، فلما وصل القعقاع قصر شيرين خرج عليه خشرشنوم وقدم إليه الزينبي دهقان حلوان فلقيه القعقاع فقتل الزينبي وهرب خشرشنوم واستولى المسلمون على حلوان، وبقي القعقاع بها إلى أن تحول سعد إلى الكوفة فلحقه القعقاع واستخلف علن حلوان قباذ، وكان أصله خراسانيا.
وكتبوا إلى عمر بالفتح وبنزول القعقاع حلوان وأستأذنوه في اتباعهم فأبن وقال: لوددت أن بين السواد وبين الجبل سدا لا يخلصون إلينا ولا نخلص إليهم، حسبنا من الريف السواد إني آثرت سلامة المسلمين على الأنفال. وأدرك القعقاع في اتباعه الفرس مهران بخانقين فقتله، وأدرك الفيرزان فنزل وتوغل في الجبل فتحامى، وأصاب القعقاع سبايا فأرسلهن إلى هاشم
521

فقسمهن فاتخذن فولدن، وممن ينسب إلى ذلك السبي أم الشعبي.
قسمت الغنيمة وأصاب كل واحد من الفوارس تسعة آلاف وتسعة من الدواب؛ وقيل: إن الغنيمة كانت ثلاثين ألف ألف فقسمها سلمان بن ربيعة، وبعث سعد بالأخماس إلى عمر، وبعث الحساب مع زياد بن أبيه فكلم عمر فيما جاء له ووصف له فقال عمر: هل تستطيع أن تقوم في الناس بمثل ما كلمتني به؟ فقال: والله ما على الأرض شخص أهيب في صدري منك فكيف لا أقوى على هذا من غيرك؟ فقام في الناس بما أصابوا وما صنعوا وبما يستأنفون من الانسياح في البلاد، فقال عمر: هذا الخطيب المصقع. فقال: إن جندنا أطلقوا ألسنتنا.
فلما قدم الخمس على عمر قال: والله لا يجنه سقف حتى أقسمه. فبات عبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن الأرقم يحرسانه في المسجد، فلما أصبح جاء في الناس فكشف عنه فلما نظر إلى ياقوته وزبرجده وجوهره بكى
. فقال له عبد الرحمن بن عوف: ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟ فوالله إن هذا لموطن شكر. فقال عمر: والله ما ذلك يبكيني، وبالله ما أعطى الله هذا قوما إلا تحاسدوا وتباغضوا، ولا تحاسدوا إلا ألقى الله بأسهم بينهم، ومنع عمر من قسمة السواد لتعذر ذلك بسبب الآجام، والغياض، وتبعيض المياه، وما كان لبيوت النار ولسكك البرد، وما كان لكسري ومن جامعه، ومن كان لمن قتل والأرحام، وخاف أيضا الفتنة بين المسلمين فلم يقسمه، ومنع من بيعه لأنه لم يقسم وأقروها حبيسا يولونها من أجمعوا عليه بالرضا،
522

وكانوا لا يجمعون إلا على الأمراء، فلا يحل بيع شيء من أرض السواد ما بين حلوان والقادسية. واشترى جرير أرضا على شاطىء الفرات فرد عمر ذلك الشراء وكرهه.
ذكر فتح تكريت، والموصل
وفي هذه السنة فتحت تكريت في جمادى.
وسبب ذلك أن الأنطاق سار من الموصل إلى تكريت وخندق عليه ليحمي أرضه، ومعه الروم، وإياد، وتغلب، والنمر، والشهارجة، فبلغ ذلك سعدا فكتب إلى عمر فكتب إليه عمر أن سرح إليه عبد الله بن المعتم واستعمل على مقدمته ربعي بن الأفكل، وعلى الخيل عرفجة بن هرثمة، فسار عبد الله إلى تكريت ونزل على الأنطاق فحصره، ومن معه أربعين يوما فتزاحفوا أربعة وعشرين زحفا، وكانوا أهون شوكة من أهل جلولاء، وأرسل عبد الله بن المعتم إلى العرب الذين مع الأنطاق يدعوهم إلى نصرته وكانوا لا يخفون عليه شيئا، ولما رأت الروم المسلمين ظاهرين عليهم تركوا أمراءهم ونقلوا متاعهم إلى السفن، فأرسلت تغلب، وإياد، والنمر إلى عبد الله بالخبر، وسألوه الأمان وأعلموه أنهم معه، فأرسل إليهم: إن كنتم صادقين فأسلموا فأجابوه وأسلموا، فأرسل إليهم عبد الله: إذا سمعتم تكبيرنا فاعلموا أنا أخذنا أبواب الخندق فخذوا الأبواب التي تلي دجلة وكبروا واقتلوا من قدرتم عليه.
ونهد عبد الله والمسلمون وكبروا وكبرت تغلب، وإياد، والنمر وأخذوا الأبواب، فظن الروم أن المسلمين قد أتوهم من خلفهم مما يلي دجلة فقصدوا
523

الأبواب التي عليها المسلمون، وأخذتهم سيوف المسلمين وسيوف الربعيين الذين أسلموا تلك الليلة فلم يفلت من أهل الخندق إلا من أسلم من تغلب، وإباد، والنمر، وأرسل عبد الله بن المعتم ربعي بن الأفكل إلى الحصنين، وهما نينوى والموصل فسمى نينوى الحصن الشرقي، وسمى الموصل الحصن الغربي، وقال: أسبق الخبر وسرح ومعه تغلب، وإياد، والنمر فقدمهم ابن الأفكل إلى الحصنين فسبقوا الخبر وأظهروا الظفر والغنيمة وبشروهم ووقفوا بالأبواب وأقبل ابن الأفكل فاقتحم عليهم الحصنين وكلبوا أبوابهما فنادوا بالإجابة إلى الصلح وصاروا ذمة وقسموا الغنيمة، فكان سهم الفارس ثلاثة آلاف درهم، وسهم الراجل ألف درهم وبعثوا بالأخماس إلى عمر. وولى حرب الموصل ربعي بن الأفكل، والخراج عرفجة بن هرثمة.
وقيل: إن عمر بن الخطاب استعمل عتبة بن فرقد على قصد الموصل وفتحها سنة عشرين فأتاها فقاتله أهل نينوى فأخذ حصنها، وهو الشرقي عنوة وعبر دجلة فصالحه أهل الحصن الغربي وهو الموصل على الجزية؛ ثم فتح المرج، وبانهذرا، وباعذرا، وحبتون، وداسن، وجميع معاقل الأكراد. وقردى، وبازبدى، وجميع أعمال الموصل فصارت للمسلمين.
وقيل: إن عياض بن غنم لما فتح بلدا على ما نذكره أتى الموصل ففتح أحد الحصنين، وبعث عتبة بن فرقد إلى الحصن الآخر ففتحه على الجزية والخراج. والله أعلم.
(المعتم بضم الميم وسكون العين المهملة وآخره ميم مشددة).
524

ذكر فتح ما سبذان
ولما رجع هاشم من جلولاء إلى المدائن بلغ سعدا أن آذين بن الهرمزان قد جمع جمعا وخرج بهم إلى السهل. فأرسل إليهم ضرار بن الخطاب في جيش فالتقوا بسهل ما سبذان فاقتتلوا، فأسرع المسلمون في المشركين، وأخذ ضرار آذين أسيرا فضرب رقبته، ثم خرج في الطلب حتى انتهى إلى السيروان فأخذ ماسبذان عنوة فهرب أهلها في الجبال فدعاهم فاستجابوا له وأقام بها حق تحول سعد إلى الكوفة فأرسل إليه فنزل الكوفة، واستخلف على ماسبذان ابن الهذيل الأسدي فكانت أحد فروج الكوفة. وقيل: إن فتحها كان بعد وقعة نهاوند.
ذكر فتح قرقيسيا
ولما رجع هاشم من جلولاء إلى المدائن، وقد اجتمعت جموع أهل الجزيرة فأمدوا هرقل على أهل حمص، وبعثوا جندا إلى أهل هيت، فأرسل سعد عمر بن مالك بن عتبة بن نوفل بن عبد مناف في جند، وجعل على فقدمته الحارث بن يزيد العامري، فخرج عمر بن مالك في جنده نحو هيت فنازل من بها وقد خندقوا عليهم، فلما رأى عمر بن مالك اعتصامهم بخندقهم ترك الأخبية على حالها وخلف عليهم الحارث بن يزيد يحاصرهم، وخرج في نصف الناس فجاء قرقيسيا على غرة فأخذها عنوة فأجابوا إلى الجزية، وكتب إلى الحارث
525

ابن يزيد: إن هم استجابوا فخل عنهم فليخرجوا وإلا فخندق على خندقهم خندقا أبوابه مما يليك حتى أرى رأي، فراسلهم الحارث فأجابوا إلى العود إلى بلادهم فتركهم، وسار الحارث إلى عمر بن مالك.
* * *
وفيها غرب عمر بن الخطاب أبا محجن الثقفي إلى ناصع. وفيها تزوج ابن عمر صفية بنت أبي عبيد أخت المختار. وفيها حمى عمر الربذة لخيل المسلمين. وفيها ماتت مارية أم إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلى عليها عمر ودفنها بالبقيع في المحرم. وفيها كتب عمر التاريخ بمشورة علي بن أبي طالب. وحج بالناس في هذه السنة عمر بن الخطاب، واستخلف على الملينة زيد بن ثابت. وكان عماله على البلاد كانوا في السنة قبلها، وكان على حرب الموصل ربعي بن الأفكل، وعلى خراجها عرفجة بن هرثمة، وقيل: كان على الحرب والخراج بها عتبة بن فرقد، وقيل كان ذلك كله إلى عبد الله بن المعتم، وعلى الجزيرة عياض بن غنم.
526

17
ثم دخلت سنة سبع عشرة
ذكر بناء الكوفة والبصرة
في هذه السنة اختطت الكوفة، وتحول سعد إليها من المدائن.
وكان سبب ذلك أن سعدا أرسل وفدا إلى عمر بهذه الفتوح المذكورة فلما رآهم عمر سألهم عن تغير ألوانهم وحالهم، فقالوا: وخومة البلاد غيرتنا. فأمرهم عمر أن يرتادوا منزلا ينزله الناس. وكان قد حضر مع الوفد نفر من بني تغلب ليعاقدوا عمر على قومهم فقال لهم عمر: أعاقدهم على أن من أسلم منكم كان له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، ومن أبى فعليه الجزية. فقالوا: إذن يهربون ويصيرون عجما، وبذلوا له الصدقة، فأبى فجعلوا جزيتهم مثل صدقة المسلم فأجابهم على أن لا ينصروا وليدا. فهاجر هؤلاء التغلبيون ومن أطاعهم من النمر، وإياد إلى سعد بالمدائن ونزلوا بالمدائن ونزلوا معه بعد بالكوفة.
وقيل: بل كتب حذيفة إلى عمر: إن العرب قد رقت بطونها، وجفت أعضادها، وتغيرت ألوانها. وكان مع سعد فكتب عمر إلى سعد: أخبرني ما الذي غير ألوان العرب ولحومهم؟ فكتب إليه سعد: إن الذي غيرهم وخومة البلاد إن العرب لا يوافقها إلا ما وافق إبلها من البلدان. فكتب إليه عمر: أن ابعث سلمان وحذيفة رائدين فليرتادا منزلا بريا بحريا ليس بيني وبينكم فيه بحر ولا جسر. فأرسلهما سعد فخرج سلمان حتى أتى الأنبار فسار في
527

غربي الفرات لا يرضى شيئا حتى أتى الكوفة، وسار حذيفة في شرقي الفرات لا يرض شيئا حتى أتى الكوفة، وكل رملة وحصباء مختلطين فهو كوفة فأتيا عليها، وفيها ديرات ثلاثة: دير حرمة، ودير أم عمرو، ودير سلسلة، وخصاص خلال ذلك. فأعجبتهما البقعة فنزلا فصليا ودعوا الله تعالى أن يجعلهما منزل الثبات، فلما رجعا إلى سعد بالخبر، وقدم كتاب عمر إليه أيضا كتب سعد إلى القعقاع بن عمرو، وعبد الله بن المعتم أن يستخلفا على جندهما ويحضرا عنده، ففعلا فارتحل سعد [بالناس] من المدائن حتى نزل الكوفة في المحرم سنة سبع عشرة، وكان بين نزول الكوفة ووقعة القادسية سنة وشهران، وكان فيما بين قيام عمر واختطاط الكوفة
ثلاث سنين وثمانية أشهر. ولما نزلها سعد كتب إلى عمر إني قد نزلت بالكوفة مغزلا فيما بين الحيرة والفرات بريا وبحريا ينبت الحلفاء والنصي وخيرت المسلمين بينها وبين المدائن، فمن أعجبه المقام بالمدائن تركته فيها كالمسلحة. ولما استقروا بها عرفوا أنفسهم ورجع إليهم ما كانوا فقدوا من قوتهم، واستأذن أهل الكوفة في بنيان القصب، واستأذن فيه أهل البصرة أيضا، واستقر منزلهم فيها في الشهر الذي نزل أهل الكوفة بعد ثلاث نزلات قبلها.
فكتب إليهم إن العسكر أشد لحربكم وأذكر لكم وما أحب أن أخالفكم.
فابتنى أهل المصرين بالقصب، ثم إن الحريق وقع في الكوفة والبصرة وكانت الكوفة أشد حريقا في شوال، فبعث سعد نفرا منهم إلى عمر يستأذنونه
528

في البنيان باللبن فقدموا عليه بخبر الحريق واستئذانه أيضا فقال: افعلوا، ولا يزيدن أحدكم على ثلاث أبيات ولا تطاولوا في البنيان، وألزموا السنة تلزمكم الدولة. فرجع القوم إلى الكوفة بذلك، وكتب عمر إلى البصرة بمثل ذلك.
وكان على تنزيل الكوفة أبو هياج بن مالك. وعلى تنزيل البصرة عاصم بن دلف أبو الجرباء وقدر المناهج أربعين ذراعا، وما بين ذلك عشرين ذراعا، والأزقة سبع أذرع، والقطائع ستين ذراعا، وأول شيء خط فيهما وبنى مسجداهما، وقام في وسطهما رجل شديد النزع فرمى في كل جهة بسهم وأمر أن يبنى ما وراء ذلك، وبنى ظلة في مقدمة مسجد الكوفة على أساطين رخام من بناء الأكاسرة في الحيرة، وجعلوا على الصحن خندقا لئلا يقتحمه أحد ببنيان. وبنوا لسعد دارا بحياله وهي قصر الكوفة اليوم بناه روزبه من آجر بنيان الأكاسرة بالحيرة، وجعل الأسواق على شبه المساجد من سبق إلى مقعد فهو له حتى يقوم منه إلى بيته، ويفرغ من بيعه.
وبلغ عمر أن سعدا قال، وقد سمع أصوات الناس من الأسواق، سكنوا عني، الصويت، وأن الناس يسمونه قصر سعد، فبعث محمد بن مسلمة إلى الكوفة وأمرها أن يحرق باب القصر ثم يرجع، ففعل، فبلغ سعدا ذلك فقال: هذا رسول أرسل لهذا، فاستدعاه سعد فأبى أن يدخل إليه فخرج إليه سعد وغرض عليه نفقة فلم يأخذ، وأبلغه كتاب عمر إليه: بلغني أنك
529

اتخذت قصرا جعلته حصنا ويسمى قصر سعد لا بينك وبين الناس باب، فليس بقصرك ولكنه قصر الخبال انزل منه [منزلا] مما يلي بيوت الأموال وأغلقه، ولا تجعل على القصر بابا يمنع الناس من دخوله فحلف له سعد ما قال الذي قالوا، فرجع محمد فأبلغ عمر قول سعد فصدقه.
وكانت ثغور الكوفة أربعة، حلوان، وعليها القعقاع، وماسبذان، وعليها ضرار بن الخطاب، وقرقيسيا، وعليها عمر بن مالك، أو عمرو بن عتبة بن نوفل، والموصل وعليها عبد الله بن المعتم. وكان بها خلفاؤهم إذا غابوا عنها؛ وولى سعد الكوفة بعدما اختطت ثلاث سنين ونصفا سوى ما كان بالمدائن قبلها.
ذكر خبر حمص حين قصد هرقل من بها من المسلمين
وفي هذه السنة قصد الروم أبا عبيدة بن الجراح ومن معه من المسلمين بحمص، وكان المهيج للروم أهل الجزيرة فإنهم أرسلوا إلى ملكهم وبعثوه على إرسال الجنود إلى الشام ووعدوا من أنفسهم المعاونة ففعل ذلك، فلما سمع المسلمون باجتماعهم ضم أبو عبيدة إليه مسالحه وعسكر بفناء مدينة حمص، وأقبل خالد من قنسرين إليهم فاستشارهم أبو عبيدة في المناجزة أو التحصين إلى مجيء الغياث فأشار خالد بالمناجزة وأشار سائرهم بالتحصين ومكاتبة عمر فأطاعهم، وكتب إلى عمر بذلك وكان عمر قد اتخذ في كل مصر خيولا على قدره من فضول أموال المسلمين عدة لكون إن كان؛ فكان بالكوفة من ذلك أربعة آلاف فرس، وكان القيم عليها سلمان بن ربيعة الباهلي ونفر من أهل الكوفة، وفي كل مصر من الأمصار الثمانية على قدره فإن
530

تأتهم آتية ركبها الناس وساروا إلى أن يتجهز الناس.
فلما سمع عمر الخبر كتب إلى سعد أن اندب الناس مع القعقاع بن عمرو وسرحهم من يومهم فإن أبا عبيدة قد أحيط به. وكتب اليه أيضا سرح سهيل بن عدي إلى الرقة فإن أهل الجزيرة هم الذين استثاروا الروم على أهل حمص وأمره أن يسرح عبد الله بن عتبان إلى نصيبين ثم ليقصد حران والرها وأن يسرح الوليد بن عقبة على عرب الجزيرة من ربيعة وتنوخ، وأن يسرح عياض بن غنم فإن كان قتال فأمرهم إلى عياض.
فمضى القعقاع في أربعة آلاف من يومهم إلى حمص، وخرج عياض بن غنم وأمراء الجزيرة وأخذوا طريق الجزيرة وتوجه كل أمير إلى الكورة التي أفر عليها، وخرج عمر من المدينة فأتى الجابية لأبي عبيدة مغيثا يريد حمص.، ولما بلغ أهل الجزيرة الذي أعانوا الروم على أهل حمص.
وهم معهم خبر الجنود الإسلامية تفرقوا إلى بلادهم وفارقوا الروم، فلما فارقوهم استشار أبو عبيدة خالدا في الخروج إلى الروم فأشار به فخرج إليهم فقاتلهم ففتح الله عليه، وقدم القعقاع لن عمرو لعد الوقعة بثلاثة أيام فكتبوا إلى عمر بالفتح، وبقدوم المدد عليهم، والحكم في ذلك فكتب إليهم أن أشركوهم فإنهم نفروا إليكم، وانفرق لهم عدوكم، وقال: جزئ الله أهل الكوفة خيرا يكفون حوزتهم ويمدون أهل الأمصار. فلما فرغوا رجعوا.
531

ذكر فتح الجزيرة وإرمينية
وفي هذه السنة فتحت الجزيرة.
قد ذكرنا إرسال سعد العساكر إلى الجزيرة، فخرج عياض بن غنم ومن معه فأرسل سهيل بن عدي إلى الرقة، وقد أرفض أهل الجزيرة عن حمص إلى كورهم حين سمعوا بأهل الكوفة فنزل عليهم فأقام يحاصرهم حتى صالحوه فبعثوا في ذلك إلى عياض وهو في منزل وسط بين الجزيرة، فقبل منهم وصالحهم وصاروا ذمة. وخرج عبد الله بن عتبان على الموصل إلى نصيبين فلقوه بالصلح وصنعوا كصنع أهل الرقة فكتبوا إلى عياض فقبل منهم وعقد لهم. وخرج الوليد بن عقبة فقدم على عرب الجزيرة فنهض معه مسلمهم وكافرهم إلا إياد بن نزار فإنهم دخلوا أرض الروم فكتب الوليد بذلك إلى عمر.
ولما أخذوا الرقة ونصيبين ضم عياض إليه سهيلا، وعبد الله، وسار بالناس إلى حران، فلما وصل أجابه أهلها إلى الجزية فقبل منهم، ثم ان عياضا سرح سهيلا، وعبد الله إلى الرها فأجابوهما إلى الجزية وأجروا كل ما أخذوه من الجزيرة عنوة مجرى الذمة فكانت الجزيرة أسهل البلدان فتحا، ورجع سهيل، وعبد الله إلى الكوفة. وكتب أبو عبيدة إلى عمر بعد
انصرافه من الجابية يسأله أن يضم إليه عياض بن غنم إذا أخذ خالدا إلى المدينة، فصرفه إليه فاستعمل حبيب بن مسلمة على عجم الجزيرة وحربها، والوليد بن عقبة على عربها.
532

فلما قدم كتاب الوليد على عمر بمن دخل الروم من العرب كتب عمر إلى ملك الروم: بلغني أن حيا من أحياء العرب ترك دارنا وأتى دارك فوالله لتخرجنه إلينا أو لنخرجن النصارى إليك. فأخرجهم ملك الروم فخرج منهم أربعة آلاف وتفرق بقيتهم فيما يلي الشام والجزيرة من بلاد الروم فكل إيادي في أرض العرب من أولئك الأربعة آلاف؛ وأبن الوليد بن عقبة أن يقبل من تغلب إلا الاسلام فكتب فيهم إلى عمر فكتب إليه عمر: إنما ذلك بجزيرة العرب لا يقبل منهم [فيها] إلا الاسلام فدعهم على أن لا ينضروا وليدا، ولا يمنعوا أحدا منهم من الاسلام، وكان في تغلب عز وامتناع فهم، بهم الوليد فخاف عمر أن يسطو عليهم فعزله وأقر عليهم فرات بن حيان، وهند بن عمرو الجملي.
وقال ابن إسحاق: إن فتح الجزيرة كان سنة تسع عشرة. وقال: إن عمر كتب إلى سعد بن أبي وقاص: إذا فتح الله الشام والعراق فابعث جندا إلى الجزيرة وأفر عليه خالد بن عرفطة، أو هاشم بن عتبة، أو عياض بن غنم، قال سعد: ما أخر أمير المؤمنين عياضا إلا لأن له فيه هوى وأنا موليه. فبعثه وبعث معه جيشا فيه أبو موسى الأشعري وابنه عمر بن سعد ليس له من الأمر شيء فسار عياض ونزل بجنده على الرها فصالحه أهله مصالحة حران، وبعث أبا موسى إلى نصيبين فافتتحها، وسار عياض بنفسه إلى دارا فافتتحها، ووجه عثمان بن أبي العاص إلى إرمينية الرابعة فقاتل أهلها فاستشهد صفوان بن المعطل وصالح أهلها عثمان على الجزية. ثم كان فتح قيسارية من فلسطين، وهرب هرقل.
فعلى هذا القول تكون الجزيرة من فتوح أهل العراق، والأكثر على أنها
533

من فتوح أهل الشام، فإن أبا عبيدة سير عياض بن غنم إلى الجزيرة.
وقيل: إن أبا عبيدة لما توفي أستخلف عياضا فورد عليه كتاب عمر بولايته حمص، وقنسرين، والجزيرة فسار إلى الجزيرة سنة ثمان عشرة للنصف من شعبان في خمسة آلاف، وعلى ميمنته سعيد بن عامر بن حذيم الجمحي، وعلى ميسرته صفوان بن المعطل، وعلى مقدمته هبيرة بن مسروق، فانتهت طليعة عياض إلى الرقة فأغاروا على الفلاحين وحصروا المدينة؛ وبث عياض السرايا فأتوه بالأسرى والأطعمة وكان حصرها ستة أيام فطلب أهلها الصلح فصالحهم على أنفسهم وذراريهم وأموالهم ومدينتهم؛ وقال عياض: الأرض لنا قد وطئناها وملكناها. فأقرها في أيديهم على الخراج ووضع الجزية، ثم سار إلى حران فجعل عليها عسكرا يحصرها، عليهم صفوان بن المعطل، وحبيب بن مسلمة وسار هو إلى الرها فقاتله أهلها. ثم انهزموا، وحصرهم المسلمون في مدينتهم فطلب أهلها الصلح فصالحهم وعاد إلى حران فوجد صفوان وحبيبا قد غلبا على حصون وقرى من أعمال حران فصالحه أهلها على مثل صلح الرها.
وكان عياض يغزو ويعود إلى الرها وفتح سميساط، وأتى سروج، ورأس كيفا؛ والأرض البيضاء فصالحه أهلها علن صلح الرها. ثم إن أهل سميساط غدروا فرجع إليهم عياض فحاصرهم حتى فتحها، ثم أتى قريات على الفرات وهي جسر منبج وما يليها ففتحها، وسار إلى رأس عين، وهي عين الوردة فامتنعت عليه وتركها وسار إلى تل موزن ففتحها على صلح الرها سنة تسع عشرة، وسار إلى آمد فحصرها فقاتله أهلها ثم صالحوه على صلح الرها وفتح ميافارقين على مثل ذلك، وكفرتوثا فسار إلى نصيبين فقاتله أهلها، ثم صالحوه على مثل صلح الرها؛ وفتح طور عبدين، وحصن ماردين، وقصد الموصل ففتح أحد الحصنين، وقيل: لم يصل إليها وأتاه بطريق
534

الزوزان فصالحه ثم سار إلى أرزن ففتحها، ودخل الدرب فأجازه إلى بدليس، وبلغ خلاط فصالحه بطريقها وانتهى إلى العين الحامضة من إرمينية. ثم عاد إلى الرقة ومضى إلى حمص فمات سنة عشرين.
واستعمل عمر سعيد بن عامر بن حذيم فلم يلبث إلا قليلا حتى مات؛ فاستعمل عمير بن سعد الأنصاري ففتح رأس عين بعد قتال شديد.
وقيل: إن عياضا أرسل عمير بن سعد إلى رأس عين ففتحها بعد أن اشتد قتاله عليها، وقيل: إن عمر أرسل أبا موسى الأشعري إلى رأس عين بعد وفاة عياض. وقيل: إن خالد بن الوليد حضر فتح الجزيرة مع عياض ودخل حماما بآمد فأطلي بشيء فيه خمر فعزله عمر، وقيل: إن خالدا لم يسر تحت لواء أحد غير أبي عبيدة والله أعلم.
ولما فتح عياض سميساط بعث حبيب بن مسلمة إلى ملطية ففتحها عنوة، ثم نقض أهلها الصلح، فلما ولي معاوية الشام والجزيرة وجه إليها حبيب بن مسلمة أيضا ففتحها عنوة ورتب فيها جندا من المسلمين مع عاملها.
ذكر عزل خالد بن الوليد
في هذه السنة وهي سنة عشرة عزل خالد بن الوليد عما كان عليه من التقدم على الجيوش والسرايا، وسبب ذلك أنه كان أدرب هو وعياض بن غنم فأصابا أموالا عظيمة وكانا توجها من الجابية مرجع عمر إلى المدينة، وعلى حمص أبو عبيدة، وخالد تحت يده على قنسرين، وعلى دمشق يزيد، وعلى الأردن معاوية، وعلى
535

فلسطين علقمة بن مجزر، وعلن الساحل عبد الله بن قيس، فبلغ الناس ما أصاب خالد فانتجعه رجال وكان منهم الأشعث بن قيس فأجازه بعشرة آلاف.
ودخل خالد الحمام فتدلك بغسل فيه خمر فكتب إليه عمر: (بلغني أنك تدلكت بخمر وإن الله قد حرم ظاهر الخمر وباطنه ومسه فلا تمسوها أجسادكم. فكتب إليه خالد إنا قتلناها فعادت غسولا غير. خمر. فكتب إليه عمر: إن آل المغيرة ابتلوا بالجفاء فلا
فلا أماتكم الله عليه.
فلما فرق خالد في الذين انتجعوه الأموال سمع بذلك عمر بن الخطاب، وكان لا يخفى عليه شيء من عمله، فدعا عمر البريد فكتب معه إلى أبي عبيدة أن يقيم خالدا ويعقله بعمامته وينزع عنه قلنسوته حتى يعلمكم من أين أجاز الأشعث؟ أمن ماله أم من مال إصابة أصابها؟ فإن زعم أنه فرقه من إصابة أصابها فقد أقر بخيانة، وإن زعم أنه من ماله فقد أسرف واعزله على كل حال واضمم إليك عمله، فكتب أبو عبيدة إلى خالد فقدم عليه ثم جمع الناس وجلس لهم على المنبر، فقام البريد فسأل خالدا، من أين أجاز الأشعث؟ فلم يجبه، وأبو عبيدة ساكت لا يقول شيئا، فقام بلال فقال: إن أمير المؤمنين أمر فيك بكذا وكذا ونزوع عمامته فلم يمنعه سمعا وطاعة، ووضع قلنسوته، ثم أقامه فعقله بعمامته، وقال: من أين أجزت الأشعث من مالك أجزت؟ أم من إصابة أصبتها؟ فقال: بل من مالي؛ فأطلقه وأعاد قلنسوته ثم عممه بيده ثم قال: نسمع ونطيع لولاتنا ونفخم ونخدم موالينا.
قال: وأقام خالد متحيرا لا يدري أمعزول أو غير معزول؟ ولا يعلمه أبو عبيدة بذلك تكرمة وتفخمة، فلما تأخر قدومه على عمر ظن الذي كان، فكتب إلى خالد بالإقبال إليه، فرجع إلى قنسرين فخطب الناس وودعهم
536

ورجع إلى حمص فخطبهم، ثم سار إلى المدينة، فلما قدم على عمر شكاه، وقال: قد شكوتك إلى المسلمين فبالله إنك في أمري لغير مجمل فقال له عمر: من أين هذا الثراء؟ قال: من الأنفال والسهمان ما زاد على ستين ألفا فلك. فقوم عمر ماله فزاد عشرين ألفا فجعلها في بيت المال، ثم قال: يا خالد والله إنك علي لكريم لأنك إلي لحبيب. وكتب إلى الأمصار: إني لم أعزل خالدا عن سخطة ولا خيانة ولكن الناس فخموه وفتنوا به فخفت أن يوكلوا إليه فأحببت أن يعلموا أن الله هو الصانع وأن لا يكونوا. بعرضي فتنة. وعوضه عما أخذ منه.
ذكر بناء المسجد الحرام والتوسعة فيه
وفيها، أعني سنة سبع عشرة. أعتمر عمر بن الخطاب، وبنى المسجد الحرام، ووسع فيه، وأقام بمكة عشرين ليلة، وهدم على قوم أبوا أن يبيعوا، ووضع أثمان دورهم في بيت المال حتى أخذوها. وكانت عمرته في رجب، واستخلف على المدينة زيد بن ثابت وأمر بتجديد أنصاب الحرم فأمر بذلك مخرمة بن نوفل، والأزهر بن عبد عوف، وحويطب بن عبد العزى، وسعيد بن يربوع. واستأذنه أهل المياه في أن يبنوا منازل بين مكة والمدينة فأذن لهم وشرط عليهم أن ابن السبيل أحق بالظل والماء.
وفيها تزوج عمر: أم كلثوم بنعت علي بن أبي طالب وهي ابنة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ودخل بها في ذي القعدة.
537

ذكر غزوة فارس من البحرين
قيل: كان عمر يقول لما أخذت الأهواز وما يليها: وددت أن بيننا وبين فارس جبلا من نار لا نصل إليهم منه ولا يصلون إلينا.
وقد كان العلاء بن الحضرمي على البحرين أيام أبي بكر فعزله عمر وجعل موضعه قدامة بن مظعون، ثم عزل قدامة وأعاد العلاء يناوئ سعد بن أبي وقاص ففاز العلاء في قتال أهل الردة بالفضل، فلما ظفر سعد بأهل القادسية وأزاح الأكاسرة جاء بأعظم مما فعله العلاء فأراد العلاء أن يصنع في الفرس شيئا ولم ينظر في الطاعة والمعصية، وقد كان عمر نهاه عن الغزو في البحر ونهى غيره أيضا اتباعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وخوف الغرر، فندب العلاء الناس إلى فارس فأجابوه وفرقهم أجنادا، على أحدها الجارود بن المعلى، وعلى الآخر سوار بن همام، وعلى الأخر خليد بن المنذر بن ساوى، وخليد على جميع الناس، وحملهم في البحر إلى فارس بغير إذن عمر فعبرت الجنود من البحرين إلى فارس فخرجوا إلى إصطخر، وبإزائهم أهل فارس، وعليهم الهربذ، فحالت الفرس بين المسلمين وبين سفنهم، فقام خليد في الناس فخطبهم، ثم قال: أما بعد فإن القوم لم يدعوكم إلى حربهم وأنما جئتم لمحاربتهم، والسفن والأرض لمن غلب (فاستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين) فأجابوه إلى ذلك ثم صلوا الظهر ثم ناهدوهم فاقتتلوا قتالا شديدا بمكان
538

يدعى طاوس، فقتل سوار والجارود.
وكان خليد قد أمر أصحابه أد يقاتلوا رجالة ففعلوا فقتل من أهل فارس مقتلة عظيمة، ثم خرجوا يريدون البصرة ولم يجدوا إلى الرجوع في البحر سبيلا، وأخذت الفرس منهم طرقهم فعسكروا وامتنعوا.
ولما بلغ عمر صنيع العلاء أرسل إلى عتبة بن غزوان يأمره بإنفاذ جند كثيف إلى المسلمين بفارس قبل أن يهلكوا، وقال: فإني قد ألقي في روعي كذا وكذا نحو الذي كان، وأمر العلاء بأثقل الأشياء عليه تأمير سعد عليه فشخص العلاء إلى سعد بمن معه، وأرسل عتبة جيشا كثيفا في اثني عشر ألف مقاتل، فيهم عاصم بن عمرو، وعرفجة بن هرثمة والأحنف بن قيس وغيرهم فخرجوا على البغال يجنبون الخيل، وعليهم أبو سبرة بن أبي رهم أحد بني عامر بن لؤي فسار بالناس وساحل بهم لا يعرض له أحد حتى التقى أبو سبرة وخليد بحيث أخذ عليهم الطريق عقيب وقعة طاوس، وإنما كان ولي قتالهم أهل إصطخر وحدهم، ومن شذ من غيرهم، وكان أهل إصطخر حيث أخذوا الطريق على المسلمين فجمعوا أهل فارس عليهم فجاؤوا من كل جهة فالتقوا هم وأبو سبرة بعد طاوس، وقد توافت إلى المسلمين أمدادهم وعلى المشركين شهرك فاقتتلوا ففتح الله على المسلمين، وقتل المشركين، وأصاب المسلمون منهم ما شاؤوا، وهي الغزوة التي شرفت فيها نابتة البصرة، وكانوا أفضل نوابت الأمصار، ثم انكفأوا بما أصابوا، وكان عتبة كتب إليهم بالحث وقلة العرجة فرجعوا إلى البصرة سالمين.
ولما أحرز عتبة الأهواز، وأوطأ فارس فاستأذن عمر في الحج، فأذن له فلما قضى حجه استعفاه فأبن أن يعفيه، وعزم عليه ليرجعن إلى عمله فدعا الله، ثم انصرف فمات في بطن نخلة فدفن، وبلغ عمر موته فمر به زائرا لقبره وقال: أنا قتلتك لولا أنه أجل معلوم وأثنى عليه خيرا، ولم يختط فيمن
539

اختط من المهاجرين، وأنما ورث ولده منزلهم من فاختة بنت غزوان، وكانت تحت عثمان بن عفان، وكان خباب مولاه قد لزم شيمته فلم يختط، ومات عتبة بن غزوان على رأس ثلاث سنين من مفارقة سعد، وذلك بعد أن استنفذ الجند الذي بفارس ونزولهم البصرة، واستخلف على الناس أبا سبرة بن أبي رهم بالبصرة فأقره عمر بقية السنة، ثم استعمل المغيرة بن شعبة عليها، فلم ينتقض عليه أحد ولم يحدث شيئا إلا ما كان بينه وبين أبي بكرة، ثم استعمل أبا موسى على البصرة، ثم صرف إلى الكوفة، ثم استعمل عمرو بن سراقة، ثم صرف ابن سراقة إلى الكوفة من البصرة، وصرف أبو موسى من الكوفة إلى البصرة فعمل عليها ثانية. وقد تقدم ذكر ولاية عتبة بن غزوان البصرة والاختلاف فيها سنة أربع عشرة.
ذكر عزل المغيرة عن البصرة وولاية أبي موسى
في هذه السنة عزل عمر المغيرة بن شعبة عن البصرة، واستعمل عليها أبا موسى وأمره أن يشخص إليه المغيرة بن شعبة في ربيع الأول قاله الواقدي. وكان سبب عزله أنه، كان بين أبي بكرة والمغيرة بن شعبة منافرة، وكانا متجاورين بينهما طريق، وكانا في مشربتين في كل واحدة منهما كوة مقابلة الأخرى، فاجتمع إلى أبي بكرة نفر يتحدثون في مشربته فهبت الريح ففتحت باب الكوة، فقام أبو بكرة ليسده فبصر بالمغيرة، وقد
540

فتحت الريح باب كوة مشربته، وهو بين رجلي امرأة. فقال للنفر: قوموا فانظروا. فقاموا فنظروا، وهم أبو بكرة ونافع بن كلدة، وزياد بن أبيه، وهو أخو أبي بكرة لأمه، وشبل بن معبد البجلي. فقال لهم: اشهدوا قالوا: ومن هذه؟ قال: أم جميل بن الأفقم؛ وكانت من بني عامر بن صعصعة وكانت تغشى المغيرة والأمراء، وكان بعض النساء يفعلن ذلك في زمانها، فلما قامت عرفوها. فلما خرج المغيرة إلى الصلاة منعه أبو بكرة وكتب إلى عمر. فبعث عمر أبا موسى أميرا علن البصرة، وأمره بلزوم السنة. فقال: أعني بعدة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم في هذه الأمة كالملح. قال له: خذ من أحببت. فأخذ معه لسعة وعشرين رجلا، منهم: أنس بن مالك، وعمران بن حصين، وهشام بن عامر، وخرج معهم فقدم البصرة فدفع الكتاب بإمارته إلى المغيرة وهو أوجز كتاب وأبلغه: أما بعد فإنه بلغني نبأ عظيم فبعثت أبا موسى أميرا فسلم إليه ما في يدك والعجل. فاهدى إليه المغيرة وليدة تسمى عقيلة.
ورحل المغيرة، ومعه أبو بكرة والشهود فقدموا على عمر فقال له المغيرة: سل هؤلاء الأعبد كيف رأوني أمستقبلهم أم مستدبرهم؟ وكيف رأوا المرأة وعرفوها؟ فإن كانوا مستقبلي فكيف لم أستتر؟ أو مستدبري فبأي شيء استحلوا النظر إلي في منزلي على امرأتي؟ والله ما أتيت إلا امرأتي؛ وكانت تشبهها. فشهد أبو بكرة أنه رآه على أم جميل يدخله كالميل في المكحلة وأنه رآهما مستدبرين، وشبل ونافع مثل ذلك، وأما زياد فإنه قال: رأيته جالسا بين رجلي امرأة فرأيت قدمين مخضوبتين يخفقان، واستين مكشوفتين وسمعت حفزا شديدا. قال: هل رأيت كالميل في المكحلة؟ قال: لا، قال: هل تعرف المرأة؟ قال: لا ولكن أشبهها. قال: فتنح وأمر بالثلاثة فجلدوا
541

الحد. فقال: المغيرة، اشفني من الأعبد قال: اسكت أسكت الله نامتك، أما والله لو تمط الشهادة لرجمتك بأحجارك!
ذكر الخبر عن فتح الأهواز ومناذر، ونهر تيرى
وفي هذه السنة فتحت الأهواز، ومناذر، ونهر تيري، وقيل: سنة عشرين.
وكان السبب في هذا الفتح أنه لما انهزم الهرمزان يوم القادسية، وهو أحد البيوتات السبعة في أهل فارس، وكانت أمته منهم مهرجانقذق، وكور الأهواز، فلما انهزم قصد خوزستان فملكها، وقاتل بها من أرادهم، فكان الهرمزان يغير على أهل ميسان، ودستميسان من مناذر، ونهر تيري، فاستمد عتبة بن غزوان سعدا فأمده بنعيم بن مقرن، ونعيم بن مسعود، وأمرهما
أن يأتيا أعلى ميسان، ودستميسان حتى يكونا بينهم وبين نهر تيري، ووجه عتبة بن غزوان سلمى بن القين، وحرملة بن مريطة وكانا من المهاجرين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهما من بني العدوية من بني حنظلة فنزلا علن حدود ميسان، ودستميسان بينهم وبين مناذر، ودعوا بني العم فخرج إليهم غالب الوائلي، وكليب بن وائل الكليبي. فتركا نعيما [ونعيما] وأتيا سلمى وحرملة، وقالا: أنتما من العشيرة، وليس لكما مترك فإذا كان يوم كذا وكذا: فانهدوا للهرمزان فإن أحدنا يثور بمناذر، والأخر بنهر تيري فنقتل المقاتلة، ثم يكون وجهنا إليكم فليس دون الهرمزان شيء إن شاء الله، ورجعا وقد استجابا واستجاب قومهما بنو العم بن مالك، وكانوا ينزلون خوزستان قبل الإسلام فأهل البلاد
542

يأمنونهم. فلما كان تلك الليلة ليلة الموعد بين سلمى، وحرملة، وغالب وكليب، وكان الهرمزان يومئذ بين نهر تيرى، وبين دلث وخرج سلمى وحرملة صبيحتهما في تعبية وأنهضا نعيما ومن معه فالتقوا هم والهرمزان بين دلث ونهر تيرى، وسلمى بن القين على أهل البصرة، ونعيم بن مقرن على أهل الكوفة، فاقتتلوا.
فبيناهم على ذلك أقبل مدد من قبل غالب، وكليب، وأتن الهرمزان الخبر بأن مناذر، ونهر ليرى قد أخذتا فكسر ذلك قلب الهرمزان ومن معه، وهزمه الله وإياهم فقتل المسلمون منهم ما شاؤوا وأصابوا ما شاؤوا واتبعوهم حتى وقفوا على شاطىء دجيل وأخذوا ما دونه، وعسكروا بحيال سوق الأهواز، وعبر الهرمزان جسر سوق الأهواز وأقام، وصار دجيل بين الهرمزان والمسلمين، فلما رأى الهرمزان مالا طاقة [له] به طلب الصلح فاستأمروا عتبة فأجاب إلى ذلك على الأهواز لها، ومهرجانقذق ما خلا نهر تيرى، ومناذر وما غلبوا عليه من سوق الأهواز فإنه لا يرد عليهم، وجعل سلمى على مناذر مسلحة وأمرها إلى غالب؛ وحرملة على نهر تيرى وأمرها إلى كليب، فكانا على مسالح البصرة، وهاجرت طوائف من بني العم فنزلوا البصرة.
ووفد عتبة وفدا إلى عمر منهم سلمى، وجماعة من أهل البصرة فأمرهم عمر أن يرفعوا حوائجهم فكلهم قال: أما العامة فأنت صاحبها وطلبوا لأنفسهم، [إلا ما كان من] الأحنف بن قيس فإنه قال: يا أمير المؤمنين إنك كما ذكروا ولقد يعزب عنك ما يحق علينا إنهاؤه إليك مما فيه صلاح العامة، وإنما ينظر الوالي فيما غاب عنه بأعين أهل الخبر،
543

ويسمع بآذانهم فإن إخواننا من أهل الكوفة نزلوا في مثل حدقة البعير الغاسقة من العيون العذاب، والجنان الخصاب، فتأتيهم ثمارهم ولم يحصدوا، وإنا معشر أهل البصرة نزلنا سبخة هشاشة، وعقة نشاشة طرف لها في الفلاة، وطرف لها في البحر الأجاج، يجري إليها ما جرى في مثل مريء النعامة دارنا فعمة، ووظيفتنا ضيقة، وعددنا كثير، وأشرافنا قليل، وأهل البلاء فينا كثير، درهمنا كبير، وقفيزنا صغير، وقد وشع الله علينا
وزادنا في أرضنا فوسع علينا يا أمير المؤمنين وزدنا طبقة تطوف علينا ونعيش بها. فلما سمع عمر قوله أحسن إليهم وأقطعهم مما كان فيئا لأهل كسري وزادهم، ثم قال: هذا الفتى سيد أهل البصرة. وكتب إلى عتبة فيه بان يسمع منه ويرجع إلى رأيه، وردهم إلى بلدهم.
وبينا الناس على ذلك من ذمتهم مع الهرمزان وقع بين الهرمزان، وغالب، وكليب في حدود الأرضين اختلاف فحضر سلمى وحرملة لينظرا فيما بينهم فوجدا غالبا وكليبا محقين والهرمزان مبطلا، فحالا بينهما وبينه فكفر الهرمزان ومنع ما قبله واستعان بالأكراد وكف جنده، وكتب سلمى ومن معه إلى عتبة بذلك فكتب عتبة إلى عمر، فكتب إليه عمر يأمره بقصده، وأمد المسلمين بحرقوص بن زهير السعدي وكانت له صحبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقره على القتال، وعلى ما غلب عليه، وسار الهرمزان ومن معه، وسار المسلمون إلى جسر سوق الأهواز وأرسلوا إليه إما أن تعبر إلينا أو نعبر إليكم؟ فقال: اعبروا إلينا. فعبروا فوق الجسر فاقتتلوا مما يلي سوق
544

الأهواز فانهزم الهرمزان وسار إلى رامهرمز، وفتح حرقوص سوق الأهواز ونزل بها، واتسعت له بلادها إلى تستر ووضع الجزية، وكتب بالفتح إلى عمر وأرسل إليه الأخماس.
ذكر صلح الهرمزان، وأهل تستر مع المسلمين
وفي هذه السنة فتحت تستر، وقيل: سنة ست عشرة، وقيل: سنة تسع عشرة.
قيل: ولما انهزم الهرمزان يوم سوق الأهواز وافتتحها المسلمون بعث حرقوص جزء بن معاوية في أثره بأمر عمر إلى سوق الأهواز، فما زال يقتلهم حتى انتهى إلى قرية الشعر وأعجزه الهرمزان فمال جزء إلى دورق وهي مدينة سرق فأخذها صافية،
ودعا من هرب إلى الجزية فأجابوه، وكتب إلى عمر، وعتبة بذلك فكتب عمر إلى حرقوص وإليه بالمقام فيما غلبا عليه حتى يأمرهما بأمره فعمر جزء البلاد وشق الأنهار، وأحيا الموات وراسلهم الهرمزان يطلب الصلح، فأجاب عمر إلى ذلك وأن يكون ما أخذه المسلمون بأيديهم ثم اصطلحوا على ذلك وأقام الهرمزان والمسلمون يمنعونه إذا قصده الأكراد ويجيء إليهم، ونزل حرقوص جبل الأهواز وكان يشق على الناس الاختلاف إليه، فبلغ ذلك عمر فكتب إليه يأمره بنزول السهل وأن لا يشق على مسلم ولا معاهد، ولا تدركك فترة ولا عجلة فتكدر دنياك وتذهب آخرتك، وبقي حرقوص إلى يوم صفين وصار حروريا، وشهد النهروان مع الخوارج.
545

ذكر فتح رامهرمز، وتستر وأسر الهرمزان
قيل: كان فتح رامهرمز، وتستر، والسوس في سنة سبع عشرة، وقيل: سنة تسع عشرة، وقيل: سنة عشرين.
وكان سبب فتحها أن يزدجرد لم يزل وهو بمرو يثير أهل فارس أسفا على ما خرج من ملكهم فتحركوا وتكاتبوا هم وأهل الأهواز وتعاقدوا على النصرة فجاءت الأخبار حرقوص بن زهير وجزءا، وسلمى، وحرملة فكتبوا إلى عمر بالخبر، فكتب عمر إلى سعد: أن ابعث إلى الأهواز جندا كثيفا مع النعمان بن مقرن وعجل فلينزلوا بإزاء الهرمزان ويتحققوا أمره، وكتب إلى أبي موسى أن ابعث إلى الأهواز جندا كثيفا وأمر عليهم سهل بن عدي أخا سهيل وابعث معه البراء بن مالك؛ ومجزأة بن ثور، وعرفجة بن هرثمة، وغيرهم. وعلى أهل الكوفة والبصرة جميعا أبو سبرة بن أبي رهم، فخرج النعمان بن مقرن في أهل الكوفة فسار إلى الأهواز علن البغال يجنبون الخيل فخلف حرقوصا، وسلمى؛ وحرملة وسار نحو الهرمزان وهو برامهرمز، فلما سمع الهرمزان بمسير النعمان إليه بادره بالشدة ورجا أن يقتطعه ومعه أهل فارس فالتقى النعمان والهرمزان بأربك فاقتتلوا قتالا شديدا، ثم إن الله عز وجل هزم الهرمزان فترك رامهرمز ولحق بتستر، وسار النعمان إلى رامهرمز ونزلها وصعد إلى إيذج، فصالحه تيرويه
546

على إيذج ورجع إلى رامهرمز فأقام بها، ووصل أهل البصرة فنزلوا سوق الأهواز وهم يريدون رامهرمز فأتاهم خبر الوقعة وهم بسوق الأهواز وأتاهم الخبر أن الهرمزان قد لحق بتستر فساروا نحوه، وسار النعمان أيضا، وسار حرقوص، وسلمى، وحرملة؛ وجزء فاجتمعوا على تستر وبها الهرمزان، وجنوده من أهل فارس، والجبال، والأهواز في الخنادق، وأمدهم عمر بأبي موسى وجعله على أهل البصرة، وعلى الجميع أبو سبرة فحاصروهم أشهرا وأكثروا فيهم القتل وقتل البراء بن مالك وهو أخو أنس بن مالك في ذلك الحصار إلى الفتح مائة مبارزة سوى من قتل في غير ذلك، وقتل مثله مجزأة بن ثور، وكعب بن ثور، وعدة من أهل البصرة وأهل الكوفة، وزاحفهم المشركون أيام تستر ثمانين زحفا يكون لهم مرة ومرة عليهم، فلما كان في آخر زحف منها واشتد القتال قال المسلمون: يا براء اقسم على ربك ليهزمنهم [لنا] قال: اللهم اهزمهم لنا واستشهدني، وكان مجاب الدعوة، فهزموهم حتى أدخلوهم خنادقهم ثم اقتحموها عليهم، ثم دخلوا مدينتهم، وأحاط بها المسلمون.
فبينما هم على ذلك وقد ضاقت المدينة بهم وطالت حربهم خرج رجل إلى النعمان يستأمنه على أن يدله على مدخل يدخلون منه، ورمى في ناحية أبي مرسى بسهم إن أمنتموني دللتكم على مكان تأتون المدينة منه، فأمنوه في نشابة فرمى إليهم بأخرى، وقال: انهدوا من قبل مخرج الماء فإنكم تقتحمونها. فندب الناس إليه فانتدب له عامر بن عبد قيس وبشر كثير ونهدوا لذلك المكان ليلا وقد ندب النعمان أصحابه ليسيروا مع الرجل الذي يدلهم على المدخل إلى المدينة فانتدب له بشر كثير فالتقوا هم وأهل البصرة على ذلك المخرج فدخلوا في السرب والناس من خارج، فلما دخلوا المدينة كبروا
547

فيها وكبر المسلمون من خارج وفتحت الأبواب فاجتلدوا فيها فأناموا كل مقاتل، وقصد الهرمزان القلعة فتحصن بها وأطاف به الذين دخلوا فنزل إليهم على حكم عمر فأوثقوه واقتسموا ما أفاء الله عليهم، فكان سهم الفارس ثلاثة آلاف، وسهم الراجل ألفا، وجاء صاحب الرمية والرجل الذي خرج بنفسه فآمنوهما ومن أغلق بابه معهما.
وقتل من المسلمين تلك الليلة بشر كثير، وممن قتل الهرمزان بنفسه مجزأة بن ثور، والبراء بن مالك، وخرج أبو سبرة بنفسه في أثر المنهزمين إلى السوس ونزل عليها ومعه النعمان بن مقرن، وأبو موسى، وكتبوا إلى عمر فكتب إلى أبي موسى برده إلى البصرة وهي المرة الثالثة. فانصرف إليها من على السوس.
وسار زر بن عبد الله بن كليب الفقيمي إلى جند يسابور فنزل عليها وهو من الصحابة، وأفر عمر على جند البصرة المقترب وهو الأسود بن ربيعة أحد بني ربيعة بن مالك وهو صحابي أيضا وكانا مهاجرين، وكان الأسود قد وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: جئت لأقترب إلى الله بصحبتك فسماه المقترب.
وأرسل أبو سبرة وفدا إلى عمر بن الخطاب فيهم أنس بن مالك والأحنف بن قيس ومعهم الهرمزان فقدموا به المدينة وألبسوه كسوته من الديباج الذي فيه الذهب وتاجه وكان مكللا بالياقوت وحليته ليراه عمر والمسلمون، فطلبوا عمر فلم يجدوه فسألوا عنه فقيل: جلس في المسجد لوفد من الكوفة فوجدوه في المسجد متوسدا برنسه وكان قد لبسه للوفد، فلما قاموا عنه توسده، ونام فجلسوا دونه، وهو نائم والدرة في يده، فقال الهرمزان: أين عمر؟ قالوا: هوذا. فقال: أين حرسه وحجابه؟ قالوا: ليس له حارس ولا حاجب، ولا كاتب. قال: فينبغي أن يكون نبيا. قالوا: بل يعمل بعمل الأنبياء.
548

فاستيقظ عمر بجلبة الناس فاستوي جالسا، ثم نظر إلى الهرمزان فقال: الهرمزان؟ قالوا: نعم. فقال: الحمد لله الذي أذل بالاسلام هذا وغيره أشباهه. فأمر بنزع ما عليه فنزعوه وألبسوه ثوبا صفيقا، فقال له عمر: يا هرمزان كيف رأيت عاقبة الغدر وعاقبة أمر الله؟ فقال: يا عمر إنا وإياكم في الجاهلية كان الله قد خلى بيننا وبينكم فغلبناكم، فلما كان الآن معكم غلبتمونا. ثم قال له: ما حجتك وما عذرك في انتقاضك مرة بعد أخرى؟ فقال: أخاف أن تقتلني قبل أن أخبرك. قال: لا تخف ذلك، واستسقى ماء فأتي به في قدح غليظ فقال: لو مت عطشا لم أستطع أن أشرب في مثل هذا فأتي به في إناء يرضاه فقال: إني أخاف أن أقتل وأنا أشرب فقال عمر: لا بأس عليك حق تشربه. فأكفاه فقال عمر: أعيدوا عليه ولا تجمعوا عليه بين القتل والعطش، فقال: لا حاجة لي في الماء إنما أردت أن استأمن به فقال عمر له: إني قاتلك فقال: قد أمنتني. فقال: كذبت قال أنس: صدق يا أمير المؤمنين قد أمنته قال عمر: [ويحك] يا أنس أنا أؤمن قاتل مجزأة بن ثور والبراء بن مالك والله
لتأتين بمخرج أو لأعاقبنك. قال: قلت له نر لا بأس عليك حتى تخبرني ولا بأس عليك حتى تشربه وقال له من حوله مثل ذلك فأقبل على الهرمزان وقال: خدعتني، والله لا أنخدع إلا أن تسلم فاسلم، ففرض له في ألفين وأنزله المدينة، وكان المترجم بينهما المغيرة بن شعبة وكان يفقه [شيئا من] الفارسية، إلى أن جاء المترجم.
وقال عمر للوفد: لعل المسلمين يؤذون أهل الذمة فلهذا ينتقضون بكم. قالوا: ما نعلم إلا وفاء. قال: فكيف هذا؟ فلم يشفه أحد منهم إلا إن
549

الأحنف قال له: يا أمير المؤمنين إنك نهيتنا عن الانسياح في البلاد لان ملك فارس بين أظهرهم ولا يزالون يقاتلوننا ما دام ملكهم فيهم، ولم يجتمع ملكان متفقان حتى يخرج أحدهما صاحبه، وقد رأيت أنا لم نأخذ شيئا بعد شيء إلا بانبعاثهم وغدرهم، وأن ملكهم هو الذي يبعثهم ولا يزال هذا دأبهم حتى تأذن لنا بالانسياح فنسيح في بلادهم ونزيل ملكهم، فهنالك ينقطع رجاء أهل فارس. فقال: صدقتني والله. ونظر في حوائجهم وسرحهم، وأتن عمر الكتاب باجتماع أهل نهاوند فأذن في الانسياح في بلاد الفرس، وقتل محمد بن جعفر بن أبي طالب شهيدا على تستر في قول بعضهم.
(أربك بفتح الهمزة وسكون الراء وضم الباء الموحدة. وفي آخره كاف موضع عند الأهواز).
ذكر فتح السوس
. قيل: ولما نزل أبو سبرة على السوس وبها شهريار أخو الهرمزان أحاط المسلمون بها وناوشوهم القتال مرات كل ذلك يصيب أهل السوس في المسلمين فأشرف عليهم الرهبان والقسيسون فقالوا: يا معشر العرب إن مما عهد إلينا علماؤنا أنه لا يفتح السوس ألا الدجال أو قوم فيهم الدجال، فإن كان فيكم فستفتحونها.
وسار أبو موسى إلى البصرة من السوس وصار مكانه علن أهل البصرة بالسوس المقترب بن ربيعة، واجتمع الأعاجم بنهاوند، والنعمان على أهل
550

الكوفة محاصرا أهل السوس مع أبي سبرة، وزر محاصرا أهل جند يسابور، فجاء كتاب عمر بصرف النعمان إلى أهل نهاوند من وجهه ذلك فناوشهم القتال قبل مسيره فصاح أهلها بالمسلمين وناوشوهم وغاظوهم، وكان صاف بن صياد مع المسلمين في خيل النعمان فاتن صاف باب السوس فدقه برجله فقال: انفتح بظار وهو غضبان فتقطعت السلاسل وتكسرت الأغلاق، وتفتحت الأبواب ودخل المسلمون، وألقى المشركون بأيديهم، ونادوا الصلح الصلح، فأجابهم إلى ذلك المسلمون بعد ما دخلوها عنوه واقتسموا ما أصابوا.
ثم افترقوا، فسار النعمان حتى أتن نهاوند، وسار المقترب حتى نزل على جند يسابور مع زر.
وقيل لأبي سبرة: هذا جسد دانيال في هذه المدينة. قال: وما علمي بذلك؟ فأقره في أيديهم.
وكان دانيال قد لزم نواحي فارس بعد بختنصر فلما حضر له الوفاة ولم ير أحدا على الإسلام أكرم كتاب الله عس لم يجبه فقال: لابنه ائت ساحل البحر فاقذف بهذا الكتاب فيه فأخذه الغلام وغاب عنه وعاد، وقال له: قد فعلت قال: ما صنع البحر؟ قال: ما صنع شيئا. فغضب وقال: والله ما فعلت الذي أمرتك به! فخرج من عنده وفعل فعلته الأولى. فقال: كيف رأيت البحر صنع؟ قال: ماج واصطفق فغضب أشد من الأول، وقال: والله ما فعلت الذي أمرتك به فعاد إلى البحر وألقاه فيه فانفلق البحر عن الأرض وانفجرت له الأرض عن مثل التنور فهوي فيها، ثم انطبقت عليه واختلط الماء، فلما رجع إليه وأخبره بما رأى فقال: الآن صدقت. ومات
551

دانيال بالسوس، وكأن هناك يستسقى بجسده، فاستأذنوا عمر فيه فأمر بدفنه.
وقيل في أمر السوس: أن يزدجرد سار بعد وقعة جلولاء، فنزل إصطخر ومعه سياه في سبعين من عظمات الفرس، فوجهه إلى السوس والهرمزان إلى تستر فنزل سياه الكلتانية وبلغ أهل السوس أمر جلولاء ونزول يزدجرد إصطخر، فسألوا أبا موسى الصلح وكان محاصرا لهم فصالحهم، وسار إلى رامهرمز، ثم سار إلى تستر ونزل سياه بين رامهرمز وتستر، ودعا من معه من عظماء الفرس، وقال لهم: قد علمتم أنا كنا نتحدث أن هؤلاء القوم سيغلبون على هذه المملكة، وتروث دوابهم في إيوانات إصطخر ويشدون خيولهم في شجرها وقد غلبوا على ما رأيتم فانظروا لأنفسكم قالوا: رأينا رأيك. قال: أري أن تدخلوا في دينهم، ووجهوا شيرويه في عشرة من الأساورة إلى أبي موسى، فشرط عليهم أن يقاتلوا معه العجم ولا يقاتلوا العرب وإن قاتلهم أحد من العرب منعهم منهم، وينزلوا حيث شاؤوا، ويلحقوا بأشرف العطاء ويعقد لهم ذلك عمر علن أن يسلموا فأعطاهم عمر ما سألوا، فأسلموا وشهدوا مع المسلمين حصار تستر، ومضى سياه إني حصن قد حاصره المسلمون في زي العجم فالقى نفسه إلى جانب الحصن ونضح ثيابه بالدم فرآه أهل الحصن صريعا فظنوه رجلا منهم ففتحوا باب الحصن ليدخلوا إليهم، فوثب وقاتلهم حتى خلوا عن الحصن، وهربوا فملكه وحده. وقيل: إن هذا الفعل كان منه بتستر.
552

ذكر مصالحة جند يسابور
وفي هذه السنة سار المسلمون عن السوس فنزلوا بجند يسابور، وزر بن عبد الله محاصرهم، فأقاموا عليها يقاتلونهم فرمي إلى من بها من عسكر المسلمين بالأمان فلم يفجأ المسلمين إلا وقد فتحت أبوابها، وأخرجوا أسواقهم، وخرج أهلها فسألهم المسلمون فقالوا: رميتم بالأمان فقبلناه وأقررنا بالجزية. فقالوا: ما فعلنا! وسأل المسلمون فإذا عبد يدعى مكثفا كان أصله منها فعل هذا
فقالوا: هو عبد فقال أهلها: لا نعرف العبد من الحر، وقد قبلنا الجزية وما بذلنا فإن شئتم فاغدروا. فكتبوا إلى عمر فأجاز أمانهم فأمنوهم وانصرفوا عنهم.
ذكر مسير المسلمين إلى كرمان وغيرها
قيل: في سنة سبع عشرة أذن عمر للمسلمين في الانسياح في بلاد فارس وانتهى في ذلك إلى رأي الأحنف أ بن قيس وعرف فضله وصدقه] فأمر أبا موسى أن يسير من البصرة إلى منقطع ذمة البصرة فيكون هناك حتى يأتيه أمره، وبعث بألوية من ولى مع سهيل بن عدي فدفع لواء خراسان إلى الأحنف بن قيس، ولواء اردشير خرة، وسابور إلى مجاشع بن مسعود السلمي، ولواء إصطخر إلى عثمان بن أبي العاص الثقفي، ولواء فسا؛ ودارا بجرد إلى سارية بن زنيم الكناني، ولواء كرمان إلى سهيل بن عدي، ولواء سجستان إلى عاصم بن عمرو، وكان من
553

الصحابة، ولواء مكران إلى الحكم بن عمير التغلبي، فخرجوا ولم يتهيأ مسيرهم إلا سنة ثمانية عشرة، وأمدهم عمر بنفر من أهل الكوفة، فأمد سهيل بن عدي بعبد الله بن عتبان، وأمد الأحنف بعلقمة بن النضر، وبعبد الله بن أبي عقيل. وبربعي بن عامر، وأمد عاصم بن عمرو بعبد الله بن عمير الأشجعي، وأمد الحكم بن عمير بشهاب بن المخارق في جموع.
وقيل: كان ذلك سنة إحدى وعشرين، وقيل: سنة اثنتين وعشرين، وسنذكر كيفية فتحها هناك وذكر أسبابها إن شاء الله تعالى.
* * *
وكان على مكة هذه السنة عتاب بن أسيد في قول، وعلى اليمن يعلى بن منية، وعلى اليمامة والبحرين عثمان بن أبي العاص، وعلى عمان حذيفة بن محصن، وعلى الشام من ذكر قبل. وعلى الكوفة وأرضها سعد بن أبي وقاص، وعلى قضائها أبو قرة، وعلى البصرة وأرضها أبو موسى، وعلى القضاء أبو مريم الحنفي، وقد ذكر من كان على الجزيرة والموصل قبل. وحج بالناس في هذه السنة عمر بن الخطاب.
554

18
ثم دخلت سنة ثمان عشرة
ذكر القحط وعام الرمادة
في سنة ثمان عشرة أصاب الناس مجاعة شديدة، وجدب وقحط وهو عام الرمادة وكانت الريح تسفي ترابا كالرماد فسمي عام الرمادة واشتد الجوع حتى جعلت الوحش تأوي إلى الأنس، وحتى جعل الرجل يذبح الشاة فيعافها من قبحها. وفيه أيضا طاعون عمواس، وفيه ورد كتاب أبى عبيدة على عمر يذكر فيه أن نفرا من المسلمين أصابوا الشراب منهم ضرار، وأبو جندل فسألناهم فتأولوا وقالوا: خيرنا فاخترنا: قال: (فهل أنتم منتهون) ولم يعزم؟ [علينا] فكتب إليه عمر إنما معناه فانتهوا، وقال له: ادعهم علن رؤوس الناس وسلهم:
أحلال الخمر أم حرام؟ فإن قالوا: حرام فاجلدهم ثمانين ثمانين، وإن قالوا: حلال فاضرب أعناقهم. فسألهم فقالوا: بل حرام فجلدهم وندموا على لجاجتهم وقال: ليحدثن فيكم يا أهل الشام حدث، فحدث عام الرمادة، وأقسم عمر أن لا يذوق سمنا ولا لبنا ولا لحما حتى يحيا الناس، فقدمت السوق عكة سمن، ووطب من لبن فاشتراهما غلام لعمر بأربعين درهما ثم أتى عمر، فقال: يا أمير المؤمنين قد أبر الله يمينك وعظم أجرك قدم السوق وطب من لبن وعكة من سمن
555

ابتعتهما بأربعين درهما. فقال عمر: أغليت بهما فتصدق بهما فإني أكره أن آكل إسرافا. وقال: كيف يعنيني شأن الرعية إذا لم يصبني ما أصابهم!
وكتب عمر إلى أمراء الأمصار يستغيثهم لأهل المدينة ومن حولها ويستمدهم، فكان أول من قدم عليه أبو عبيدة بن الجراح بأربعة آلاف راحلة من طعام فولاه قسمتها فيمن حول المدينة فقسمها وانصرف إلى عمله، وتتابع الناس، استغنى أهل الحجاز، وأصلح عمرو بن العاص بحر القلزم، وأرسل فيه الطعام إلى المدينة فصار الطعام بالمدينة كسعر مصر، ولم ير أهل المدينة بعد الرمادة مثلها حتى حبس عنهم البحر مع مقتل عثمان فذلوا وتقاصروا، وكان الناس بذلك وعمر كالمحصور عن أهل الأمصار.
فقال أهل بيت من مزينة لصاحبهم وهو بلال بن الحارث: قد هلكنا، فاذبح لنا شاة. قال: ليس فيهن شيء فلم يزالوا به حتى ذبح فسلخ عن عظم أحمر فادي: يا محمداه. فأرى في المنام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه فقال: أبشر بالحياة ائت عمر فأقرئه مني السلام وقل له: إني عهدتك وأنت وفي العهد، شديد العقد فالكيس الكيس يا عمر.
فجاء حتى أتن باب عمر فقال لغلامه: استأذن لرسول رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى عمر فأخبره، ففزع وقال: رأيت به مسا قال لا: فأدخله وأخبره الخبر، فخرج فنادي في الناس وصد المنبر فقال: نشدتكم الله الذي هداكم هل رأيتم [مني] شيئا تكرهون؟ قالوا: اللهم لا، ولم ذاك؟ فأخبرهم،
556

ففطنوا ولم يفطن عمر، فقالوا: إنما استبطأك في الاستسقاء فاستسق بنا، فنادي في الناس، وخرج معه العباس ماشيا فخطب وأوجز وصلى، ثم جثا لركبتيه وقال: اللهم عجزت عنا أنصارنا، وعجز عنا حولنا وقوتنا، وعجزت عنا أنفسنا ولا حول ولا قوة إلا بك، اللهم فاسقنا وأحي العباد والبلاد! وأخذ بيد العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإن دموع العباس لتتحادر على لحيته فقال: اللهم إنا نتقرب إليك بعم نبيك صلى الله عليه وسلم وبقية آبائه وأكبر رجاله، فإنك تقول وقوله الحق: (وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة) فحفظتهما بصلاح آبائهما فاحفظ اللهم نبيك صلى الله عليه وسلم في عمه فقد دلونا به إليك مستشفعين مستغفرين. ثم أقبل على الناس فقال: (استغفروا ربكم إنه كان غفارا).
وكان العباس قد طال عمره وعيناه تذرفان ولحيته تجول علن صدره وهو يقول: اللهم أنت الراعي فلا تهمل الضالة، ولا تدع الكسير بدار مضيعة فقد صرخ الصغر، ورق الكبير وارتفعت الشكوى، وأنت تعلم السر وأخفى، اللهم فأغنهم بغناك قبل أن يقنطوا فيهلكوا، فإنه لا ييأس إلا القوم الكافرون. فنشأت طريرة من سحاب، فقال الناس: ترون ترون ثم التأمت، ومشط فيها ريح، ثم هدأت ودرت، فوالله ما تروحوا حتى اعتنقوا الجدار وقلصوا المآزر، فطفق الناس بالعباس يمسحون أركانه ويقولون: هنيئا لك ساقي الحرمين، فقال الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب:
بعمي سقى الله الحجاز وأهله * عشية يستسقي بشيبته عمر
557

توجه بالعباس في الجدب راغبا * إليه فما أن رام حتى أتن المطر
ومنا رسول الله فينا تراثه * فهل فوق هذه للمفاخر مفتخر
ذكر طاعون عمواس
في هذه السنة كان طاعون عمواس بالشام، فمات فيه أبو عبيدة بن الجراح وهو أمير الناس، ومعاذ بن جبل، ويزيد بن أبي سفيان، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وعتبة بن سهيل، وعامر بن غيلان الثقفي مات وأبوه حي، وتفانى الناس منه.
قال طارق بن شهاب: أتينا أبا موسى في داره بالكوفة نتحدث عنده فقال: لا عليكم أن تخففوا فقد أصيب في الدار إنسان ولا عليكم أن تنزعوا من هذه القرية فتخرجوا في فسيح بلادكم ونزهها حتى يرفع هذا الوباء، وسأخبركم بما يكره ويتقي من ذلك أن يظن من خرج أنه لو أقام مات ويظن من أقام فأصابه لو خرج لم يصبه، فإذا لم يظن المسلم هذا فلا عليه أن يخرج.
إني كنت مع أبي عبيدة بالشام عام طاعون عمواس فلما اشتعل الوجع، وبلغ ذلك عمر كتب إلى أبي عبيدة ليستخرجه منه: أن سلام عليك، أما بعد فقد عرضت لي إليك حاجة أريد أن أشافهك فيها فعزمت عليك إذا أنت نظرت في كتابي هذا ألا تضعه من يدك حتى تقبل. فعرف أبو عبيدة
558

ما أراد فكتب إليه يا أمير المؤمنين قد عرفت حاجتك إلي وإني في جند من المسلمين لا أجد بنفسي رغبة عنهم فلست أريد فراقهم حتى يقضي الله فن وفيهم أمره وقضاءه فخللني من عزيمتك. فلما قرأ عمر الكتاب بكى فقال الناس: يا أمير المؤمنين أمات أبو عبيدة؟ فقال: لا وكأن قد.
وكتب إليه عمر ليرفعن بالمسلمين من تلك الأرض، فدعا أبا موسى فقال له: ارتد للمسلمين منزلا قال. فرجعت إلى منزلي لأرتحل فوجدت صاحبتي قد أصيبت فرجعت إليه فقلت له: والله لقد كان في أهلي حدث. فقال: لعل صاحبتك أصيبت قلت: نعم. قال: فأمر ببعيره فرحل له فلما وضع رجله في غرزه طعن فقال: والله لقد أصبت، ثم سار بالناس حتى نزل الجابية، وكان أبو عبيدة قد قام في الناس فقال: أيها الناس إن هذا الوجع رحمة ربكم، ودعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم وإن أبا عبيدة سأل الله أن يقسم له منه حظه فطعن فمات، واستخلف على الناس معاذ بن جبل فقام خطيبا بعده. لقال: أيها الناس إن هذا الوجع رحمة ربكم، ودعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم وإن معاذا يسأل الله أن يقسم لآل معاذ حظهم. فطعن ابنه عبد الرحمن فمات. ثم قام فدعا به لنفسه فطعن في راحته، فلقد كان يقبلها ثم يقول: ما أحب أن لي بما فيك شيئا من الدنيا. فلما مات استخلف على الناس عمرو بن العاص، فخرج بالناس إلى الجبال ورفعه الله عنهم فلم يكره عمر ذلك من عمرو.
وقد قيل: إن عمر بن الخطاب قدم الشام، فلما كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد. فيهم أبو عبيدة بن الجراح فأخبروه بالوباء وشدته، وكان معه المهاجرون والأنصار خرج غازيا فجمع المهاجرين الأولين والأنصار فاستشارهم، فاختلفوا عليه، فمنهم القائل خرجت لوجه الله فلا يصدك عنه هذا، ومنهم
559

القائل: إنه بلاء وفناء فلا نرى أن تقدم عليه. فقال لهم: قوموا ثم أحضر مهاجرة الفتح من قريش فاستشارهم فلم يختلفوا عليه وأشاروا بالعود، فنادي عمر في الناس: إني مصبح على ظهر فقال أبو عبيدة: أفرارا من قدر الله؟ فقال: نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل فهبطت واديا له عدوتان إحداهما مخصبة والأخرى مجدبة أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ فسمع بهم عبد الرحمن بن عوف فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا سمعتم بهذا الوباء ببلد فلا تقدموا عليه، وإذا وقع ببلد وأنتم به فلا تخرجوا فرارا منه. فانصرف عمر بالناس إلى المدينة.
وهذه الرواية أصح فإن البخاري ومسلما أخرجاها في صحيحيهما، ولأن أبا موسى كان هذه السنة بالبصرة ولم يكن بالشام لكن هكذا ذكره، وإنما أوردناه لننبه عليه.
(عمواس بفتح العين المهملة والميم والواو بعد الألف سين مهملة. وسرغ بفتح السين المهملة وسكون الراء المهملة وآخره غين معجمة).
ومعنى قوله دعوة نبيكم حين جاءه جبرائيل فقال: فناء أمتك بالطعن أو الطاعون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فبالطاعون.
ولما هلك يزيد بن أبي سفيان استعمل عمر أخاه معاوية بن أبي سفيان على دمشق وخراجها، واستعمل شرحبيل بن حسنة على جند الأردن وخراجها، وأصاب الناس من الموت ما لم يروا مثله قط، وطمع له العدو في المسلمين لطول مكثه مكث شهورا وأصاب الناس بالبصرة مثله، وكان عدة من مات في طاعون عمواس خمسة
وعشرين ألفا.
560

ذكر قدوم عمر إلى الشام بعد الطاعون
لما هلك الناس في الطاعون كتب أمراء الأجناد إلى عمر بما في أيديهم من المواريث فجمع الناس واستشارهم وقال لهم: قد بدا لي أن أطوف علن المسلمين في بلدانهم لأنظر في آثارهم فأشيروا علي، وفي القوم كعب الأحبار، وفي تلك السنة أسلم فقال كعب: يا أمير المؤمنين بأيها تريد أن تبدأ؟ قال: بالعراق. قال فلا تفعل فإن الشر عشرة أجزاء تسعة منها بالمشرق وجزء بالمغرب والخير عشرة أجزاء تسعة بالمغرب وجزء بالمشرق. وبها قرن الشيطان وكل داء عضال. فقال علي: يا أمير المؤمنين: إن الكوفة للهجرة بعد الهجرة وإنها لقبة الاسلام ليأتينها يوم لا يبقى مسلم إلا وحن إليها لينتصرن بأهلها كما انتصر بالحجارة من قوم لوط. فقال عمر: إن مواريث أهل عمواس قد ضاعت فأبدأ بالشام فأقسم المواريث وأقيم لهم ما في نفسي، ثم أرجع، فأتقلب في البلاد وأبدي إليهم أمري.
فسار عن المدينة وأستخلف عليها علي بن أبي طالب واتخذ أيلة طريقا، فلما دنا منها ركب بعيره وعلى رحله فرو مقلوب وأعطى غلامه مركبه فلما تلقاه الناس قالوا: أين أمير المؤمنين؟ قال: أمامكم. يعني نفسه فساروا أمامهم وانتهى هو إلى أيلة فنزلها، وقيل للمتلقين قد دخل أمير المؤمنين إليها ونزلها فرجعوا [إليه] وأعطى عمر الأسقف بها قميصه وقد تخرق
561

ظهره ليغسله، ويرقعه ففعل وأخذه ولبسه وخاط له الأسقف قميصا غيره فلم يأخذه، فلما قدم الشام قسم الأرزاق وسمى الشواتي والصوائف، وسد فروج الشام ومسالحها، وأخذ يدورها، واستعمل عبد الله بن قيس على السواحل من كل كورة، واستعمل معاوية، وعزل شرحبيل بن حسنة وقام يعذره في الناس. وقال: إني لم أعزله عن سخطة ولكني أريد رجلا أقوى من رجل.
واستعمل عمرو بن عتبة على الأهراء. وقسم مواريث أهل عمواس فورث بعض الورثة من بعض وأخرجها إلى الأحياء من ورثة كل منهم، وخرج الحارث بن هشام في سبعين من م هل بيته فلم يرجع منهم إلا م ربعة، ورجع عمر إلى المدينة في ذي القعدة.
ولما كان بالشام وحضرت الصلاة قال له الناس: لوم مرت بلالا فأذن. فأمره فأذن فما بقي أحد [كان] أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وبلال يؤذن أ له، إلا وبكى حتى بل لحيته وعمر أشدهم بكاء وبكى من لم يدركه ببكائهم ولذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
قال الواقدي: إن الرها؛ وحران، والرقة فتحت هذه السنة على يد عياض بن غنم، وإن عين الوردة، وهي رأس عين فتحت فيها على يد عمير بن سعد، وقر تقدم شرح فتحها.
وفي هذه السنة في ذي الحجة حول عمر المقام إلى موضعه اليوم وكان ملصقا بالبيت. وفيها استقضى عمر شريح بن الحارث الكندي على الكوفة، وعلى البصرة كعب بن سور الأزدي، وكانت الولاة على الأمصار الولاة [الذين كانوا عليها] في السنة قبلها. وحج بالناس عمر بن الخطاب.
562

19
ثم دخلت سنة تسع عشرة
قال بعضهم: إن فتح جلولاء والمدائن كان [في] هذه السنة [على يدي سعد] وكذلك فتح الجزيرة وقد تقدم ذكر فتح الجميع والخلاف فيه. وقيل فيها: كان فتح قيسارية على يد معاوية، وقيل: سنة عشرين، وقد تقدم أيضا ذكر ذلك سنة ست عشرة.
وفي هذه السنة سالت حرة ليلى وهي قريب المدينة نارا، فأمر عمر بالصدقة فتصدق الناس فانطفأت.
وحج بالناس هذه السنة عمر، وكان عماله فيها من تقدم ذكرهم. وفيها قتل صفوان بن المعطل السلمي، وقيل: بل مات سنة ستين آخر خلافة معاوية. وفيها مات أبي بن كعب وقيل: بل مات سنة عشرين، وقيل: اثنتين وعشرين، وقيل: اثنتين وثلاثين والله أعلم.
563

20
ثم دخلت سنة عشرين
ذكر فتح مصر
قيل: في هذه السنة فتحت مصر في قول بعضهم على يد عمرو بن العاص، والإسكندرية أيضا، وقيل: فتحت الإسكندرية سنة خمس وعشرين، وقيل: فتحت مصر سنة ست عشرة في ربيع الأول، وبالجملة فينبغي أن يكون فتحها قبل عام الرمادة لأن عمرو بن العاص حمل الطعام في بحر القلزم من مصر إلى المدينة والله اعلم، وقيل: غير ذلك.
وأما فتحها فإنه لما فتح عمر بيت المقدس وأقام به أياما وأمضى عمرو بن العاص إلى مصر وأتبعه الزبير بن العوام فأخذ المسلمون بابليون وساروا إلى مصر، فلقيهم هناك أبو مريم جاثليق مصر، ومعه الأسقف بعثه المقوقس لمنع بلادهم، فلما نزل بهم عمرو قاتلوه فأرسل إليهم: لا تعجلونا حتى نعذر إليكم، وليبرز إلي أبو مريم وأبو مريم، فكفوا وخرجا إليه فدعاهما إلى الإسلام أو الجزية، وأخبرهما بوصية النبي صلى الله عليه وسلم بأهل مصر بسبب هاجر أم إسماعيل عليه السلام فقالوا: قرابة بعيدة لا يصل مثلها إلا الأنبياء، آمنا حتى نرجع إليك. فقال عمرو: مثلي لا يخدع، ولكنني أؤجلكما ثلاثا لتنظرا. فقالا: زدنا فزادهم يوما. فرجعا
564

إلى المقوقس. فأبى أرطبون أن يجيبهما وأمر بمناهدتهم، فقال لأهل مصر: أما نحن فسنجهد أن ندفع عنكم. فلم يفجأ عمرا إلا البيات وهو على عدة فلقوه فقتل أرطبون وكثير ممن معه وانهزم الباقون، وسار عمرو، والزبير إلى عين الشمس وبها جمعهم وبعث إلى فرما أبرهة بن الصباح [فنزل عليها]، وبعث عوف بن مالك إلى الإسكندرية فنزل عليها، قيل: وكان الإسكندر وفرما أخوين، ونزل عمرو بعين الشمس فقال أهل مصر لملكهم: ما تريد إلا قتال قوم هزموا كسري وقيصر وغلبوهم على بلادهم؟ فلا تعرض لهم ولا تعرضنا [لهم] _ وذلك في اليوم الرابع _ [فأبى] وناهدوهم وقاتلوهم.
فلما التقى المسلمون والمقوقس بعين الشمس واقتتلوا جال المسلمون فذمرهم عمرو فقال له رجل من اليمن: إنا لم نخلق من حديد. فقال له عمرو: اسكت إنما أنت كلب قال: فأنت أمير الكلاب. فنادي عمرو بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأجابوه فقال: تقدموا فبكم ينصر الله فتقدموا، وفيهم أبو بردة، وأبو برزة وتبعهم الناس وفتح الله على المسلمين وظفروا وهزموا المشركين، فارتقى الزبير بن العوام سورها فلما أحسوه فتحوا الباب لعمرو وخرجوا إليه مصالحين فقبل منهم.
ونزل الزبير عليهم عنوة حتى خرج على عمرو من الباب معهم فعقدوا صلحا بعدما أشرفوا على الهلكة فأجروا ما أخذوا عنوة مجري الصلح فصاروا ذمة، وأجروا من دخل في صلحهم من الروم والنوبة مجرى أهل مصر ومن اختار الذهاب فهو آمن حتى يبلغ مأمنه.
واجتمعت خيول المسلمين بمصر وبنوا الفسطاط ونزلوه، وجاء أبو مريم
565

وأبو مريام إلى عمرو وطلبا منه السبايا التي أصيبت بعد المعركة فطردهما فقالا: كل شيء أصبتموه منذ فارقناكم إلى أن رجعنا إليكم ففي ذمة. فقال عمرو لهما: أتغيرون علينا وتكونون في ذمة؟ قالا: نعم. فقسم عمرو بن العاص السبي على الناس، وتفرق في بلدان العرب، وبعث بالأخماس إلى عمر بن الخطاب ومعها وفد، فأخبروا عمر بن الخطاب بحالهم كله وبما قال أبو مريم فرد عمر عليهم سبي من لم يقاتلهم في تلك الأيام الأربعة وترك سبي من قاتلهم فردوهم.
وحضرت القبط باب عمرو وبلغ عمرا انهم يقولون: ما أرث العرب! ما رأينا مثلنا دان لهم؟ فخاف أن يطمعهم ذلك فأمر بجزر فطبخت، ودعا أمراء الأجناد فأعلموا أصحابهم فحضروا عنده وأكلوا أكلا عربيا اتشلوا وحسوا وهم في العباء بغير سلاح فازداد طمعهم، وأمر المسلمين [أن] يحضروا الغد في ثياب [أهل] مصر وأحذيتهم ففعلوا وأذن لأهل مصر فرأوا شيئا غير ما رأوا بالأمس وقام عليهم القوام بألوان مصر فأكلوا أكل أهل مصر فارتاب القبط، وبعث أيضا إلى المسلمين تسلحوا للعرض غدا، [وغدا على العرض]، وأذن لهم
فعرضهم عليهم وقال لهم: علمت حالكم حين رأيتم اقتصاد العرب فخشيت أن تهلكوا فأحببت أن أريكم حالهم في أرضهم كيف كانت، ثم حالهم في أرضكم، ثم حالهم في الحرب فقد رأيتم ظفرهم بكم وذلك عيشهم وقد كلبوا على بلادكم بما نالوا في اليوم الثاني فأردت أن تعلموا أن ما رأيتم في اليوم الثالث غير تارك عيش اليوم الثاني وراجع إلى عيش اليوم الأول.
566

فتفرقوا وهم يقولون: لقد رمتكم العرب برجلهم. وبلغ عمر ذلك فقال: والله إن حربه لمنية، مالها سطوة ولا سورة كسورات الحروب من غيره.
ثم ان عمرا سار إلى الإسكندرية وكان من بين الإسكندرية والفسطاط من الروم والقبط قد تجمعوا له وقالوا: نغزوه قبل أن يغزونا ويروم الإسكندرية فالتقوا واقتتلوا فهزمهم، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وسار حتى بلغ الإسكندرية، فوجد أهلها معدين لقتاله، فأرسل المقوقس إلى عمرو يسأله الهدنة إلى مدة فلم يجبه إلى ذلك، وقال: لقد لقينا ملككم الأكبر هرقل، فكان منه ما بلغكم، فقال المقوقس لأصحابه: صدق، فنحن أولى. بالإذعان. فأغلظوا له في القول، وامتنعوا، فقاتلهم المسلمون وحصروهم ثلاثة أشهر، وفتحها عمرو عنوة، وغنم ما فيها وجعلهم ذمة.
وقيل: إن المقوقس صالح عمرا على اثني عشر ألف دينار على أن يخرج من الإسكندرية من أراد الخروج ويقيم من أراد القيام، وجعل فيها عمرو جندات ولما فتحت مصر غزوا النوبة فرجع المسلمون بالجراحات وذهاب الحدق لجودة رميهم فسموهم رماة الحدق.
فلما ولي عبد الله بن سعد بن أبي سرح مصر أيام عثمان صالحهم على هدية عدة رؤوس في كل سنة ويهدي إليهم المسلمون كل سنة طعاما مسمى وكسوة، وأمضى ذلك الصلح عثمان ومن بعده من ولاة الأمور.
وقيل: إن المسلمين لما انتهوا إلى بلهيب، وقد بلغت سباياهم إلى اليمن أرسل صاحبهم إلى عمرو: إنني كنت اخرج الجزية إلى من هو أبغض إلي منكم فارس والروم فإن أحببت الجزية على أن ترد ما سبيتم من أرضي
567

فعلت. فكتب عمرو إلى عمر يستأذنه في ذلك ورفعوا الحرب إلى أن يرد كتاب عمر، فورد الجواب من عمر لعمري جزية قائمة أحب إلينا من غنيمة تقسم ثم كأنها لم تكن، وأما السبي فإن أعطاك ملكهم الجزية على أن تخيروا من في أيديكم منهم بين الاسلام ودين قومه، فمن اختار الاسلام فهو من المسلمين ومن اختار دين قومه فضع عليه الجزية، وأما من تفرق في البلدان فإنا لا نقدر على ردهم. فعرض عمرو ذلك على صاحب الإسكندرية فأجاب إليه، فجمعوا السبي، واجتمعت النصارى وخيروهم واحدا واحدا فمن اختار المسلمين كبروا، ومن اختار النصارى جزعوا عليه وسار عليه جزية حتى فرغوا.
وكان من السبي أبو مريم عبد الله بن عبد الرحمن فاختار الاسلام، وصار عريف زبيد. وكان ملوك بني أمية يقولون: إن مصر دخلت عنوة وأهلها عبيدنا نزيد عليهم كيف شئنا ولم يكن كذلك.
ذكر عدة حوادث
وفي هذه السنة أعني سنة عشرين غزا أبو بحرية عبد الله بن قيس أرض الروم وهو أول من دخلها فيما قيل، وقيل: أول من دخلها ميسرة بن
568

مسروق العبسي فسبى وغنم. وقيل: فيها عزل عمر قدامة بن مظعون من البحرين وحده في الخمر، واستعمل أبا بكرة على البحرين واليمامة. وفيها تزوج عمر فاطمة بنت الوليد أم عبد الرحمن بن الحارث بن هشام. وفيها عزل عمر سعد بن أبي وقاص عن الكوفة لشكايتهم إياه، وقالوا: لا يحسن يصلي. وفيها قسم عمر خيبر بين المسلمين وأجلى اليهود عنها، وقسم وادي القرى. وفيها أجلى يهود نجران إلى الكوفة. وفيها بعث عمر علقمة بن مجزز المدلجي إلى الحبشة وكانت تطرفت بلاد الاسلام فأصيب المسلمون فجعل عمر على نفسه أن لا يحمل في البحر أحدا أبدا يعني للغزو، وقيل: سنة إحدى وثلاثين.
(مجزز بجيم وزايين الأولى مكسورة مشددة).
وفيها مات أسيد بن حضير؛ أسيد تصغير أسد، وحضير بالحاء المهملة المضمومة والضاد المفتوحة والراء. وفيها مات هرقل وملك ابنه قسطنطين. وفيها ماتت زينب بنت جحش ونزل في قبرها أسامة بن زيد، وابن أخيها محمد بن عبد الله بن جحش.
وحج بالناس عمر. وكان عماله على الأمصار من كان قبل هذه السنة إلا من ذكرت أنه عزله. وكان قضاته فيها القضاة في السنة قبلها.
وفيها مات عياض بن غنم. وهو الذي فتح الجزيرة، وهو أول من أجاز الدرب إلى الروم. وفيها مات بلال بن رباح مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم بدمشق، وقيل: بحلب. وفيها مات أنيس بن مرثد بن أبي مرثد الغنوي، وله ولأبيه ولجده صحبة، وقتل أبوه في غزوة الرجيع. وفيها مات سعيد بن عامر بن حذيم الجمحي شهد فتح خيبر، وكان فاضلا، وكان على حمص حتى مات، وقيل: مات سنة تسع عشرة، وقيل: سنة احدى وعشرين، وعمره أربعون سنة. وفيها مات أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب. وفيها ماتت صفية بنت عبد المطلب عمة النبي صلى الله عليه وسلم. وفيها
569

قتل المظفر بن رافع الأنصاري قدم من الشام ومعه من علوج الشام فلما كان بخيبر أمرهم قوم من اليهود فقتلوه فأجلاهم عمر.
(المظهر بضم الميم وفتح الظاء المعجمة وتشديد الهاء وآخره راء مهملة).
تم المجلد الثاني
570