الكتاب: فتوح الشام
المؤلف: الواقدي
الجزء: ١
الوفاة: ٢٠٧
المجموعة: مصادر التاريخ
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة: بيروت - دار الجيل
الناشر: دار الجيل
ردمك:
ملاحظات:

= فتوح الشام تأليف أبو عبد الله محمد بن عمر الواقدي
1

* (إنا فتحنا لك فتحا مبينا) *
بسم الله الرحمن الرحيم
اقبال الجند
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
قال الامام الواقدي رحمه الله تعالى آمين حدثني أبو بكر بن الحسن بن سفيان بن نوفل بن محمد بن إبراهيم التيمي ومحمد بن عبد الله الأنصاري وأبو سعيد مولى هشام ومالك بن أبي الحسن وإسماعيل مولى الزبير ومازن بن عوف من بني النجار كل حدث عن فتوح الشام بما كان قالوا جميعا انه لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف بعده أبو بكر الصديق رضي الله عنه قتل في خلافته مسيلمة الكذاب الذي ادعى النبوة وقاتل بني حنيفة وأهل الردة وأطاعته العرب فعزم أن يبعث جيشه إلى الشام وصرف وجهه لقتال الروم فجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وقام فيهم خطيبا فحمد الله عز وجل وقال يا أيها الناس رحمكم الله تعالى اعلموا ان الله فضلكم بالاسلام وجعلكم من أمة محمد عليه الصلاة والسلام وزادكم ايمانا ويقينا ونصركم نصرا مبينا وقال فيكم * (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) * واعلموا ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عول أن يصرف همته إلى الشام فقبضه الله اليه واختار له ما لديه ألا واني عازم ان أوجه ابطال المسلمين إلى الشام بأهليهم ومالهم فان رسول الله صلى الله عليه وسلم أنبأني بذلك قبل موته وقال
زويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها فما قولكم في ذلك فقالوا يا خليفة رسول الله مرنا بأمرك ووجهنا حيث شئت فان الله تعالى فرض علينا طاعتك فقال تعالى * (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) * ففرح أبو بكر رضي الله عليه ونزل عن المنبر وكتب الكتب إلى ملوك اليمن وأهل مكة وكانت الكتب فيها نسخة واحدة وهي بسم الله الرحمن الرحيم سلام عليكم
أما بعد فاني أحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي على نبيه محمد
5

صلى الله عليه وسلم وقد عزمت أن أوجهكم إلى بلاد الشام لتأخذوها من أيدي الكفار والطغاة فمن عول منكم على الجهاد والصدام فليبادر إلى طاعة الملك العلام ثم كتب * (انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله) * الآية ثم بعث الكتب إليهم وأقام ينتظر جوابهم وقدومهم وكان الذي بعثه بالكتب إلى اليمن أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فما مرت الأيام حتى قدم أنس رضي الله عنه يبشره بقدوم أهل اليمن وقال يا خليفة رسول الله وحقك على الله ما قرأت كتابك على أحد الا وبادر إلى طاعة الله ورسوله وأجاب دعوتك وقد تجهزوا في العدد والعديد والزرد النضيد وقد أقبلت إليك يا خليفة رسول الله مبشرا بقدوم الرجال وأي رجال وقد أجابوك شعثا غبرا وهم أبطال اليمن وشجعانها وقد ساروا إليك بالذراري والأموال والنساء والأطفال وكأنك بهم وقد أشرفوا عليك ووصلوا إليك فتأهب إلى لقائهم قال فسر أبو بكر رضي الله عنه بقوله سرورا عظيما وأقام يومه ذلك حتى إذا كان من الغد اقبلوا إلى الصديق رضي الله عنه وقد لاحت غبرة القوم لأهل المدينة قال فأخبروه فركب المسلمون من أهل المدينة وغيرهم وأظهروا زينتهم وعددهم ونشروا الاعلام الاسلامية ورفعوا الألوية المحمدية فما كان الا قليل حتى أشرفت الكتائب والمواكب يتلو بعضها بعضا قوم في أثر قوم وقبيلة في أثر قبيلة فكان أول قبيلة ظهرت من قبائل اليمن حمير وهم بالدروع الداودية والبض العادية والسيوق الهندية وأمامهم ذو الكلاع الحميري رضي الله عنه فلما قرب من الصديق رضي الله عنه أحب ان يعرفه بمكانه وقومه وأشار بالسلام وجعل ينشد ويقول
* أتتك حمير بالأهلين والولد
* أهل السوابق والعالون بالرتب
* أسد غطارفة شوس عمالقة
* يردوا الكماء غدا في الحرب بالقضب
* الحرب عادتنا والضرب همتنا
* وذو الكلاع دعا في الأهل والنسب
* دمشق لي دوت كل الناس اجمعهم
* وساكنيها سأهويهم إلى العطب
*
قال فتبسم أبو بكر الصديق رضي الله عنه من قوله ثم قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه يا أبا الحسن أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
إذا أقبلت حمير ومعها نساؤها تحمل أولادها فأبشر بنصر الله على أهل الشرك أجمعين فقال الإمام علي صدقت وأنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أنس رضي الله عنه وسارت حمير بكتائبها وأموالها وأقبلت من بعدها كتائب مذحج أهل الخير العتاق والرماح الدقاق وأمامهم سيدهم
6

قيس بن هبيرة المرادي رضي الله عنه فلما وصل إلى الصديق رضي الله عنه جعل يقول صلوا على طه الرسول
* أتتك كتائب منا سرعا
* ذوو التيجان أعني من مراد
* فقدمنا أمامك كي ترانا
* نبيد القوم بالسيف النجادى
*
قال فجزاه أبو بكر رضي الله عنه خيرا وتقدم بكتائبه ومواليه وتقدمت من بعده قبائل طيىء يقدمها حارث بن مسعد الطائي رضي الله عنه فلما وصل هم أن يترجل فأقسم عليه أبو بكر رضي الله عنه بالله تعالى أن لا تفعل فدنا منه فصافحه وسلم عليه وأقبلت الأزد في جموع كثيرة يقدمها جندب بن عمرو الدوسي رضي الله عنه ثم جاءت من بعدهم بنو عبس يقدمهم الأمير ميسرة بن مسروق العبسي رضي الله عنه وأقبلت من بعدهم بنو كنانة يقدمهم غيثم بن اسلم الكناني وتتابعت قبائل اليمن يتلو بعضها بعضا ومعهم نساؤهم وأموالهم فلما نظر أبو بكر رضي الله عنه إلى نصرتهم سر بذلك وشكر الله تعالى وانزل القوم حول المدينة كل قبيلة متفرقة عن صاحبتها واستمروا فأضر بهم المقام من قلة الزاد وعلف الخيل وجدوبة الأرض فاجتمع أكابرهم عند الصديق رضي الله عنه وقالوا يا خليفة رسول الله انك أمرتنا بأمر فأسرعنا لله ولك رغبة في الجهاد وقد تكامل جيشنا وفرغنا من أهبتنا والمقام قد أضر بنا لان بلدك ليست بلد جيش ولا حافر ولا عيش والعسكر نازل فان كنت قد بدلت فيما عزمت عليه فأمرنا بالرجوع إلى بلدنا وأقبل الجميع وخاطبوه بذلك فلما فرغوا من كلامهم قال أبو بكر رضي الله عنه يا أهل اليمن ومن حضر من غيرهم أما والله ما أريد لكم الاضرار وانما أردنا تكاملكم قالوا إنه لم يبق من ورائنا أحد فاعزم على بركة الله تعالى
وصية أبي بكر
قال المؤلف رحمه الله تعالى لقد بلغني أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قام من ساعته يمشي على قدميه وحوله جماعة من الأصحاب منهم عمر وعثمان وعلي رضي الله عنه وخرجوا إلى ظاهر المدينة ووقع النداء في الناس وكبروا بأجمعهم فرحا لخروجهم وأجابتهم الجبال لدوي أصواتهم وعلا أبو بكر على دابته حتى أشرف على الجيش فنظر إليهم قد ملئوا الأرض فتهلل وجهه وقال اللهم انزل عليهم الصبر وأيدهم ولا تسلمهم إلى عدوهم انك على
7

كل شيء قدير وكان أول من دعاه أبو بكر يزيد بن أبي سفيان وعقد له راية وأمره على الف فارس من سائر الناس ودعا بعده رجلا من بني عامر بن لؤي يقال له ربيعة بن عامر وكان فارسا مشهورا في الحجاز فعقد له راية وأمره على ألف فارس ثم أقبل أبو بكر على يزيد بن أبي سفيان وقال له هذا ربيعة بن عامر من ذوي العلا والفاخر قد علمت صولته وقد ضممته إليك وأمرتك عليه فاجعله في مقدمتك وشاوره في أمرك ولا تخالفه فقال يزيد حبا وكرامة وأسرعت الفرسان إلى لبس السلاح واجتمع الجند وركب يزيد بن أبي سفيان وربيعة بن عامر وأقبلا بقومهما إلى أبي بكر رضي الله عنه فأقبل يمشي مع القوم فقال يزيد يا خليفة رسول الله الناجي من غضب الله من رضيت عنه لا نكون على ظهور خيولنا وأنت تمشي فأما ان تركب وأما ان ننزل فقال ما انا براكب وما أنتم بنازلين وسار إلى أن وصل إلى ثنية الوداع فوقف هناك فتقدم اليه يزيد فقال يا خليفة رسول الله أوصنا فقال
إذا سرت فلا تضيق على نفسك ولا على أصحابك في مسيرك ولا تغضب على قومك ولا على أصحابك وشاورهم في الامر واستعمل العدل وباعد عنك الظلم والجور فإنه لا أفلح قوم ظلموا ولا نصروا على عدوهم وإذا لقيتم القوم فلا تولوهم الادبار ومن يولهم يومئذ دبره الا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير وإذا نصرتم على عدوكم فلا تقتلوا ولدا ولا شيخا ولا امرأة ولا طفلا ولا تعقروا بهيمة المأكول ولا تغدروا إذا عاهدتم ولا تنقضوا إذا صالحتم وستمرون على قوم في الصوامع رهبانا يزعمون أنهم ترهبوا في الله فدعوهم ولا تهدموا صوامعهم وستجدون قوما آخرين من حزب الشيطان وعبدة الصلبان قد حلقوا أوساط رؤوسهم حتى كأنها مناحيض العظام فاعلوهم بسيوفكم حتى يرجعوا إلى الاسلام أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون وقد استودعتكم الله ثم عانقه وصافحه وصافح ربيعة بن عامر وقال يا عامر اظهر شجاعتك على بني الأصفر بلغكم الله آمالكم وغفر لنا ولكم قال وسار القوم ورجع أبو بكر رضي الله عنه بمن معه إلى المدينة قال فجد القوم في السير فقال ربيعة بن عامر ما هذا السير يا يزيد وقد أمرك أبو بكر أن ترفق بالناس في سيرك فقال يزيد يا عامر انا أبا بكر رضي الله عنه سيعقد العقود ويرسل الجيوش فأردت ان اسبق الناس إلى الشام فلعلنا ان نفتح فتحا قبل تلاحق الناس
8

بنا فيجتمع بذلك ثلاث خصال رضاء الله عز وجل ورضاء خليفتنا وغنيمة تأخذها فقال ربيعة فسر الان ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم قال فأخذ القوم في السير على وادي القرى ليخرجوا على تبوك ثم على الجابية إلى دمشق قال واتصل الخبر للملك هرقل من قوم من عرب اليمن المنتصرة كانوا في المدينة فلما صح عند الملك ذلك جمع بطارقته في عسكره وقال لهم يا بني الأصفر ان دولتكم قد عزمت على الانهزام ولقد كنتم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتقيمون الصلاة وتؤثرون الزكاة التي امركم بها الآباء والأجداد والقسس والرهبان وتقيمون حدود الله التي أمركم بها في الإنجيل لا جرم انكم ما قصدكم ملك من ملوك الوشاة ونازعكم على الشام الا وقهرتموه ولقد قصدكم كسرى بجنود فارس فانكسروا على أعقابهم والان قد بدلتم وغيرتم فظلمتم وجرتم وقد بعث إليكم ربكم قوما لم يكن في الأمم أضعف منهم عندنا وقد رمتهم شدة الجوع الينا وأتى بهم إلى بلادنا وبعثهم صاحب نبيهم ليأخذوا ملكنا من أيدينا ويخرجونا من بلادنا ثم إنه حدثهم بالذي سمعه من طرسيسه
فقالوا أيها الملك نردهم عن مرادهم ونصل إلى مدينتهم ونخرب كعبتهم قال فلما سمع مقالتهم وتبين اغتياظهم جرد منهم ثمانية آلاف من أشجع فرسانهم وأمر عليهم خمسة من بطارقتهم وهم البطاليق وأخوه جرجيس وصاحب شرطته ولوقا بن سمعان وصليب بن حنا صاحب غزة وكانت هذه الخمسة البطارقة يضرب بهم المثل في الشجاعة والبراعة ثم تدرعوا وأظهروا زينتهم وصلت عليهم الامى ة صلاة العصر فقالوا اللهم انصر من كان منا على الحق وبخروهم ببخور الكنائس ثم رشوا عليهم من ماء
العمودية وودعوا الملك وساروا وأمامهم العرب المنتصرة يدلونهم على الطريق قال حدثني رفاعة عن ياسر بن الحصين قال بلغني أن أول من وصل إلى تبوك كان يزيد بن سفيان وربيعة بن عامر ومن معهما من المسلمين قبل وصول الروم بثلاثة أيام فلما كان في اليوم الرابع والمسلمون قد عموا بالرحيل إلى الشام إذ أقبل جيش الروم فلما رآه المسلمون اخذوا على أنفسهم وكمن ربيعة بأصحابه الألف وأقبل يزيد بأصحابه الألف ووعظهم وذكر الله تعالى وقال لهم
اعلموا ان الله وعدكم بالنصر وأيديكم بالملائكة وقال الله تعالى في كتابه
9

العزيز كم من فئة قليلة غلبت فئة كبيرة بإذن الله والله مع الصابرين وقد قال صلى الله عليه وسلم
الجنة تحت ظلال السيوف وأنتم أول جند دخل الشام وتوجه لقتال بني الأصفر فكأنكم بجنود الشام وإياكم ان تطمعوا تطعموا العدو فيكم وانصروا الله ينصركم فبينما يزيد يعظ الناس وإذا بطلائع الروم قد أقبلت وجيوشها قد ظهرت فلما رأوا قلة العرب طمعوا فيهم وظنوا انه ليس ورائهم أحد فبربر بعضهم على بعض بالرومية وقالوا دونكم من يريد أخذ بلادكم واستنصروا بالصليب فإنه ينصركم ثم حملوا وتلقاهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بهمم عالية وقلوب غير دانية ودار القتال بينهم وتكاثرت الروم عليهم وظنوا انهم في قبضتهم إذ خرج عليهم ربيعة بن عامر رضي الله عنه بالكمين وقد اعلنوا بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير وحملوا على الروم حملة صادقة فلما عاينت الروم من خرج عليهم انكسروا والقى الله الرعب في قلوبهم فتقهقروا إلى ورائهم ونظر ربيعة بن عامر إلى البطاليق وهو يحرض قومه على القتال فعلم أنه طاغية الروم فحمل عليه وطعنه طعنة صادقة فوقعت في خاصرته وطلعت من الناحية الأخرى فلما نظر الروم إلى ذلك ولوا الادبار وركنوا إلى الفرار ونزل النصر على طائفة محمد المختار حدثنا سعد بن أوس عن السرية التي انفدها أبو بكر الصديق رضي الله عنه مع يزيد بن أبي سفيان وربيعة بن عامر قال قد اجتمعا بعساكر الروم في ارض تبوك مع البطاليق وهزمهم الله تعالى على أيدينا وكان جملة من قتل منهم ألفا ومائتين ومن قتل من المسلمين مائة وعشرين رجلا قال وان القوم لما انهزموا قال لهم جرجيس وهو أخو المقتول يا ويلكم بأي وجه ترجعون إلى الملك وقد عملوا فينا عملا ذريعا وملئوا الأرض من قتلانا ولا ارجع حتى آخذ بثأر أخي أو الحق به قال واجتمع القوم وسمعوا منه ذلك ورجع بعضهم إلى بعض وعادوا إلى القتال فلما استقروا في خيامهم بعثوا رجلا من العرب المنتصرة اسمه القداح وقالوا له امضي إلى بني عمك وقل لهم يبعثوا لنا رجلا من كبارهم وعقلائهم حتى ننظر ما يريدون منا قال فركب القداح جواده واقبل نحو جيش المسلمين فلما رأوه مقبلا إليهم استقبله رجال من الأوس وقالوا له ماذا تريد قال لهم ان البطارقة يريدون رجالا من عقلائكم ليخاطبوهم فيما يريد الله من صلاح شأن الجمعين قال فأخبروا يزيد بن ربيعة بما قال المتنصر فقال ربيعة بن عامر أنا أسير إلى القوم
10

فقال يزيد يا ربيعة أنا أخاف عليك من القوم لأنك قد قتلت كبيرهم بالأمس فقال ربيعة قل لن يصيبنا الا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون واني أوصيك والمسلمين أن تكون همتكم عندي فإذا رأيتم القوم غدروا بي فاحملوا عليهم ثم ركب جواده وسار حتى اتى جيش الروم وقرب من سرداق أميرهم فقال القداح عظم جيش الملك وانزل عن جوادك فقال ربيعة رضي الله عنه ما كنت بالذي انتقل من العز إلى الذل ولست أسلم جوادي لغيري وما أنا بنازل الا على باب السرداق والا رجعت من حيث جئت لأننا ما بعثنا إليكم بل أنتم بعثتم الينا قال فأعلم القداح الروم بما تكلم به ربيعة بن عامر فقال بعضهم لبعض صدق العربي في قوله دعوه ينزل حيث أراد قال فنزل ربيعة على باب السرداق وجثا على ركبته وأمسك عنان جواده بيده وسلاحه فقال له جرجيس يا أخا العرب لم تكن أمة أضعف منكم عندنا وما كنا نحدث أنفسنا انكم تغزوننا وما الذي تريدون منا فقال ربيعة نريد منكم أن تدخلوا في ديننا وأن تقولوا بقولنا وان أبيتم تعطونا الجزية عن يد وأنتم صاغرون والا فالسيف بيننا وبينكم فقال جرجيس فما منعكم أن تقصدوا الفرس وتدعون الصداقة بيننا وبينكم فقال ربيعة بدأنا بكم لأنكم أقرب الينا من الفرس وان الله تعالى أمرنا في كتابه بذلك قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة قال جرجيس فهل لك أن تعقد الصلح بيننا وبينكم وأن نعطي كل رجل منكم دينارا من ذهب وعشرة أوسق من الطعام وتكتبوا بيننا وبينكم كتاب الصلح لا تغزون الينا ولا نغزوا إليكم قال ربيعة لا سبيل إلى ذلك وما بيننا وبينكم الا السيف أو أداء الجزية أو الاسلام قال جرجيس أما ما ذكرت من دخولنا في دينكم فلا سبيل إلى ذلك ولو نهلك عن آخرنا لأننا لا نرى لديننا بدلا واما اعطاء الجزية فان القتل عندنا أيسر من ذلك وما أنتم بأشهى منا إلى القتال والحرب والنزال لان فينا البطارقة وأولاد الملوك ورجال الحرب وأرباب الطعن والضرب قال جرجيس لأصحابه علي بأنفس صقالبة حتى يناظروا هذا البدوي في كلامه قال وكان الملك هرقل قد بعث معهم قسيسا عظيما عارفا بدينهم مجادلا عن شرعهم قال فأتى الحاجب به فلما استقر به الجلوس قال له جرجيس يا أبانا استخبر من هذا الرجل عن
11

شريعتهم وعن دينهم فقال القسيس يا أخي العربي انا نجد في عملنا ان الله تعالى يبعث من الحجاز نبيا عربيا هاشميا قرشيا علامته ان الله تعالى يسري به إلى السماء أكان ذلك أم لا قال نعم أسري به وقد ذكره ربنا في كتابه العزيز بقوله تعالى سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا قال القسيس انا نجد في كتابنا ان ربنا يفرض على هذا النبي وأمته شهرا يصومونه يقال له شهر رمضان قال ربيعة نعم وقد قرأنا في القرآن العظيم شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فقال القسيس انا وجدنا في كتابنا أن من أحسن حسنة تكتب بعشرة قال ربيعة نعم قال الله تعالى من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزي الا مثلها وهم لا يظلمون قال القسيس انا نجد في كتابنا ان الله يأمر أمته بالصلاة عليه قال ربيعة نعم وقد قال الله في كتابه العزيز * (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما) * قال فعجب القسيس من كلامه وقال للبطارقة ان الحق مع هؤلاء القوم فقال بعض الحجاب ان هذا هو الذي قتل أخاك فلما سمع ذلك ازورت عيناه وغضب غضبا شديدا وهم ان يثب على ربيعة ففهم ربيعة ذلك منه فوثب من مكانه اسرع من البرق وضرب بيده إلى قائم سيفه وعاجل جرجيس بضربة فجندله صريعا قتيلا ووثب على فرسه فركبها فأسرعت البطارقة اليه وهو راكب فحمل فيهم ونظر يزيد بن
أبي سفيان إلى ذلك فقال للمسلمين ان أعداء الله قد غدروا بصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدونكم وإياهم فحمل المسلمون على المشركين واختلط الجيش بالجيش وصبرت الروم لقتال العرب فبينما هم في القتال إذ أشرفت جيوش المسلمين مع شرحبيل بن حسنة كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما نظر المسلمون إلى اخوانهم في القتال حملوا على القوم حملة صادقة وحكمت سيوفهم في قمم الروم
قال الواقدي لقد بلغني ان الثمانية آلاف المذكورة من الروم لم ينج منهم أحد لان العرب التقطوهم بسبق الخيل وبعد الشام من تبوك ثم إن المسلمين اخذوا أموالهم وخيامهم ثم سلموا على شرحبيل ومن معه وجمعوا المال والغنائم فقالوا نبعث الجميع إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه فرضوا بذلك
12

وبعثوا الجميع الا العدة والسلاح وبعثوا مع الغنائم والأموال شداد بن أوس رضي الله عنه في خمسمائة فارس ولما وصل بالمال إلى المدينة المنورة وعاين المسلمون أموال المشركين رفعوا أصواتهم بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير محمد صلى الله عليه وسلم وسمع الصديق بقدوم شداد بن أوس رضي الله عنه ومن معه من المسلمين ففرح بذلك فرحا شديدا ثم اقبلوا إلى الصديق واعلموه بالفتح بعد ان سلموا عليه فسجد لله عز وجل ثم كتب كتابا إلى أهل مكة يستدعيهم للجهاد مضمونه بسم الله الرحمن الرحيم من أبي بكر إلى أهل مكة وسائر المؤمنين فاني احمد الله الذي لا إله إلا هو واصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم
اما بعد فاني قد استنفرت المسلمين إلى الجهاد وفتح بلاد الشام وقد كتبت إليكم والى المسلمين ان تسرعوا إلى ما أمركم به ربكم تبارك الله وتعالى إذ يقول الله عز وجل * (انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون) * وهذه الآية فيكم وأنتم أحق بها وأهلها وأول من صدق وقام بحكمها من ينصر دين الله فالله ناصره ومن بخل استغنى الله عنه والله غني حميد فسارعوا إلى جنة عالية قطوفها دانية أعدها الله للمهاجرين والأنصار فمن اتبع سبيلهم كتب من الأولياء الأخيار وحسبنا الله ونعم الوكيل قال وختم الكتاب ودفعه إلى عبد الله بن حذافة فأخذه وسار حتى وصل مكة وصرخ في أهلها فاجتمعوا اليه فدفع إليهم الكتاب فقرأوه على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما سمعوه قال سهل ابن عمرو والحرث بن هشام وعكرمة بن أبي جهل وقالوا أجبنا داعي الله وصدقنا قول نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فأما عكرمة فإنه قال إلى متى نبسط لأنفسنا وقد سبقنا القوم إلى المواطن وقد فاز من فاز بالصدق وان كنا تأخرنا عن السبق فاللحاق بالسابقين يجعلنا من الفائزين ثم خرج عكرمة بن أبي جهل في بني مخزوم وخرج الحرث بن هشام معهم وتلاحق أهل مكة خمسمائة رجل وكتب أبو بكر للطائف فخرجوا في أربعمائة رجل
قال الواقدي خرج بهم سعيد بن خالد بن سعيد بن العاص وكان غلاما نجيبا وذلك أن سعيد بن خالد أتى إلى الصديق رضي الله عنه فقال يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم انك أردت ان تعقد لأبي خالد راية ويكون قائدا
13

من قواد جيشك فتكلم فيه المتكلمون فعزلته حين رجع من بعثك وقد حبس نفسه في سبيل الله عز وجل ولم أزل مجيبا دعوتك في بعثك فهل لك ان تقدمني على هذا الجيش فوالله لا يراني الله وانيا ابدا ولا عاجزا عن الحرب قال وكان سعيد بن خالد نجيبا انجب من أبيه وأفرس فعقد له أبو بكر راية ودفعها اليه وأمره على الفين من العرب قال فلما سمع عمر بن الخطاب كلام سعيد بن خالد وانه خير من أن يكون أميرا كره لك ذلك وأقبل على الصديق رضي الله عنه يا خليفة رسول الله عقدت هذه الراية لسعيد بن خالد على من هو خير منه ولقد سمعته يقول عندما عقدتها على رغم الأعادي والله لتعلم انه ما يريد بالقول غيري والله ما تكلمت في أبيه
قال الواقدي فثقل ذلك على أبي بكر وكره ان لا يعقد له وكره أيضا ان يخالف عمر لمحبته له ونصحه ومنزلته عند النبي صلى الله عليه وسلم ووثب قائما ودخل على عائشة رضي الله عنها واخبرها بخبر عمر بن الخطاب رضي الله عنه وما كان من كلامه فقالت عائشة قد علمت أن عمر ينصر الدين ويريد النصر لرب العالمين وما في قلب عمر بغض للمسلمين قال فقبل قول عائشة رضي الله عنها ثم دعا بأزد الدوسي وقال له امض إلى سعيد بن خالد وقل له رد علينا رأيتك قال فردها وقال والله لأقتلن تحت راية أبي بكر حيث كان فاني قد حبست نفسي في سبيل الله
قال الواقدي ولقد بلغني ان الصديق حال تفكره فيمن يقدم طليعة الجيش قال فتقدم اليه سهل بن عمرو وعكرمة بن أبي جهل وهشام بن الحرث وقالوا اشهدوا اننا قد حبسنا أنفسنا في سبيل الله فلا نرجع عن القتال ابدا فقال أبو بكر اللهم بلغهم أفضل ما يؤملون ثم إن أبا بكر دعا عمرو بن العاص فسلم اليه الراية وقال قد وليتك على هذا الجيش يعني أهل مكة والطائف وهوران وبني كلاب فانصرف إلى ارض فلسطين وكاتب أبا عبيدة وأنجده إذا أرادك ولا تقطع أمرا الا بمشورته أمض بارك الله فيك وفيهم قال فأقبل عمرو بن العاص على عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال له يا أبا حفص أنت تعلم شدتي على العدو وصبري على الحرب فلو كلمت الخليفة أن يجعلني أميرا على أبي عبيدة وقد رأيت منزلتي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم واني أرجو ان يفتح الله على يدي البلاد ويهلك الأعداء قال عمر رضي الله عنه ما كنت بالذي أكذبك وما كنت بالذي أكلمه في ذلك فإنه ليس على أبي عبيدة أمير ولأبي عبيدة عندنا أفضل منزلة منك وأقدم سابقة منك
14

والنبي صلى الله عليه وسلم قال فيه
أبو عبيدة أمين الأمة قال عمرو ما ينقص من منزلته إذا كنت واليا عليه قال عمر بن الخطاب ويلك يا عمرو انك ما تطلب بقولك هذا الا الرياسة والشرف فاتق الله ولا تطلب الا شرف الآخرة ووجه الله تعالى فقال عمرو بن العاص ان الامر كما ذكرت ثم امر الناس بالمسير تحت رايته فساروا وتقدم أهل مكة وتبعهم بنو كلاب وطيء وهوزان وثقيف وتخلف المهاجرون والأنصار ليسيروا مع أبي عبيدة بن الجراح
وصية الصديق لعمرو بن العاص
وتقدم عمرو بن العاص وسار قال أبو الدرداء كنت مع عمرو بن العاص في جيشه فسمعت أبا بكر يقول وهو يوصيه اتق الله في سرك وعلانيتك واستحيه في خلواتك فإنه يراك في عملك وقد رأيت تقدمتي لك على من هو أقدم منك سابقة واقدم حرمة فكن من عمال الآخرة وأرد بعملك وجه الله وكن والدا لمن معك وارفق بهم في السير فان
فيهم أهل ضعف والله ناصر دينه ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون وإذا سرت بجيشك فلا تسر في الطريق التي سار فيها يزيد وربيعة وشرحبيل بل اسلك طريق أيليا حتى تنتهي إلى ارض فلسطين وابعث عيونك يأتونك بأخبار أبي عبيدة فإن كان ظافرا بعدوه فكن أنت لقتال من في فلسطين وان كان يريد عسكرا فأنفذ اليه جيشا في أثر جيش وقدم سهل بن عمرو وعكرمة بن أبي جهل والحرث بن هشام وسعيد ابن خالد وإياك أن تكون وانيا عما ندبتك اليه وأياك والوهن ان تقول جعلني ابن أبي قحافة في نحر العدو ولا قوة لي به وقد رأيت يا عمرو ونحن في مواطن كثيرة ونحن نلاقي ما نلاقي من جموع المشركين ونحن في قلة من عدونا ثم رأيت يوم حنين ما نصر الله عليهم واعلم يا عمرو ان معك المهاجرين والأنصار من أهل بدر فاكرمهم واعرف حقهم ولا تتطاول عليهم بسلطانك ولا تداخلك نجدة الشيطان فتقول انما ولاني أبو بكر لأني خيرهم وإياك وخداع النفس وكن كأحدهم وشاورهم فيما تريد من أمرك والصلاة ثم الصلاة اذن بها إذا دخل وقتها ولا تصل صلاة الا بأذان يسمعه أهل العسكر ثم ابرز وصل بمن رغب في الصلاة معك فذلك أفضل له ومن صلاها وحده أجزأته صلاته واحذر من عدوك وأمر أصحابك بالحرس ولتكن أنت بعد ذلك مطلعا عليهم وأطل الجلوس بالليل
15

على أصحابك وأقم بينهم وأجلس معهم ولا تكشف استار الناس واتق الله إذا لاقيت العدو وإذا وعظت أصحابك فأوجز وأصلح نفسك تصلح لك رعيتك فالامام ينفرد إلى الله تعالى فيما يعلمه وما يفعله في رعيته واني قد وليتك على من قد مررت من العرب فاجعل كل قبيلة على حميتها وكن عليهم كالوالد الشفيق الرفيق وتعاهد عسكرك في سيرك وقدم قبلك طلائعك فيكونوا امامك وخلف على الناس من ترضاه وإذا رايت عدوك فاصبر ولا تتأخر فيكون ذلك منك فخرا والزم أصحابك قراءة القرآن وانههم عن ذكر الجاهلية وما كان منها فإن ذلك يورث العداوة بينهم وأعرض عن زهرة الدنيا حتى تلتقي بمن مضى من سلفك وكن من الأئمة الممدوحين في القرآن إذ يقول الله تعالى وجعلناهم آئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات واقام الصلاة وايتاء الزكاة وكانوا لنا عبدين قال فكان أبو بكر رضي الله عنه يوصي عمرو بن العاص وأبو عبيدة حاضر ثم قال سيروا على بركة الله تعالى وقاتلوا أعداء الله وأوصيكم بتقوى الله فان الله ناصر من ينصره قال فسلم المسلمون عليه وودعوا وساروا في تسعة آلاف مع من ذكرنا يريدون أخذ فلسطين فلما كان بعدهم بيوم واحد عقد العقود والرايات إلى أبي عبيدة بن الجراح وأمره بأن يقصد بمن معه ارض الجابية وقال يا أمين الأمة قد سمعت ما وصيت به عمرو بن العاص وودعه المسلمون فلما عاد أبو بكر والمسلمون دعا بخالد بن الوليد وعقد له راية وكانت له راية النبي صلى الله عليه وسلم وأمره على لخم وجذام وضم له جيش الزحف وكانوا شجعانا ما منهم الا من شهد الوقائع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له يا أبا سليمان قد وليتك على هذا الجيش فاقصد به ارض العراق وفارس وارجوا الله ان ينصركم ثم إنه ودعه وسار خالد بمن معه يطلب العراق
قال حدثني ربيعة بن قيس قال كنت في الجيش الذي وجهه أبو بكر الصديق مع عمرو بن العاص إلى فلسطين وإيليا وكان صاحب رايته سعيد بن خالد قال وبعث أبو بكر مع كل جيش أميرا وهو يدعوا لهم بالنصر وأخذه القلق على المسلمين حتى عرف ذلك في وجهه فقال له عثمان بن عفان رضي الله عنه ما هذا الغم الذي نزل بك فقال اغتممت على جيوش المسلمين وارجوا الله ان ينصرهم على عدوهم فقال عثمان والله ما خرج جيش سررت به الا هذا الجيش الذي سار إلى الشام وهذا الذي أوصى الله نبيه به وليس
16

في قوله خلف وانا سنظهر على الروم وفارس ولكن ما ندري متى يكون أفي هذا البعث أو غيره ولكن أحسن الظن بالله قال وبات الصديق فرأى في منامه كأن عمرو بن العاص وجهه طرمة هو وأصحابه ثم قصد عمرو أرضا خضرة سهلة وفرجة فحمل على فرسه ثم أتبعه أصحابه فإذا هم في ارض واسعة فنزلوا واستراحوا قال وانتبه أبو بكر من منامه فرحا بما رأى فقال عثمان يدل على فتح الا انه يوشك ان يلقى عمرو في قتال المشركين مشقة عظيمة ثم يخلص منها
قال الواقدي كانت الساقطة تنزل المدينة في الجاهلية والاسلام يقدمون بالبر والشعير والزيت والتين والقماش وما يكون في الشام فقدم بعض الساقطة إلى المدينة وأبو بكر ينفذ الجيوش وسمعوا كلام أبي بكر لعمرو بن العاص وهو يقول عليك بفلسطين وإيليا قال فساروا بالخبر إلى الملك هرقل فلما سمع ذلك جمع أرباب دولته وبطارقته واعلمهم بالحديث الذي جرى وقال يا بني الأصفر هذا الذي كنت حذرتكم منه قديما وان أصحاب هذا النبي لا بد ان تملك ما تحت سريري هذا وقد قرب الوعد وان خليفة محمد قد انفذ لكم الجيوش وكأنكم بهم وقد اتوكم وقصدوا نحوكم فحذروا أنفسكم وقاتلوا عن دينكم وعن حريمكم فان تهاونتم ملكت العرب بلادكم وأموالكم قال فبكى القوم فقال لهم دعوا عنكم البكاء ثم قال له وزيره أيها الملك قد اشتهينا ان تدعو بعض من قدم بهذا الخبر عليك فأمر هرقل بعض حجابه ان يأتي برجل من المتنصرة ممن قدم عليه بالاخبار برجل منهم فقال له الملك كم عهدك قال منذ خمسة وعشرين يوما قال فمن المتولي عليهم قال له رجل يقال له أبو بكر الصديق وجه جيوشه إلى بلدك قال هل رأيت أبا بكر قال نعم وانه أخذ مني شملة بأربعة دراهم وجعلها على كتفه وهو كواحد منهم وهو يمشي في ثوبين ويطوف بالأسواق ويدور على الناس يأخذ الحق من القوي للضعيف قال هرقل صفه لي قال هو رجل آدم اللون خفيف العارضين فقال هرقل وحق ديني هو صاحب احمد الذي كنا نجد في كتبنا انه يقوم بالامر من بعده ونجد في كتبنا أيضا ان بعد هذا الرجل رجلا آخر طويلا كالأسد الوثاب يكون على يديه الدمدمة والجلاء قال فشهق المتنصر من قول هرقل وقال إن هذا الذي وصفته لي رأيته معه لا يفارقه قال هرقل هذا الامر والله قد صح وقد دعوت الروم إلى الرشد والصلاح فأبوا ان يطيعوني وأن ملكي سوف ينهدم ثم عقد صليبا من الجوهر
17

وأعطاه قائد جيوشه روبيس وقال له قد وليتك على الجيوش فسيروا لمنع العرب من فلسطين فإنها بلد خصب كثيرة الخير وهي عزنا وجاهنا وتاجنا فتسلم روبيس الصليب وسار من يومه إلى أجنادين واتبعه جيش الروم
عمرو بن العاص في فلسطين
قال الواقدي لقد بلغني ان عمرو بن العاص توجه إلى إيليا حتى وصل إلى ارض فلسطين هو ومن معه قال فلما نزل المسلمون بفلسطين جمع عمرو المسلمين المهاجرين
والأنصار وشاورهم في امرهم فبينما هم في المشورة إذ أقبل عليهم عدي بن عامر وكان من خيار المسلمين وكان كثيرا ما يتوجه إلى بلاد الشام وداس ارضهم وعرف مساكنها ومسالكها فلما اشرف على المؤمنين داروا به وأوقفوه بين يدي عمرو بن العاص فقال عمرو بن العاص ما الذي وراءك يا ابن عامر قال ورائي المتنصرة وجنودهم مثل النمل فقال له عمرو يا هذا لقد ملأت قلوب المسلمين رعبا وانا نستعين بالله عليهم فقال له فكم حزرت القوم فقال أيها الأمير اني قد علوت على شرف من الجبال عال فرأيت من الصلبان والرماح والاعلام ما قد ملأ الاجم وهو أعظم جبل بأرض فلسطين وهم زيادة عن مائة الف فارس وهذا ما عندي من الخبر قال فلما سمع عمرو ذلك قال
لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم ثم أقبل على من حضر من كبار المسلمين وقال أيها الناس انا وإياكم في هذا الامر بالسواء فاستعينوا بالله على الأعداء وقاتلوا عن دينكم وشرعكم فمن قتل كان شهيدا ومن عاش كان سعيدا فماذا أنتم قائلون قال فتكلم كل رجل بما حضر عنده من الرأي فقالت طائفة منهم أيها الأمير ارجع بنا إلى البرية حتى نكون في بطن البيداء فإنهم لا يقدرون على فراق القرى والحصون فإذا جاءهم الخبر اننا توسطنا البرية يتفرق جمعهم وبعد ذلك نعطف عليهم وهم على غفلة فنهزمهم إن شاء الله تعالى فقال سهل بن عمرو ان هذه مشورة رجل عاجز فقال رجل من المهاجرين لقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نهزم الجمع الكثير بالجمع القليل وقد وعدكم الله النصر وما وعد الصابرين الا خيرا وقد قال الله تعالى * (يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة) * قال سهل ابن عمرو أما أنا فلا رجعت عن قتال الكفرة ولا رددت سيفي عنهم فمن شاء فلينهض ومن شاء فليرجع ومن نكص على عقبيه فأنا وراءه بالمرصاد قال فلما سمع المسلمون انه وافقه على ذلك عبد الله
18

بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قالوا أحسنت يا أبا الفاروق قال ثم إن عمرو بن العاص عقد راية وأعطاها عبد الله بن عمر بن الخطاب وضم اليه ألف فارس فيهم رجال من الطائف ومن ثقيف وأمرهم بالمسير فسار عبد الله وجعل يجد السير بقية يومه إلى الصباح وإذا بغبرة القوم قد لاحت فقال عبد الله بن عمر هذه غبرة عسكر وأظنها طليعة القوم ثم وقف ووقف امامه أصحابه فقال قوم من البادية اتركنا نرى ما هذه الغبرة فقال لا تتفرقوا من بعضكم حتى نرى ما هي فوقف الناس وإذا بالغبرة قد قربت وانكشفت عن عشرة آلاف من الروم وقد بعث معهم روبيس بطريقا من أصحابه وكانوا قد ساروا يكشفون خبر المسلمين فلما نظرهم عبد الله بن عمر قال لأصحابه لا تمهلوهم لأنهم لا بد لهم منكم والله ينصركم عليهم واعلموا ان الجنة تحت ظلال السيوف قال فأعلن القوم بقول لا إله إلا الله محمد رسول الله فلما جهروا بها أجابهم الشجر والمدر والدواب والحجر وكان أول من حمل عكرمة بن أبي جهل وتبعه سهل بن عمرو والضحاك أيضا بالجملة وصاح في رجاله وحمل المهاجرون والأنصار معهم والتقى الجمعان وعمل السيف في الفريقين قال عبد الله بن عمر وبينما انا في الوقعة إذ نظرت من القوم بطريقا عظيم الخلقة وهو كالحائر البليد وهو يركض يمينا وشمالا فقلت ان يكن لهذا الجيش عين فهذا عين الجيش وصاحب الطلائع وهو مرغوب من الحرب فلما حملت عليه ومددت قناتي اليه نفر فرسه من الرمح فقربت منه واوهمته اني أريد الانهزام ثم عطفت عليه وطعنته فوالله لقد خيل لي اني ضربت بسيفي حجرا وسمعت طنين السيف حتى حسبت ان سيفي انفصل وإذا هو صريع ثم عطفت عليه واخذت لامته فلما رأى المشركون صاحبهم مجندلا داخلهم الفزع والهلع وصدمهم المسلمون في الضرب والقتال فلله در الضحاك والحرث بن هشام لقد قاتلا قتالا شديدا ما عليه من مزيد فما كان غير قليل حتى انهزم الكفار من بين أيديهم هاربين قال فرجع المسلمون واجتمع بعضهم على بعض وجمعوا الغنائم والأموال وقال بعضهم لبعض ما فعل الله بعبد الله بن عمر قال قائل منهم الله خبير بحسن زهده وعبادته وقال آخرون لقد أصبنا بابن عمر فما كان يساوي هذا الفتح شعرة من رأسه
قال عبد الله بن عمر وانا مع ذلك أسمع كلامهم خلف الراية فأعلنت بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير وهززت الراية فلما نظر المسلمون الراية سارعوا إلى وقالوا أين كنت فقلت اشتغلت بقتال صاحبهم
19

فقالوا أفلح والله وجهك فهذا والله فتح قد رزقنا الله إياه ببركتك قال عبد الله بوجوهكم ثم حازوا الأموال والغنائم والخيل وستمائة أسير وقتل من المسلمين سبعة نفر فواروهم وصلى عليهم ابن عمر وانعطف الجيش إلى عمرو بن العاص وحدثوه بما جرى ففرح وحمد الله تعالى ثم دعا بالأسرى واستنطق منهم بالعربية فما كان فيهم غير ثلاثة نفر من أنباط الشام فسألهم عن خبرهم وخبر أصحابهم فقالوا يا معشر العرب ان هذا روبيس قد أقبل في مائة الف فارس وقد امره الملك ان لا يدع أحدا من العرب يصل إيليا وانه بعث بهذا البطريق طليعة وقد قتل وكأنكم به فقال عمرو ان الله يقتله كما قتل صاحبكم ثم عرض عليهم الاسلام فما أحد منهم أسلم فقال عمرو للمسلمين كأنكم بصاحبهم وقد أتى يأخذ ثأرهم وهؤلاء تركهم علينا بلاء ثم أمر بضرب أعناقهم وصاح بالمسلمين استعدوا فاني أظن أن القوم سائرون فان أتوا الينا فهم في شدة وقوة وسنلقي منهم تعبا في القتال وان سرنا إليهم نرجو من الله النصر والظفر بهم كما ظفرنا بغيرهم وما عودنا الله الا خيرا قال أبو الدرداء بتنا مكاننا فلما جاء الله بالصباح رحلنا فما بعدنا غير قليل حتى أشرقت علينا عشرة صلبان تحت كل صليب عشرة آلاف فارس فلما أشرف الجيش على الجيش أقبل عمرو ورتب أصحابه وجعل في الميمنة الضحاك وفي الميسرة سعيدا وأقام على الساقة أبا الدرداء وثبت عمرو في القلب ومعه أهل مكة وأمر الناس يقرأون القرآن وقال لهم اصبروا على قضاء الله وارغبوا في ثواب الله وجنته ثم إنه جعل يصفهم ويعبيهم تعبية الحرب ونظر روبيس بطريق الروم إلى عسكر المسلمين وقد صفهم عمر بن العاص لا يخرج سنان عن سنان ولا عنان عن عنان ولا ركان عن ركاب وهم كأنهم بنيان مرصوص وهم يقرأون القرآن والنور يلمع من نواصي خيولهم فشم منهم رائحة النصر وتبين من نفسه الجزع وعلم أن كل من معه كذلك فوقف ينظر ما يكون من المسلمين وانكسرت حميته قال وكان أول من برز من جيش المسلمين سعيد ابن خالد رضي الله عنه وهو أخو عمرو بن العاص من أمه فلما برز نادى برفيع صوته ابرزوا يا أهل الشرك ثم حمل على الميمنة فالجأها إلى المسيرة وحمل على الميسرة فالجأها إلى الميمنة وقتل رجالا وجندل ابطالا ثم اقتحم فيهم فشوشهم وزعزع جيشهم قال فاجتمعوا عليه فقتلوه رحمة الله عليه قال فحزن المسلمون على قتله حزنا عظيما وأكثرهم عمرو بن العاص وقال
واسعيداه لقد اشترى نفسه من الله عز وجل ثم قال يافتيان من يحمل معي هذه الحملة حتى ننظر ما يكون
20

من امرها وأنظر حال سعيد قال فاسرع بالإجابة ذو الكلاع الحميري وعكرمة بن أبي جهل والضحاك والحرث بن هشام ومعاذ بن جبل وأبو الدرداء وعبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين قال عبد الله وكنا سبعين رجلا وحملنا حتى دنونا من القوم وهم لا يفكرون من حملتنا لأنهم جبال من حديد
قال الواقدي رحمة الله عليه فلما رأى المسلمون ثبات الروم صاح بعضنا لبعض ابعجوا دوابهم فما هلاكهم غير ذلك قال فبعجنا دوابهم بالأسنة فتنكسوا فبعد انتكاسهم تفرق بعضهم عن بعض وحملوا علينا وحملنا عليهم وكنا فيهم كالشامة البيضاء في جلد البعير الأسود وكان شعارنا يوم فلسطين لا إله إلا الله محمد رسول الله يا رب انصر أمة محمد صلى الله عليه وسلم قال أبو الدرداء فلقد شغلني الحرب عن مناشدة الاشعار ولقد كان أحدنا لا يدري أهو يضرب أخاه أو عدوه من كثرة القتام قال فثبت المسلمون مع قتلهم وفوضوا امرهم إلى الله عز وجل وما كان أحد من المسلمين يضرب الا وظهره ناطق بالدعاء يقول اللهم انصرنا على من يتخذ معك شريكا قال عبد الله بن عمر بن الخطاب فلم يزل الحرب بيننا إلى وقت الزوال وهبت الرياح والناس في القتام إذ نظرت إلى السماء وقد انفرج فيها فرج وخرجت منها خيول شهب تحمل رايات خضرا أسنتها تلمع ومناد ينادي بالنصر أبشروا يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقد أتاكم الله بالنصر قال فلما كان غير قليل إذ نظرت إلى الروم منهزمين والمسلمون في أعقابهم لان خيل العرب أسبق من خيل الروم قال ابن عمر فقتلنا في هذه الواقعة قريبا من خمسة عشر الف فارس وأكثر ولم نزل في آثارهم إلى الليل وعمرو بن العاص قد فرح بالنصر وقلبه متعلق بالمسلمين لاسراعهم وراء العدو وقال عمرو بن غياث فنظرت إلى عمرو بن العاص والراية في يده وقد أوفى القناة على عاتقه وهو يعركها بيده ويقول من يرد الناس علي رد الله عليه ضالته إذ نظرت العرب قد عطفت راجعة كعطفة الام على ولدها فاستقبلهم عمرو وهو يقول هنيئا لهذه الوجوه التي تعبت في رضا الله تعالى أما كان لكم كفاية في أن خولكم الله حتى اتبعتم العدو فقالوا ما أردنا الغنيمة بل القتال والجهاد قال ولما رجع المسلمون لم يكن لهم همة الا افتقاد بعضهم بعضا ففقد من المسلمين مائة وثلاثون رجلا ختم الله لهم بالسعادة منهم سيف بن عبادة ونوفل بن دارم والاهب بن شداد والباقي من اليمن ووادي المدينة قال فاغتم عمرو لفقدهم ثم راجع نفسه وقال قد نزل بهم خير وأنت يا عمرو تأبى ذلك ثم ندب الناس إلى الصلاة كما أمره أبو بكر الصديق رضي الله عنه فصلى ما فاته كل صلاة بأذان وإقامة قال ابن
21

عمر ما صلى خلفه الا قليل بل صلى الناس في رحالهم من تبعهم ولم يجمعوا من الغنائم الا القليل وبات الناس فلما أصبح عمرو أذن وصلى بهم وأمر الناس بجمع الغنائم وأن يخرجوا إخوانهم المؤمنين من الروم فجعلوا يلتقطونهم قال فأخرجوا مائة وثلاثين رجلا ووجدوا سعيد بن خالد فلما نظر عمرو إلى ما نزل به بكى وقال رحمك الله فقد نصحت لدين الله وأديت النصيحة ثم جعله في جملة المسلمين وصلى عليهم وأمر بدفنهم وذلك قبل أن يخمس شيئا من الغنائم ثم بعد ذلك جمعها اليه وكتب إلى أبي عبيدة كتابا يقول فيه
كتاب عمرو بن العاص إلى أبي عبيدة
بسم الله الرحمن الرحيم من عمرو بن العاص إلى أمين الأمة أما بعد فاني احمد الله الذي لا إله إلا هو واصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم واني قد وصلت إلى ارض فلسطين ولقينا عساكر الروم مع بطريق يقال له روبيس في مائة الف فارس فمن الله بالنصر وقتل من الروم خمسة عشر الف فارس وفتح الله على يدي فلسطين بعد أن قتل من المسلمين مائة وثلاثون رجلا فان احتجت إلي سرت إليك والسلام عليك ورحمة الله وبركاته ودفع الكتاب إلى أبي عامر الدوسي وأمره أن يسير إلى أبي عبيدة قال فأسرع أبو عامر بالكتاب فوجد أبا عبيدة وهو نازل بأرض الشام وجاهر بالدخول إليها غير أنه امره كما امره أبو بكر قال فلما وصل أبو عامر قال له أبو عبيدة ما وراءك قال خير هذا كتاب من عمرو بن العاص يخبرك بما فتح الله على يديه ثم سلم اليه الكتاب فلما قرأه خر ساجدا فرحا بنصر الله ثم قال والله قتل من المسلمين رجال اخيار منهم سعيد بن خالد قال أبو عامر فكان خالد والده جالسا فلما سمع بأن ولده قد قتل قال وا ابناه وجعل يبكيه حتى بكى المسلمون لبكائه ثم إن خالدا اسرع إلى فرسه فركبها وعزم إلى ارض فلسطين لينظر إلى قبر ولده فقال أبو عبيدة كيف تسير وتدعنا فقال انما انظر قبر ولدي وأرجو الله ان يلحقني به قال وكتب أبو عبيدة كتابا لعمرو بن العاص يقول فيه بسم الله الرحمن الرحيم إنما أنت مأمور فإن كان أبو بكر امرك أن تكون معنا فسر الينا وان كان امرك بالثبات في موضعك فاثبت والسلام عليك ورحمة الله وبركاته وطوى الكتاب وسلمه إلى خالد بن سعيد وسار مع أبي عامر إلى أن اتيا إلى جيش عمرو بن العاص فدفع له الكتاب وهو يبكي فوثب عمرو وصافح خالد ورفع منزلته وعزاه في ولده سعيد وعزاه
22

المسلمون فقال خالد يا أيها الناس هل اروى سعيد رمحه وسيفه في الكفار قالوا نعم فلقد قاتل وما قصر ولقد جاهد في الدين ونصر فقال أروني قبره قال فأروه إياه فأقام على القبر و قال يا ولدي رزقني الله الصبر عليك والحقني بك وانا لله وانا اليه راجعون والله ان مكنني الله لآخذن بثأرك يا ولدي عند الله احتسبتك ثم قال لعمرو بن العاص اني أريد أن أسري بسرية في طلب القوم فلعل أن أجد فيهم فرصة أو غنيمة وأكون قد أخذت بثأر ولدي فقال عمرو ان الحرب امامك يا ابن الام فإذا رأيت الروم فلا تبق عليهم فقال خالد والله لأسيرن إليهم ثم أخذ أهبته للمسير وعزم ان يسير وحده فركب معه ثلاثمائة فارس من فتيان حمير فساروا يومهم ذلك اجمع وأرادوا النزول في الأودية ليعلفوا دوابهم ويسيروا ليلتهم إذ نظر خالد بن سعيد إلى أشباح على ذروة جبل هناك عال منيع فقال لأصحابه اني أرى أشباحا على ذروة هذا الجبل ونحن في هذا الوادي ثم قال كونوا في اماكنكم ثم نزل عن فرسه وتقلد سيفه والتحف بإزاره وقال اعلموا ان القوم ما علموا بنا ولو نظروا الينا ما ثبتوا في أماكنهم فمن منكم يبذل نفسه ويصنع كما أصنع قالوا كلنا لك قال فطافوا في الجبل حتى أشرفوا على القوم وهم في أماكنهم فعند ذلك قال خذوهم بارك الله فيكم فأسرع إليهم المسلمون فقتلوا منهم ثلاثين وأسروا أربعة فسألهم خالد بن سعيد فإذا هم من أنباط الشام عن حالهم فقالوا نحن من أهل هذا البقيع والجامعة وكفار القرية وقد عظم علينا دخول العرب إلى بلادنا
وقد فزعنا منهم فزعا عظيما وقد هرب أكثرنا إلى الحصون والقلاع وقد اعتصمنا نحن بهذا الجبل لأنه ليس في الرستاق أحصن منه فعلونا عليه وأنتم كبستمونا قال خالد فما بلغكم عن جيش الروم قالوا بأجنادين وهذا البطريق أقبل الينا ليأخذ الميرة والعلوفة وقد جمعوا له الدواب والبغال والحمير تحمل الميرة وهم مع ذلك خائفون ان تلحقهم خيل العرب وهذا خبر قومنا ولا شك انهم رحلوا من يومهم قال فلما سمع خالد بن سعيد مقالتهم قال غنيمة للمسلمين ورب الكعبة ثم قال اللهم انصرنا عليهم ثم سأل على أي طريق سار القوم قالوا على هذه الطريق التي أنتم عليها لأنها أوسع الطرق كلها واما الميرة فإنها مجموعة من حول البلاد فلما سمع خالد كلامهم قال لهم
أسلموا فقالوا له ما نعرف الا دين الصليب ونحن فلاحين قال فهم خالد بقتلهم فقال رجل من أصحابه دعهم يدلونا على الطريق إلى مسيرة القوم فأجابوهم إلى ذلك وساروا وهم يدلونهم إلى تل عظيم قال فتوافق
23

القوم وهم يحملون دوابهم حول التل ومعهم ستمائة لابس من القوم فلما نظر خالد إلى ذلك قال لأصحابه اعلموا ان الله قد وعدكم بالنصر على عدوكم وفرض عليكم الجهاد وهذا جيش العدو امامكم فارغبوا في ثواب الله تعالى واسمعوا ما قال الله عز وجل ان الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا وكأنهم بنيان مرصوص وها انا احمل فاحملوا ولا يخرج أحد عن صاحبه ثم إن خالدا حمل وحمل أصحابه قال فلما رأونا استقبلونا وانهزم من كان مع الدواب من الفلاحين وصبرت الخيل لقتالنا ساعة من النهار قال فبينما ذو الكلاع الحميري يشجع أصحابه ويقول يا أهل حمير أبواب الجنة فتحت والحور العين قد تزخرفت وإذا بصاحب القوم قد لقيه خالد فعرفه بلامته وحسن زيه قال فاستقبله وصرخ فيه فأرعبه ثم قال يا لثأر ولدي سعيد وطعنه طعنة صادقة فجندله صريعا كأنه برج من حديد وما بقي أحد الا قتل من الروم قال فلما رأى الروم ذلك ولوا الادبار وركنوا إلى الفرار وقتل منهم ثلاثمائة وعشرون فارسا وولى الباقون منهزمين وتركوا الأثقال والبغال والميرة واخذ المسلمون الجميع بعون الله تعالى قال وأطلق سراح الفلاحين وعاد خالد ومن معه بالغنائم والميرة إلى عمرو بن العاص ففرح بسلامتهم وشكر فعلهم وكتب كتابا إلى أبي بكر الصديق وذكر له ما جرى مع الروم وبعث الكتاب مع أبي عامر الدوسي رضي الله عنه واخذه وقدم به المدينة وأعطاه أبا بكر الصديق رضي الله عنه فلما قرأه على المسلمين فرحوا وضجوا بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير ثم إن أبا بكر استخبر عن أبي عبيدة فقال له عامر انه قد اشرف على أوائل الشام ولم يجسر على الدخول إليها وانه سمع ان جيوش الملك قد اجتمعت من حول أجنادين وهم أمم لا تحصى وقد خاف على المسلمين أن يتوسط بهم عدوهم
خالد بن الوليد في الشام
فلما سمع أبو بكر ذلك علم أن أبا عبيدة لين العريكة ولا يصلح لقتال الروم وعول أن يكتب إلى خالد بن الوليد ليوليه على جيوش المسلمين وقتال الروم واستشار المسلمين في ذلك فقالوا الرأي ما تراه وكتب كتابا يقول الوليد سلام عليك اما بعد فاني احمد الله الذي لا إله إلا هو واصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم واني قد وليتك على جيوش المسلمين وأمرتك بقتال الروم وان تسارع إلى مرضاة الله عز وجل وقتال أعداء الله وكن ممن يجاهد في
24

الله حق جهاده ثم كتب يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب اليم الآية وقد جعلتك الأمير على أبي عبيدة ومن معه وبعث الكتاب مع نجم بن مقدم الكناني فركب على مطيته وتوجه إلى العراق فرأى خالدا رضي الله عنه قد اشرف على فتح القادسية فدفع اليه الكتاب فلما قرأه قال السمع الطاعة لله ولخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ارتجل ليلا واخذ طريقه عن اليمين وكتب كتابا إلى أبي عبيدة يخبره بعزله وبسيره إلى الشام وقد ولاني أبو بكر على جيوش المسلمين فلا تبرح من مكانك حتى اقدم عليك والسلام وبعث الكتاب مع عامر بن الطفيل رضي الله عنه وكان أحد أبطال المسلمين فأخذه وتوجه يطلب الشام
وأما خالد فلما وصل إلى ارض السماوة قال أيها الناس ان هذه الأرض لا تدخلونها الا بالماء الكثير لأنها قليلة الماء ونحن في جيش عظيم والماء معكم قليل فكيف يكون الامر فقال له رافع بن عميرة الطائي رضي الله عنه أيها الأمير اني أشير عليك بما تصنع فقال يا رافع أرشدك الله بما نصنع ووفقك الله مولانا جل وعلا للخير قال فأخذ رافع ثلاثين جملا وعطشها سبعة أيام ثم أوردها الماء فلما رويت خرم أفواهها ثم ركبوا المطايا وجنبوا الخيول وساروا فكانوا كلما نزلوا منزلا أخذوا عشرة من الإبل يشقون بطونها ويأخذون ما يجدون من الماء في بطونها فيجعلونه في حياض الادم فإذا برد سقوه للخيل واكلوا اللحم ولم يزالوا كذلك حتى تمت الإبل وفرغ الماء وقطعوا مرحلتين بلا ماء وأشرف خالد ومن معه على الهلاك فقال خالد لرافع ابن عميرة يا رافع قد أشرفنا على الهلاك والتلف أتعرف لنا ماء ننزل فيه
قال الواقدي وكان رافع رمدت عيناه فقال أيها الأمير أتاني رمد كما ترى ولكن إذا اشرفتم على ارض سهلة فاعلموني قال فلما أشرفوا عليها اعلموا رافعا بذلك قال فرفع طرف عمامته عن عينيه وسار على راحلته يضرب يمينا وشمالا والناس من ورائه إلى أن أقبل على شجرة من الأراك فكبر وكبر المسلمون ثم قال احفروا هنا قال فحفرت العرب وإذ الماء قد طلع كالبحر فنزل الناس عليه وشكروا الله تعالى واثنوا عليه وعلى رافع خيرا ثم وردوا الماء وسقوا خيلهم وابلهم ثم جدوا في طلب من انقطع من المسلمين ومعهم القرب بالماء قال فسقوهم فارتجعت قوتهم ثم لحقوا بالجيش وأراحوا أنفسهم ثم في ثاني يوم جدوا في المسير إلى أن بقي بينهم وبين أركة مرحلة واحدة فبينما هم كذلك إذ أشرفوا على حلة عامرة واغنام وابل قد سدت الفضاء
25

والمستوى فأسرع المسلمون إلى الحلة وإذا براع يشرب الخمر والى جانبه رجل من العرب مشدود قال فتبينه المسلمون وإذا هو عامر بن الطفيل الذي أرسله خالد قال فأقبل خالد ابن الوليد مسرعا حتى وقف عليه فلما رآه تبسم وقال يا ابن الطفيل كيف كان سبب اسرك قال عامر أيها الأمير اني أشرفت على هؤلاء القوم في هذه الحلة وقد أصابني الحر والعطش فملت إلى هذا الراعي ليسقيني من اللبن فوجدته يشرب خمرا فقلت له يا عدو الله أتشرب الخمر وهي محرمة فقال لي يا مولاي انها ليس بخمر وانما هي ماء زلال فانزل كي تراه واستنشق ما في الجفنة فإن كان خمرا فافعل ما بدا لك فلما سمعت كلامه أنخت المطية ونزلت عن كورها وجلست على ركبتي في الجفنة وإذا نا بالعبد قد طلبنا بعصا كانت إلى جانبه وضربني على رأسي فشجني شجة موضحة فانقلبت على جانبي فأسرع العبد إلي وشدني كتافا واوثقني رباطا وقال لي
أظنك من أصحاب محمد بن عبد الله ولست أدعك من بين يدي أو يقدم سيدي من عند الملك فقلت له ومن سيدك من العرب فقال القداح بن وائلة واني عند هذا العبد كلما شرب الخمر حضرني كما ترى والقى علي فضلة من كأسه قال فلما سمع خالد بن الوليد كلام عامر بن الطفيل اشتد به الغضب ومال على العبد وضربه ضربة هائلة فجندله صريعا ونهب المسلمون المال والأغنام والإبل وقلعوا الحلة بما فيها وأطلق عامرا وقال له أين رسالتي يا عامر فقال يا مولاي هي في طرف عمامتي لم يعلم بها العبد فقال خالد انطلق بها يا عامر على بركة الله تعالى قال فركب عامر وسار يطلب الشام وارتحل خالد من موضعه ذلك فنزل بأركة وهي رأس الأمانة لمن يخرج من العراق وكانت الروم تمسك بها القوافل وكان عليها بطريق من قبل الملك فأغار خالد عليها وأخذ ما كان فيها وتحصن أهلها بحصنها وكان يسكن فيها حكيم من حكماء الروم وقد طالع الكتب القديمة والملاحم فلما رأى المسلمين وجيشهم انتقع لونه وقال اقترب الوقت وحق ديني فقال أهل اركة وكيف ذلك قال إن عندي ملحمة فيها ذكر هؤلاء القوم وان أول راية تشرف من خيلهم هي الراية المنصورة وقد دنا هلاك الروم فانظروا ان كانت رايتهم سوداء وأميرهم عريض اللحية طويل ضخم بعيد ما بين المنكبين واسع الهيكل في وجهه أثر جدري فهو صاحب جيشهم في الشام وعلى يديه يكون الفتح
قال فنظر القوم وإذا الراية على رأس خالد وهي كما قال حكيمهم قال
26

واجتمعوا على بطريقهم وقالوا له أنت تعلم أن الحكيم سمعان لا ينطق الا بالحق والحكمة وقد قال كذا وكذا والذي وصفه لنا رأيناه عيانا ونرى من الرأي أن نعقد بيننا وبين العرب صلحا ونأمن على حريمنا وأنفسنا فلما سمع ذلك بطريقهم قال اخروني إلى غد لأرى من الرأي قال فانصرفوا من عنده وبات البطريق يحدث نفسه ويدبر امره وكان عارفا عاقلا خبيرا بالأمور وقال إن أنا خالفتهم خفت أن يسلموني للعرب وقد تحقق أن روبيس سار بجيش عظيم فهزمهم العرب ولم يزل يراود نفسه إلى أن أصبح الصباح فدعا قومه وقال على ماذا عولتم قالوا عولنا على اننا نقيم الصلح بيننا وبين العرب فقا البطريق انا واحد منكم مهما فعلتم لا أخالفكم قال فخرج مشايخ أركة إلى خالد وكلموه في الصلح فأجابهم إلى الصلح والان الكلام لهم وتلقاهم بالرحب والسعة ليسمع بذلك أهل السخنة ويبلغ الخبر لأهل قدمه وكان الوالي عليهم بطريق اسمه كوكب فجمع رعيته وقال لهم بلغني عن هؤلاء العرب انهم فتحوا أركة والسخنة وان قومنا يتحدثون بعدلهم وحسن سيرتهم وانهم لا يطلبون الفساد وهذا حصن مانع لا سبيل لاحد علينا ولكن نخاف على نخلنا وزرعنا وما يضرنا ان نصالح العرب فان قومنا هم الغالبين فسخنا صلحهم وان كان العرب ظافرين كنا آمنين قال ففرح قومه بذلك وهيئوا العلوفة والضيافة حتى خرج خالد رضي الله عنه من اركة ونزل عليهم فخرجوا الهي بالخدمة وصالحهم على ثلاثمائة أوقية من الذهب وكتب لهم كتابا بالصلح ثم ارتحل عنها إلى حوران وبلغ عامر بن الطفيل كتاب خالد إلى عبيدة فلما قرأه تبسم وقال السمع والطاعة لله تعالى ولخليفة رسول الله صلى الله علبه وسلم ثم اعلم المسلمين بعزله وولاية خالد بن الوليد وكان أبو عبيدة وجه شرحبيل بن حسنة كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بصرى في أربعة آلاف فارس قال فسار على فنائها وكان على بصرى بطريق عظيم الشان والقدر عند الملك وعند الروم اسمه روماس وكان قرأ الكتب السالفة والاخبار الماضية وكان يجتمع اليه الروم من أقصى بلادها ينظرون إلى عظيم خلقته ويسمعون ألفاظ حكمته وكانت آهلة بالخلق عامرة بالناس وكان فيها ألف فارس وكان العرب يقصدونا ببضائعهم وتجارتهم من أقصى اليمين وبلاد الحجاز فإذا كان في أيام الموسم ينصب لبطريقهم كرسي ليجلس عليه ويجتمع الناس اليه ويستفيدون من علمه وحكمته فبينما هم قد اجتمعوا اليه وقعت الضجة بقدوم شرحبيل بن حسنة وعسكره فبادر إلى جواده
27

فركبه وصاح في قومه فأجابوه وقال لا تتحدثوا حتى نسمع كلام القوم وما عندهم ثم سار حتى قرب من شرحبيل بن حسنة وجيشه ونادى يا معشر المسلمين انا روماس واني أريد صاحبكم قال فخرج اليه شرحبيل فلما قرب منه قال البطريق من أنتم قال شرحبيل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم النبي الأمي القرشي الهاشمي المنعوت في التوراة والإنجيل فقال روماس ما فعل الله به
فقال شرحبيل قبضه الله اليه فقال البطريق فمن ولى الامر بعده قال عتيق بن أبي قحافة بن بكر بن تيم بن مرة فقال روماس وحق ديني لقد أعلم بأنكم على الحق ولا بد لكم ان تملكوا الشام والعراق وانا اشفق عليكم إذا بتم في جمع يسير ونحن في جمع كثير ولكن ارجعوا إلى بلادكم فانا لا نتعرض لكم واعلم يا أخا العرب إن أبا بكر هو صاحبي ورفيقي ولو كان حاضرا ما قاتلني فقال شرحبيل لو كن وله أو ابن عمه لما عفا عنه الا ان يكون من أهل ملته وليس له في الامر شيء لأنه مكلف وقد امره الله ان يجاهدكم ولسنا نبرح عنكم الا بإحدى ثلاث اما ان تدخلوا في ديننا أو تأدوا الجزية أو السيف فقال روماس وحق ما اعتقده من ديني لو كان الامر إلي ما أقاتلكم لأني أعلم انكم على حق وهؤلاء طواغية الروم وقوم مجتمعون واني أريد ان ارجع إليهم وانظر ما عندهم فقال شرحبيل ارجع إليهم فلا بد لكم بما ذكرت قال فعاد روماس إلى قومه وجمعهم وقال يا أهل دين النصراينة وبني ماء المعمودية ان الذي كنتم تعتقدونه في كتبكم من الخروج من بلادكم ودياركم ونهب أموالكم قد قرب وهذا وقته وزمانه ولستم أعظم جيشا من روبيس سار إلى شرذمة من العرب بأرض فلسطين فقتل وقتل من معه وانهزم الباقون ولقد بلغني ان رجلا منهم قد خرج من ارض السماوة صوب العراق اسمه خالد بن الوليد وقد فتح أركة والسخنة وتدمر وحوران وهو عن قريب يحضر إليكم والصواب أن تؤدوا الجزية عن يد إلى هؤلاء العرب وينصرفون عنكم قال فلما سمع قومه ذلك غضبوا وشوشوا وهموا بقتله فقال روماس يا قوم انما أردت ان اختبركم وأرى حمية دينكم والان دونكم والقوم وانا في أولكم قال فرجعت الروم إلى عددها وعديدها وتظاهروا بالدروع البيض وقادوا الجنائب وتهيئوا للحملة فلما رأى شرحبيل بن حسنة ذلك وعظ أصحابه وقال اعلموا رحمكم الله ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
الجنة تحت ظلال السيوف وأحب ما قرب إلى الله
28

قطرة دم في سبيل الله أو دمعة جرت في جوف الليل من خشية الله قال الله تعالى * (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) * ثم جمل
وحمل المسلمون على جيش بصرى قال عبد الله بن عدي واجتمع علينا العدو وطمعوا فينا وحملوا علينا في اثني عشر الف فارس من الروم ونحن فيهم كالشامة البيضاء في جلد البعير الأسود وصبرنا لهم صبر الكرام ولم يزل القتال بيننا وبينهم إلى أن توسطت الشمس في قبة الفلك وقد طمع العدو فينا فرأيت شرحبيل بن حسنة قد رفع يده إلى السماء وهو يقول يا حي يا قيوم يا بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والاكرام اللهم انصرنا على القوم الكافرين قال فوالله ما استم شرحبيل كلامه ودعاءه حتى جاء النصر من عند الله العزيز الحكيم وذلك أن القوم داروا بنا فرأينا غبرة قد أشرفت علينا من صوب حوران فلما قربت لنا رأينا تحتها سوابق الخيل فلاحت لنا الاعلام الاسلامية والرايات المحمدية وقد سبق الينا فارسان أحدهما ينادي ويزعق يا شرحبيل يا ابن حسنة ابشر النصر لدين الله انا الفارس الصنديد والبطل المجيد انا خالد ابن الوليد والاخر يزعق ويقول انا عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وأشرفت العساكر من كل جانب قال وأشرفت راية العقاب يحملها رافع بن عميرة الطائي قال حدثنا سالم بن عدي عن ورقاء بن حسان العامري عن مسيرة بن مسروق العبسي قال
والله لقد خمدت أصوات الروم عند زعقة خالد رضي الله عنه واقبل المسملون يسلم بعضهم على بعض واقبل شرحبيل بن حسنة إلى خالد بن الوليد وسلم عليه فقال خالد يا شرحبيل أما علمت أن هذه مينا الشام والعراق وفيها عساكر الروم وبطارقتهم فكيف غررت بنفسك وبمن معك من المسلمين قال كله بأمر أبي 2 عبيدة فقال خالد أما أبو عبيدة فإنه رجل خالص النية وليس عنده غائلة الحرب ولا يعلم بمواقعها ثم أمر الناس بالراحة فنزلوا وارتاحوا من اتعابهم فلما كان في اليوم الثاني زحفت جيوش بصرى على المسلمين فقال خالد ان الروم زحفوا لعلمهم بتعبنا وتعب خيولنا فاركبوا بارك الله فيكم واحملوا على بركة الله تعالى قال فركب المسملون واخذوا اهبتهم للحرب فجعل من الميمنة رافع بن عميرة الطائي وجعل في الميسرة ضرار بن الأزور وكان غلاما فاتكا في الحرب وجعل على الدرك عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ثم قسم جيش الزحف فجعل على
29

شطره المسيب بن نجيبة الفزاري وعلى الشطر الاخر مذعور بن غانم الأشعري وأمرهم ان يزفوا الخيل إذا حملت قال وبقي خالد في الوسط وهو يعظ الناس ويوصيهم وقد عزموا على الحملة وإذا بصفوف الروم قد انشقت وخرج من وسطها فارس عظيم الخلقة كثير الزينة يلمع ما عليه من الذهب الأحمر والياقوت فلما توسط الجمعين نادى بلسان عربي كأنه بدوي يا معشر العرب لا يبرز لي الا أميركم فأنا صاحب بصرى قال فخرج اليه خالد رضي الله عنه كالأسد الضرغام وقرب منه فقال له البطريق أنت أمير القوم قال كذلك يزعمون اني أميرهم ما دمت على طاعة الله ورسوله فان عصيته فلا امارة لي عليهم قال البطريق اني رجل عاقل من عقلاء الروم وملوكهم وان الحق لا يخفى عن ذي بصيرة واعلم اني قرأت الكتب السابقة والاخبار الماضية فوجدت ان الله تعالى يبعث قرشيا واسمه محمد بن عبد الله قال خالد والله نبينا قال انزل عليه الكتاب قال نعم القرآن قال روماس البطريق أحرم عليكم فيه الخمر قال خالد نعم من شربها حددناه ومن زنى جلدناه وان كان محصنا رجمناه قال أفرضت عليكم الصلوات قال نعم خمس صلوات في اليوم والليلة قال أفرض عليكم الجهاد قال خالد لولا ذلك ما جئناكم نبغي قتالكم قال روماس والله اني لاعلم انكم على الحق واني أحبكم وحذرت قومي منكم واني خائف منكم فأبوا فقال خالد فقل اشهد ان لا إله إلا الله وان محمدا رسول الله يكون لك ما لنا وعليك ما علينا فقال إني أسلمت وأخاف ان يعجل هؤلاء بقتلي وسلبي حريمي ولكن أنا أسير إلى قومي وارغبهم فلعل الله ان يهديهم فقال خالد وان رجعت إلى قومك بغير قتال يكون بيني وبينك خفت عليك ولكن احمل علي حتى لا يتهموك وبعد ذلك اطلب قومك فحمل بعضهم على بعض وأرى خالد الفريقين أبوابا من الحرب حتى أبهر روماس فقال لخالد شدد علي الحملة حتى يرى الديرجان فاني خائف عليك من بطريق بعث به الملك يقال له الديرجان فقال خالد ينصرنا الله عليه ثم شدد على روماس الحملة حتى أنه انهزم من بين يديه إلى قومه فلما وصل إلى قومه قالوا ما الذي رايت من العرب قال إن العرب اجلاد ما لكم بقتالهم طاقة ولا بد لهم ان يملكوا الشام وما تحت سريري هذا فأدخلوا تحت طاعتهم وكونوا مثل اركة والسخنة قال فلما سمعوا كلامه زجروه وأرادوا قتله وقالوا له ادخل المدينة والزم قصرك ودعنا لقتال العرب فانصرف روماس وقال لعل الله ينصر خالد ثم إن أهل بصرى
30

ولو عليهم الديرجان وقالوا إذا فرغنا من المسلمين سرنا معك إلى الملك ونسأله ان ينزع روماس ويوليك علينا قال الديرجان وما الذي تريدون قالوا نحمل ونطلب قتال العرب قال فخرج الديرجان وطلب خالدا
فقال عبد الرحمن لخالد يا أمير أنا اخرج اليه فقال دونك يا ابن الصديق فخرج عبد الرحمن وحمل على الديرجان فما لبثوا غير ساعة وقد أحس الديرجان من نفسه بالتقصير فولى منهزما وراح إلى قومه فلما رأوا ذلك منه نزل الرعب في قلوبهم وعلم خالد ما عند القوم من الفزع فحمل وحمل عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وحمل المسلمون فلما نظر أهل بصرى إلى حملة المسلمين حملوا وتلاقى الفريقان وضجت الرهبان بكلمة كفرهم فقال شرحبيل بن حسنة اللهم ان هؤلاء إليك بلا اله الا أنت وان محمدا عبدك ورسولك الا ما نصرت هذا الدين على أعدائك المشركين ثم حملوا حملة واحدة فلم يكن للروم ثبات مع العرب فولى المشركون الادبار وركنوا إلى الفرار فلما حطوا داخل المدينة اغلقوا الأبواب وتحصنوا بالاسوار ورفعوا الصلبان وعولوا ان يكتبوا للملك ليمدهم بالخيل والرجال قال عبد الله بن رافع فلما تحصنوا رجعنا عنهم وافتقدنا اصحبانا فوجدنا قد قتل منا مائة وثلاثون فارسا وقتل من الأعيان بدريان قال وغنم المسلمون الأموال وصلى خالد على الشهداء وأمر بدفنهم فلما كان الليل تولى الحرس عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ومعمر بن راشد ومائة من جيش الزحف فبينما هم يدورون حول العسكر وإذا بروماس صاحب بصرى قد اقبل عليهم وقال لهم أين خالد بن الوليد فأخبروه واتوا به إلى خالد فلما رآه رحب به فقال أيها الأمير بعد ان فارقتك طردني قومي واقلوا الزم قصرك والا قتلناك فلزمت قصري وهو ملاصق للسور ولما وقع لهم ما وقع وانهزموا تحصنوا فلما جن الليل أمرت غلماني بحفر السور وفتحوا فيه بابا فأتيتك فأرسل معي من تعتمد عليه من أصحابك تستلمون المدينة فلما سمع خالد هذا الكلام أمر عبد الرحمن بن أبي بكر ان يأخذ مائة من المسلمين ويسيروا مع روماس قال ضرور بن الأزور وكنت ممن دخل المدينة فلما صرنا في
قصر روماس فتح لنا خزانة السلاح فلبسنا من سلاحهم وقسمنا أربعة أقسام كل جانب خمسة وعشرون رجلا وقال لنا عبد الرحمن إذا سمعتم التكبير فكبروا فلما سرنا حيث أمرنا أخذنا أنفسنا بالحملة على القوم
قال الواقدي بلغني ممن أثق به من الرواة ان عبد الرحمن لما فارق
31

أصحابه لبس سلاحه هو وروماس يطلبون الدرج الذي عليه الديرجان وسار معهم ضرار ورافع وشرحبيل بن حسنة فقال لا اهلا ولا مرحبا بك ومن الذي معك قال معي صديق لك ومشتاق إلى رؤياك قال ويحك ومن هو يا روماس قال هذا بن أبي بكر الصديق فلما سمع الديرجان ذلك هم ان يقتله فلم تطاوعه نفسه فحمل عليه عبد الرحمن وهز سيفه في وجهه وضربه على عاتقه فتجندل صريعا يخور في دمه وعجل الله بروحه إلى النار قال وكبر عبد الرحمن فأجابه روماس وسمع أصحابه التكيبر فكبروا من جوانب بصرى قال واجابتهم الأحجار والأشجار قال وكبر المسلمون من جوانب بصرى ووضعوا السيف في الروم وسمع خالد التكبير فصرخوا وإذا لغلمان روماس وأولاده قد فتحوا لهم الأبواب فعبر خالد ومن معه من المسلمين فلما نظر أهل بصرى إلى الأبواب وقد فتحت بالسيف قهرا ضجوا بأجمعهم يقولون الأمان الأمان فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه ارفعوا السيف عنهم واقام خالد إلى الصباح واجتمع اليه أهلها وقالوا يا أيها الأمير لو صالحناك ما جرى شيء من ذلك لكن نسألك بالذي أيدك ونصرك ما الذ ي فتح لك أبواب مدينتنا فاستحى خالد رضي الله عنه ان يقول فوثب روماس وقال انا فعلت ذلك يا أعداء الله وأعداء رسوله وما فعلته الا ابتغاء مرضاة الله وجهادا فيكم فقالوا أولست منا فقال اللهم لا تجعلني منهم رضيت بالله ربا وبالاسلام دينا وبالكعبة قبلة وبالقرآن اماما وانا اشهد ان لا إله إلا الله وان محمدا رسول الله قال ففرح خالد بذلك وأما أهل بصرى فغضبوا وأضمروا له شرا وعلم بذلك روماس فقال لخالد انا لا أريد المقام عندهم واني أسير معك حيث سرت فإذا فتح الله على يديك الشام وصار لكم الامر ردوني إليها لان الوطن عزيز
قال الواقدي حدثني معمر بن سالم عن جده قال كان روماس يجاهد معنا جهادا حسنا حتى فتح الله على أيدينا الشام فكان أبو عبيدة يكاتب به عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أيامه فولاه على بصرى فلم يلبث الا يسيرا حتى توفي رحمه الله وخلف عقبا يذكر به قال وأمر خالد رجالا يعينونه على اخراج رحله وماله من المدينة ففعلوا ذلك وإذا بزوجته تخاصمه وتطلب فراقه فقال لها المسلمون ما الذي تريدين قال أريد أمير جيشكم يحكم بيننا فجاؤوا بها إلى خالد فقالت له أنا استغيث بك من روماس فقال لها خالد وكيف ذلك فقالت اني كنت البارحة نائمة إذ رايت شخصا ما رأيت منه وجها كأن البدر يطلع من بين عينيه وكأنه يقول إن
32

المدينة فتحت على يد هؤلاء القوم والشام والعراق فقلت له ومن أنت يا سيدي قال محمد رسول الله ثم دعاني إلى الاسلام فأسلمت ثم علمني سورتين من القرآن قال فحدث الترجمان خالد بما كان منها فقال ان هذا لعجيب ثم قال خالد للترجمان قل لها ان تقرأ السورتين فقرأت الفاتحة وقل هو الله أحد ثم جددت اسلامها على يد خالد بن الوليد وقالت يا أيها الأمير اما أن يسلم روماس والا يتركني أعيش بين المسلمين قال فضحك خالد من قولها وقال سبحان الله الذي وفقنا جميعا ثم قال للترجمان قل لها ان روماس اسلم قبلها ففرحت بذلك ثم إن خالدا أحضر أهل بصرى وقررهم على أداء الجزية وولى عليهم من اتفق رأيه عليه ثم كتب إلى أبي عبيدة كتابا يبشره بالفتح ويقول له يا صاحب رسول الله قد ارتحلنا إلى دمشق فألحقنا إليها ثم كتب كتابا اخر إلى أبي بكر الصديق يخبره برحيله ويقول له يوم كتبت إليك هذا الكتاب ارتحلت إلى دمشق فادع لنا بالنصر والسلام عليك ومن معك ورحمة الله وبركاته ثم بعث الكتابين كلاهما ثم ارتحل خالد إلى نحو دمشق حتى اشرف على موضع يقال له الثنية فوقف هناك وركز راية العقاب فسميت بذلك ثنية العقاب ثم ارتحل منها إلى الدير المعروف الان بدير خالد وكان أهل السواد قد التجئوا إلى دمشق وقد اجتمعت خلائق وأمم لا تحصى من الرجال واما أصحاب الخيل فكانوا اثني عشر ألفا وقد زينوا اسوارهم بالطوارق والبيارق والصلبان واقام خالد على الدير ينتظر قدوم المسلمين
قال الواقدي ووصلت الاخبار إلى الملك هرقل وما فتح خالد من الشام وكيف قدم على دمشق فغضب وجمع البطارقة وقال يا بني الأصفر لقد قلت لكم وحذرتكم فأبيتم وهؤلاء العرب قد فتحوا اركة وتدمر والسخنة وبصرى وقد توجهوا إلى الربوة ففتحوها فواكرباه لان دمشق جنة الشام وقد سارت إليها الجيوش وهم اضعاف العرب ثم قال أيكم يتوجه إلى قتال العرب ويكفيني أمرهم فان هزمهم أعطيته ما فتحوه ملكا فقال بطريق من البطارقة أسمه كلوس بن حنا وكان من فرسانهم وقد عرفت شجاعته في عساكر الروم والفرس أيها الملك أنا أكفيك وأردهم على أعقابهم منهزمين قال فلما سمع الملك قوله سلم اليه صليبا من الذهب وقدمه على خمسة آلاف فارس وقال له قدم صليبك أمامك فإنه ينصرك قال فأخذه كلوس وسار من يومه من أنطاكية إلى أن وصل حمص فوجدها مزينة بالسلاح فلما بلغ أهلها قدومه خرجوا إلى لقائه وقد خرجت القسس والرهبان واستقبلوه ودعوا له
33

بالنصر وأقام بحمص يوما وليلة ثم ارتحل إلى مدينة بعلبك فخرج اليه النساء لاطمات الخدود وقلن أيها السيد ان العرب فتحوا اركة وحوران وبصرى فقال لهن كيف قدرت العرب على حوران وبصرى فقلن أيها السيد ان الذين ذكرتهم لم يبرحوا من أماكنهم وان هذا الرجل قد أقبل من العراق وهو الذي فتح أركة فقال وما اسمه قلن خالد بن الوليد قال في كم يكون من العساكر قلن في الف وخمسمائة فارس فقال وحق المسيح لاجعلن رأسه على رأس سناني ثم رحل فلم ينزل الا بدمشق وكان واليها بطريقا من قبل الملك هرقل اسمه عزازير فلما قدم كلوس اجتمع عليه عزازير وأصحابه وقرأوا عليهم منشور الملك ثم قال لهم أتريدون أن أقاتل عدوكم وأصده عن بلادكم قالوا نعم فقال اخرجوا عزازير عنكم حتى أكون وحدي في هذا الامر فقالوا أيها السيد وكيف ينبغي أن يخرج صاحبنا من بلدنا وهذا العدو قاصد الينا قال فغضب عزازير في وجه كلوس من كلامه وقد اتفق رأيهم على أن كل واحد يقاتل العرب يوما فثبتت عداوة عزازير في قلب كلوس
قال الواقدي ولقد بلغني انهم كانوا يخرجون كل يوم من باب الجابية مقدار فرسخ ينظرون قدوم أبي عبيدة بن الجراح فلم يشعروا حتى قدم إليهم خالد بن الوليد من نحو الثنية قال حدثنا يسار بن محمد قال أخبرنا رفاعة بن مسلم قال كنت في جيش خالد بن الوليد لما نزل على الدير المعروف به وإذا بجيش الروم قد زحف علينا وهو
كالجراد المنتشر فلما نظر خالد ذلك تدرع بدرع مسلمة ثم صرخ في وجه المسلمين وقال هذا يوم ما بعده يوم وهذا العدو قد زحف بخيله فدونكم والجهاد فانصروا الله ينصركم وكونوا ممن باع نفسه لله عز وجل وكأنكم باخوانكم المسلمين قدموا عليكم مع أبي عبيدة بن الجراح ثم بعد ذلك استقبل الجيش وصرخ بملء رأسه فأرعب المشركين من صرخته وحمل شرحبيل بن حسنة وعبد الرحمن بن أبي بكر وضرار بن الأزور ومذ حمل ضرار لم يول عنهم بل قتل من الميمنة خمسة فرسان ومن الميسرة كذلك ثم حمل ثاني مرة فقتل منهم ستة فرسان ولولا سهام القوم لما رد عن قتالهم فشكره خالد بن الوليد وقال لعبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه احمل بارك الله فيك قال فحمل عبد الرحمن وفعل كما فعل ضرار بن الأزور وقاتل قتالا شديدا ثم حمل من بعده خالد بن الوليد ورفع رمحه ورأى العسكر من أمور الحرب حتى جزع الروم من شجاعته
34

فلما نظر اليه البطريق كلوس علم أنه أمير الجيش وعلم أنه يقصده فتأخر كلوس إلى ورائه من مخافته فلما نظر خالد إلى قهقرة كلوس إلى ورائه حمل عليه ليرده فوقعت عليه البطارقة ورموه بالسهام فلم يلتفت إليهم خالد ولم يعبأ بهم ولم يرجع حتى قتل عشرين ثم انثنى بجواده بين الصفين وجال بجواده بين الفريقين وطلب البراز فلم يجبه أحد وقالوا أخرجوا غيره منكم فقال ويلكم ها أنا رجل واحد من العرب وكلنا في الحرب سواء فما منهم من فهم كلامه فأقبل عزازير على كلوس وقال أليس الملك قد قدمك علي جيشه وبعثك إلى قتال العرب فدونك حام عن بلدك ورعيتك
فقال كلوس أنت أحق مني بذلك لأنك أقدم مني وقد عزمت أنك لا تخرج الا باذن الملك هرقل فما بالك لا تخرج إلى قتال أمير العرب فقال لهما العساكر تقارعا فمن وقعت عليه القرعة فلينزل إلى قتال أمير العرب فقال كلوس لا بل نحمل جميعا فهو أهيب لنا قال وخاف كلوس أن يبلغ الملك ذلك فيطرده من عنده أو يقتله قال فتقارعا فوقعت القرعة على كلوس فقال عزازير اخرج وبين شجاعتك فقال كلوس لأصحابه أريد أن تكون همتكم عندي فان رأيتم مني تقصيرا فاحملوا وخلصوني فقال لأصحابه هذا كلام عاجز لا يفلح أبدا فقال يا قوم ان الرجل بدوي ولغته غير لغتي فخرج معه رجل أسمه جرجيس وقال له أنا أترجم لك فسار معه فقال كلوس اعلم يا جرجيس ان هذا رجل ذو شجاعة فان رأيته غلبني فاحمل أنت عليه حتى نقضي يومنا معه ويخرج له غدا عزازير فيقتله ونستريح منه وأتخذك أنا صديقي فقال له ما أنا أهل حرب وانما أخوفه بالكلام قال فسكت وسارا حتى قربا من خالد فنظر اليهما قال فهم أن يخرج اليهما رافع بن عميرة فصاح فيه خالد قال مكانك لا تبرح فاني كفء لهما فلما دنوا من خالد قال كلوس لصاحبه قل له من أنت وما تريد وخوفه من سطواتنا فقرب جرجيس من خالد قال له يا أخا العرب أنا اضرب لك مثلا ان مثلكم ومثلنا كمثل رجل له غنم فسلمها إلى راع وكان الراعي قليل الجرأة على الوحوش فأقبل عليه سبع عظيم فجعل يلتقط منه كل ليلة رأسا إلى أن انقضت الأغنام والسبع ضار عليها ولم يجد له مانعا عنها فلما نظر صاحب الغنم ما حل بغنمه علم أنه لم يؤت الا من الراعي فانتدب لغنمه غلاما نجيبا فسلمه الغنم فكان كل ليلة يكثر الطوفان حول الغنم فبينما الغلام كذلك إذ أقبل عليه السبع على عادته الأصلية واخترق الغنم فهجم الغلام على السبع وبيده منجل فضربه فقتله ولم يقرب الغنم وحش بعدها وكذلك
35

أنتم نتهاون بأمركم لأنه ما كان أضعف منكم لأنكم جياع مساكين ضعفاء وتعودتم أكل الذرة والشعير ومص النوى فلما خرجتم إلى بلادنا وأكلتم طعامنا وفعلتم ما فعلتم وقد بعث لكم الملك رجالا لا تقاس بالرجال ولا تكترث بالابطال ولا سيما هذا الرجل الذي بجانبي فاحذر منه أن ينزل بك ما انزل الغلام بالأسد وقد سألني أن أخرج إليك واتلطف بك في الكلام فأخبرني ما الذي تريد قبل أن يهجم عليك هذا الفارس فلما سمع خالد منه ذلك قال يا عدو الله والله لا نحسبكم عندنا في الحرب الا كقابض الطير بشبكة وقد قبضتها يمينا وشمالا فلم يخرج الا ما انفلت منه وأما ما ذكرت من بلادنا وأنها بلاد قحط وجوع فالامر كذلك الا أن الله تعالى ابدلنا ما هو خير منه فأبدلنا بدل الذرة الحنطة والفواكه والسمن والعسل وهذا كله قد رضيه لنا ربنا ووعدنا به على لسان نبيه وأما قولك ما الذي تريدونه منا فنريد منكم احدى ثلاث خصال اما أن تدخلوا في ديننا أو تؤدوا الجزية أو القتال وأما قولك ان هذا الرجل الذليل الذي هو عندكم مسكين فهو عندنا أقل القليل وان يكن هو ركن الملك فأنا ركن الاسلام أنا الفارس الصنديد أنا خالد بن الوليد أنا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم
معارك الشام
قال الواقدي رحمه الله تعالى فلما سمع جرجيس كلام خالد تأخر إلى وراءه وقد تغير لونه فقال له كلوس يا ويلك رأيتك في بدايتك تهيم كالسبع فمالك قد تأخرت فقال وحق المسيح ما أعلم انه الفارس الجحجاح وبطلهم الصفاح هذا صاحب القوم الذي ملأ الشام شرا فقال كلوس يا جرجيس اسأله ان يؤخر الحرب بيننا إلى غد فالتفت إلى خالد وقال له يا سيد قومك هذا صاحبي يريد ان يرجع إلى قومه ليشاورهم فقال خالد ويحك أتريد ان تخدعني بالكلام وأقبل برمحه في وجه جرجيس فلما نظر جرجيس ذلك انعقد لسانه وولى هاربا فلما رأى خالد ذلك طلب كلوس وحمل عليه وتطاعنا واحترز البطريق من طعنات خالد فلما نظر خالد احتراز البطريق خط يده في أطواقه وجذبه فقلعه من سرجه فلما نظر المسلمون فعل خالد كبروا بأجمعهم وتسابق الفرسان إلى خالد فلما قربوا منه رمى لهم البطريق وقال اوثقوه كتافا فصار يبربر بلسانه فأتى المسلمون بروماس صاحب بصري وقالوا له أسمع ماذا يقول فقال لهم يقول فقال لهم يقول لكم لا تقتلوني فاني أجبت صاحبكم في المال والجزية فقال خالد استوثقوا منه ثم نزل عن
36

جواده وركب جوادا أهداه له صاحب تدمر وعزم أن يهجم على الروم فقال ضرار بن الأزور أيها الأمير دعني أنا أحمل على القوم حتى تستريح أنت فقال يا ضرار الراحة في الجنة غدا ثم عول خالد على الحملة فصاح به البطريق كلوس وقال وحق دينك ونبيك الا ما رجعت إلي حتى أخاطبك فرجع خالد اليه وقال لروماس اسأله ما يريد فقال أعلمه أني صاحب الملك وقد بعثني إليكم في خمسة آلاف فارس لاردكم عن بلده وأهله ورعيته وقد تحجبت أنا وعزازير متولي دمشق وقدم إلي معه كذا وكذا وأنا أسألك بحق دينك إذا خرج إليك فأقتله وان لم يخرج إليك فاستدعه وأقتله فإنه رأس القوم فان قتلته فقد ملكت دمشق فقال خالد لروماس قل له انا لا نبقي عليك ولا
عليه ولا على من أشرك بالله تعالى ثم إنه بعد ذلك الكلام حمل وهو ينشد ويقول
* لك الحمد مولانا على كل نعمة
* وشكر لما أوليت من سابغ النعم
* مننت علينا بعد كفر وظلمة
* وأنقذتنا من حندس الظلم والظلم
* وأكرمتنا بالهاشمي محمد
* وكشفت عنا ما نلاقي من الغم
* فتمم اله العرش ما قد ترومه
* وعجل لأهل الشرك بالبؤس والنقم
* وألقهم ربي سريعا ببغيهم
* بحق نبي سيد العرب والعجم
*
قال الواقدي لقد بلغني ممن أثق به أنه لما ولي جرجيس هاربا من بين يدي خالد إلى أصحابه رأوه يرتعد من الفزع فقالوا له ما ورءاك فقال يا قوم ورائي الموت الذي لا يقاتل والليث الذي لا ينازل وهو أمير القوم وقد آلى على نفسه ان يطلبنا أينما كنا وما خلصت روحي الا بالجهد فصالحوا الرجل قبل ان يحمل عليكم بأصحابه فلا يبقى منكم أحدا فقالوا له ما يكفيك انك انهزمت وقد هموا بقتله فبينما هم كذلك إذا أقبل أصحاب كلوس على عزازير وهم خمسة آلاف وصاحوا به وقالوا له ما أنت عند الملك أعز من صاحبنا وقد كان بيننا وبينك شرط فأخرج أنت إلى خالد واقتله أو أسر ه وخلص لنا صاحبنا والا وحق المسيح والمذبح والذبيح شننا عليك الحرب فقال عزازير وقد رجع به مكره ودهاؤه يا ويلكم أتظنون اني جزعت من الخروج إلى هذا البدوي من أول مرة ولكني ما تأخرت عن الخروج اليه وتقاعدت عن قتاله حتى يتبين عجز صاحبكم وسوف سوف ينظر الفريقان أينا أفرس وأشجع وأثبت في مقام القتال إذا نحن تشابكنا بالنصال ثم إنه في الحال ترجل عن جواده ولبس لامته وركب جوادا يصلح للجولان وخرج إلى قتال سيدنا خالد بن الوليد الفارس الصنديد رضي الله عنه فلما قرب منه
37

قال يا أخا العرب ادن مني حتى أسألك وكان الملعون يعرف العربية فلما سمع خالد ذلك قال يا عدو الله ادن أنت على أم رأسك ثم هم أن يحمل عليه فقال على رسلك يا أخا العرب أنا أدنو منك فعلم خالد أن الخوف داخله فأمسك عنه حتى قرب منه فقال يا أخا العرب ما حملك ان تحمل أنت بنفسك أما تخشى الهلاك فلو قتلت بقيت أصحابك بلا مقدم فقال خالد يا عدو الله قد رأيت ما فعل الرجلان من أصحابي لو تركتهم لهزموا أصحابك بعون الله تعالى وانما معي رجال وأي رجال يرون الموت مغنما والحياة مغرما ثم قال له خالد من أنت فقال أوما سمعت باسمي أنا فارس الشام أنا قاتل الروم والفرس أنا كاسر عساكر الترك فقال خالد ما أسمك فقال انا الذي تسميت باسم ملك الموت اسمي عزرائيل
قال الواقدي فضحك خالد من كلامه وقال يا عدو الله تخوفني ان الذي تسميت باسمه هو طالبك ومشتاق إليك ليرديك إلى الهاوية فقال له عزازير وما منعك فعلت بأسيرك كلوس فقال هو موثق بالقيود والاغلال فقال له عزازير وما منعك من قتله وهو داهية من دواهي الروم فقال خالد منعني من ذلك أني أريد قتلكم جميعا فقال عزازير هل لك ان تأخذ ألف مثقال من الذهب وعشرة أثواب من الديباج وخمسة رؤوس من الخيل وتقتله وتأتيني برأسه فقال له خالد هذه ديته فما الذي تعطيني أنت عن نفسك قال فغضب عدو الله من ذلك وقال ما الذي تأخذ مني قال الجزية وأنت صاغر ذليل فقال عزازير كلما زدنا في كرامتكم زدتم في اهانتنا فخذ الان لنفسك الحذر فاني قاتلك ولا أبالي فلما سمع خالد كلام عزرائيل حمل عليه حملة غظيمة كأنه شعلة نار فاستقبله البطريق وقد أخذ حذره وكان عزازير ممن يعرف بالشجاعة في بلاد الشام فلما نظر خالد إلى عدو الله أظهر شجاعته وبراعته تبسم فقال عزازير وحق المسيح لو أردت الوصول إليك لقدرت على ذلك ولكنني أبقيت عليك لأني أريد أن أستأسرك ليعلم الناس أنك أسيري وبعد ذلك أطلق سبيلك على شرط انك ترحل من بلادنا وتسلم لنا ما اخذت من بلاد الشام فلما سمع خالد كلام عزازير قال له يا عدو الله قد داخلك الطمع فينا وهذه العصابة قد ملكوا تدمر وحوران وبصرى وهم ممن باعوا أنفسهم بالجنة واختاروا دار البقاء على دار الفناء وستعلم أينا من يملك صاحبه ويذل جانبه ثم إن خالد أرى البطريق أبواب الحرب قال فندم عزازير على ما كان منه من الكلام وقال يا أخا العرب أما تعرف الملاعبة فقال خالد ملاعبتي الضرب في طاعة الرب ثم إن الملعون هاجم خالد ولوح
38

اليه بسيفه وضربه به فلم يقطع شيئا فذهل عدو الله من جولان خالد وثباته وعلم أنه لا يقدر عليه ولا على ملاقاته فولى هاربا وكان جواده أسبق من جواد خالد قال عامر بن الطفيل رضي الله عنه وكنت يوم حرب دمشق في القلب وشاهدنا ما جرى بين خالد وعزازير لما ولى هاربا وقصر جواد خالد عن طلبه فوقع في قلبه الطمع وقال كان البدوي خاف مني ومالي الا أن أقف حتى يلحقني وآخذه أسيرا ولعل المسيح ينصرني عليه فلما وقع ذلك في نفسه وقف حتى لحق به خالد وقد جلل فرسه العرق فلما قرب منه صاح عزازير وقال يا عربي لا تظن أني هارب خوفا منك وانما أبقيت عليك خوفا على شبابك فارحم نفسك وأن أردت الموت أسوقه إليك أنا قابض الأرواح أنا ملك الموت فعند ذلك ترجل عن جواده وسحب السيف وسار اليه كأنه الأسد الضاري
فلما نظر عزازير إلى ذلك والى ترجل خالد زاد طمعه فيه وحام حوله وهم اليه يريد أن يعلو رأسه بالسيف فزاغ خالد عنها وصاح فيه وضرب قوائم فرسه بضربة عظيمة فقطعها فسقط عدو الله على الأرض ثم ولى هاربا يريد أصحابه فسبقه خالد وقال يا عدو الله ان الذي تسميت باسمه قد غضب عليك واشتاق إليك وها هو قد اقبل عليك يقبض روحك ليؤديك إلى جهنم ثم هجم عليه وهم أن يجلد به الأرض ونظرت الروم إلى صاحبها وهو في يد خالد فهموا أن يحملوا على خالد ويخلصوه من يده إذ قد أقبلت جيوش المسلمين وأبطال الموحدين مع الأمير أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه كان قد سار من بصرى فوجدوه وقد أخذ عزازير في تلك الساعة فلما نظرت عساكر دمشق إلى جيوش المسلمين قد أقبلت داخلهم الجزع والفزع فوقفوا عن الحملة قال حدثني عمر بن 2 قيس عن شعيب عن عبد الله عن هلال القشعمي قال لما قدم الأمير أبو عبيدة سأل عن خالد فقالوا انه في ميدان الحرب وقد أسر بطريق الروم فدنا أبو عبيدة اليه وهم ان يترجل فأقسم عليه خالد ان لا يفعل وأقبل عليه وصافحه وكان أبو عبيدة يحب خالدا لمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو عبيدة لخالد يا أبا سليمان لقد فرحت بكتاب أبي بكر الصديق حين قدمك علي وأمرك علي وما حقدت في قلبي عليك لأني أعلم مواقفك في الحرب فقال خالد والله لا فعلت أمرا الا بمشورتك ووالله لولا أمر الامام طاعة لما فعلت ذلك أبدا لأنك اقدم مني في دين الاسلام وأنا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت قال فيك
أبو عبيدة أمين هذه الأمة فشكره أبو عبيدة وقدم لخالد جواده فركبه وقال خالد لأبي عبيدة اعلم أيها الأمير
39

أن القوم قد خذلوا ووقع الرعب في قلوبهم وأهينوا بأخذ كلوس وعزازير قال وسار مع أبي عبيدة يحدثه بما صار من البطريقين وكيف نصره الله عليهما إلى أن اتيا الدير فنزلا هناك وأقبل المسلمون يسلم بعضهم على بعض فلما كان الغد ركب الناس وتزينت المواكب وزحف أهل دمشق للقتال وقد أمروا عليهم صهر الملك هرقل ولما أقبلوا قال خالد لأبي عبيدة ان القوم قد انخذلوا ووقع الرعب في قلوبهم فاحمل بنا على القوم قال أبو عبيدة افعل قال فحمل خالد وحمل أبو عبيدة وحمل المسلمون على عساكر الروم حملة عظيمة وكبروا بأجمعهم فارتجت الأرض من تكبيرهم ووقع القتل في الروم وجاهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جهادا عظيما وذهلت منهم الكفار قال عامر بن الطفيل لقد كان الواحد منا يهزم من الروم العشرة والمائة قال فما لبثوا معنا ساعة واحدة حتى ولوا الادبار وركنوا إلى الفرار وأقبلنا نقتل فيهم من الدير إلى الباب الشرقي فلما نظر أهل دمشق إلى انهزام جيشهم أغلقوا الأبواب في وجه من بقي منهم قال قيس ابن هبيرة رضي الله عنه فمنهم من قتلناه ومنهم من أسرناه فلما رجع خالد عنهم قال لأبي عبيدة ان من الرأي أن أنزل أنا على الباب الشرقي وتنزل أنت على باب الجباية فقال أبو عبيدة هذا هو الرأي السديد
قال حدثنا سهل بن عبد الله عن أويس بن الخطاب أن الذي قدم مع الأمير أبي عبيدة من المسلمين من أهل الحجاز واليمن وحضرموت وساحل عمان والطائف وما حول مكة كان سبعة وثلاثين الف فارس من الشجعان وكان مع عمرو بن العاص تسعة آلاف فارس والذين قدم بهم خالد بن الوليد رضي الله عنه من العراق ألف فارس وخمسمائة فارس فكان جملة ذلك سبعة وأربعين ألفا وخمسمائة غير ما جهز عمر بن الخطاب في خلافته وسنذكر ذلك إذا وصلنا اليه ان شا الله تعالى هذا وان خالدا نزل بنصف المسلمين على الباب الشرقي ونزل أبو عبيدة بالنصف الثاني على باب الجابية فلما نظر أهل دمشق إلى ذلك نزل الرعب في قلوبهم ثم إن خالدا أحضر البطريقين بين يديه وهما كلوس وعزازير فعرض عليهما الاسلام فأبيا فأمر ضرار بن الأزور أن يضرب عنقيهما ففعل قال فلما نظر أهل دمشق ما فعلوا بالبطريقين كتبوا إلى الملك كتابا يخبرونه بما جرى على كلوس وعزازير وقد نزلت العرب على الباب الشرقي وباب الجابية وقد نزلوا بشبانهم وأولادهم وقد قطعوا أرض البلقاء وأرض السواد ووصفوا له ما ملك العرب من البلاد فأدركنا والا سلمنا إليهم البلد ثم سلموا الكتاب إلى رجل منهم وأعطوه أوفى أجرة
40

وأدلوه بالجبل من أعلى الاسوار في ظلمة الاعتكار
قال الواقدي وان الرجل وصل إلى الملك هرقل وهو بأرض أنطاكية فاستأذن عليه فأمر له بالدخول فلما دخل سلم الكتاب اليه فلما قرأه الملك رماه من يده وبكى ثم إنه جمع البطارقة وقال لهم يا بني الأصفر لقد حذرتكم من هؤلاء العرب وأخبرتكم انهم سوف يملكون ما تحت سريري هذا فاتخذتم كلامي هزوءا وأردتم قتلي وهؤلاء العرب خرجوا من بلاد الجدب والقحط وأكل الذرة والشعير إلى بلاد خصبة كثيرة الأشجار والثمار والفواكه فاستحسنوا ما نظروه من بلادنا وخصبنا وليس يزجرهم شيء لما هم فيه من العزم والقوة وشدة الحرب ولولا أنه عار علي لتركت الشام ورحلت إلى القسطنطينية العظمى ولكن ها أنا أخرج إليهم وأقاتلهم عن أهلي وديني فقالوا أيها الملك ما بلغ من شأن العرب ان تخرج إليهم بنفسك وقعودك أهيب قال الملك هرقل نبعث إليهم قالوا عليك أيها الملك بوردان صاحب حمص لأنه ليس فينا مثله في القوة وملاقاة الرجال ولقد بين لنا شجاعته في عساكر الفرس لما قصدونا قال فأمر الملك باحضاره فلما حضر وردان قال له الملك انما قدمتك لأنك سيفي القاطع وسندي المانع فأخرج من وقتك وساعتك ولا تتأخر فقد قدمتك على اثني عشر الف فإذا وصلت إلى بعلبك فانقذ إلى من بأجنادين بأن يتفرقوا في أرض البلقاء وجبال السواد فيكونوا هناك ولا تتركوا أحدا من العرب يلحق بأصحابه يعني عمرو بن العاص رضي الله عنه فقال وردان السمع والطاعة لك أيها الملك وسوف يبلغك الخبر أني لا أعود الا برأس خالد بن الوليد ومن معه اهزمهم جميعا وبعد ذلك أدخل الحجاز ولا أخرج حتى أهدم الكعبة ومكة والمدينة قال فلما سمع الملك هرقل قوله قال وحق الإنجيل لئن فعلت ذلك ووفيت بقولك لأعطينك ما فتحوه حرثا وخراجا وكتبت كتاب العهد انك الملك من بعدي ثم سوره وتوجه وأعطاه صليبا من الذهب وفي جوانبه أربع يواقيت لا قيمة لها وقال إذا لاقيت العرب فقدمه أمامك فهو ينصرك قال فلما تسلم وردان الصليب من وقته دخل الكنيسة وانغمر في ماء المعمودية وبخروه ببخور الكنائس وصلى عليه الرهبان وخرج من وقته فضرب خيامه خارج المدينة قال وأخذت الروم على أنفسهم بالرحيل فلما تكاملوا ركب الملك هرقل وسار لوداعهم وصحبته أرباب دولته فوصل معهم إلى جسر الحديد بها فودعه الملك وسار إلى أن وصل إلى حماة فنزل بها وأنفذ من وقته كتابا إلى من بأجنادين من جيوش الروم يأمرهم ليتفرقوا في سائر الطرقات ليمنعوا عمرو بن العاص ومن معه أن
41

يصلوا إلى خالد فلما سار الرسول بالكتاب جمع وردان اليه البطارقة وقال لهم أني أريد أن أسير على حين غفلة على طريق مارس حتى أكبس على القوم ولا ينجو منهم أحد فلما كان الليل رحل على طريق وادي الحياة
قال حدثني شداد بن أوس قال لما دخل خالد بن الوليد رضي الله عنه بعد قتل البطريقين أمر المسلمين أن يزحفوا إلى دمشق قال فزحف منا الرجال من العرب وبأيديهم الحجف يتلقون بها الحجارة والسهام فلما نظر أهل دمشق الينا ونحن قد زحفنا إليهم رمونا بالسهام والحجارة من أعلى الاسوار وضيقنا عليهم في الحصار وأيقن القوم بالدمار قال شداد ابن أوس فأقمنا على حصارهم عشرين يوما فلما كان بعد ذلك جاءنا ناوي بن مرة وأخبرنا عن جموع الروم بأجنادين وكثرة عددهم فركب خالد نحوه باب المدينة الجابية إلى أبي عبيدة يخبره بذلك ويستشيره وقال يا أمين الأمة اني رأيت أن ترحل من دمشق إلى أجنادين ونلقى من هناك من الروم فإذا نصرنا الله عليهم عدنا إلى قتال هؤلاء القوم قال أبو عبيدة ليس هذا برأي قال خالد ولم ذلك قال أبو عبيدة إذا رحلنا يخرج أهل المدينة فيملكون مواضعنا فلما سمع خالد ذلك من أبي عبيدة قال يا أمين الأمة اني أعرف رجلا لا يخاف الموت خبيرا بلقاء الرجال قد مات أبوه وجده في القتال قال ومن هذا الرجل يا أبا سليمان قال هو ضرار بن الأزور بن طارق قال أبو عبيدة والله لقد صدقت ووصفت رجلا باذلا معروفا فافعل قال فرجع خالد إلى بابه واستدعى بضرار بن الأزور فجاء اليه وسلم عليه فقال يا ابن الأزور اني أريد أن أقدمك على خمسة آلاف قد باعوا أنفسهم لله عز وجل واختاروا دار البقاء والآخرة على الأولى وتسيروا إلى لقاء هؤلاء القوم الذين وردوا علينا فان رأيت لك فيهم طمعا فقاتلهم وان رأيت أنك لا تقدر عليهم فابعث الينا رسولك فقال ضرار بن الأزور وافرحتاه والله يا ابن الوليد ما دخل قلبي مسرة أعظم من هذه فاتركني أسير وحدي قال خالد لعمري انك ضرار ولكن لا تلق نفسك إلى الهلاك وسر بما ندب معك من المسلمين قال فقام ضرار رضي الله عنه مسرعا فقال خالد ارفق بنفسك حتى يجتمع عليك الجيش فقال والله لا وقفت ومن علم الله فيه خيرا أدركني ثم ركب ضرار وأسرع إلى أن وصل إلى بيت لهيا وهو الموضع الذي كان يصنع فيه الأصنام فوقف هناك حتى لحق به أصحابه فلما تكاملوا نظر ضرار وإذا بجيش الروم ينحدر كأنه الجراد المنتشر وهم غائصون في الدروع وقد أشرقت الشمس على لأماتهم وطوارقهم
42

فلما نظر إليهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا لضرار أما والله ان هذا الجيش عرمرم والصواب أننا نرجع فقال ضرار والله لا زلت أضرب بسيفي في سبيل الله واتبع من أناب إلى الله ولا يراني الله مهزوما ولا أولى الدبر لان الله تعالى يقول * (فلا تولوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله) * وتكلم رافع بن عميرة الطائي وقال يا قوم وما الخيفة من هؤلاء العلوج أما نصركم الله في مواطن كثيرة والنصر مقرون مع الصبر ولم تزل طائفتنا تلقى الجموع الكثيرة والجموع اليسيرة فاتبعوا سبيل المؤمنين وتضرعوا إلى رب العالمين وقولوا كما قال قوم طالوت عند لقائهم جالوت ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فلما سمع ضرار كلامهم وأنهم اشتروا الآخرة على الأولى كمن بهم عند بيت لهيا وأخفى أمره وجلس عاري الجسد بسراويله على فرس له عربي بغير سلاح وبيده قناة كاملة الطول وهو يوصي القوم
قال الواقدي هكذا حدثني تميم بن أوس عن جده عمرو بن دارم قال كنت يوم بيت لهيا ممن صحب ضرار بن الأزور رضي الله عنه وهو بهذه الصفة رغبة منه في الشهادة فلما قارب العدو كان أول من برز وكبر ضرار بن الأزور قبل فأجابه المسلمون بتكبيرة واحدة رعبت منها قلوب المشركين وفاجئوهم بالحملة ونظروا إلى ضرار بن الأزور وهو في أول القوم وهو في حالته التي وصفناها فهالهم أمره وكان وردان في المقدمة والاعلام والصلبان مشتبكة على رأسه قال فما طلب ضرار غيره لأنه علم أنه صاحبهم فحمل عليه غير مكترث به وطعن فارسا كان في يده العلم فتجندل من على فرسه قتيلا ثم إنه طعن اخر في الميمنة فارداه وحمل يريد القلب وكان قد عاين وردان والصليب على رأسه يحمله فارس من الروم والجواهر تلمع من أربع جوانبه فعارضه ضرار وطعن حامله طعنة عظيمة فخرج السنان يلمع من خاصرته قال فسقط الصليب منكسا إلى الأرض فلما نظر وردان إلى الصليب أيقن بالهلاك وهم ان يترجل لاخذه أو يميل في ركابه ليأخذه فلما وجد لذلك سبيلا لما قد أحدق به وترجل عليه قوم من المسلمين ليأخذوه وقد اشتغل كل عن نفسه ونظر ضرار إلى من ترجل لاخذ الصليب فقال معاشر المسلمين ان الصليب لي دونكم وأنا صاحبه فلا تطمعوا فاني اليه راجع إذا فرغت من كلب الروم قال فسمع ذلك وردان وكان يعرف العربية فعطف من القلب يريد الهرب فقالت البطارقة إلى أين أيها السيد أتفر من الشيطان فما رأينا أدنى من منظره ولا أهول من مخبره ونظر اليه ضرار وقد عطف راجعا فعلم
43

أنه قد عزم على الهرب فصاح بقومه ثم اقتحم في أثره ومد رمحه وهمز جواده فتصارخت به الروم وعطفت عليه المواكب من كل جانب فأنشد يقول
* الموت حق أين لي منه المفر
* وجنة الفردوس خير المستقر
*
* هذا قتالي فاشهدوا يا من حضر
* وكل هذا في رضا رب البشر
* ثم اخترق القوم وحمل عليهم وحمل المسلمون في أثره فاحدقوا بهم من كل مكان ونظروا إلى ضرار وقد قصده وردان صاحب حمص عندما علم أنه اخترق القوم فمد اليه رمحه وقد أحدقت به بطارقته وضرار يمانع عن نفسه يمينا وشمالا فما طعن أحدا الا اباده إلى أن قتل من القوم خلقا كثيرا وهو يصرخ بقومه ويقول * (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص) * قال اكتب عليه جيوش الروم من كل جانب ومكان واشتعل الحرب بينهم ووصل همدان بن وردان إلى ضرار بن الأزور ورماه بسهم فأصاب عضده الأيمن فوصل السهم اليه فأوهنه وأحسن ضرار بالألم فحمل على همدان وصمم عليه برمحه وطعنه فأصاب بالطعنة فواده فوصل
السنان إلى ظهره فجذب الرمح منه فلم يخرج وإذا به قد اشتبك في عظم ظهره فخرج الرمح من غير سنان فطمعوا فيه وحملوا عليه وأخذوه أسيرا فنظر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ضرار وهو أسير فعظم الامر عليهم وقاتلوا قتالا شديدا ليخلصوه فما وجدوا إلى ذلك سبيلا وأرادوا الهرب فقال رافع بن عميرة الطائي يا أهل القرآن إلى أين تريدون أما علمتم ان من ولى ظهره لعدوه فقد باء بغضب من الله وان الجنة لها أبواب لا تفتح الا للمجاهدين الصبر الصبر الجنة الجنة يا أهل الكتاب كروا على الكفار عباد الصلبان وها أنا معكم في أوائلكم فإن كان صاحبكم أسر أو قتل فان الله حي لا يموت وهو يراكم بعينه التي لا تنام فرجعوا وحملوا معه
قال ووصل الخبر إلى خالد ان ضرار قد أسر بيد الروم وانه قتل من الروم خلقا كثيرا فعظم ذلك على خالد وقال في كم العدو قالوا اثني عشر الف فارس فقال والله ما ظننت الا أنهم في عدد يسير ولقد غررت بقومي ثم سأل عن مقدمهم من يكون فقيل وردان صاحب حمص وقد قتل ضرار ولده همدان فقال لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم ثم ارسل إلى أبي عبيدة يستشيره فبعث اليه أبو عبيدة يقول له اترك على الباب الشرقي من تثق به وسر إليهم فإنك تطحنهم بإذن الله تعالى فلما وصل الجواب إلى خالد قال والله ما أنا ممن يبخل بنفسه في سبيل الله ثم أوقف بالمكان ميسرة بن مسروق العبسي رضي الله عنه ومعه الف فارس وقال له
44

احذر أن تنقذ من مكانك فقال ميسرة حبا وكرامة وعطف خالد بالناس وقال له أطلقوا الأعنة وقوموا الأسنة فإذا أشرفتم على العدو فاحملوا حملة واحدة ليخلص فيها ضرار إن شاء الله تعالى ان كانوا أبقوا عليه والله ان كانوا عجلوا عليه لنأخذن بثأره ان شاء تعالى وأرجو أن لا يفجعنا به ثم تقدم امام القوم وجعل يقول
* اليوم يوم فاز فيه من صدق
* لا ارهب الموت إذا الموت طرق
* لاروين الرمح من ذوي الحدق
* لاهتكن البيض هتكا والدرق
* عسى أرى غدا مقام من صدق
* في جنة الخلد والقى من سبق
*
خولة بن الأزور
فبينما خالد يترنم بهذه الأبيات إذ نظر إلى فارس على فرس طويل وبيده رمح طويل وهو لا يبين منه الا الحدق والفروسية تلوح من شمائله وعليه ثياب سود وقد تظاهر بها من فوق لامته وقد خرم وسطه بعمامة خضراء وسحبها على صدره ومن ورائه وقد سبق امام الناس كأنه نار فلما نظره خالد قال ليت شعري من هذا الفارس وأيم الله انه لفارس شجاع ثم اتبعه خالد والناس وكان هذا الفارس اسبق الناس المشاركين قال وكان رافع بن عميرة الطائي رضي الله عنه في قتال المشركين وقد صبر لهم هو ومن معه إذ نظر خالدا وقد أنجده هو ومن معه من المسلمين ونظر إلى الفارس الذي وصفناه وقد حمل على عساكر الروم كأنه النار المحرقة فزعزع كتائبهم وحطم مواكبهم ثم غاب في وسطهم فما كانت الا جولة الجائل حتى خرج وسنانه ملطخ بالدماء من الروم وقد قتل رجالا وجندل أبطالا وقد عرض نفسه للهلاك ثم اخترق القوم غير مكترث بهم ولا خائف وعطف على كراديس الروم في الناس وكثر قلقهم عليه فأما رافع بن عميرة ومن معه فما ظنوا الا انه خالد وقالوا ما هذه الحملات الا لخالد فهم على ذلك إذ أشرف عليهم رضي الله عنه وهو في كبكة من الخيل فقال رافع بن عميرة من الفارس الذي تقدم أمامك فلقد بذل نفسه ومهجته فقال خالد والله انني أشد انكارا منكم له ولقد أعجبني ما ظهر منه ومن شمائله فقال رافع أيها الأمير انه منغمس في عسكر الروم يطعن يمينا وشمالا
فقال خالد معاشر المسلمين احملوا بأجمعكم وساعدوا المحامي عن دين الله قال فأطلقوا الأعنة وقوموا الأسنة والتصق بعضهم ببعض وخالد أمامهم إذ نظر إلى الفارس وقد خرج من القلب كأنه شعلة نار والخيل في أثره
45

وكلما لحقت به الروم لوى عليهم وجندل فعند ذلك حمل خالد ومن معه ووصل الفارس المذكور إلى جيش المسلمين قال فتأملوه فرأوه قد تخصب بالدماء فصاح خالد والمسلمون لله درك من فارس بذل مهجته في سبيل الله وأظهر على الأعداء اكشف لنا عن لثامك قال فمال عنهم ولم يخاطبهم وانغمس في الروم فتصايحت به الروم من كل جانب وكذلك المسلمون وقالوا أيها الرجل الكريم أميرك يخاطبك وأنت تعرض عنه اكشف عن اسمك وحسبك لتزداد تعظيما فلم يرد عليهم جوابا فلما بعد عن خالد سار اليه بنفسه وقال له ويحك لقد شغلت قلوب الناس وقلبي بفعلك من أنت قال فلما لج عليه خالد خاطبه الفارس من تحت لثامه بلسان التأنيث وقال انني يا أمير لم أعرض عنك الا حياء منك لأنك أمير جليل وأنا من ذوات الخدور وبنات الستور وانما حملني على ذلك اني محرقة الكبد زائدة الكمد فقال لها من أنت قالت أنا خولة بنت الأزور المأسور بيد المشركين أخي وهو ضرار واني كنت مع بنات العرب وقد اتاني الساعي بأن ضرار أسير فركبت وفعلت ما فعلت قال خالد نحمل بأجمعنا ونرجو من الله ان نصل إلى أخيك فنفكه قال عامر بن الطفيل كنت عن يمين خالد بن الوليد حين حملوا وحملت خولة أمامه وحمل المسلمون وعظم على الروم ما نزل بهم من خولة بنت الأزور وقالوا ان كان القوم كلهم مثل هذا الفارس فما لنا بهم من طاقة ولما حمل خالد ومن معه إذا بالروم قد اضطربت جيوشهم ونظر وردان إليهم فقال لهم اثبتوا للقوم فإذا رأوا ثباتكم ولوا عنكم ويخرج أهل دمشق يعنونكم على قتالهم قال فثبت المسلمون لقتال الروم وحمل خالد بالناس حملة منكرة وفرق القوم يمينا وشمالا وقصد خالد مكان صاحبهم وردان عند اشتباك الاعلام والصلبان وإذا حوله أصحاب الحديد والزرد النضيد وهم محدقون به فحمل خالد عليهم حملة منكرة واشتبك المسلمون بقتال الروم وكل فرقة مشغولة بقتال صاحبها وأما خولة بنت الأزور فإنها جعلت تجول يمينا وشمالا وهي لا تطلب الا أخاها وهي لا ترى له اثرا ولا وقفت له على خبر إلى وقت
الظهر وافترق القوم بعضهم عن بعض وقد أظهر الله المسلمين على الكافرين وقتلوا منهم مقتلة عظيمة قال وتراجعت كل فرقة إلى مكانها وقد كمدت أفئدة الروم ما ظهر لهم من المسلمين وقد هموا بالهزيمة وما يمسكهم الا الخوف من صاحبهم وردان فلما رجع القوم إلى مكانهم أقبلت خولة بنت الأزور على المسلمين وجعلت تسألهم رجلا رجلا عن أخيها فلم تر من المسلمين من يخبرهما انه نظره أو رآه أسيرا أو قتيلا فلما يئست منه بكت بكاءا شديدا
46

وجعلت تقول يا ابن أمي ليت شعري في أي البيداء طرحوك أم بأي سنان طعنوك أم بالحسام قتلوك يا أخي أختك لك الفداء لو اني أراك انقدتك من أيدي الأعداء ليت شعري أترى إلي أراك بعدها ابدا فقد تركت يا ابن أمي في قلب أختك جمرة لا يخمد لهيبها ولا يطفأ ليت شعري لحقت بأبيك المقتول بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فعليك مني السلام إلى يوم اللقاء قال فبكى الناس من قولها وبكى خالد وهم أن يعاود بالحملة إذ نظر إلى كردوس من الروم قد خرج من ميمنة العقبان فتأهب الناس لحربهم وتقدم خالد وحوله أبطال المسلمين فلما قربوا من القوم رموا رماحهم من أيديهم والسيوف وترجلوا ونادوا بالأمان فقال خالد اقبلوا أمانهم وائتوني بهم فأتوا اليه فقال خالد من أنتم فقالوا نحن من جند هذا الرجل وردان ومقامنا بحمص وقد تحقق عندنا انه ما يطيقكم ولا يستطيع حربكم فأعطونا الأمان واجعلونا من جملة من صالحتم من سائر المدن حتى نؤدي لكم المال الذي أردتم في كل سنة فكل من في حمص يرضي بقولنا
فقال خالد إذا وصلت إلى بلادكم يكون الصلح إن شاء الله تعالى ان كان لكم فيه أرب ولكن نحن ههنا لا نصالحكم ولكن كونوا معنا إلى أن يقضي الله ما هو قاض ثم إن خالدا قال لهم هل عندكم علم عن صاحبنا الذي قتل ابن صاحبكم قالوا لعله عاري الجسد الذي قتل منا مقتله عظيمة وفجع صاحبنا في ولده قال خالد عنه سألتكم قالوا بعثه وردان عندنا أسيرا على بغل ووكل به مائة فارس وأنفذه إلى حمص ليرسله إلى الملك ويخبره بما فعل قال ففرح خالد بقولهم ثم دعا برافع بن عميرة الطائي وقال يا رافع ما أعلم أحدا أخبر منك بالمسالك وأنت الذي قطعت بنا المفازة من أرض السماوة وأعطشت الإبل واوردتها الماء وأوردتنا أركة وما وطئها جيش قبلنا لمفازتها وأنت أوحد أهل الأرض في الحيل والتدبير فخذ معك من أحببت واتبع اثر القوم فلعلك أن تلحق بهم وتخلص صاحبنا من أيديهم فلئن فعلت ذلك لتكونن الفرحة الكبرى فقال رافع بن عميرة حبا وكرامة ثم إنه في الحال انتخب مائة فارس شدادا من المسلمين وعزم على المسير فأتت البشارة إلى خولة بمسير رافع بن عميرة ومن معه طلب أخيها ضرار فتهلل وجهها فرحا وأسرعت إلى لبس سلاحها وركبت جوادها وأتت إلى خالد بن الوليد ثم قالت له أيها الأمير سألتك بالطاهر المطهر محمد سيد البشر الا ما سرحتني مع من سرحت فلعلي أن أكون مشاهدة لهم فقال خالد لرافع أنت تعلم شجاعتها فخذها معك فقال له رافع السمع والطاعة وارتحل رافع ومن معه وسارت خولة في أثر القوم ولم
47

تختلط بهم وسار إلى أن قرب من سليمة قال فنظر رافع فلم يجد للقوم اثرا فقال لأصحابه أبشروا فان القوم لم يصلوا إلى ههنا ثم إنه كمن بهم في وادي الحياة فبينما هم كامنون إذا بغبرة قد لاحت فقال رافع لأصحابه ايقظوا خواطركم وانتبهوا فأيقط القوم هممهم وبقوا في انتظار العدو وإذا بهم قد أتوا وهم محدقون بضرار فلما رأى رافع ذلك كبر وكبر المسلمون معه وحملوا عليهم فلم يكن غير ساعة حتى خلص الله ضرارا وقتلوهم جميعا وأخذوا سلبهم قال وإذا بعساكر الروم قد أقبلت منهزمة وأولهم لا يلتفت إلى آخرهم فعلم رافع ان القوم انهزموا فأقبل يلتقطهم بمن معه قال وكان خالد لما أرسل رافع بن عميرة في طلب ضرار ليخلصه ومعه المائة فارس صدم وردان صدمة من يحب الشهادة ويبتغي دار السعادة وصدم المسلمون الروم فما لبثوا ان ولو الادبار وركنوا إلى الفرار وكان أولهم وردان واتبعهم المسلمون وأخذوا أسلابهم وأموالهم ولم يزالوا في طلبهم إلى وادي الحياة فاجتمع المسلمون برافع بن عميرة الطائي وضرار بن الأزور وسلموا عليهم وفرحوا بضرار رضي الله عنه وهنؤوه بالسلامة قال واثنى خالد على رافع خيرا ورجعوا إلى دمشق وفرح المسلمون بالنصر واتصل الخبر إلى الملك هرقل وان وردان قد انهزم وقتل ولده همدان قال فأيقن بزوال ملكه من الشام فكتب إلى وردان كتابا يقول فيه أما بعد فإني قد بلغني جياع الأكباد عراة الأجساد قد هزموك وقتلوا وادك رحمه المسيح ورحمك ولولا أني أعلم أنك فارس الحرب ومجيد الطعن والضرب وليس النصر آتيك لحل عليك سخطي والآن مضى ما مضى وقد بعثت إلى أجنادين تسعين ألفا وقد أمرتك عليهم فسر نحوهم وانجد أهل دمشق وأنفذ بعضهم ليمنعوا من في فلسطين من العرب وحل بينهم وبين أصحابهم وانصر دينك وصاحبك قال وانفذ اليه الكتاب مع خيل البريد فلما ورد عليه الكتاب وقرأه سرى عنه بعض ما كان يجده وأخذ الأهبة إلى أجنادين فسار فوجد الروم قد تجمعوا وأظهروا العدد والزرد وخرجوا إلى لقائه وسلموا عليه وتقدموا بين يديه وعزوه في ولده فلما استقر قراره قرأ عليهم منشور الملك فأجابوا بالسمع والطاعة واخذوا على أنفسهم
قال حدثني روح بن طريف قال كنت مع خالد بن الوليد على باب شرقي حين رجعنا من هزيمة وردان وإذ قد ورد علينا عباد بن سعد الحضرمي وكان قد بعثه شرحبيل بن حسنة كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم من بصرى يعلم خالدا بمسير الروم اليه من أجنادين في تسعين ألف فارس فخذ أهبتك للقائهم قال فلما سمع خالد ذلك ركب إلى أبي عبيدة وقال له يا أمين الأمة هذا عباد بن
48

سعد الحضرمي قد بعث به شرحبيل بن حسنة يخبر أن طاغية الروم هرقل قد ولى وردان على من تجمع باجنادين من الروم وهم تسعون ألفا فما ترى من الرأي يا صاحب رسول الله فقال أبو عبيدة اعلم يا أبا سليمان أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متفرقون مثل شرحبيل بن حسنة بأرض بصرى ومعاذ بن جبل بحوران ويزيد بن أبي سفيان بالبلقاء والنعمان بن المغيرة بأرض تدمر وأركة وعمرو بن العاص بأرض فلسطين والصواب ان تكتب إليهم ليقصدونا حتى نقصد العدو ومن الله نطلب المعونة والنصر قال فكتب خالد إلى عمرو بن العاص كتابا يقول فيه بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فان إخوانكم المسلمين قد عولوا على المسير إلى أجنادين فان هناك تسعين ألفا من الروم يريدون المسير الينا يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون فإذا وصل إليك كتابي هذا فاقدم علينا بمن معك إلى أجنادين تجدنا هناك إن شاء الله تعالى والسلام عليك وعلى من معك من المسلمين ورحمة الله وبركاته وكتب نسخة الكتاب إلى جميع الامراء الذين ذكرناهم ثم أمر الناس بالرحيل فرفعت القباب
والهوادج على ظهور الجمال وساقوا الغنائم والأموال فقال خالد لأبي عبيدة قد رأيت رأيا أن أكون على الساقة مع الغنائم والأموال والبنين والولدان والبنين والولدان وكن أنت على المقدمة مع خاصة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو عبيدة بل أكون أنا على الساقة وأنت على المقدمة مع الجيش فان وصل إليك جيش الروم مع وردان يجدوك على أهبة فتمنعهم من الوصول إلى الحريم والأولاد فلا يصلون الينا الا وأنت قتلت فيهم والا كنت أنا ومن معي غنيمة لهم إذا كنت أنا في المقدمة فقال خالد لست أخالفك فيما ذكرت ثم أن خالدا قال أيها الناس أنكم سائرون إلى جيش عظيم فأيقظوا هممكم وان الله وعدكم النصر وقرأ عليهم قوله تعالى كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين
ثم إن خالدا أخذ الجيش وسار في المقدمة وبقي أبو عبيدة في الف من المسلمين ونظر إلى ذلك أهل دمشق فعطفوا عليهم واقبلوا بسيوفهم وهم يظنون أنه منهزمون لأجل ما بلغهم من الجيش العظيم الذي هو بأجنادين فقال لهم عقلاؤهم ان كانوا سائرين على طريق بعلبك فأنهم يريدون فتحا وفتح حمص وان كانوا على طريق مرج راهط فالقوم لا شك هاربون إلى الحجاز ويتركون ما اخذوا من البلاد قال وكان بدمشق بطريق يقال له بولص وكان عظيما عند النصراينة وكان إذا قدم على الملك يعظمه وكان الملعون فارسا وذلك انهم كان عندهم شجرة فرماها بسهم فغاص السهم في الشجرة من قوة
49

ساعده ثم إن من عجبه كتب عليها ان كل من يدعي الشجاعة فليزم بسهمه إلى جانب سهمي وكان قد شاع ذكره بذلك ولم يحضر قتال المسلمين منذ دخلوا دمشق فلما اجتمعوا عليه قال لهم بولص ما الذي حل بكم فأعلموه بما جرى عليهم من المسلمين وقالوا له ان كنت تريد حياة الأبد عند الملك وعند المسيح وعند أهل دين النصرانية فدونك والمسلمين فأخرج إليهم واخطف كل من تخلف منهم وان رأيت لنا فيهم مطمعا قاتلناهم فقال بولص انما كان سبب تخلفي عن نصرتكم لأنكم قليلوا الهمة لقتال عدوكم فتخلفت عنكم والآن لا حاجة لي في قتال العرب
فقالوا وحق المسيح والإنجيل الصحيح لئن سرت في مقدمتنا لنثبتن معك وما منا من يولى عنك وقد حكمناك فيمن ينهزم أن تضرب عنقه ولا يعارضك في ذلك أحد قال فلما استوثق منهم دخل إلى منزله ولبس لامته فقالت له زوجته إلى أين عزمت قال أخرج في أثر العرب فقد ولاني أهل دمشق عليهم فقالت لا تفعل والزم بيتك ولا تطلب ما ليس لك به حاجة فاني رأيت لك في المنام رؤيا فقال لها ومال الذي رأيتي قالت رأيتك كأنك قابض قوسك وأنت ترمي طيورا وقد سقط بعضها على بعض ثم عادت صاعدة فبينما أنا متعجبة إذ أقبلت نحوك سحابة من الجو فانقضت عليك من الهواء وعلى من معك فجعلت تضرب هاماتهم ثم وليتم هاربين ورأيتها لا تضرب أحدا الا صرعته ثم اني انتبهت وأنا مذعورة باكية العين عليك فقال لها ومع ذلك رأيتيني فيمن صرع قالت نعم وقد صرعك فارس عظيم قال فلطم وجهها وقال لا بشرك المسيح بخير لقد دخل رعب العرب في قلبك حتى صرت تحلمين بهم في النوم فلا بد أن أجعل لك أميرهم خادما وأجعل أصحابه رعاة الغنم والخنازير فقالت له زوجته أفعل ما تريد فقد نصحتك قال فلم يلتفت إلى كلامها وخرج من عندها وركب وسار معه من كان في دمشق من الروم ففرضهم فإذا هم ستة آلاف فارس وعشرة آلاف راجل من أهل النجدة والحمية وسار يطلب القوم
معركة حول دمشق
وكان خالد في المقدمة وأبو عبيده يمشي مع الأموال والأغنام والجمال إذ نظر رجل من أصحابه وهو يتأمل الغبرة من ورائهم فسأله أبو عبيدة عن ذلك فقال أظنها غبرة القوم فقال أبو عبيدة أن أهل الشام قد طمعوا فينا وهذا العدو قاصد الينا قال فما استتم كلامه حتى بدت الخيل كأنها السيل وبولص في أوائلهم فلما نظر إلى أبي عبيدة قصده ومعه الفرسان وأخوه
50

بطرس قصد الحريم والماس فاقتطعوا منها قطعة فلما احتوى عليها رجع بها بطرس نحو دمشق فلما بعد جلس هناك لنظر ما يكون من أمر أخيه وأما أبو عبيدة فإنه لما نظر إلى ما فاجأه من الروم قال والله لقد كان الصواب مع خالد لما قال دعني في الساقة فلم أدعه وانه قد وصل اليه بولص وقصده والاعلام والصلبان على رأسه مشتبكة والنساء يولولن والصبيان يصيحون والألف من المسلمين قد اشتغلوا بالقتال وقد قصد عدو الله بولص أبا عبيدة واشتد بينهم الحرب ووقع القتال من أصحابه والروم وارتفعت الغبرة عليهم وهم في كر وفر على أرض سحورا قال وقد بلى أبو عبيدة بالقتال وصبر صبر الكرام قال سهيل بن صباح وكان تحتي الجواد محجل من خيل اليمن شهدت عليه اليمامة فقومت السنان وأطلقت العنان فخرج كأنه الريح العاصف فما كان غير بعيد حتى لحقت بخالد بن الوليد والمسلمين فأقبلت إليهم صارخا وقلت أيها الأمير أدرك الأموال والحريم فقال خالد ما وراءك يا ابن الصباح فقلت أيها الأمير الحق أبا عبيدة والحريم فان نفير دمشق قد لحق بهم وقد اقتطعوا قطعة من النسوان والولدان وقد بلى أبو عبيدة بما لا طاقة لنا به قال فلما سمع خالد ذلك الكلام من سهل بن صباح قال إنا لله وإنا إليه راجعون قد قلت لأبي عبيدة دعني أكون على الساقة فما طاوعني ليقضي الله أمرا كان مفعولا ثم أمر رافع بن عميرة على ألف من الخيل وقال له كن في المقدمة وأمر عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق على ألفين وقال له أدرك العدو وسار خالد في أثره ببقية الجيش
قال فبينما أبو عبيدة في القتال مع بولص لعنه الله إذ تلاحقت به جيوش المسلمين وحملوا على أعداء الله وداروا بهم من كل مكان فعند ذلك تنكست الصلبان وأيقن الروم بالهوان وتقدم الأمير ضرار بن الأزور كأنه شعلة نار وقصد نحو بولص فلما رآه عدو الله تبلبل خاطره ووقعت الرعدة في فرائصه وقال لأبي عبيدة يا عربي وحق دينك الا ما قلت لهذا الشيطان يبعد عني وكان بولص قد سمع به ورآه من سور دمشق وما صنع بعسكر كلوس عزازير وسمع بفعاله في بيت لهيا فلما رآه مقبلا اليه عرفه فقال لأبي عبيدة قل لهذا الشيطان لا يقربني فسمعه ضرار رضي الله عنه فقال له أنا شيطان ان قصرت عن طلبك ثم إنه فاجأه وطعنه فلما رأى بولص ان الطعنة واصلة اليه رمى نفسه عن جواده وطلب الهرب نحو أصحابه فسار ضرار في طلبه وقال له أين تروح من الشيطان وهو في طلبك ولحقه وهم ان يعلوه بسيفه فقال بولص يا بدوي
ابق علي ففي بقائي بقاء أولادكم وأموالكم قال فلما سمع ضرار
51

قوله أمسك عن قتله وأخذه أسير هذا والمسلمون قد قتلوا من الروم مقتلة عظيمة
قال حدثني أسلم بن مالك اليربوعي عن أبي رفاعة بن قيس قال كنت يوم وقعة سحورا مع المسلمين وكنت في خيل عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال فدرنا بالروم من كل جانب وبذلنا أسيافنا في القوم وكانوا ستة كتائب في كل كتيبة ألف فارس قال رفاعة بن قيس فوالله لقد حملنا يوم فتح دمشق وانه ما رجع منهم فوق المائة ووجه خبر لضرار أن خولة مع النسوان المأسورات فعظم ذلك عليه وأقبل على خالد وأعلمه بذلك فقال له خالد لا تجزع فقد أسرنا منهم خلقا كثيرا وقد أسرت أنت بولص صاحبهم وسوف نخلص من أسر من حريمنا ولا بد لنا من دمشق في طلبهم ثم أمر خالد أن يسيروا بالناس على مهل حتى ننظر ما يكون من أمر حريمنا ثم أنه سار في ألف فارس جريدة وبعث العسكر كله إلى أبي عبيدة مخافة ان يلحقهم وردان بجيوشه فسار القوم وتوجه خالد بمن معه في طلب المأسورات وقد قدم أمامه رافع بن عميرة الطائي وميسرة بن مسروق العبسي وضرار بن الأزور
قال حدثني سعيد بن عمر عن سنان بن عامر اليربوعي قال سمعت حبيب بن مصعب يقول لما اقتطعوا من ذكرنا من نساء العرب سار بهم بطرس أخو بولص إلى أن نزل بهم إلى النهر الذي ذكرناه ثم قال بطرس انا لا أبرح من ههنا حتى انظر ما يكون من أمر أخي ثم إنه عرض عليه النساء المأسورات فلم يعجبه منهن الا خولة بنت الأزور أخت ضرار قال بطرس هذه لي وأنا لها لا يعارضني فيها أحد فقال له أصحابه هي لك وأنت لها قال وكل من سبق إلى واحدة يقول هي لي حتى قسموا الغنيمة على ذلك ووقفوا ينتظرون ما يكون من امر بولص وأصحابه وكان في النساء عجائز من حمير وتبع من نسل العمالقة والتبابعة وكن قد اعتدن ركوب الخيل فقالت لهن خولة بنت الأزور يا بنات حمير بقية تبع أترضين بأنفسكن علوج الروم ويكون أولادكن عبيدا لأهل الشرك فأين شجاعتكن وبراعتكن التي نتحدث بها عنكن في احياء العرب ومحاضر الحضر ولا أراكن الا بمعزل عن ذلك وأني أرى القتل عليكن أهون من هذه المصائب وما نزل بكم من خدمة الروم الكلاب
فقالت عفرة بنت غفار الحميرية صدقت ووالله يا بنت الأزور نحن في الشجاعة كما ذكرت وفي البراعة كما وصفت لنا المشاهد العظام والمواقف الجسام ووالله لقد اعتدنا ركوب الخيل وهجوم الليل غير أن السيف يحسن فعله في مثل هذا الوقت وانما دهمنا العدو على حين غفلة وما نحن الا كالغنم
52

فقالت خولة يا بنات التبابعة والعمالقة خذوا أعمدة الخيام وأوتاد الاطناب ونحمل بها على هؤلاء اللئام فلعل الله ينصرنا عليهم أو نستريح من معرة العرب فقالت عفرة بنت غفار والله ما دعوت الا ما هو أحب الينا مما ذكرت ثم تناولت كل واحدة عمودا من أعمدة الخيام وصحن صيحة واحدة وألقت خولة على عاتقها عمود الخيمة وسعت من ورائها عفرة وأم أبان بنت عتبة وسلمة بنت زراع ولبنى بنت حازم ومزروعة بنت عملوق وسلمة بنت النعمان ومثل هؤلاء رضي الله عنهن فقالت لهن خولة لا ينفك بعضكن عن بعض وكن كالحلقة الدائرة ولا تتفرقن فتملكن فيقع بكن التشتيت وحطمن رماح القوم واكسرن سيوفهن قال فهجمت خولة امامهن فأول ما ضربت رجلا من القوم على هامته بالعمود فتجندل صريعا والتفت الروم ينظرون ما الخبر فإذا هم بالنسوة وقد أقبلن والعمد بأيديهن فصاح بطريق يا ويلكن ما هذا فقالت عفرة هذه فعالنا فلنضربن بالقوم بهذه الأعمدة ولا بد من قطع اعماركم وانصرام أجالكم يا أهل الكفر قال فجاء بطرس وقال تفرقوا عن النسوة ولا تبذلوا فيهن السيوف ولا أحد منكم يقتل واحدة منهن وخذوهن أسارى ومن وقع منكم بصاحبتي فلا ينلها بمكروه فتفرق القوم عليهن وحدقوا بهن من كل جانب وراموا الوصول إليهن فلم يجدوا إلى ذلك سبيلا ولم تزل النساء لا يدنوا إليهن أحد من الروم الا ضربن قوائم فرسه فإذا تنكس عن جواده بادرت النساء بالاعمدة فيقتلنه ويأخذن سلاحه
قال الواقدي ولقد بلغني ان النسوة قتلن ثلاثين فارسا من الروم فلما نظر بطرس إلى ذلك غضب غضبا شديدا وترجل وترجلت أصحابه نحو النساء والنساء يحرض بعضهن بعضا ويقلن متن كراما ولا تمتن لئاما وأظهر بطرس رأسه وتلهفه عندما نظر إلى فعلهن ونظر إلى خولة بنت الأزور وهي تجول كالأسد وتقول
* نحن بنات تبع وحمير
* وضربنا في القوم ليس ينكر
* لأننا في الحرب نار تسعر
* اليوم تسقون العذاب الأكبر
*
قال فلما سمع بطرس ذلك من قولها ورأى حسنها وجمالها قال لها يا عربية اقصري عن فعالك فاني مكرمك بكل ما يسرك أما ترضين أن أكون انا مولاك وانا الذي تهابني أهل النصرانية ولي ضياع ورساتيق وأموال ومواشي ومنزلة عند الملك هرقل وجميع ما أنا فيه مردود إليك أما ترضين أن تكوني سيدة أهل دمشق فلا تقتلي نفسك فقالت له يا ملعون ويا ابن ألف ملعون والله لئن ظفرت بك لاقطعن رأسك والله ما أرضى بك ان ترعى لي الإبل فكيف أرضاك أن تكون لي كفؤا قال فلما سمع كلامها حرض أصحابه على القتال وقال أترون
53

عارا أكبر من هذا في بلاد الشام ان النسوة غلبنكم فاتقوا غضب الملك قال فافترق القوم وحملوا حملة عظيمة وصبر النساء لهم صبر الكرام فبينما هم على ذلك إذ أقبل خالد بن الوليد رضي الله عنه ومن معه من المسلمين ونظروا إلى الغبار وبريق السيوف فقال لأصحابه من يأتيني بخبر القوم فقال رافع بن عميرة الطائي أنا آتيك به قال ثم أطلق جواده حتى أشرف على النسوة وهن يقاتلن قتال الموت قال فرجع وأخبر خالدا بما رأى فقال خالد لا أعحب من ذلك انهن من بنات العمالقة ونسل التبابعة وما بينهن وبين تبع الا قرن واحد وتبع بن بكر بن حسان الذي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ظهوره وشهد له بالرسالة قبل ان يبعث وقال
* شهدت بأحمد أنه رسول
* من الله بارىء كل النسم
* وأمته سميت في الزبور
* بأمة أحمد خير الأمم
* فلو مد عمري إلى عصره
* لكنت وزيرا له وابن عم
*
بطولة النساء
قال الواقدي قال خالد لا تعجب يا رافع واعلم أن هؤلاء النسوة لهن الحروب المذكورات والمواقف المشهورات وان يكن فعلهن ما ذكرت فلقد سدن على نساء العرب إلى آخر الأبد وأزلن عنهن العار فتهللت وجوه الناس فرحا ووثب ضرار بن الأزور عندما سمع كلام رافع فقال خالد مهلا يا ضرار ولا تعجل فإنه من تأنى نال ما تمنى أيها الأمير لا صبر لي عن نصرة بنت أبي وأمي فقال خالد قد قرب الفرج انشاءالله تعال ثم إن خالدا وثب ووثب أصحابه وقال معاضر الناس إذا وصلتم إلى القوم فتفرقوا عليهم وأحدقوا بهم فعسى ان يخلص حريمنا فقالوا حبا وكرامة ثم تقدم خالد قال فبينما القوم في قتال شديد مع النسوة إذا أشرفت عليهم المواكب والكتائب والاعلام والرايات فصاحت خولة يا بنات التبابعة قد جاءكم الفرج ورب الكعبة ونظر بطرس إلى الكتائب المحمدية وقد أشرفت فخفق فؤاده وارتعدت فرائضه وأقبل القوم ينظر بعضهم بعضا قال فصاح بطرس يا معاشر النسوة ان الشفقة والرحمة قد دخلت في قلبي لان لنا أخوات وبنات وأمهات وقد وهبتكن للصليب فإذا قدم رجالكن فأخبرنهم بذلك ثم عطف يريد الهرب إذ نظر إلى فارسين قد خرجا من قلب العسكر أحدهما قد تكمى في سلاحه والآخر عاري الجسد وقد أطلقا عنانهما كأنهما أسدان وكانا خالدا وضرارا فلما رأت خولة أخاها قالت له إلى أين يا أبن أقبل فصاح بها بطرس انطلقي إلى أخيك فقد وهبتك له ثم ولى يطلب الهرب فقالت له خولة
54

وهي تهزأ به ليس هذا من شيم الكرام تظهر لنا المحبة والقرب ثم تظهر الساعة الجفاء والتباعد وخطت نحوه فقال قد زال عني ما كنت أجد من محبتك فقالت له خولة لا بد لي منك على كل حال ثم أسرعت اليه وقد قصده ضرار فقال له بطرس خذ أختك عني فهي مباركة عليك وهي هدية مني إليك فقال له الأمير ضرار قد قبلت هديتك وشكرتها واني لا أجد لك على ذلك الا سنان رمحي فخذ هذه مني إليك ثم حمل عليه ضرار وهو يقول * (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها) * ثم همهم اليه بالطعنة ووصلت اليه خولة فضربت قوائم فرسه فكبا به الجواد ووقع عدو الله إلى الأرض فأدركه ضرار قبل سقوطه وطعنه في خاصرته فأطلع السنان من الجانب الآخر فتجندل صريعا إلى الأرض فصاح به خالد لله درك يا ضرار هذه طعنة لا يخيب طاعنها
ثم حملوا في أعراض القوم وجميع المسلمين معهم فما كانت الا جولة جائل حتى قتل من الروم ثلاثة آلاف رجل قال حامد بن عامر اليربوعي لقد عددت لضرار بن الأزور في ذلك اليوم ثلاثين قتيلا وقتلت خولة خمس وعفراء بنت غفار الحميرية أربعة وقال وانهزم بقية القوم ولم يزالوا في أدبارهم والمسلمون على اثرهم إلى أن وصلوا إلى دمشق فلم يخرج إليهم أحد بل زاد فزعهم واشتد الامر عليهم ورجع المسملون وجمعوا الغنائم والخيل والسلاح والأموال ثم قال خالد الحقوا بأبي عبيدة لئلا يكون وردان وجيوشه قد لحقوا به فسار ضرار والقوم وقل جعل ضرار رأس البطريق على سنان رمحه يزل القوم سائرين إلى أن لحقوا بأبي عبيدة في مرج الصفر وقد تخلف أبو عبيدة حتى اشرف المسلمون عليه فكبر وكبر خالد بن الوليد رضي الله عنه ومعه المسلمون فلما اجتمع الناس سلم بعضهم على بعض ورأوا المأسورات وقد خلصن وأخبر خالد أبا عبيدة بما فعلت خولة وعفرة وغيرهن من الصحابة فاستبشر بنصر الله وعلموا أن الشام لهم ثم دعا خالد ببولص فقال له أسلم والا فعلت بك كما فعلت بأخيك فقال له وما الذي صنعت بأخي قال قتلته وهذه رأسه ورماها ضرار قدامه فلما رأى أخيه بكى وقال له لا بقاء لي بعد ه حيا فألحقوني به قال فقام اليه المسيب بن يحيى الفزاري رضي الله عنه فضرب عنقه بأمر خالد ثم رحل القوم
قال الواقدي حدثنا سعيد بن مالك قال لما بعث خالد الكتب إلى شرحبيل بن حسنة كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم والى يزيد بن أبي سفيان والى عمرو بن العاص قرأ كل واحد من الامراء كتابه قال فساروا بأجمعهم إلى أجنادين لعون اخوانهم وجاءوا بعددهم وعديدهم قال سفينة مولى رسول
55

الله صلى الله عليه وسلم كنت في خيل معاذ بن جبل فلما أشرفنا بأجمعنا على أجنادين كنا كلنا على سيارة واحدة في يوم واحد وذلك في شهر صفر سنة 20 من الهجرة وتبادر المسلمون يسلم بعضهم على بعض قال ورأينا جيوش الروم في عدد لا يحصى فلما أشرفنا عليهم أظهروا لنا زينتهم وعددهم واصطفوا مواكب وكتائب ومدوا صفوفهم فكانوا ستين صفا في كل صف الف فارس قال الضحاك بن عروة والله لقد دخلنا العراق ورأينا جنود كسرى فما رأينا أكثر من جنود الروم ولا أكثر من عددهم وسلاحهم قال فنزلنا بإزائهم قال فلما كان من الغد بادرت الروم نحونا قال الضحاك فلما رأيناهم وقد ركبوا أخذنا على أنفسنا وتأهبنا وان خالد ركب وجعل يتخلل الصفوف ويقول اعلموا انكم لستم ترون للروم جيشا مثل هذا اليوم فان هزمهم الله على أيديكم فما يقوم لهم بعدها قائمة أبدا فأصدقوا في الجهاد وعليكم بنصر دينكم وإياكم أن تولوا الادبار فيعقبكم ذلك دخول النار وأقرنوا المواكب ومكنوا المضارب ولا تحملوا حتى آمركم بالحملة وأيقظوا هممكم
قال الواقدي ولقد بلغني ممن أثق به أن وردان لما رأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اجتمعوا وعولوا على حربهم جمع اليه الملوك والبطارقة وقال لهم يا بني الأصفر اعلموا أن الملك يعول عليكم وإذا انكسرتم لا تقوم لكم بعدها قائمة أبدا وتملك العرب بلادكم وتسبي حريمكم فعليكم بالصبر ولتكن حملتكم واحدة ولا تتفرقوا
واعلموا ان كل ثلاثة منا بواحد منهم واستعينوا بالصليب ينصركم فهذا ما كان من هؤلاء وأما خالد رضي الله عنه فإنه مشى على أصحابه وقال معاشر المسلمين من فيكم يحذر لنا القوم وينذرهم فقال ضرار بن الأزور أنا أيها الأمير فقال خالد أنت لها والله ولكن يا ضرار إذا أشرفت على القوم فإياك ان تحمل نفسك ما لا تطيق وان تغرر بنفسك وتحمل على القوم فما أمرك الله بذلك فقد قال الله تعالى ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة قال فأطلق ضرار عنان جواده حتى اشرف على جيش الروم فرأى أثاثهم وخيامهم وشعاع البيض والطوارق والرايات كأجنحة الطيور قال وكان وردان ينظر نحو جيش المسلمين إذ نظر إلى ضرار وهو مشرف على القوم فقال للبطارقة اني أرى فارسا قد أقبل ولست أشك انه طليعة للقوم فأيكم يأتيني به فانتدب من القوم ثلاثين فارسا طلبوا ضرارا فلما نظر إليهم ضرار ولى من بين أيديهم فتبعوه وظنوا انه قد انهزم وانما أراد بذلك ان يبعدهم عن أصحابهم فلما بعدوا علم أنه تمكن منهم فلوى رأس جواده إليهم وصوب السنان عليهم فأول ما طعن فارسا من القوم أرداه وثنى على الآخر فأعدمه الحياة وصال فيهم صولة الأسد على الغنم ودخل رعبه في قلوبهم فولوا منهزمين فتبعهم وهو يصرع منهم فارسا
56

بعد فارس إلى أن صرع منهم تسعة عشر فارسا
فلما رأوا ذلك وقرب هو من جيوش الروم لوى راجعا إلى خالد ومعه اسلابهم وخيولهم وأعلمه بما كان فقال له خالد ألم أقل لك لا تغرر بنفسك ولا تحمل عليهم فقال ان القوم طلبوني فخفت ان يراني الله منهزما فجاهدت باخلاص ولا جرم أن الله ينصرنا عليهم والله لولا خوفي من ملامك لاحملن على الجميع واعلم أن القوم غنيمة لنا قال فرتب خالد عسكره ميمنة وميسرة وقلبا وجناحين فجعل في القلب معاذ بن جبل وفي الميمنة عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وفي الميسرة سعيد بن عامر وفي الجناح الأيسر شرحبيل بن حسنة وفي الساقة يزيد بن أبي سفيان في أربعة آلاف فارس حول الحريم والبنات والأولاد ثم التفت إلى النسوة وهن عفراء بنت غفار الحميرية وأم أبان ابنة عتبه وكانت عروسا قد تزوج بها في هذا اليوم أبان بن سعيد ابن العاص والخضاب في يدها والعطر في رأسها وخولة بنت الأزور ومزروعة بنت عملوق وسلمة بنت زارع وغيرهن من النسوة ممن عرفن الشجاعة والبراعة
نصيحة خالد
فقال لهن خالد يا بنات العمالقة وبقية التبابعة قد فعلتن فعلا أرضيتن به الله تعالى والمسلمين وقد بقي لكن الذكر الجميل وهذه أبواب الجنة قد فتحت لكن وأبواب النار قد أغلقت عنكن وفتحت لاعدائكن واعلمن اني أثق بكن فان حملت طائفة من الروم عليكن فقاتلن عن أنفسكن وان رايتن أحدا من المسلمين قد ولى هاربا فدونكن وإياه بالاعمدة وارمين بولده وقلن له اين تولى عن أهلك ومالك وولدك وحريمك فإنكن ترضين بذلك الله تعالى فقالت عفراء بنت غفار أيها الأمير والله لا يفرحنا الا أن نموت أمامك فلنضربن وجوه الروم ولنقاتلن إلى أن لا تبقى لنا عين تطرف والله مانبالي إذا رمينا الروم كله قال فجزاهن خيرا ثم عاد إلى الصفوف فجعل يطوف بينهم بفرسه ويحرض الناس على القتال وهو ينادي برفيع صوته يا معاشر المسلمين انصروا الله ينصركم وقاتلوا في سبيل الله واحتسبوا نفوسكم في سبيل الله ولا تحملوا حتى آمركم بالحملة ولتكن السهام إذا خرجت من أكباد القسي كأنها من قوس واحدة فإذا تلاصقت السهام رشقا كالجراد لم يخل أن يكون منها سهم صائب * (اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون) * واعلموا أنكم لم تلقوا بعد هذا عدوا مثله وان هذه الفئة جملتهم وأبطالهم وملوكهم فجردوا السيوف وأوتروا القسي وفوقوا السهام ثم إن خالدا أقبل ووقف في القلب مع عمرو بن العاص وعبد الله بن عمر قيس بن هبيرة ورافع بن عميرة وذى الكلاع الحميري وربيعة بن عامر ونظائرهم قال فلما نظر ودان إلى
57

جيش المسلمين قد زحف زحفوا وكانوا ملء تلك الأرض في الطول والعرض من كثرتهم فترامى الجمعان وتلاقى الفريقان وقد اظهر أعداء الله الصلبان والاعلام ورفع المسلمون أصواتهم بالتهليل والتكبير والصلاة والسلام على البشير النذير
فلما قرب القوم بعضهم من بعض خرج من علوج الروم شيخ كبير وعليه قلنسوة سوداء فلما قرب من المسلمين نادى بلسان عربي أيكم المقدم فليخاطبني وليخرج إلي وعليه أمان قال فخرج اليه خالد بن الوليد فقال له القس أنت أمير القوم فقال خالد كذلك يزعمون ما دمت على طاعة الله وسنة رسوله وان أنا غيرت أو بدلت فلا امارة لي عليهم ولا طاعة قال القس بهذا نصرتم علينا ثم قال اعلم انك توسطت بلادا ما جسر ملك من الملوك أن يتعرض لها ولا يدخلها وان الفرس دخلوها ورجعوا خائبين وان التبابعة أتوها وأفنوا أنفسهم عليها وما بلغوا ما أرادوا ولكنكم أنتم نصرتم علينا وان النصر لا يدوم لكم وصاحبي وردان قد اشفق عليكم وقد بعثني إليكم وقال إنه يعطي كل واحد منكم دينار وثوبا وعمامة ولك أنت مائة دينار ومائة ثوب ومائة عمامة وارحل عنا بجيشكم فان جيشنا على عدد الذر ولا تظن ان هؤلاء مثل من لقيت من جموعنا فان الملك ما انفذ في هذا الجيش الا عظماء البطارقة والأساقفة قال خالد والله ما نرجع الا بإحدى ثلاث خصال اما ان تدخلوا في ديننا أو تؤدوا الجزية أو القتال وأما ما ذكرت من أنكم عدد الذر فان الله تعالى قد وعدنا النصر على لسان محمد صلى الله عليه وسلم وأنزل ذلك في كتابه العزيز وأما ما ذكرت من أن صاحبكم يعطي كل واحد منا دينارا وعمامة وثوبا فعن قريب إن شاء الله نرى ثيابكم وبلادكم وعمائمكم كل ذلك في ملكنا وبأيدينا فقال الراهب اني راجع إلى صاحبي أخبره بجوابك ثم لوى راجعا وأخبر وردان بما كان من جواب خالد فقال وردان أيظن أننا مثل من لقيه من قبل وانما هؤلاء لحقهم الطمع إذ تقاصرنا عن قتالهم والملك قد أرسل إليهم أكابر البطارقة وما بيننا وبينهم الا جولة الجائل ثم نتركهم صرعى ثم رتب أصحابه وزحف وقدم أمامه الرجالة صفا أمام القوم والخيالة وبأيديهم المزازيق والقسي قال فصاح معاذ بن جبل معاشر الناس ان الجنة قد زخرفت لكم والنار قد فتحت لأعدائكم والملائكة عليكم قد أقبلت والحور العين قد تزينت للقائكم فأبشروا بالجنة السرمدية ثم قرأ ان الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة بارك الله فيكم الحملة فقال خالد مهلا يا معاذ حتى أوصي الناس ومشي في الصفوف ورتبها وقال اعلموا ان هؤلاء أضعافكم فطاولوهم إلى وقت العصر
58

فإنها ساعة نرزق فيها النصر وإياكم ان تولوا الادبار فيراكم الله منهزمين ازحفوا على بركة الله تعالى
فلما تقارب الجمعان رمت الاروام سهامهم رمية واحدة قال فقتلوا رجالا وجرحوا أناسا وخالد قد منع الناس من الحملة فقال لضرار بن الأزور وما لنا والوقوف والحق سبحانه وتعالى قد تجلى علينا والله ما يظن أعداء الله الا أننا قد فشلنا عنهم وجزعنا فأمرنا بالحملة حتى نحمل معك قال فأنت لها يا ضرار فخرج ضرار بن الأزور وقال والله ما من شيء اشهى إلى قلبي من ذلك ثم حمل ضرار وقد تدرع بدرع كان لبطرس أخي بولص وألقى الزرد على وجهه وركب جواده وكان عليه يؤمئذ جبتان من جلود الفيلة كان قد اخذهما أيضا من بطرس وقد اخفى نفسه عن الروم بلباسه ذلك وقد اطلق عنانه وقوم سنانه وحمل في صفوف الروم فرشقوه بالسهام فلم يصل اليه منهم أذى وهو يخترق صفوفهم فما كان قدر ساعة حتى قتل من الروم عشرين فارسا ومثلها رجالة قال عنان بن عوف النجبي كنت ممن يعد قتلى ضرار بن الأزور وكنت كلما قتل فارسا من الروم أعده فكان جملة قتل ضرار في حملته هذه فرسانا ورجالا ثلاثين فارسا
قال عمر بن سالم هكذا حدثني نوفل بن زياد ثم إنه رمى البيضة عن رأسه والزرد عن وجهه ونادى بأعلى صوته أنا الموت الأصفر أنا ضرار بن الأزور أنا صاحبكم أنا قاتل همدان بن وردان أنا البلاء المسلط عليكم وعلى من أشرك بالرحمن قال فلما سمعت الروم كلامه عرفوه وتقهقروا إلى ورائهم قال فطمع فيهم وحمل على أثرهم فعند ذلك انطبقت عليه الروم فقال وردان من هذا البدوي فقالوا أيها الملك هذا الذي بقي طول عمره عاري الجسد ومرة برمح ومرة بنبل فلما سمع ذلك وبذكر ضرار بن الأزور تنفس الصعداء وقال هذا قاتل ولدي ولقد اشتهيت من يأخذ منه بثأري وله مني ما يريد قال فبرز اليه بطريق وكان صاحب طبرية وقال لوردان انا آخذ لك بالثأر ثم لوى عنانه وحمل على ضرار فجالا أكثر من ساعة ثم طعنه ضرار طعنة صادقة خرق بها كبد عدو الله فتجندل صريعا فقال وردان لهم ما أتى به ولو اتى به عينا ما صدقته فان هذا لا تطيق الانس أن تقاتله وأنا أرى لهذا غيري ثم ترجل وغير لامته وألقى عليه درعا وجعل على رأسه التاج وركب جوادا من الخيول العربية وهم أن يخرج إلى ضرار بن الأزور فتقدم اليه بطريق اسمه اصطفان وهو صاحب عمان قال وباس ركاب وردان قال أيها السيد ان أخذ بثأرك من هذا الذميم أو أسرته لك أتزوجني ابنتك فقال له وردان هي لك وأشهد عليه من حضر من
59

ملوك الشام فلما سمع اصطفان بذلك خرج كأنه شعلة نار وحمل على ضرار وقال له ويلك قد نزل بك ما لا قدرة لك به قال فلم يدر ضرار ما يقول غير أنه أخذ ححذره منه وقد أخرج اصطفان صليبا من الذهب وجعله في عنقه في سلسلة من الفضة وجعل يقبله ويرفعه على رأسه فعلم ضرار انه يستنصر به عليه فقال ضرار رضي الله عنه ان كنت تستنصر علي به فأنا أستنصر بالقريب المجيب الذي هو ممن دعاه قريب ثم حمل عليه وأرى الناس أبوابا من الحرب حتى ضج الناس من قتالهما فصاح خالد يا بان الأزور ما هذا التكاسل والتغافل والجنة قد فتحت لك والنار قد فتحت لأعدائك وإياك الكسل فان الله عز وجل يعينك قال فأيقظ ضرار نفسه وانقض من سرجه وحمل على خصمه وتصايحت الروم بصاحبها تشجعه وكلاهما في ضرب عظيم وقد حميت الشمس وتعب الجوادان فأشار البطريق إلى ضرار أن ترجل حتى نتقابل فهم ضرار أن يترجل شفقة على الجواد وإذا بصفوف الروم قد خرجت ورجل يقود جنيبا امامهم وكان ذلك غلام البطريق فلما نظر اليه ضرار صاح في جواده وقال له اجلد معي ساعة والا شكوتك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال فحمحم الجواد وشمر أجنحته جريا واستقبل ضرار غلام البطريق بطعنة فقتله واخذ الجنيب فركبه وأطلق جواده نحو عساكر المسلمين فتناولوه وعاد ضرار نحو البطريق فلما رآه اقبل اليه بعد ما قتل غلامه وركب جواده أيقن عدو الله بالهلاك وعلم أنه ان ولى قتله بلا محالة وان وقف أهلكه فلما نظر ضرار إلى عدو الله علم ما عنده فهجم عليه إذ نظر إلى الروم وقد خرج منهم دوس وذلك أن وردان لما نظر إلى صاحبه وقد اشرف على الموت علم أنه ان لم يدركه هلك فقال لقومه يا قوم ان هذا الشيطان قد أكل من كبدي قطعة وإذا لم أقتله قتلت نفسي ولا بد لي من الخروج اليه قال فخرج في عشرة من البطارقة وهم مدرعون وفي أرجلهم اخفاف من الحديد وسواعد من الحديد وبأيديهم أعمدة من الحديد ووردان قد لبس لامته وعلى رأسه تاج عظيم فخرجوا ووردان أمامهم كأنه شعلة نار ونظر أصطفان إلى من خرج فصرخ بضرار فلم يلتفت إلى من خرج اليه الا أنه تأهب فبينما هم كذلك إذ نظر خالد إلى القوم وخروجهم ونظر إلى التاج وهو يلمع على رأس صاحبهم فقال ان التاج لا يكون الا على رأس الملك ولا شك انه صاحب القوم قد خرج إلى صاحبنا فما الذي يقعدنا عن نصرته ثم قال لأصحابه لا يخرج الا عشرة حتى نساوي القوم فخرج خالد في عشرة أصحابه وأطلقوا الأعنة وقوموا الأسنة قال ووصل الروم إلى ضرار فاستقبلهم بقلب أقوى من الحجر الجلمود قال فناداه خالد
60

ابشر يا ضرار فقد أسعدك الجبار ولا تجزع من الكفار فقال ضرار رضي الله عنه ما أقرب النصر من الله وجاء خالد ومن معه والتقت الرجال بالرجال وانفرد كل واحد بصاحبه وطلب خالد وردان ولم يبرح ضرار عن خصمه اصطفان وقد كل ساعة وارتعدت فرائصه عندما نظر إلى خالد ومن معه فنظر يمينا وشمالا ليطلب الهرب فعلم ضرار منه ذلك فهجم عليه بسنانه فلما أيقن بالموت القى نفسه إلى الأرض وولى هاربا فبادر اليه ضرار والقى نفسه عن جواده وطلب عدو الله حتى لحقه وتقابضا على وجه الأرض وكان عدو الله كالصخر الجلمود وكان ضرار نحيف الجسم غير أن الله تعالى أعطاه قوة الايمان فلما طال بهم العراك ضرب بيده إلى مراق بطنه وقلعه من الأرض بحيله وجلد به الأرض فصاح عدو الله وجعل يستنجد بوردان وقال بالرومية أيها السيد انجدني مما انا فيه فقد هلكت فصاح وردان يا ويلك ومن ينقذني انا من هؤلاء السباع الكاسرة فسمع خالد ذلك فطمع فيه وحمل على وردان وهم ضرار بخصمه ونظر اليهما الفريقان وأقبل صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرار فلم يمهل خصمه دون حتى برك على صدره وذبحه مثل البعير وكل واحد مشتغل عن نصرة صاحبه قال فأخذ ضرار رأس عدو الله وهو ملطخ بالدماء وركب جواده وحملت الروم على المسلمين ونادى سعيد بن زيد يا معشر الناس اذكروا الوقوف بين يدي الله الملك الجبار فإياكم ان تولوا الادبار فتستوجبوا دخول النار يا أهل الايمان يا حملة القرآن اصبروا قال فزاد الناس بقوله نشاطا وتزاحم الفريقان قال وجاء وقت العصر فافترقوا وقد قتل من الروم ثلاثة آلاف وعشرة من ملوكهم ومنهم رومان صاحب الأميرة ودمر صاحب نوى وكوكب صاحب ارض البلقاء ولاوى بن حنا صاحب غزة قال ثم افترق القوم ورجع وردان إلى مكانه وقد امتلأ قلبه رعبا مما ظهر له من
المسلمين من شدة صبرهم وقتالهم فجمع البطارقة وقال لهم يا أهل دين النصرانية ما تقولون في هؤلاء العرب فاني أراهم غالبين علينا وقد رأيت أسيافهم قاطعة وخيلهم صابرة وسواعدكم بليدة وان القوم أطوع منكم لربكم وما خذلتم الا بالظلم والجور والغدر وما مرادي منكم الا أن تتوبوا إلى ربكم فان فعلتم ذلك رجوت لكم النصر من عدوكم وان لم تفعلوا ذلك فائذنوا بحرب من المسيح وبهلاك أنفسكم فان الله عاقبكم أشد عقوبة إذ سلط عليكم أقواما لا نفكر بهم ولا نعدهم لان أكثرهم جياع وعبيد وعراة ومساكين اخرجهم الينا قحط الحجاز وجوعه وشدة الضرر والبلاء والان قد أكلوا من خبز بلادنا وفواكه أرضنا وأكلوا العسل والتين والعنب وأعظم ذلك سبي نسائكم وأموالكم
61

قال الواقدي فلما سمع القوم ذلك بكوا وقالوا نقتل عن آخرنا ولا يصل الينا هؤلاء القوم وانا نرى أن نقاتلهم بالرماح قال فلما سمع وردان ذلك منهم صاح بالبطارقة وقال لهم ما عندكم من الرأي فقال رجل منهم يا وردان اعلم انك قد بليت بقوم لا تقوم لقتالهم وقد رأيت الواحد منهم يحمل على عسكرنا ولا يبالي من أحد ولا يرجع حتى يقتل منهم وقد قال لهم نبيهم ان من قتل منكم صار إلى الجنة ومن قتل من الروم صار إلى النار والموت والحياة عندهم سواء وما أرى لكم من القوم مطمعا الا أن نتحيل على صاحبهم فنقتله فان قتلتموه ينهزم القوم وانك لا تصل اليه الا بحيلة توقعه فيها فقال وردان واي حيلة ندخل بها على القوم والحيل والخداع والمكر منهم
فقال له البطريق أنا أقول لك شيئا ان صنعته وصلت به إلى أمير العرب من حيث لا يصل إليك شيء ولا اذى وذلك أنك تنتخب عشرة من الفرسان من ذوي الشدة والبأس ويكمنون في مكمن من جهة العسكر قبل خروجك اليه وبعد ذلك تخرج اليه وتشاغله بالحديث ثم اهجم عليه وأخرج قومك يبادرون من المكمن ويقطعونه اربا اربا وتستريح منه وبعد ذلك تتفرق أصحابه ولا يجتمع منهم أحد قال فلما سمع وردان ذلك من البطريق فرح فرحا عظيما وقال ما هذا الا رأي سديد فنعم ما أشرت به وقد أصبت فيما ذكرت غير أن هذا الامر يعمل في جنح الليل ولا يأتي الصباح الا وقد فرغنا مما نريد ثم إن وردان دعا برجل من العرب المتنصرة اسمه داود وكان في سكنه وقال له يا داود أنا أعلم انك فصيح اللسان واني أريد ان تخرج إلى هؤلاء العرب وتسألهم ان يقطعوا الحرب بيننا وبينهم وقل لهم لا يخرجون لنا بكرة النهار حتى أخرج بنفسي إليهم منفردا عن قومي ولعلنا نصطلح مع العرب فقال داود ويحك وتخالف أمر الملك هرقل فيما أمرك به من الحرب وتصطلح أنت والعرب فان الملك ينسبك إلى الجزع والفزع وما كنت بالذي أخاطب العرب في ذلك أبدا فيبلغ الملك اني كنت السبب في ذلك فيقتلني فقال له وردان يا ويلك انما دبرت حيلة على أمير العرب حتى أصل اليه بها فأقتله وتتفرق هؤلاء العرب عنا ثم إنه حدثه بما عزم عليه من المكر بخالد بن الوليد فقال لوردان ان الباغي مخذول في كل فعل فالق الجمع بالجمع واترك ما عزمت عليه فقال وردان وقد غضب ويلك أنت تعاندني فيما أمرتك به دع عنك المحاججة فقال حبا وكرامة ثم إنه مضى وقال في نفسه ان وردان قد عزم ان يلحق بولده ثم اقبل حتى أنه وقف قريبا من المسلمين ونادى برفيع صوته وقال يا معاشر العرب حسبكم من القتل وسفك الدماء فان الله تعالى يسألكم عن سفكها
62

وأريد أن يخرج إلي أمير العرب حتى أخاطبه بما أرسلت به قال فما استتم كلامه حتى خرج اليه خالد رضي الله عنه وهو كأنه شعلة نار
فلما نظر اليه داود النصراني قال له يا عربي على رسلك فما خرجت أحارب ولا أنا من رجال الحرب وما أنا الا رسول فلما سمع خالد مقالته قرب منه وقال اذكر مسألتك واستعمل الصدق تنج فمن صدق نجا ومن كذب هلك فقال صدقت يا عربي ان أميرنا وردان كاره سفك الدماء وقد رأى شدتكم ولا يريد حربكم وقد نظر إلى من قتل من جماعته فكره أن يحاربكم وقد رأى أن يدفع لكم مالا ويحقن به دماء الناس لكن بشرط ان يكون بينك وبينه كتاب وتشهد عليك كبراء قومك انك لا تتعرض له ولا لاحد من أصحابه ولا لحصن من حصونه فان فعلت ذلك وثق بقولك وهو يسألك أن تقطع الحرب بقية يومك فإذا أصبحت فأخرج بنفسك ولا يكن معك أحد ويخرج هو أيضا منفردا فننظر ما تتفقان عليه عسى ان تحقنا دماء الناس بيننا وبينكم قال فلما سمع خالد ما نطق به داود قال له ان كان ما أخبر به صاحبكم يريد به حيلة أو مكيدة فنحن والله جرثومة الخداع وما مثلنا يأتي بحيلة ولا بخديعة فإن كان ذلك ضميره واعتقاده فما هو الا قرب أجله وانقطاع عمره وهلاك جموعكم والانفصال بيننا وبينكم وان كان ذلك حقا من قوله فلست اصالحه الا إذا أدى الجزية عن جماعته وأما المال فلست براغب فيه الا على ما ذكرته لكم وعن قريب نأخذ أموالكم ونملك بلادكم فقال داود وقد عظم عليه كلام خالد ما يكون الامر الا كما ذكرت فإذا توافقتم كان الانفصال بيننا وها انا راجع فأذكر له ما ذكرت ثم لوى راجعا وقد امتلأ قلبه رعبا من خالد وفزع منه فزعا شديدا ثم قال في نفسه صدق والله أمير العرب وأنا اعلم والله ان وردان أول مقتول ونحن من بعده وما لي الا أن أصدق أمير العرب وأخذ لي ولأهلي منه أمانا ثم رجع إلى خالد وقال له يا أمير اني قد أضمرت على سر وأريد أن أبديه لك لأني أعلم أن البلاد لكم ان وردان قد نوى على شيء فقال خالد وما هو فقال خذ لنفسك الحذر وكن مستيقظا فإنه قد اضمر لك كيدا ثم أخبره بالقصة من أولها إلى اخرها ثم قال لخالد أريد منك الأمان لي ولأهلي فقال خالد الأمان لك ولأهلك ولأولادك ان أنت لم تخبر القوم ولم تغدر قال داود لو أردت أن أغدر لما حدثتك فقال خالد وأين كمين القوم قال عند كثيب عن يمين عسكرهم ثم إنه خلاه ورجع وأعلم وردان ففرح وقال الان أرجو أن يظفرني الصليب بهم ثم إنه دعا بعشرة من الابطال وقال لهم امضوا رجالة وأكمنوا وأمرهم أن يفعلوا ما دبروه وأما خالد فإنه رجع فلقيه امين الأمة أبو عبيدة فرآه ضاحكا فقال يا أبا سليمان اضحك الله سنك ما
63

الخبر فحدثه بما جرى فقال أبو عبيدة على ماذا عزمت قال عزمت ان اخرج إلى القوم وحدي فقال يا أبا سليمان لعمرك انك لكفء ولكن ما أمرك الله ان تلقي بنفسك إلى التهلكة والله تعالى يقول وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وقد أعد لك عشرة وهو حادي عشر وما آمن عليك من اللعين ولكن اندب له رجالة كما ندب لك رجالة ويكمنون قريبا من القوم فإذا صرخ اللعين بقومه فاصرخ أنت بقومك ونكون نحن متأهبين على خيولنا فإذا فرغت من عدو الله حملنا جميعا ونرجوا من الله النصر ثم قال والمسلمون هم رافع بن عميره الطائي ومعاذ بن جبل وضرار بن الأزور وسعيد بن زيد وقيس بن هبيرة وميسرة بن مسروق العبسي وعدي بن حاتم حتى استتم العشرة وأخبرهم خالد بما قد عزم عليه الروم من الحيلة والمكيدة التي قد دبرها وردان وقال اخرجوا رجالة بحيث لا يدري بكم أحد حتى انكم
تأتون الكثيب الذي عن يمين العسكر فاكمنوا هناك فإذا صرخت بكم فبادروا وانفروا للقوم كل واحد لواحد واتركوني لعدو الله فإنني إن شاء الله تعالى كفء له فقال ضرار أيها الأمير أخاف ان يكثر عليك الجمع الكثير فلا نأمن ان يصلوا بشرهم إليك وقد كنت ادبر لك حيلة اننا نسير من وقتنا هذا إلى مكمن القوم فإذا وجدناهم رقودا قتلناهم وفرغنا منهم قبل الصباح ونكمن نحن في مواضعهم فإذا خلوت أنت بعدو الله خرجنا عليكم بغير مقالة
فقال خالد افعل يا ابا الأزور ما ذكرت ان وجدت إلى ذلك سبيلا وخذ معك هؤلاء الذين ندبتهم وأنت الأمير عليهم وأرجو ان الله يبلغك ما تطلبه وخرج هو وأصحابه في جنح الليل رجالة وبأيديهم أسلحتهم وودعوا الناس وكان وقت خروجهم قد مضى ثلث الليل ثم سار ضرار حتى وصل الكثيب فأوقف أصحابه وقال على رسلكم حتى استخبر لكم خبر القوم فلما اشرف عليهم من بعيد سمع غطيطهم وهم نيام سكرى غرقوا في النوم لما نالهم من التعب والنصب وقد أمنوا من أحد ينظرهم فقال ضرار في نفسه ان أنا دنوت من القوم لأقتلهم خشيت ان يوقظ بعضهم بعضا قال فرجع إلى أصحابه وقال لهم أبشروا فقد اتاكم الله بما تريدون وأذهب عنكم ما تحذرون فجردوا سيوفكم وسيروا إلى القوم فاقتلوهم كيف شئتم ثم تقدم ضرار امامهم وهم في اثره إلى أن وصل بهم إليهم فوجدوهم نياما كل واحد منهم سلاحه عند رأسه فانفرد كل واحد منهم بواحد فلم يلبثوا الا وقد فرغوا منهم عن اخرهم وأخذ كل واحد سلاح غريمه وأخذوا كل ما معهم من الزاد وغيره فقال لهم ضرارا أبشروا فان هذا أول النصر إن شاء الله تعالى وأقبلوا بقيلة
64

ليلتهم يصلون ويدعون الله ان ينصرهم على عدوهم ولم يزل كل واحد منهم في مصلاه إلى أن أضاء الفجر فصلوا صلاة الفجر فلما فرغوا من الصلاة لبس كل واحد ثياب غريمه ولباسه وغيبوا القتلى مخافة ان يرسل إليهم وردان خبرا
معركة أجنادين
قال الواقدي فلما أصبح الصباح صلى خالد بالناس ورتب أصحابه لاهبة الحرب فبينما هم كذلك إذ خرج من القلب فارس وقال يا معاشر العرب أريد أميركم ليخرج إلى صاحبنا وردان لننظر ما يتفقان عليه من أمر الجيشين وحقن الدماء بينهما قال فخرج اليه خالد بن الوليد فقال له الفارس ان وردان يريد ان تنتظره حتى تتكلم معه فقال خالد السمع والطاعة ارجع واخبره فعند ذلك خرج وردان وقد تزين بقلادة جوهر وعلى رأسه تاج فقال خالد عندما رآه هذه غنيمة للمسلمين إن شاء الله تعالى قال فلما نظر عدو الله إلى خالد ترجل عن جواده وكذلك خالد وجلس كلاهما وقد جعل عدو الله سيفه على فخذه فقال له خالد قل ما تشاء واستعمل الصدق والزم طريق الحق واعلم انك جالس بين يدي رجل لا يعرف الحيل فقال ما تريد فقال وردان يا خالد اذكر لي ما الذي تريدون وقرب الامر بيني وبينكم فان كنت تطلب منا شيئا فلا نبخل به عليك صدقة منا عليكم لأننا ليس عندنا أمة أضعف منكم وقد علمنا انكم كنتم في بلاد قحط وجوع تموتون جوعا فاقنع منا بالقليل وارحل عنا فلما سمع منه خالد هذا الكلام قال له يا كلب الروم ان الله عز وجل اغنانا عن صدقاتكم وأموالكم وجعل أموالكم نتقاسهما بيننا وأحل لنا نساءكم وأولادكم الا ان تقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله وان أبيتم فالحرب بيننا وبينكم أو الجزية عن يد وأنتم صاغرون وبالله اقسم ان الحرب اشهى لنا من الصلح اما قولك يا عدو الله لم تكن أمة أضعف منا عندكم فأنتم عندنا بمنزلة الكلاب وان الواحد منا يلقي ألفا منكم بعون الله تعالى وما هذا خطاب من يطلب الصلح فان كنت ترجو ان تصل إلى بانفرادي عن قومي وقومك فدونك وما تريد
قال فلما سمع وردان مقالات خالد وثب من مكانه من غير أن يجرد سيفه وتشابكا وتقابضا وتعانقا قال فصاح عدو الله عندما وثق من خالد وقال لأصحابه بادروا الان الصليب قد مكنني من أمير العرب فما استم كلامه حتى بادر اليه الصحابة كأنهم عقبان يتقدمهم ضرار بن الأزور وقد رموا
65

النشاب عنهم وجردوا سيوفهم وضرار عاري الجسد بسراويله قابض على سيفه وهو يزأر كالأسد وأصحابه من ورائه فالتفت عدو الله ونظر إلى القوم وهم يتسابقون اليه وهو يظن أنهم قومه حتى أنهم وصلوا اليه ونظر في أوائلهم ضرار بن الأزور فقال لخالد سألتك بحق معبودك ان تقتلني أنت بيدك ولا تدع هذا الشيطان يقتلني فقال خالد هو قاتلك لا محالة فهز ضرار سيفه وقال يا عدو الله اين خديعتك من خديعة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال خالد اصبر يا ضرار حتى آمرك بقتله ثم وصل اليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهزوا سيوفهم في وجهه ومرادهم ان يقتلوه ونظر عدو الله إلى ما دهمه فوقع إلى الأرض وهو يشير بإصبعه الأمان الأمان فقال لخالد يا عدو الله لا نعطي الأمان الا لأهل الأمان وأنت أظهرت لنا المكر والخديعة والله خير الماكرين فلما سمع ضرار كلام خالد لم يمهله دون ان ضربه على عاتقه فخرج السيف يلمع من علائقه ثم أخذ التاج من على رأسه وقال من سبق إلى شيء كان أولى به وقد أدركته سيوف المجاهدين فقطعوه اربا اربا وتبادروا إلى سيفه فأخذوه ثم إن خالدا قال لأصحابه اني أريد ان تحملوا على الروم لأنهم مشتاقون إلى أصحابهم قال فأخذوا رأس عدو الله وردان وتوجهوا نحو عسكر الروم فلما وصل خالد الصفوف نادى يا أعداء الله هذا راس صاحبكم وردان انا خالد بن الوليد أنا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إنه رمى الرأس وحمل عليهم وحمل المسلمون وحمل أبو عبيدة وقال احملوا يا أهل القرآن وحفاظ الدين وحماة المسلمين فلما رأى الروم رأس وردان ولوا الادبار وركنوا إلى الفرار ولم يزل السيف يعمل فيهم من وقت الصباح إلى الغروب قال عامر بن الطفيل الدوسي كنت مع أبي عبيدة ونحن نتبع المنهزمين إلى طريق غزة إذ اشرف علينا خيل فظننا انها نجدة من عند الملك هرقل فأخذنا على أنفسنا وإذا بالغبرة قد قربت منا فإذا هي عسكر من ارسلها أبو بكر الصديق وما رأوا أحدا من المنهزمين الا قتلوه ونهبوا ما معه
قال الواقدي وكان الروم بأجنادين تسعين ألفا فقتل منهم في ذلك اليوم خمسون ألفا وتفرق من بقي منهم فمنهم من انهزم إلى دمشق ومنهم من انهزم إلى قيسارية وغنم المسلمون غنيمة لم يغنم مثلها واخذوا منهم صلبان الذهب والفضة فجمع خالد ذلك كله مع تاج وردان إلى وقت القسمة وقال خالد لست اقسم عليكم شيئا الا بعد فتح دمشق إن شاء الله تعالى وكانت الوقعة باجنادين ليلة ست خلت من جمادي الأول سنة ثلاث عشرة من الهجرة النبوية وذلك قبل وفاة أبي بكر بثلاث وعشرين ليلة ثم إن خالدا رضي الله عنه
66

كتب كتابا إلى أبي بكر يقول فيه بسم الله الرحمن الرحيم من خالد بن الوليد المخزومي إلى خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم سلام عليك اما بعد فاني احمد الله الذي لا إله إلا هو واصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وازيد حمدا وشكرا على المسلمين ودمارا على المتكبرين المشركين وانصداع بيعتهم وانا لقينا جموعهم بأجنادين وقد رفعوا صلبانهم وتقاسموا بدينهم ان لا يفروا ولا ينهزموا فخرجنا إليهم واستعنا بالله عز وجل متوكلين على الله خالقنا فرزقنا الله الصبر والنصر وكتب الله على أعدائنا القهر فقاتلناهم في كل واد وسبسب وجملة من احصيناهم ممن قتل من المشركون خمسون ألفا وقتل من المسلمين في اليوم الأول والثاني أربعمائة وخمسون رجلا ختم الله لهم بالمسلمين فرفع أبو بكر رأسه وقرأ الكتاب سرا فلما فهم ما فيه قرأه على عشرون والباقي من أخلاط الناس ويوم كتبت لك الكتاب كان يوم الخميس لليلتين خلتا من جمادي الاخر ونحن راجعون إلى دمشق إن شاء الله تعالى فادع لنا بالنصر والسلام عليك وعلى جميع المسلمين ورحمة الله وبركاته وطوى الكتاب وسلمه إلى عبد الرحمن بن حميد وأمره بالمسير إلى المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة وأتم السلام وسار خالد بالمسلمين طالب دمشق
قال الواقدي رحمة الله عليه ولقد بلغني ان أبا بكر الصديق كان يخرج كل يوم بعد صلاة الفجر إذ أقبل عبد الرحمن بن حميد فلما رآه تسابقت اليه أصحابه وقالوا له من أين أقبلت قال من الشام وان الله قد نصر المسلمين فسجد أبو بكر الصديق لله شكرا وأقبل عبد الرحمن ابن حميد إلى أبي بكر وقال يا خليفة رسول الله ارفع رأسك فقد أقر الله عينك هالمسلمين فرفع أبو بكر رأسه وقرأ الكتاب سرا فلما فهم ما فيه قرأه على المسلمين جهرا فتزاحم الناس يسمعون قراءة الكتاب فشاع الخبر في المدينة فهرعت الناس من كل مكان فقرأه أبو بكر ثاني مرة وتسامع الناس من أهل مكة والحجاز واليمن بما فتح الله على أيدي المسلمين وما ملكوا من أموال الروم فتسابقوا بالخروج إلى الشام ورغبوا في الثواب والاجر وأقبل إلى المدينة من أهل مكة وأكابرهم بالخيل والرماح وفي أوائلهم أبو سفيان والغيداق بن وائل وأقبلوا يستأذنون أبا بكر في الخروج إلى الشام فكره عمر بن الخطاب بن وائل وأقبلوا يستأذنون أبا بكر في الخروج إلى الشام فكره عمر بن الخطاب خروجهم إلى الشام وقال لأبي بكر لا تأذن للقوم فان في قلوبهم حقائد وضغائن والحمد لله الذي كانت كلمته هي العليا وكلمتهم هي السفلى وهم على كفرهم وأرادوا أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله
67

الا أن يتم نوره ونحن مع ذلك نقول ليس مع الله غالب فلما أن أعز الله ديننا ونصر شريعتنا اسلموا خوفا من السيف فلما سمعوا ان جند الله قد نصروا على الروم أتونا لنبعث بهم إلى الأعداء ليقاسموا السابقين الأولين والصواب أن لا نقربهم فقال أبو بكر لا أخالف لك قولا ولا أعصى لك أمرا قال وبلغ أهل مكة ما تكلم به عمر بن الخطاب فأقبلوا بجمعهم إلى أبي بكر الصديق في المسجد فوجدوا حوله جماعة من المسلمين وهم يتذاكرون ما فتح الله على المسلمين وعمر بن الخطاب عن يساره وعلي بن أبي طالب عن يمينه والناس حوله فأقبلت قريش إلى أبي بكر فسلموا عليه وجلسوا بين يديه وتشاوروا فيمن يكون أولهم كلاما فكان أول من تكلم أبو سفيان بن حرب فأقبل على عمر بن الخطاب وقال يا عمر كنت لنا مبغضا في الجاهلية فلما هدانا الله تعالى إلى الاسلام هدمنا ما كان لك في قلوبنا لان الايمان يهدم الشرك وأنت بعد اليوم تبغضنا فما هذه العداوة يا ابن الخطاب قديما وحديثا اما آن لك ان تغسل ما بقلبك من الحقد والتنافر وانا لنعلم أنك أفضل منا وأسبق في الايمان والجهاد ونحن عارفون بمرتبتكم غير منكرين قال فسكت عمر رضي الله عنه واستحى من هذا الكلام فقال أبو سفيان اني أشهدكم اني قد حبست نفسي في سبيل الله وكذلك تكلم سادات مكة فقال أبو بكر اللهم بلغهم أفضل ما يوملون وأجزهم بأحسن ما يعملون وأرزقهم النصر على عدوهم ولا تمكن عدوهم فيهم انك على كل شيء قدير
قال الواقدي فما تمت أيام قلائل حتى جاء جمع من اليمن وعليهم عمرو بن معد يكرب الزبيدي رضي الله عنه يريد الشام فما لبثوا حتى أقبل مالك بن الأشتر النخعي رضي الله عنه فنزل عند الإمام علي رضي الله عنه بأهله وكان مالك يحب سيدنا عليا وقد شهد معه الوقائع وخاض المعامع في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد عزم على الخروج مع الناس إلى الشام
كتاب أبو بكر إلى خالد
قال الواقدي واجتمع بالمدينة نحو تسعة آلاف فلما تم امرهم كتب أبو بكر كتابا إلى خالد بن الوليد يقول فيه بسم الله الرحمن الرحيم من أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خالد بن الوليد ومن معه من المسلمين أما بعد فاني احمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأوصيكم وآمركم بتقوى الله في السر والعلانية وقد فرحت بما أفاء الله على المسلمين
68

من النصر وهلاك الكافرين وأخبرك أن تنزل إلى دمشق إلى أن يأذن الله بفتحها على يدك فإذا تم لك ذلك فسر إلى حمص وأنطاكية والسلام عليك وعلى من معك من المسلمين ورحمة الله وبركاته وقد تقدم إليك ابطال اليمن وأبطال مكة ويكفيك بن معد يكرب الزبيدي ومالك بن الأشتر وانزل على المدينة العظمى أنطاكية فان بها الملك هرقل فان صالحك فصالحه وان حاربك فحاربه ولا تدخل الدروب وأقول هذا وان الاجل قد قرب ثم كتب * (كل نفس ذائقة الموت) * ثم ختم الكتاب وطواه ودفعه إلى عبد الرحمن وقال له أنت كنت الرسول من الشام وأنت ترد الجواب فأخذه عبد الرحمن وسار على مطيته يطوي المنازل والمناهل إلى أن وصل إلى دمشق
قال حدثني نافع بن عميرة قال لما بعث خالد بن الوليد الكتاب إلى أبي بكر الصديق ارتحل يريد دمشق وكان أهلها قد سمعوا بقتل بطريقهم وابطالهم وانهزام جيوشهم ومن أرسلهم الملك بأجنادين فخافوا وتحصنوا بدمشق واعدوا آلة الحصار ورفعوا السيوف والطوارق وعلوا على الاسوار ونشروا الاعلام والصلبان فلما أخذوا على أنفسهم اشرف عليهم الأمير خالد بن الوليد والجيش قد زاد عمرو بن العاص في تسعة آلاف ويزيد بن أبي سفيان في الفين وشرحبيل بن حسنة وعامر بن ربيعة في ألفين وأقبل السواد من ورائهم معاذ بن جبل في الفين فلما رأى أهل دمشق عسكر المسلمين مثل البحر الزاخر أيقنوا بالهلاك وأقبل خالد في جيش الزحف فنزل على الدير المعروف به وبينه وبين المدينة أقل من ميل فلما نزل هناك دعا بالأمراء فاحضرهم فقال لأبي عبيدة أنت تعلم ما ظهر لنا من غدر هؤلاء القوم عند انصرافنا عنهم وخروجهم في اثرنا فامض بمن معك من أصحابك وانزل بهم على باب الجابية ولا تسمح للقوم بالأمان فيأخذوك بمكرهم ولتكن متباعدا عن الباب وابعث إليهم فوجا بعد فوج واجعل قتال
الناس دولا ولا يضق صدرك من كثرة المقام ولا تبرح من مكانك واحذر من القوم الكافرين فقال أبو عبيدة حبا وكرامة ثم إنه خرج حتى نزل بباب الجابية ونصب له بيتا من الشعر بالبعد من الباب
حول دمشق
قال الواقدي حدثني مسلمة بن عوف عن سالم بن عبد الله عن حجاج الأنصاري قال قلت لجدي رفاعة بن عاصم وكان ممن قاتل بدمشق وكان في خيل أبي عبيدة فقلت يا جداه ما منع أبا عبيدة أن ينصب له قبة من بعض
69

قبب الروم مما اخذه من أجنادين ومن بصرى فقد كان عندهم ألوف من ذلك فقال يا بني منعهم من ذلك التواضع ولم يتنافسوا في زينة الدنيا وملكها حتى ينظر الروم انهم لا يقاتلون طلبا للملك وانما يقاتلون رجاء ثواب الله تعالى وطلب الآخرة ونصرة للدين ولقد كنا ننزل فننصب خيامنا وخيام الروم بالبعد قال فلما نزل أبو عبيدة على باب الجابية أمر أصحابه بالقتال ثم إن خالدا استدعى بيزيد بن أبي سفيان وقال له يا يزيد خذ صاحبك وانزل على الباب الصغير واحفظ قومك وان خرج إليك أحد لا يكون لك به طاقة فابعث إلي حتى انجدك إن شاء الله تعالى ثم استدعى بشرحبيل بن حسنة كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له انزل على باب توما ثم توجه بقومه واستدعى بعمرو بن العاص وأمره ان يسير إلى باب الفراديس ثم استدعي بعده بقيس بن هبيرة وقال له اذهب بقومك إلى باب الفرج ثم نزل خالد إلى الباب الشرقي ودعا بضرار بن الأزور رضي الله عنه وضم اليه ألفي فارس وقال له تطوف حول المدينة بعسكرك وان دهمك أمر أو لاحت لك عيون القوم فأرسل الينا قال ثم سار ضرار واتبعه قومه وبقي خالد على الباب الشرقي ثم قدم عبد الرحمن بن حميد من المدينة بكتاب أبي بكر الصديق رضي الله عنه وعدل إلى ناحية خالد بن الوليد على الباب الشرقي وقد تقدم للقتال طائفة من أصحابه مع رافع بن عميرة فلما رفع اليه الكتاب فرح بعد أن قرأه على المسلمين واستبشر بقدوم عمرو بن معد يكرب الزبيدي وأبي سفيان بن حرب قال وشاع الخبر عند جميع الناس وبعث خالد كتاب أبي بكر إلى كل باب فقرىء على الناس متأهين وبات الناس متأهبين للحرب يتحارسون إلى الصباح وضرار يطوف حولهم ولا يقف في مكان واحد مخافة ان يكبس بهم العدو قال الواقدي ولقد بلغني ان أهل دمشق اجتمعوا إلى كبارهم من البلد وتشاوروا فيما بينهم فقال بعضهم ما لنا الا الصلح ونعطي العرب جميع ما طلبوه منا وقال آخرون ما نحن بأكثر من جموع أجنادين فقال لهم بطريق من الروم اطلبوا لنا صهر الملك توما نتشاور في هذا الامر لنسمع ما يقول ونطلب منه ان يكشف عنا ما نحن فيه فاما ان يصالحهم واما ان يحامي عنا قال فمضى القوم إلى توما وعليه رجال موكلون بالسلاح فقالوا لهم ما الذي تريدون فقالوا نريد صهر الملك توما نشاوره في هذا الامر قال فأذنوا لهم فدخلوا عليه وقبلوا الأرض بين يديه فقال لهم ما الذي تريدون فقالوا أيها السيد انظر ما نزل ببلادنا وقد جاءنا ما لا طاقة لنا به فاما ان نصالح العرب على ما طلبوا واما ان نرسل إلى الملك فينجدنا أو يمانع عنا فقد أشرفنا على
70

الهلاك فلما سمع ذلك منهم تبسم ضاحكا وقال يا ويلكم أطمعتم العرب فيكم وحق راس الملك ما أرى القوم أهلا للقتال ولا هم خاطرون لي على بال فلو فتح لهم الباب ما جسروا ان يدخلوا فقالوا أيها السيد ان أكبرهم وأصغرهم يقاتل العشرة والمائة وصاحبهم داهية لا تطاق فإن كان ولا بد فأخرج بنا لقتالهم فقال لهم توما انكم أكثر منهم ومدينتنا حصينة ولكم مثل هذا العدد والسلاح وأما القوم فهم حفاة عراة فقالوا له أيها السيد ان معهم من عددنا واسلحتنا كثيرا مما أخذوه من واقعة فلسطين ومما أخذوه من بصرى ومن يوم لقائهم بكلوس وعزازير ومما أخذوه من أجنادين وأيضا ان نبيهم قال لهم ان من قتل منا صار إلى الجنة فلأجل ذلك يبقون عراة الأجساد ليصلوا إلى ما قال لهم نبيهم قال فضحك من قولهم وقال لهم لأجل ذلك أطمعتم العرب فينا ولو صدقتم في الحرب والصدام لقتلتموهم لأنكم اضعافهم مرارا
فقالوا أيها السيد اكفنا مؤونتهم كيف شئت واعلم انك ان لم تمنعهم عنا فتحنا لهم الأبواب وصالحناهم فلما سمع توما كلامهم فكر طويلا وخشي أن تفعل القوم ذلك فقال انا أصرف عنكم هؤلاء العرب واقتل أميرهم وأريد منكم ان تقاتلوا معي قالوا نحن معك وبين يديك نقاتل حتى نهلك عن أخرنا فقال لهم باكروا القوم بالقتال فانصرفوا عنه وهم له شاكرون ولامره منتظرون وباتوا بقية ليلتهم على الحصن وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواضعهم ولهم ضجة بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير وخالد بن الوليد عند الدير ومعه النساء والعيال والأموال والغنائم التي غنموها من أعدائهم ورافع بن عميرة على الباب الشرقي في عسكر الزحف وغيرهم ولم يزل الناس في الحرس إلى أن برق الصباح وصلى كل أمير بمن معه من قومه وصلى أبو عبيدة بمن معه ثم أمر أصحابه بالزحف وقال لهم لا تخلوا عن القتال واركبوا الخيل
حدثني رفاعة بن قيس قال سألت والدي قيسا وكان ممن حضر فتوح دمشق الشام فقلت له أكنتم تقاتلون في دمشق خيالة أو رجالة يوم حصار المسلمين فقال ما كان أحد منا فارسا الا زهاء الفي فارس مع ضرار بن الأزور وهو يطوف بهم حول العسكر وحول المدينة وكلما أتى بابا من الأبواب وقف عنده وحرض أهله على القتال وهو يقول صبرا صبرا لأعداء الله قال وأقبل توما صهر الملك هرقل من بابه الذي يدعى باسمه وكان عندهم عابدا راهبا ولم يكن في بلاد الشرك أعبد منه ولا أزهد في دينهم
71

وكان معظما عند الروم فخرج ذلك اليوم من قصره والصليب الأعظم على رأسه وعلا به فوق البرج وأوقف البطارقة حوله والإنجيل تحمله ذوو المعرفة قال ونصبوه بالقرب من الصليب ورفع القوم أصواتهم وتقدم توما ووضع يده على أسطر من الإنجيل وقال اللهم ان كنا على الحق فانصرنا ولا تسلمنا لأعدائنا واخذل الظالم منا فإنك به عليم اللهم اننا نتقرب إليك بالصليب ومن صلب على دينه وأظهر الآيات الربانية والافعال اللاهوتية انصرنا على هؤلاء الظالمين قال وأمن الناس على دعائه قال رفاعة بن قيس هكذا حدثني شرحبيل بن حسنة كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي فسر لنا هذا الكلام روماس صاحب بصرى وكان في جيش شرحبيل بن حسنة يقاتل على باب توما وكلما قال الروم شيئا بلغتهم فسره لنا قال ونهض شرحبيل وقصد الباب بحملته وقد عظم عليه قول توما اللعين وقال له يا لعين لقد كذبت ان مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب أحياه متى شاء ورفعه متى شاء ثم إن روماس ناوشه بالقتال فقاتل توما قتالا شديدا وهشم الناس بالحجارة ورمى النشاب رميا متداركا فجرح رجالا وكان ممن جرح أبان بن سعيد بن العاص أصابته نشابة وكانت مسمومة فأحس بلهيب السم في بدنه فتأخر وحمله اخوانه إلى أن اتوا به إلى العسكر فأرادوا
حل العمامة فقال لا تحلوها فان حللتم جرحي تبعتها روحي أما والله لقد رزقني الله ما كنت أتمناه قال فلم يسمعوا قوله وحلوا عمامته فلما حلوها شخص إلى السماء وصار يشير بإصبعيه أشهد أن لا إله إلا الله وان محمدا رسول الله هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون فما استتمها حتى توفي إلى رحمة الله تعالى
بطولة المرأة
وكانت زوجته بنت عمه وكان قد تزوجها باجنادين وكانت قريبة العهد من العرس ولم يكن الخصاب ذهب من يدها ولا العطر من رأسها وكانت من المترجلات البازلات من أهل بيت الشجاعة واليراعة فلما سمعت بموت بعلها أتته تتعثر في أذيالها إلى أن وقعت عليه فلما نظرته صبرت واحتسبت ولم يسمع منها غير قولها هنئت بما أعطيت ومضيت إلى جوار ربك الذي جمع بيننا ثم فرق ولاجهدن حتى الحق بك فاني لمتشوقة إليك حرام علي أن يمسني بعدك أحد واني قد حبست نفسي في سبيل الله عسى ان الحق بك وأرجو أن يكون ذلك عاجلا ثم حفر له ودفن مكانه فقبره معروف وصلى عليه خالد بن الوليد فلما غيب في التراب لم تقف على قبره دون أن أتت إلى سلاحه ولحقت الجيش من غير أن تعلم خالدا بذلك
72

وقالت على أي باب قتل بعلي فقيل لها على باب توما والذي قتله هو صهر الملك قال فسارت إلى أصحاب شرحبيل بن حسنة فاختلطت بهم وقاتلت مع الناس قتالا لم ير مثله وكانت أرمى الناس بالنبل وكان قد جعل لها قوس وكنانة قال شرحبيل بن حسنة رايت يوم حصار دمشق رجلا على باب توما يحمل الصليب وهو امام توما وهو يشير اليه اللهم انصر هذا الصليب ومن لاذ به اللهم اظهر له نضرته وأعل درجته قال شرحبيل بن حسنة وانا دائما أنظر اليه إذ رمته زوجة ابان بنبلة فلم تخطىء رميتها وإذا بالصليب قد سقط من يده وهوى الينا وكأني أنظر لمعان الجوهر من جوانبه فما فينا الا من بادر اليه ليأخذه وقد استتر بالدرق وتزاحم بعضنا على بعض كل منا يسبق اليه ليأخذه ونظر عدو الله توما إلى ذلك من تنكس الصليب الأعظم واهوائه إلى المسلمين فعند ذلك كفر وعظم عليه الامر وقال يبلغ الملك ان الصليب الأعظم أخذ مني وملكته العرب لا كان ذلك أبدا ثم إنه حرم وسطه وأخذ سيفه وقال من شاء منكم فليتبعني ومن شاء فليقعد فلابد لي من القوم عسى ان أشفي صدري ثم انحدر مسرعا وأمر بفتح الباب وكان هو أول مبادر فلما نظرت الروم إلى ذلك لم يكن فيهم الا من انحدر في أثره لما يعلمون من شجاعته وخرجوا كالجراد المنتشر هذا والمسلمون محيطون بالصليب فلما خرج الروم ووقع صياحهم حذر الناس بعضهم بعضا فلما نظر المسلمون إلى الروم سلموا الصليب إلى شرحبيل بن حسنة وانفردا لأعدائهم وحملوا في أعراضهم وأخذهم النشاب والحجارة ومن كل مكان من أعلى الباب فصاح شرحبيل بن حسنة معاشر المسلمين تقهقروا إلى ورائكم لتأمنوا النشاب من أعداء الله العالين على الباب قال فتقهقر الناس إلى ورائهم إلى أن أمنوا من ضرب النشاب فاتبعهم عدو الله توما وهو يضرب يمينا وشمالا وحوله أبطال المشركين من قومه وهو يهدر كالجمل فلما نظر شرحبيل بن حسنة ذلك صرخ بقومه وقال معاشر الناس كونوا آيسين من آجالكم طالبين جنة ربكم وأرضوا خالقكم بفعلكم فإنه لا يرضى منكم بالفرار ولا أن تولوا الادبار فاحملوا عليهم واقربوا إليهم بارك الله فيكم قال فحمل الناس حملة منكرة واختلط الناس بعضهم ببعض وعملت بينهم السيوف وتراموا بالنبل وتسامع أهل دمشق ان توما خرج إلى العرب من بابه وان صليبه الأعظم سقط إليهم من كف حامله فجعلوا يهرعون إلى أن تزايد أمرهم وجعل عدو الله ينظر يمينا وشمالا وينظر الصليب فحانت منه التفاتة فنظر فرآه مع شرحبيل بن حسنة فلما نظر اليه لم يكن له صبر دون أن حمل وصاح
73

هات الصليب لا أم لك فقد لحقتك بواثقة
قال ونظر شرحبيل بن حسنة إلى عدو الله وهو مقبل فرمى الصليب من يده وصادمه فلما رأى عدو الله الصليب مرميا على الأرض صرخ بأصحابه صرخة هائلة ونظرت زوجة أبان ابن سعيد إلى حملة عدو الله على شرحبيل فقالت من هذا قيل هو صهر الملك وهو قاتل بعلك أبان بن سعيد فلما سمعت ذلك منهم حملت حملة منكرة إلى أن قاربته ورمته بنبلة وكان الروم أرهبوها فلم تلتفت إليهم دون أن حققت نبلتها على صاحبها وقالت بسم الله وبركة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أطلقتها وكان عدو الله واصلا إلى شرحبيل إذ جاءته النبلة فأصابت عينه اليمنى فسكنت النبلة فيها فتقهقر إلى ورائه صارخا وهمت بأن ترميه بأخرى فتبادرت إليها الرجال واستتروا بالطوارق وتبادر إليها قوم من المسلمين يحامون عنها فلما أمنت من شر الأعداء أخذت ترمي بالنبل ثم إنها رمت علجا من الروم فأصابت صدره فسقط هاويا إلى الأرض وكان عدو الله أول من تقهقر ذلك اليوم هاربا من شدة حرارة النبلة وصرخ صرخة عظيمة إلى أن دخل الباب ونظر شرحبيل إلى ذلك فصرخ بأصحابه يا ويلكم دونكم وكلب الروم احملوا على الكلاب عسى أن تدركوا عدو الله قال فحمل الناس على الروم إلى أن أوصلوهم إلى الباب فحماهم قومهم من أعلى الباب بالحجارة والنشاب قال فتراجع الناس إلى مواضعهم وقد قتلوا من الروم مقتلة عظيمة وأخذوا أسلابهم وأموالهم وصليبهم ودخل عدو الله توما إلى المدينة وأغلقوا الأبواب وجاء الحكماء يعالجون في قلع النبلة من عينه فلم تطلع فجذبوها فلم تنجذب وهو يضج بالصراخ فلما طال على القوم ذلك ولم يجدوا حيلة في اخراجها نشروها وبقي النصل في عينه ولم تزل في مكانها وسألوه المسير إلى منزله فأبى وجلس داخل الباب إلى أن سكن ما به وخف عنه الألم فقالوا له عد إلى منزلك بقية ليلتك فقد نكبنا في يومنا هذا نكبتين نكبة الصليب ونكبة عنيك كل هذا مما وصل الينا من النبال وقد علمنا أن القوم لا يصطلي لهم بنار وقد سألناك أن نصالح القوم على ما طلبوه منا قال فغضب توما من قولهم وقال يا ويلكم يؤخذ الصليب الأعظم وأصاب بعيني وأغفل عن هذا ويبلغ الملك عني ذلك فينسبني للوهن والعجز ولا بد من طلبهم على كل حال وآخذ صليبي وآخذ في عيني الف عين منهم وسأوقع حيلة أصل بها إلى كبيرهم وآخذ جميع ما غنموه وبعد ذلك أسير إلى صاحبهم الذي هو في الحجاز وأقطع آثاره وأخرب دياره وأهدم مساكنه وأجعل بلده مسكنا للوحوش ثم إن الملعون سار إلى أعلى السور وهو معصوب العين وصار
74

يحرض الناس لكي يزيل عن قلوبهم الرعب وأقبل يقول لهم لا تفزعوا ولا تجزعوا مما ظهر لكم من العرب ولا بد للصليب أن يرميهم وأنا الضامن لكم قال فثبت القوم من قومه وحاربوا حربا شديدا وبعث شرحبيل بن حسنة إلى خالد بن الوليد يخبره بما صنع مع القوم فقال الرسول ان عدو الله توما قد ظهر لنا منه ما لم يكن في الحساب
ونطلب منك رجالا لان الحرب عندنا أكثر من كل باب فلما سمع خالد ذلك الخبر حمدالله وقال كيف أخذتم الصليب من الروم فقال الرسول كان يحمل صليب الروم رجل وهو أمام توما صهر الملك فرمته زوجة أبان بنبلة فوقع الصليب الينا وخرج عدو الله فرمته زوجة أبان بنبلة فاشتبكت في عين توما اليمنى
فقال خالد ان توما عند الملك معظم وهو الذي يمنعهم عن الصلح ونرجو من الله أن يكفينا شره ثم قال للرسول عد إلى شرحبيل وقل له كن حافظا ما أمرتك به فكل فرقة مشغولة عنك ولم تؤت من قبلهم وأنا بالقرب منك وهذا ضرار بن الأزور يطوف حول المدينة وكل وقت عندك قال فرجع الرسول فأخبره بذلك فصبر وقاتل بقية يومه ووصل الخبر إلى أبي عبيدة بما نزل بشرحبيل بن حسنة من توما وبما غنم من صليبه فسر بذلك قال ولما أصبح الصباح بعث توما إلى أكابر دمشق وأبطالهم فلما حضروا بين يديه قال لهم يا أهل دين النصراينة انه قد طاف عليكم قوم لا أمان لهم ولا عهد لهم وقد أتوا يسكنون بلادكم فكيف صبركم على ذلك وعلى هتك الحريم وسبي الأولاد وتكون نساؤكم جواري لهم وأولادكم عبيدا لهم وما وقع الصليب الا غضبا عليكم مما اضمرتم لهذا الدين من مصالحة المسلمين واذلالكم للصليب وأنا قد خرجت ولولا أني أصبت بعيني لما عدت حتى أفرغ منهم ولا بد من أخذ ثأري وان اقلع الف عين من العرب ثم لابد أن أصل إلى الصليب وأطالبهم به عن قريب فلما سمعوا كلامه قالوا له ها نحن بين يديك وقد رضينا بما رضيت لنفسك فان امرتنا بالخروج خرجنا معك وان أمرتنا بالقتال قاتلنا فقال توما اعلموا أن من خاض الحروب لم يخف من شيء واني قد عزمت على أن أهجم هذه الليلة واكبسهم في أماكنهم فان الليل مهيب وأنتم اخبر بالبلد من غيركم فلم يبق الليلة فيكم أحد حتى يتأهب للحرب ويخرج من الباب وأرجو أن لا أعود حتى تنقضي الاشغال فإذا فرغت من القوم أخذت أميرهم أسيرا وأحمله إلى الملك يأمر فيه بأمره فقالوا حبا وكرامة فعند ذلك فرق القوم على الباب الشرقي فرقة وعلى باب الجابية فرقة وعلى كل باب جماعة وقال لهم لا تجزعوا فان أمير القوم متباعد عنكم وليس هناك الا الأراذل والموالي فاطحنوهم طحن الحصيد قال
75

ودعا بفرقة أخرى إلى باب الفراديس إلى عمرو بن العاص وخرج توما من بابه واخذ معه أبطال القوم ولم يترك بطلا يعرف بالشجاعة الا أخذه معه ورتب على الباب ناقوسا وقال لهم إذا سمعتم الناقوس فهي العلامة التي بيننا فافتحوا الأبواب واخرجوا مسرعين إلى أعدائكم ولا تجدوا رجالا نياما الا وتطعون السيف فيهم فان فعلتم ذلك فرقتم جمعهم في هذه الليلة وانكسروا كسرة لا يجبرون بعدها أبدا قال ففرح القوم بذلك وخرجوا إلى حيث أمرهم وقعدت كل فرقة على بابها وأقاموا ينتظرون صوت الناقوس ليبادروا إلى المسلمين قال ودعا توما برجل من الروم قال له خذ ناقوسا واعل به على الباب فإذا رأيتنا قد فتحنا الباب فاضرب الناقوس ضربة خفيفة يسمعها قومنا وقد سار توما بقطعة من جيشه عليهم الدروع وبأيديهم السيوف وتوما في أوائلهم وبيده صفيحة هندية والقى على رأسه بيضة كسروية كان هرقل قد أهداها له وكانت لا تعمل فيها السيوف القواطع حتى وصل إلى الباب ثم وقف حتى تكامل القوم فلما نظر إليهم قال يا قوم فتحنا لكم الباب فأسرعوا إلى عدوكم وجدوا في سعيكم إلى أن تصلوا إلى القوم فإذا وصلتم إليهم فاحملوا ومكنوا السيوف فيهم ومن صاح منهم بالأمان فلا تبقوا عليه الا أن يكون أمير القوم ومن أبصر منكم الصليب فليأخذه فقالوا حبا وكرامة
القتال من فوق الاسوار
ثم أمر رجلا من أصحابه أن يسير إلى الذي بيده الناقوس ويأمره أن يضربه ضربة خفيفة ثم فتح الباب وتبادر الرجال إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم في غفلة مما دبر القوم لهم الا أنهم في يقظة فلما سمعوا الصوت أيقظ بعضهم بعضا وتواثبت الرجال من أماكنهم كالأسود الضارية فلم يصل إليهم العدو الا وهم على حذر وحملوا عليهم وهم في غير ترتيب فتقاتل القوم في جنح الظلام وعمل السيف وسمع خالد بن الوليد فقام ذاهل العقل مما سمع من الزعقات فصاح وا غوثاه واسلاماه كيد قومي ورب الكعبة اللهم انظر لهم بعينك التي لا تنام وانصرهم يا أرحم الراحمين وسار خالد ومن معه وهم أربعمائة فارس من أصحابه وهو بغير درع قد لبس ثوب كتان من عمل الشام مكشوف الرأس ثم جد في السير والأربعمائة فارس معه كأنهم الليوث العوابس إلى أن وصلوا إلى الباب الشرقي وإذا بالفرقة التي هناك قد هاجمت أصحاب رافع بن عميرة الطائي قال وأصوات المسلمين عالية بالتهليل والتكبير والقوم من أعلى الاسوار قد أشرفوا وتصايحوا عندما استيقظ لهم المسلمون فحمل خالد بن الوليد على الروم ونادى برفع صوته أبشروا يا معشر المسلمين أتاكم
76

الغوث من رب العالمين أنا الفارس الصنديد أنا خالد بن الوليد وحمل في أوساط الناس بمن معه فجندل أبطالا وقتل رجالا وهو مع ذلك مشتغل القلب على أبي عبيدة والمسلمين الذين على الأبواب وهو يسمع أصواتهم وزعقاتهم قال وتصايح الروم والنصارى واليهود
قال سنان بن عوف قلت لابن عمي قيس هل كانت اليهود تقاتلكم قال نعم يقاتلوننا من أعلى الاسوار ويرمون بالسهام وخشي خالد على شرحبيل ابن حسنة مما وصل اليه من عدو الله توما لأنه ملازما الباب وقال لقي شرحبيل بن حسنة من عدو الله توما أمرا عظيما لم يلق أحد مثله وذلك أنه هجم عليه توما في تلك اليلة وكان أول من وصل إلى المسلمين عدو الله توما قال فصبروا له صبر الكرام وقاتل عدو الله قتالا شديدا وهو ينادي أين أميركم الذميم الذي أصابني انا ركن الملك الرحيم أنا ناصر الصليب قال فلما سمع شرحبيل صوته قصد جهته وقد جرح رجالا من المسلمين وقال ها أنا صاحبك وغريمك أنا مبيد جمعكم وآخذ صليبكم انا كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم فعطف عليه توما عطفة الأسد ورأى من شرحبيل بن حسنة أمرا هائلا ولم يزالوا كذلك إلى أن زال من الليل شطره وكل قرن مع قرنه وكانت زوجة ابان مع شرحبيل وكانت في تلك الليلة أحسن الناس صبرا ورمت بنبالها وكانت لا تقع نبلة من نبالها الا في رجل من المشركين إلى أن قتلت من الروم مقتلة عظيمة بالنبال والروم يتحايدون عنها إلى أن لاح رجل من الروم فرمته بنبلة فبقيت معلقة في نحره قال فصرخ بالروم فهاجموها وأخذوها أسيرة ومات عدو الله الذي رمته قال ولقي شرحبيل من الروم مالا يلقاه أحد وانه ضرب توما ضربة هائلة فتلقاها الملعون بدرقته فانكسر سيف شرحبيل فطمع عدو الله فيه وحمل عليه وظن أنه يأخذه أسيرا وإذا بفارسين قد أشرفا من ورائهما مع كبكبة من الفرسان فهجموا على الروم ونظروا وإذا بزوجة ابان قد خلصت وهجمت على الروم وهتفت فلحقها فارسان فبرز لهما عبد الرحمن بن
أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأبان بن عثمان بن عفان رضي الله عنه فقتلا الرجلين ورجع عدو الله توما هاربا إلى المدينة
قال حدثني تميم بن عدي وكان ممن شهد الفتوحات قال كنت في خيمة أبي عبيدة وذلك أن أبا عبيدة كان يصلي فيها إذ سمع الصياح فقال لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم ثم لبس سلاحه ورتب قومه ودنا من القوم فنظر إليهم وهم في المعمعة والحرب وعدل عنهم ميسرة وميمنة إلى أن جاوزهم وعطف نحو الباب وكبر وكبر المسلمون فلما سمع المشركون تكبيرهم
77

ظنوا أن المسلمين قد دهموهم من ورائهم في جمع كثير فولوا راجعين فتلقاهم أبو عبيدة وقومه واخذوا عليهم المجاز وبذل أبو عبيدة السيف فيهم
قال الواقدي ولقد بلغني أنه ما سلم من الروم تلك الليلة أحد من الذين هم غرماء أبي عبيدة ولقد قتلوا عن آخرهم فبينما هم في القتال إذ أشرف عليهم ضرار بن الأزور وهو ملطخ بالدماء فقال له خالد ما وراءك يا ضرار فقال أبشر أيها الأمير ما جئتك حتى قتلت في ليلتي هذه مائة وخمسين رجلا وقتل قومي ما لا يعد ولا يحصى وقد كفيتكم مؤنة من خرج من الباب الصغير إلى يزيد بن أبي سفيان ثم عطفت إلى سائر الأبواب فقتلت خلقا كثيرا قال فسر بذلك خالد بن الوليد ثم ساروا جميعا حتى أتوا شرحبيل بن حسنة وشكروا فعله وكانت ليلة مقمرة ولم يلق مثلها الناس فقتلوا في تلك الليلة ألوفا من الروم قال فاجتمع كبار أهل دمشق إلى توما وقالوا له أيها السيد انا قد نصحناك فلم تسمع لقولنا وقد قتل منا أكثر الناس وهذا أمير لا يطاق يعني خالد بن الوليد فصالح فهو أصلح لك ولنا وان لم تصالح صالحنا وأنت وشأنك فقال يا قوم أمهلوني حتى أكتب إلى الملك واعلمه بما نزل بنا فكتب من وقته وساعته كتابا يقول فيه إلى الملك الرحيم من صهرك توما أما بعد فان العرب محدقون بنا كاحداق البياض بسواد العين وقد قتلوا أهل أجنادين ورجعوا الينا وقد قتلوا منا مقتلة عظيمة وقد خرجت إليهم وأصيبت عيني وقد عزمت على الصلح ودفع الجزية للعرب فاما أن تسير بنفسك واما ان ترسل لنا عسكرا تنجدنا بهم واما أن تأمرنا بالصلح مع القوم فقد تزايد الامر علينا ثم طوى الكتاب وختمه وبعث به قبل الصباح
فلما أصبح الصباح باكرهم المسلمون بالقتال وبعث خالد لكل أمير أن يزحف من مكانه فركب أبو عبيدة ووقع القتال واشتد الامر على أهل دمشق فبعثوا لخالد أن أمهلنا فأبى الا القتال ولم يزل كذلك إلى أن ضاق بهم الحصار وهم ينتظرون أمر الملك واجتمع أهل البلد وقالوا لبعضهم ما لنا صبر على ما نحن فيه من الامر وان هؤلاء ان قاتلناهم نصروا علينا وان تركناهم أضر بنا الحصار فاطلبوا من القوم صلحا على ما طلبوه منكم فقال لهم شيخ كبير من الروم وقد قرأ الكتب السالفة يا قوم والله اني أعلم أنه لو اتى الملك في جيشه جميعا لما منعوا عنكم هؤلاء لما قرأت في الكتاب ان صاحبهم محمدا خاتم المرسلين سيظهر دينه على كل دين فأطيعوا القوم وأعطوهم ما طلبوا منكم فهو وافق لكم فلما سمع القوم مقالات الشيخ ركنوا اليه لما يعلمون من علمه
78

ومعرفته بالاخبار والملاحم فقالوا كيف الرأي عندك فنحن نعلم أن هذا الأمير الذي على باب شرقي رجل سفاك للدماء فقال لهم ان أردتم تقارب الامر فامضوا إلى الذي على باب الجابية وليتكلم رجل يعرف بالعربية ويقول بصوت رفيع يا معاشر العرب الأمان حتى ننزل إليكم ونتكلم مع صاحبكم قال أبو هريرة رضي الله عنه وكان أبو عبيدة قد انفذ رجالا من المسلمين مكثرا بالقرب من الباب مخافة الكبسة مثل الليلة التي خلت وكانت النوبة تلك الليلة لبني دوس والأمير عليها عامر بن الطفيل الدوسي قال فبينما نحن جلوس في مواضعنا من الباب إذ سمعنا أصوات القوم وهم ينادون قال أبو هريرة فلما سمعت بادرت إلى أبي عبيدة قال وبشرته بذلك فاستبشر وقال أمض وكلم القوم وقل لهم لكم الأمان قال فأتيت القوم وبشرتهم بالأمان فقالوا من أنت
فقلت أنا أبو هريرة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو أن عبيدا أعطوكم الأمان والذمام ونحن في الجاهلية لما غدرنا فكيف وقد هدانا الله إلى دين الاسلام قال فنزل القوم وفتحوا الباب وإذ هم مائة رجل من كبرائهم وعلمائهم فلما قربوا من عسكر أبي عبيدة تبادر إليهم وأزلوا عنهم الصلبان إلى أن وصلوا خيمة أبي عبيدة فرحب بهم وأجلسهم وقال إن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم
قال إذا أتاكم عزيز قوم فأكرموه وتكلموا في أمر الصلح وقالوا انا نريد منكم ان تتركوا كنائسنا ولا تنقضوا علينا منها كنيسة وهي الجامع الآن بدمشق فقال لهم أبو عبيدة جميع الكنائس لا يؤمر بهدمها قال وكان في دمشق كنائس واحدة تسمى كنيسة مريم وكنيسة حنا وكنيسة سوق الليل وكنيسة انذار وهي عند دار عبد الرحمن ذرة فكتب لهم أبو عبيدة كتاب الصلح والأمان ولم يسم فيه اسمه ولا أثبت شهودا وذلك لأنه لم يكن أمير المؤمنين فلما كتب لهم الكتاب تسلموه منه وقالوا له قم معنا إلى البلد قال فقام أبو عبيدة وركب معه أبو هريرة ومعاذ بن جبل ونعيم بن عمرو وعبد الله بن عمرو الدوسي وذو الكلاع الحميري وحسان بن النعمان وجرير بن نوفل الحميري وسيف بن سلمة ومعمر بن خليفة وربيعة بن مالك والمغيرة بن شعبة وأبو لبابة بن المنذر وعوف بن ساعدة وعامر بن قيس وعبادة بن عتيبة وبشر بن عامر وعبد الله بن قرط الأسدي وجملتهم خمسة وثلاثون صحابيا من أعيان الصحابة رضي الله عنهم وخمسة وستون من أخلاط الناس فلما ركبوا وتقدموا نحو الباب قال أبو عبيدة أريد منكم رهائن حتى ندخل معكم فأتوه برهائن وقيل إن أبا عبيدة رأى في منامه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له تفتح المدينة ان شاء
79

الله تعالى في هذه الليلة فقلت يا رسول الله أراك على عجل قال لاحضر جنازة أبي بكر الصديق قال فاستيقظت من المنام
قال الواقدي وقد بلغني ان أبا عبيدة لما دخل دمشق بأصحابه سارت القسس والرهبان بين يديه على مسرح الشعر وقد رفعوا الإنجيل والمباخر بالند والعود ودخل أبو عبيدة من باب الجابية ولم يعلم خالد بن الوليد لأنه شد عليهم بالقتال قال وكان هناك قسيس من قسس الروم اسمه يونس بن مرقص وكانت داره ملاصقة للسور مما يلي باب شرقي الذي عنده خالد وكان عنده ملاحم دانيال عليه السلام وكان فيها ان الله تعالى يفتح البلاد على يد الصحابة ويعلو دينهم على كل دين فلما كانت تلك الليلة نقب يونس من داره وحفر موضعا وخرج على حين غفلة من أهله وأولاده وقصد خالدا وحدثه أنه خرج من داره وحفر موضعا والآن أريد أمانا لي ولأهلي ولاولادي قال فأخذ خالد عهده على ذلك وانفذ معه مائة رجل من المسلمين أكثرهم من حمير وقال لهم إذا وصلتم المدينة فارفعوا أصواتكم بأجمعكم واقصدوا الباب واكسروا الاقفال وأزيلوا
السلاسل حتى تدخلوا إن شاء الله تعالى قال ففعل القوم ما أمرهم به خالد رضي الله عنه وساروا ومضى أمامهم يونس بن مرقص حتى دخل بهم من حيث خرج فلما حطوا في داره تدرعوا واحترسوا ثم خرجوا وقصدوا الباب واعلنوا بالتكبير قال فلما سمع المشركون التكبير ذهلوا وعلموا ان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حطوا معهم في المدينة وأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قصدوا الباب وكسروا الاقفال وقطعوا السلاسل ودخل خالد بن الوليد ومن معه من المسلمين ووضعوا السيف في الروم وهم مختلفون بين يديه إلى أن وصل إلى كنيسة مريم وخالد بن الوليد يأسر ويقتل
قال الواقدي والتقي الجمعان عند الكنيسة جيش خالد وجيش أبي عبيدة وأصحابه سائرون والرهبان سائرون بين أيديهم وما أحد من أصحاب أبي عبيدة جرد سيفه فلما نظر خالد إليهم ورأى أن لا أحد منهم جرد سيفه بهت وجعل ينظر إليهم متعجبا قال فنظر اليه أبو عبيدة وعرف في وجهه الانكار فقال أبا سليمان قد فتح الله على يدي المدينة صلحا وكفى الله المؤمنين القتال
قال الواقدي ما خاطب أبو عبيدة خالدا يوم الفتح بدمشق الا بالامارة فقال أيها الأمير قد تم الصلح فقال خالد وما الصلح لا أصلح الله بالهم وأنى لهم الصلح وقد فتحتها بالسيف وقد خضبت سيوف المسليمن من دمائهم وأخذت الأولاد عبيدا وقد نهبت الأموال فقال أبو عبيدة أيها
80

الأمير اعلم اني ما دخلتها الا بالصلح فقال له خالد بن الوليد انك لم تزل مغفلا وأنا ما دخلتها الا بالسيف عنوة وما بقي لهم حماية فكيف صالحتهم قال أبو عبيدة اتق الله أيها الأمير والله لقد صالحت القوم ونفذ السهم بما هو فيه وكتب لهم الكتاب وهو مع القوم فقال خالد وكيف صالحتهم من غير أمري وأنا صاحب رأيتك والأمير عليك ولا أرفع السيف عنهم حتى افنيهم عن آخرهم فقال أبو عبيدة والله ما ظننت أن تخالفني إذا عقدت عقدا ورأيت رأيا فالله الله في أمري فوالله لقد حقنت دماء القوم عن آخرهم واعطيتهم الأمان من الله جل جلاله وأمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رضي من معي من المسلمين والغدر ليس من شيمنا قال وارتفع الصياح بينهما وقد شخص الناس اليهما وخالد مع ذلك لا يرجع عن مراده ونظر أبو عبيدة إلى ذلك فرأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع خالد وهم جيش البوادي من العرب مشتبكون على قتال الروم ونهب أموالهم قال فنادى أبو عبيدة واثكلاه خفرت الله ونقض عهدي وجعل يحرك جواده ويشير إلى العرب مرة يمينا ومرة شمالا وينادي معاشر المسلمين أقسمت عليكم برسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تمدوا أيديكم نحو الطريق الذي جئت منه حتى نرى ما نتفق أنا وخالد عليه فلما دعاهم بذلك سكتوا عن القتل والنهب واجتمع اليهما فرسان المسلمين والامراء وأصحاب الرايات مثل معاذ بن جبل رضي الله عنه ويزيد بن أبي سفيان رضي الله عنه وعمرو ابن العاص رضي الله عنه وشرحبيل بن حسنة رضي الله عنه وربيعة بن عامر رضي الله عنه وعبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أجمعين ونظرائهم والتقوا عند الكنائس واجتمع هناك فرسان للمشورة والمناظرة فقالت طائفة من المسلمين منهم معاذ بن جبل ويزيد بن أبي سفيان الرأي أن تمضي إلى ما أمضاه أبو عبيدة بن الجراح وتكفوا عن القتال للقوم فان مدن الشام لم تفتح ابدا وهرقل في أنطاكية كما تعلمون وان علم أهل المدن صالحتهم وغدرتم لم تفتح لكم مدينة صلحا ولان تجعلوا هؤلاء الروم في صلحكم خير من قتلهم ثم قالوا لخالد أمسك عليك ما فتحت بالسيف ويعينك أبو عبيدة بجانبه واكتبا إلى الخليفة وتحاكما اليه فكل ما أمر به فعلناه فقال لهم خالد بن الوليد قد أجبت إلى ذلك وقبلت مشورتكم فأما أهل دمشق فقد امنتهم الا هذين اللعينين توما وهربيس وكان هربيس هو المؤمر على نصف البلدة ولاه توما حين رجع الامر اليه فقال أبو عبيدة ان هذين أول من دخل في صلحي فلا تخفر ذمتي رحمك الله تعالى فقال خالد والله لولا ذمامك لقتلتهما جميعا ولكن يخرجان من الأمير أبا سليمان قوله قول وعهده عهد ولا يقول الا الصدق قال فانطلق توما
81

إلى المدينة فلعنهما الله حيث سارا
قال أبو عبيدة وعلى هذا صالحتهما قال ونظر توما وهربيس إلى خالد وهو يتنازع مع أبي عبيدة فخافا الهلاك فأقبلا على أبي عبيدة ومعهما من يترجم عنهما وقالا له ما يقول هذا يعني خالدا قال الترجمان لأبي عبيدة ما نقول أنت وصاحبك فيه من المشاورة ان صاحبك هذا يريد غدرنا فنحن وأهل المدينة دخلنا في عهدكم ونقض العهد ما هو من شيمكم واني أسألكم ان تدعوني أن أخرج أنا وأصحابي واسلك أي طريق أردت فقال أنت في ذمتنا فاسلك أي طريق شئت فإذا صرت في أرض تملكونها فقد خرجت من ذمتنا أنت ومن معك فقال توما وهربيس نحن في ذمتكم وجواركم ثلاثة أيام أي طريق سلكنا فإذ كان بعد ثلاثة أيام فلا ذمة لنا عندكم فمن لقينا منكم بعد ثلاثة أيام وظفر بنا فنحن لهم عبيد ان شاء اسرنا وان شاء قتلنا فقال خالد قد اجبناك إلى ذلك لكن لا تحملوا معكم من هذا البلد الا الزاد الذي تتقوتون به قال أبو عبيدة لخالد هذا كلام داع لنقض العهد والصلح انما وقع بيننا انهم يخرجون برجالهم وأموالهم فقال خالد سمحت لهم بذلك الا الحلقة يعني السلاح فاني لا أطلق لهم شيئا من ذلك فقال توما لا بد لنا من السلاح نمنع به عن أنفسنا في طريقنا ان طرقنا طارق حتى نصل إلى بلدنا والا فنحن بين أيديكم فاحكموا فينا بما أردتم فقال أبو عبيدة اطلق لكل واحد قطعة من السلاح ان أخذ سيفا فلا يأخذ رمحا وان أخذ رمحا فلا يأخذ سيفا وان اخذ قوسا فلا يأخذ سكينا فقال توما لما سمع منهم ذلك الكلام قد رضينا بذلك وما يريد كل واحد منا الا قطعة من السلاح لا غير ثم قال توما لأبي عبيدة اني خائف من هذا الرجل اعني خالد بن الوليد فليكتب لي بذلك قال أبو عبيدة ثكلتك أمك انا معاشر العرب لا نغدر ولا نكذب وان الأمير أبا سليمان قوله قول وعهده عهد ولا يقول الا الصدق قال فانطلق توما وهربيس يجمعان قومهما ويأمرانهم بالخروج قال وكان الملك له خزانة ديباج وهربيس يجمعان قومهما ويأمرانهم بالخروج قال وكان الملك له خزانة ديباج في دمشق فيها زهاء من ثلاثمائة حمل ديباج وحل مذهبة فعزم على اخراجها وامر توما فضربت له خيمة من القز ظاهر دمشق وأقبلت الروم تخرج الأمتعة والأموال والاحمال حتى اخرجوا شيئا عظيما فنظر خالد بن الوليد إلى كثرة احمالهم فقال ما أعظم رحالهم ثم قرأ قوله تعالى ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون الآية ثم نظر خالد إلى القوم كأنهم حمر مستنفرة ولم يلتفت أحد إلى أخيه من شدة عجلتهم فلما نظر خالد إلى ذلك رفع يديه إلى السماء
82

وقال اللهم جعله لنا وملكنا إياه واجعل هذه الأمتعة قوتا للمسلمين آمين انك سميع الدعاء ثم اقبل على أصحابه وقال لهم اني رأيت أنا رأيا فهل أنتم تتبعوني عليه فقالوا نتبعك ولا نخالف لك امرا فقال خالد قوموا بخيولكم حق القيام وأحسنوا إليها ما استطعتم وانجزوا سلاحكم فاني أسير بكم بعد ثلاثة أيام في مطلب هؤلاء القوم وأرجو من الله ان يغنمنا هذه الغنيمة والأموال التي رأيتموها وان نفسي تحدثني ان القوم ما تركوا في دمشق متاعا ولا ثوبا حسنا الا وقد اخذوه معهم
فقالوا افعل ما تريد فما نخالف لك أمرا ثم اخذوا في اصلاح شأنهم وتوما وهربيس قد جمعوا مال الرساتيق وجميع المال فلما جمعوه جاءوا به إلى أبي عبيدة فقال لهم وفيتم بما عليكم فسيروا حيث شئتم فلكم الأمان منا ثلاثة أيام قال يزيد ابن ظريف فلما سلموا المال لأبي عبيدة ارتحلوا سائرين كأنهم سواد مظلم وكان قد خرج مع القوم خلق كثير من أهل دمشق بأولادهم وكرهوا ان يكونوا في جوار المسلمين قال واشتغل خالد عن اتباعهم بخلاف ما وقع بينهم وبين أهل دمشق في حنطة وشعير وجدوا في المدينة منه شيئا كثيرا فقال أبو عبيدة هو للقوم دخل في صلحهم فكادت القتنة ان تثور بين أصحاب خالد وبين أصحاب أبي عبيدة واتفق رأيهم أن يكتبوا كتابا إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه في ذلك وليس عندهم خبر انه مات يوم دخولهم دمشق
قال عطية بن عامر كنت واقفا على باب دمشق في اليوم الذي سارت فيه الروم مع توما وهربيس ومعهم ابنة الملك هرقل قال فنظرت إلى ضرار بن الأزور وهو ينظر إلى القوم شزرا ويتحسر على ما فاته منهم فقلت له يا ابن الأزور مالي أراك كالمتحسر أما عند الله أكثر من ذلك فقال والله ما اعني مالا وانما أنا متأسف على بقائهم وانفلاتهم منا ولقد أساء أبو عبيدة فيما فعل بالمسلمين فقلت يا بان الأزور ما أراد أمين الأمة الا خيرا للمسلمين ان يحقن دمائهم وأزواجهم من تعب القتال فإن حرمة رجل واحد خير مما طلعت عليه الشمس وان الله سبحانه وتعالى اسكن الرحمة في قلوب المؤمنين وان الرب يقول في بعض الكتب المنزلة ان الرب لا يرحم من لا يرحم وقال تعالى والصلح خير فقال ضرار لعمري انك لصادق ولكن اشهدوا علي اني لا ارحم من يجعل له زوجة وولدا
قال حدثني عمر بن عيسى عن عبد الواحد بن عبد الله البصري عن وائلة بن الأسقع قال كنت مع خالد بن الوليد في جيش دمشق وكان قد
83

جعلني مع ضرار بن الأزور في الخيل التي تجوب من باب شرقي إلى باب توما إلى باب السلامة إلى باب الجابية إلى باب الصغير إلى باب قيان إذ سمعنا صرير الباب وذلك قبل فتوح الشام وإذا به قد خرج منه فارس فتركناه حتى قرب منا فأخذنا قبضا بالكف وقلنا إن تكلمت قتلناك فسكت وإذا قد خرج فارس اخر قام على الباب وجعل ينادي بالذي قد اخذناه فقلنا له كلمه حتى يأتي قال فرطن له بالرومية ان الطير في الشبكة فعلم أنه قد أسر فرجع وأغلق الباب قال فاردنا قتله فقال بعضنا لا تقتلوه حتى نمضي به إلى خالد الأمير قال فأتينا به خالدا فلما نظر اليه قال له من أنت قال له أنا من الروم واني تزوجت بجارية من قومي قبل نزولكم عليهم وكنت أحبها فلما طال علينا حصاركم سألت أهلها ان يزفوها علي فأبوا ذلك وقالوا ان بنا شغلا عن زفافك وكنت أحب ان ألقاها ولنا في المدينة ملاعب نلعب فيها فوعدتها ان نخرج إلى الملاعب فخرجت وتحدثنا فسألتني ان اخرج بها إلى خارج المدينة ففتحنا الباب وخرجت انظر اخباركم فأخذني أصحابك فنادتني فقلت ان الطير وقع في الشبكة احذرها منكم مخافة عليها ولو كان غيرها لهان علي ذلك فقال خالد ما تقول في الاسلام فقال أشهد ان لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله فكان يقاتل معنا قتالا شديدا فلما دخلنا المدينة صلحا أقبل يطلب زوجته فقيل له انها لبست ثياب الرهبانية فأقبل إليها وهي لا تعرفه فقال لها ما حملك على الرهبانية قالت حملني على ذلك اني غررت بزوجي حتى أخذته العرب وترهبنت حزنا عليه قال أنا زوجك وقد دخل في دين العرب قال فلما سمعت ذلك قالت وما تريد قال إن تكوني في الذمة فقال وحق المسيح لا كان ذلك ابدا ومالي إلى ذلك سبيل وخرجت مع البطريق توما فلما نظر إلى امتناعها أقبل إلى خالد بن الوليد فشكا له حاله
فقال له خالد ان أبا عبيدة فتح المدينة صلحا ولا سبيل لك إليها ولما علم أن خالدا يسير وراء القوم فقال أسير معه لعلي اقع بها وأقام خالد بدمشق إلى اليوم الرابع ثم اقبل اليه يونس الدمشقي زوج الجارية وقال أيها الأمير قد عزمت على المسير في طلب هذين العينين توما وهربيس واخذ ما معها قال بلى فقال له وما الذي اقعدك عن ذلك قال بعد القوم وبيننا وبينهم أربعة أيام بلياليها وهم يسيرون سير الخوف وما يمكن اللحاق بهم فقال يونس ان كان تخلفك لبعد المسافة بيننا وبينهم فأنا اعرف الديار وأسلك طريقا فنلحقهم إن شاء الله تعالى ولكن البسوا زي لخم وجذام وهو العرب المتنصرة
84

وخذوا الزاد وسيروا قال فسار خالد واخذ عساكر الزحف وهم أربعة آلاف فارس فامرهم ان يسيروا ويخففوا حمل الزاد ففعلوا ذلك وخالد ومن معه قد ساروا ويونس الدليل امامهم وهو يتبع اثار القوم وقد أوصى خالد أبا عبيدة على المدينة والمسلمين قال زيد بن طريف وكان يونس دليلنا قال فرأى اثار القوم وانهم إذا سقط منهم حمل جمل تركوه وسار خالد ومن معه كلما دخلوا بلدا من بلاد الروم يظنون أنهم من العرب المتنصرة من لخم وجذام حتى أشرف بهم الدليل على ساحل البحر ونوى ان يطلب الأثر وإذا بالقوم قد عدوا أنطاكية ولم يدخلوها خيفة الملك قال فوقع للدليل عند ذلك حيرة في امره فعدل إلى قرية هناك وسأل بعضا من الناس فأخبروه ان الخبر قد أتصل إلى الملك بأن توما وهربيس قد سلما دمشق للعرب فنقم عليهما ولم يدعهما يأتيان اليه وذلك أنه جمع الجيوش وأرسلها إلى اليرموك فخاف أن يتحدثوا بشجاعة العرب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتضعف قلوبهم فبعث إلى توما ومن معه ان يسيروا إلى القسطنطينية فلما علم يونس ان القوم عدلوا واخذوا في طلب التحيز فكر في ذلك وغاب عن المسلمين قوقف خالد وصلى بالناس وإذا بيونس قد اقبل وقال أيها الأمير اني والله قد غررت بكم وبلغت الغاية في الطلب قال خالد وكيف الامر قال أيها الأمير تبعثني في اثارهم في هذا المكان رجاء ان ألحقهم وان الملك منعهم من الدخول إلى أنطاكية لئلا يرعبوا عسكره وأمرهم أن يطلبوا القسطنطينية وقد قطع بينكم وبينهم هذا الجبل العظيم وأنتم في جبل هرقل وهو يجمع عسكره ويسير إلى حربكم واني خائف عليكم ان تركتم هذا الجبل خلف ظهوركم هلكتم وبعد هذا فالامر إليك وكل ما أمرتني به فعلت قال ضرار بن الأزور فرأيت خالدا وقد انتقع لونه كالخضاب وكان ذلك منه جزعا وما عهدت به ذلك فقلت يا أمير على ماذا عولت فقال يا ضرار والله ما فزعت من الموت ولا من القتل وانما خفت ان يؤتى المسلمون من قبلي واني رأيت قبل فتح دمشق مناما أفزعني وانا منتظر تأويله وأرجو ان يجعل الله لنا خيرا
وينصرنا على عدونا فقال ضرار خيرا رأيت وخيرا يكون إن شاء الله تعالى فما الذي رايت قال رايت المسلمين في برية قفرة ونحن سائرون فبينما نحن كذلك وإذا بقطيع من حمر الوحش كثيرة عظيمة أجسامها مهزولة اخفافا وهي لا تكدم برماحنا ونحن نضربها بأسيافنا وهي لا تكترث فيما نزل بها من الأذى ولا تهلع مما ينزل فلم نزل مثل ذلك حتى اجتهدنا واجتهدت خيولنا وأني أقبلت على أصحابي وفرقتهم عليها من أربعة جوانب البرية وحملت عليهم فجفلت من أيدينا إلى مضايق وتلال وأودية خصبة فلم نأخذ منها الا اليسير فبينما نحن نطبخ ونشوي لحومها
85

وإذا هي قد رجعت تطلب الحرب منا فلما نظرت إليها وقد طرحت المضايق والآجام صحت بالمسلمين اركبوا في طلبها بارك الله فيكم فاستوى المسلمون على خيولهم وركبت معهم وطلبناها حتى وقعت بها وتصيدت منها بعيرا عظيما فقتلته فجعل المسلمون يقتلون ويتصيدون فما بقي منها الا اليسير فبينما أنا فرح وأنا أريد الرجوع بالمسلمين إلى وطنهم إذ عثرت فرسي فطارت عمامتي من على رأسي فهويت لاخذها فانتبهت من منامي وانا فزع مرعوب فهل فيكم أحد يفسره فاني أقول الرؤيا ما نحن فيه قال فصعب ذلك على القوم وجعل خالد يراود نفسه على الرجوع
فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه اما تفسير الوحوش فهؤلاء الأعاجم الذين نحن في طلبهم وأما سقوطك عن فرسك فإنه أمر تنحط عليه من رفعه إلى خفضة واما سقوط العمامة عن رأسك فالعمائم تيجان العرب وهي معرة تلحقك فقال خالد اسأل الله العظيم ان كان ذلك تأويل ما رأيته أن يجعله من أمر الدنيا ولا يجعله من امر الآخرة وبالله استعين وعليه أتوكل في كل الأمور قال ثم سار خالد والدليل امامهم حتى قطعوا الجبل فلما كانت الليلة التي أردنا أن نصبح فيها القوم أتى مطر كأفواه القرب وكان من توفيق الله عز وعلا ان حبس القوم عن المسير قال روح بن طريف رضي الله عنه ولقد رايتنا ونحن نسير والمطر ينزل علينا كأفواه القرب طول ليلتنا فلما أصبح الصباح وطلعت الشمس قال يونس أيها الأمير قف حتى أنظر القوم لأنهم لا شك بالقرب منا وقد سمعت صياحهم فقال له خالد بن الوليد أحقا سمعت صياحهم يا يونس قال نعم أيها الأمير وأريد منك أن تأذن لي بالمسير إليهم وآتيك بخبرهم قال فعند ذلك التفت خالد بن الوليد إلى رجل اسمه المفرط بن جعدة قال له يا مفرط سر مع يونس وكن له مؤنسا واحذر ان يأخذ خبركما القوم فقال المفرط السمع والطاعة لله ولك أيها الأمير ثم انطلقا إلى أن صعدا على جبل يقال له الأبرش والروم تسمه جبل باردة قال المفرط فلما علونا عليه وجدنا مرجا واسعا كثير الجنبات كثير النبات وفيه خضرة عظيمة وان القوم قد أصابهم المطر حتى بل رحالهم وقد حميت عليهم الشمس فخافوا اتلافها فأخرجوها واخرجوا الديباج ونشروها في طول المرج وقد نام أكثرهم من شدة السير والتعب والمطر الذي أصابهم قال المفرط بن جعدة فلما رأيت ذلك فرحت فرحا شديدا ورجعت إلى خالد بن الوليد وتركت صاحبي يونس فلما رآني خالد وحدي اسرع إلي وظن أن صاحبي كيد فقال ما وراءك يا ابن جعدة أخبرني وعجل بالخير فقلت الخبر والغنيمة يا أمير القوم خلف هذا الجبل وقد أصابهم المطر وقد وجدوا الراحة بطلوع لشمس وقد
86

نشروا أمتعتهم فقال بشرك الله بالخير ثم ظهر لي من وجهه الخير والفرح والسرور فبينما نحن كذلك وإذا بيونس قد اقبل فقال له خالد خيرا فقال له ابشر أيها الأمير فان القوم امنوا على أنفسهم ولكن أوصى أصحابك ان كل من وقع بزوجتي فليحفظها فما أريد من الغنيمة سواها فقال له خالد هي لك إن شاء الله تعالى ثم إن خالدا قسم أصحابه اربع فرق فأمر ضرار بن الأزور على الف فارس وعلى الألف الثاني رافع بن عميرة الطائي وعلى الألف الثالث عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وبقي هو في الفرقة الرابعة وقال سيروا على بركة الله تعالى وإياكم ان تخرجوا إليهم دفعة واحدة بل يخرج كل أمير منكم بينه وبين صاحبه قدر ساعة ثم افترق القوم وحمل ضرار بن الأزور والروم مطمئنون وحمل من بعده رافع بن عميرة الطائي ثم عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ثم خالد بن الوليد سار في اخر القوم حتى وصلوا المرج قال عبيد ابن سعيد لقد كدنا ان نفتنه من حسن منظره فزعق فينا خالد بن الوليد وقال عليكم بأعداء الله ولا تشتغلوا بالغنائم ولا بالنظر إلى المرج فإنها لكم إن شاء الله تعالى
ثم عطف خالد بن الوليد رضي الله عنه على الروم وقد نظرت الروم إلى الخيل وقد خرجت عليهم وخالد امامهم فعلموا انها خيول المسلمين فبادروا إلى السلاح وركبوا الخيل وقال بعضهم لبعض انها خيل قليلة ساقها المسيح إليكم وجعلها غنيمة لكم فبادروا إليها قال فتبادر الروم وهم يظنون أن ليس وراء خالد أحد وإذا بضرار بن الأزور قد خرج عليهم في ألف فارس وطلع رافع بن عميرة الطائي بعده وطلع عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق بعدهم وطلبت كل كتيبة فرقة من الروم وتفرقوا من حولهم وطلبوا ما في أيديهم وقد رفعوا أصواتهم يقولون لا إله إلا الله محمد رسول الله وانصبت خيل المسلمين على الروم كأنها السيل المنحدر ونادى هربيس برجاله قاتلوا عن نعمكم فما لهؤلاء القوم حيلة ولا يخلصون من هذا المكان ابدا فانقسمت الروم طائفة معه وطائفة مع توما فكان من طلب خالدا توما وقد أحدق به خمسمائة فارس وقد رفع بين عينيه صليبا من الجوهر مقمعا بالذهب الأحمر فعدل خالد وحمل عليه وقال يا عدو الله اظننتم انكم تفلتون منا والله تعالى يطوي لنا البلاد وكان توما أعور عورته امرأة ابان قال فحمل عليه وطعنه في عينه الأخرى ففقأها وارداه عن جواده وحمل أصحابه على رجال توما ولله در عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه فإنه لما نظر إلى توما وقد سقط عن جواده نزل وجلس على صدره واحتز رأسه ورفعها على السنان ونادى قد قتل والله توما اللعين فاطلبوا هربيس
87

قال الواقدي ففرح العرب بذلك قال رافع بن عميرة الطائي كنت في الميمنة مع خالد بن الوليد إذ نظر إلي فارس زيه زي الروم وقد نزل عن جواده وهو يقاتل علجة مع نساء الروم وهي تظهر عليه مرة فدنوت انظرها فإذا هو يونس الدليل وهو يقاتل زوجته ويصارعها صراع الأسد قال رافع فدنوت ان أتقدم اليهما فاعينه فقصد إلي عشرة من النساء يرمين قومي بالحجارة فخرج حجر كبير من امرأة حسناء عليها ثياب الديباج قال فوقع الحجر في جبهة جوادي فانكب على رأسه وكان جوادا شهدت عليه اليمامة فسقط الجواد ميتا قال فأسرعت في طلبها فهربت من بين يدي كأنها ظبية القناص وهربت النساء من وراءها فلحقتهن وقصدت قتلهن وزعقت عليهن وكنت أريد قتلهن ومالي قصد الا الجارية التي قتلت حصاني فدنوت منها وعلوت بالسيف على رأسها فجعلت تقول الغوث الغوث فرجعت عن قتلها وأقبلت إليها وإذا عليها ثياب الديباج وعلى رأسها شبكة من اللؤلؤ فاخذتها أسيرة من النساء وأوثقتها كتافا ورجعت على اثري فركبت جوادا من خيل الروم ثم قلت والله لأمضين وانظر ما كان من امر
يونس فوجدته وهو جالس وزوجته بجانبه وقد تلطخت بدمائها وهو يبكي عليها فلما رأيتها قلت لها اسلمي فقال لا وحق المسيح لا اجتمعت انا وأنتم ابدا ثم أخرجت سكينا كانت معها فقتلت بها نفسها فقلت ان الله عز وجل أبدلك ما هي أعظم منها وعليها ثياب الديباج وشبكة من اللؤلؤ وهي كأنها القمر فخذها لك بدلا عن زوجتك فقال اين هي فقلت ها هي معي
قال فلما نظر إليها والى ما عليها من الحلى والزينة وتبين حسنها وجمالها راطنها بالرومية وسألها عن امرها فرطنت عليه وهي تبكي فالتفت إلي وقال لي أتدري من هذه قلت لا فقال هذه ابنة الملك هرقل زوجة توما وما مثلي يصلح لها ولا بد لهرقل من طلبها ويفديها بماله قال وافتقد المسلمون خالدا فلم يجدوا له اثرا فقلقوا عليه قلقا عظيما وخالد رضي الله عنه غائص في المعركة وقصد اللعين هربيس بعد قتل توما فبينما هو يحمل يمينا وشمالا إذ نظر علجا من علوج الرومان عظيم الخلقة احمر اللون فظن خالد انه اللعين فأطلق جواده نحوه وطلبه طلبا شديدا ليقتله فلما نظر اليه العلج والى حملته فر هاربا من بين يديه فوكزه خالد بالرمح وإذا هو واقع على الأرض على أم رأسه فانقض عليه خالد كالأسد وهو يقول ويلك يا هربيس أطننت انك تفوتني وذلك العلج يعرف العربية فقال يا عربي ما انا هربيس أطننت انك فابق علي ولا تقتلني فقال خالد مالك من يدي خلاص الا إذا كنت تدلني على
88

هربيس فإذا دللتني عليه اطلقتك فقال له العلج انذا دللتك عليه تطلقني فقال خالد نعم لك ذلك فقال العلج يا أخا العرب قم من علي صدري حتى ادلك عليه فقام خالد من على صدره فوثب العلج ونظر يمينا وشمالا قال ثم قال لخالد أترى هذا الجبل وهذه الخيل الصاعدة اقصدها فان هربيس فيها قال فوكل خالد بالعلج واحدا وهو ابن جابر ثم اطلق خالد عنان جواده حتى لحق بهم وصرخ عليهم وقال يا ويلكم اني لكم مني خلاص فلما سمع هربيس ذلك ظنه من بعض العرب فزعق فيه ورجع ورجعت البطارقة بالسلاح فقال لهم خالد يا ويلكم ظننتم ان الله لا يمكننا منكم أنا الفارس الصنديد انا خالد بن الوليد ثم طعن فارسا فرماه واخر فأرداه فما سمع هربيس كلام خالد قال لأصحابه يا ويلكم هذا الذي قلب الشام على أصحابه هذا صاحب بصرى وحوران ودمشق وأجنادين دونكم وإياه قال فطمع القوم فيه لانفراده عن أصحابه وكان المسلمون في قتال الروم ونهب الأموال وكل منهم مشتغل بنفسه قال فترجلت البطارقة حول خالد لأنهم في جبل كثير الوعر وأحاطوا بخالد بن الوليد فعندها ترجل عن جواده واخذ سيفه وجحفته وصبر لقتالهم قال حدثني شداد بن أوس وكان ممن حضر وقعة مرج الديباج وقال خالد قد صحت الرؤيا فلما ترجل اقبل يقاتل بنفسه واقبل اليه هربيس وهو مشتغل بالقتال وأتاه من ورائه وضرب خالدا بالسيف فوقع السيف على البيضة فقدها وقد عمامته وانقض السيف من يد هربيس وخاف خالد ان يلتفت إلى ورائه فتهجم عليه الروم وخاف ان يفلت هربيس من بين يديه فعند ذلك صاح بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير كأنه مستبشر بشيء اغاثه أو ادركه وذلك خديعة منه وحيلة يريد بها ان يتمكن من الاعلاج فبينما هو كذلك إذ سمع من المسلمين زعقات وقد اخذت الروم من ورائهم وهم يصيحون بالتهليل والتكبير وقائل يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله أتاك النصر من رب العالمين انا عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق فلما سمع خالد صوته لم يلتفت إلى عبد الرحمن ولا إلى من معه ومضى يفرق الاعلاج ذات اليمين وذات الشمال وما ان سمع اللعين هربيس أصوات المسلمين أراد الهرب فلحقه سيدنا خالد وضربه ضربة فأرداه قتيلا وعجل الله بروحه إلى النار واستطال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحاب هربيس ونزلوا فيهم بالسيف حتى ابادوهم عن اخرهم وكان أكثرهم قتلا من يد ضرار بن الأزور فلما انكشف الكرب عن خالد ونظر إلى ما فعل ضرار قال أفلح وجهك يا ابن الأزور فما زلت مباركا في كل افعالك انجح الله اعمالك وأصلح ربي
89

حالك ثم سلم على عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وعلى المسلمين وقال من اين علمتم مكاني هذا فقال عبد الرحمن يا امين بينما نحن في قتال الروم وقد نصرنا الله عليهم والمسلمون قد اشتغلوا بالغنائم إذا سمعنا هاتفا من الهواء يقول اشتغلتم بالغنائم وخالد قد أحاطت به الروم فلما سمعنا ذلك لم ندر أي مكان أنت فيه وفقدنا شخصك فدلنا عليك علج كان بيد رجل من أصحابك وقال إن صاحبكم انا الذي دللته على هربيس وانه معه في هذا الجبل فسرنا إليك فقال خالد لقد دلنا على عدونا ودل علينا المسلمين وقد وجب له الحق علينا ورجع خالد وأصحابه إلى المسلمين فلما رأوه بادروا وسلموا عليه فرد عليهم السلام ثم إن خالدا رضي الله عنه دعا بذلك العلج الذي دله على هربيس وقال له انك وفيت لنا ونريد ان نوفي لك بما وعدناك لأنك نصحت لنا فهل لك أن تكون من أصحاب دين الصلاة والصيام وملة محمد عليه الصلاة والسلام فتكون من أهل الجنة فقال ما أريد بديني بدلا فأطلق خالد سبيله قال نوفل بن عمرو فرأيته قد استوى على ظهر جواده يطلب بلاد الروم وحده ثم إن خالد رضي الله عنه امر بجمع الغنائم والأسارى فجمع ذلك اليه فلما رأى كثرته حمد الله تعالى وشكره واثنى عليه ودعا بدليله يونس النجيب ثم قال له ما فعلت بزوجتك فحدثه معها وما كان من امرها فعجب من ذلك فقال رافع بن عميرة أيها الأمير اني أسرت ابنة الملك هرقل وقد سلمتها اليه بدلامن زوجته فقال خالد وأين ابنة الملك هرقل فمثلت بين يديه فنظر إلى حسنها وجمالها وما منحها الله به من الجمال فصرف وجهه عنها وقال سبحانك اللهم وبحمدك تخلق ما تشاء وتختار ثم قرأ قوله تعالى * (وربك يخلق ما يشاء ويختار) * ثم قال ليونس اتريدها بدلا من زوجتك قال نعم ولكني اعلم أن الملك هرقل لا بدله ان يفديها بالأموال أو يخلصها بالقتال فقال خالد خذها لك الان فإن لم يطلبها فهي لك وان طلبها فالله يعوضك خيرا منها فقال يونس أيها الأمير انك في مكان ضيق ومكان صعب فاعزم على الخروج قبل ان يلحق نفير القوم فقال خالد الله لنا ومعنا وعطف راجعا يجد في مسيره والغنائم امامه والمسلمون في اثره فرحين بالغنيمة والسلامة والنصر
قال روح بن عطية فقطعنا الطريق كلها وما عرض لنا من الروم أحد ونحن نخوض في وسط ديار القوم خوضا فلما وصلنا مرج الصغير عند قنطرة أم حكيم نظرنا إلى غبرة من وراءنا فلما عايناها أنكرنا ذلك فاسرع رجال من المسلمين إلى خالد يخبرونه بالغبرة قال أيكم يأتيني بخبرها فبادر بالإجابة
90

رجل من غفار يقال له صعصعة بن يزيد الغفاري قال انا أيها الأمير ثم نزل عن جواده وكان بجريه يسبق الفرس الجواد لقوة عزمه فورد الغبرة واختبرها ورجع على عقبه وهو ينادي أيها الأمير أدركنا الصلبان من ورائنا وهم مصفدون في الحديد لم يبن منهم غير حماليق الحدق فدعا خالد بيونس الدليل عندما قاربته الخيل وقال يا يونس
اقصد نحو الخيل وانظر ما يريدون فقال السمع والطاعة ثم دنا من الخيل وقاربهم ثم رجع إلى خالد وقال له ألم أقل لك أيها الأمير ان هرقل لا يغفل عن طلب ابنته وقد انفذ هذه الخيل يريدون ان يأخذوا الغنيمة من أيدي المسلمين فلما لحقوك ههنا قريبا من دمشق بعثوا رسولا يسألك في الجارية أما بيعها واما هدية فبينما خالد يتحدث إذ أقبل اليه شيخ عليه لبس المسوح فأقبل حتى دنا من المسلمين فاوقفوه امام خالد وقال له قل ما نشاء فقال الشيخ انا رسول الملك هرقل وانه يقول لك بلغني ما فعلت برجالي وقتلت توما زوج ابنتي وهتكت حرمتي وقد ظفرت وسلمت فلا تفرط بمن معك والان ما ان تبيع ابنتي أو تهديها إلي فالكرم شيمتكم وطبعكم ولا يرحم من يرحم واني أرجو أن يقع بيننا الصلح فلما سمع خالد ذلك قال للشيخ قل لصاحبك والله لا رجعت عنه وعن أهل ملته حتى أملك سريره وما تحت قدميه كما في علمك واما ابقاؤك علينا فلو وجدت إلى ذلك من سبيل فما قصرت وأما ابنتك فهي لك هدية منا ثم إن خالدا اطلق ابنة الملك هرقل وسلمها للشيخ ولم يأخذ في فدائها شيئا فلما بلغ ذلك الرسول إلى الملك هرقل وسلمها للشيخ ولم يأخذ في فدائها شيئا فلما بلغ ذلك الرسول إلى الملك هرقل قال لعظماء الروم هذا الذي أشرت عليكم فلم تقبلوه واردتم قتلي وسيكون الامر أعظم ولكن ليس هذا منكم بل هو من رب السماء
قال الواقدي فبكت الروم بكاء شديدا وسار خالد حتى أتى دمشق وكان المسلمون وأبو عبيدة قد أيسوا من خالد ومن معه فهم في أعظم القلق والاياس إذ قدم عليهم خالد رضي الله عنه والمسلمون فخرجوا إلى لقائه وهنئوه بالسلامة وسلم المسلمون بعضهم على بعض ووجد خالد في دمشق عمرو بن معد يكرب الزبيدي ومالك بن الأشتر النخعي ومن كان معهما واقبل خالد إلى جانب أبي عبيدة وهو يحدثه بما لاقى في غزوته وأبو عبيدة بتعجب من شجاعته وجسارته فلما استقر بخالد مكانه اخذ الخمس من الغنائم وفرق الباقي على المسلمين ثم إن خالدا اعطى من ماله ليونس وقال خذ هذا فتزوج به أو اشتر به جارية لك من بنات الروم قال يونس والله لا أتزوج في هذا الدار الدنيا زوجة ابدا وما أريد الا ان أتزوج في الآخرة بعيناء من الحور
91

لعين قال رافع بن عميرة الطائي فشهد معنا القتال إلى يوم اليرموك فما كنت أراه في حرب الا ويجاهد جهادا عظيما وقد أبلى في الروم بلاء حسنا فأتاه سهم في لبته فخر ميتا رحمه الله تعالى قال رافع فحزنت عليه وأكثرت من الترحم عليه فرأيته في النوم وعليه حلل تلمع وفي رجليه نعلان من ذهب وهو يجول في روضة خضراء فقلت له ما فعل الله بك قال غفر لي وأعطاني بدلا من زوجتي سبعين حوراء لو بدت واحدة منهن في الدنيا لكف ضوء وجهها نور الشمس والقمر فجزاكم الله خيرا فقصصت الرؤيا على خالد فقال ليس والله سوى الشهادة طوبى لمن رزقها
كتب خالد بالفتح
قال الواقدي ولقد بلغني ان خالدا رضي الله عنه لما رجع من غزوته ومسيره غانما ظن أن الخليفة أبا بكر الصديق رضي الله عنه حي لم يقبض فهم ان يكتب له كتابا بالفتح والبشارة وما غنم من الروم وأبو عبيدة لا يخبره بذلك ولا يعلمه ان الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه فدعا خالد بدواة وبياض وكتب بسم الله الرحمن الرحيم لعبد الله خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم من عامله على الشام خالد بن الوليد اما بعد سلام عليك فاني احمد الله الذي لا إله إلا هو واصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ثم انا لم نزل في مكايدة العدو على حرب دمشق حتى انزل الله علينا نصره وقهر عدوه وفتحت دمشق عنوة بالسيف من باب شرقي وكان أبو عبيدة على باب الجابية فخدعته الروم فصالحوه على الباب الاخر ومنعني ان اسبي واقتل ولقيناه على كنيسة يقال لها كنيسة مريم وامامه القسس والرهبان ومعهم كتاب الصلح وان صهر الملك توما واخر يقال له هربيس خرجا من المدينة بمال عظيم واحمال جسيمة فسرت خلفها في عساكر الزحف وانتزعت الغنيمة من أيديهما وقتلت الملعونين وأسرت ابنة الملك هرقل ثم أهديتها اليه ورجعت سالما وانا منتظر امرك والسلام عليك وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم وطوى الكتاب وختمه بخاتمه ودعا برجل من العرب يقال له عبد الله بن قرط فدفع اليه الكتاب وسار إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم فوردها والخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقرأ عنوان الكتاب وإذا هو من خالد إلى خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر أما عرف المسلمون وفاة أبي بكر رضي الله عنه فقال لا يا أمير المؤمنين فقال قد وجهت بذلك كتابا إلى أبي عبيدة وأمرته على المسلمين وعزلت خالدا وما أظن أبا عبيدة يريد الخلافة لنفسه فسكت وقرأ الكتاب قال أصحاب السير
92

في حديثهم ممن تقدم ذكرهم واسنادهم في أول الكتاب ممن روى فتوح الشام ونقلوها عن الثقاب منهم محمد بن إسحاق وسيف بن عمرو وأبو عبد الله بن عمر الواقدي رضي الله عنه كل حدث بما رواه وسمعه ثقة عن ثقة قالوا جميعا في اخبارهم انه لما قبض أبو بكر الصديق رضي الله عنه وولى الامر بعده عمر بن الخطاب رضي الله عنه وله من العمر اثنتان وخمسون سنة بايعه الناس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة تامة ولم يتخلف عن مبايعته أحد لا صغير ولا كبير وانقطع في امارته الشقاق والنفاق وانحسم الباطل وقام الحق وقوي السلطان في امارته وضعف كيد الشيطان وظهر أمر الله وهم كارهون ومن أمره انه كان يجلس مع الفقير ويتلطف بالناس والمسلمين ويرحم الصغير ويوقر الكبير ويعطف على اليتيم وينصف المظلوم من الظالم حتى يرد الحق إلى أهله ولا تأخذه في الله لومة لائم وكان في امارته يدور في أسواق المدينة وعليه مرقعة وبيده درته وكانت درته أهيب من سيف الملوك وسيوفكم هذه وكان قوته في كل يوم خبز الشعير وادمه الملح الجريش وربما اكل خبزه بغير ملح تزهدا واحتباطا وترفقا على المسلمين ورأفة ورحمة لا يريد ذلك الا الثواب من الله سبحانه وتعالى ولا يشغله شاغل عن أداء الفريضة وما أوجب الله عليه من حقوقه وسنة نبيه محمد عليه الصلاة والسلام قالت عائشة رضي الله عنها ولقد تولى والله عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخلافة فجد في التشمر وترك عن نفسه التكبر ولقد كان احرقه خبز الشعير والملح وأراد أكل الزيت واليابس من التمر وربما أخذ شيئا من السمن ويقول أكلت الزيت وخبز الشعير والملح والجون أهون غدا من نار جهنم من حل بها لم يمت ولم يجد فيها راحة ابدا قرارها بعيد وعذابها شديد وشرابها الصديد لا يؤذن لهم فيعتذرون جند الجنود في امارته وبعث العساكر وفتح الفتوحات ومصر الأمصار وكان يخاف عذاب النار رضي الله عنه
قال الواقدي رحمه الله تعالى ولقد بلغني ان هرقل لما بلغه ان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد ولى الامر من بعد أبي بكر الصديق رضي الله عنه جمع الملوك والبطارقة وأرباب دولته وقام فيهم خطيبا على منبر قد نصب له في كنيسة القسيسين وقال يا بني الأصفر هذا الذي كنت أحذركم منه فلم تسمعوا مني وقد اشتد الامر عليكم بولاية هذا الرجل الأسمر وقد دنا موعد صاحب الفتوح المشبه بنوح والله ثم والله لا بد ان يملك ما تحت سريري هذا الحذر ثم الحذر قبل وقوع الامر ونزول الضرر وهدم القصور وقتل القسس وتبطيل الناقوس هذا صاحب الحرب والجالب على الروم والفرس الكرب هذا
93

الزاهد في دنياه وهذا الغليظ على من أتبع في غير ملته هواه واني أرجو لكم النصر ان أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر وتركتم الظلم واتبعتم المسيح في أداء المفروضات ولزوم الطاعات وترك الزنا وأنواع الخطايا وان أبيتم الا الفساد والفسوق والعصيان والركون إلى شهوات الدنيا يسلط الله عليكم عدوكم ويبلوكم بما لا طاقة لكم به ولقد أعلم أن دين هؤلاء سيظهر على كل دين ولا يزال أهله بخير ما لم يغيروا ويبدلوا فاما ان ترجعوا اليه واما ان تصالحوا القوم على أداء الجزية فلما سمع القوم ذلك نفروا وبادروا اليه وهموا بقتله فسكن غضبهم بلين كلامه ولاطفهم وقال لهم انما أردت أن أرى حميتكم لدينكم وهل تمكن خوف العرب في قلوبكم أم لا ثم استدعى برجل من المتنصرة يقال له طليعة بن ماران وضمن له مالا وقال له انطلق من وقتك هذا إلى يثرب وانظر كيف تقتل عمر بن الخطاب فقال له طليعة نعم أيها الملك ثم تجهز وسار حتى ورد مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكمن حولها وإذا بعمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج يشرف على أموال اليتامى ويفتقد حدائقهم فصعد المتنصر إلى شجرة ملتفة الأغصان فاستتر بأوراقها وإذا بعمر رضي الله عنه قد اقبل إلى أن قرب من الشجرة التي عليها المتنصر ونام على ظهره وتوسد بحجر فلما نام هم المتنصر ان ينزل اليه ليقتله وإذا بسبع أقبل من البرية فطاف حوله وأقبل يلحس قدميه وإذا بهاتف يقول يا عمر عدلت فأمنت فلما استيقظ عمر رضي الله عنه ذهب السبع ونزل المتنصر وترامى على عمر رضي الله عنه فقبل يديه وقال بأبي أنت وأمي أفدى من الكائنات من السباع تحرسه والملائكة تصفه والجن تعرفه ثم أعلمه بما كان منه وأسلم على يديه
قال الواقدي ثم إن عمر رضي الله عنه كتب كتابا لأبي عبيدة بن الجراح يقول فيه قد وليتك على الشام وجعلتك أميرا على المسلمين وعزلت خالد بن الوليد والسلام ثم سلم الكتاب إلى عبد الله بن قرط وأقام قلقا على ما يرد عليه من أمور المسلمين وصرف همته إلى الشام
تولية أبي عبيدة
قال الواقدي حدثني رافع بن عميرة الطائي قال حدثني يونس بن عبد الأعلى وقد قرأت عليه بجامع الكوفة قال حدثني عبد الله بن سالم الثقفي عن أشياخه الثقات قال لما كانت الليلة التي مات فيها أبو بكر الصديق رضي الله عنه رأى عبد الرحمن بن عوف الزهري رضي الله عنه رؤيا قصها على
94

عمر رضي الله عنه وكانت تلك الليلة بعينها قال رأيت دمشق والمسلمون حولها وكأني أسمع تكبيرهم في أذني وعند تكبيرهم وزحفهم رأيت حصنا قد ساخ في الأرض حنى لم أر منه شيئا ورأيت خالدا وقد دخلها بالسيف وكأن نارا أمامه وكأنه وقع على النار فانطفأت فقال الإمام علي كرم الله وجهه ورضي الله تعالى عنهم أجمعين أبشر فقد فتح الشام هذه الليلة أو قال يومك هذا إن شاء الله تعالى فبعد أيام قدم عقبة ابن عامر الجهني صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه كتاب الفتح فلما رآه قال يا ابن عامر كم عهدك قال قلت يوم الجمعة قال ما معك من الخبر فقلت خير وبشارة واني سأذكرها بين يدي الصديق رضي الله عنه فقال قبض والله حميدا وصار إلى رب كريم وقلدها عمر الضعيف في جسمه فان عدل فيها نجا وان ترك أو خلط هلك قال عقبة بن عامر فبكيت وترحمت على أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأخرجت الكتاب فدفعته اليه فلما قرأه نظر فيه وكتم الامر إلى وقت صلاة الجمعة فلما خطب وصلى ورقى المنبر واجتمع المسلمون اليه وقرأ عليهم كتاب الفتح فضج المسلمون بالتهليل والتكبير وفرحوا ثم نزل عن المنبر وكتب إلى أبي عبيدة رضي الله عليه بتوليته وعزل خالد ثم سلمني الكتاب وأمرني بالرجوع قال فرجعت إلى دمشق فوجدت خالدا قد سار خلف توما وهربيس فدفعت الكتاب إلى أبي عبيدة فقرأه سرا ولم يخبر أحدا بموت أبي بكر الصديق رضي الله عنه ثم كتم أمره وكتم عزل خالد وتوليته على المسلمين حتى ورد خالد من السرية فكتب الكتاب بفتح دمشق ونصرهم على عدوهم وبما ملكوا من مرج الديباج واطلاق بنت الملك هرقل وسلم الكتاب إلى عبد الله بن قرط فلما ورد به إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقرأ عنوان الكتاب من خالد بن الوليد إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه انكر الامر ورجعت حمرته إلى البياض وقال يا بن قرط أما علم الناس بموت أبي بكر رضي الله عنه وتوليتي أبا عبيدة بن الجراح قال عبد الله بن قرط قلت لا فغضب وجمع الناس اليه وقام على المنبر ثم قال يا معاشر الناس اني أمرت أبا عبيدة الرجل الأمين وقد رأيته لذلك أهلا وقد عزلت خالدا عن امارته فقال رجل من بني مخزوم أتعزل رجلا قد أشهر الله بيده سيفا قاطعا ونصربه دينه وان الله لا يعذرك في ذلك ولا المسلمين ان أنت أغمدت سيفا وعزلت أميرا أمره الله لقد قطعت الرحم ثم سكت الرجل فنظر عمر رضي الله عنه إلى الرجل المخزومي فرآه غلاما حدث السن فقال شاب حدث السن غضب لابن عمه ثم نزل على المنبر وأخذ الكتاب وجعله تحت رأسه وجعل يؤامر نفسه في عزل خالد فلما كان من الغد صلى صلاة
95

الفجر وقام فرقى المنبر خطيبا فحمد الله وأثنى عليه وذكر الرسول صلى الله عليه وسلم فصلى عليه وترحم على أبي بكر الصديق رضي الله عنه ثم قال أيها الناس اني حملت أمانة عظيمة واني راع وكل راع مسؤول عن رعيته وقد جئت لاصلاحكم والنظر في معايشكم وما يقربكم إلى ربكم أنتم ومن حضر في هذا البلد فاني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
من صبر على أذاها وشرها كنت له شفيعا يوم القيامة وبلادكم بلاد لا زرع فيها ولا ضرع ولا ماء أوقر به الإبل لآمن مسيرة شهر وقد وعدنا الله مغانم كثيرة واني أريدها للخاصة والعامة لأؤدي الأمانة والتوقير للمسلمين وما كرهت ولاية خالد على المسلمين الا لان خالدا فيه تبذير المال يعطي الشاعر إذا مدحه ويعطي للمجد والفارس بين
يديه فوق ما يستحقه من حقه ولا يبقى لفقراء المسلمين ولا لضعافهم شيئا واني أريد عزله وولاية أبي عبيدة مكانه والله يعلم أني ما وليته الا أمينا فلا يقول قائلكم عزل الرجل الشديد وولى الأمين اللين للمسلمين فان الله معه يسدده ويعينه ثم نزل عن المنبر وأخذ جلد أدم منشور وكتب إلى أبي عبيدة كتابا فيه
بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى أبي عبيدة عامر بن الجراح سلام عليك فاني أحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وبعد فقد وليتك أمور المسلمين فلا تستحي فان الله لا يستحي من الحق واني أوصيك بتقوى الله الذي يبقي ويفني ما سواه والذي استخرجك من الكفر إلى الايمان ومن الضلال إلى الهدى وقد استعملتك على جند ما هنالك مع خالد فاقبض جنده واعزله عن امارته ولا تنفذ المسلمين إلى هلكة رجاء غنيمة ولا تنفذ سرية إلى جمع كثير ولا تقل اني أرجو لكم النصر فان النصر انما يكون مع اليقين والثقة بالله وإياك والتغرير بالقاء المسلمين إلى الهلكة وغض عن الدنيا عينيك واله عنها قلبك وإياك ان تهلك كما هلك من كان قبلك فقد رأيت مصارعهم وخبرت سرائرهم وانما بينك وبين الآخرة ستر الخمار وقد تقدم فيها سلفك وأنت كأنك منتظر سفرا ورحيلا من دار قد مضت نضرتها وهبت زهرتها فأحزم الناس فيها الراحل منها إلى غيرها ويكون زاده التقوى وراع المسلمين ما استطعت وما الحنطة والشعير الذي وجدت بدمشق وكثرت في ذلك مشاجرتكم فهو للمسلمين وأما الذهب والفضة ففيهما الخمس والسهام وأما اختصامك أنت وخالد في الصلح أو القتال فأنت الولي وصاحب الامر وان صلحك جرى على الحقيقة أنها للروم فسلم إليهم ذلك والسلام ورحمة الله وبركاته عليك وعلى جميع المسلمين
96

واما هديتك ابنة الملك هرقل فهديتها إلى أبيها بعد أسرها تفريط وقد كان يأخذ في فديتها مالا كثيرا يرجع به على الضعفاء من المسلمين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وطوى الكتاب وختمه بخاتمة ثم دعا بعامر بن أبي وقاص أخي سعد ودفع الكتاب اليه وقال له انطلق إلى دمشق وسلم كتابي هذا إلى أبي عبيدة وأمره أن يجمع الناس اليه واقرأه أنت على الناس يا عامر واخبره بموت أبي بكر الصديق رضي الله عنه ثم دعا عمر رضي الله عنه شداد بن أوس فصافحه وقال له أمض أنت وعامر إلى الشام فإذا قرأ أبو عبيدة الكتاب فأمر الناس يبايعونك لتكون بيعتك بيعتي
قال الواقدي فانطلقا يجدان في السير إلى أن وصلا إلى دمشق والناس مقيمون بها ينتظرون ما يأتيهم من خبر أبي بكر الصديق رضي الله عنه وما يأمرهم به فأشرف صاحبا عمر رضي الله عنه على المسلمين وقد طالت أعناقهم اليهما وفرحوا بقدومهما فاقبلا حتى نزلا في خيمة خالد رضي الله عنه وقال له عامر بن أبي وقاص تركته يعني عمر بخير ومعي كتاب وانه أمرني أن اقرأه على الناس بالاجتماع فاستنكر خالد ذلك واستراب الامر وجمع المسلمين اليه فقام عامر أبي وقاص فقرأ الكتاب فلما انتهى إلى وفاة أبي بكر الصديق رضي الله عنه ارتفع للناس ضجة عظيمة بالبكاء والنحيب وبكى خالد رضي الله عنه وقال إن كان أبو بكر قد قبض وقد استخلف عمر فالسمع والطاعة لعمر وما أمر به وقرأ عامر الكتاب إلى آخره فلما سمع الناس بما فيه من أمر المبايعة لشداد بن أوس بايعوه وكانت المبايعة بدمشق لثلاث خلت من شهر شعبان سنة ثلاث عشر من الهجرة
قال الواقدي رحمه الله تعالى قد بلغني أنه كان على العدو بعد عزله أشد فظاعة وأصعب جهادا لا سيما في حصن أبي القدس
ذكر حديث وقعة أبي القدس
قال الواقدي رحمه الله تعالى سألت من حدث بهذا الحديث عن حصن أبي القدس قال ما بين عرقا وطرابلس مرج يقال له مرج السلسلة وكان بإزائه دير وفيه صوامع وفيه صومعة راهب عالم بدين النصرانية وقد قرأ الكتب السالفة وأخبار الأمم الماضية المتقدمة وكانت تقصده الروم وتقتبس من علمه وله من العمر ما ينوف عن مائة سنة وكان في كل سنة يقوم عند ديره عيد آخر صيام الروم وهو عيد الشعانين فتجتمع الروم والنصارى وغيرهم من جميع النواحي والسواحل ومن قبط مصر ويحدقون به فيطلع عليهم من ذروة له فيعلمهم ويوصيهم بوصايا الإنجيل وكان يقوم في ذلك العيد سوق عظيم من السنة إلى السنة وكان يحمل له الأمتعة والذهب
97

والفضة ويبيعون ويشترون ثلاثة أيام وما كان المسلمون يعلمون بذلك ولا يعرفونه حتى دلهم عليه رجل نصراني من المعاهدين وقد اصطفاه وأمنه وأهله فلما ولى أبو عبيدة أمر المسلمين أراد ذلك المعاهد أن يتقرب إلى أبي عبيدة رضي الله عنه فعسى ان يكون فتح الدير والسوق على يديه فأقبل اليه وأبو عبيدة قد أطال الفكر فيما يصنع واي بلد من بلاد الروم يقصد فمرة يقول أسير إلى بيت المقدس بالجيش فإنها أشرف بلدهم وكرسي مملكة الروم بها قيام دينهم ووقتا يقول أسير إلى أنطاكية وأقصد هرقل وأفرغ منه وبينما هو يفكر في أمره وقد جمع المسلمين إذ أقبل ذلك المعاهد وكان من نصارى الشام فقال أيها الأمير انك قد أحسنت إلي وأمنتني ووهبتني أهلي ومالي وولدي وقد اتيتك ببشارة وغنيمة تغنمها المسلمون ساقها الله إليهم فأن اظفرهم الله بها استغنوه غنى لا فقر بعده فقال أبو عبيدة أخبرنا ما هذه الغنيمة وأين تكون فما علمتك الا ناصحا فقال أيها الأمير انها بإزائك على دير الساحل وهو حصن يعرف بأبي القدس وبإزائه دير فيه راهب تعظمه النصرانية ويتبركون بدعائه ويقتبسون من علمه وله في كل سنة عيد يجتمعون اليه من كل النواحي والقرى والأمصار والضياع والأديرة ويقوم عنده سوق عظيم يظهرون فيه فاخر ثيابهم من الديباج والذهب والفضة يقيمون عنده ثلاثة أيام أو سبعة وقد قرب وقت قيام السوق فتأخذون جميع ما فيه وتقتلون الرجال وتسبون النساء والذراري وهذه غنيمة يفرح بها المسلمون ويوهن لها عدوكم
قال الواقدي فلما سمع أبو عبيدة ما قاله المعاهد فرح رجاء ان يكون ما قاله المعاهد غنيمة للمسلمين فقال للمعاهد كم بيننا وبن هذا الدير قال عشرة فراسخ للمجد السائر قال أبو عبيدة وكم بقي إلى قيام السوق قال أيام قلائل قال أبو عبيدة فهل يكون لهم حامية يلي أمرهم ويصد عنهم قال المعاهد لسنا نعرف ما ذكرت في بلاد الملك لأنه لا يصيب بعضنا بعضا لهيبة هرقل في قلوبهم فلما سمع أبو عبيدة قال هل بالقرب منه شيء من مدائن الشام قال نعم بالقرب من السوق مدينة تسمى طرابلس وهي مينا الشام إليها تقدم المراكب من كل مكان وفيها بطريق عظيم كثير التجبر وقد أقطعه الملك إياها من تجبره وهو يحضر السوق وما كنت أعهد ان لهذا السوق حامية من الروم الا ان يكون الآن لخوفهم منكم ولو سار إلى الدير والسوق أدنى المسلمين لرجوت لهم الفتح إن شاء الله تعالى
فقال أبو عبيدة أيها الناس أيكم يهب نفسه لله تعالى وينطلق مع جيش
98

ابعثه فتحا للمسلمين فسكت الناس ولم يتكلم أحد فنادى أبو عبيدة ثانية وانما يريد خالدا بقوله واستحى أن يواجهه في ذلك لأجل عزله فقام من وسط الناس غلام شاب نبت شعر عارضيه واخضر شاربه وكان ذلك الشاب عبد الله بن جعفر رضي الله عنه وكانت أمه أسماء بنت عميس الخثعمية وكان أبوه جعفر رضي الله عنه قد مات في غزوة تبوك وخلف ولده عبد الله صغيرا فتزوجها أبو بكر الصديق رضي الله عنه فلما كبر وترعرع كان يقول لامه يا أماه ما فعل أبي فتقول يا ولدي قتله الروم وكان يقول لئن عشت لآخذن بثأره فلما مات أبو بكر وتولى عمر رضي الله عنه جاء عبد الله إلى الشام في بعث بعثه عمر مع عبد الله بن أنيس والجهني وكان فيه مشابهة من رسول الله صلى الله عليه وسلم في خلقه وخلقه وهو أحد الأصحاب الأسخياء فلما قال أبو عبيدة رضي الله عنه أيها الناس من ينطلق إلى هذا الدير وثب عبد الله بن جعفر الطيار رضي الله عنه فقال أنا أول من يسير مع هذا البعث يا أمين الأمة ففرح أبو عبيدة وجعل يندب له رجالا من المسلمين وفرسان الموحدين وقال له أنت الأمير يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعقد له راية سوداء وسلمها اليه وكان على الخيل خمسمائة فارس منهم رجال من أهل بدر وكان من جملة من سيره مع عبد الله أبو ذر الفغاري وعبد الله بن أبي اوفي وعامر بن ربيعة وعبد الله بن أنيس وعبد الله ابن ثعلبة وعقبة بن عبد الله السلمي ووائلة بن الأسقع وسهل بن سعد وعبد الله بن بشر والسائب بن يزيد ومثل هؤلاء السادات رضي الله عنهم أجمعين
قال الواقدي ولما ان اجتمعت الخمسمائة فارس تحت راية عبد الله بن جعفر وة ما منهم الا من شهد الوقائع وخاض المعامع لا يولون الادبار ولا يركنون إلى الفرار عولوا على المسير وقال أبو عبيدة لعبد الله بن جعفر يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقدم على القوم الا في أول قيام السوق ثم إنه ودعهم وساروا
قال الواقدي وكان في هذه السرية مع عبد الله بن جعفر وائلة بن الأسقع وكان خروجهم من أرض الشام وهي دمشق إلى دير أبي القدس في ليلة النصف من شعبان وكان القمر زائد النور قال وأنا إلى جانب عبد الله ابن جعفر فقال لي يا ابن الأسقع ما أحسن قمر هذه الليلة وأنوره فقلت يا ابن عم أردت رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه ليلة النصف من شعبان وهي ليلة مباركة عظيمة وفي هذه تكتب الارزاق والآجال وتغفر فيها الذنوب والسيئات وكنت أدرت أن أقومها فقلت ان سيرنا في سبيل الله خير من قيامها والله جزيل العطاء فقال صدقت ثم اننا سرنا ليلتنا فبينما نحن سائرون إذ أشرفنا
99

على صومعة راهب وعليه برنس اسود فجعل يتأملنا وينظر في وجوهنا فتفقدنا واحدا بعد واحد ثم جعل يطيل النظر في وجه عبد الله ثم قال أهذا الفتى ابن نبيكم فقلنا لا قال إن نور النبوة يلوح بين عينيه فهل يلحق به فقلنا هو ابن عمه فقال الراهب هو من الورقة والورقة من الشجرة فقال عبد الله أيها الراهب وهل تعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال وكيف لا أعرفه واسمه وصفته في التوراة والإنجيل والزبور وانه صاحب الجمل الأحمر والسيف المشهر فقال عبد الله فلم لا تؤمن به وتصدقه فرفع يده إلى السماء وقال حتى يشاء صاحب هذه الخضراء فأعجبنا كلامه وسرنا والدليل بين أيدينا إذ أتى بنا إلى واد كثير الشجر والماء أمرنا ان نكمن فيه ثم قال لعبد الله بن جعفر اني ذاهب أجس لكم الخبر فقال له عبد الله أسرع في مسيرك وعد الينا بالخبر قال فانطلق مسرعا وأقام عبد الله بن جعفر يحرس المسلمين بنفسه إلى الصباح قال فلما أصبحنا صلينا صلاة الصبح وجلسنا ننتظر رجوع الرسول فلم يأت وأبطأ خبره علينا فقلق المسلمون عليه لاحتباسه وخافوا من المكيدة ووسوس لهم الشيطان وساءت بالدليل الظنون فما من المسلمين الا من ظن بالمعاهد شرا الا أبا ذر الغفاري رضي الله عنه فإنه قال ظنوا بصاحبكم خيرا ولا تخافوا منه كيدا ولا مكرا ان له شأنا تعلمونه قال فسكت الناس بعد ذلك وإذا بصاحبهم قد اقبل قال وائلة بن الأسقع فلما رأيناه فرحنا به وظننا أنه يأمر بالنهوض إلى العدو فاقبل حتى وقف وسط المسلمين وقال يا أصحاب محمد وحق المسيح ابن مريم أني لا أكذبكم فيما أحدثكم به واني رجوت لكم الغنيمة وقد حال بينكم وبينها ماء
فقال له عبد الله رضي الله عنه وكيف حيل بينا وبينها قال حال بينكم وبينها بحر عجاج وذلك اني أشرفت على السوق وقد قام فيه البيع والشراء فاجتمع فيه أهل دين النصرانية وقد دار أكثرهم بالدير دير أبي القدس واجتمع اليه القسس والرهبان والملوك والبطارقة فلما نظرت إلى ذلك لم ارجع حتى اختبرت ما السبب الذي تجمعت له الخلق زيادة على كل سنة وذلك اني مضيت واختلطت بالقوم وإذا بصاحب طرابلس قد زوج ابنته ملكا من ملوك الروم وقد أتوا بالجارية إلى الدير ليأخذوا لها من راهبهم قربانا وقد دار بها فرسان الروم المنتصرة في عددهم وعديدهم كل ذلك خوفا منكم لأنهم يعلمون انكم بأرض الشام يا معاشر المسلمين وما أرى لكم صوابا ان تصلوا إلى القوم لأنهم خلق كثير وجم غفير وجمع غزير فقال عبد الله بن جعفر رضي الله عنه في
100

كم يكون القوم وكم خررتهم فقال اما السوق ففيه أكثر من عشرين ألفا من عوام الروم والأرمن والنصارى والقبط واليهود من مصر والشام وأهل السواد والبطارقة والمنتصرة وأما المستعدون للحرب فخمسة آلاف فارس فما لكم بالقوة طاقة وان وقع طائح في بلادهم انضاف إليهم أمثالهم فان بلادهم متصلة بهم وأما أنتم فعددكم يسير والعرب منكم بعيد
قال الواقدي فصعب ذلك على عبد الله بن جعفر وعلى المسلمين وسقط في أيديهم وهموا بالرجوع فقال عبد الله بن جعفر معاشر المسلمين ما الذي تقولون في هذا الامر فقالوا نرى أن لا نلقي بأيدينا إلى التهلكة كما امر ربنا في كتابه العزيز ونرجع إلى الأمير أبي عبيدة رضي الله عنه والله لا يضيع أجرنا قال فلما سمع عبد الله قولهم قال أما أنا فأخاف ان فعلت ذلك ان يكتبني الله من الفارين وما ارجع أو أبدى عذرا عند الله تعالى فمن ساعدني فقد وقع اجره على الله ومن رجع فلاعتب عليه فلما سمعوا ذلك من عبد الله بن جعفر أميرهم وبذل مهجته استحيوا منه وأجابوه بأجمعهم وقالوا افعل ما تريد فما ينفع حذر من قدر ففرح بإجابتهم ثم عمد إلى درعه فأفرغه عليه ووضع على رأسه بيضة وشد وسطه بمنطقة وتقلد بسيف أبيه واستوى على متن جواده وأخذ الراية بيده وامر الناس بأخذ الأهبة فلبسوا دروعهم واشتملوا بسلاحهم وركبوا خيولهم وقالوا للدليل سر بنا نحو القوم فستعاين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عجبا قال وائلة بن الأسقع رأيت الدليل قد اصفر وجهه وتغير لونه وقالوا سيروا أنتم
برأيكم وما علي من امركم وخرج قال أبو ذر الغفاري فرأيت عبد الله بن جعفر يتلطف به حتى سار بين يديه يدله على القوم ساعة ثم وقف وقال أمسكوا عليكم فإنكم قد قربتم من القوم فكونوا في مواضعكم كامنين إلى وقت السحر ثم أغيروا على القوم قال وائلة بن الأسقع فبتنا ليلتنا حيث أمرنا ونحن نطلب النصر من الله تعالى على الأعداء فلما أصبح النهار صلي بهم عبد الله بن جعفر صلاة الصبح فلما فرغوا من صلاتهم قال ما ترون في الغارة
فقال عامر بن عميرة بن ربيعة أدلكم على أمر تصنعونه قالوا قل قال اتركوا القوم في بيعهم وشرائهم واظهار أمتعتهم ثم اكبسوا عليهم على حين غفلة وغرة من امرهم فصوب الناس رأيه وصبروا إلى وقت قيام السوق ثم اظهروا السيوف من أغمادها وأوتروا القسي وشرعوا لاماتهم وعبد الله بن جعفر امامهم الراية بيده فلما طلعت الشمس عمد عبد الله إلى المسلمين
101

فجعلهم خمسة كراديس كل كردوس مائة فارس وجعل على كل مائة نقيبا وقال تأخذ كل مائة منكم قطرا من أقطار سوقهم ولا تشتغلوا بنهب ولا غارة ولكن ضعوا السيوف في المفارق والعواتق وتقدم عبد الله بن جعفر بالراية وطلع على القوم فنظر إلى الروم متفرقين في الأرض كالنمل لكثرتهم وقد احدق منهم بدير الراهب خلق كثير والراهب قد اخرج رأسه من الدير وهو يعظ الناس ويوصيهم ويعلمهم معالم ملتهم وهم اليه شخوص بابصارهم وابنة البطريق عنده في الدير والبطارقة وأبناؤهم عليهم الديباج المثقل بالذهب ومن فوقهم دروع وجواشن تلمع وبيض وهم ينظرون صيحة بين أيديهم أو طارقا يطرقهم من خلفهم ونظر عبد الله إلى الدير والى ما أحدق به والى الراهب وما حول صومعته فهاله ذلك من امرهم وصاح فيهم قبل الحملة وقال يا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم احملوا بارك الله فيكم فان كانت غنيمة وسرور فالفتح والسلامة ويكون الاجتماع تحت صومعة الراهب وان كان غير ذلك فهو وعدنا الجنة ونلتقي عند حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الصحابة قال وطلب عبد الله الجم العظيم فغاص فيهم وجعل يضرب بسيفه ويطعن برمحه ويحمل المسلمون من ورائه وسمع الروم أصوات المسلمين مرتفعة بالتهليل والتكبير فتيقنوا ان جيوش المسلمين قد أدركتهم وكانوا لذلك منتظرين وعلى يقظة من امرهم فأما السوقة فإنهم تبادروا إلى أسلحتهم والمتع عن أنفسهم وأموالهم وأخرجوا السيوف من الاغمدة وانعطفوا على قتال المسلمين عطفة الأسد الضاري وطلبوا صاحب الراية ولم يكن مع المسلمين راية غيرها فأحدقوا بالراية من كل جانب ومكان وقامت الحرب على ساق وثار الغبار وانعقد وأحدق الروم بالمسلمين فما كان المسلمون فيهم الا كشامة بيضاء في جلد بعير اسود وما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف بعضهم بعضا الا بالتهليل والتكبير وكل واحد مشتغل بنفسه عن غيره وقال أبو سبرة إبراهيم بن عبد العزيز بن أبي قيس وكان من السابقين والمتقدمين بايمانهم في الاسلام وصاحب الهجرتين جميعا قال شهدت قتال الحبشة مع جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وشهدت المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدر وفي أحد وفي حنين وقلت اني لا اشهد مثلها فلما قبض الله صلى الله عليه وسلم حزنت عليه ولم أستطع ان أقيم بالمدينة بعد فقده فقدمت مكة فأقمت بها فعوتبت في منامي من التخلف عن الجهاد فخرجت إلى الشام وشهدت أجنادين والشام وسرية خالد خلف توما وهربيس وشهدت سرية عبد الله بن جعفر وكنت
102

معه على دير أبي القدس فانستني وقعتها ما شهدت قبلها من الوقائع بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك اني نظرت إلى الروم حين حملنا عليهم في كثرتهم وعددهم وقلنا ما ثم غيرهم وليس لهم كمين عظيم قال فرأينا أجسادهم هائلة وعليهم الدروع وما يبين منهم الا حماليق الحدق لهم طقطقة وزمجرة عندما يحملون حتى نظرت إلى المسلمين قد غابوا في أوساطهم ولا اسمع منهم الا الأصوات تارة يجهرون بها وتارة أقول هلكوا
ثم انظر إلى الراية بيد عبد الله بن جعفر رضي الله عنه مرفوعة بذلك وعبد الله يقاتل بالراية ويكر على المشركين ولا يثني ويجاهد على صغر سنة ولم تزل الحرب بيننا كلما طال مكثها اشتد ضرامها وعلا قتامها والتهب نارها وصار عبد الله في وسط القوم وهم حوله كالحلقة الدائرة والروم يحدقون به فجعل كلما حمل يمينا حملت يمينا وان حمل شمالا حملت شمالا ولم نزل في الحرب والقتال حتى كلت منا السواعد وخدرت منا المناكب قال وعظم الامر علينا وهالنا الصبر وتثلم سيف عبد الله في يده وكادت تقع فرسه من تحته فالتجأ بأصحابه في موضع فاجتمع أصحابه اليه فنظر المسملون إلى رايته فقصدوها وما منهم الا مكلوم من المشركين فضاق لذلك ذرعه وما نزل في نفسه مثل ما نزل بالمسلمين فألجأ إلى الله تعالى أمره وفوض إلى صاحب السماء شأنه ورفع يده إلى السماء وقال في دعائه يا من خلق خلقه وابلى بعضهم ببعض وجعل ذلك محنة لهم أسألك بجاه محمد النبي صلى الله عليه وسلم الا ما جعلت لنا من أمرنا فرجا ومخرجا ثم عاد إلى القتال وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتلون معه تحت رايته فلله در أبي ذر الفغاري رضي الله عنه فإنه نصر ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاهد بين يديه قال عمرو بن ساعدة فلقد رايته مع كبر سنه يضرب بسيفه ضربا شديدا في الروم وينتمي إلى قومه ويذكر عند حملاته اسمه ويقول أنا أبو ذر والمسلمون يفعلون كفعلة إلى أن بلغت القلوب الحناجر وظنوا ان في ذلك الموضع قبورهم
قال الواقدي رحمه الله تعالى حدثني عبد الله بن أنيس الجهني قال كنت أحب جعفرا واجب من أولاده عبد الله فلما قبض أبو بكر رضي الله عنه وكان قائما مقام أبيه نظرت إلى أمه أسماء بنت عميس حزينة فكرهت ان انظر إليها في ذلك الحزن وأيضا ان أبا بكر رضي الله عنه في المسير إلى الشام فاستأذن عبد الله بن جعفر عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المسير إلى الشام وقال لي يا ابن أنيس الجهني أشتهي ان ألحق بالشام ومعنا عشرون فارسا أكون مجاهدا أفتصحبني فقلت نعم فودع عمه عليا رضي الله عنه وودع عمر رضي الله عنه
103

وسار يريد الشام ومعنا عشرون فارسا حتى اتينا تبوك فقال يا ابن أنيس أتدري موضع قبر أبي فقلت نعم فقال أشتهي ان أرى الموضع قال فما اتينا الموضع فأريته موضع مصرع أبيه وموضع الوقعة وقبر أبيه جعفر رحمه الله تعالى وعليه حجارة فلما نظر اليه نزل ونزلنا معه وبكى وترحم فأقمنا عنده إلى صبيحة اليوم الثاني فلما رحلنا رايت عبد الله يبكي ووجهه مثل الزعفران فسألته عن ذلك فقال رأيت أبي البارحة في النوم وعليه حلتان خضراوتان وتاج وله جناحان وبيده سيف مسلول اخضر فسلمه
إلى وقال يا بنى قاتل به أعداءك فما وصلت إلى ما ترى الا بالجهاد وكأني أقاتل بالسيف حتى تثلم قال عبد الله بن أنيس وسرنا حتى اتينا عسكر أبي عبيدة رضي الله عنه بدمشق فبعثه أمير تلك السرية إلى دير أبي القدس قال عبد الله بن أنيس فلما رأيت بينه وبين الروم قلت يوشك ان يذهب عبد الله فسرت كالبرق ورجعت إلى أبي عبيدة رضي الله عنه فلما رآني قال أبشارة يا ابن أنيس أم لا فقلت انفذ المسلمين إلى نصرة عبد الله بن جعفر ومن معه ثم حدثته بالقصة فقال أبو عبيدة رضي الله عنه إنا لله وإنا إليه راجعون ايصاب عبد الله بن جعفر ومن معه تحت رأيتك يا أبا عبيدة وهي أول امارتك
قال الواقدي ثم التفت خالد بن الوليد رضي الله عنه فقال له يا أبا سليمان سألتك بالله الحق عبد الله بن جعفر فأنت المعد لها فقال خالد انا لها ان شاء اله وما كنت انتظر الا ان تأمرني فقال أبو عبيدة رضي الله عنه استحيت منك يا أبا سليمان فقال والله لو امر علي طفل صغير لاطيعن له فكيف أخالفك وأنت اقدم مني ايمانا واسبق اسلاما سبقت باسلامك مع السابقين وسارعت بايمانك مع المسارعين وسماك رسول الله بالأمين فكيف ألحقك أو أنال درجتك والان أشهدك اني قد جعلت نفسي حبيسا في سبيل الله تعالى لا أخالفك ابدا ولا وليت امارة بعدها ابدا
قال قال الواقدي فاستحسن المسلمون قوله فقال أبو عبيدة رضي الله عنه يا أبا سليمان الحق اخوانك رحمك الله قال فوثب خالد رضي الله عنه كأنه الأسد وسار إلى رحلة فأفرغ عليه درع مسيلمة الكذاب الذي سلبه منه يوم اليمامة والقى بيضة على رأسه واردفها قلنسوة وتقلد بحسامه وانصب في سرجه كأنه السيل ونادى بجيش الزحف هلموا إلى جزب السيوف فأجابوه مسرعين كأنهم العقبان وبادروا إلى طاعة الرحمن واخذ خالد الراية بيده وهزها على ركابه ودار به عسكر الزحف من كل جانب وودع المسلمون بعضهم بعضا وساروا وسار خالد وعبد الله بن أنيس يدلهم على الطريق قال رافع بن عميرة
104

الطائي كنت يومئذ من أصحاب خالد بن الوليد رضي الله عنه ولم يزل مجدا في السير والله عز وجل يطوي لنا البعيد فلما كان عند غروب الشمس أشرفنا على القوم والروم كالجراد المنتشر قد غرق المسلمون في كثرتهم فقال خالد يا ابن أنيس في جانب أطلب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له انه واعد أصحابه ان يلتقوا عند دير الراهب أو موعدهم الجنة
قال الواقدي فنظر خالد نحو الدير فشاهد الراية الاسلامية وهي بن عبد الله بن جعفر وما من المسلمين الا من أصيب بجرح وقد ايسو من الحياة الفانية وطعموا في الحياة السرمدية والروم تناوشهم بالحرب وتكثر الطعن الضرب وعبد الله بن جعفر يقول لأصحابه دونكم والمشركين واصبروا لقتال المارقين واعلموا انه قد تجلى عليكم ارحم الراحمين ثم قرأ الآية قوله تعالى * (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين) * فلما نظر خالد رضي الله عنه إلى صبرهم وتجلدهم على القتال أعدائهم لم يطق الصبر دون ان حمل عليهم وهز رايته وقال لأصحابه دونكم القوم القباح فأرووا من دمائهم السلاح وأبشروا بالنجاح يا أهل حي على الفلاح قال الواقدي رحمه الله تعالى فبينما أصحاب عبد الله بن جعفر في أشد ما يكونون فيه إذ خرجت عليهم خيل المسلمين وكتائب الموحدين كأنهم الطيور وعليها الرجال كأنهم العقبان الكاسرة والليوث الضارية وهم عائصون في الحديد وقد ارتفع لهم الضجيج وبخيلهم العجيج فلما نظر عبد الله وأصحابه إلى ذلك ظنوا انها نجدة الأعداء فأيقنوا بالهلاك والفناء وجعلوا ينظرون إلى الخيل التي رأوها هي قاصدة إليهم ففزعوا وظنوا ان كمينا من الروم قد خرج لقتالهم فعظم عليهم الامر وقل منهم الصبر واخذهم البهر وقد لحق بالمشركين الدمار واتاهم حرب مثل النار والسيوف تلمع والرؤوس من الرجال تقطع والأرض قد امتلأت قتلى وهم في أيدي المشركين كالاسرى والقوم في أشد القتال والسيف يعمل في الرجال إذ نادى فيهم مناد وهتف بهم هاتف خذل الامن ونصر الخائف يا حملة القران جاءكم النصر من الرحمن ونصرتهم على عبدة الصلبان وقد بلغت القلوب الحناجر وعملت المرهفات البواتر وإذا بفارس على المقدمة كأنه الأسد الزائر أو الليث الهادر ويده تشرق بالأنوار كاشراف القمر فنادى الفارس بأعلى صوته أبشروا يا معاشر حملة القران بالنصر المشيد أنا خالد بن الوليد فلما نظر المسلمون الرباية وسمعوا صوت خالد رضي الله عنه كأنهم كانوا في لجه وأخرجهم فأجابوه بالتهليل والتكبير وكانت أصواتهم كالرعد القاصف والرياح العواصف ثم حمل خالد بن الوليد رضي الله عنه بجيش الزحف الذي لا يفارقه ووضع السيف في
105

الروم قال عامر بن سراقة فما شبهت حملته الا حملة الأسد في الغنم ففرقهم يمينا وشمالا قال فثبت المسلمون وكل علج من الروم شديد يمانع عن نفسه وخالد يطلب ان يصل إلى عبد الله بن جعفر
ولما نظر المسلمون إلى الخيل المقبلة عليها ولم يعلموا ما هي حتى سمعوا صوت خالد بن الوليد رضي الله عنه فقال يا أيها الناس دونكم الأعداء فقد جاءكم النصر من رب السماء ثم حمل المسلمون معه قال وائلة بن الأسقع لقد كنا ايسنا من أنفسنا وأيقنا بالهلاك حتى اتتنا المعونة من الله عز وجل فحملنا بحملة اخواننا قال فما اختلط الظلام حتى نظرت إلى خالد بن الوليد رضي الله عنه والراية بيده وهو يسوق المشركين بين يديه سوق الغنم إلى المراعي والمسلمون يقتلون يأسرون فلله در أبي ذر الغفاري وضرار بن الأزور والمسيب بن نجية الفزاري لقد قرنوا المواكب وهزوا المضارب وقتلوا الروم من كل جانب والتقى ضرار بعبد الله بن جعفر رضي الله عنه فنظر اليه والدم على اكمام درعه كأكباد الإبل فقال شكر الله تعالى لك يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم والله انك لقد اخذت بثأر أبيك وشفيت غليلك فقال عبد الله بن جعفر رضي الله عنه من الرجل المخاطب لي وكان الظلام قد اعتكر وضرار ملثم لا يبين منه الا الحدق فلم يعرفه عبد الله فقال انا ضرار بن الأزور صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال مرحبا بطلعتك وبأخ منا عدل لنا وقام لنصرتنا
معركة ضرار
قال عبد الله بن أنيس فبينما هم على ذلك إذ اقبل خالد بن الوليد رضي الله عنه وجيش الزحف فقال شكر لك الله وأحسن جزاءك ثم قال عبد الله يا ضرار اعلم أن حامية الروم والبطارقة عند الدير لأجل ابنه صاحب طرابلس وما معها من الأموال وقد أحاط بها كل فارس من الروم فهل لك يا ابن الأزور ان تحمل معي فقال وأين هم فقال اما
تنظر إليهم فمد عينه وإذا بحامية الروم وبطريق طرابلس وقد احدقوا بالدير يمنعون عن الجارية والنيران مشتعلة والصلبان تلمع كضوء النار وكأنهم سد من حديد فقال أرشدك الله للخيرات فنعم المرشد أنت احمل حتى احمل معك بحملتك قال فحمل عبد الله بن جعفر من جهته وحمل ضرار بن الأزور من جهته واتبعتهما الرجال وزعقوا في الروم وحماة المشركين وهم يمانعون عن أنفسهم وكان أشدهم منعة بطريقهم فبرز امام القوم وهو يهدر كالبعير ويزأر زئير الأسد يصيح بكلمة الكفر ويحمل حملات الشجعان فقصده ضرار بن الأزور وباطشه في الضرب والتقت الاقران ونظر ضرار إلى العلج وعظم خلقته وتمكنه في
106

سرجه وشدة ضربه وحسن احترازه فاخذ ضرار منه حذره واحترز منه البطريق وطلبه أشد الطلب وكل واحد منهما طامع في صاحبه فانفرد ضرار بن الأزور مع صاحب القوم وكل قرن مع قرنه وليس مع ضرار أحد المسلمين فانبسط ضرار بين أيديهم ليمكر بهم وطلبه البطريق وأصحابه وقصدوه بحملتهم فلما نظر ضرار إلى ذلك قصد موضعا يصلح لمجال الخيل فاعترضه واحد من ظلمة الليل فكبابه الجواد فسقط الأرض هاويا ثم ثار من سقطته يروم اخذ الفرس فلم يجد إلى ذلك سبيلا فوقف مكانه وسيفه وجحفته بيده وجعل يجاهدهم بسيفه وصبر لهم صبر الكرام ولم يأخذه في الله لومة لائم فخفق عليه بطريق الروم واقبل يضرب بعموده فلما لازمه ورمى العمود عليه زاغ ضرار عن الضربة ثم وثب اليه وثبة الأسد وضربه ضربة ازعجت فرس البطريق من تحته وقام على رجليه وشك بيديه وضربه الثانية فوقعت ضربة ضرار في عين جواده فانتكس الجواد إلى الأرض ووقع العلج على ظهره ولم يقدر ان يقوم لأنه مزرد في سرجه فعالجه ضرار قبل وصول غلمانه اليه وضربه على حبل عانقه فنبا سيفه ولم يعمل شيئا فناهضه المعلج وقد ايكن بالهلاك وقبض عليه وكان الجبل العظيم فرماه ضرار تحته وملك صدره واستوى على نحره وكان مع ضرار سكين من صنعة اليمن لا تفارقه فاستلها من غمدها وضرب صدر عدو الله إلى سرته فسقط عدو الله قتيلا وعجل الله روحه إلى النار وبئس القرار
ثم وثب ضرار وملك جواد عدو الله واستوى في سرجه وكان على الجواد كثيرا من الذهب والفضة والفصوص التي تساوي ثمنا كثيرا فلما صار على ظهر الجواد حمل وكبر على المشركين ففرقهم يمينا وشمالا وكان ضرار لما انبسط امام القوم ملك عبد الله بن جعفر الدير ومن فيه ومن معه من المسلمين واحدقوا به ولم يأخذوا منه شيئا حتى رجع خالد رضي الله عنه من اتباع الروم وذلك أن خالدا اتبعهم إلى نهر عظيم كان بينهم وبين طرابلس الشام والروم يعرفون مخاوضه فوقف خالد ورجع إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدهم قد ملكوا الدير وقتلوا العلج وانتشرت الناس في جمع الغنائم وما كان في السوق والفراش والقماش والثياب والطعام وغيره قال وائلة بن الأسقع فجعلنا نجمعه ونأكل الخيرات واخرجوا ما كان في الدير من انية الذهب والفضة والستور والمراتب واخرجوا ابنة البطريق ومعها أربعون جارية لهن حلي وحلل والمال على البراذين والبغال والحمير فانقلب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغنيمة والأموال الجسيمة
قال الواقدي فنسبت تلك السرية لثلاث عبد الله بن جعفر صاحبها
107

وعبد الله بن أنيس مدركها وخالد بن الوليد منجدها ولقى خالد فيها مشقة وجراحا مؤلمة فلما سار واقبل خالد إلى الدير فصاح بصاحبه يا راهب فلم يكلمه فهتف به مرة أخرى وهدده فاطلع عليه وقال ما تشاء وحق المسيح ليطالبنك صاحب هذه الخضراء بدما ء من قتلت فقال خالد كيف يطالبنا وقد أمرنا ان نقاتلكم ونجاهدكم ووعدنا على ذلك الثواب ووالله لولا رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا ان نتعرض لكم لاتركتك في صومعتك بل كنت قتلتك أشر قتلة فسكت الراهب عنه ولم يجبه وانقلب خالد والمسلمون بالغنائم إلى دمشق وأبو عبيدة رضي الله عنه فيها فشكر لهم وسلم خالد وعلى عبد الله بن جعفر رضي الله عنه ورجع إلى مكانه فخمس الغنيمة وقسمها على الناس فدفع لضرار بن الأزور فرس البطريق وسرجه وما عليه من حلى الذهب والفضة والجواهر والفصوص فأتى به ضرار إلى أخته السيدة خولة رضي الله عنها قال فرأيتها تنزع فصوص الجوهر فنفرقها على نساء المسلمين وان الفص منها ليساوي الثمن الكثير قال وعرض السبي على أبي عبيدة رضي الله عنه وفي الجملة ابنة البطريق فقال عبد الله ابن جعفر أريدها قال أبو عبيدة حتى استأذن أمير المؤمنين في ذلك فكتب اليه يعلمه بها وبمسألة عبد الله بن جعفر فكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه هي له فأخذها عبد الله وأقامت زمانا عنده وعلمها الطبخ وكانت من قبل تعرف طبخ الفرس والروم وأقامت عنده إلى أيام يزيد فأخبر بها فاستهلااها منه فأهداها له وكانت عنده وقال عامر بن ربيعة أصابني من غنيمة سوق الدير أثواب ديباج حرير فيها صور الروم وكان في كل ثوب منها صورة حسنة وهي صورة مريم وعيسى عليهما السلام فحملت الثياب إلى اليمن فبيعت بثمن كثير وكتب إلى عمي وأنا مع أبي عبيدة يا ابن أخي ابعث لي من هذه الثياب وأكثر منها فإنها تنفق
قال الواقدي فلما رجع جيش المسلمين غانما كتب أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتابا يخبره بما فتح الله على يديه وما غنم المسلمون من دير أبي القدس ويمدخ خالدا ويشكره ويثني عليه ويخبره بما قال وما تكلم به وسأله في كتابه ان يكتب إلى خالد يستشيره في المسير إلى هرقل أو إلى بيت المقدس وكتب اليه أيضا ان بعض المسلمين يشربون الخمر قال عاصم بن ذؤيب العامري وكان ممن شهد قتال الروم بالشام وفتح دمشق العرب الوافدين من اليمن فأخذوا في الشرب واستطابوا ذلك فأنكر ذلك الأمير أبو عبيدة فقال رجل من العرب أظنه سراقة ابن عامر يا
108

معاشر المسملين خلوا شرب الخمور فإنها تزيل العقول وتكسب الاثم وان رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن شارب الخمر حتى لعن حاملها والمحمولة اليه
وحدثني أسامة بن زيد الليتي عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف الغفاري قال كنت مع أبي عبيدة بالشام فكتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخبره بفتح الشام وفي الكتاب ان المسلمين يشربون الخمر واستقلوا الحد فقدمت المدينة فوجدت عمر رضي الله عنه في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا وعنده نفر في الصحابة وهم عثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف يتحدثون فدفعت الكتاب اليه فلما قرأه جعل يفكر في ذلك ثم قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلد من شربها ثم سأل عمر عليا رضي الله عنه في ذلك وقال ما ترى في هذا فقال علي رضي الله عنه ان السكران إذا سكر هذي وإذا هذي افترى فكتب اليه عمر ان من شرب الخمر فعليه ثمانون جلدة ولعمري ما يصلح لهم الا الشدة والفقر ولقد كان حقهم يراقبوا ربهم عز وجل ويعبدوه ويؤمنوا به ويشكروه فمن عاد فأقم عليه الحد
قال الواقدي ق فلما ورد كتاب عمر رضي الله عنه وقراه نادى في المسلمين من من كان في نفسه حد فليعط ذلك من نفسه وليتب إلى الله عز وجل ففعل ذلك كثير من الناس ممن كان شرب الخمر وأعطى الحد من نفسه ثم قال أبو عبيدة رضي الله عنه اني عزمت على المسير إلى انطاكيا وقصد قلب الروم لعل الله يفتح فتحا على أيدينا فقال المسلمون سر حيث شئت فنحن تبع لك نقاتل أعداءك فسر بقولهم وقال تأهبوا للرحيل فاني سائر بكم إلى حلب فإذا فتحناها توجهنا منها إن شاء الله تعالى إلى انطاكيا فاسرع المسلمون في اصلاح شأنهم واخذوا اهبتهم فلما فرغ أبو عبيدة رضي الله عنه من جميع شغله امر خالد بن الوليد رضي الله عنه ان يأخذ راية العقاب التي عقدها أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأمره ان يسير امام الجيش بعسكر الزحف فسار خالد على المقدمة ومعه ضرار بن الأزور ورافع بن عمرة الطائي والمسيب بن نجيبة الفزاري والناس يتبع بعضهم بعضا وترك على دمشق صفوان بن عامر السلمي وترك عنده خمسمائة رجل وسار أبو عبيدة بالمسلمين ومعه ناس من اليمن ومصر
ذكر فتح حمص
قال الواقدي وسار أبو عبيدة على طريق البقاع واللبوة فلما وصل إلى هناك بعث خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى حمص قال يا أبا سليمان انهض
109

على بركة الله تعالى وعونه ونازل القوم وشن الغارة على ارض العواصم وفنسرين وأنا أسير إلى بعلبك فلعل الله ان يسهل علينا فتحها ثم ودعه وسار خالد رضي الله عنه بمن معه إلى حمص وتوجه أبو عبيدة رضي الله عنه إلى بعلبك إذ ورد بطريق جوسيه ومعه الهدايا والتحف وصالح المسلمين سنة كاملة وقال إن فتحتم بعلبك فانا بين أيديكم ولا نخالف لكم قولا فصالحهم أبو عبيدة رضي الله عنه على أربعة آلاف درهم وخمسين ثوبا من الديباج فلما انبرم الصلح سار أبو عبيدة رضي الله عنه يطلب بعلبك فما بعد من اللبوة الا وقد اشرف عليه راكب نجيب فإذا هو أسامة بن زيد الطائي فقال يا اسامة من اين أقبلت فأتاح نجيبه وسلم على أبي عبيدة رضي الله عنه وعلى المسلمين وقال اتيت من المدينة وسلم اليه كتابا من عمر بن الخطاب رضي الله عنه ففضه أبو عبيدة رضي الله عنه وإذا فيه لا إله إلا الله محمد رسول الله بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى امين الأمة سلام عليك فاني احمد الله لا إله إلا هو واصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم اما بعد فلا مرد لقضاء الله وقدره ومن كتب في اللوح المحفوظ كافرا فلا ايمان له وذلك أن جبلة بن الأيهم الغساني كان قدم علينا ببني عمه وسراة قومه فأنزلتم واجسنت إليهم واسلموا على يدي وفرحت بذلك إذ شد الله عضد الاسلام والمسلمين بهم ولم اعلم ما كمن في الغيب وانا سرنا إلى مكة حرسها الله تعالى وعظمها نطلب الحج فطاف جبلة بالبيت أسبوعا فوطىء رجل من فزارة ازاراه فسقط ازاره عن كتفه فالتفت إلى الفزاري وقال يا ويلك كشفتني في حرم الله تعالى فقال والله ماتعمدتك فلطم جبلة بن الأيهم الفزاري لطمة هشم بها انفه وكسر ثناياه الأربع فأقبل الفزاري إلي مستعيا على جبلة فأمرت باحضاره وقلت له ما حملك على أن لطمت أخاك في الاسلام وكسرت ثناياه الأربع وهشمت انفه فقال جبلة انه وطئ إزاري برجله فحله ووالله لولا حرمة هذا البيت لقتلته فقلت له أقررت على نفسك فاما ان يعفو عنك واما ان اخذ له منك القصاص فقال ايقتص وانا ملك وهو من السوقة قلت قد شملك وإياه الاسلام فما تفضله الا بالعافية فقال اتتركني إلى غدا أو تقتص مني فقلت للفزاري اتتركه إلى غد قال نعم فلما كان الليل ركب في بني عمه وتوجه إلى الشام إلى كلب الطاغية وأرجوا ان الله تعالى يظفرك به فانزل على حمص ولا تنفذ عنها فان صالحك أهلها فصالحهم وان أبو فقاتلهم وابعث عيونك إلى أنطاكية وكن على حذر من المنتصرة والسلام عليك ورحمة الله وعلى جميع المسلمين
110

قال الواقدي فلما قرأ أبو عبيدة الكتاب في سره جهر به مرة أخرى ثم لوى يطلب حمص وكان خالد رضي الله عنه سبقه إليها بثلث الجيش فنزل عليها يوم الجمعة من شوال سنة اربع عشرة من الهجرة النبوية وكان عليها واليا بطريق من قبل هرقل اسمه لقيطا وكان قد مات قبل نزول خالد والمسلمين رضي الله عنهم أجمعين فاجتمع المشركون في كنيستهم العظمى وقال كبيرهم اعلموا ان صاحب الملك قد مات وليس عند الملك خبر من هؤلاء العرب وقد نزلوا علينا وما ظننا ذلك ولقد حسبنا انهم لا ينزلون علينا حتى يفتحوا جوسيه وبعلبك وان أنتم قاتلتوهم وكاتبتم الملك ان يسير إليكم واليا جيشا فان العرب لا تمكن أحدا من جنود الملك ان يسير إليكم ولا يصل لكم وليس عندكم طعام يقوم بكم للحصار فقالوا أيها السيد فما الذي ترى قال تصالحون القوم على ما أرادوا وتقولون نحن لكم وبين أيديكم ان فتحتم حلب وقنسرين وهزمتهم جيش الملك فإذا توجه القوم عنا بعثنا إلى الملك ان يمدنا بجيش عرمرم ويولي من أراد علينا ويستوثق لنا من الطعام والعدد وبعد ذلك نقاتلهم فاستصوب القوم رأيه وقالوا دبرنا بحسن رأيك وتدبيرك فبعث البطريق إلى أبي عبيدة رضي الله عنه جاثليقا كان عندهم معظما ليعقد الصلح بينهم وبين المسلمين فخرج الجاثليق ووصل إلى أبي عبيدة رضي الله عنه وتكلم في الصلح معه بما تحدث به البطريق من امر سير المسلمين إلى حلب وقنسرين والعواصم وأنطاكية فأجابهم أبو عبيدة رضي الله عنه إلى ذلك وصالح القوم وهم أهل حمص على عشرة آلاف دينار ومائتي ثوب من الديباج وعقد الصلح مع القوم سنة كاملة أولها ذو القعدة واخرها شوال سنة اربع عشرة من الهجرة قال وانبرم الصلح وخرجت السوقة من حمص إلى عسكر المسلمين فباعوا واشتروا ورأى أهل حمص سماحة العرب من بيعهم وشرائهم وربحوا منهم ربحا وافيا
ذكر حديث سرية خالد بن الوليد رضي الله عنه
قال الواقدي ان أبا عبيدة دعا بخالد وضم اليه أربعة آلاف فارس من لخم وجذام وطي ونبهان وكهلان وستس وخولان وقال يا أبا سليمان شن الغارة بهذه الكتيبة واقصد بها المعرة وأقرب من معرة حلب وشن بها الغارة على بلدة العواصم وارجع على اثرك ونفذ عيونك وانظر ان كان للقوم نجدة أو ناصر من قومهم أم لا فاجابه خالد إلى ذلك واخذ الراية و تقدم امام الكتيبة وجعل ينشد يقول
111

* اخذتها والملك العظيم
* وانني بحملها زعيم
* لأنني كبش بني مخزوم
* وصاحب لاحمد الكريم
* أسير مثل الأسد الغشوم
* يا رب فارزقني قتال الروم
*
قال الواقدي وسار خالد بن الوليد إلى شيزر ونزل على النهر المقلوب ودعا بمصعب بن محارب اليشكري وضم اليه خمسمائة فارس وأمره ان يشن الغارة على العواصم وقنسرين وسار خالد بن الوليد إلى كفر طاب والمراه والى دير سمعان وجعلت خيل المسلمين تغير يمينا وشمالا على القرى والرساتيق ويأخذون الغنائم والأسارى فرجعوا إلى خالد بن الوليد بالأسارى فسار بهم إلى أبي عبيدة رضي الله عنه فلما نظر إلى خالد وما معه من الغنائم والأموال فرح فرحا شديدا وإذا خلف خالد سواد عظيم قد ارتفعت أصواتهم بالتهليل والتكبير والصلاة على على المبشير النذير فقال أبو عبيدة رضي الله عنه ما هؤلاء يا أبا سليمان
فقال خالد هذا مصعب بن محارب اليشكري وقد عقدت له راية على خمسمائة فارس من قومه ومن أهل اليمن وانه أغار بهم على العواصم وقنسرين وقد اتى بالغنائم والسبي والأموال فالتفت الأمير أبو عبيدة فنظر إلى سرح عظيم من البقر والغنم وبراذين عليها رجال ونساء وصبيان ولهم دوي عظيم وبكاء شديد فقصدهم أبو عبيدة رضي الله عنه وإذا برجال مقرونين في الحبال وهم يبكون على عيالهم ونهب أموالهم وخراب ديارهم فقال أبو عبيدة رضي الله عنه لترجمانه قل لهم ما بالكم تبكون ولم لا تدخلون في دين الاسلام وتطلبون الأمان والذمام لتأمنوا على أنفسكم وأموالكم فقال لهم الترجمان ذلك فقالوا أيها الأمير نحن كنا بالبعد منكم وكانت اخباركم تأتينا وما ظننا انكم تبلغون الينا فما شعرنا حتى اشرف علينا أصحابكم فنهبوا أموالنا وأولادنا وساقونا في الحبال كما ترى
قال الواقدي وكانت الاعلاج زهاء من أربعمائة علج فقال لهم الأمير ان مننا عليكم واطلقناكم من أسركم ورددنا عليكم أموالكم وأهاليكم فهل تكونون في طاعتنا وتؤدون الجزية الينا والخراج فقالوا أوف لنا بذلك ونحن نفعل جميع ما شرطته علينا فعند ذلك اقبل أبو عبيدة رضي الله عنه إلى المسلمين وقال لهم قد رأيت من الرأي ان أؤمن هؤلاء من القتل وارد عليهم أموالهم وعيالهم فيكونوا عبيدا لنا ويعمروا الأرض والبلاد ونأخذ خراجهم وجزيتهم فما أنتم قائلون فما كنت بالذي اقطع امرا الا بمشورتكم فقالوا الرأي في ذلك أيها الأمير ان رأيت صلاحا للمسلمين
112

قال الواقدي ففرض على كل واحد أربعة دنانير وبذلك كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فعند ذلك رد عليهم أموالهم وأولادهم وأقرهم على بلادهم وكتب أسماءهم وأمرهم بالرجوع إلى أوطانهم فلما استقروا في خيامهم أخبروا من كان بالقرب منهم بحسن سيرة العرب وما عاملوهم به من الجميل وقالوا لقد ظننا انهم يقتلوننا ويستعبدون أولادنا والآن قد رحمونا وأقرونا في بلادنا على أداء الجزية والخراج
قال الواقدي فسمعت الروم ذلك فأقبلوا إلى أبي عبيدة رضي الله عنه في طلب الأمان وأداء الجزية والخراج
ذكر فتح قنسرين
قال الواقدي وبلغ الخبر إلى أهل قنسرين ان الأمير أبا عبيدة يعطي الأمان من قصده فأحبوا ان يأخذوا الأمان من أبي عبيدة رضي الله عنه واجمعوا رأيهم على ذلك وان ينفذوا رسولا من غير علم بطريقهم
قال الواقدي وكان على قنسرين والعواصم بطريق من بطارقة الملك من أهل الشدة والبأس وكان أهل قنسرين يخافون منه وكان اسمه لوقا وصاحب حلب عسكره مثل عسكره وسطوته مثل سطوته وكان الملك هرقل قد دعا بهما اليه فقالا له أيها الملك ما كنا نترك ملكنا من غير أن نقاتل قتالا شديدا فشكرهما الملك هرقل على ذلك ووعدهما ان يبعث اليهما جيشا عرمرميا وكانا منتظرين ذلك من وعد الملك لهما وكان مع كل واحد منهما عشرة آلاف فارس الا انهما لا يجتمعان في موضع واحد قال فلما سمع صاحب قنسرين ما قد عزم عليه أهل قنسرين من الصلح مع أبي عبيدة غضب غضبا شديدا وعزم ان يمكر بهم فجمع أهل قنسرين اليه وقال لهم يا بني الأصفر ما تريدون ان اصنع مع هؤلاء العرب وكأنكم بهم وقد اقبلوا الينا يفتحون بلادنا كما فتحو أكثر بلاد الشام فقالوا أيها السيد قد بلغنا انهم أصحاب وفاء وذمة وقد فتحوا أكثر البلاد بالصلح والعدل ومن قاتلهم قاتلوه واستعبدوا أهله وأولاده ومن دخل تحت طاعتهم اقروه في بلده وكان آمنا من سطوتهم والرأي عندنا ان نصالح القوم ونكون آمنين على أنفسهم وأموالنا فقال لهم البطريق لقد أشرتم بالصواب والامر الذي لا يعاب لان هؤلاء العرب قوم منصورون على من قاتلهم وها أنا اعقد لكم الصلح معهم سنة كاملة إلى أن توافينا جيوش الملك هرقل ونعطف عليهم وهم آمنون فنبيدهم عن آخرهم فقالوا افعلوا ما فيه الصلاح
113

قال الواقدي واتفق أهل قنسرين والبطريق على صلح المسلمين وفي قلوبهم الغدر قال وان لوقا البطريق دعا برجل من أصحابه اسمه إصطخر وكان قسيسا عالما بدين النصرانية فصيح اللسان قوي الجنان يعرف العربية والرومية وقد عرف الدينين اليهودية والنصرانية فقال لوقا يا ابانا سر إلى العرب وقل لهم يصالحونا سنة كاملة حتى نبعد القوم بالحيلة والخداع ثم كتب الكتاب إلى الأمير أبي عبيدة رضي الله عنه فقال بعد كلمة كفره اما بعد يا معاشر العرب ان بلدنا منيع كثير العدد والرجال فما تأتونا من قبله ولو أقمتم علينا مائة سنة ما قدرتم علينا وان الملك هرقل قد استنجد عليكم من حد الخليج إلى رومية الكبرى ونحن قد بعثنا إليكم نصالحكم سنة كاملة حتى نرى لمن تكون البلاد ونحن نريد منكم ان تجعلوا بيننا وبينكم علامة من حد ارض قنسرين والعواصم حتى إذا همت العرب بالغارة بدت العلامة تريكم حد ارضنا ونحن نصالحكم خفية من الملك هرقل لئلا يعلم فيقتلنا والسلام ثم خلع على إصطخر خلعة سنية وأعطاه بغلة من مراكبه وعشرة غلمان وسار حتى وصل إلى حمص فرأى الأمير أبا عبيدة رضي الله عنه يصلي بالمسلمين صلاة العصر فوقف إصطخر ينظر ما يفعلون ويعجب من ذلك فلما فرغوا من صلاتهم ونظروا إلى القسيس وثبوا اليه وقالوا له من أنت
ومن اين أقبلت فقال انا رسول ومعي كتاب فمثلوه بين يدي أبي عبيدة فهم القسيس بالسجود له فمنعه أبو عبيدة رضي الله عنه من ذلك وقال له نحن عبيد الله عز وجل فمنا شقي ومنا سعيد فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض فلما سمع إصطخر ذلك بهت وبقي لا يرد جوابا وهو متعجب مما تكلم به الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه فناداه خالد بن الوليد رضي الله عنه وقال له ما شأنك أيها الرجل ورسول من أنت فقال إصطخر اانت أمير القوم فقال خالد لا بل هذا أميرنا وأشار إلى أبي عبيدة رضي الله عنه فقال إصطخر انا رسول صاحب قنسرين والعواصم ثم اخرج الكتاب ودفعه إلى أبي عبيدة رضي الله عنه فأخذه وقرأه على المسلمين فلما سمع خالد بن الوليد رضي الله عنه ما في الكتاب من صفة مدينتهم وكثرة عددهم ورجالهم وتهديدهم بجيوش الملك هرقل حرك رأسه وقال لأبي عبيدة وحق من أيدنا بالنصر وجعلنا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم الطاهر ان هذا الكتاب من عند رجل لا يريد الصلح بل يريد حربنا ثم قال لاصطخر تريدون ان تخدعونا حتى إذا جاءت جنود صاحبكم ورأيتم القوم وقد جاءتكم نقضتم صلحنا وكنتم أول من يقاتلنا وان رأيتم الغلبة لنا هربتم إلى طاغيتكم هرقل فان أردتم ذلك فنواعدكم
114

الحرب مواعدة من غير أن يكون صلحا سنة كاملة فان لحق بكم جيش هذه السنة من الملك هرقل فلا بد من قتاله فمن أقام في المدينة ولم يقاتل مع الجيش فهو على صلحنا لا نتعرض له قال إصطخر قد أجبناكم إلى ذلك فاكتبوا لنا كتابا بذلك فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه أيها الأمير اكتب لهم كتابا بمواعدة الحرب سنة كاملة أولها مستهل شهر ذي القعدة سنة اربع عشرة من الهجرة النبوية قال فكتب له أبو عبيدة رضي الله عنه بذلك فلما فرغ من الكتاب قال له إصطخر أيها الأمير حد بلادنا معروف وبازائنا صاحب حلب وبلاده بحد بلادنا ونريد ان تجعل لنا علامة فيما بيننا وبينكم حتى إذا طلب أصحابكم الغارة لا يتجاوزون ذلك
قال الواقدي فرضني أبو عبيدة رضي الله عنه بذلك وقال انا ابعث من يحدد لكم ذلك قال إصطخر أيها الأمير ما نريد معنا أحدا من أصحابك نحن نصنع عمودا وننصحه ويكون عليه صورة الملك هرقل فإذا رآه أصحابك لا يجاوزنه فقال أبو عبيدة رضي الله عنه افعل ذلك ثم دفع اليه الكتاب ونادى في عساكر المسلمين وأصحاب الغارات من نظر إلى عمود فلا يتعداه ولا يتجاوزه بل يشن الغارة على ارض حلب وحدها ولا يتجاوز العمود فليبلغ الشاهد الغائب
قال الواقدي ورجع إصطخر إلى بطريق قنسرين واعلمه بما جرى له مع خالد بن الوليد رضي الله عنه ودفع له الكتاب ففرح بذلك وقصد إلى عمود عظيم وصنع عليه صورة الملك هرقل كأنه جالس على كرسي مملكته
قال الواقدي وكانت خيل المسلمين تضرب غارتها إلى أقصى بلاد حلب والعمق وأنطاكية ويحيدون عن حد قنسرين والعواصم الا يقربون العمود قال عمر بن عبد الله الغبري عن سالم بن قيس عن أبيه سعد بن عبادة رضي الله عنه قال كان صلح المسلمين لأهل قنسرين والعواصم على أربعة آلاف دينار ملكية ومائة أوقية من الفضة والف ثوب من متاع حلب والف وسق من طعام
115

قال الواقدي حدثنا عامر قال كنا في بعض الغارات إذ نظرنا إلى العمود وعليه صورة الملك هرقل فجئنا عنده وجعلنا نجول حوله بخيولنا ونعلمها الكر والفر وكان بيد أبي جندلة قناة تامة فقرب به الجواد من الصورة وهو غير متعمد ذلك ففقأ عين الصورة وكان عندها قوم من الروم وهم غلمان صاحب قنسرين يحفظون العمود فرجعوا إلى البطريق وأعلموه بذلك فغضب غضبا شديدا ودفع صليبا من الذهب إلى بعض أصحابه وضم اليه ألف فارس من أعلاج الروم وعليهم الديباج الرومي وعليهم المناطق المجوفة وأمر إصطخر ان يسير معهم وقال له ارجع إلى أمير العرب وقل له غدرتم بنا ولم توفوا بذمامكم ومن غدر جندل فأخذ إصطخر الصليب وسار مع الف فارس من الروم حتى اشرف على أبي عبيدة رضي الله عنه فلما نظر المسلمون إلى الصليب وهو مرفوع اسرعوا اليه ونكسوه فاستقبل أبو عبيدة القوم وقال من أنتم قال إصطخر انا رسول صاحب قنسرين إليك وهو يقول لك غدرتم ونقضتم العهد الذي بيننا وبينكم فقال أبو عبيدة رضي الله عنه وحق رسول الله صلى الله عليه وسلم ما علمت بذلك وسوف اسأل عنه ثم نادى يا معاشر الناس من فقأ عين التمثال فليخبرنا بذلك فقالوا أيها الأمير أبو جندلة وسهل بن عمرو صنعا ذلك من غير أن يتعمداه فقال أبو عبيدة رضي الله عنه لاصطخر ان صاحبنا فعل ذلك من غير أن يتعمد فما الذي يرضيك منا فقالت الاعلاج لا نرضى حتى تفقأ عين ملككم يريدون بذلك ان يتطرقوا إلى رقاب المسلمين فقال أبو عبيدة رضي الله عنه ها أنا فاصنعوا بي مثل ما صنع بصورتكم قالوا لا نرضى بذلك الا بعين ملككم الأكبر الذي يلي امر العرب كلها فقال ان عين ملكنا تمنع من ذلك قال الواقدي وغضب المسلمين حين ذكر الاعلاج عين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهموا بقتل الاعلاج فنهاهم أبو عبيدة رضي الله عنه عن ذلك فقال المسلمون أيها الأمير نحن دون امامنا فنفديه بأنفسنا ونفقأ عيوننا دون عينه فقال إصطخر عندما نظر إلى المسلمين وقد هموا بقتله وقتل من معه من الاعلاج لا نفقا عين عمر ولا عيونكم ولكن نصور صورة أميركم على عمود
116

ونصنع به مثل ما صنعتم بصورة ملكنا فقالت المسلمون ان صاحبنا فعل ذلك من غير تعمد وأنتم تريدون العمد فقال أبو عبيدة رضي الله عنه مهلا يا قوم فإذا رضي القوم بصورتي فقد أجبتم إلى ذلك ولا يتحدث القوم عنا اننا عاهدنا وغدرنا فان هؤلاء القوم لا عهد لهم ولا عقل ثم أجابهم إلى ذلك
قال الواقدي فصوروا أبي عبيدة رضي الله عنه على عمود وجعلوا له عينين من زجاج واقبل فارس منهم حنقا ففقأ عين الصورة ثم رجع إصطخر إلى صاحب قنسرين واخبره بذلك فقال لقومه بهذا نالهم ما يريدون قال واقام أبو عبيدة على حمص يغير يمينا وشمالا ينتظر خروج السنة لينظر ما بعد ذلك
قال الواقدي وأبطأ خبر أبي عبيدة على عمر بن الخطاب رضي الله ولم يرد عليه شيء من الكتب والفتح فأنكر عمر ذلك وظن به الظنون وحسب أنه قد داخله خبر وقد ركن إلى القعود عن الجهاد فكتب اليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتابا يقول فيه بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى امين الأمة أبي عبيدة عامر بن الجراح سلام عليك فاني احمد الله الذي لا إله إلا هو واصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وآمرك بتقوى الله عز وجل سرا وعلانية وأحذركم عن معصية الله عز وجل وأحذركم وأنهاكم ان تكونوا ممن قال الله في حقهم قل ان كان آباؤكم وأبناؤكم واخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم الآية وصلى الله على خاتم النبيين
وامام المرسلين والحمد لله رب العالمين فلما وصل الكتاب إلى أبي عبيدة رضي الله عنه قرأه على المسلمين فعلموا ان أمير المؤمنين عمر يحرضهم على القتال وندم أبو عبيدة رضي الله عنه على صلح قنسرين ولم يبق أحد من المسلمين الا بكى من كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقالوا
أيها الأمير ما يقعدك عن الجهاد فدع أهل شيزر وقنسرين واطلب بنا حلب وأنطاكية فلعل الله ان يفتحهما على أيدينا وقد انقضى اجل الصلح
117

وما بقي الا القليل وما البقاء الا للملك الجليل فعزم أبو عبيدة على المسير إلى حلب وعقد راية لسهل بن عمرو وعقد راية أخرى لمصعب بن محارب اليشكري وامر عياض بن غانم ان يسير على مقدمتهم واتبعه خالد بن الوليد وسار أبو عبيدة رضي الله عنه إلى أن نزل على الرشين وصالح أهلها وسار إلى حماة فخرج أهلها اليه ومعهم الإنجيل وقد رفعه الرهبان على أكفهم والقسس امام القوم يطلبون منه الصلح والذمام فلما رآهم أبو عبيدة رضي الله عنه وقف وقال لهم ما الذي تريدون فقالوا أيها الأمير نريد ان نكون في صلحكم وذمامكم فأنتم أحب الينا
قال الواقدي فصالحهم أبو عبيدة وكتب لهم كتاب الصلح والذمام وخلف رجالا من المؤمنين وسار حتى نزل إلى شيزر فاستقبلوه فصالحهم وقال لهم أسمعتم للطاغية هرقل خبرا فقالوا ما سمعنا له خبرا غير أنه اتصل بنا الخبر ان بطريق قنسرين قد كتب إلى الملك هرقل يستنجد عليكم وقد بعث بجبلة بن الأيهم الغساني من بني غسان والعرب المنتصرة ومعه بطريق عمورية في عشرة آلاف فارس وقد نزلوا على جسر الحديد فكن منهم على حذر أيها الأمير فقال أبو عبيدة رضي الله عنه حسبنا الله ونعم الوكيل
قال الواقدي واقام الأمير أبو عبيدة على شيزر وبقي مرة يقول أسير إلى حلب ومرة يقول أسير إلى أنطاكية فجمع امراء المسلمين اليه وقال أيها الناس قد بلغني ان بطريق قنسرين قد نقض العهد وارسل للملك هرقل والخبر كذا وكذا فما أنتم قائلون فقالوا أيها الأمير دع أهل قنسرين والعواصم وسر بنا إلى حلب وأنطاكية فقال خذوا اهبتكم رحمكم الله
قال الواقدي وكان بقي من الصلح والعهد الذي بينهم وبين أهل قنسرين شهر أو أقل من ذلك فأقام أبو عبيدة رضي الله عنه ينتظر انفصال العهد قال وكانت عبيد العرب يأتون بجراثيم الشجر من الزيتون والرمان وغير ذلك من الأشجار التي تطعم الثمار فعظم ذلك على الأمير أبي عبيدة
118

رضي الله عنه فدعا العبيد اليه وقال ما هذا الفساد فقالوا أيها الأمير ان الأحطاب متباعدة منا وهذه الأشجار قريبة فقال الأمير أبو عبيدة عزيمة مني على كل حر وعبد قطع شجرة لها طعم وثمر لاجازينه ولانكلن به فلما سمع العبيد ذلك النكال جعلوا يأتون بالاحطاب من أقصى الديار قال سعيد بن عامر وكان معي عبد نجيب وكان اسمه مهجعا وقد شهد معي الوقائع والحروب وكان جريء القلب في القتال وكان إذا خرج في غارة أو في طلب حطب يتوغل ويبعد فخرج هو وجماعة من العبيد ممن شهد الوقائع في طلب الحطب فأبطأ خبره على سيده سعيد بن عامر فركب جواده وخرج في طلبه وجعل يقفو اثره وإذا لاح له شخص وقد سال دمه على وجهه وصبغ سائر جسده وما كاد يمشي خطوة واحدة الا ويهوي على وجهه قال سعيد بن عامر فنزلت اليه وقلت له ما وراءك من الاخبار فقال هلكة ودمار يا مولاي فقلت عليك يا ابن الأسود حدثني بخبرك قال سعيد فلم يكد يقف حتى سقط على وجهه فنضحت على وجهه ماء فسكن ما به فقال يا مولاي انج بنفسك والا أدركك القوم يصنعون بك مثل ما صنعوا بي فقلت ما القوم الذين صنعوا بك ما أرى فقال خرجت يا مولاي انا وجماعة من الموالي لنحطتب حطبا فتباعدنا كثيرا في البر وإذا نحن بكتيبة من الخيل زهاء عن الف فارس كلهم عرب وفي أعناقهم صلبان الذهب والفضة وهم معتقلون بالذهب والفضة والرماح فلما نظروا الينا اسرعوا نحونا وداروا بنا وعزموا على قتلنا فقلت لأصحابي دونكم وإياهم
فقالوا ويحك ومن يقاتل وليس لنا طاقة بقتال هذه الكتيبة والخيل وما لنا الا ان نلقي بأيدينا إلى الأسر فهو أهون من القتال فقلت لا والله ما سلمت نفسي إليهم دون ان أقاتل قتالا شديدا فلما رأوا مني الجد فعلوا مثل فعلي فقاتلنا القوم وقاتلونا فقتلوا منا عشرة وأسروا عشرة وأما انا فأثخنت بالجراح حتى سقطت على وجهي فرجعوا عني وبقيت كما ترى قال سعيد بن عامر الأنصاري فغمني والله ما نزل بالعبيد فأردفته ورائي ورجعت على اثري وإذا بالخيل قد طلعت من ورائي كأنها الريح الهبوب أو الماء إذا اندفق من ضيق الأنبوب وإذا بخيل غسان أحدقت بالرماح الطوال وهم
119

يقولون نحن بنو غسان من حزب الصليب والرهبان قال سعيد بن عامر فناديتهم انا من أصحاب محمد المختار صلى الله عليه وسلم فأسرع بعضهم إلي وهم ان يعلوني بالسيف فناديته يا ويلك اتقتل رجلا من قومك فقال من أي الناس أنت قلت انا من الخزرج الكرام فرد السيف وقال أنت طلبة سيدنا جبلة بن الأيهم وحق المسيح فقلت ومن اين يعرفني جبلة حتى يطلبني فقال إنه يطلب رجلا من أهل اليمن من أنصار محمد بن عبد الله ثم قال سر بنا طائعا والا سرت كرها قال سعيد بن عامر فسرت والجيش معي حتى أشرفنا على جيش عرمرم وعنده اعلام وصلبان قد رفعت فلم أزل مع القوم حتى اتوا بي إلى مضرب جبلة بن الأيهم وإذا به جالس على كرسي من ذهب احمر وعليه ثياب الديباج الرومي وعلى رأسه شبكة من اللؤلؤ وفي عنقه صليب من الياقوت فلما وقفت بين يديه رفع رأسه إلي وقال من أي عرب أنت قلت أنا من اليمن قال أكرمت من أيها فقلت انا من ولد حارثة بن ثعلبة بن عمرو وبن عامر بن حارثة بن ثعلبة بن امرئ القيس بن عبد الله بن الأزور بن عوف بن مالك بن كهلان بن سبأ فقال جبلة من أي الملأ أنت نسبا فقلت انا من ولد الخزرج بن حارثة من أنصار محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام فقال جبلة وانا من قومك من بني غسان فقلت انا من القبيلة التي نسبت إليها فقال انا جبلة بن الأيهم الذي رجعت عن الاسلام فما رضي صاحبكم عمر بن الخطاب ان يكون مثلي لهذا الدين ناصرا حتى يأخذ مني القود لعبد حقير وانا ملك اليمن وسيد غسان فقلت يا جبلة ان حق الله أوجب من حقك وديننا لا يقوم الا بالحق والنصفة وان عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا يخاف ولا تأخذه في الله لومة لائم فقال لي ما اسمك فقلت سعيد بن عامر الأنصاري فقال اوطيء يا سعيد قال فجلست فقال الك عهد بحسان بن ثابت الأنصاري فقلت شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن قال فيه المصطفى أنت حسان ولسانك حسام فقال لي كم لك منذ فارقته فقلت عهدي به قريب وقد دعاني إلى دعوة صنعها وامر مولاته ان تنشد بها
شعرا فيك فأنشدت
* لله در عصابة نادمتهم
* يوما بجلق في الزمان الأول
*
120

* يغشون حتى ما تهر كلابهم
* لا يسألون عن السواد المقبل
* بيض الوجوه كريمة أنسابهم
* شم الأنوف من الطراز الأول
* الملحقين فقيرهم بغنيهم
* المشفقين على اليتيم الارمل
* أولاد جفنة حول قبر أبيهم
* قبر ابن مارية الكريم المفضل
*
ثم خرجنا إلى الشام وهذا آخر عهدي به قال جبلة بن الأيهم اوحفظ لي هذه المكرمة قلت نعم قال فأمر لي بثوب من الكتان الرومي وفيه شيء من الورق وقال أنا أمرت لك بالكتان كي تلبسه ولا تحرمه ثم قال لي بحق ذمة العرب ما كنت تصنع في المكان الذي أسرت فيه فقلت ان الصدق أوفى ما استعمله الرجل انا من أصحاب الأمير أبي عبيدة بن الجراح وقد قصدنا نريد حلب وأنطاكية فقال جبلة اعلم أن الملك قد بعثني انا وهذا البطريق صاحب عمورية حتى ننصر صاحب قنسرين فإنه قد كادكم بصلحه لكم وانا منتظر ان يلاقينا بهذا المكان ولكن ارجع إلى صاحبك أبي عبيدة وحذره من أسيافنا وقل له يرجع من حيث قدم ولا يتعرض لبلاد هرقل وسوف ينزع من أيديكم ما قد ملكتموه من الشام قال سعيد بن عامر فركبت واردفت غلامي وسرت حتى اتيت عسكر المسلمين فأسرع الناس إلي وقالوا ا اين كنت يا ابن عامر فأتيت خيمة الأمير أبي عبيدة رضي الله عنه وحدثته بقصتي مع جبلة بن الأيهم فقال لي لقد خلصك الله بذكرك لحسان بن ثابت الأنصاري ثم جمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم للمشورة ثم قال أيها الناس ما ترون من قصة هذا البطريق وقد وفينا له وكادنا فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه ان البغي مصرعة وان كادنا كان الله من ورائه بالمرصاد وسوف نكيده أعظم مكيدة وانا أسير إلى لقائه بعشرة رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال
121

أبو عبيدة أنت لها يا أبا سليمان ولكل كريهة فخذ من أحببت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه اين عياض بن غانم الأشعري اين عمرو بن سعيد اين مصعب بن محارب اليشكري اين أبو جندلة بن سعيد المخزومي اين سهل بن عمرو العامري اين رافع بن عميرة الطائي اين المسيب بن نجية الفزازي اين سعيد بن عامر الأنصاري اين عمرو بن معد يكرب الزبيدي اين عاصم بن عمر القيس اين عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه فأجابوه بالتلبية
قال الواقدي وكان ضرار بن الأزور رضي الله عنه رمد العينين لم يحضر هذه الوقعة فقال لهم خالد بن الوليد هلموا فوجدوه قد تدرع بدرع مسيلمة الكذاب الذي استلبه منه يوم اليمامة واشتمل بلامة حربه وركب جواده وقال لعبده همام سر معي حتى ترى مني عجبا فسار معه وسار خالد بن الوليد رضي الله عنه والعشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو عبيدة يا سعيد اما أخبرك جبلة بن الأيهم من اين يأتي البطريق صاحب قنسرين اليه فقال نعم يا أبا سليمان أخبرني فقال له خذنا في الطريق إلى جبلة بن الأيهم رضي الله عنه يدعو لهم بالنصر فأقبل خالد على سعيد بن عامر الأنصاري وقال حتى نكمن له فيه فإذا اتى البطريق صاحب قنسرين كدناه كما كادنا ودمرناه ومن معه فسار سعيد امام القوم يدلهم ويجد السر طالب عسكر جبلة بن الأيهم وكان مسيرهم ليلا فلما وصلوا إلى قرب النيران وسمعوا أصوات القوم عدل بهم سعيد بن عامر إلى صوب طريق البطريق وكمن بمن معه من الرجال إلى وقت الصباح فلم يأت أحد فصلى خالد بأصحابه صلاة الفجر وهم في المكمن فبينما هم في المكمن إذ اشرف عليهم جيش جبلة بن الأيهم والعرب المتنصرة وصاحب عمورية وهم طالبون ارض العواصم وقنسرين فقال المسلمون لخالد يا أبا سليمان أما ترى هذا الجيش الذي قد اشرف علينا في عدد الشوك والشجر فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه فما يكون من
122

كثرتهم إذا كان النصر لنا والله معنا فاختلطوا بهم أنتم وكونوا في جملتهم كأنكم من جيشهم إلى أن نلتقي بالبطريق صاحب قنسرين ويفعل الله تعالى ما يشاء ويختار فعند ذلك اختلطوا بهم وصاروا في جملتهم وهم لا يفترقون قال رافع بن عميرة الطائي فلما أشرفنا على حد صلحنا ولاح لنا بلد العواصم وقنسرين إذا ببطريقها قد استقبلنا وقد رفع امامه الصليب واخرج بين يديه القسوس والرهبان وهم يقرأون الإنجيل وقد ارتفعت أصواتهم بكلمة الكفر ودنا بعضهم من بعض
وخرج البطريق امام الصحابة ليأتي إلى جبلة بن الأيهم يسلم عليه فاستقبله خالد بن الوليد رضي الله عنه مواجها له وحوله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قرب البطريق منهم قال سلمكم المسيح وأبقاكم الصليب فقال خالد ويا ويلك ما نحن من عباد الصليب بل نحن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد الحبيب وكشف خالد بن الوليد رضي الله عنه وجهه ونادى لا إله إلا الله وحده لا شريك له وان محمدا عبده ورسوله يا عدو الله انا خالد بن الوليد انا المخزومي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وضرب بيده البطريق وقبض عليه واتنزعه من سرجه وبرز أصحاب رسول الله عليه وسلم وسلوا السيوف على أصحابه وارتفعت الضجة
والجلبة واعلن العدو بكلمة الكفر وضج المسلمون بكلمة التوحيد وسمع جبلة وصاحب عمورية أصوات المسلمين وقد ارتفعت بالتهليل والتبكير فانزعجوا لذلك ونظروا إلى السيوف وقد جردت والرماح وقد شرعت فبرزوا نحو أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحاطوا بهم من كل جانب ومكان فلما نظر خالد إلى ما دهمه ونزل بأصحابه الذين معه والبطريق صاحب قنسرين لا يفارقه وقد ملك قياده وهو خائف ان ينفلت من يديه أو تجري عليه حادثة قبل ان يقتله هم خالد ان يقتله ورفع السيف ليعلوه به فتبسم البطريق من فعاله وعجب خالد من ضحكه وقال ويلك مم ضحكك فقال البطريق لأنك مقتول أنت ومن معك وتريد قتلي وان أنت أبقيت علي
123

فهو أصوب فتركه خالد ولم يقتله ثم صاح خالد بأصحابه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كونوا حولي واحموا عني واصبروا على ما نزل بكم ولا يكثر عليكم من احدق بكم فان أشد ما تخافون منه القتل والموت منية خالد في سبيل الله واني والله أهديت نفسي للقتل مرارا لعلي ارزق الشهادة واعلموا رحمكم الله ان حجتنا واضحة ومفوضة إلى الله عز وجل وكأني بكم وقد وصلتم إلى ربكم وسكنتم دارا لا يموت ساكنها ثم قرأ لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين
124

جبلة يحارب خالدا
قال الواقدي فاجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خالد رضي الله عنه وداروا من حوله وسار عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن يمينه ورافع بن عميرة عن يساره وعبده همام من ورائه وأصحابه محدقون به وسلم خالد البطريق صاحب قنسرين إلى عبده همام وقال اوثقه إلى جانبك ولا تبرح من مكانك وأبشر بالنصر من الله عز وجل
قال الواقدي وأقبلت إليهم العرب المنتصرة يقدمهم جبلة بن الأيهم في عنقه صليب من الذهب الأحمر وفيه طوق من الجوهر وعليه ثياب الديباح المزركش ومن فوقه درع مذهب الزرد وعلى رأسه بيضة من الذهب وعلى أعلاها صليب من الجوهر وفي يده رمح طويل وسنانه يضيء كالقنديل وصاحب عمورية كالبرج المشيد ومن حوله الاعلاج المدلجة وقد احدق بهم الجيش من كل جانب فلما نظر صاحب عمورية إلى خالد بن الوليد رضي الله عنه وقد ملك صاحب قنسرين وهو في يده أسير خاف ان يعجل عليه خالد فأقبل إلى جبلة وقال له وحق المسيح ما هؤلاء العرب الا شياطين الا ترى إلى هذا العربي ومعه وهم عشرة رجال وقد احدق بهم هذا الجيش العظيم وما يفكرون فيه وقد ملكوا صاحبنا وهو معهم أسير ولا يخلص من أيديهم واني خائف عليه ان يقتلوه وهو عزيز عند الملك هرقل فأخرج إلى هذا العربي وقل له يخلي صاحبنا ويوصله الينا حتى نجود لهم بأنفسهم فإذا أطلقوا صاحبنا حملنا عليهم وقتلناهم عن آخرهم قال رافع ابن عميرة الطائي فبينما نحن وقوف حول خالد بن الوليد رضي الله عنه وجيش الروم والعرب المنتصرة محدقون بنا ونحن لا نفكر في كثرتهم لأنا واثقون بالله عز وجل وإذا بجبلة بن الأيهم وهو ينادي برفيع صوته ويقول من أنتم من أصحاب محمد المعروفين من أنتم من العرب التابعين أخبرونا من قبل ان ينزل بكم الدمار فكان المكلم له خالد وبادره بالخطاب وقال له بل نحن من أصحاب محمد المختار المعروفين بأهل القبلة والاسلام والاكرام والانعام وأما سؤالك عن انسابنا فنحن الآن من قبائل شتى وقد جعل الله كلمتنا واحدة ونحن مجتمعون عليها وهي قول لا إله إلا الله محمد رسول الله زاده
125

الله تعالى شرفا فلما سمع جبلة كلام خالد بن الوليد غضب غضبا شديدا إذ لم يفكر فيه ولا فيمن معه
فقال جبلة يا فتى أنت أمير هؤلاء العرب فقال خالد لست أميرهم بل أخوهم في الاسلام وهم اخواني المؤمنون فقال جبلة من أنت من أصحاب محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم فقال خالدا انا المعروف بكبش بني مخزوم انا خالد بن الوليد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الرجل الذي عن يميني هو عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهذا الذي عن شمالي من أهل اليمن من كرام طيء وهو رافع بن عميرة الطائي صهري وفؤادي وذلك اني اخذت من كل قبيلة شجاعها المعروف وبطلها الموصوف فلا تزدر بقتلنا ولا تفرح بكثرتهم فما أنتم في القتال الا كطيور وقع عليها صائدها وهي كامنة في أوكارها فألقى القانص الشبكة عليها فما انفلت منها الا النجيب
قال الواقدي فزاد غضب جبلة من كلام خالد وقال له ستعلم ان كلامك عليك ميشوم إذا دارت بك الأسنة وبقيت أنت ومن معك طعاما للوحوش في هذه الفلاة تمزقكم بكرة وعشيا فقال له خالد ذلك لا يكثر علينا وهو سهل لدينا فأنت من العرب التي قد نسبت لعبادة الصليب فقال انا سيد بني غسان ومن ملوك همدان انا ملك غسان وتاجها انا جبلة بن الأيهم فقال أنت المرتد عن دين الاسلام ومن اختار الضلالة على الهدى وسلك سبيل الغي وصل وغوى فقال جبلة لست كذلك انا الذي اخترت العز على الذل والهوان فقال خالد فإنك على ذل نفسك حريص وانما الكرامة غدا في دار البقاء والبعد عن دار الشقاء فقال جبلة يا أخا بني مخزوم لا تفرط علينا في المقال فإنما بقائي عليك وعلى أصحابك بسبب هذا الأسير الذي في يدك لأني أخاف ان حملت عليكم قتلته وهو معظم عند الملك هرقل وقريب عنده في النسب فأطلقه من يدك حتى أجود عليكم بأنفسكم فقال خالد اما أسيري فلا أطلقه من يدي حتى اقتله ولا أبالي لما صنع بي بعده واما قولك تحمل علي وعلى من معي بهذه الجموع فما أنصفت في المقال فإذا أردت النصفة في القتال فجمعكم عظيم وعددكم كثير ونحن عشرة رجال وقد فارس وهذا أميركم فان قتلتمونا فقد خلصتم اسيركم وان اظفرنا الله أحدقت بنا أعنت خيولكم وأسنة رماحكم وطيال سيوفكم فابرزوا فارسا بكم وما النصر الا من عند الله فما يعظم عليكم هلاك اسيركم إذا هلكت أنفسكم قبله
126

قال الواقدي فعند ذلك نكس جبلة رأسه واقبل يحدث صاحب عمورية بجواب خالد بن الوليد رضي الله عنه فغضب صاحب عمورية غضبا شديدا وانتضى سيفه فلما نظر خالد بن الوليد إلى البطريق وقد جرد سيفه علم أنه يريد القتال فلما هم صاحب عمورية بالحملة امسكه جبلة ومنعه عن الحملة واوقفه تحت صليبه واقبل جبلة على خالد بن الوليد وقال يا أخا بني مخزوم ان الحرب كما ذكرت تحتمل النصفة وهؤلاء بنوا الأصفر اعلاج الروم غنم ما يعرفون النصفة في البراز وقد حدثتهم بحديثك معي وقد رضوا منك بالمبارزة فمن أراد منكم المبارزة فليبرز قال رافع بن عميرة الطائي فعزم خالد بن الوليد ان يبرز فمنعه عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وقال
يا أبا سليمان وحق القبر الذي ضم أعضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وحق شيبة أبي بكر الصديق رضي الله عنه لا يبرز لهؤلاء القوم غيري وابذل المجهود فيهم فلعلي الحق بأبي بكر الصديق فتركه خالد وقال اخرج شكر الله مقالك وعرف لك مفالك قال فخرج عبد الرحمن ابن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهو على فرس كان لعمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان دفعه له من قسمة غنيمة وقعة أجنادين وكان الجواد من خيل بني لخم وجذام من العرب المتنصرة وكان كالطود العظيم وعبد الرحمن غارقا في الحديد والزرد النضيد وبيده قناة تامة الطول فجال عبد الرحمن بجواده بين عساكر الروم والعرب المتنصرة ودعاهم إلى القتال والبراز والنزال وقال دونكم والقتال فأنا ابن الصديق ثم جعل يقول
* أنا ابن عبد الله ذي المعالي
* والشرف الفاضل ذي الكمال
* أبي المجيد الصادق المقال
* أدين هذا الدين بالفعال
*
ثم طلب البراز قال رافع بن عميرة فخرج اليه خمسة فوارس من شجعان الروم فما كان يجول عبد الرحمن على الفارس الا جولة واحدة فيصرعه قتيلا فلما قتل الخمسة فوارس توقفوا عنه فهم بالحملة على عسكر الروم فخرج اليه جبلة بن الأيهم وقد اشتد به الغضب فلما قرب من عبد الرحمن قال له يا غلام قد تعديت علينا في فعالك وبغيت علينا في قتالك فقال عبد الرحمن وكيف ذلك وما البغي من شيمتنا قال جبلة لأنك قد ملأت الأرض من قتلانا وما خرجت إليك أقاتلك لأنك لست لي كفؤا في القتال وانما خرجت إليك لان رجلا من أصحابك قد خرج يعينك وليس هذا من شيم الاشراف والانصاف قال فلما سمع عبد الرحمن كلام جبلة تبسم وقال يا ابن الابهم تريد ان تخدعني وانا تربية الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقد شهدت معه الوقائع والقتال فقال جبلة لست مخادعا وما قلت الا حقا فقال عبد الرحمن فأخرج بإزاء من خرج معي فارسا من قومك ان كنت صادقا في مقالتك واحمل على علي فاني كفء كريم
قال الواقدي فلما نظر جبلة بن الأيهم إلى عبد الرحمن وانه لا يؤتي من قبل الخداع والحيل قال هل لك يا غلام ان تلقي بيدك الينا واغمسك في ماء المعمودية غمسة تخرج منها نقيا من الذنوب كما خرجت من بطن أمك وتكون من حزب الصليب والإنجيل
127

وتأكل القربان وتأخذ الجائزة العظيمة من الملك هرقل وأزوجك ابنتي وأقاسمك نعمتي واتفضل عليك باكرامي وانعامي وانا الذي مدحني شاعر نبيكم حيث يقول
* ان ابن جفنة من بقية معشر
* لم تغذهم آباؤهم باللوم باللوم
* يعطي الجزيل ولا يراه بأنه
* الا كبعض عطية المذموم
* لم ينسني بالشام إذ هو بارح
* يوما ولا متنصرا بالروم
* ان جئته يوما تقر بمنزل
* تسقي براحته من الخرطوم
*
فأسرع إلى ما عرضته عليك لتنجو من المهالك وتكون في النعم والعيش السليم فقال عبد الرحمن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يا ويلك يا ابن اللئام أتدعوني من الهدى إلى الضلال ومن الايمان إلى الكفر والجهالة وأنا ممن وقر الايمان في قلبه وعرف رشده من غيه وصدق نبي الله وابغض من كفر بالله فدونك والقتال ودع عنك الخديعة والمحال وتقدم إلى ما عزمت عليه حتى أضربك ضربة أعجل بها حمامك وارغم بها انفك وتستريح العرب من أن تنسب إليك لأنك كافر بالرحمن وعابد للصلبان قال فغضب ج 4 بلة من كلام عبد الرحمن جعل عليه وهم به ورفع رمحه يريد ان يطعنه فزاع عبدلارحمن من الطعنة وحمل على جبلة حملة عظيمة وتطاعنا بالرماح حتى كل عبد الرحمن من حمل قناته فرماها من يده وانتضى سيفه وتعاركا في الحرب فهجم عبد الرحمن على جبلة وضرب رمحه فبراه فرمى جبلة باقي الرمح من يده وانتضى سيفه من غمده وكان من سيوف كندة من بقايا كأنه صاعقة بارقة ما ضرب به شيءا الا براه وحمل على عبد الرحمن رضي الله عنه حملة عظيمة قال رافع بن عميرة الطائي فعجبنا والله من عبد الرحمن وصبره على قتال جبلة ومنازلته على صغر سنه وقلة أعوانه ثم التقيا بضربتين واصلتين فسبقه عبد الرحمن بالضربة فأخذها جبلة من حجفته فقطع الدرق ونزل السيف إلى البيضة فاثنى سيف عبد الرحمن عنها لأنها ذات سقاية عظيمة فجرحه جرحا واضحا اسال دمه وضربه جبلة ضربة واصلة فقطع ما كان عليه من الزرد والدروع والثياب ووصلت الضربة إلى منكبه فجرحته فلما أحسن عبد الرحمن رضي الله عنه بالضربة قد وصلت اليه ثبت نفسه وارى قرينه كأن الضربة لم تصل وحرك جواده وأطلق عنان فرسه حتى لحق بخالد بن الوليد رضي الله عنه وأصحابه فلما وصل إليهم قال له خالد قد وصل إليك عدو الله بضربته فقال نعم وأظهر له ضربته وما لحقه فأخذوه عن فرسه وسدوا جراحه فقال يا ابن الصديق ان كان جبلة قد وصل إليك بضربته فوحق بيعة أبيك لافجعنهم في أسيرهم كما
فجعوني بك ثم صاح خالد بعبده همام وقال قدم هذا العلج فقدمه بين يديه فضربه بسيفه فأطاح رأسه عن جسده فلما نظرت الروم إلى صاحبهم وقد قتله خالد فجعهم ذلك وغضب جبلة وقال أبيتم الا الغدر وقتلتم صاحبنا ثم صاح في الروم والعرب المتنصرة وهموا بالحملة ونظر خالد إليهم وقد حملوا على المسلمين فقال لعبده همام قف أنت عند عبد الرحمن فامنع عنه من اراده بسوء ثم قال
128

لأصحابه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخرج أحد منكم عن صاحبه وكونوا حولي فما اسرع الفرج والنصر من الله عز وجل فوقف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حول خالد بن الوليد رضي الله عنه كما امرهم وما قصدهم الا من آيس من نفسه وحملت الروم والعرب المتنصرة بأجمعهم وثبت لهم المسلمون الأخيار وعظم بينهم القتال ودارت بهم الأهوال قال ربيعة بن عامر والله لقد كان خالد بن الوليد كلما كثرت الخيل حولنا وازدحمت علينا يتقيها بنفسه ويفرقها بسيفه ولم نزل كذلك حتى أخذنا العطش والظما قال رافع بن عميرة الطائي فلما رايت ذلك قلت لخالد بن الوليد يا أبا سليمان لقد نزل بنا القضاء فقال والله لقد صدقت يا ابا عميرة لأني نسيت القلنسوة المباركة ولم اصحبها معي
قال الواقدي وقد عظم عليهم الامر وعز منهم الصبر واخذهم الانبهار ورأوا من المشركين الدمار والأرض قد ملئت من قتلى المشركين وهم بين الروم كأنهم أسرى وإذ قد نادى بهم مناد وهتف بهم هاتف وهو يقول خذل الآمن ونصر الخائف أبشروا يا حملة القرآن جاءكم الفرج من الرحمن ونصرتم على عبدة الأوثان هذا وقد بلغت القلوب الحناجر وعملت السيوف البواتر ودارت عليهم الحوافر
قال الواقدي حدثنا بسرة عن إسحاق بن عبد الله قال كنت مع أبي عبيدة رضي الله عنه فبينما نحن في شيرزة وأبو عبيدة في مضربه وإذا به قد خرج في بعض الليل من مضربه وهو ينادي النفير النفير يا معشر المسلمين لقد أحيط بفرسان الموحدين قال فأسرعنا اليه من كل جانب ومكان وقلنا له ما نزل بك أيها الأمير فقال الساعة كنت نائما إذ طرقني رسول الله صلى الله عليه وسلم وجرني وقال لي معنفا يا ابن الجراح اتنام عن نصرة القوم الكرام فقم والحق بخالد بن الوليد رضي الله عنه فقد أحاط به القوم اللئام وانك تلحق به إن شاء الله تعالى رب العالمين
قال الواقدي رحمه الله تعالى فلما سمع المسلمون قول أبي عبيدة رضي الله عنه تبادروا إلى لبس السلاح والزرد وركبوا خيولهم وساروا يريدون خالدا ومن معه قال فبينما الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه على المقدمة في أوائل الخيل إذ نظر إلى فارس يسرع به جواده وهو أمام الخيل ويكر في سيره كرا فأمر أبو عبيدة رضي الله عنه رجالا من المسلمين ان الحقوا به فلم يقدروا على ذلك لسرعة جواده قال فلما كلت الخيل عن ادراكه نظر أبو عبيدة اليه وظن أنه من الملائكة قد ارسله الله امامهم غير أنه نادى به الأمير أبو عبيدة على رسلك أيها الفارس المجد والبطل المكد ارفق بنفسك يرحمك الله فوقف الفارس حين سمع النداء فلما قرب أبو عبيدة من الفارس إذا هي أم تميم زوجة خالد بن الوليد رضي الله عنه فقال لها أبو عبيدة ما حملت على المسير امامنا فقالت أيها الأمير اني سمعتك وأنت تصيح وتضج بالنداء وتقول ان خالدا أحاطت به الأعداء فقلت ان خالدا ما يخذل ابدا ومعه ذؤابة المصطفى صلى الله عليه وسلم إذ حانت مني التقاتة إلى
129

القلنسوة المباركة وقد نسيها فأخذتها وأسرعت اليه كما ترى فقال أبو عبيدة لله درك يا أم تميم سيري على بركة الله وعونه قالت أم تميم كنت في جماعة نسوة من مذحج وغيرهم من نساء العرب والخيل تطير بنا طيرا حتى أشرفنا على الغبرة والقتال ونظرنا الأسنة والصوارم تلوح في القتال كأنها الكواكب وما للمسلمين حس يسمع قالت فأنكرنا ذلك وقلنا إن القوم قد وقع بهم عدوهم فعند ذلك كبر الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه وحمل وحملت المسلمون قال رافع بن عميرة فبينما نحن قد أيسنا من أنفسنا إذ سمعنا التهليل والتكبير فلم تكن الا ساعة حتى أحاط جيش المسلمين بعسكر الكافرين ووضعوا السيوف من كل جانب وعلت الأصوات وارتفعت الزعقات قال مصعب بن محارب اليشكري فرأيت عبدة الصلبان وهم هاربون ورأيت خالد بن الوليد رضي الله عنه وهو ثابت في سرجه متشوف إلى الأصوات من اين هي وإذا بفارس قد خرج من الغبار وهو يسوق فرسان الروم بين يديه ويهربون منه حتى أزاح من حولنا الكتائب والرجال فأسرع خالد بن الوليد اليه وقال من أنت أيها الفارس الهمام والبطل الضرغام فقالت انا زوجتك أم تميم يا أبا سليمان وقد أتيتك بالقلنسوة المباركة التي تنصر بها على أعدائك فخذها إليك فوالله ما نسيتها الا لهذا الامر المقدر ثم سلمتها اليه فلمع من ذؤابة رسول الله صلى الله عليه وسلم نور كالبرق الخاطف
قال الواقدي وعيش عاش فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما وضع خالد القلنسوة على رأسه وحمل على الروم الا قلب أوائلهم على اواخرهم وحملت المسلمون حملة عظيمة فما كان غير بعيد حتى ولت الروم الادبار وركنوا إلى الفرار ولم يكن في القوم الا قتيل وجريح وأسير وكان جبلة أول من انهزم والعرب المتنصرة اثره فلما رجع المسلمون من اتباعهم اجتمعوا حول راية الأمير أبي عبيدة رضي الله عنه وأتباعه وسلموا على الأمير أبي عبيدة رضي الله عنه وعن المسلمين وشكروا الله على سلامتهم ونظر أبو عبيدة رضي الله عنه إلى خالد بن الوليد وأصحابه وهم كأنهم قطعة ارجوان فصافحه وهنأه بالسلامة وقال لله درك يا أبا سليمان قد أشفيت الغليل وأرضيت الملك الجليل ثم قال الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه يا معاشر الناس قد رأيت أن نسير من وقتنا هذا ونغير على قنسرين والعواصم ونقتل الرجال وننهب الأموال فقال المسلمون نعم ما رأيت يا امين الأمة
قال الواقدي فانتخب أبو عبيدة رضي الله عنه فرسانا فجعلهم في المقدمة عياض بن غانم الأشعري وساروا حتى أشرفوا على قنسرين والعواصم فقال لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شنوا الغارات فشنوا الغارات عليهم وسبوا الذراري وقتلوا الرجال فلما نظر أهل قنسرين إلى ذلك غلقوا مدينتهم وأذعنوا بالصلح وأداء الجزية فأجابهم أبو عبيدة رضي الله عنه إلى ذلك وكتب لهم كتاب الصلح وفرض على كل رأس منهم أربعة دنانير وبذلك أمره عمر بن الخطاب رضي الله عنه
قال الواقدي لما فتح أبو عبيدة رضي الله عنه قنسرين والعواصم قال لأصحاب
130

رسول الله صلى الله عليه وسلم أشيروا علي برأيكم رحمكم الله فان الله تعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم * (وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله) * الآية فهل أسير إلى حلب وقلاعها وأنطاكية وملوكها وعساكرها أو نرجع إلى ورائنا فقالوا أيها الأمير كيف نرجع إلى حلب وأنطاكية وهذه أيام انقضاء الصلح الذي بيننا وبين أهل شيزر وأرمين وحمص وجوسية ولا شك انهم قد اخذوا الحصار وقووا بلادهم بالأطعمة والرجال ونخاف ان يتغلبوا علينا فيما اخذناه من البلاد ويغيروا علينا لا سيما بعلبك وحصنها فإنهم أولو شدة وعديد ونرى من الرأي أنا نرجع إليهم ونقاتلهم فلعل الله عز وجل ان يفتح على أيدينا قال فاستصوب ورجع على طريقه فوجدوا البلاد كما قالوا قد تحصنت بالعدد والرجال والطعام ولم يكن لأبي عبيدة قصد الا حمص فوجدها قد تحصنت بالعدد والعديد وقد بعث إليها الملك هرقل بطريقا من أهل بيته وكان من أهل الشدة والبأس ومعه جيش عرمرم وكان اسم البطريق هربيس فلما نظر أبو عبيدة إلى ذلك ترك على حمص خالد بن الوليد رضي الله عنه وسار هو إلى بعلبك فلما قرب منها وإذا بقافلة عظيمة فيها جمع من الناس ومعهم البغال والدواب وعليها من أنواع التجارات وقد أقبلت من الساحل يريدون بعلبك فلما نظر أبو عبيدة رضي الله عنه إلى سوادها قال لمن حوله من الفرسان ما هذا الا جمع كثير أمامنا فقالوا لا علم لنا بذلك فقال علي بخبرهم فسارت الخيل إليهم واخذت اخبارهم ورجع بعضهم بخبرها والقافلة من قوافل الروم محملة متاعا قال شداد بن عدي وكانت احمال القافلة أغلبها سكر وكانت لأهل بعلبك فلما سمع أبو عبيدة ذلك قال إن بعلبك لنا حرب وليس بيننا وبينهم عهد فخذوا ما قد ساقه الله إليكم فإنها غنيمة من عند الله
قال الواقدي فاحتوينا على القافلة وكان فيها أربعمائة حمل من السكر والفستق والتين وغير ذلك وأخذنا أهلها أسارى فقال أبو عبيدة رضي الله عنه كفوا عن القتل واطلبوا منهم الفداء فابتعناهم أنفسهم بالذهب والفضة والثياب والدواب وصنعنا من السكر العصيدة والفالوذج بالسمن والزيت ودعس المسلمون دعبنا وبتنا حيث حوتنا القافلة فلما أصبح الصباح أمرنا أبو عبيدة رضي الله عنه بالمسير إلى بعلبك والنزول عليها وكان قد هرب قوم من القافلة وأخبروا أهل بعلبك بالقافلة
قال الواقدي وكان على بعلبك بطريق عظيم يقال له هربيس وكان شديد البأس شجاع القلب فلما اتاه الخبر بقدوم عساكر المسلمين جمع رجاله وأهل الحرب وأمرهم بلبس السلاح والعدد وخرج بعسكره وجعل يسير وهو يعلم أن الأمير أبا عبيدة رضي الله عنه سائر إليهم بجيوش المسلمين فلما انتصف النهار وتراءى الجمعان وكان هربيس معه سبعة آلاف فارس سوى من اتبعه من سواد بلده ونظر طوالع جيش أبي عبيدة رضي الله عنه ونظر المسلمون إلى ذلك نادوا النفير فعندها تبادرت الفرسان
131

وتقدمت الشجعان وشرعوا رماحهم وجردوا سيوفهم وصف هربيس رجاله وعباهم تعبيئة الحرب فقال له بعض بطارقته ما الذي تريد ان تصنع مع العرب فقال أقاتلهم لئلا يطمعوا فينا فينزلوا على مدينتنا فقالوا له الرأي عندي أن لا تقاتل العرب وارجع سالما أنت ورجالك فان أهل دمشق الشام ما قدروا عليهم ولا ردهم عساكر أجنادين ولا جيوش فسلطين وقد بلغك ما فيه كفاية مما جرى لهم بالأمس مع صاحب قنسرين وصاحب عمورية والعرب المتنصرة وكيف ردهم هؤلاء العرب على أعقابهم منهزمين والصواب انك تفوز بنفسك وبمن معك وأرجع
فقال هربيس لست أفعل ذلك ولا أنهزم أمام العرب وقد بلغني أن عسكرهم الكبير على حمص مع الأمير أبي عبيدة الذي كان فيها خالد بن الوليد وهذه غنيمة ساقها المسيح لنا فقال ذلك البطريق الناصح أما انا فلست أبتع رأيك ولا أقاتل العرب ثم لوى عنان فرسه راجعا إلى بعلبك واتبعه خلق كثير من القوم واما هربيس فإنه صف رجاله وزحف يريد القتال فلما نظر أبو عبيدة رضي الله عنه ذلك وأنهم قد عولوا على الحرب صف رجاله وعساكره وقال أيها الناس اعلموا رحمكم الله تعالى ان الله قد وعدكم وأيدكم بالنصر حتى هزم أكثر هؤلاء القوم وهذه المدينة التي أنتم قاصدون إليها وسط ما فتحتموه من البلاد وأهلها قد أكثروا من الزاد والعدد والقوة فإياكم والعجب وانتصروا وأغزوا أعداء الدين وانصروا الله ينصركم وأعلموا أن الله معكم ثم حمل الأمير أبو عبيدة وحمل المسلمون قال عامر بن ربيعة وعيش عاش فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد المرسلين ما كان بيننا وبينهم الا جولة الجائل حتى ولوا الادبار وطلبوا الاسوار ودخل هربيس المدينة مع أصحابه وفيه سبع جراحات فتلقاه الذي أشار عليه لا تقاتل العرب وقال له وأين غنائم العرب التي غنمتوها فقال هربيس قبحك المسيح أتهزأ بي وقد قتلت العرب رجالي وقد جرحت هذه الجراحات فقال له البطريق ألم أقل لك انك مهلك نفسك ورجالك قال الواقدي ثم إن الأمير أبا عبيدة سار حتى نزل على بعلبك فنظر إلى مدينة هائلة وحصن حصين والقوم قد اغلقوا الأبواب وقد احرزوا أموالهم ومواشيهم في جوفها واطلع المسلمون على الأموال كأنها الجراد المنتشر قال فلما نظر الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه إلى البلد وتحصينه وامتناعه وكثرة رجاله وشدة برده وذلك أنه بلد لا يزايله البرد في الشتاء والصيف فقال الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه لخواص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الرأي في ذلك فاجتمع رأيهم على شورى واحدة وهو أن يحاصروا القوم ويضيقوا عليهم فقال معاذ بن جبل رضي الله عنه أصلح الله الأمير اني أعلم أن الروم ازدحم بعضهم ببعض من كثرتهم وأظن أن المدينة لا تسعهم وأن طاولناهم رجونا من الله النصر وأن يفتحها الله على أيدينا فقال الأمير يا ابن جبل من أين علمت أن القوم يتضايقون في مدينتهم فقال أيها الأمير اني كنت أول من اسرع بجواده
132

قبل وأشرفت على هذه المدينة والقلعة البيضاء ورجوت ان نلحق سوابق الخيل فرأيت القوم يدخلون المدينة من جميع الأبواب مثل السيل المنحدر والمدينة مشحونة بأهل السواد والقرى والمواشي ودوابهم فيها وقد ضاقت بهم وهذه أصوات القوم في المدينة كأنهم النحل من كثرتهم فقال أبو عبيدة صدقت يا معاذ ونصحت وأيم الله ما عرفتك الا مبارك الرأي سديد المشورة
قال الواقدي وبات المسلمون تلك الليلة يحرس بعضهم بعضا إلى الصباح ثم كتب أبو عبيدة رضي الله عنه إلى أهل بعلبك كتابا يقول فيه بسم الله الرحمن الرحيم من أمير جيوش المسلمين بالشام وخليفة أمير المؤمنين فيهم أبو عبيدة بن الجراح إلى أهل بعلبك من المخالفين والمعاندين أما بعد فان الله سبحانه وتعالى وله الحمد أظهر الدين وأعز أولياءه المؤمنين على جنود الكافرين وفتح عليهم البلاد وأذل أهل الفساد وان كتابنا هذا معذرة بيننا وبينكم وتقدمة إلى كبيركم وصغيركم لأنا قوم لا نرى في ديننا البغي وما
كنا بالذين نقاتلكم حتى نعلم ما عندكم وان دخلتم فيما دخل فيه المدن من قبلكم من الصلح والأمان صالحناكم وان أردتم الذمام ذممناكم وان أبيتم الا القتال استعنا عليكم بالله وحاربناكم فأسرعوا بالجواب والسلام على من اتبع الهدى ثم كتب أنا قد أوحى الينا أن العذاب على من كذب وتولى وطوى الكتاب وسلمه إلى رجل من المعاهدين وأمره أن يسير به إلى أهل بعلبك ويأتيه بالجواب فاخذ المعاهد الكتاب وأتى به إلى السور وخاطبهم بلغتهم وقال إني رسول إليكم من هؤلاء العرب فدلوا حبلا فربطه في وسطه واخذه القوم إليهم وأتوا به إلى بطريقهم هربيس فناوله الكتاب فجمع هربيس أهل الحرب والبطارقة وقرأ عليهم كتاب أبي عبيدة رضي الله عنه وقال أشيروا علي برأيكم فقال له بطريق من بطارقته وهو صاحب مشورة الرأي
عندي ان لا نقاتل العرب لأنا ليس لنا طاقة بقتالهم ومتى صالحناهم كنا في أمن وخصب ودعة كما قد صار أهل أركه وتدمر وحوران وبصرى ودمشق وأن نحن قاتلناهم وأخذونا في الحرب قتلوا رجالنا واستعبدونا وسبوا حريمنا والصلح خير من الحرب فقال هربيس لا رحمك المسيح فما رأيت أجبن منك ولا أقل جلدا يا ويلك كيف تأمرنا أن نسلم مدينتنا إلى أوباش العرب ولا سيما وقد عرفت حربهم وقتالهم واختبرت نزالهم واني في هذه النوبة لو حملت في ميسرتهم كنت هزمتهم فقال له البطريق نعم كانت الميسرة والقلب يخافون منك ثم تخاصما وتشاتما وافترق أهل بعلبك فرقتين فرقة يطلبون الصلح وفرقة يطلبون القتال ورمى هربيس الكتاب إلى المعاهد بعد ان مزقه وأمر غلمانه أن يدلوه إلى ظاهر المدينة ففعلوا ذلك ووصل المعاهد إلى عسكر المسلمين وأتى أبا عبيدة رضي الله عنه وحدثه بما كان من القوم وقال أيها الأمير ان أكثر القوم عولوا على القتال فقال أبو عبيدة رضي الله عنه للمسلمين شدوا
133

عليهم واعلموا ان هذه المدينة في وسط اعمالكم وبلادكم فان بقيت كانت وبالا على من صالحتم ولا تقدرون على سفر ولا على غيره قال فلبس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم السلاح والعدد ورجعوا إلى الاسوار وعطف أهل بعلبك عليهم وتراموا بالسهام والأحجار وان هربيس قد نصب كرسيه وسريره على برج من أبراج القلعة من ناحية النملة وقد عصب جراحته ولبس سلاحه ولامته ولبس على رأسه صليبا من الجواهر وحوله البطارقة والديرجانية بالدروع المذهبة والعدد الكاملة وفي أعناقهم صلبان الذهب والجوهر وبأيديهم القسي والسهام قال عامر بن وهب اليشكري شهدت حرب بعلبك وقد زحفت المسلمون إلى سورها قال ونشاب الروم كالجراد المنتشر وكان أناس من العرب بلا سلاح فأصابهم سهام القوم قال ورأيت القوم يتساقطون علينا من السور تساقط الطير على الحب فذهبت إلى رجل سقط لاضرب عنقه فصاح الغوث الغوث وكنا قد عرفنا من الحرب ان من قال الغوث يعني الأمان فقلت له يا ويلك لك الأمان فما الذي ألقاك الينا من سوركم فجعل يكلمني بالرومية وأنا لا أدري ما يقول قال عامر ابن وهب اليشكري فسحبته إلى خيمة أبي عبيدة وقلت له أيها الأمير اطلب من يعرف لغة هذا العلج فاني رايتهم يرمي بعضهم بعضا فقال أبو عبيدة رضي الله عنه لمن حضر من المترجمة أخبرنا بخبر هذا العلج وما قضيته ولم يرمي بعضهم بعضا فقال له الترجمان يا ويلك قد أعطيناك الأمان فاصدقنا في الكلام قل لنا لم يرمي بعضكم بعضا قال إن بعضنا لا يرمي بعضا ولكنا من أهل والقرى فلما سمعنا بمسيركم ورجوعكم عن أهل قنسرين التجأنا إلى هذه المدينة من جميع الرساتيق لنتحصن فيها لما نعلم من كثرة ما بها من الجيش فضيق بعضنا على بعض وسددنا طرقات المدينة ومضى بعضنا إلى السور فإذا ليس لنا موضع ناوي إليه ولا مسكن نسكن فيه فجعلنا الأبراج والأسوار مسكنا لنا فلما زحفتم إلى القتال برز إليكم أهل الحرب والنزال من هذه المدينة فجعلوا يدوسوننا بأرجلهم وإذا اشتد الحرب عليهم والقتال يدفع الرجل منهم الرجل منا فيلقيه إليكم
قال الواقدي فلما سمع الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه ذلك فرح فرحا شديدا وقال أرجو من الله أن يجعلهم غنيمة لنا قال وأخذت الحرب مأخذها وطحنت رجالها وعلا الضجيج و حمى الروم أسوارهم فلم يقدر أحد من المسلمين أن يصل إليها من كثرة السهام والحجارة قال غياث بن عدي الطائي حاربنا أهل بعلبك في أول يوم فأصيب من المسلمين اثنا عشر رجلا وأصيب من الروم على السور خلق كثير من أهل الحرب وغيرهم وانصرف المسلمون إلى رحالهم وما لهم همة إلى الطعام ولا الشراب ولا يريد أحد منا الا الاصطلاء بالنار من شدة البرد قال فبينما نحن ليلتنا نوقد النار ونتناوب في الحرس إلى الصباح فلما صلينا الفجر نادى مناد من قبل أبي عبيدة رضي الله عنه يقول عزيمة مني على كل رجل من المسلمين لا يبرز إلى حرب
134

هؤلاء القوم حتى ينفذ إلى رحله ويصلح له طعاما حارا يأكله ليكون بذلك شديدا على لقاء العدو قال فابتدرنا لاصلاح أمورنا فلما نظر أهل بعلبك إلى تأخرنا عن حربهم وقتالهم طمعوا فينا وظنوا أن ذلك فشل منا وعجز فصاح هربيس في الروم وقال اخرجوا لهم بارك المسيح فيكم قال غياث بن عدي فلم يشعر المسلمون الا والأبواب قد فتحت والخيل والرجال قد طلعت الينا كالجراد المنتشر قال وكان بعضنا قد مد يده إلى الطعام وبعضنا ينضج له القرص وإذا بمناد ينادي يا خيل الله اركبي وللجهاد تأهبي فدونكم والقوم قبل أن يدهموكم قال حمدان بن أسيد الحضرمي وكان لي قرص خبزته وقدمت شيئا من الزيت لاجعله ادامى للقرص وإذا بالمنادي ينادي النفير النفير قال فوالله ما راعني ذلك حتى اخذت قطعة وغمستها في الزيت وهويت بها إلى فمي سمعت النفير فقمت مسرعا وركبت جوادي عريانا من دهشتي لسرعة الإجابة وضربت يدي على عمود من أعمدة الخيام وحملت على القوم فوالله ما شعرت بما صنعت ولا عقلت على نفسي حتى صرت في الروم فجعلت احطمهم حطما واهبرهم بالسيف هبرا قال فنظرت إلى خيل الروم متفرقة والأمير أبو عبيدة قد نصب رايته والناس يهرعون إليها وان أبا عبيدة رضي الله عنه ينادي برفيع صوته اليوم يوم له ما بعده قال ونظر أبو عبيدة إلى شدة ضرب الروم وصبرهم على قتال المسلمين فحمل عليهم بالخيل العربية وأحاط بالروم من كل جانب ومكان وكان في جملة خيله عمرو بن معد يكرب الزبيدي وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وربيعة بن عامر ومالك بن الأشتر وضرار بن الأزور رضي الله عنه وذو الكلاع الحميري فلله درهم فلقد قاتلوا قتالا شديدا وابلوا بلاء حسنا فلما نظرت الروم إلى فعلهم رجعوا إلى أعقابهم طالبين الاسوار وغلقوا الأبواب ورجع المسلمون إلى عسكرهم وأضرموا نيرانهم ودفنوا من استشهد منهم وأقبلت رؤساء المسلمين إلى الأمير أبي عبيدة رضي الله عنه وقالوا أيها الأمير ما الذي قد عزمت عليه وما عندك من الرأي يرحمك الله فقال أبو عبيدة
رضي الله عنه اعلموا أن من الرأي ان نتأخر عن المدينة مقدار شوط فرسخ ليكون ذلك مجالا نحيلكم ومنعة لحريمكم والنصر من عند الله تعالى
ثم دعا أبو عبيدة رضي الله عنه بسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وعقد له راية وأمره على خمسمائة فارس وثلاثمائة راجل وأمرهم ان يهبطوا إلى الوادي وأن يقاتلوا القوم على الأبواب وأن يشغلوهم عن المسلمين ثم دعا ضرار بن الأزور وعقد له راية وأمره على خمسمائة فارس ومائة راجل سرحه إلى باب الشام وقال يا بن الأزور اظهر شجاعتك على بني الأصفر فقاتل من هناك من الروم فقال حبا وكرامة قال ومضت كل فرقة إلى جهة من الجهات فلما أصبح الصباح فتحت الروم الأبواب وخرجوا في خلق كثير إلى أن تكاملوا حول بطريقهم هربيس فقال لهم البطريق اعلموا يا
135

معاشر النصرانية إن أهل هذا الدين من قبلكم قد فشلوا عن قتال هؤلاء العرب وعجزوا عن قتالهم ونزالهم فقالوا أيها السيد طب نفسا وقر عينا فانا كنا نخاف من العرب قبل أن نختبرهم ونعلم قتالهم وقد علمنا أنهم إذا لاقوا حربنا لم يكونوا أصبر منا على الحرب لان أحدهم يلقي الحرب وعليه ثوب خلق خام أو فروة خلقة ونحن علينا الدروع والزرد وقد وهبنا أنفسنا للمسيح
قال الواقدي فلما نظر أبو عبيدة إلى كثرتهم نادى برفيع صوته يا معاشر المسلمين لا تفشلوا فتذهب ريحكم واصبروا ان الله مع الصابرين قال وان الروم داخلهم الخوف لما كانوا قد نالوه من غرة المسلمين بالأمس فحملوا حملة عظيمة قال سهل بن صباح العبسي شهدت قتال أهل بعلبك وقد خرج الينا أهلها في اليوم الثاني وهم أطمع مما كانوا في اليوم الأول وقد حملوا علينا حملة عظيمة شديدة منكرة وكنت في ذاك اليوم أصابني جرح في عضدي الأيمن وما أطيق أن أحرك يدي ولا أحمل سيفا فترجلت عن جوادي وجريت بين أصحابي وقلت في نفسي إذا قصدني أحد من هؤلاء الاعلاج لم يكن لي غنى ادفع عن نفسي فطلعت إلى ذروة الجبل فعلوته وأشرفت على العسكرين وجعلت انظر إلى حربهم وقتالهم وقد طمعت الروم في العرب والمسلمون ينادون بالنصر وأبو عبيدة يدعو لهم بالنصر والتحمت القبائل وافتخرت العشائر قال سهل بن صباح وأنا على الجبل من وراء حجر انظر إلى ضرب السيوف على البيض والحجف والشرر يطير من شعاعها وقد التقى الفريقان واختلط الجمعان فقلت في نفسي ويحي وما عسى ان ينفع المسلمين مقام سعيد بن زيد وضرار بن الأزور على الأبواب والأمير أبو عبيدة في مثل هذا الحرب وأنهم والله على وجل أن ينكشفوا من عظم شدتهم وحربهم وهول ما يلقونه قال فأسرعت إلى جراثيم الشجر فجعلت أكسرها وأعبي الحطب بعضه على بعض وعمدت إلى زناد كان معي فأوقدت النار واضرمتها فيه وعبيت عليه حطبا اخضر ويابسا حتى علا منه دخان عظيم وكانت علامتنا إذا أردنا ان يجتمع بعضنا إلى بعض بأرض الشام في الليل وقود النار وإثارة الدخان قال فما هو الا ان علا الدخان وتصاعد إلى الأفق حتى نظراليه سعيد بن زيد وأصحابه وضرار بن الأزور وأصحابه فنادى بعضهم بعضا الحقوا الأمير أبا عبيدة رحمكم الله فان هذا الدخان ما هو الا من شيء عظيم والصواب ان نكون بخيلنا في موضع واحد فأسرعوا بخيلهم وساروا حتى أشرفوا على المسلمين وهم في شدة الحرب وأعظم الكرب وقد بلغت القلوب الحناجر وعملت السيوف البواتر وإذا بمناد هتف بهم يا حملة القرآن جاءكم النصر من الرحمن ونصرتم على عبدة الصلبان وإذا قد اشرف عليهم سعيد بن زيد وضرار بن الأزور في أوائل خيلهم وقد شرعا سنانهما وحملا في الروم وقد أيقن الروم انهم الغالبون إذ ظهرت عليهم رايات المسلمين وكتائب المواحدين فالتفتوا ينظرون ما الخبر وإذا بالمسلمين من ورائهم وقد حالوا بينهم وبين
136

مدينتهم فنادوا بالويل والخراب وظنوا انه قد اتى للمسلمين نجدة ومدد وقد غرر بهم البطريق فلما نظر البطريق إلى تبلدهم زعق فيهم وقال يا ويلكم لا ترجعوا إلى المدينة قد حيل بينكم وبينها وهذه مكيدة من مكايد العرب فلما سمعت الروم ذلك أحاطوا ببطريقهم كالحلقة المستديرة يحمي بعضهم بعضا فعدل بهم البطريق نحو الجبل ذات الشمال وكان سعيد بن زيد وضرار بن الأزور قد أقبلا بجيشهما عن يمين الحصن وشماله فحملوا عليهم واتبعوا آثارهم حتى طلعوا إلى الجبل والتجأت الروم إلى ضيعة في الجبل حصينة خالية من أهلها فاستند الروم إليها وتحصنوا فيها وتبعهم سعيد بن زيد في الخمسمائة فارس الذين كانوا معه وذلك أن الأمير أبا عبيدة رضي الله عنه لما نظر إلى هزيمة الروم نادى في المسلمين معاشر الناس لا يتبعهم أحد ولا يفترق جمعكم لأني اخشى أن تكون هزيمة القوم مكيدة لكم حتى إذا تفرق جمعكم زحفوا عليكم قال وان سعيد بن زيد لم يكن يسمع النداء ولو سمع النداء ما تبع القوم
قال الواقدي لما تحصنت الروم في الضيعة قال سعيد بن زيد هذه طائفة قد أراد الله هلاكها فدوروا بهم وحاصروا في كل مكان ولا تدعوا أحدا يطلع رأسه إلى أن تلحق بكم المسلمون ويأتي إليكم امر من الأمير أبي عبيدة ثم اقبل إلى رجل من عظماء المسلمين وقال له اخلفني في قومي حتى انظر رأى الأمير أبي عبيدة ومن معه ثم اخذ معه زهاء من عشرين فارسا من أصحابه وسار حتى لحق بجيش المسلمين فلما نظر اليه الأمير أبو عبيدة ومن معه قال يا سعيد اين رجالك وما صنعت بهم قال ابشر أيها الأمير فان المسلمين في خير وسلامة وقد حاصروا أعداء الله في ضيعة في هذا الجبل ثم اخبره بالقصة من أولها إلى آخرها فقال أبو عبيدة الحمد لله الذي هزمهم عن أوطانهم وجعلهم اشتاتا ثم اقبل أبو عبيدة على سعيد بن زيد وعلى ضرار بن الأزور وقال لهما ما هذه المخالفة رحمكم الله ألم آمركم بالإقامة على أبواب المدينة والمشاغلة للقوم فما الذي ردكم إلي وقد ارعبتم قلبي وقلب من كان معي وظننت ان أهل المدينة كادوكم وهو الذي منعنا ان نتبع المنهزمين فقال سعيد بن زيد أيها الأمير والله ما عصيت لك امرا ولا خالفتك في قول واني قد وقفت حيث أمرتني إذ رأينا دخانا قد علا قتامه ولاح لنا بيانه فقلنا والله ما هذه الا داهية من دواهي الروم أو نفير قد استدعانا به المسلمون فأسرعنا نحوك فعندما نادى الأمير أبو عبيدة في المسلمين معاشر الناس أيكم أوقد نارا أو دخن دخانا في هذا الجبل فليجب الأمير أبا عبيدة قال سهل بن صباح فلما سمعت النداء أجبت المنادي وأتيت الأمير أبا عبيدة فقال ما الذي جراك على ذلك فقصصت عليه قصتي فقال أبو عبيدة لقد وفقك الله تعالى إلى الجنة فإياك بعدها ان تحدث حديثا من غير اذن أميرك
قال الواقدي فبينما الأمير كذلك يحدث سهل بن صباح وإذا برجل من
137

المسلمين منحدر من الجبل وهو ينادي النفير النفير يا أمة البشير النذير أدركوا اخوانكم المسلمين فقد أحاط بهم الروم وهم في أشد ما يكون من القتال وانه قد دنا البطريق من المسليمن ونادى بأصحابه ورجاله وقال يا عباد المسيح إليكم هذه الشرذمة اليسيرة والعصابة الحقيرة التي قد أحاطت بكم فاقتلوهم وادخلوا المدينة فإنكم ان قتلتم القوم كسرتم بذلك حدة العرب وانصرفوا عنكم قال مصعب بن عدي وكنت في بعلبك من أصحاب سعيد بن زيد وقد جعلنا محاصرين البطريق والروم في الضيعة ونحن دون الخمسمائة رجل فما شعرنا الا والبطريق والروم قد تبادروا الينا من كل مكان فنادى بعضنا بعضا واجتمعنا قال والله لقد كبوا علينا الخيل وأحاطوا بنا بعد ما كنا احطنا بهم وكان شعارنا في ذلك اليوم الصبر الصبر قال فبينما نحن كذلك في أشد الحرب وأعظم الكرب إذ سمعنا صوتا عاليا قد ملأ الجبل ومناديا ينادي ويقول اما من رجل يهب نفسه في الله ويسنفر المسلمين فإنهم بالقرب منا ولا يعلمون ما نزل بنا قال مصعب بن عدي فلما سمعت الصوت همزت جوادي بكعبي وكان جواد عتيقا يسبق الريح الهبوب أو الماء إذ انسكب من ضيق الأنبوب وكأنه الطود العظيم والله لقد خرج من تحتي كأنه البرق ولم تلحق منه الروم الا الغبار بعد ما قتلت منهم رجلين ولقد نظرت إلى فرسي وهو يشب الصخرة ويسلك الوعرة حتى أشرفت على عساكر المسلمين فناديت النفير النفير يا أمة البشير النذير
فلما سمع أبو عبيدة ذلك صاح بالرماة فأجابه خمسمائة رام من أصحاب القسي العربية فضمهم إلى سعيد بن زيد وقال له اسرع يرحمك الله والحق بأصحابك قبل ان يأتي العدو إليهم ثم نادى بضرار بن الأزور وأصحابه وقال له أدرك أخاك سعيد بن زيد قال فسار المسلمون مثل الجراد المنتشر حتى علوا على قلة الجبل واشرفوا على الروم وهم محدقون بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أبو زيد بن ورقة بن عامر الزبيدي وكنت ممن شهد القتال على الضيعة مع أصحاب سعيد بن زيد وقد أحاطت بنا الروم وقد صبرنا لهم صبر الكرام وقد صرع منا سبعون رجلا ما بين جريح وقتيل ونحن في أشد ما يكون من القتال والجراح وقد طمعت الروم فينا حتى سمعنا التهليل والتكبير ولحقنا النفير فلما أشرفت علينا راية المسلمين رجعت الروم على أعقابهم مدبرين إلى الضيعة راجعين ولحقنا من تأخر منهم وكثر فيهم القتل والجراح لكثرتهم وتحصن القوم في الضيعة فأحطنا بهم من كل جانب وما تركنا منهم أحدا يخرج رأسه من كثرة النبل وورد الخبر إلى الأمير أبي عبيدة رضي الله عنه بمن استشهد من المسلمين ومن قتل من الكافرين وان القوم قد لزمهم الحصار وان لا زاد عندهم ولا ماء فقال أبو عبيدة الحمد لله ثم قال للمسلمين معاشر الناس ارجعوا إلى أموالكم واضربوا خيامكم حول المدينة فان الله عز وجل كاد عدوكم وهو منجز لنا ما وعدنا من نصره قال فعندنا رجع المسلمون إلى أموالهم ومواضعهم
138

التي كانوا فيها أول مرة وضربوا خيامهم وانفذوا طوالعهم وأرسلوا إلى المرعى خيولهم وابلهم وسرحوا إلى الحطب عبيدهم واضرموا النيران في عسكرهم وذهب منهم الخوف وأتاهم الأمان وان أهل بعلبك افترقوا على السور وجعلوا يضربون على وجوههم ويصيحون بلغتهم فقال الأمير أبو عبيدة لبعض التراجمة ما يقول هؤلاء فقال له الترجمان أيها الأمير انهم يقولون يا ويلهم ويا عظم ما أصابهم ويا خراب ديارهم ويا فناء رجالهم حتى ظفرت العرب ببلادهم
قال الواقدي فلما دنا المساء ارسل الأمير أبو عبيدة إلى سعيد بن زيد يقول له يا بن زيد الحذر الحذر على من معك من المسلمين واجتهد رحمك الله ان لا يفوتك من الروم أحد ولا تفسح لهم قدما واحدا فيخرج منهم واحدا فيتبع أولهم آخرهم فتكون كمن حصل في يده شيء فاضاعه فلما وصل الرسول إلى سعيد بن زيد بهذه الرسالة أمر المسلمين ان يحيطوا بالضيعة من كل جانب وان لا يخرجوا إلى الحطب الا مائة بالسلاح ففعلوا ذلك واضرموا نيرانهم وباتوا طول ليلتهم يهللون ويكبرون وبالضيعة يطوفون فلما نظر البطريق هربيس إلى ذلك اقبل على أصحابه ورجاله وقال لهم يا ويلكم لقد ايسنا من التدبير وأخطأنا الرأي وما لنا مدد ولا نجدة ولا نصير ولو اجتهدنا لما اجتهدت العرب على أن يحبسونا في هذه الضيعة والآن قد حبسنا أنفسنا في حبس ليس فيه طعام ولا شراب وان دام علينا هذا يوما ثانيا أو ثالثا ضعف قوينا ومات ضعيفنا وبطلت حيلتنا وسلمنا أنفسنا كارهين فنقتل عن آخرنا فقالت البطارقة فما الذي ترى أيها السيد فقال قد رأيت من الرأي ان اخدع العرب واحتال عليهم واسألهم الصلح لنا ولأهل مدينتنا كما قد طلبوا وأضمن أن افتح لهم المدينة ونكون في ذمامهم فإذا دخلنا المدينة حاربناهم على سورنا ولعلنا نرسل إلى صاحب عين الجوز والى صاحب جوسية فلعلهما يقدمان إلى نصرتنا فيكونان لقتال العرب من خارج المدينة ونحن من أعلى الاسوار ويكفينا المسيح هذه النوبة
فقالت البطارقة اعلم أيها السيد ان صاحب جوسية لا يجيبك إلى نجدة ابدا لأنه مشتغل بنفسه وربما يكون محاصرا مثل حصارنا هذا فلقد بلغنا قبل نزول هؤلاء العرب علينا انهم صالحوهم القدرة وألقوه ان يقاتلوا العرب واما أصحاب عين الجوز فإنهم في تجارتهم متفرقون في أقصى الشام وما أظن الا انهم في صلح العرب فانظر لنفسك ورعيتك ما فيه الصلاح فلما سمع البطريق هربيس قولهم أجابهم إلى ذلك فلما أصبح الصباح طلع البطريق على جدار الضيعة ونادى برفيع صوته يا معاشر العرب اما فيكم رجل يعرف كلامي انا هربيس البطريق فلما سمعه بعض التراجمة اقبل على سعيد بن زيد وقال له يا مولاي ان هذا العلج هو هربيس صاحب القوم وهو يستدعي كلامك فقال له سعيد بن زيد ادن منه
139

وانظر ماذا يريد وما يقول قال فدنا الترجمان منه فقال له ما الذي تريد قال أريد أن يؤمنني أميركم هذا في ذمامه وذمام أصحابه ويدنو مني حتى أخاطبه بما يعود صلاحه على الفريقين فقال الترجمان ذلك لسعيد بن زيد فقال سعيد بن زيد لا كرامة له حتى أدنو منه وأمشي اليه حتى يخاطبني فإن كان له حاجة فليأت إلي خاضعا ذليلا صاغرا حتى أسمع كلامه وأعلم مراده قال فأعلم الترجمان هربيس بكلام سعيد بن زيد فقال هربيس فكيف انزل اليه وانا محارب له فأنا أخاف ان يقتلني فقال له الترجمان انا آخذ لك منه الذمام فان العرب لا تخون إذا أمنت فقال البطريق نعم قد تناهت الينا أخبارهم ولكني أريد ان استوثق لنفسي ولأصحابي وأهل بلدي لأنهم قوم قد لحقهم الحقد علينا وقد أصبنا منهم دما كثيرا واني أريد ان ارسل له شخصا يأخذ لي منه أمانا فقال الترجمان انا أعرفه ذلك ثم اقبل الترجمان على سعيد بن زيد وقال له ان البطريق هربيس يريد ان يوجه إليك رجلا من أصحابه يأخذ له منك أمانا فقال سعيد بن زيد دعه يوجه من يريد وأعلمه أن رسوله منا في أمان حتى يرجع اليه قال فأعلمه الترجمان بذلك فأقبل البطريق على رجل من عظماء أصحابه وقال له ترى ما قد نزل بنا وكيف قد ملك العرب علينا الطريق وان بلاد الشام قد أذن المسيح بخرابها وقد نصرت العرب
علينا وانا في شدة شديدة وان لم نأخذ من القوم الأمان والا هلكنا وهلكت خيلنا وبعد ذلك يتحكمون في أولادنا وحريمنا ويقتسمون أموالنا وذرارينا وليس لنا نجدة لان كل بلدة مشتغل بنفسه عن نصرتنا فأنزل إلى هؤلاء العرب وخذ لنا منهم أمانا واستوثق لنا منهم حتى أنزل أنا إليهم فلعلنا نجري بينهم صلحا ولعلي أمكر بهم حتى نرجع إلى المدينة ولعلي ارغب صاحبهم في شيء من المال فلعله يرغب وينصرف عنا إلى أن نرى ما يكون بينهم وبين الملك هرقل
قال الواقدي فنزل الرجل ووقف امام الأمير سعيد بن زيد وهم الرجل ان يسجد له فمنعه من ذلك وتبادرت اليه المسلمون فأمسكوه ففزع الرجل وقال لم تمنعوني ان أعظم صاحبكم فقال الترجمان ذلك لسعيد بن زيد فقال انما انا وهو عبدان لله تعالى ولا يجوز السجود والتعظيم الا لله الملك المعبود القديم فقال الرجل بهذا نصرتم علينا وعلى غيرنا من الأمم فقال سعيد بن زيد فما الذي جاء بك قال جئت لآخذ منك أمانا لبطريقنا أن لا تنقض لنا عهدا فقال سعيد بن زيد ليس من اخلاق الامراء ومن يقود الجيوش ان يغدر بعد الأمان ولسنا بحمدالله ممن ينقض عهدا وقد أعطيت صاحبك أمانا ولمن معه ممن القى السلاح وخرج يطلب الأمان مستسلما فقال الرجل نريد منك الأمان ومن أميرك وممن معك فقال سعيد لكم ذلك فعند ذلك رجع الرجل إلى البطريق وأعلمه بجواب سعيد وقال له اخرج وإياكم والغدر فإنه يهلك صاحبه وان هؤلاء العرب لا يخونون أمانهم وعهدهم
140

قال الواقدي ولقد بلغني أن البطريق هربيس خلع ما كان عليه من الثياب والديباج والقى السلاح ولبس ثياب الصوف وخرج حافيا حاسرا ذليلا ومعه رجال من قومه حتى وقف بين يدي سعيد بن زيد فخر سعيد لله ساجدا وقال الحمد لله الذي أزال عنا الجبابرة وملكنا بطارقتهم وملوكهم ثم اقبل عليه وقال له ادن مني فدنا إلى أن جلس إلى جانبه وقال له أهذا لباسك دائما أم غيرته فقال لا وحق المسيح والقربان ما لبست الصوف ابدا غير الحرير والديباج وما لبست هذا الا في وقتي هذا فاني ما أريد حربكم ولا قتالكم ثم قال لسعيد هل لك ان تصالحني على أصحابي هؤلاء وعلى أهل المدينة ومن فيها فقال سعيد أما أصحابك هؤلاء فاني أوفيهم على شرط أن من دخل في ديننا فله ما لنا ومن اختار الإقامة على دينه والقى السلاح كان آمنا من القتل وعليه العهد انه لا يحمل علينا سلاحا ولا يكون لنا حربا ابدا واما المدينة فالأمير أبو عبيدة عليها وقد فتحها إن شاء الله تعالى ثم قال إن أحببت ان تسير معي إلى أبي عبيدة حتى يسمع كلامك وتصالح عن قومك فسر وأنت في ذمامي فان اتفق بينكما الامر والا رددتك إلى موضعك هذا ومن أراد الرجوع معك من رجالك إلى أن يحكم الله وهو خير الحاكمين فقال البطريق انا أفعل ذلك فعندها دعا سعيد بن زيد سعد بن أبي وقاص بن عوف العدوي وقال يا ابن أبي وقاص كن بشيرا للأمير أبي عبيدة بما سمعت واسرع بالجواب قال فأسرع ابن أبي وقاص بن عوف وركب جواده وكان حصانا شديد العدو وجعل يسير سيرا حثيثا حتى اشرف على الأمير أبي عبيدة رضي الله عنه ووقف بين يديه وسلم عليه وقال أصلح الله تعالى شأن الأمير أبشرك بأن البطريق هربيس قد أخذ الأمان من سعيد بن زيد وهو يريد أن يقبل به عليك يسألك الصلح والأمان له ولأهل مدينته فلما سمع الأمير ذلك سجد لله شكرا ورفع رأسه وقال أيها الناس تقدموا الآن إلى قتال أهل المدينة وأظهروا أسلحتكم عليها وكبروا تكبيرة واحدة لكي ترعبوا بها القوم قال ففعل المسلمون ذلك فارتجت المدينة وفزع أهل بعلبك وتداعوا للقتال وأحاط المسلمون بالمدينة من كل جانب وكان أول من سبق إلى المدينة وأعطاهم خبر البطريق المرقال ابن عتبة وقال حصنوا أنفسكم وأولادكم وأموالكم بالصلح فان أبيتم ذلك فقد وعدنا الله تبارك وتعالى على لسان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ان يفتح لنا بلادكم وأمصاركم وغيرها وان الله تعالى منجز أمره فلما سمع أهل بعلبك ذلك فزعوا فزعا شديدا واغبرت وجوههم ورعبت قلوبهم وكلت من الحرب أيديهم وقالوا أهلكنا البطريق وأهلك نفسه ولو كنا صالحنا العرب من قبل أن يوجد بنا هذا الحصار لكان خير لنا قال وشدد المسلمون عليهم القتال
قال الواقدي فلما علم أبو عبيدة ان نيران الحرب قد أضرمت على المدينة أرسل إلى سعيد بن زيد يقول له أسرع بالبطريق الينا وله الأمان الذي أمنت أنت فنحن لا ننقض لك عهدا فلما ورد رسول أبي عبيدة على سعيد بن زيد استخلف
141

على الضيعة رجلا من أصحابه وسار سعيد مع البطريق حتى وردا على الأمير أبي عبيدة رضي الله عنه فلما وقف البطريق بين يديه ونظر إلى زيه وزي من معه وشهد قتالهم وعظم ما تلقى المدينة من حربهم وقتالهم حرك البطريق رأسه وعض على أنامله فقال أبو عبيدة رضي الله عنه لترجمانه ما لهذا يحرك رأسه ويعض أنامله كأنه يتأسف على شيء فاته قال فأعلمه الترجمان بذلك فأقبل على الترجمان وقال له وحق المسيح وما مسح وحق البيعة والمذبح لقد ظننت أنكم أكثر عددا من الحصى وأكثر مددا ولقد كان يخيل لنا عند حربكم وشدة ما نلقى منكم انكم على عدد الحصى والرمل من كثرتكم ولقد كنا نرى خيلا شهبا وعليها رجال وبأيديهم رايات صفر وعليهم ثياب خضر فلما صرت بينكم لم أر من ذلك شيئا وما أراكم الا في قلة عدد وما أدري ما فعل جمعكم أبعثتموه إلى عين الجوز أو إلى جوسيه أو مكان آخر فأخبر الأمير الترجمان بذلك فقال أبو عبيدة للترجمان قل له يا ويلك نحن معاشر المسلمين يكثرنا الله تعالى في أعين المشركين ويمدنا بالملائكة كما فعل بنا يوم بدر وبذلك فتح الله تعالى بلادكم وحصونكم علينا وأذل ملوككم فلما سمع البطريق كلام أبي عبيدة رضي الله عنه على لسان الترجمان قال لقد وطئتم الشام الذي عجزت عنه ملوك الفرس والترك والجرامقة وما ظننا ان يكون ذلك ابدا وأما مدينتنا فهي حصينة لا تعبأ بالحصار لأنها مدينة ليس بالشام مثلها بناها سليمان بن داود عليهما السلام لنفسه وعملها دار مقامه وخزانة لملكه ولولا ما سبق من تفريطنا وخروجنا عنها إليكم وانحرافنا عنها ما صالحناكم ابدا ولا هالنا حربكم ولو أقمتم علينا مائة سنة والان فقد كان ذلك فهل لكم ان تصالحونا حتى نصالحكم فتعدل فينا فهو أقرب رشدا لنا ولكم فوحق المسيح والإنجيل الصحيح لئن فتحنا لكم هذه المدينة لا يصعب عليكم في الشام حصن ولا مدينة قال فلما أخبر الترجمان الأمير أبا عبيدة رضي الله عنه بما قاله قال أبو عبيدة للترجمان قل له الحمد لله تعالى الذي ملكنا أرضكم ودياركم فلا بد أن تؤدوا الجزية وقد ظننت لنفسك أمانا كاذبا حتى أراك الله الذل والصغار بعد العز والاقتدار ولا بد لنا أن نملك مدينتكم إن شاء الله تعالى ونقتل الرجال ونأسر الابطال فمن أراد حربنا وقتالنا فلا يدخل في صلحنا أبدا ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم فقال البطريق لما سمع ذلك على لسان الترجمان لقد تيقنت أن المسيح قد غضب على أهل هذه المدينة إذ بعث
بكم إليها وملككم عليها وقد اجتهدت في حربكم ومكرت بكم وما نفع مكرى واجتهادي لأنكم قوم مسلطون وانما طلبت منكم السلم وألقيت يدي في أيديكم بعد جهد مني لا شفقة مني على نفسي ولا بقاء مني على ملكي ولكن أردت صلاح البلاد لان الله تعالى لا يحب الفساد والان فهل لكم أن تصالحوا على المدينة وما فيها وعلى أصحابي هؤلاء فقال له الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه فما الذي تبذل لنا في صلحك قال له البطريق أيها الأمير انظر ما الذي تريد فقال الأمير أبو عبيدة لو أن الله فتح على المسلمين من الصلح على هذه المدينة بملئها ذهبا وفضة ما كان أحب
142

إلي من سفك دم رجل واحد لكن الله تعالى اعطى الشهداء في الآخرة أكثر من ذلك فقال البطريق أنا أصالحكم على الف أوقية من الفضة البيضاء وألف ثوب من الديباج
قال الواقدي فتبسم الأمير أبو عبيدة من كلامه واقبل على المسلمين وقال لهم أما تسمعون ما يقول هذا البطريق قالوا نعم قال فما رأيكم فيما شرط على نفسه فقالوا يزيد عليه وشرطه يرضينا فأقبل الأمير على البطريق وقال له أنا أصالحكم على ألفي أوقية من الذهب الأحمر وألفي أوقية من الفضة البيضاء وألفي ثوب من الديباج وخمسة آلاف سيف من مدينتكم وسلاح أصحابك الذين هم في الضيعة محاصرون ولنا عليكم خراج أرضكم في العام الآتي وأداء الجزية في كل عام وأنتم بعد ذلك لا تحملون علينا سلاحا ولا تكاتبون ملكا ولا تحدثون حدثا ولا كنيسة وترون النصح للمسلمين فلما سمع البطريق ذلك من شرط الأمير أبي عبيدة رضي الله عنه قال لك ذلك كله علينا الا اني أريد أن أشرط عليك وعلى أصحابك شرطا فقال له الأمير أبو عبيدة وما شرطك فقال لا يدخل الينا من أصحابك أحد وتنزل صاحبك الذي تستخلفه علينا خارج المدينة بأصحابه ويكون له الخراج والجزية وتدعني أنا من داخل المدينة من قبل الاصلاح بين الناس والنظر في أحوالهم ونحن نخرج إلى من تخلفه علينا من أصحابك سوقا يكون فيه من جميع ما في مدينتنا ولا يدخلون الينا مخافة أن يغلظوا بكلامهم على كبرائنا ويفسد الامر بيننا وبينكم ويكون سببا للغدر ونقض العهد قال أبو عبيدة فإذا صالحناكم نجاهد عدوكم لأنكم تصيرون في ذمتنا ويكون الرجل الذي نخلفه عليكم مثل الواسطة والسفير بيننا وبينكم قال البطريق هربيس يكون خارج المدينة ويفعل ما يشاء ان يفعله من المحاماة فقال أبو عبيدة لكم ذلك وما لنا في الدخول إلى مدينتكم من حاجة فقال البطريق تم الصلح على ذلك ثم سار البطريق إلى المدينة وأبو عبيدة معه فلما وصل إلى الباب حسر البطريق عن رأسه ورطن عليهم بلغه الروم فعرفوه عند ذلك فقالوا له وأين أصحابك ورجالك فقص عليهم قصته وأخبرهم بخبره وخبر أصحابه وأعلمهم بالصلح فبكى القوم وقالوا تلفت النفوس وذهبت الأموال فقال لهم البطريق يا قوم وحق المسيح ما صالحتم ولي وجه غير الصلح فقالوا له اذهب أنت وصالح عن نفسك وأما نحن فلن نصالح العرب أبدا ولن ندع أحدا منهم يملكنا ولا يدخل بلادنا ومدينتنا وهي أحصن مدينة في الشام وكان الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه قد أعلم المسلمين بمصالحة البطريق وأمرهم ان يكفوا عن القتال والحرب فلما سمع الترجمان كلام أهل بعلبك لبطريقهم أخبر الأمير أبا عبيدة رضي الله عنه بذلك فأقبل البطريق فقال له أبو عبيدة هات ما عندك والا نرد الحرب كما كان فقال البطريق دعني والقوم فوحق الإنجيل الصحيح وعيسى المسيح لو لم يقبلوا مني لادخلنك بالكثرة إليهم فتضع السيف فيهم وتقتل رجالهم وتسبي نساءهم وتنهب أموالهم لأني خبير بعورات بلدهم وبطرقاتها قال أبو عبيدة رضي الله عنه ما شاء الله كان قال وكان الروم على سورهم
143

يسمعون كلام البطريق لأبي عبيدة رضي الله عنه فدخل الرعب في قلوبهم فعند ذلك اقبل البطريق على الروم وقال لهم ما تقولون في صلح العرب فاني أسير في أيديهم ورجالهم وبنو عمكم في قبضتهم فإن لم تصالحوا العرب والا يقاتلونا جميعا ويرجعوا إليكم من بعدنا
فقالوا أيها السيد انا لا نطيق هذا المال فقالوا يا ويلكم علي وحدي ربع ما طلبوا فطابت قلوبهم بذلك وقالوا انا لا نفتح الباب الا لك وحدك ولا يدخل معك أحد من العرب حتى نصلح مدينتنا ونرفع رحالنا ونخفي حريمنا فقال البطريق ويحكم فاني قد صالحت القوم على أن لا يدخل مدينتكم أحد منهم وان الرجل الذي يخلفونه عليكم يكون هو وأصحابه خارج المدينة وتخرجون اليه سوقا يتسوقون منه قال ففرحت الروم بذلك وفتحوا له الباب فدخل إليهم وبعث الأمير أبو عبيدة إلى سعيد بن زيد ان يخلي عن الرجال الذين هم في الضيعة يحاصرون فخلى سعيد بن زيد سبيلهم وجاء بهم عند الأمير أبي عبيدة وأخذ سلاحهم وتركهم عنده رهائن على المال الذي عندهم لأنه خاف ان تركهم ان يرجعوا إلى المدينة ويغدروا بالمسلمين فتركهم عنده في عساكره هذا والبطريق في المدينة يجبي المال بعد اثني عشر يوما وهم مع ذلك يحملون إلى عسكر المسلمين الزاد والميرة والعلوفة حتى كملت الأموال والثياب والسلاح وحملها البطريق إلى أبي عبيدة رضي الله عنه وقال له تسلم الأموال على ما وافقتك عليه وخل عن الرجال وانظر إلى من تخلفه علينا من أصحابك فأحضره لنا حتى نشرط عيله بحضرتك أن لا يجوز علينا ولا يطالبنا بما لا نطيق ولا يدخل مدينتا قال فدعا أو عبيدة برجل من سادات قريش اسمه رافع ابن عبد الله السهمي وقال له يا رافع بن عبد الله استعملتك على هذه المدينة وضم إليك خمسمائة فارس من بني عمك وعشيرتك وأربعمائة فارس من أخلاط المسلمين واني آمرك بما أمرك الله به فاتق الله حق تقاته ولا تكن الا من الولاة العادلين وأياك والظلم والجور فتحشر مع الظالمين واعلم أن الله تعالى سائلك عنهم ومطالبك بما تصنع بغير الحق واعلم اني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن
الله تبارك وتعالى أوحي إلى موسى بن عمران عليه السلام أن يا موسى لا تظلم عبادي أخرب بيتك من نفسك فأقم الارصاد في أطراف البلاد فإنك بين أعدائك وبعد هذا ما عرفتك الا استيقاظا وأحذرك من السواحل وشن الغارة عليهم ولتكن غارتك في المائة والمائتين ولا تمكن أحدا من المدينة يختلط بأصحابك في غارة حتى يطمع عدوكم فيه وأحسن معاملة من ساعدك وأصلح بينهم وأمرهم بالعدل وكن بينهم كأحدهم وأمر أصحابك ومن معك أن يكفوا أيديهم عن الفساد والظلم للرعية والله تعالى خليفتي عليك والسلام عليك
ذكر حديث نزول المسلمين على حمص
قال الواقدي ثم هم أبو عبيدة رضي الله عنه بالرحيل إلى حمص وإذ قد ورد عليه
144

صاحب عين الجوز يطلب منه الصلح فصالحه على نصف ما صالحه عليه أهل بعلبك وولى عليهم سالم بن ذؤيب السلمي وأوصاه بمثل ما أوصي به رافع بن عبد الله
ورحل الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه يطلب حمص فلما وصل إلى بين الرأس والكفيلة لاقاه صاحب الجوسية ومعه هدية كثيرة فقبلها منه وجدد معه صلحا وسار الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه حتى نزل على حمص
قال الواقدي حدثنا حبان بن تميم الثقفي قال كنت فيمن أقام مع رافع بن عبد الله السهمي في جملة أصحابه وذلك اننا نصبنا بيوت الشعر على العمد وأقمنا خارج المدينة لا يدخل إليها أحد منا ونحن مع ذلك نشن الغارة على سواحل الروم ونكبس على العرب التي لم تكن في صلحنا وكنا إذا خرجنا في سرية نبيع الغنائم في بعلبك ففرح أهلها ببيعنا وشرائنا ووجدونا قوما ليس فينا كذب ولا خيانة ولا نريد ظلم أحد وطابت قلوبهم وربحوا في تلك المدة اليسيرة مالا عظيما فلما نظر البطريق هربيس إلى ما ربح أهل بعلبك منا في تجارتهم ورخص ما يشترونه منا جمعهم اليه في كنيسة المدينة وهي الجامع اليوم وكان ذلك بميعاد وعدهم فيه الاجتماع فلما اجتمعوا عنده اقبل عليهم وقال للتجار والباعة والسوقة لقد علمتم أني قد اجتهدت في أموركم واحرصت على سلامة نفوسكم وأهاليكم وأولادكم وأنتم تعلمون ما ذهب مني من المال وأنا اليوم واحد منكم وقد سلمت مالي وسلاحي وقتل أكثر غلماني ورجالي وبنو عمي وأنتم قوم قد أصبتم مع هؤلاء العرب خيرا كثيرا في هذه التجارات وقد أديت وحدي ربع المال فقالوا صدقت أيها البطريق وقد عرفنا كل ما وصفت فما الذي تريد الآن فقال يا قوم انما كنت قبل هذا اليوم بطريقكم وانا اليوم واحد منكم وأريد أن تردوا علي بعض ما بذلت من المال للعرب فقالوا أيها البطريق واني لك بذلك فقال البطريق يا قوم الست أكلفكم ان تخرجوا من أموالكم ولا مما حوته منازلكم شيئا وانما أريد ان تجعلوا في هذه البيوع والأشربة العشر مما تأخذون وتعطون قال فاضطرب القوم اضطرابا شديدا لذلك وعظم عليهم واقبل بعضهم على بعض وقالوا يا قوم هذا رجل منا وصاحب ملكنا وقد اجتهد في أمورنا وحامى بماله ونفسه عنا وما عسى يصيب منا في مالنا قال فأجابوه إلى ذلك وجعلوا له عليهم العشر فنصب عليهم من قبله عشارا يأخذ منهم أعشارهم ويجمعها ويحملها اليه فأقام على ذلك أربعين يوما فلما نظر هربيس إلى كثرة ما قد اجتمع له من المال العشر قال أنا أعلم أن هذه المدينة في كسب عظيم وتجارة رابحة ما رأى أهل بعلبك مثل هذا أبدا ثم جمعهم في الكنيسة مرة ثانية وقال لهم يا قوم قد علمتم ما بذلت من المال على صلحكم وهذا الذي تعطوني إياه من العشر ليس يحزنني فان أردتم ان تردوا علي مالي وتجعلوني كأحدكم فاجعلوا إلى الربع في أموالكم حتى يرجع إلي مالي سريعا والا فمتى أخلف من هذا العشر مالي وسلاحي وغلماني
145

قال الواقدي فأبى القوم وضجوا عليه واشهروا عددهم ووقفوا في الطريق بغلمانه فقطعوهم اربا اربا وارتفع ضجيجهم فجزع المسلمون لذلك وهم لا يعلمون بالقصة فاجتمعوا إلى أميرهم رافع بن عبد الله السهمي وقالوا أيها الأمير اما تسمع أصوات هؤلاء القوم في مدينتهم فقال يا قوم قد سمعت كما سمعتم فما عسى ان أصنع بهم ولا يحل لنا الدخول إليهم وبهذا جرى الشرط بيننا وبينهم ونحن أحق بمن أوفى بعهد الله تعالى فان هم خرجوا الينا وأعلمونا بأمرهم صالحنا بينهم ونظرنا في أمورهم
قال الواقدي فما استتم الأمير رافع بن عبد الله كلامه حتى خرج أهل بعلبك يهرعون اليه فلما وقفوا بين يديه قالوا انا بالله وبك أيها الأمير ثم اعلموه بقصتهم وما فعل البطريق بهم أول مرة وما فعل بهم ثاني مرة قال رافع بن عبد الله انا لا نمكنه من ذلك فقالوا أيها الأمير انا قد قتلناه وجميع غلمانه فصعب ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم رافع فما الذين تريدون فقالوا نريد أن تدخلوا إلى المدينة فإنا قدأطلقنا لكم الدخول إليها فقال رافع بن عبد الله أنا لا أقدر ان ادخل المدينة الا باذن الأمير أبي عبيدة لأنه ما أذن لي بذلك ثم كتب رافع بن عبد الله إلى الأمير أبي عبيدة يعلمه بالقصة وبحديث البطريق وبحديثهم الذي قالوه فكتب له بالدخول إلى المدينة كما قد أذنوا له فدخل رافع وأصحابه
قال الواقدي حدثنا موسى بن عامر قال حدثنا يونس بن عبد الله قال حدثنا سالم بن عدي عن جده عبد الرحمن بن مسلم الربيعي وكان ممن حضر فتوح الشام أوله وآخره قال لما فتح الله بعلبك على يد المسلمين وترك أبو عبيدة رافع بن عبد الله وتوجه إلى حمص للحوق بخالد بن الوليد فلما قرب من حمص موضع يقال له الزراعة وجه على مقدمة جيشه ميسرة بن مسروق العبسي وعقد له راية سوداء معلمة بالبياض وضم اليه خمسة آلاف فارس من المسلمين فلما سار ميسرة حتى وصل إلى حمص خرج خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى لقائه وسلم عليه وعلى من معه من المسلمين ثم بعث أبو عبيدة بعده ضرار بن الأزور في خمسة آلاف فارس وبعث بعده عمرو بن معد يكرب الزبيدي وقدم أبو عبيدة رضي الله عنه ببقية الجيش فلما اشرف أبو عبيدة على حمص قال اللهم عجل علينا فتحها واخذل من فيها من المشركين واستقبلهم المسلمون فلما استقر به القرار كتب إلى أهل حمص وبطريقها الجديد وهو هربيس كتابا يقول فيه بسم الله الرحمن الرحيم من أبي عبيدة عامل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه على الشام وقائد جيوشه أما بعد فان الله تعالى قد فتح علينا بلادكم ولا يغرنكم عظم مدينتكم وتشييد بنيانكم وكثرة رجالكم فما مدينتكم عندنا إذا أتاكم الحرب الا كالبرمة قد نصبناها في وسط عسكرنا وألقينا اللحم فيها وجميع العساكر يتوقع الاكل منها
146

وقد داروا بها ينتظرون نضجها واكل ما فيها ونحن ندعوكم إلى دين ارتضاه لنا ربنا عز وجل فان أجبتم إلى ذلك ارتحلنا عنكم وخلفنا عندكم رجالا منا يعلمونكم أمر دينكم وما فرض الله تعالى عليكم وان أبيتم الاسلام قررناكم على أداء الجزية وان أبيتم الاسلام والجزية فهلموا إلى الحرب والقتال حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين ثم طوى الكتاب وسلمه إلى رجل من المعاهدين وكان ذلك الرجل يحفظ بالعربية والرومية وقال له انطلق إلى حمص وائتنا بالجواب فأخذ المعاهد الكتاب وسار حتى وصل إلى السور فهم أهل حمص أن يرموه بالسهام والحجارة فقال لهم بالرومية يا قوم أمسكوا عليكم فأنا رجل معاهد وقد جئتكم بكتاب من هؤلاء العرب
قال الواقدي فدلوا له حبلا فربط وسطه به وشالوه إليهم وأتوا به إلى بطريقهم فلما وقف بين يديه خضع له وناوله الكتاب فقال له البطريق أرجعت عن دينك إلى دين هؤلاء العرب قال لا ولكن في ذمتهم وعهدتهم انا وأولادي وأهلي ومالي وما رأينا من القوم الا خيرا والصواب عندي ان لا تقاتلوهم فان القوم أولو بأس شديد لا يخافون ولا يرهبون الموت قد تمسكوا بدينهم والموت عندهم أفضل من الحياة وقد اقسم بدينهم لا يبرحون عن مدينتكم حتى تسلموها إليهم أو يفتحها الله على أيديهم وحق ديني انكم أحب إلي من العرب وأريد النصر لكم دون القوم ولكني خائف عليكم من بأسهم وسطوتهم فسلموا تسلموا ولا تخالفوا تندموا
قال الواقدي فلما سمع البطريق هربيس كلامه غضب غضبا شديدا وقال وحق المسيح والإنجيل الصحيح لولا أنك رسول لأمرت بقطع لسانك على جراءتك علينا فلما قرأ الكتاب وعلم ما فيه أمر كاتبه أن يكتب إلى الأمير أبي عبيدة بجواب كتابه فكتب كلمة الكفر ثم قال يا معاشر العرب أنه وصل الينا كتابكم وعلمنا ما فيه من التهديد والوعد والوعيد ولسنا كمن لاقيتم من أهل الشام ولم يزل الملك هرقل يستنصر بنا على من عاداه وعلى من قصد اليه من العساكر والآن فلا بد لنا من الحرب والقتال فان سورنا شديد وأبوابنا حديد وحربنا عتيد والسلام وطوى الكتاب وسلمه إلى المعاهد وأمر غلمانه أن يدلوه بالحبال من السور وسار حتى وصل إلى الأمير أبي عبيدة وسلمه الكتاب ففضه وقرأه فلما سمع المسلمون ما فيه عولوا على الحرب والقتال وقسم الأمير أبو عبيدة عسكر المسلمين أربع فرق فبعث فرقة مع المسيب بن نجية الفزاري فنزل بهم على باب الجبل مما يلي باب الصغير وبعث فرقة أخرى مع المرقال بن هشام بن عقبة بن أبي وقاص فنزل بهم على باب الرستق وبعث فرقة أخرى مع يزيد بن أبي سفيان فنزل على باب الشام ونزل الأمير أبو عبيدة وخالد بن الوليد على باب الصغير وزحف المسلمون إليهم من كل مكان وقاتلوهم بقية يومهم هذا وسهام الروم تصل إليهم فيتلقونها بالحجف ونبال العرب تصل إليهم والى من بأعلى السور فأثرت لأجل ذلك ضرا فانفضوا عند المساء فلما كان الغد جمع خالد
147

بن الوليد كل عبد كان في عسكر المسلمين وأمرهم ان يتقلدوا بالسيوف ويتنكبوا بالحدف ويزحفوا إلى سور حمص ويضربوا السور بأسيافهم ويتلقوا السهام بحجفهم فقال الأمير أبو عبيدة وما عسى أن يغني عنا هذا يا أبا سليمان فقال خالد رضي الله عنه على رسلك أيها الأمير ولا تخالفني فيما صنعت فاني عزمت ان أقاتلهم بالعبيد ونعلمهم ان ليس لهم عندنا من القدر شيء فما نقاتلهم بأنفسنا الا ان يخرجوا الينا فقال أبو عبيدة رضي الله عنه افعل ما شئت فالله تعالى يوفقك فعند ذلك امرهم خالد بن الوليد رضي الله عنه بالزحف على الاسوار وكانوا أربعة آلاف عبد وأمر خالد ألفا من العرب أن تترجل معهم ففعلوا ذلك وزحفوا على السور وقد استتروا بالحجف والعرب من ورائهم فرموا بالنبل وضربوا بسيوفهم فمنها ما تثلم ومنها ما انكسر
قال الواقدي وأشرف عليهم هربيس صاحب حمص وقد دارت بطارقته وأصحاب الرتب فجعلوا يتأملون إلى أفعالهم فقال هربيس يا معاشر البطارقة وحق المسيح ما ظننت ان العرب بهذه الصفة وإذا هم كلهم سودان فقال له بعض من لحقه بأجنادين وسائر المواطن لا أيها السيد بل هؤلاء عبيدهم وهذه من بعض مكايد العرب في الحرب وقد قدم هؤلاء السودان والعبيد إلى حربنا وقتالهم معنا وان ليس لنا عندهم من القدر ان يلقونا بأنفسهم أو نخرج إليهم فقال هربيس وحق المسيح أن هؤلاء أشد من العرب بأسا وأقوى مراسا واعلموا انه ما لزق قوم بسور مدينتنا ولا دنوا منها الا وقد هان عليهم أمرها واقترب على أيديهم فتحها
قال الواقدي ولقد بلغني ان العبيد قاتلوا يومهم قتالا شديدا وهجموا على الأبواب مرارا ولم يزالوا بقية يومهم حتى اقبل الليل ورجعت الموالي إلى عسكر المسلمين وبعث هربيس من ليلته رسولا إلى الأمير أبي عبيدة رضي الله عنه فأقبل الرسول والظلام معتكر فأحس جيوش المسلمين به فهموا به فقال أنا رسول من البطريق هربيس صاحب حمص وأريد الجواب عن هذا الكتاب فسلم إليهم كتاب هربيس فأخذه أبو عبيدة رضي الله عنه وقرأه فإذا فيه يا معاشر العرب أنا ظننا أن عندكم عقلا تدبرون به الحرب وتستعينون به على الأمور وإذا أنتم بخلاف ذلك لأنكم في أول حربكم لنا تفرقتم على الأبواب فقلنا هذا أشد ما يكون من الحصار وأعظم ما يقدرون عليه من الاضرار
فلما كان الغد تأخرتم عن حربنا وبعثتم هؤلاء المساكين إلى حربنا يقطعون أسيافهم ويكسرون سلاحهم فيا ليت شعري هل تصبر سوفهم على فساد سورنا وقد بان لنا عجز رأيكم وتدبيركم في القتال وملاقاة الرجال والآن فأنا أشير عليكم بأمر فيه الصلاح لنا ولكم وهو أن تسيروا إلى الملك هرقل وتفتحوا ما بين أيديكم كما فتحتم ما وراءكم وإياكم واللجاج والبغي فإنهما قاتلان لمن اتبعهما وراجعان على من بدأ بهما أو نحن نخرج إليكم صبيحة هذه الليلة والله ينصر من يشاء منا ومنكم ممن على الحق
148

قال فلما قرأ الأمير أبو عبيدة كتاب هربيس صاحب حمص استشار المسلمين فيما يصنع وكان قد حضر عنده رجل كبير من أكابر خثعم وسيد من ساداتهم اسمه عطاء بن عمرو الخثعمي وكان كبير السن قديم الهجرة سديد الرأي قد قاد الرجال وولى أمر الجيش وحزم العساكر فلما سمع كتاب هربيس وثب قائما على قدميه وقال للأمير أبي عبيدة رضي الله عنه أقسمت عليك أيها الأمير برسول الله صلى الله عليه وسلم الا ما سمعت مقالي فان فيه صلاحا للمسلمين فالله وفقني لمقالة أريد المسلمين بها قال أبو عبيدة رضي الله عنه قل يا أبا عمرو فأنت عندنا ناصح للمسلمين قال فدنا من الأمير أبي عبيدة وسارره وقال له اصلح الله الأمير اعلم أن خبرك عند هؤلاء منذ نزلت على هؤلاء اللئام وهذا البطريق أشد منعة وأعظم جولة ممن كان قبله وقد علم بفتوح بعلبك وانك لا بد ان تنزل على حصارها وقد استدعى بالطعام والعلوفة وآلة الحصار وقد شحنا بالرجال وما ترك في رساتيقها وقراها طعاما الا وقد خزنوه عندهم ما يكفيهم أعواما وان نحن حاصرناهم يطول الامر كما طال أمرنا على دمشق والرأي عندي ان تخدعهم بخديعة وتحتال عليهم بحيلة فان تمت لنا عليهم الحيلة فتحنا المدينة عن قريب إن شاء الله تعالى قال أبو عبيدة رضي الله عنه وما الحيلة عندك يا ابن عمرو فقال الرأي عندي ان نكتب إلى هؤلاء القوم ان يجبرونا بالزاد والعلوفة ونضمن لهم ان نرتحل عنهم إلى أن يفتح الله تعالى عليك غير مدينتهم ونرجع إليهم وقد قل زادهم وانتشروا في سوادهم وتفرقوا في أمصارهم وتجاراتهم ونشن عليهم غارة فنملك ما ظهر منهم ويهون عليك أمر من بقي في حمص مع قلة الزاد والعلوفة فقال أبو عبيدة أصبت بالرأي يا ابن عمرو اني سوف افعل ما ذكرته ونرجوا من الله التوفيق والعون
ثم دعا أبو عبيدة رضي الله عنه بدواة وبياض وكتب جواب الكتاب يقول فيه بسم الله الرحمن الرحيم اما بعد فاني رأيت في قولك صلاحا لنا ولكم ولسنا نريد البغي على أحد من عباد الله عز وجل وقد علمت أن عسكرنا كثير وخيلنا وابلنا كثير فان أردتم ان نرتحل عنكم فابعثوا لنا ميرة خمسة أيام وأنتم تعلمون ان الطريق الذي امامنا بعيد وما نلقي بعدكم الا كل حصن منيع وأبواب حديد فإذا مونتمونا رحلنا عنكم إلى بعض مدائن الشام فإذا فتح الله علينا بعض مدائن الشام رجعنا عنكم كما زعمتم فان فعلتم ذلك كان صلاحا لكم وطوى الكتاب وسلمه إلى الرسول وسار إلى حمص فلما قرأ هربيس الكتاب فرح بذلك وجمع الرؤساء والرهابين وقال لهم اعلموا ان العرب قد بعثوا يطلبون منكم الزاد والميرة حتى يرحلوا عنكم فان العرب مثلهم كمثل السبع إذا وجد فريسته لم يرجع إلى غيرها وهم قد لحقهم الجوع في مدينتكم وإذا اشبعناهم انصرفوا
عنا فقالوا أيها الأمير نخاف من العرب ان يأخذوا الزاد والعلوفة ولا يرحلوا عنا فقال انا نأخذ لكم عليهم العهود والمواثيق انكم إذا امرتموهم يرحلون عنكم فقالوا افعل ما بدا لك واستوثق لنا ولك قال فبعث هربيس واحضر
149

القسوس والرهبان وأمرهم ان يخرجوا إلى الأمير أبي عبيدة رضي الله عنه ويأخذوا عليهم العهود والمواثيق إذا أمرناهم يرحلون عنا
قال فخرجوا وقد فتح لهم باب الرستن فساروا حتى وصلوا إلى الأمير أبي عبيدة ة واخذوا عليهم ميثاقا وعهدا أن يرحلوا عنهم إذا هم ماروهم ولا يرجع عليهم حتى يفتح الله على يديه مدينة من مدائن الشام شرقا أو غربا سهلا كان أو جبلا فقال الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه قد رضيت بذلك وتم الصلح على ذلك وأخرج لهم أهل حمص مما كانوا قد ادخروه من الزاد والعلوفة شيئا عظيما له ولعسكره ما يكفيهم مدة خمسة أيام فأقبل أبو عبيدة عليهم وقال يا أهل حمص قبلنا ما حملتموه لنا من الزاد والعلوفة فإذا رأيتم الآن أن تبيعوا من الزاد والعلوفة فقالوا نحن نفعل ذلك فعندها نادى الأمير أبو عبيدة بشراء الزاد والعلوفة ولتكثروا من ذلك فان قدامكم طريقا واسعا قليل الزاد والعلوفة فقالوا أيها الأمير بماذا نشتري الزاد وعلى أي شي نحمله فقال أبو عبيدة من كان معه شيء من الذي غنمتموه من الروم فليشتر به الزاد والعلوفة قال حسان بن عدي الغطفاني خفف الله عن أبي عبيدة الحساب كما خفف عنا ما كنا نحمله من البسط والطنافس مما كان قد اثقلنا واثقل دوابنا فأخذنا به الزاد والعلوفة من القوم وكانت العرب تسمح لهم في البيع والشراء ويشتري منهم أهل حمص ما يساوي عشرين دينارا بدينارين ورغب أهل حمص في شراء الرخيص ولم يزل أهل حمص كذلك ثلاثة أيام وأهل حمص فرحون برحيل العرب عنهم قال وكان للروم في عسكر العرب جواسيس وعيون يأخذون لهم الاخبار فلما نظرت الجواسيس إلى أهل حمص وقد فتحوا مدينتهم وهم يميرون العرب ظنوا انهم دخلوا في طاعتهم فسارت الجواسيس إلى أنطاكية طالبين وجعلوا كلما اجتازوا ببلد من البلد أو حصن من الحصون يقولون إن أهل حمص قد دخلوا في طاعة العرب وفتحوا مدينتهم صلحا فكان يعظم ذلك على الروم ويزيدهم خوفا ورعبا وكان ذلك توفيقا من الله عز وجل للمسلمين وكانت الجواسيس أربعين رجلا فدخل ثلاثة رجال منهم إلى شيزر فأشاعوا ذلك وأشيع فيها ذلك
ذكر فتح الرستن
قال الواقدي وسار الأمير أبو عبيدة بالعسكر حتى نزل على الرستن فرآها حصنا منيعا وماؤها غزير وهي مشحونة بالرجال والعدد العديد فبعث إليهم رسولا يأمرهم أن يكونوا في ذمته فأبوا ذلك وقالوا لا نفعل حتى نرى ما يكون من أمركم مع الملك هرقل وبعد ذلك يكون ما شاء الله تعالى فقال الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه فانا متوجهون إلى قتال الملك هرقل ومعنا رجال وأمتعة وقد أثقلتنا واشتهينا ان نودعها عندكم إلى وقت رجوعنا قال فأتى أهل الرستن إلى بطريقهم وكان اسمه نقيطاس وشاوروه في ذلك فقال يا قوم ما زالت الملوك والعساكر يودع بعضهم بعضا وما يضرنا
150

ذلك ثم بعث إلى الأمير أبي عبيدة يقول له مهما كان لك من حاجة فنحن نقضيها ونريد منكم المراعاة لأهل سوادنا حتى نرى ما يكون من امركم مع الملك هرقل فقال الأمير أبو عبيدة ونحن نفعل إن شاء الله تعالى
قال الواقدي عن ثابت بن قيس بن علقمة قال كنت ممن حضر عند أبي عبيدة رضي الله عنه فعند ذلك دعا أهل الرأي والمشورة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لهم ان هذا حصن شديد منيع ليس لنا إلى فتحه سبيل الا بالحيلة والخديعة وأريد ان أجعل منكم عشرين رجلا في عشرين صندوقا وتكون الاقفال عندهم من باطنها فإذا صاروا في المدينة فثوروا على اسم الله تعالى فإنكم تنصرون على من فيها من المشركين فقال خالد بن الوليد فإذا عزمت على ذلك فلتكن الاقفال ظاهرة ويكون أسفل الصناديق أنثى في ذكر من غير شيء يمسكها فإذا حل أصحابنا في حصن من هؤلاء القوم يخرجون جملة واحدة ويكبرون فان النصر مقرون بالتكبير فأجابه أبو عبيدة إلى ذلك وأخذ صناديق الطعام المنتخبة عند الروم ففض أسافلها وجعلها ذكرا في أنثى فأول من دخل في الصناديق ضرار بن الأزور والمسيب أبن نجيبة وذو الكلاع الحميري وعمرو بن معد يكرب الزبيدي والمرقال وهاشم بن نجعة وقيس بن هبيرة وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ومالك بن الأشتر وعوف بن سالم وصابر بن كلكل ومازن بن عامر والاصيد بن سلمة وربيعة بن عامر وعكرمة بن أبي جهل وعتبة بن العاص ودارم بن فياض العبسي وسلمة بن حبيب والفازع بن حرملة ونوفل بن جرعل وجندب بن سيف وعبد الله بن جعفر الطيار وجعله أميرا عليهم وسلموا الصناديق إلى الروم فلما حطت الصناديق في الرستن ألقاها نقيطاس في قصر امارته وارتحل الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه وسار حتى نزل في قرية يقال لها السودية فلما أظلم الليل بعث خالد بن الوليد رضي الله عنه بجيش الزحف إلى الرستن ينظر ما يكون من أصحابه وما فعلت الصحابة رضي الله عنه فسار خالد بن الوليد برجاله حتى وصل القنطرة وإذا بالصياح قد علا والتهليل والتكبير من داخل مدينة الرستن
قال الواقدي كان من أمر الصحابة انه لما تركهم نقيطاس في دار امارته ركب إلى البيعة مع بطارقته وأهل مدينته ليصلوا صلاة الشكر لأجل رحيل المسلمين عنهم وارتفعت أصواتهم بقراءة الإنجيل وسمع أصواتهم أصحاب رسول الله صلى الله عليهم وسلم فخرجوا من الصناديق وشدوا على أنفسهم وشهروا سلاحهم وقبضوا على امرأة نقيطاس وحريمه وقالوا نريد مفاتيح الأبواب فسلمتها إليهم فلما حصلت المفاتيح في أيديهم رفعوا أصواتهم بالتهليل والتكبير والصلاة والسلام على البشير النذير وكبس القوم على أبواب مدينتهم فلم يجسروا عليهم لأنهم بدون عدة وسلاح وبعث عبد الله بن جعفر الطيار ربيعة بن عامر والاصيد بن سلمة وعكرمة ابن أبي جهل وعتبة بن العاص والفارع بن حرملة وسلم إليهم المفاتيح وقال افتحوا الأبواب وارفعوا أصواتكم بالتهليل
151

اخوانكم المسلمين من حول المدينة كاملون فتبادر الخمسة إلى الباب القبلي وهو باب حمص وفتحوه ورفعوا أصواتهم بالتهليل والتكبير ودخلوا المدينة وإذا هم بعسكر الزحف وعلى المقدمة خالد بن الوليد رضي الله عنه فأجابوهم بالتهليل والتكبير ودخلوا المدينة وسمع أهل الرستن أصوات أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلموا انهم في قبضتهم وان مدينتهم قد اخذت من أيديهم فاستسلموا جميعا وخرجوا إليهم وقالوا لهم انا لا نقاتلكم ونحن الان اسرى لكم فاعدلوا فينا فأنتم أحب الينا من قومنا
قال فعرض خالد بن الوليد رضي الله عنه الاسلام عليهم فأسلم منهم كثير وبقي الأكثر يؤدون الجزية واما أميرهم نقيطاس فإنه قال لا أريد بديني بدلا فقال له خالد بن الوليد الآن فأخرج باهلك عنا وحدث قومك بعدلنا فأخرجوه من الرستن فتوجه بأهله وأمواله إلى حمص وأعلم أهلها بفتح الرستن فصعب ذلك على أهل حمص وعلموا أن العرب تصبحهم أو تمسيهم بالغارة وبعث عبد الله بن جعفر الطيار إلى أبي عبيدة يخبره بالفتح والنصر فسجد لله شكرا وبعث إليهم الف رجل من اليمن ووصاهم بحفظ الرستن وأمر عليهم هلال بن مرة اليشكري فلما استقروا بالرستن رحل خالد بن الوليد رضي الله عنه وعبد الله بن جعفر وأهلهم وعساكرهم وتوجهوا إلى حماة وكان أهل حماة في صلح المسلمين كما ذكرنا وكذلك أهل شيزر الا ان بطريق أهل شيزر مات وبعث إليهم الملك هرقل بطريقا عاتيا جبارا اسمه نكس ففسخ الصلح وأذاق أهل شيزر ضرا وشرا وكان يصادرهم ويأخذ أموالهم ويحتجب عنهم لاهيا في أكله وشربه فلما بلغ الخبر الأمير أبا عبيدة بعث خيلا جريدة إلى شيزر فغارت الخيل على بلدهم ووقعت الضجة بشيزر وسمع البطريق نكس الضجة فنزل إليهم من قلعته واظهر لهم بعض حجابه وجلس في بيعتهم المعظمة عندهم وجمع الرؤساء منهم وقال لهم يا أهل شيزر أنتم تعلمون ان الملك هرقل قد استخلفني عليكم احفظ مدينتكم وامنع عن حريمكم وأموالكم ثم فتح خزانة السلاح وفرق عليهم العدد وأمرهم بالحرب والقتال فبينما القوم كذلك إذ أشرف عليهم خالد بن الوليد في أصحابه ومعه جيش الزحف فنزلوا بإزائهم وأشرف بعده يزيد بن أبي سفيان بأصحابه فنزل عليهم وأشرف بعد الأمير أبو عبيدة في عساكره جميعهم فلما نظر أهل شيزر تلاحق العساكر بهم هالهم ذلك وعظم عليهم وحارت أبصارهم
قال الواقدي فلما نظر أبو عبيدة رضي الله عنه كتب إلى أهل شيزر كتابا يقول فيه بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد يا أهل شيزر فان حصنكم ليس بأمنع من حصن بعلبك ولا من الرستن ولا رجالكم أشجع فإذا قرأتم كتابي هذا فأدخلوا في طاعتي ولا تخالفوني فيكون وبالا عليكم وقد بلغكم عدلنا وحسن سيرتنا فكونوا مثل سائر من صالحنا ودخل في طاعتنا من سائر بلاد الشام والسلام وطوى الكتاب وسلمه إلى رجل من المعاهدين وبعثه إليهم فلما وصل الكتاب إليهم أعطوه بطريقهم نكس فقرىء
152

عليه فلما فهم ما فيه قال ما تقولون يا أهل شيزر فيما ذكرت العرب فقالوا صدقت العرب أيها البطريق الكبير فان حصننا ليس بأمنع من الرستن ولا بعلبك ولا دمشق ولا بصرى وأنت اعلم شدة أهل حمص وحدة شجاعتهم وقد صالحوا العرب وكذلك أهل فلسطين ومدنها والأردن وحصنها فكيف تمنع عنهم شيزر وهي حصن لطيف فان عصيت هؤلاء العرب فإنك معول على هلاكنا وخراب مدينتنا
قال الواقدي وكثر فيهم الخطاب وعلا الكلام واقبل البطريق نكس بسبب أهل شيزر وامر غلمانه بضربهم فلما نظر أهل شيزر ذلك غضبوا وأظهروا سلاحهم عليه وعلى غلمانه ووقع القتال بين الفريقين فعرف المسلمون ذلك وقالوا اللهم أهلكهم ببأسهم ولم يزل أهل شيزر في القتال حتى نصروا على البطريق وعلى غلمانه وقتلوهم عن آخرهم ثم اخرجوا إلى الأمير أبي عبيدة رضي الله عنه رجالا إلى لقائه بغير سلاح فلما وقفوا بين يدي الأمير أبي عبيدة سلموا عليه وقالوا أيها الأمير انا قتلنا بطريقنا في محبتكم قال يا أهل شيزر بيض الله وجوهكم وادر رزقكم فقد كفيتمونا الحرب والقتال ثم قال للمسلمين الا ترون إلى حسن طاعة هؤلاء الروم وفعالهم ببطريقهم في محبتكم والدخول في طاعتكم وقد رأيت من الرأي أن أحسن إلى القوم وانعم عليهم فقال المسلمون نعم ما رأيت حتى يصل ما تصنع إلى غيرهم ويفتح الله علينا البلاد إن شاء الله تعالى
قال الواقدي فأقبل على أهل شيزر وقال أبشروا فاني لست اكره أحدا منكم فمن أحب منكم الدخول في ديننا فله ما لنا وعليه ما علينا والخراج موضوع عنكم سنتين ومن أقام على دينه فعليه الجزية وقد وضعنا عنه الخراج سنة كاملة ففرح الروم بذلك وقالوا أيها الأمير سمعنا وأطعنا وهذا قصر بطريقنا فأنت أحق بما فيه وهو هدية منا إليك فدونك وإياه وما فيه من الرجال والآنية والأموال فأخرج أبو عبيدة رضي الله عنه منها الخمس وقسم الباقي على المسلمين بالسوية ونادى أبو عبيدة رضي الله عنه يا معاشر المسلمين قد فتح الله على أيديكم هذه المدينة أيسر فتح واهونه وقد خرج أهل حمص من ذمتكم ووفيتم لهم ما عاهدوكم عليه فارجعوا بنا عليهم رحمكم الله تعالى قال الواقدي فركب المسلمون ظهور خيولهم وهموا بالمسير وإذ قد لاح لهم غبرة مرتفعة من وراء النهر المقلوب وهي منقلبة من طريق أنطاكية وقد اخذت عرضا فأسرعت خيل المسلمين إليها فإذا معها قسيس كبير من قسوس الروم ومعه مائة برذون موسوقة بالاحمال ومن حولها مائة علج من علوج الروم يحفظونها
قال الواقدي ولم يكن للقسيس خبر بنزول المسلمين على شيزر فصاح بهم خالد بن الوليد رضي الله عنه وكبر المسلمون معه واحدقوا بهم من كل جانب واخذوا العلوج اسرى وأخذوا البراذين واقبل خالد على القسيس وقال له يا ويلك من اين أقبلت
153

بهذه الأحمال قال فرطن القسيس بالرومية فلم يدر خالد ما يقول هذا القسيس الميشوم فبدا اليه رجل من أهل شيزر وقال يا أيها الأمير انه يذكر أنه من القسوس المعظمة عند الملك هرقل وقد بعثه وبعث معه إلى هربيس هذه الأحمال فيها ديباج احمر منسوج بقضبان الذهب وعشرة احمال مملوءة دنانير وباقي الأحمال مملوءة من الثياب والدنانير فأخذوها واخرجوا منها مالا عظيما وغنم المسلمون غنيمة غظيمة لم يغنموا مثلها وساق خالد بن الوليد الأحمال إلى الأمير أبي عبيدة رضي الله عنه فوجده على النهر المقلوب مما يلي شيزر وتحته عباءة قطوانية وعلى رأسه مثلها تظله من حر الشمس فأقبل خالد بن الوليد رضي الله عنه بالقسيس فأوقفه بين يديه فقال أبو عبيدة ما هذا يا أبا سليمان فقال خالد انهم قوم من أنطاكية ومعهم هدية لهربيس صاحب حمص من ملك الروم هرقل
قال الواقدي وعرض عليه الغنيمة ففرح الأمير أبو عبيدة بها فرحا شديدا وقال يا أبا سليمان لقد كان فتح شيزر علينا مباركا ثم دعا بترجمان كان معه لا يفارقه وقال اسال هؤلاء عن ملك الروم الطاغية هرقل هل هو في جمع كثير أم لا فكلم الترجمان القسيس ساعة فقال القسيس قل للأمير ان الملك هرقل قد بلغه انكم فتحتم دمشق وبعلبك وجوسية وأنكم لم تنزلوا على حمص فبعث معي هذه الهدية إلى هربيس البطريق وكتب اليه يأمره بقتالكم ويعده بالنجدة وقدوم العساكر اليه لان الملك هرقل قد استنجد عليكم كل من يعبد الصليب ويقرأ
الإنجيل فأجابته الرومية والصقالبة والإفرنج والأرمن والدقس والمغليط والكرج واليونان والعلف والغزنة وأهل رومية وكل من يحمل صليبا والعساكر قد وصلت إلى الملك هرقل من كل جانب ومكان قال فحدث الترجمان الأمير أبا عبيدة رضي الله عنه بكل ما أعلمه القسيس به فعظم ذلك على الأمير أبي عبيدة وعرض على القسيس الاسلام فقال القسيس للترجمان قل للأمير أبي عبيدة أني البارحة رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وقد أسلمت على يديه ففرح الأمير أبو عبيدة بذلك وعرض على الاعلاج الاسلام فأبوا ذلك فضربت رقابهم ورحل أبو عبيدة رضي الله عنه متوجها إلى حمص وقد سير الخيل جريدة في مقدمته فما يشعر أهل حمص الا والخيل قد أغارت عليهم فرجع القوم إلى المدينة وقد غلقوا الأبواب وقالوا غدرت العرب وحق المسيح قال ونزل المسلمون حول حمص وداروا بها من كل جانب ومكان وقد نفذ الزاد من المدينة وأكثر أهلها قد خرجوا إلى تجارتهم وفي طلب الميرة وقد تفرقوا في البلاد فلما نزل الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه على حمص دعا بالعبيد والموالي وأمرهم ان يتفرقوا على الطرقات والمحارس وقال لهم كل من وجدتموه قد رجع إلى حمص بزاد أو تجارة فاتوني به ففعل العبيد ذلك وصعب على هربيس صاحب حمص وكتب إلى الأمير أبي عبيدة كتابا يقول فيه أما بعد يا معاشر العرب فانا لم نخبر عنكم بالغدر ولا بنقض العهد ألستم صالحتمونا
154

على الميرة فمرناكم فطلبتم منا البيع فابتعناكم فلم نقضتم ما عاهدناكم عليه فكتب الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه يقول أريد أن ترسل إلى القسوس والرهبان الذين أرسلتهم إلي حتى أوقفهم على ما عاهدتهم عليه ليعلموك أننا لم نغدر ولا مثلنا من يفعل ذلك إن شاء الله تعلى فلما قرأ هربيس الكتاب أحضر القسوس والرهبان وبعث بهم إلى الأمير أبي عبيدة فخرجوا اليه وفتح لهم باب حمص وساروا إلى أن وصلوا للأمير أبي عبيدة فسلموا عليه وجلسوا بين يديه فقال لهم أبو عبيدة رضي الله عنه ألم تعلموا أني عاهدتكم وحلفت لكم أني منصرف عنكم حتى افتح مدينة من مدائن الشام سهلا كان أو جبلا ثم يكون الرأي لي ان شئت رجعت إليكم أو سرت إلى غيركم فقالوا بلى وحق المسيح فقال لهم ان الله تعالى قد فتح علينا شيزر والرستن في أهون وقت وقد غنمنا الله مال بطريقهم نكس وغيره مما لم نؤمله في هذه المدة اليسيرة والآن فلا عهد لكم عندنا ولا صلح الا ان تصالحونا على فتح المدينة وتكونوا في ذمتنا وأمانتنا فقال القسوس والرهبان لقد صدقت أيها الأمير ليس عليكم لوم وقد وفيتم بذمتكم وقد بلغنا فتحكم شيزر والرستن والخطا كان منا إذ نستوثق لأنفسنا والآن الامر بيد بطريقنا ونحن نرجع اليه ونعلمه بذلك ثم رجعوا إلى مدينتهم ودعا الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه بالرجال والابطال وأهل الحرب وقال خذوا أهبتكم فان القوم بلا زاد ولا مدد يأتي إليهم من عند طاغيتهم ولا نجدة فاستعينوا بالله وتوكلوا على الله
فلبس المسلمون السلاح والعدد ورجعوا إلى الأبواب والأسوار واجتمع أهل احمص ببطريقهم هربيس وقالوا ما عندك من الرأي في أمر هؤلاء العرب فقال الامر عندي أن نقاتلهم ولا نريهم منا ضعفا قالوا فان الزاد قد نفد من مدينتنا وقد أخذه القوم منا وما سمعنا بمثل هذه الحيلة فقال هربيس ما لكم تعجزون عن حرب عدوكم وما قتل منكم قتيل ولا جرح منكم جريح ولم تصبكم شدة ولا جوع وانما أصابوا منكم على غرة ولو دخلوا المدينة لما قدروا عليكم وأقل الرجال على السور يكفيكم إياهم وعندي من الزاد في قصري ما يعم كثيركم المدة الطويلة وما احسب ان الملك هرقل يغفل وسيبلغه خبركم ويوجه العساكر
قال الواقدي وكان عند البطريق هربيس في قصره جب عظيم مملوء طعاما ففتحه وفرق الطعام على أهل حمص فسكنت بذلك نفوسهم وجعل البطريق يفرق على كبيرهم وصغيرهم بقية يولمهم ذلك وقد انحصر أهل حمص جميعهم فنفذ ذلك اليوم نصف ما في الجب وقال لهم اقنعوا بما أعطيتكم ثلاثة أيام وابرزوا إلى حرب عدوكم ثم أخذوا أهبة الحرب وعرض عسكره وانتخب منهم خمسة آلاف فارس من أولاد الزراوزة والعمالقة لا يساويهم غيرهم فيهم الف مدبجة ملكية وفتح خزانة جده جرجيس وفرق عليهم الدروع والجواشن والبيض والمغافر والقسي والنشاب والحراب واقبل يحرضهم على القتال ويوعدهم بالمدد والنجدة من الملك هرقل
155

ثم دعا بالقسوس والرهبان وقال لهم خذوا أهبتكم وادعوا المسيح أن ينصرنا على العرب فان دعاءكم لا يحجب ولا يرد قال فدخلوا كنيستهم المعظمة عندهم وهي كنيسة جرجيس وهي الجامع اليوم ونشروا المزامير وضجوا بالتهمير واقبلوا يبتهلون بكلمة الكفر وباتوا بقية ليلتهم على مثل ذلك فلما كان الصباح دخل هربيس إلى البيعة وتقرب وصلوا عليه صلاة الموتى فدخل قصره وقدم له خنوص مشوي فاكله حتى اتى على آخره وقدم بين يديه باطية الذهب والفضة فشرب حتى انقلبت عيناه في أم رأسه ثم لبس ديباجا محشوا بالفرو والزرد الصغار المضعف العدد ولبس فوقها درعا من الذهب الأحمر وعلق في عنقه صليبا من الياقوت وتقلد بسيف من صنعة الهند وقدم له مهر كالطود العظيم فاستوى على ظهره وخرج من قصره طالبا باب الرستن فأحاطت به بطارقته من الروم من كل جانب ومكان وفتحت أبواب حمص وخرجت الروم من كل جانب ومكان في عددهم وعديدهم وراياتهم وصلبانهم وبين يدي هربيس خمسة آلاف فارس من علوج الروم وهم بالعدد العديد والزرد النضيد فصفهم هربيس أمام المدينة كأنهم سد من حديد أو قطع الجلمود وقد وطنوا نفوسهم على الموت دون أموالهم وذراريهم فتبادر المسلمون إليهم مثل الجراد المنتشر وحملوا عليهم حملة عظيمة والعلوج كأنهم حجارة ثابتة ماولوا عن مواضعهم ولا فكروا فيما نزل بهم فعندها صاح البطريق هربيس على رجاله وزجرهم فتبادرت الروم وصاح بعضهم ببعض وركب المسلمون وحملوا عليهم ورشقوا الرجال بالسهام واشتبكت الحرب واختلط الفريقان واقتتلوا قتالا شديدا ما عليه من مزيد الا ان المسلمين رجعوا القهقري وقد فشا فيهم القتال والجراح
فلما نظر الأمير أبو عبيدة إلى ذلك من هزيمة المسلمين عظم عليه وكبر لديه وصاح فيهم بصوته يا بني القرآن الرجعة الرجعة بارك الله فيكم فهذا يوم من أيام الله تعالى فاحملوا معي بارك الله فيكم فتراجع الناس وحملوا على أهل حمص حملة عظيمة وشدوا عليهم الحملة وحمل خالد بن الوليد رضي الله عنه في جمع كثير من بني مخزوم وجعلوا يضربون فيهم بسيوفهم ويطعنون برماحهم حتى طحنوهم طحن الحصيد ووضع المسلمون فيهم السيف وحمل ابن مسروق العبسي في طائفة من قومه من بني عبس وقد رفعوا أصواتهم بالتهليل والتكبير وصدموا الروم صدمة عظيمة فتراجعت الروم إلى الاسوار وقد فشا فيهم القتل فبربرت الروم بلغاتها وتراجعت على المسلمين وأحاطوا بهم من كل جانب ومكان ورشقت العلوج بالنشاب وطعنوا في المسلمين بالحراب وقد استتروا بالدرق والطوارق قال فلما نظر خالد بن الوليد إلى ذلك برز باللواء
وكان هو صاحب اللواء يوم حمص وصاح خالد بأصحابه وقال شدوا عليهم بالحملة بارك الله فيكم فإنها والله غنيمة الدنيا والآخرة قال فبينما خالد بن الوليد يحرض أصحابه على القتال إذ حمل عليه بطريق من عظماء الروم وعليه لامة
156

مانعة وهو يهدر كالأسد فحمل خالد بن الوليد عليه وضربه على رأسه فوقع سيفه على البيضة فطار السيف من يد خالد بن الوليد وبقيت قبضته في يده فطمع العلج فيه وحمل عليه ولاصقه حتى حك ركابه بركاب خالد وتعانقا جميعا بالسواعد والمناكب فضم خالد العلج إلى صدره واحتضنه بيده وشد عليه بقوته فطحن أضلاعه وأدخل بعضها في بعض فارداه قتيلا واخذ خالد سيف العلج وهزه في يده حتى طار منه الشرر ووضع رأسه في قربوس سرجه وحمل وصاح في بني مخزوم فحملوا حملة عظيمة وهاجوا في أوساطهم وخالد بن الوليد رضي الله عنه يفرقهم يمينا وشمالا وهو ينادي برفيع صوته
أنا الفارس الصنديد انا خالد بن الوليد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يزالوا في القتال الشديد الذي ما عليه من مزيد حتى توسطت الشمس في كبد السماء وحمى الدرع على خالد بن الوليد رضي الله عنه فخرج من المعركة وبنو مخزوم يتقاطرون من خلفه والدم يسيل ملء درعهم وسواعدهم كأنها شقائق الأرجوان وخالد بن الوليد رضي الله عنه في أوائلهم وهو يقول
* ويل لجمع الروم من يوم شغب
* اني رأيت الحرب فيه تلتهب
* وكم لقوا منا مواقع النصب
* وكم تركت الروم في حال العطب
* قال فناداه الأمير أبو عبيدة لله درك يا أبا سليمان لله ربك لقد جاهدت في الله حق جهاده فلما نظر المرقال بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص إلى غفلة الروم صاح في بني زهرة وحملوا في ميمنة الروم وحمل ميسرة بن مسروق العبسي في قومه وحمل عكرمة بن أبي جهل وحوله جمع كثير من بني مخزوم وحمل المسلمون بأجمعهم وقد اطلعوا على الشهادة وأيقنوا بالعناية
معركة حمص
قال الواقدي فلم يكن يوم حمص أشد حربا ولا أقوى جلدا من بني مخزوم غير أن عكرمة بن أبي جهل كان أشدهم بأسا واقداما وهو يقصد الأسنة بنفسه فقيل له اتق الله وارفق بنفسك فقال يا قوم انا كنت أقاتل عن الأصنام فكيف اليوم وانا أقاتل في طاعة الملك العلام واني أرى الحور متشوقات إلي ولو بدت واحدة منهن لأهل الدنيا لاغنتهم عن الشمس والقمر ولقد صدقنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما وعدنا ثم سل سيفه وغاص في الروم ولم يزدد الا اقداما وقد عجبت الروم من حسن صبره وقتاله فبينما هو كذلك إذ حمل عليه البطريق هربيس صاحب حمص وبيده حربة عظيمة تضيء وتلتهب وهزها في كفه وضربه بها فوقعت في قلبه ومرقت من ظهره فانجدل صريعا وعجل الله تعالى بروحه إلى الجنة فلما نظر خالد بن الوليد إلى ابن عمه وقد وقع صريعا اقبل حتى وقف عليه وبكى وقال يا ليت عمر بن الخطاب نظر إلى ابن عمي صريعا حتى يعلم انا إذا لاقينا العدو ركبنا الأسنة ركوبا قال ولم يزالوا في
157

الأهوال الشديدة حتى هجم الليل عليهم وتراجعت الروم إلى مدينتهم وغلقوا الأبواب وطلعوا على الاسوار ورجعت المسلمون إلى رحالهم وخيامهم وباتوا ليلتهم يتحارسون فلما أصبح الصباح قال الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه يا معاشر المسلمين ما بالكم قد صدكم هؤلاء القوم وبعد الطمع فيهم ما بالكم هزمتم وجزعتم منهم والله ألبسكم عافية مجللة وسلامة سابغة وأظفركم على بطارقة الروم وفتح لكم الحصون والقلاع فما هذا التقصير والله تعالى مطلع عليكم
فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه هؤلاء فرسان الروم أشد الرجال ليس فيهم سوقة ولا جبان وقد تعلم أنهم يكونون أشد في الحرب لأنهم يمنعون عن الذراري والنسوان فقال أبو عبيدة رضي الله عنه فما الرأي عندك يا أبا سليمان يرحمك الله فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه أيها الأمير قد رأيت من الرأي اننا ننكشف للقوم غدا وندع لهم سوائمنا وابلنا فإذا تباعدنا عن مدينتهم وتبعتنا خيلهم وتباعدوا عن مدينتهم وصاروا معنا عطفنا عليهم ومزقناهم بالأسنة ونقطع ظهورهم لبعدهم عن مدينتهم فقال أبو عبيدة نعم الرأي ما رأيت يا أبا سليمان ولقد أشرت وأحسنت قال وتواعد المسلمون على أن ينكشفوا بين أيدي الروم وان يتركوا لهم سوائمهم فلما أصبح الصباح فتحت أبواب حمص وخرجت الروم من جميع الأبواب وزحفوا يريدون القتال فسألهم العرب كفوا القتال واروهم التقصير والخوف واطمعوهم في أنفسهم وجعلوا ينحرفون عن قتالهم حتى تضاحى النهار وانبسطت الشمس وطاب الحرب وطمعت الروم في المسلمين لما بان لهم من تقصيرهم فشد الروم بالحملة عليهم فانهزمت العرب من بين أيديهم وتركوا سوائمها
قال نوفل بن عامر حدثنا عرفجة بن ماجد النميمي عن سراقة النخعي وكان ممن حضر يوم حمص قال لما انهزمت العرب أمام الروم وتبعنا هربيس البطريق في خمسة آلاف اشهب وكانوا أشد الروم قال سراقة بن عامر وانهزمنا امام القوم كأننا نطلب الزراعة وجوسية وأدركتنا البطارقة وبعضهم مال إلى السواد طمعا في الزاد والطعام
قال الواقدي وكان بحمص قسيس كبير السن عظيم القدر عند الروم قد حنكته التجارب وعرف أبواب الحيل والخداع وكان عالما من علماء الروم وقد قرأ التوراة والإنجيل والزبور والمزامير وصحف شيث وإبراهيم وأدرك حواري عيسى ابن مريم عليه السلام فلما أشرف ذلك القسيس ونظر إلى العرب وقد ملك الروم سوادهم جعل يصيح ويقول وهو ينادي وحق المسيح ان هذه خديعة ومكر ومكيدة من مكايد العرب وان العرب لا تسلم أولادها وابلها ولو قتلوا عن آخرهم قال وجعل القسيس يصيح وأهل حمص قد وقعوا في النهب وليس يغنيهم سوى الزاد والطعام والبطريق هربيس قد ألح في طلب المسلمين في خمسة آلاف فارس فلما أبعدوا عن المدينة صاح الأمير أبو
عبيدة رضي الله عنه برفيع صوته اعطفوا على الروم كالسباع
158

الضارية والعقبان الكاسرة فردوا عليهم كردوسا واحدا حتى أحاطوا بالبطريق وأصحابه من كل جانب وداروا بهم مثل الحلقة المستديرة واحدقوا بهم كاحداق البياض بسواد العين وبقيت الروم في أوساطهم كالشامة السوداء في الثور الأبيض فعند ذلك نصبت العلوج نشابها على العرب والمسلمون يكرون عليهم مثل الأسود الضارية ويحومون عليهم كما تحوم النسور ويضربونهم بالسيوف ويصرعونهم يمينا وشمالا حتى انكسر أكثرهم قال عطية بن فهر الزبيدي فلما نظرت الروم إلى فعلنا بهم تكالبت علينا فلما حميت الحرب ابتدر خالد بن الوليد رضي الله عنه من وسط العسكر وهو على جواد أشقر وعليه جوشن مذهب كان لصاحب بعلبك أهداه له يوم فتح بعلبك وكان خالد بن الوليد رضي الله عنه قد عمم نفسه بعمامة حمراء وكانت تلك العمامة عمامته في الحرب وجعل يهدر كالأسد الحردان وقد انتضى سيفه من غمده وهزه حتى طار منه الشرر ونادى برفيع صوته رحم الله رجلا جرد سيفه وقوى عزمه وقاتل أعداءه فعندها انتضب المسلمون سيوفهم وصدموا الروم صدمة عظيمة ونادى الأمير أبو عبيدة يا بني العرب قاتلوا عن حريمكم ودينكم وأموالكم فان الله مطلع عليكم وناصركم على عدوكم قال وكان معاذ بن جبل قد انفرد في خمسمائة فارس إلى السواد والأموال وانقض على الروم فما شعرت الروح والعلوج ممن انغمس في الغارة وحمل الزاد والرحال والأمتعة الا والطعن قد أخذهم بأسنة الرماح من كل جانب كأنها ألسنة النار المضرمة ونادى مناد يا فتيان العرب اطلبوا الباب لئلا ينجوا أحد من الروم برحالنا وأولادنا فجعل المسلمون يطلبون الأبواب وكانت علوج الروم قد غرقت في رحال المسلمين فلما نظروا إلى معاذ وقد حمل عليهم في رحاله عادت وقد رمت الرحال وطلبت الهرب فانفلت منهم ما انفلت وقتل من قتل قال صهيب بن سيف الفزاري فوالله ما انفلت من الخمسة آلاف الذين كانوا مع هربيس صاحب حمص الا ما ينوف عن مائة فارس قال واتبعنا القوم إلى الأبواب فكان أعظم المصيبة قتلنا إياهم على الأبواب لان أكثر الرجال من العواصم وغيرهم كانوا في المدينة قال سعيد بن زيد شهدت يوم حمص وكنت ممن أولع بعدد القتلى فعددت خمسة آلاف وستة غير أسير وجريح فدنوت من الأمير أبي عبيدة رضي الله عنه وقلت البشارة أيها الأمير فاني عددت خمسة آلاف وستة غير أسير وجريح فقال الأمير أبو عبيدة بشرت بخير يا سعيد يا ابن زيد فهل ترى قتل بطريقهم هربيس فقال سعيد بن زيد أيها الأمير إذا كان قتل بطريقهم هربيس فما قتله غيري فقال الأمير أبو عبيدة وكيف علمت أنه قتيلك يا سعيد فقال سعيد بن زيد أيها الأمير اني رأيت فارسا عظيم الخلقة طويلا ضخما احمر اللون وبيده سيف وعليه لامة حربه صفتهما كذا وكذا وهو في وسط الروم كأنه البعير الهائج فحملت عليه وقلت في حملتي اللهم إني اقدم قدرتك على قدرتي وغلبتك
159

على غلبتي اللهم اجعل قتله على يدي وارزقني اجره فقال له أبو عبيدة اما اخذت سلبه يا سعيد قال لا ولكن علامتي فيه نبلة من كنانتي أثبتها في قلبه فخر يهوي عن جواده ونفرت عنه أصحابه فلحقته فضربته بسيفي ضربة فصرمت حقوته ونبلتي في قلبه قال أبو عبيدة رضي الله عنه أدركوه رحمكم الله وسلموا سلبه إلى سعيد ففعلوا ذلك
قال الواقدي فلما أخذت الحرب أوزارها اخذ المسلمون الاسلاب والدروع والشهابي ومثلوا الجميع أمام الأمير أبي عبيدة رضي الله عنه فأخرج منها الخمس لبيت مال المسلمين وقسم الباقي على المجاهدين قال ووقع الصياح والبكاء في حمص على من قتل منهم من فرسان الكفار ورجالهم قال واجتمع مشايخ حمص ورؤساؤهم إلى بيعتهم وتحدثوا مع القسوس والرهبان على أن يسلموا حمص إلى المسلمين وخرج علماء دينهم ورؤساؤهم إلى أبي عبيدة رضي الله عنه وصالحوه على تسليم المدينة اليه وأن يكونوا تحت ذمامه وأمانة فصالحهم أبو عبيدة رضي الله عنه وقال لست أدخل مدينتكم حتى نرى ما يكون بيننا وبين الملك هرقل وأراد أهل حمص أن يكرموا المسلمين بالإقامة والعلوقة فنهاهم الأمير أبو عبيدة عن ذلك ولم يدخل أحد من المسلمين إلى حمص الا بعد وقعة اليرموك كل ذلك ليتقرب المسلمون إلى الروم بالعدل وحسن الصحبة قال جرير بن عوف حدثنا حميد الطويل قال حدثني سنان بن راشد اليربوعي قال حدثنا سملة بن جريج قال حدثنا النجار وكان ممن يعرف فتوح الشام قال لما صالحنا أهل حمص بعد قتل هربيس خرج أهل حمص ودفنوا قتلاهم فافتقدنا القتلى الذين استشهدوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدنا من استشهد من المسلمين مائتين وخمسة وثلاثين فارسا كلهم من حمير وهمدان الا ثلاثين رجلا من أهل مكة وهم عكرمة بن أبي جهل وصابر بن جرىء والريس بن عقيل ومروان بن عامر والمنهال بن عامر السلمي ابن عم العباس رضي الله عنه وجمح بن قادم وجابر بن خويلد الربعي فهؤلاء من المسلمين الذين استشهدوا يوم حمص والباقون من اليمن وهمدان ومن أخلاط الناس
ذكر وقعة اليرموك
قال الواقدي واتصلت الاخبار إلى الملك هرقل أن المسلمين قد فتحوا حمص والرستن وشيزر وقد أخذوا الهدية التي بعثها إلى هربيس البطريق فبلغ ذلك منه دون النفس وأقام ينتظر الجيوش والعساكر من أقصى بلاد الروم لأنه قد كان كاتب كل من يحمل الصليب فما مضى عليه الا أيام قلائل حتى صار أول جيوشه عنده بأنطاكية وآخرها في رومية الكبرى وانه بعث جيشا إلى قيسارية ساحل الشام يكون حفظه على عكاء وطبرية وبعث بجيش آخر إلى بيت المقدس وأقام ينتظر قوم ماهان الأرمني ملك الأرمن وقد جمع من الأرمن ما لا يجمعه أحد من أهالي الملك هرقل وبعد أيام قدم على الملك هرقل للقائه في أرباب دولته فلما قرب منه ترجل ماهان
160

وجنوده وكفروا بين يديه ورفعا أصواتهم بالبكاء والنحيب مما وصل إليهم من فتح المسلمين بلادهم فنهاهم عن ذلك وقال يا أهل دين النصرانية وبني ماء المعمودية قد حذرتكم وخوفتكم من هؤلاء العرب ولم تقبلوا مني فوحق المسيح والإنجيل الصحيح والقربان ومذبحنا المعمدان لا بد لهؤلاء العرب أن يملكوا ما تحت سريري هذا والآن البكاء لا يصلح الا للنساء وقد اجتمع لكم من العساكر ما لم يقدر عليه ملك من ملوك الدنيا وقد بذلت مالي ورجالي كل ذلك لاذب عنكم وعن دينكم وعن حريمكم فتوبوا للمسيح من ذنوبكم وانووا للرعية خيرا ولا تظملوا وعليكم بالصبر في القتال ولا يخامر بعضكم بعضا وإياكم والعجب والحسد فإنهما ما نزلا بقوم الا ونزل عليهم الخذلان واني أريد أن أسألكم وأريد منكم الجواب عما أسألكم عنه فقالت العظماء من الروم والملوك اسأل أيها الملك عما شئت
قال إنكم اليوم أكثر عددا وأغزر مددا من العرب وأكثر جمعا وأكثر خياما وأعظم قوة فمن أين لكم هذا الخذلان وكانت الفرس والترك والجرامقة تهاب سطوتكم وتفزع من حربكم وشدتكم وقد قصدوا إليكم مرارا ورجعوا منكسرين والآن قد علا عليكم العرب وهم أضعف الخلق عراة الأجساد جياع الأكباد ولا عدد ولا سلاح وقد غلبوكم على بصرى وحوران وأجنادين ودمشق وبعلبك وحمص قال فسكت الملوك عن جوابه فعندها قام قسيس كبير عالم بدين النصرانية وقال أيها الملك أما تعلم لم نصرت العرب علينا قال لا وحق المسيح فقال القسيس أيها الملك لان قومنا بدلوا دينهم وغيروا ملتهم وجحدوا بإجابة المسيح عيسى ابن مريم صلوات الله وسلامه عليه وظلموا بعضهم وليس فيهم من يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر وليس فيهم عدل ولا احسان ولا يفعلون الطاعات وضيعوا أوقات الصلوات وأكلوا الربا وارتكبوا الزنا وفشت فيهم المعاصي والفواحش وهؤلاء العرب طائعون لربهم متبعون دينهم رهبان بالليل صوام بالنهار ولا يفترون عن ذكر ربهم ولا عن الصلاة على نبيهم وليس فيهم ظلم ولا عدوان ولا يتكبر بعضهم على بعض شعارهم الصدق ودثارهم العبادة وأن حملوا علينا لا يرجعون وان جملنا عليهم فلا يولون وقد علموا أن الدنيا دار الفناء وان الآخرة هي دار البقاء
قال الواقدي فلما سمع القوم والملك هرقل ما قاله القسيس قالوا وحق المسيح لقد صدقت بهذا نصرت العرب علينا لا محالة وإذا كان فعل قومنا ما ذكرت فلا حاجة لي في نصرتهم واني قد عولت أن أصرف هذه الجيوش والعساكر إلى بلادها وآخذ أهلي ومالي وأنزل من أرض سورية وأرحل إلى أسبوك يعني القسطنطينية فأكون هناك آمنا من العرب قال فلما سمع القوم ذلك من الملك صفوا بين يديه وقالوا أيها الملك لا تفعل ولا تخذل دين المسيح فيطالبك بذلك يوم القيامة وتعيرك الملوك بذلك ويستضعفون رأيك وأيضا تشمت بنا أعداؤنا إذا أنت خرجت من جنة
161

الشام وسكن بعدنا فيها العرب وقد اجتمع لنا مثل هذا الجيش الذي ما اجتمع لملك من ملوك الدنيا ونحن نلقى العرب ونصبر على قتالهم ولعل المسيح أن ينصرنا عليهم فاعزم وقدم من شئت واتركنا ننهض إلى قتال العرب
قال ففرح الملك هرقل بقولهم ونشاطهم وعول على أن يبعث الجيش مع خمسة ملوك من الروم فأول ما عقد لواء من الديباج المنسوج بالذهب الأحمر وعلى رأسه صليب من الجوهر وسلمه إلى قناطير ملك الروسية وضم اليه مائة ألف فارس من الصقالبة وغيرهم وخلع عليه وتوجه ومنطقه وسوره ثم عقد لواء آخر من الديباج الأبيض فيه شمس من الذهب الأحمر وعلى رأسه صليب من الزبرجد الأخضر وسلمه إلى جرجير وهو ملك عمورية وملورية وخلع عليه وسوره ومنطقه وضم اليه مائة ألف فارس من الروم والفردانة ومن سائر الأجناس الرومية ثم عقد لواء ثالثا من الدستري الملون عليه صليب من الذهب الأحمر وسلمه إلى الديرجان صاحب القسطنطينية وضم اليه مائة ألف فارس من المغليط والإفرنج والقلن وخلع عليه ومنطقه وسوره
ثم عقد لواء رابعا مرصعا بالدر والجوهر عليه قبضة من الذهب وعليه صليب من الياقوت الأحمر وسلمه إلى ماهان ملك الأرمن وكان يحبه محبة عظيمة لأنه كان من أهل الشجاعة والتدبير وقد قاتل عساكر الفرس والترك وهزمهم مرارا فلما عقد له لواء خلع عليه الثياب التي كانت عليه وتوجه وسوره ومنطقه وقلده بالقلائد التي لا يتقلد بها الا الملوك الأكابر وقال له يا ماهان قد وليتك على هذا الجيش كله ولا أمر على أمرك ولا حكم على حكمك ثم قال لقناطير وجرجير والديرجان وقورين وهم ملوك الجيش اعلموا أن صلبانكم تحت صليب ماهان وأمركم اليه فلا تصنعوا أمرا الا بمشورته ورأيه واطلبوا العرب حيث كانوا ولا تفشلوا وقاتلوا عن دينكم القديم وشرعكم المستقيم وافترقوا على أربع طرق فإنكم ان أخذتم على طريق واحدة لم تسعكم وتهلكوا الأرض ومن عليها ثم خلع على جبلة بن الأيهم الغساني وضم اليه العرب المتنصرة من غسان ولخم وجذام وقال لهم كونوا في المقدمة فان هلاك كل شيء بجنسه والحديد لا يقطعه الا الحديد ثم أمر القسوس أن يغمسوهم في ماء المعمودية ويقرءوا عليهم ويصلوا عليهم صلاة الموتى قال حدثنا نوفل بن عدي عن سراقة عن خالد قال أخبرنا قاسم مولى هشام بن عمرو ابن عتبة وكان ممن حضر فتوح الشام كله قال فكانت جملة من بعث الملك هرقل إلى اليرموك من العساكر ستمائة الف فارس من سائر طوائف أهل الكفر ممن يعتقد الصليب
قال وحدثنا جرير بن عبد الله عن يونس بن عبد الأعلى أن جملة من بعث الملك هرقل سوى جيش أنطاكية إلى اليرموك سبعمائة ألف فارس قال راشد بن
162

سعيد الحميري كنت احضر اليرموك من أوله إلى آخره فلما أشرفت علينا عساكر الروم باليرموك نحونا صعدت على محل من الأرض مرتفع وأقبلت الروم بالرايات والصلبان فعددت عشرين راية فلما استقرت الروم باليرموك بعث الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه روماس صاحب بصرى ليحزر عدد القوم قال فتنكر روماس وغاب عنا يوما وليلة ثم عاد الينا فلما رأيناه اجتمعنا عنده وسأل أبو عبيدة روماس عن ذلك فقال أيها الأمير سمعت القوم يذكرون أن عددهم ألف ألف فلا أدري أهم يتحدثون بذلك ليسمع جواسيسنا ويحدثوا بذلك أم لا فقال أبو عبيدة يا روماس كم عهدك بهم وكم يكون تحت كل راية من عساكر الروم فقال أيها الأمير أما ما عهدت في عساكر الروم فتحت كل راية خمسون ألف فارس فلما سمع أبو عبيدة ذلك قال الله أكبر أبشروا بالنصر على الأعداء ثم قرأ الآية * (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين) *
قال الواقدي ثم إن الملك هرقل لما قلد أمر جيوشه ماهان ملك الأرمن وأمره بالنهوض إلى قتال المسلمين ركب الملك هرقل وركب الروم وضربوا بوق الرحيل وخرج الملك هرقل ليتبع عساكره على باب فارس وسار معهم يوصيهم وقال لقناطير وجرجير والديرجان وقورين ليأخذ كل رجل منكم طريقا وأمر كل واحد منكم نافذ على جيشه فإذا لقيتم العرب فالامر فيكم لماهان ولا يد على يده واعلموا أنه ليس بينكم وبين هؤلاء الا هذه الوقعة فان غلبوكم فلا يقنعوا ببلادكم بل يطلبونكم حيث سلكتم ولا يقنعون بالمال دون النفس ويتخذون حريمكم وأولادكم عبيدا فاصبروا على القتال وانصروا دينكم وشرعكم
قال الواقدي ثم وجه قناطير بجيشه على طريق جبلة واللاذقية وبعث جرجير على طريق الجادة العظمى وهي أرض العراق وسومين وبعث قورين على طريق حلب وحماة
وبعث الديرجان على أرض العواصم وسار ماهان في أثر القوم بحيوشه والرجال أمامه ينحتون له الأرض ويزيلون من طريقهم الحجارة وكانوا لا يمرون على بلد ولا مدينة الا اضروا بأهلها ويطالبونهم بالعلوفة والاقامات ولا قدرة لهم بذلك فيدعون عليهم ويقولون لاردكم الله سالمين قال وجبلة بن الأيهم في مقدمة ماهان ومعه العرب المتنصرة من غسان ولخم وجذام
قال الواقدي حدثني من أثق به ان الطاغية هرقل لما بعث جيوشه إلى قتال المسلمين وكان للأمير أبي عبيدة في جيوش الروم عيون وجواسيس من المعاهدين يتعرفون له الاخبار فلما وصل جيش الروم إلى شيزر فارقتهم عيون أبي عبيدة وساروا طالبين عسكر المسلمين فلم يجدوهم على حمص فسألوهم عنهم فأخبروهم أنهم رحلوا لان الأمير أبا عبيدة رضي الله عنه لما فتح حمص ترك عندهم من يأخذ الخراج والذي تركه عندهم رجال من أهل حمص من كبرائهم ورؤسائهم وجعل الجواسيس
163

يسيرون حتى وصلوا إلى الجابية وحضروا بين يدي الأمير أبي عبيدة رضي الله عنه وأخبروه بما رأوه من عظم الجيوش والعساكر فلما سمع أبو عبيدة ذلك عظم عليه وكبر لديه وقال لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم وبات قلقا لم تغمض له عين خوفا على المسلمين فلما طلع الفجر أذن فصلى بالمسلمين فلما فرغ من صلاته أقسم على المسلمين أن لا يبرحوا حتى يسمعوا ما يقول ثم قام فيهم خطيبا وحمد الله تعالى وأثنى عليه وذكر النبي صلى الله عليه وسلم وترحم على أبي بكر الصديق رضي الله عنه ودعا للمسلمين بالنصر وقال يا معاشر المسلمين اعلموا رحمكم الله ان الله ابتلاكم ببلاء حسن لينظر كيف تعملون وذلك عندما صدقكم الوعد وأيدكم بالنصر في مواطن كثيرة واعلموا أن عيوني أخبروني أن عدو الله هرقل استنجد علينا من كبار بلاد الشرك وقد سيرهم إليكم وأثقلهم بالزاد والسلاح * (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون) * واعلموا أنهم قد ساروا إليكم في طرق مختلفة ووعدهم طاغيتهم أن يجتمعوا بازائكم على قتالكم واعلموا أن الله معكم وليس بكثير من يخذله الله تعالى وليس بقليل من يكون الله تعالى معه فما عندكم من الرأي رحمكم الله تعالى ثم قال لبعض عيونه قم وأخبر المسلمين بما رأيت فقام الرجل وأخبر الناس بما رأى من الجيوش الثقيلة وعددها وعديدها فعظم ذلك على المسلمين وداخل قلوب رجال منهم الهيبة والجزع وجعل بعضهم ينظر إلى بعض ولم يرد أحد منهم جوابا فقال أبو عبيدة رضي الله عنه ما هذا السكوت عن جوابي رحمكم الله فأشيروا على أيديكم فان الله عز وجل يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم * (وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله) *
قال الواقدي فتكلم رجل من أهل السبق وقال أيها الأمير أنت رجل لك رفعة ومكان وقد نزلت فيك آية من القرآن وأنت الذي جعلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أمين هذه الأمة فقال عليه السلام لكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة رضي الله عنه عامر بن الجراح أشر أنت علينا بما يكون فيه الصلاح للمسلمين فقال الأمين أبو عبيدة رضي الله عنه انما انا رجل منكم تقولون وأقول وتشيرون وأشير والله الموفق في ذلك فقام اليه رجل من أهل اليمن وقال أيها الأمير الذي نشير به عليك أن تسير من مكانك وتنزل في فرجة من وادي القرى فيكون المسلمون قريبا من المدينة والنجدة تصل الينا من الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وإذا طلب القوم أثرنا وأقبلوا الينا كنا عليهم ظاهرين فقال الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه اجسلوا رحمكم الله فقد أشرتم بما عندكم من الرأي وإني أن برحت من موضعي هذا كره لي عمر بن الخطاب ذلك وأخذ يعنفني ويقول تركت مدائن فتحها الله على يديك ونزحت عنها وكان ذلك هزيمة منك ثم قال أشيروا علي برأيكم رحمكم الله تعالى
فقام اليه قيس بن هبيرة المرادي وقال يا أمير المؤمنين لاردنا الله إلى أهلنا سالمين ان خرجنا من الشام وكيف ندع هذه الأنهار المتفجرة والزروع والأعناب والذهب
164

والفضة والديباج ونرجع إلى قحط الحجاز وجد به وأكل خبز الشعير ولباس الصوف ونحن في مثل هذا العيش الرغد فان قتلنا فالجنة وعدنا ونكون في نعيم لا يشبه نعيم الدنيا فقال أبو عبيدة رضي الله عنه صدق والله قيس بن هبيرة وبالحق نطق ثم قال يا معاشر المسلميي اترجعون إلى بلاد الحجاز والمدينة وتدعون لهؤلاء الاعلاج قصورا وحصونا وبساتين وأنهارا وطعاما وشرابا وذهبا وفضة ما لكم مع ما لكم عند الله عز وجل في دار البقاء من حسن الطعام ولقد صدق قيس بن هبيرة في قوله لنا ولسنا ببارحين منزلنا هذا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين قال فوثب قيس بن هبيرة وقال صدق الله قولك أيها الأمير وأعانك على ولايتك ولا تبرح من مكانك وتوكل على الله وقاتل أعداء الله فان فاتنا فتح عاجل فما يفوتنا ثواب آجل فقال أبو عبيدة رضي الله عنه شكر الله فضلك وغفر لنا ولك والرأي رأيك وتتابع قول المسلمين بحسن رأيهم الا خالد بن الوليد رضي الله عنه فإنه ساكت لا يقول شيئا فقال أبو عبيدة رضي الله عنه يا أبا سليمان أنت الرجل الجريء والفارس الشهم ومعك رأي وعزم فما تقول فيما قال قيس بن هبيرة فقال خالد رضي الله عنه نعم ما أشار به قيس إلا أن الرأي عندي غير رأيه ولكن لا أخالف المسلمين فقال أن كان عندك رأي فيه صلاح فائت به وكلنا لرأيك تبع فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه اعلم أيها الأمير أنك ان أقمت في مكانك هذا فإنك تعين على نفسك لأن هذه الجابية قريبة من قيسارية وفيها قسطنطين ابن الملك هرقل في أربعين ألف فارس وأهل الأردن قد اجتمعوا اليه خوفا منكم والذي أشير به عليكم أن ترحلوا من منزلكم هذا وتجعلوا أذرعات خلف ظهوركم حتى ينزلوا اليرموك ويكون المدد من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قريبا منكم متلاحقا بكم وأنتم على فتح لقتال عدوكم وهي أرض واسعة لمجال الخيل قال فلما نطق خالد بن الوليد بهذا الكلام قال المسلمون نعم ما أشار به خالد وقال أبو سفيان بن حرب أيها الأمير افعل برأي خالد بن الوليد رضي الله عنه وابعثه إلى ما يلي الرمادة فيكون بين عساكرنا وعساكر الروم المقيمة بالأردن لئلا ندهي منهم عند رحيلنا فإنه سيكون لرحيلنا ورحيل عسكرنا بين هذه الأشجار ضجة عظيمة وجلبة هائلة فيداخل عدوكم فيكم الطمع فان اقبلوا يريدون غارة ومكيدة لقيهم خالد بن الوليد رضي الله عنه بمن معه فقال خالد بن الوليد والله يا ابن حرب لقد نطقت عن ضميري وهكذا الرأي عندي
فعند ذلك أمر أبو عبيدة الناس بالرحيل من الجابية فرحلوا ودعا أبو عبيدة بجيش خالد بن الوليد الذي أقبل به من أرض العراق وهو جيش الزحف وهو يومئذ أربعة آلاف فارس وأمر خالد بن الوليد رضي الله عنه أن يسير بهم ويكون على طلائع المسلمين وحرسهم من وراء ظهورهم قال ووقعت الضجة للمسلمين عند رحيلهم حتى سمع
ضجيجهم من مسيرة فرسخين وطلبوا اليرموك وسمع الروم المجتمعة بالأردن ضجة المسلمين عند رحيلهم فظنوا أنهم هاربون إلى الحجاز لما بلغهم من جيش هرقل فطمعوا
165

فيهم وهموا بالغارة على أطرافهم فلقيهم خالد بن الوليد رضي الله عنه فصاح في رجاله وقال دونكم والقوم فهذه علامة النصر قال فانتضى المسلمون السيوف ومدوا الرماح وحمل خالد بن الوليد رضي الله عنه وحمل ضرار بن الأزور رضي الله عنه والمرقال وطلحة بن نوفل العامري وزاهد بن الأسد وعامر بن الطفيل وابن أكال الدم وغير هؤلاء من الفرسان المعدودين للبراز فلم يكن للروم طاقة بهم فولوا منهزمين والمسلمون يقتلون ويأسرون حتى وصلوا إلى الأردن فغرق منهم خلق كثير ورجع خالد بن الوليد رضي الله عنه وأما الأمير أبو عبيدة فإنه نزل باليرموك وجعل أذرعات من خلفه وكان هناك تل عظيم فعمد أبو عبيدة رضي الله عنه إلى نساء المسلمين وأولادهم فأصعدهم على ذلك التل وأقام الحراس والطلائع على سائر الطرقات فلما وصل خالد بن الوليد رضي الله عنه بالأسارى والغنائم فرح أبو عبيدة رضي الله عنه فرحا شديدا وقال أبشروا رحمكم الله تعالى هذه علامة النصر والظفر وأقام المسلمون باليرموك وهم مستعدون لقتال عدوهم كأنهم ينتظرون وعدا وعدوا به وبلغ الخبر إلى قسطنطين ابن الملك هرقل بأن المسلمين قد نزلوا باليرموك وإن ملوك الروم سائرون لقتالهم فبعث رسولا إلى الملوك يستضعف رأيهم في ابطاء أمرهم ويحثهم على قتال المسلمين فلما ورد رسوله إلى ماهان دعا بالملوك والبطارقة وقرأ عليهم كتاب قسطنطين ابن الملك هرقل وأمرهم بالمسير فسارت جيوش الروم يتلو بعضها بعضا لا يمرون ببلد من مدائن الشام التي فتحها المسلمون الا ويعنفون أهلها ويقولون لهم يا ويلكم تركتم أهل دينكم وملتكم وملتم إلى العرب فيقولون لهم أنتم أحق بالملامة منا لأنكم هربتم منهم وتركتمونا للبلاء فصالحنا عن أنفسنا فيعرفون الحق فيسكتون ولم يزالوا سائرين حتى وصلوا إلى اليرموك فنزلوا بدير يقال له دير الجبل وهو بالقرب من الرمادة والجولان وجعلوا بينهم وبين عسكر المسلمين ثلاثة فراسخ طولا وعرضا فلما تكاملت الجيوش باليرموك أشرفت سوابق الخيل على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان جبلة بن الأيهم في المقدمة في ستين ألف فارس من العرب المتنصرة من غسان ولخم وجذام وهم على مقدمة ماهان فلما نظر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كثرة جيوش الروم قالوا لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم قال عطية بن عامر فوالله ما شبهت عساكر اليرموك الا كالجراد المنتشر إذا سد بكثرته الوادي قال ونظرت إلى المسلمين قد ظهر منهم القلق وهم لا يفترون عن قول لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم وأبو عبيدة رضي الله عنه يقول * (ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين) * قال وأخذ المسلمون أهبتهم ودعا الأمير أبو عبيدة بجواسيسه من المعاهدين وأمرهم أن يدخلوا عساكر الروم يجسون له خبر القوم وعددهم وعديدهم وسلاحهم وقال أبو عبيدة رضي الله عنه أنا أرجو من الله تعالى أن يجعلهم غنيمة لنا
قال الواقدي فلما نزل ماهان بعساكره بإزاء المسلمين على نهر اليرموك أقام
166

أياما لا يقاتل ولا يثير حربا
جبلة بن الأيهم
قال الواقدي وكان تأخير ماهان لامر وذلك أن رسولا ورد عليه من الملك هرقل يقول له لا تنجز الحرب بينك وبين المسلمين حتى نبعث إليهم رسولا ونعدهم منا كل سنة بمال كثير وهدايا لصاحبهم عمر بن الخطاب ولكل أمير منهم ويكون لهم من الجابية إلى الحجاز فلما وصل الرسول إلى ماهان قال هيهات هيهات أن كانوا يجيبون إلى ذلك أبدا فقال له جرجير وهو من بعض ملوك الجيش وما عليك وما عليك في هذا الذي ذكره الملك هرقل من المشقة فقال ماهان اخرج أنت إليهم وادع منهم رجلا عاقلا وخاطبه بالذي سمعت واجتهد في ذلك قال فلبس جرجير ثياب الديباج وتعصب بعصابة من الجوهر وركب شهباء عالية بسرج من الذهب الأحمر المرصع بالدر والجوهر وخرج معه ألف فارس من المدبجة وسار حتى أشرف على عساكر المسلمين أوقف جرجير أصحابه وقرب من المسلمين ووقف بإزائهم وقال يا معاشر العرب أنا رسول من الملك ماهان فليخرج إلي أميركم والمقدم عليكم حتى نعرض عليه مقالنا ولعلنا نصطلح ولا نسفك دم بعضنا قال فسمعه المسلمون فأعلموا الأمير أبا عبيدة رضي الله عنه بذلك فخرج بنفسه اليه وعليه ثوب من كرابيس العراق وعلى رأسه عمامة سوداء وهو متقلد بسيفه وسار إلى أن وصل إلى جرجير ورفس فرسه حين التقت عنق فرسيهما والناس ينظرون اليهما فقال أبو عبيدة رضي الله عنه يا أخا الكفر قل ما أنت قائل واسأل عما تريد فقال جرجير يا معاشر العرب لا يغرنكم أن تقولوا هزمنا عساكر الروم في مواطن كثيرة وفتحنا بلادهم وعلونا أكثر أرضهم فانظروا الآن ما قد أتاكم من العساكر فان معنا من سائر الأجناس المختلفة وقد تحالف الروم أن لا يفروا ولا ينهزموا وأن يموتوا عن آخرهم وليس لكم على ما ترون من طاقة فانصرفوا إلى بلادكم وقد نلتم ما نلتم من بلاد الملك هرقل وقد عول الملك أن يتعود الاحسان إليكم وهو يهب لكم ما أخذتم من بلادهم منذ ثلاث سنين وقد أخذتم السلاح والذهب والفضة وقد كنتم من الهالكين فقال الأمير أبو عبيدة أما ما ذكرت من عساكر الروم وانهم لا يفرون ولا ينهزمون فلو رأت الروم شفار سيوفنا هربت ناكصة على أعقابها وأما تهويلك لنا بكثرة عددكم فقد رأيت قلتنا وضعف أجسامنا وكيف لقينا جموعكم وكثرتها وعظم عددها وسلاحها وأحب الأشياء الينا يوم مشاجرتكم بالحرب والقتال حتى يعرف من الذي يثبت للحرب فلما سمع جرجير كلام الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه التفت إلى رجل من أصحابه يقال له بهيل فقال يا بهيل
الملك هرقل كأنه أعرف بهؤلاء العرب منا ثم لوى رأس جواده ورجع إلى ماهان واخبره بما قال أبو عبيدة فقال له ماهان دعوتهم إلى الموعد فقال لا وحق المسيح اني لم أفاتحه في شيء من ذلك لكن أبعث لهم بعض العرب المتنصرة فان
167

العرب يميل بعضهم إلى بعض قال فعندها دعا ماهان بجبلة بن الأيهم الغساني وقال يا جبلة اخرج إلى هؤلاء وخوفهم من كثرتنا وتواتر عددنا وألق في قلوبهم الرعب وأحط بهم مكرك قال فخرج جبلة بن الأيهم وسار حتى قرب من عساكر المسلمين ونادى برفيع صوته يا معاشر العرب ليخرج إلي رجل من ولد عمرو بن عامر لاخاطبه
بما أرسلت به
فلما سمع الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه كلام جبلة بن الأيهم قال قد بعث إليكم القوم بأبناء جنسكم يريدون الخديعة بصلة الرحم والقرابة فابعثوا اليه رجلا من الأنصار من ولد عمرو بن عامر فأسرع اليه بالخروج عبادة بن الصامت الخزرجي رضي الله عنه وقال لأبي عبيدة إيها الأمير أن أخرج إليه وأنظر ماذا يقول فأجيب عنه ثم خرج عبادة نحوه بجواده إلى أن وقف أمام جبلة بن الأيهم فنظر جبلة إلى رجل أسمر طويل شديد السمرة كأنه من رجال شنوءة فهابه ودخل الرعب في قلبه من عظم خلقته وكان عبادة بن الصامت من الخطاط رضي الله عنه فقال له جبلة يا فتى من أي الناس أنت فقال عبادة أنا من من ولد عمرو بن عامر فقال جبلة حييت فمن أنت فقال عبادة بن الصامت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسأل عما تريد فقال جبلة يا ابن العم انما خرجت إليكم لأني أعلم أن أكثركم من الرحم والقرابة فخرجت إليكم ناصحا ومشيرا واعلم أن هؤلاء القوم الذين قد نزلوا بازائكم معهم جنود لا قبل لكم بها وخلفهم عساكر وحصون وقلاع وأموال ولا تقولوا كسرنا وهزمنا عساكر الروم وأعلم أن الحرب دول وسجال وان هزمكم هؤلاء القوم لا يكون لكم ملجأ غير الموت وهؤلاء القوم ان انهزموا يرجعون إلى بلادهم وعساكرهم والخزائن والحصون وما قد نلتم نيلا فخذوه وامضوا إلى بلادكم سالمين قال عبادة بن الصامت يا جبلة أما علمت ما لقينا من جموعكم المتقدمة باجنادين وغيرها وكيف نصرنا الله عليكم وهرب طاغيتكم ونحن نعلم من بقي من جموعكم قد تيسر علينا أمره ونحن لا نخاف ممن يقدم علينا من جموعكم وقد ولغنا في الدماء فلم نجد أحلى من دماء الروم وأنا يا جبلة أدعوك إلى دين الاسلام وأن تدخل مع قومك في ديننا وتكون على شرفك في الدنيا والآخرة ولا تكون تابع علج من علوج الروم تفديه بنفسك من المهالك وأنت رجل من سادات العرب وملوكهم وان ديننا ظهر أوله وآخره يظهر كما ظهر أوله فاتبع سبيل من أناب إلى الحق وصدق به فقل لا إله إلا الله محمد رسول الله اللهم صل عليه وعلى آله وصحبه وسلم قال الواقدي فغضب جبلة بن الأيهم من كلام عبادة بن الصامت وقال لست مفارقا ديني فقال عبادة بن الصامت فان أبيت الا ما أنت عليه من الكفر فإياك أن تلقاني في الموعد الأول فان لنا وقعة عظيمة فان أخذتك شفار سيوفنا فلا تخلص من شفارها ودعنا وعساكر الروم فهم أهون علينا فان أبيت الا ما أنت عليه حل بك
168

مثل ما حل بهم
قال الواقدي فغضب جبلة بن الأيهم وقال لماذا تخوفني من سيوفكم أما نحن عرب مثلكم رجل لرجل فقال عبادة بن الصامت قد علمنا أنك أنما خرجت الينا مخادعا ومعينا ولسنا كأنتم يا ويلكم نحن على قلتنا نوحد ربنا ونتبع سنة نبينا محمد وأن ورائنا عسكرا يعلوا الأقطار ويسد القفار فقال جبلة لست أعرف وراءكم جيشا غير هذا الجيش ولا من ينصركم غيرهم فقال عبادة بن الصامت كذبت والله يا أبن الأيهم في قولك وان وراءنا رجالا انجادا وأبطالا شدادا يرون الموت مغنما والحياة مغرما كل واحد بنفسه يلقي جيشا حافلا يا ويلك أنسيت عليا وسطوته وعمر وشدته وعثمان وبراعته والعباس وطلعته والزبير مع ما يجتمع إليهم من فرسان المسلمين من مكة والطائف واليمن وغير ذلك قال فلما سمع جبلة ذلك من كلام عباة بن الصامت قال يا أبن العم أنا ما خرجت الا أريد النصحية لكم فان أبيتم ذلك فاسال قومك يجيبونا إلى الصلح فقال عبادة بن الصامت لا صلح بيننا الا بأداء الجزية أو الاسلام أو السيف وهو حكم بيننا وبينكم والله لولا أن الغدر يقبح بنا لعلوتك بسيفي هذا فلما سمع جبلة كلام عبادة وانه قد حاف عليه في الكلام لم يرد عليه جوابا غير أنه ثنى رأس جواده وأتى إلى ماهان فزعا مرعوبا وقد امتلأ قلبه رعبا من كلام عبادة بن الصامت فلما وقف بين يدي ماهان تبين في وجهه الجزع والفزع فقال لجبلة ما وراءك فقال أيها الملك أني خوفت وأرعبت ومنيت فكان ذلك كله عندهم بالسواء وقالوا ما بيننا الا الحرب والقتال فقال له ماهان فما هذا الفزع الذي أراه في وجهك وهم عرب مثلكم وأنتم عرب مثلهم وقد بلغني أنهم ثلاثون ألف فارس وأنتم ستون ألف فارس أما يقاتل الرجلان منكم الرجل الواحد منهم دونك يا جبلة فسر أنت وأبناء عمك من العرب المتنصرة إلى قتالهم وأنا وراءكم فان ظفرتم بهم كان الملك مشتركا بيننا وبينكم وتكون أقرب الناس الينا ويسلم إليكم ما فتحه العرب من بلاد الشام قال الواقدي وجعل ماهان يرغب جبلة في العطاء ويلينه ويحرضه على القتال في المسلميي حتى أجابه إلى ذلك وأخبر قومه وبني عمه من بني غسان ولخم وجذام وغيرهم من العرب المتنصرة وأمرهم بأخذ الأهبة للحرب والقتال ففعل القوم ذلك وركبوا في سابغ الحديد والزرد النضيد وهم ستون ألف فارس ما يخالطهم من غير العرب أحد يقدمهم جبلة بن الأيهم وعليه درع من الذهب الأحمر متقلد بسيف من عمل التبابعة وعلى رأسه الراية التي عقدها له الملك هرقل فسار جبلة نحو الصحابة في ستين ألف فارس حتى أشرف على عساكر المسلمين وأبو عبيدة يتحدث مع عبادة 2 بن الصامت بما جرى بينه وبين جبلة بن الأيهم إذ أشرفت عليهم العرب المتنصرة فلما رآهم المسلمون صاح بعضهم على بعض يا معاشر المسلمين قد أقبلت عليكم العرب المتنصرة لقتالكم فما أنتم قائلون
169

قالوا نقاتلهم ونرجو من الله تعالى الظهور عليهم والمعونة وعلى غيرهم وهموا بالحملة فصاح عليهم خالد بن الوليد رضي الله عنه وقال اصبروا رحمكم الله ولا تعجلوا حتى اكيدهم بمكيدة يهلكون بها وقال لأبي عبيدة رضي الله عنه أيها الأمير ان القوم قد استعانوا علينا بالعرب المتنصرة وهم اضعاف عددنا وان نحن نقاتلهم بجمعنا كله كان ذلك وهنا منا وضعفا وأريد أن أبعث لهم رسولا من بني عمهم يكلمهم في شأن ردهم عنا فان فعلوا كان ذلك كسرا لهم وللمشركين ووهنا عظيما وان أبوا الا الحرب والقتال خرج منا نفر يسير يردونهم على أعقابهم بعزة الله عز وجل قال فتعجب أبو عبيدة رضي الله عنه وقال يا أبا سليمان افعل ما تريد
فعند ذلك دعا خالد بن الوليد بقيس بن سعد وعبادة بن الصامت الخزرجي وجابر بن عبد الله وأبي أيوب بن خالد بن يزيد رضي الله عليهم أجمعين فلما وقفوا بين يديه قال لهم يا أنصار الله تعالى ورسوله هؤلاء العرب المتنصرة يريدون قتالكم وهم غسان ولخم وجذام وهم بنو عمكم في النسب فأخرجوا إليهم وخاطبوهم واجتهدوا في ردهم عن حربكم وقتالكم فان فعلوا ذلك والا أخذهم السيف منا ومنكم وكنا لقتالهم كفؤا
قال الواقدي فخرج أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العرب المتنصرة فوجدوا جبلة بن الأيهم قد نزل بإزاء المسلمين يريد حربهم وقتالهم فلما قربوا من بني غسان نادى جابر ابن عبد الله وقال يا معاشر العرب من لخم وغسان وجذام اننا بنو عمكم ونريد الدنو إليكم قال فأذن لهم جبلة بالدنو اليه فدخلوا عليه فإذا هو في مضرب
من الديباج وقد فرش بالحرير الأصفر وهو جالس وحوله ملوكه وملوك جفنة فحيوه بتحية ملوك العرب فرفع جبلة أقدارهم وأدنى مزارهم وقال يا بني العم أنتم من الرحم ومن القرابة واني خرجت إليكم من جهة هذا الجيش الذي يرهقكم فخرج إلي رجل منكم فأفرط علي في المقال فما الذي أتى بكم إلي فكان أول من كلمه جابر بن عبد الله وقال يا ابن العم لا تؤاخذنا فيما تكلم به صاحبنا فان ديننا لا يقوم الا بالحق والنصيحة وان النصيحة لك منا واجبة لأنك ذو قرابة ورحم وقد أتينا إليك ندعوك إلى دين الاسلام وتكون من أهل ملتنا ويكون لك ما لنا وعليك ما علينا فان ديننا شريف ونبينا ظريف فقال وما أحب ذلك ولا غيره انني ضنين بديني وأنتم يا معاشر الأوس والخزرج رضيتم لأنفسكم أمرا ونحن رضينا لأنفسنا أمرا لكم دينكم ولنا ديننا فقال له الأنصاري ان كنت لا تحب ان تفارق دينك الذي أنت عليه فاعتزل عن قتالنا لتنظر من تكون العاقبة والغلبة فان كانت لنا وأردت الدخول في ديننا قبلناك وكنت منا وأخانا وان أقمت على دينك قنعنا منك بالجزية وأقررناك على بلدك وعلى مواطن كثيرة لآبائك وأجدادك
فقال جبلة أخشى أن تركت حربكم وقتالكم وكانت الدائرة للقوم لا آمن أن
170

يتقووا على بلدي لان الروم لا ترضى مني الا أن أكون مقاتلا لكم وقد رأسوني على جميع العرب وأنا لو دخلت دينكم كنت دنيئا ولا اتبع فقال الأنصاري فان أبيت ما عرضناه عليك فان ظفرنا بك قتلناك فاعتزل عنا وعن سيوفنا فإنها تفلق الهام وتبري العظام فتكون الوقعة بغيرك أحب الينا من الوقعة بك وبمن معك قال وكانت الأنصار يريدون بهذا الكلام تخويفه وترغيبه كي ينصرف عنهم وجبلة يأبى ذلك فقال وحق المسيح والصليب لا بد أن أقاتل عن الروم ولو كان لجميع الأهل والقرابة فقال له قيس بن سعد يا جبلة أبيت الا أن يحتوي الشيطان على قلبك فيهوى بك في النار فتكون من الهالكين وانما أتينا لندعوك إلى دين الاسلام لان رحمك متصلة برحمنا فان أبيت فستعاين منا حربا شديدا يشيب فيه الطفل الصغير ثم وثب قيس بن سعد وقال لقومه انهضوا على بركة الله تعالى وعونه وحسن طاعته فبعدا له وسحقا فقام جبلة فاستعد للقتال بعدته قال فركب الأنصار خيولهم ورجعوا إلى الأمير أبي عبيدة وخالد بن الوليد رضي الله عنه وأعلموهما بمقالة جبلة وأنه ما يريد الا القتال فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه أبعده الله تعالى فوعيش عاش فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد المرسلين لينظرن منا جبلة ما ينظر
ثم قال خالد بن الوليد رضي الله عنه اعلموا معاشر المسلمين أن القوم في ستين ألف فارس من العرب المتنصرة وهم حزب الشيطان ونحن ثلاثون ألف فارس من حزب الرحمن ونريد أن نلقي هذا الجمع الكبير فان قاتلنا جبلة بجمعنا كله كان ذلك وهنا منا ولكن ينتدب منا أبطال ورجال إلى قتال هؤلاء العرب المتنصرة فقال أبو سفيان صخر بن حرب لله درك يا أبا سليمان فلقد أصبت الرأي فاصنع ما تريد وخذ من الجيش ما أحببت فقال إني قد رأيت من الرأي أن نندب من جيشنا ثلاثين فارسا فيلقى كل واحد ألفي فارس من العرب المتنصرة
قال الواقدي فلم يبق أحد من المسلمين الا عجب من مقالة خالد بن الوليد رضي الله عنه وظنوا أنه يمزح بمقالته وكان أول من خاطبه في ذلك أبو سفيان صخر بن حرب وقال يا ابن الوليد هذا كلام منك جد أو هزل فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه لا وعيش عاش فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قلت الا جدا فقال أبو سفيان فتكون مخالفا لامر الله تعالى ظالما لنفسك وما أظن أن لك في هذه المقالة مساعدا ولو قاتل الرجل منا مائتين كان ذلك أسهل من قولك يقاتل الرجل منا ألفين وأن الله عز وجل رحيم بعباده فرض رجلا منا تلقى الستين ألف فارس فما يجيبك أحد إلى ذلك وان أجابك رجل لما قلته فإنه ظالم لنفسه معين على قتله فقال خالد بن الوليد رضي الله عليه وسلم يا أبا سفيان كنت شجاعا في الجاهلية فلا تكن جبانا في الاسلام وانظر لمن أنتخب من رجال المسلمين وأبطال الموحدين فإنك إذا رأيتهم علمت أنهم رجال قد وهبوا أنفسهم لله عز وجل
171

وما يريدون بقتالهم غير الله تعالى ومن علم الله عز وجل ذلك من ضميره كان حقا على الله أن ينصره ولو سلك مفظعات النيران فقال أبو سفيان يا أبا سليمان الامر كما ذكرت وما أردت بقولي الا شفقة على المسلمين فإذا قد صح عزمك على ذلك فاجعل القوم ستين رجلا ليقاتل الرجل منهم ألف فارس من العرب المتنصرة فقال الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه نعم ما أشار به أبو سفيان يا أبا سليمان
فقال خالد بن الوليد رضي الله عن والله يا أيها الأمير ما أردت بفعلي هذا الا مكيدة لعدونا لأنهم إذا رجعوا إلى أصحابهم منهزمين بقوة الله عز وجل ويقولون لهم من لقيكم فيقولون لقينا ثلاثون رجلا يداخلهم الرعب منا ويعلم ماهان أن جيشنا كفء له فقال أبو عبيدة رضي الله عنه أن الامر كما ذكرت الا انه إذا كان ستون رجلا منا يكونون عصبة ومعينا بعضهم بعضا فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه أنا أنتدب من المسلمين رجالا أعرف صبرهم وقرارهم واقدامهم في الحرب وأعرض عليهم هذه المقالة فان أحبوا لقاء الله ورغبوا في ثواب الله عز وجل فإنهم يستتجيبون إلى ذلك وأن أحبوا الحياة الدنيا والبقاء فيها ولم يكن فيهم من تطيب نفسه للموت فما بخالد الا أن يبذل مهجته لله عز وجل والله الموفق لما يحبه ويرضاه
قال أبو عبد الله حدثنا عمرو بن سالم عن جده برعي بن عدي قال كنت بين يدي خالد بن الوليد رضي الله عنه فدعا بستين رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأول ما دعا خالد بن الوليد قال اين عمر التميمي اين شرحبيل بن حسنة كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم أين خالد أبن سعيد بن العاص أين يزيد بن أبي سفيان الأموي أين صفوان بن أمية الجمحي أين سهل ابن عمرو العامري أين ضرار بن الأزور الكندي أين رافع بن عميرة الطائي أين زيد الخيل أبيض الركابين أين حذيفة بن اليمان أين قيس بن سعد أين كعب بن مالك الأنصاري أين سويد بن عمرو الغنوي أين عبادة بن الصامت أين جابر بن عبد الله أين أبو أيوب الأنصاري أين عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم أجمعين أين عبد الله ابن عمرو بن الخطاب العدوي أين رافع بن سهل أين يزيد بن عامر أين عبيد بن أوس أين مالك بن نصر أين نصر بن الحرث أين عبد الله بن ظفر أين أبو لبابة بن المنذر أين عوف أين عابس بن قيس أين عبادة بن عبد الله الأنصاري أين رافع بن عجرة أين عبيد بن عبد الله أين معقب بن
قيس أين هلال أين الصابرون يوم أحد وقد ذكرهم الله تعالى في كتابه * (فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين) * أين أسيد الساعدي أين كلال بن الحرث المازني أين حمزة بن عمر الأسلمي أين يزيد بن عامر
قال الواقدي وقد سمى خالد بن الوليد رضي الله عنه الرجال الذين دعاهم لقتال جبلة بن الأيهم الا أني اختصرت في ذكرهم وقدمت ذكر الأنصار رضي الله عنه لان خالد بن الوليد رضي الله عنه انتخب أكثر الرجال من الأنصار فلما كثر النداء فيهم قالت الأنصار
172

ان خالدا اليوم يقدم ذكر الأنصار ويؤخر المهاجرين من ولد المغيرة بن قصي ويوشك انه يختبرهم أو يقدمهم للمهالك ويشفق على ولد المغيرة
قال الواقدي فلما سمع خالد بن الوليد رضي الله عنه ذلك من قولهم أقبل يخطو بجواده حتى توسط جميع الأنصار وقال لهم والله يا أولاد عامر ما دعوتكم الا لما ارتضيته منكم وحسن يقيني بكم وبايمانكم فأنتم ممن رسخ الايمان في قلبه فقالوا انك صادق في قولك يا أبا سليمان ثم صافحه القوم
قال الواقدي فلما انتخب خالد بن الوليد من فرسان المسلمين ستين رجلا كل واحد منهم يلقى جيشا بنفسه قال لهم خالد بن الوليد رضي الله عنه يا أنصار الله ما تقولون في الحملة معي على هذا الجيش الذي قد أتى يريد حربكم وقتالكم فإن كان لكم صبر وأيدكم الله بنصره مع صبركم وهزمتم هؤلاء العرب المتنصرة فاعلموا أنكم لجيش الروم غالبون فإذا هزمتم هؤلاء العرب وقع الرعب في قلوبهم فينقلبون خاسرين فقالوا يا أبا سليمان افعل بنا ما تريد والق ما تشاء فوالله لنقاتلن أعداءنا قتال من ينصر دين الله ونتوكل على الله تعالى وقوته ونبذل في طلب الآخرة مهجنا فجزاهم خالد بن الوليد رضي الله عنه خيرا وكذلك الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه وقال لهم تأهبوا رحمكم الله وخذوا أسلحتكم وعدتكم وليكن قتالكم بالسيف ولا يأخذ أحد منكم رمحا فان الرمح خوان ربما زاغ عن الطعن ولا تأخذوا السهام فإنها منايا منها المخطىء ومنها المصيب والسيف والحجف عليهما تدور دوائر الحرب واركبوا خيولكم السبق النواجي ولا يركب الرجل منكم الا جواده الذي يصبر به وتواعدوا أن الملتقى عند قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم قال فقدموا على أهاليهم وودعوهم فأما ضرار بن الأزور فإنه عمد إلى خيمته ليستعد بما يريد ويسلم على أخته خولة رضي الله عنها بنت الأزور فلما لبس لامة حربه قالت له أخته خولة يا أخي مالي أراك تودعني وداع من أيقن بالفراق أخبرني ماذا عزمت عليه فأخبرها ضرار بما قد عزم عليه وانه يريد ان يلقى العدو مع خالد بن الوليد رضي الله عنه فبكت خولة وقالت يا أخي افعل ما تريد أن تفعل والق عدوك وأنت موقن بالله تبارك وتعالى فإنه لكم ناصر وان عدوك لا يقرب إليك أجلا بعيدا ولا يبعد عنك أجلا قريبا فان حدث عليك حدث أو لحقك من عدوك نائبة فوالله العظيم شأنه لا هدأت خولة على الأرض أو تأخذ بثأرك فبكى ضرار بن الأزور لبكائها واعد آلة الحرب وكذلك الستون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يناموا طول ليلتهم حتى ودعوا أولادهم وأهاليهم وباتوا في بكاء وتضرع وهم يسألون الله تعالى النصر على الأعداء إلى أن أصبح الصباح فصلى بهم الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه صلاة الفجر فلما فرغ من صلاته كان أول من أسرع إلى الخرج خالد بن الوليد رضي الله عنه وحرض أصحابه على الخروج وهو ينشد ويقول
* هبوا جميع اخوتي أرواحا
* نحو العدو نبتغي الكفاحا
*
173

* نرجو بذاك الفوز والنجاحا
* إذا بذلنا دونه أرواحا
* ويرزق الله لنا صلاحا
* في نصرنا الغدو والرواحا
*
قال الواقدي وأنشد بيتا آخر لم أدر ما هو وخرج أمام المسلمين وأصحابه يقدمون اليه واحدا بعد واحد حتى اجتمع اليه الستون رجلا الذين انتخبهم وكان آخر من أقبل عليه الزبير بن العوام رضي الله عنه ومعه زوجته أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها وهي سائرة إلى جانب أيها عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهي تدعو لهم بالسلامة والنصر وتقول لأخيها يا أخي لا تفارق ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقت الحملة اصنع كما يصنع ولا تأخذكم في الله لومة لائم قال وودع المسلمون الستين أصحابهم وساروا بأجمعهم وخالد بن الوليد رضي الله عنه في أوساطهم كأنه أسد قد احتوشته الأسود ولم يزالوا حتى وقفوا بإزاء العرب المتنصرة
قال الواقدي ونظرت العرب المتنصرة إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أقبلوا نحوهم وهم نفر يسير فظنوا أنهم رسل يطلبون الصلح والمواعدة فصاح جبلة بالعرب المتنصرة وحرضهم ليرهب المسلمين ونادى يا آل غسان أسرعوا إلى نصرة الصليب وقاتلوا من كفر به فبادروا بالإجابة وأخذوا الأهبة للحرب ورفعوا الصليب واصطفوا للقتال وقد طلعت الشمس على لامة الحرب فلمع شعاعها على الحديد والزرد والبيض كأنها شعل نار ووقفوا يبصرون ما يصنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قاربوا صلبان العرب المتنصرة ونادى خالد بن الوليد رضي الله عنه يا عبدة الصلبان ويا أعداء الرحمن هلموا إلى الحرب والطعان فلما سمع جبلة كلام خالد رضي الله عنه علم أنهم ما خرجوا رسلا وانما خرجوا للقتال فخرج جبلة من بين أصحابه وقد اشتمل بلامة حربه وهو يقول
* انا لمن عبدوا الصليب ومن به
* نسطو على من عابنا بفعالنا
* ولقد علونا بالمسيح وأمه
* والحرب تعلم أنها ميراثنا
* انا خرجنا والصليب أمامنا
* حتى تبددكم سيوف رجالنا
*
ثم قال جبلة من الصائح بنا والمستنهض لنا في قتالنا فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه أنا فأخرج إلى حومة الحرب فقال جبلة نحن قد رتبنا أمورنا لحربكم وقتالكم وأنتم تتربصون عن قتالنا فوحق المسيح لا أجبناكم إلى الصلح أبدا فارجعوا إلى قومكم وأخبروهم اننا ما نريد الا القتال قال فأظهر خالد التعجب من قوله وقال له يا جبلة أتظن أننا خرجنا رسلا إليك فقال جبلة أجل فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه لا تظن ذلك أبدا فوالله ما خرجنا الا لحربكم وقتالكم فان قلتم اننا شرذمة فان الله ينصرنا عليكم فقال جبلة يا فتى قد غررت بنفسك وبقومك إذ خرجت إلى قتالنا ونحن سادات غسان ولخم وجذام فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه لا تظن ذلك واننا قليلون فقتالكم رجل منا لألف منكم وتخلف منا رجال أشهى إليهم الحرب من العطشان إلى
174

الماء البارد فقال جبلة يا أخا بني مخزوم لقد كنت أفضلك في عقلك وأروم بك مرام الابطال حتى سمعت منك هذا الكلام انك أنت والستين رجلا ترومون قتالنا ونحن سادات غسان وأبطال الزمان ها أنا أ حمل بهذه الستين ألف فارس فلا يبقى منكم أحد ثم صاح جبلة بقومه يا آل غسان الحملة
فلما سمعوا كلام سيدهم حملت الستون ألف فارس في وجه خالد بن الوليد والستين رجلا فثبت لهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتبك الحرب بينهم فما كنت تسمع الا زئير الرجال وزمجرة الابطال ووقع السيف على البيض الصقال حتى ما ظن أحد من المسلمين ولا من المشركين أن خالدا ومن معه ينجو منهم أحد فبكى المسلمون وأخذهم القلق على إخوانهم وجعل بعضهم يقول لقد غرر خالد بن الوليد بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهلكهم والروم تقول أن جبلة أهلك هؤلاء القوم فهلاك العرب حاصل بأيدينا لا محالة ولم يزل القوم في الحرب والقتال حتى قامت الشمس في كبد السماء قال عبادة بن الصامت فلله در خالد بن الوليد رضي الله عنه والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه والفضل بن العباس وضرار بن الأزور وعبد الله بن عمر بن الخطاب رضوان الله عليهم أجمعين لقد رأيت هؤلاء الستة قد قرنوا مناكبهم في الحرب وقام بعضهم بجنب بعض وهم لا يفترقون وزادت الحرب اشتعالا وخرقت الأسنة صدور الليوث حتى بلغت إلى خزائن القلوب لانقطاع الآجال ولم يزالوا في القتال الشديد الذي ما عليه من مزيد قال عبادة بن الصامت فحملت معهم وكنت في جملتهم وقلت يصيبني ما يصيبهم ونادى خالد بن الوليد وقال يا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ههنا المحشر وقد أعطى خالد القلب مناه فلما حمى بينهم القتال حمل خالد بن الوليد وهاشم والمرقال وتكاثرت عليهم الرجال فلله در الزبير ابن العوام والفضل بن العباس وهم ينادون أفرجوا يا معاشر الكلاب وتباعدوا عن الأصحاب نحن الفرسان هذا الزبير بن العوام وأنا الفضل بن العباس أنا أبن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه فوحق رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد أحصيت للفضل بن العباس عشرين حملة يحملها عن خالد بن الوليد حتى أزال عنه الرجال والابطال وحملوا على المشركين حملة عظيمة ولم يزالوا في القتال يومهم إلى أن جنحت الشمس إلى الغروب والمسلمون قد جهدهم القلق على اخوانهم أما الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه فإنه صاح بالمسلمين وقال يا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هلك خالد بن الوليد ومن معه لا محالة وذهبت فرسان المسلمن فاحملوا بارك الله فيكم لننظر ما كان من أر اخواننا فكل أجاب إلى قوله واشارته الا أبا سفيان صخر بن حرب رضي الله عنه فإنه قال للأمير أبي عبيدة رضي الله عنه لا تفعل أيها الأمير فإنه لا بد للقوم أن يتخلصوا ونرى ما يكون من أمرهم قال فلم يلتفت أبو عبيدة رضي الله عنه إلى كلامه وهم أن يحمل وقد أخذه القلق فبينما هو كذلك وإذا جيش العرب المتنصرة منهزمون وأصوات الصحابة رضي الله عنهم قد ارتفعت
175

بالتهليل والتكبير كل ينادي أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله والعرب المتنصرة منهزمة على أعقابهم كأنما صاح بهم صائح من السماء فبدد شملهم وأقبل خالد بن الوليد من وسط المعمعة يلتهب بما لحقه من التعب وكذا أصحابه الذين كانوا معه
قال وان خالد بن الوليد افتقد أصحابه الستين رجلا فلم يجد منهم الا عشرين فجعل يلطم على وجهه وهو يقول أهلكت المسلمين يا ابن الوليد فما عذرك غدا عند الرحمن وعند الأمير عمر بن الخطاب رضي الله عنه فبينما هو متحير في ذلك إذ أقبل عليه الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه وفرسان المسلمين وأبطال الموحدين فنظر أبو عبيدة رضي الله عنه إلى خالد بن الوليد وما يصنع بنفسه وقد اشتغل عن متابعة المشركين فقال أبو عبيدة يا أبا سليمان الحمد لله على نصر المسلمين ودمار المشركين فقال خالد بن الوليد اعلم أيها الأمير ان الله قد هزم الجيش ولكن أعقبتك الفرحة ترحة فقال أبو عبيدة رضي الله عنه وكيف ذلك فقال خالد أيها الأمير فقدت أربعين رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم الزبير بن العوام ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم الفضل بن العباس وجعل خالد بن الوليد رضي الله عنه يسمي فرسان المسلمين واحدا بعد واحد حتى سمى أربعين رجلا فاسترجع أبو عبيدة رضي الله عنه وقال لاحول ولا قوة الا بالله العلي العظيم وقال لخالد لا بد لعجبك يهلك المسلمون فقال سلامة بن الأحوص السلمي أيها الأمير دونك والمعركة فاطلب فيها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فان رأيتموهم والا فالقوم أسرى أو قد تبعوا المشركين فأمر أبو عبيدة فأتوا بهوادى النيران وكان الظلام قد اعتكر فافتقدوا المعركة بين القتلى فإذا قتل من العرب المتنصرة خمسة آلاف فارس وسيدان من ساداتهم وهما رفاعة بن مطعم الغساني والآخر شداد بن الأوس ووجدوا من قتل المسلمين عشرة رجال منهم اثنان من الأنصار أحدهما عامر الأوسي والآخر سلمة الخزرجي فقال أبو عبيدة رضي الله عنه يوشك أن بعض الصحابة قد تبع المشركين فقال أبو عبيدة رضي الله عنه اللهم ائتنا بالفرج القريب ولا تفجعنا بابن عمة نبيك الزبير بن العوام ولا بابن عمه
الفضل ابن العباس ثم قال أبو عبيدة معاشر المسلمين من يقفو لنا أثر القوم ويتعرف خبر الصحابة واجره على الله عز وجل فكان أول من أجابه خالد بن الوليد رضي الله عنه فقال له الأمير أبو عبيدة لا تفعل يا أبا سليمان لأنك تعبت من شدة الحرب فقال خالد والله لا يمضي في طلبهم غيري ثم غير جواده بفرس من خيول المسلمين وهو فرس حازم بن جبير بن عدي من بني النجار فركبه خالد ابن الوليد رضي الله عنه وطلب آثار القوم وتبعه جماعة من المسلمين فما سار خالد بعيدا حتى سمع خالد التهليل والتكبير فأجابهم بمثله فأقبل القوم وفي أوائلهم الزبير بن العوام والفضل ابن العباس وهاشم والمرقال فلما نظر خالد إليهم فرح فرحا شديدا ورحب بهم وسلم عليهم وقال خالد بن الوليد رضي الله عنه للفضل بن العباس يا ابن عم
176

رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان أمركم
فقال يا أبا سليمان هزم الله المشركين وردهم على أدبارهم خائبين فتبعنا آثارهم وان رجالا منا أسروا فرجونا خلاصهم فلم نرهم ولا شك أنهم قتلوا فقال خالد رضي الله عنه ان القوم في الأسر لا محالة فقال الزبير بن العوام من أين علمت ذلك يا أبا سليمان فقال خالد رضي الله عنه انا لم نجد في المعركة غير عشرة رجال ونحن عشرون وأنتم خمسة وعشرون وقد أسر خمسة رجال لا محالة وكان الاسرى رافع بن عميرة وربيعة بن عامر وضرار بن الأزور وعاصم بن عمرو ويزيد بن أبي سفيان فعظم ذلك على المسلمين ورجعوا إلى أبي عبيدة رضي الله عنه فلما نظر إلى الفضل بن العباس والى الزبير بن العوام والمرقال بن هاشم وقد رجعوا سالمين فرحين بما نصرهم الله على الكافرين سجد على قربوس سرجه شكرا لله تعالى فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه معاشر المسلمين لقد بذلت مهجتي أن أقتل في سبيل الله تعالى فلم أرزق الشهادة فمن قتل من المسلمين كان أجله قد حضر ومن أسر كان خلاصه على يدي إن شاء الله تعالى قال وباتت الفرسان في فرح وسرور وبات الروم في نوح عظيم حين كسرت حامية عسكرهم
قال الواقدي حدثني من أثق به ان الأمير أبا عبيدة رضي الله عنه لما نظر إلى عساكر الروم معولة على قتاله كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتابا يقول فيه بسم الله الرحمن الرحيم إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب من أبي عبيدة عامر بن الجراح عامله سلام عليك فاني أحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأعلم يا أمير المؤمنين أن كلب الروم هرقل قد استفز علينا كل من يحمل الصليب وقد سار القوم الينا كالجراد المنتشر وقد نزلنا باليرموك بالقرب من أرض الرماة والخولان والعدو في ثمانمائة ألف مقاتل غير التبع وفي مقدمتهم ستون ألف من العرب المنتصرة من غسان ولخم وجذام فأول من لقينا جبلة بن الأيهم في ستين ألف فارس وأخرجنا اليه ستين رجلا فهزم الله تعالى المشركين على أيديهم وما النصر الا من عند الله العزيز الحكيم وقتل من أصحابنا عشرة رجال وهم راعلة وجعفر بن المسيب ونوفل بن ورقة وقيس بن عامر وسلمة بن سلامة الخزرجي وأسر منهم خمسة رجال وهم رافع بن عميرة وربيعة بن عامر وضرار بن الأزور وعاصم بن عمرو ويزيد بن أبي سفيان ونحن على نية الحرب والقتال فلا تغفل عن المسلمين وأمدنا برجال من الموحدين ونحن نسأل الله تعالى أن ينصرنا وينصر الاسلام وأهله والسلام عليك وعلى جميع المسلمين ورحمة الله وبركاته وطوى الكتاب وسلمه إلى عبد الله بن قرط الأزدي وأمره أن يتوجه إلى مدينة يثرب قال عبد الله بن قرط فركبت من اليرموك يوم الجمعة في الساعة العاشرة بعد العصر وقد مضى من شهر ذي الحجة اثنا عشر يوما والقمر زائد النور فوصلت يوم الجمعة في الساعة الخامسة والمسجد مملوء بالناس فأنخت ناقتي على باب جبريل عليه السلام وأتيت الروضة وسلمت على رسول
177

الله صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه وصليت فيها ركعتين ونشرت الكتاب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال فضجت المسلمون عند رؤيته وتطاولت إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقبلت يديه وسلمت عليه فلما فتح عمر الكتاب انتقع لونه وتزعزع كونه وقال إنا لله وإنا إليه راجعون فقال عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب والعباس وعبد الرحمن بن عوف وطلحة وغيرهم من الصحابة يا أمير المؤمنين أطلعنا على ما في هذا الكتاب من أمر اخواننا المسلمين فقام عمر رضي الله عنه ورقى المنبر خطيبا وقرأ الكتاب على الناس فلما سمعوا ما فيه ضجوا بالبكاء شوقا إلى اخوانهم وشفقة عليهم وكان أكثر الناس بكاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وقال يا أمير المؤمنين ابعث بنا إليهم ولو قدمت أنت إلى الشام لشدت بك ظهور المسلمين فوالله ما املك الا نفسي ومالي وما ابخل بهما على المسلمين قال فلما سمع عمر بن الخطاب كلام عبد الرحمن بن عوف ونظر إلى اشفاق المسلمين وجزعهم على اخوانهم اقبل على عبد الله وقال يا بن قرط من المقدم على عساكر الروم فقلت خمسة بطارقة أحدهم ابن أخت الملك هرقل وهو قورين والديرجان وقناطير وجيرجير وصلبانهم تحت صليب ماهان الأرمني وهو الملك على الجميع وجبلة بن الأيهم الغساني مقدم على ستين ألف فارس من العرب المتنصرة فاسترجع عمر وقال لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم ثم قرأ عمر * (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون) *
ثم قال ما تشيرون به علي رحمكم الله تعالى فقال له علي بن أبي طالب رضي الله عنه أبشروا رحمكم الله تعالى فان هذه الوقعة يكون فيها آية من آيات الله تعالى يختبر بها عباده المؤمنين لينظر أفعالهم وصبرهم فمن صبر واحتسب كان عند الله من الصابرين واعلموا أن هذه الوقعة هي التي ذكرها لي رسول الله صلى الله ليه وسلم التي يبقى ذكرها إلى الأبد هذه الدائرة المهلكة فقال العباس علي من هي يا أبن أخي فقال يا عماه علي من كفر بالله واتخذ معه ولدا فثقوا بنصر الله عز وجل ثم قال لعمر يا أمير المؤمنين اكتب إلى عاملك أبي عبيدة كتابا وأعلمه فيه ان نصر الله خير له من غوثنا ونجدتنا فيوشك انه في أمر عظيم فقام عمر ورقى المنبر وخطب خطبة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون وذكر فضل الجهاد ثم نزل وصلى بالمسلمين فلما فرغ من صلاته كتب إلى أبي عبيدة كتابا يقول فيه بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى أمين الأمة أبي عبيدة بن الجراح ومن معه من المهاجرين والأنصار سلام عليكم فاني أحمد الله الذي لا إله إلا هو واصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أما بعد فان نصر الله خير لكم من معونتنا واعلموا أنه ليس بالجمع الكثير يهزم الجمع القليل وانما يهزم الجمع القليل وانما يهزم بما أنزل الله من النصر وان الله عز
وجل يقول * (ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين) * وربما ينصر الله العصابة القليل عددها على العصابة الكثيرة وما النصر الا من عند الله وقد قال تعالى فمنهم من قضى
178

* (نحبه ومنهم من ينتظر) * رالآية يا طوبى للشهداء ويا طوبى لمن يتكل على الله فالق العدو بمن معك من المسلمين ولا تيأس بمن صرح من المسلمين فقد رأيت من صرع بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما عجزوا عن عدوهم في مواطن كثيرة حتى قتلوا في سبيل الله ولم يهابوا لقاء الموت في جنب الله تعالى بل جاهدوا في سبيل الله حق جهاده * (وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين) * فإذا ورد عليك كتابي هذا فاقرأه على المسلمين وأمرهم أن يقاتلوا العدو في سبيل الله عز وجل واقرأ عليهم يا أيها الذين آمنوا أصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون والسلام عليك ورحمة الله وبركاته ثم طوى الكتاب وسلمه إلى عبد الله بن قرط وقال له يا ابن قرط إذا أشرفت على المسلمين وقد استوت الصفوف فسر بين صفوف الموحدين وقف على أصحاب الرايات منهم وخبرهم انك رسولي إليهم وقل لهم ان عمر بن الخطاب يسلم عليكم ويقول لكم يا أهل الايمان أصدقوهم الحرب عند اللقاء وشدوا عليهم شد الليوث وأضربوا هاماتهم بالسيوف وليكونوا عليكم أهون من الذباب فإنكم المنصورون عليهم أن شاء الله تعالى ثم اقرأ عليهم * (ألا إن حزب الله هم المفلحون) * قال عبد الله بن قرط قلت له يا أمير المؤمنين ادع الله تعالى لي بالسلامة والسرعة في السير
فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه اللهم احمه وسلمه واطو له البعيد انك على كل شيء قدير قال عبد الله بن قرط وخرجت من المسجد من باب الحبشة فقلت في نفسي لقد أخطأت في الرأي إذ لم أسلم على قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فما أدري أراه بعد اليوم أم لا قال عبد الله فقصدت حجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائشة رضي الله عنها جالسة عند قبره وعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه والعباس جالسان عند القبر والحسين في حجر علي والحسن في حجر العباس رضي الله عنه وهم يتلون سورة الأنعام وعلي رضي الله عنه يتلو سورة هود فسلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال علي رضي الله عنه يا ابن قرط عولت على المسير إلى الشام فقلت نعم يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أظن أن أصل إليهم الا والجيش قد التقى والحرب دائرة وإذا أشرفت عليهم لا يرون معي مدادا ولا نجدة خشيت عليهم أن يهنوا ويجزعوا وكنت أحب أن أصل إليهم قبل التقائهم بعدوهم حتى أعظهم وأصبرهم فقال علي رضي الله عنه فما منعك أن تسأل عمر بن الخطاب أن يدعو لك أما علمت يا أبن قرط أن دعاءه لا يرد ولا يحجب وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيه
لو كان نبي ثان بعدي لكان عمر بن الخطاب أليس هو الذي يوافق حكمه حكم الكتاب حتى قال المصطفى صلى الله عليه وسلم
لو نزل من السماء إلى الأرض عذاب ما نجا منه الا عمر بن الخطاب أما علمت أن الله تعالى انزل فيه آيات بينات أما هو الزاهد التقى أما هو العابد أما هو المشبه بنوح النبي فإن كان هو قد دعا لك فقد قرن دعاؤه
179

بالإجابة فقال عبد الله بن قرط ما ذكرت شيئا الا وأنا عارف به من فضل عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولكني أردت الزيادة من دعائك ودعاء العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا سيما عند قبر الرسول المعظم المكرم قال فرفع العباس رضي الله عنه عند يديه وعلي رضي الله عنه كذلك وقالا اللهم انا نتوسل بهذا النبي المصطفى والرسول المجتبى الذي توسل به آدم فأجبت دعوته وغفرت خطيئته الا سهلت على عبد الله طريقه وطويت له البعيد وأيدت أصحاب نبيك بالنصر انك سميع الدعاء ثم قال سر يا عبد الله بن قرط فالله تعالى أكرم من أن يرد دعاء عمر وعباس وعلي والحسن والحسين وأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد توسلوا اليه بأكرم الخلق عليه قال عبد الله بن قرط فخرجت من الحجرة وأنا فرح مستبشر واستويت على كور المطية وركبت الفلاة وأنا فرح بدعاء علي والعباس وعمر رضي الله عنهم أجمعين قال عبد الله خرجت من المدينة بعد العصر من يومي ذلك الذي دخلت فيه المدينة وانا أرقب الطريق فلما اختلط الظلام وأسبل الليل سجفه أرخيت زمام المطية فحسبت أنها تطير بي ولم أزل سائرا ثلاثة أيام فلما كانت صلاة العصر من اليوم الثالث أشرفت على اليرموك وسمعت ضجيج أذان المسلمين قال عبد الله فقصدت خيمة الأمير أبي عبيدة رضي الله عنه وأنخت ناقتي وسلمت عليه وكان لي منذ فارقته عشرة أيام فأخبرته بدعاء عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب والعباس والحسن والحسين رضي الله عنهم فقال أبو عبيدة صدقت يا أبن قرط وانهم لكرام على الله عز وجل وان دعاءهم لا يرد ثم قرأ الكتاب على المسلمين فطابت قلوبهم بذلك وقالوا أيها الأمير ما منا الا من يطلب الشهادة فالله تعالى يبلغنا إياها
قال الواقدي حدثني عمرو بن العلاء قال حدثنا ماجد عن الثقات قال لما سار عبد الله ابن قرط من المدينة يوم الجمعة فلما كان يوم السبت وقد صلينا الصبح خلف عمر بن الخطاب ونحن نقرأ من القرآن ما تيسر إذ سمعنا ضجة عظيمة وجلبة هائلة ففزعت قلوبنا فخرجنا مبادرين وإذا نحن بقوم من اليمن من صدوان وأرض سبأ وحضرموت واجتمعوا للجهاد وهم ستة آلاف يقدمهم جابر بن خول الربعي فترجلت ساداتهم وسلموا على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأمرهم بالنزول فلما أقل الظلام جاء ألف فارس من مكة والطائف ووادي نخلة وثقيف يقدمهم سعيد بن عامر وسلموا على عمر ونزلوا بإزاء أهل اليمن فلما كان يوم الأحد حمل عمر ضعيفهم وزودهم وعقد راية حمراء على قناة تامة وسلمها إلى سعيد بن عامر قال سعيد بن عامر فهممت بالمسير فقال عمر على رسلك يا ابن عامر حتى أوصيك ثم أقبل عمر بن الخطاب يمشي راجلا ومعه عثمان بن عفان والعباس وعلي بن أبي طالب وعبد الرحمن بن عوف فلما قربوا من الجيش وقف عمر والناس حوله وقال لسعيد بن عامر يا سعيد اني وليتك على هذا الجيش ولست بخير رجل منهم الا أن تتقي الله فإذا سرت فأرفق بهم ما استطعت ولا تشتم أعراضهم ولا تحتقر
180

صغيرهم ولا تؤثر قويهم ولا تتبع سواك ولا تسلك بهم المفاوز واقطع بهم السهل ولا ترقد بهم على جادة الطريق والله تعالى خليفتي عليك وعلى من معك من المسلمين فقال له علي بن أبي طالب كرم الله وجهه اسمع وصية امامك أمير المؤمنين الذي ختم الله تعالى به الأربعين وسميت به الأمة مؤمنين وهو الذي قال فيه رسول الله صلى
الله عليه وسلم
ان تطيعوه تهتدوا وترشدوا فسر يا سعيد وإذا وصلت إلى أبي عبيدة والتقى بكم الجيش الذي لا تلقون مثله وصعب عليكم أمره فاكتبوا إلى أمير المؤمنين عمر حتى يوجهني إليكم حتى أقلب أرض الشام على من فيها من المشركين إن شاء الله تعالى قال فسار بن عامر وهو يقول
* نسير بجيش من رجال أعزة
* على كل عجعاج من الخيل يصبر
* إلى شبل جراح وصحب نبينا
* لننصره والله للدين ينصر
* على كل كفار لعين معاند
* تراه على الصلبان بالله يكفر
*
قال وسار يجد السير قال سعيد بن عامر وكنت عارفا ببلاد الشام وطرقه وكنت أسير اليه في السنة مرة أو مرتين عسفا من غير جادة طريق أسير على الكواكب فلما سرت من المدينة وأنا بين يدي المسلمين سلكت بهم على طريق بصرى فضللت عن الطريق وعدلت عن الجادة وأنا محترز من العدو وخائف على المسلمين فجعلت أحيد عن العمارات وأسلك الفلاة توفيقا من الله واكراما ولطفا بعباده المؤمنين فلما ضللت أشكل علي الطريق كأني ما سلكته يوما قط فوقفت حائرا حتى تلاحق بي المسلمون فلم أعلمهم بأمري ولا أني ضللت عن الطريق وأنا أقول لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم فسرت يومين وليلتين وأنا أتيه بالناس والمسلمون يسألونني عن ذلك وأنا أقول لهم أني على طريق فلما كان في اليوم العاشر من مسيرنا من المدينة لاح لي جبل عظيم فنظرت اليه وحققته فلم أعرفه فقلت غررت والله بالمسلمين وأنا أقول في نفسي أترى هذا جبل بعلبك وقد سهل علينا الطريق وكان الجبل قد لاح لنا من بعيد من أول النهار وما أدركناه الا والليل قد أقبل فلما صرنا بقربه اعترضنا واد عظيم فيه شجرة عظيمة كبيرة قال فلما تأملت الشجرة عرفتها وقلت لأصحابي أبشروا فقد وصلنا إلى بلاد الشام وفتح المسلمين ودخلنا الوادي وإذا به وعر ليس فيه جادة ولا طريق فلحق المسلمين من هوله تعب عظيم قال سعيد بن عامر وكان أكثر المسلمين رجالة وانما كان يحمل بعضهم بعضا ويتعقبون على ظهور الخيل والإبل
فلما نظرت المسلمون إلى وحشة ذلك الوادي ووعورة مسلكه قالوا يا سعيد إنا نظنك أنك قد أخطأت الطريق وسلكت بنا غير طريقنا فأرحنا في هذا الوادي قليلا فقد أضر بنا المسير قال فأجبتهم إلى ذلك وكان في الوادي عين ماء غزيرة فنزل المسلمون عليها فشربوا وسقوا خيلهم وابلهم ورعت الخيل والجمال ورق الشجر ونام أكثر الناس وبعضهم يصلي على محمد قال سعيد بن عامر وكنت جلست في
181

آخر الناس احرسهم وانا أتلوا القرآن العظيم وأدعو الله لنا بالسلامة إذ غلبتني عيني فنمت فرأيت في منامي كأني في جنة خضراء كثيرة الأشجار والثمار وكأني آكل من ثمرها وأشرب من أنهارها وأجني من ثمرها وأناول أصحابي وهم يأكلون وأنا فرح مسرور فبينما أنا كذلك إذ خرج من بين تلك الشجر أسد عظيم فزأر في وجهي وهم أن يفترسني وأنا من ذلك فزع مرعوب إذ خرج على الأسد أسدان عظيمان فصرعاه في موضعه فسمعت له خوارا عظيما فانتبهت من نومي وحلاوة ذلك الثمر في فمي الأسود تتمثل بين يدي قال سعيد بن عامر ففسرتها أنها غنيمة يأخذها المسلمون ويمنعنا منها مانع ونظفر به فقلت في نفسي الجنة هي الشهادة قال سعيد بن عامر ولم أزل جالسا أتلو القرآن وأنا قلق إذ سمعت هاتفا يهتف بي عن يمين الوادي وهو يقول
* يا عصبة الهادي إلى الرشاد
* لا تفزعوا من وعر هذا الوادي
* ما فيه من جن ولا معادي
* ستعلمون معشر العباد
* لطف الذي يرفق بالأولاد
* ويطرح الرحمة في الأكباد
* سيصنع الله بكم رشاد
* وتغنموا المال مع الأولاد
*
قال سعيد بن عامر فلما سمعت شعر الهاتف وما يشير به من الغنيمة سجدت لله تعالى شكرا واستيقظ المسلمون لصوت الهاتف قال سعيد بن عامر وكنت قد حفظت من الهاتف بيتا وحفظ سماح ثلاثة أبيات وأنشدني إياها وفرح المسلمون بما سمعوا من الهاتف وطابت قلوبهم بالغنيمة وأقام المسلمون في الوادي حتى أصبح الصباح وصلى بهم سعيد بن عامر صلاة الفجر فلما طلعت الشمس خرج المسلمون من الوادي وحققت تلك الأرض والجبل وإذا به جبل الرقيم فلما رأيته عرفته فرفعت صوتي بالتكبير وقلت الله أكبر وكبرت المسلمون لتكبيري وقالوا ما الذي رأيت يا ابن عامر فقلت وصلنا إلى بلاد الشام وهذا جبل الرقيم قال سعيد وأكثر من معي طماعو العرب قالوا يا سعيد
وما الرقيم أما تعرفه فحدثتهم بحديث الرقيم قال سعيد فعجبوا من ذلك ثم أقبلت بهم إلى الغار فصلوا فيه ثم سرنا حتى أشرفنا على بلاد عمان قال سعيد بن عامر فعدلت إلى قرية هناك يقال لها الجنان فنظرت إلى دهاقين القرية وهم خارجون منها ومعهم الأهل والأولاد فلما رآهم المسلمون حملوا عليهم من غير اذن لهم وأخذوا بعضهم أسارى فرجع القوم إلى القرية وكان فيها حصن منيع فتحصنوا فيها منا قال سعيد بن عامر فقربت من الحصن وصحت بهم وقلت يا ويلكم ما بالكم كنتم خارجين من قريتكم فرجعتم فأشرف علي واحد منهم وقال لي يا معاشر العرب أعلموا أننا كنا خارجين من المدينة ففزعنا منكم وذلك أن صاحب عمان بعث الينا وأمرنا بالمسير إلى عمان لنكون من تحت كنفه في عمان والآن يا معاشر العرب هل لكم أن نكون في ذمامكم وأمانكم
182

قال سعيد نعم فوقع الصلح بيننا على عشرة آلاف دينار وكتبت لهم كتاب الصلح فلما هممت بالمسير قالوا يا معاشر العرب قد صالحناكم ونحن خائفون من قومنا وأعلموا ان نقيطاس صاحب عمان لا بد أن نلقى منه شدة عظيمة فلو ظفرتم به لكان خيرا لنا ولكم فقلت فكيف نظفر به فقالوا ان الملك ماهان مقدم العساكر قد بعث بذلك اليه وان أنتم ظفرتم بصاحب عمان ملكتم غنيمة جسيمة فقال سعيد بن عامر رضي الله عنه وفي كم يكون جيش عمان فقالوا في خمسة آلاف فارس ولكن قد وقع خوفكم في قلوبهم فلن يفلحوا إذا أبدا فقال سعيد بن عامر يا معاشر المسلمين ما تقولون في لقاء هذا البطريق صاحب عمان وأخذ غنيمته فقالوا افعل ما تريد فان قتله الله على أيدينا كان ذلك صلاحا للمسلمين ووهنا على المشركين فقال سعيد بن عامر لأهل القرية على أي طريق يأتي القوم فقالوا على هذا الطريق
قال فدلونا على طريق عمورية فسرنا إلى واد عظيم وكمنا فيه يوما وليلة فلم يأتنا أحد فلما أصبح الصباح قال سعيد يا معاشر المسلمين ان الذي وجهنا اليه عمر بن الخطاب من نجدة أبي عبيدة والمسلمين أفضل من مقامنا هنا فأخرجوا رحمكم الله فانا إذا أشرفنا على المسلمين في سبعة آلاف فارس كان ذلك وهنا على المشركين وذلة للكافرين فقال المسلمون يا ابن عامر ان قلوبنا توقن بالغنيمة فلا تحرمنا ذلك قال فبينما هم في المحاورة إذا أشرف عليهم جماعة من القسوس والرهبان وعليهم ثياب الشعر وفي أيديهم الصلبان وقد حلقوا أوساط رؤوسهم فابتدر المسلمون إليهم وأخذوهم وأوقفوهم بين يدي سعيد بن عامر فقال لهم من أنتم وكان فيهم قس كبير فكلم سعيدا وقال نحن رهبان هذه الأديرة والصوامع ونريد أن نصل إلى قسطنطين ولد الملك هرقل حتى ندعو للعساكر بالنصر قال سعيد فادعوا وما دعاء الكافرين الا في ضلال فما وراءكم من الاخبار قالوا وراءنا صاحب عمان في خمسة آلاف فارس من فرسان النصرانية وعباد الصليب فقال سعيد اللهم اجعلهم غنيمة لنا ثم قال سعيد للقسيس الذي خاطبه أسمع أيها الشيخ ان نبينا أمرنا أن لا نتعرض لراهب حبس نفسه في صومعة ولولا أنكم تنذرون العدو لخلينا سبيلكم ثم أمر المسلمين أن يؤثقوهم كتافا فأوثقوهم بزنانيرهم التي في أوساطهم فبينما نحن كذلك إذ أشرف علينا جيش عمان والرجالة أمامهم يعزلون لهم الحجر من الدروب فلما أشرفوا علم المسلمين حمل عليهم المسلمون من غير أهبة ورفعوا أصواتهم بالتهليل والتكيبير ووضعوا فيهم السيف فقتلوا الرجالة عن آخرهم فأخبر صاحب عمان بذلك فلما نظر إلى صنع المسلمين أمر أصحابه بالحملة فحملوا عليهم حملة عظيمة واقتتلوا قتالا شديدا قال سعيد بن عامر ونظرت إلى المسلمين وهم يقتلون الروم قتلا ذريعا ويضجون بالتهليل والتكبير فلما نظر البطريق صاحب عمان ما صنع المسلمون بأصحابه ولى منهزما طالب عمان وتبعه قومه وتبعهم المسلمون وبعضهم مال إلى الغنيمة
183

والبطريق نقيطاس صاحب عمان في الهرب وكان قد سبق فوقف حتى تلاحق به المنهزمون من قومه قال فبينما هم كذلك إذ أشرف عليهم خيل من ورائهم تسرع بركابها وقد أطلقوا الأعنة وقوموا الأسنة وهم زهاء من ألف فارس يقدمهم فارسان كأنهما أسدان أحدهما الزبير بن العوام والآخر الفضل بن العباس فحملوا على الروم فقتلوهم قتلا ذريعا وحمل الزبير بن العوام على نقيطاس بطريق عمان وهو واقف تحت الصليب فطعنه الزبير فقلبه عن جواده وعجل الله بروحه إلى النار وأقبل الفضل بن العباس يجندل الفرسان وينكس الابطال قال وأشرف سعيد بن عامر على الموضع فرأى الحرب قائمة فظن أنه وقع بينهم الخلف فلما قربوا منهم سمعوا التهليل والتكبير فقالوا هذه دعوة الحق لمن قالها فاقتحم سعيد ابن عامر المعركة فسمع الفضل بن العباس وهو ينتمي باسمه ويقول أنا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال سعيد بن عامر فوالله ما أنفلت من القوم أحد فقلت له لله درك يا ابن العباس ومن معك من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال معي الزبير بن العوام ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال سعيد بن عامر فوالله ما انفلت من القوم أحد الا بين أسير وقتيل وغنم المسلمون غنيمة عظيمة وسلم بعضهم على بعض وأقبل الزبير على سعيد بن عامر وقال يا ابن عامر ما الذي حبسك عن المسير جهتنا وقد جاءنا سالم بن نوفل العدوي وأخبرنا بمسيرك الينا وقد ساءت بك ظنوننا فأرسلنا أبو عبيدة لنغير على عمان والحمد لله على سلامة المسلمين ودمار المشركين ثم أمر الزبير برؤوس القتلى فسلخت وحملتها العرب على أسنة الرماح فكانت الرؤوس أربعة آلاف رأس والاسرى ألف أسير قال وأطلق سعيد بن عامر الرهبان وسار المسلمون حتى أشرفوا على أبي عبيدة رضي الله عنه ورفعوا أصواتهم بالتهليل والتكبير وأجابهم حيش المسلمين بمثل ذلك فانزعجت قلوب الروم لذلك ونظروا إلى ثمانية آلاف فارس والرؤوس معهم على الأسنة فبهتوا لذلك وحدث سعيد بن عامر أبا عبيدة بالنصر وغنيمتهم من الروم فسجد شكرا لله عز وجل وأمر بالألف أسير فضربت أعناقهم والروم ينظرون إليهم قال قطبة بن سويد وأخبرت الروم أنه لم ينج أحد من جيش عمان
قال الواقدي لما أسر الخمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اغتم لفقدهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أكثرهم غما أبو عبيدة بن الجراح وأقبل على البكاء والتضرع يدعو لمن أسر بالخلاص وأما الخمسة فإنهم مثلو بين يدي ماهان لعنه الله تعالى وغضب عليه فلما نظر إليهم استحقر شأنهم وقال لجبلة بن الأيهم من هؤلاء قال أيها الملك هؤلاء قوم من جيش المسلمين وقد كانوا ستين رجلا فقتلت أكثرهم وأسرت هؤلاء وما بقي في عسكرهم من تخاف غائلته الأرجل واحد وهو الذي يثبتهم ويرمي بهم كل المرامي وهو الذي فتح أركة وتدمر وحوران وبصرى ودمشق وهو الذي كسر عساكر أجنادين وتبع توما وهربيس وقتلهم في مرج الديباج وأسر ابنة
184

الملك هرقل وهو خالد بن الوليد قال فلما سمع ماهان ذلك قال لابد لي أن أحتال على هذا الرجل حتى أحصله عندي وأقتله مع هؤلاء الخمسة الاسرى ثم دعا ماهان برجل
من الروم اسمه جرجة وكان حكيما فاضلا عند الروم فصيحا بلسان العرب فقال يا جرجة أريد أن تمضي إلى هؤلاء العرب وتقول لهم يبعثوا لنا رسولا وليكن هذا الرسول الرجل المسمى بخالد قال فركب جرجة وسار نحو عساكر المسلمين فالتقى بخالد بن الوليد فقال له ما الذي تريد فقال ان الملك ماهان قد بعثني إليكم حتى تبعثوا رجلا منكم فلعل الله أن يحقن دماءنا ودماءكم فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه أنا أكون الرسول اليه وأوقف رسول الروم بين يديه ويدي أبي عبيدة رضي الله عنه وأخبره أنه يريد المسير إلى ماهان فقال أبو عبيدة امض يا أبا سليمان سلمك الله تعالى فلعل الله تعالى أن يهديهم أو يدعونا للصلح وأداء الجزية فتحقن الدماء على يدك فحقن دم رجل واحد أحب إلى الله تعالى من أهل الشرك جميعا فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه أنا أطلب من الله تعالى العون
ثم وثب خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى خيمته ولبس خفين حجازيين وتعمم بعمامة سوداء وشد وسطه بمنطقة من الأديم وتقلد سيفه الذي استلبه من مسيلمة الكذاب يوم اليمامة وأمر عبده عمان أن يأخذ قبته الحمراء وكانت من الأديم الطائفي وفيها شمعات من الذهب الأحمر وحليتها من الفضة البيضاء وكان خالد قد اشتراها من امرأة ميسرة بن مسروق العبسي بثلاثمائة دينار فحملها على بغل وركب خالد جواده فلما هم بالمسير قال له أبو عبيدة يا أبا سليمان خذ معك رجالا من المسلمين يكونون لك عونا فقال خالد أيها الأمير أحب ذلك ولكن لا اكراه في الدين وليس لي عليهم طاعة فأمر من شئت فلما سمع المسلمون كلام خالد بن الوليد رضي الله عنه قال معاذ بن جبل يا أبا سليمان انك من أهل الفضل ولو أمرتنا بأمر امتثلناه لأنك سائر في طاعة الله تعالى ورسوله
قال الواقدي فاستركب معه مائة فارس من المهاجرين والأنصار منهم المرقال بن عتبة بن أبي وقاص وشرحبيل بن حسنة وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل العدوي وميسرة بن مسروق العبسي وقيس بن هبيرة المرادي وسهل بن عمرو العامري وجرير بن عبد الله البجلي والقعقاع بن عمرو التميمي وجابر بن عبد الله الأنصاري وعبادة بن الصامت الخزرجي والأسود بن سويد المازني وذو الكلاع الحميري والمقداد بن الأسود الكندي وعمرو بن معد يكرب الزبيدي رضي الله عنهم أجمعين ولم يزل خالد ينتخب مثل هؤلاء السادات رضي الله عنهم حتى كمل منهم مائة فارس كل فارس منهم يرد جيشا وحده فاخذوا زينتهم واشتملوا بلباس الحرب وتوشحوا بالابراد وتعمموا بالعمائم وتمنطقوا بالخناجر وتقلدوا بالسيوف وركبوا الخيل العتاق وسار خالد بن الوليد رضي الله عنه وعن يمينه معاذ بن جبل وعن شماله المقداد بن الأسود الكندي والمائة فارس محدقون
185

به قال معاذ بن جبل رضي الله عنه وسرنا ونحن نعلن بالتهليل والتكبير قال نصر بن سالم المازني فنظرت إلى أبي عبيدة رضي الله عنه حين سار خالد بمن معه يقرأ آية من القرآن ودموعه جارية على خده فقلت أيها الأمير ما يبكيك فقال يا بن سالم هؤلاء والله أنصار الدين فان أصيب رجل منهم في امارة أبي عبيدة فما يكون عذري عند رب العالمين وعند أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه
قال الواقدي فلما اشرف خالد بن الوليد رضي الله عنه ومن معه على عساكر الروم نظر المسلمون إلى عساكر الروم وهم خمسة فراسخ في العرض وعن نوفل بن دحية أن خالد بن الوليد لما ترجل عن جواده وترجل المائة جعلوا يتبخترون في مسيرهم ويجرون حمائل سيوفهم ويخترقون صفوف الحجاب والبطارقة ولا يهابون أحدا إلى أن وصلوا إلى النمارق والفراش والديباج ولاح لهم ماهان وهو جالس على سريره فلما نظر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما ظهر من زينته وملكه عظموا الله تعالى وكبروه وطرحت لهم الكراسي فلم يجلسوا عليها بل رفع كل واحد منهم ما تحته وجلسوا على الأرض فلما نظر ماهان إلى فعلهم تبسم وقال يا معاشر العرب لم تأبون كرامتنا ولم أزلتم ما تحتكم من الكراسي وجلستم على الأرض ولم تستعملوا الأدب معنا ودستم على فراشنا قال فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه ان الأدب مع الله تعالى أفضل من الأدب معكم وبساط الله أطهر من فرشكم لان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قال جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ثم قرأ قوله تعالى منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى
قال حدثني عاصم بن رواح الزبيدي قال حدثنا بن عبد الله الشيباني قال حدثنا طرفة بن شيبة الخولاني عن عمه جرير وكان محالفا لخالد بن الوليد رضي الله عنه قال لم يكن بين خالد وماهان ترجمان يبلغ عنهما بل كانا يتحدثان كلاهما فقال خالد يا ماهان اني اكره أن أبداك بالكلام فتكلم أنت بما تريد فاني لست أبالي بما تتكلم ولكل كلام جواب فان شئت فتكلم وان شئت بدأتك قال ماهان أنا أبدؤكم الحمد لله الذي جعل سيدنا الروح المسيح كلمته وملكنا أفضل الملوك وأمتنا خير الأمم قال فعظم ذلك على خالد بن الوليد وقطع خالد كلامه فقال الترجمان لا تقطع كلام الملك يا أخا العرب واستعمل حسن الأدب فأبى خالد أن يسكت بل قال خالد الحمد لله الذي جعلنا نؤمن بنبينا ونبيكم وجميع الانبياءوجعل أميرنا الذي وليناه أمورنا كبعضنا لو زعم أنه يملك علينا لعزلناه فلسنا نرى أن له فضلا علينا الا أن يكون أتقى لله عز وجل منا وقد جعل الله أمتنا تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر وتقر بالذنب وتستغفر منه وتعبد الله تعالى وحده لا شريك له قال فاصفر وجه ماهان وسكت قليلا
ثم قال الحمد لله الذي أبلانا وأحسن البلاء الينا وعافانا من الفقر ونصرنا على الأمم وأعزنا ومنعنا من الضيم ولسنا فيما خولنا الله فيه من نعيم الدنيا بطرين ولا باغين على الناس وقد كان يا معاشر العرب طائفة منكم يغشوننا ويلتمسون نائلنا
186

ورفدنا وجوائزنا ونحن نحسن إليهم ونكرمهم ونكرم ضعيفهم ونعظم قدرهم ونتفضل عليهم ونفي لهم بالوعد وكنا نظن أن العرب كلها تعرف لنا ذلك من جميع القبائل وتشكرنا عليه لما أسدينا من عطايانا الجميلة لهم فما شعرنا حتى جئتمونا بالخيل والرجل وظننا انكم تطلبون منا طلب اخوانكم فإذا أنتم على خلاف رأي أولئك جئتم تقتلون الرجال وتسبون النساء وتغنمون الأموال وتهدمون الاطلال وتطلبون ان تخرجونا من أرضنا وتغلبونا على بلادنا وقد طلب منا ذلك من كان قبلكم ممن هو أكثر منكم عددا وأكثر أموالا وسلاحا وظهرا فرددناهم خائفين وجلين خائبين بين قتيل وجريح وطريد وطريح فأول ما فعلنا ذلك بملك فارس فرده الله على عقبيه بالخيبة والذل وكذلك فعلنا بملك الترك وملك الجرامقة وغيرهم وأنتم لم يكن في أمة من الأمم أصغر منكم مكانا ولا أحقر شانا لأنكم أهل الشعر والوبر والبؤس والشقاء وانكم مع ذلك تظلمون في
بلادكم وبلادنا وحوالينا أمة كثيرة العدد وشوكتنا شديدة وعصبتنا عظيمة وانما قبلتم علينا لأنكم خرجتم من جدوبة الأرض وقحط المطر فانجليتم إلى بلادنا وأفسدتم كل الفساد وركبتم مراكب ليست كمراكبكم ولبستم ثيابا ليست كثيابكم وتمتعتم ببنات الروم البيض الاوانس فجعلتموهن خدما لكم واكلتم طعاما ليس كطعامكم وملئت أيديكم من الذهب والفضة والمتاع الفاخر ولقد لقيناكم الآن ومعكم أموالنا وما غنمتموه من قومنا وأهل ديننا وقد تركناه لكم لا نطالبكم به ولا ننازعكم فيه ولا نعتب عليكم فيما تقدم من فعالكم والآن فأخرجوا من بلادنا فان أبيتم الانصراف عنا عزمنا عليكم عزمة فنترككم كأمس الدابر وان جنحتم للصلح نأمر لكل واحد من عسكركم بمائة دينار وثوب ولاميركم أبي عبيدة بألف دينار ولخليفتكم عمر بن الخطاب بعشرة آلاف دينار وعلى أنكم تحلفون لنا أن لا تعودوا إلى حربنا
قال الواقدي وماهان يرغب تارة ويرهب أخرى وخالد مطرق لا يتكلم حتى فرغ ماهان من كلامه فقال خالد ان الملك قد تكلم فأحسن وسمعنا كلامه ونتكلم ويسمع كلامنا ثم قال خالد بن الوليد رضي الله عنه الحمد لله الذي لا إله إلا هو فلما سمع ماهان ذلك مد يده إلى السماء وقال نعم ما قلت يا عربي فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد ان محمدا عبده ورسوله المرتضى ونبيه المجتبى صلى الله عليه وسلم فقال ماهان ما أدري أمحمد رسول الله أم لا ولعله كما تقول وتزعم وتذكر فقال خالد رضي الله عنه حسب الرجل دينه ثم قال أفضل الساعات وخيرها الساعات التي يطلع فيها الله رب العالمين فالتفت ماهان إلى قومه وقال بلسانه انه رجل عاقل يتكلم بالحكمة فقال خالد ما الذي قلت لقومك فأخبره بمقالته فقال خالد أن كنت أوتيت العقل فالله تعالى المحمود على ذلك وقد سمعنا نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم يقول
لما خلق الله تعالى العقل وصوره وقدره قال أقبل فأقبل ثم قال له أدبر فادبر فقال الله تعالى وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أحب إلي منك بك تنال طاعتي وتدخل جنتي فقال ماهان
187

إذا كنت بهذا العقل والفهم فلم جئت بهؤلاء معك قال خالد بن الوليد رضي الله عنه جئت بهم لاشاورهم قال ماهان وأنت مع جودة عقلك وحسن رأيك وبصيرتك تحتاج إلى مشورة غيرك قال خالد نعم بهذا امر الله عز وجل نبينا محمدا صلى الله عنه فقال الله تعالى في كتابه العزيز * (وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله) * وقال صلى الله عليه وسلم ما ضاع امرؤ عرف قدره ولا ضاع مسلم استشار فأنا وان كنت ذا رأي وعقل كما تزعم وكما بلغك فاني لا استغني عن رأي ذي رأي ومشورة أصحابي قال ماهان وهل في عسكركم من له رأي مثل رأيك وحزم مثل حزمك قال نعم ان في عسكرنا أكثر من الف فارس لا يستغني عن رأيهم ولا عن مشورتهم فقال له ماهان ما كنا نظن ذلك فيكم وانما كان يبلغنا عنكم انكم طماعون جهال لا عقول لكم بغير بعضكم على بعض وينهب بعضكم أموال بعض فقال له خالد رضي الله عنه ذلك كان شأن أكثرنا حتى بعث الله عز وجل فينا نبينا محمدا صلى لاله عليه وسلم فهدانا لرشدنا وعرفنا سبيلنا وفهمنا الخير من الشر والهدى من الضلال فقال ماهان يا خالد انك قد أعجبتني بما أراه من رأيك وبصيرتك وقد أحببت أن اؤاخيك فتكون أخي وخليلي فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه وافرحاه ان تمم الله مقالتك فتكون إذا سعيدا ولا نفترق فقال ماهان وكيف ذلك قال خالد تقول أشهد أن لا إله إلا الله وان محمدا عبده ورسوله الذي بشر به عيسى ابن مريم فإذا فعلت ذلك كنت أخي وكنت أخاك وتكون خليلي وأكون خليلك ولا نفترق الا لامر يحدث فقال ماهان أما ما دعوتني اليه من الترك لديني والدخول في دينكم فمالي إلى ذلك من سبيل فقال خالد بن الوليد وكذلك أيضا لا سبيل إلى مؤاخاتي لك وأنت مقيم على دينك دين الضلال قال ماهان أريد أن ألقى الحشمة بيني وبينك وأكلمك كلام الأخ لأخيه فأجبني عن كلامي الذي دعوتك اليه حتى أسمع ما تقول
قال خالد أما بعد فإنك تعلم أن الذي ذكرته مما فيه قومك من الغنى والعز ومنع الحريم والظهور على الأعداء والتمكن في البلاد فنحن عارفون به وكل ما ذكرته من انعامكم على جيرانكم من العرب فقد عرفنا ولكن انما فعلتم ذلك ابقاء لنعمتكم ونظرا منكم لأنفسكم وذراريكم وزيادة لكم في مالكم وعزا لكم فتستكثرون جموعكم وتلقون الشوكة على من أرادكم وأما ما ذكرته من فقرنا ورعينا الإبل والشاة فما منا من لم يرع وأكثرنا رعاة ومن رعى منا كان له الفضل على من لم يرع وأما قولك بأننا أهل فقر وفاقة وبؤس وشقاء فنحن لا ننكر ذلك وانما ذلك من أجل انا معاشر العرب أنزلنا الله تعالى منزلا ليس فيه أنهار ولا أشجار ولا زرع الا قليل وكنا أهل جاهلية جهلاء لا يملك الرجل منا إلا فرسه وسيفه وأباعره وشياهه ويأكل قوينا ضعيفنا ولا يأمن بعضنا بعضا الا في الأربع الأشهر الحرم نعبد دون الله الأصنام والأوثان التي لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ونحن عليها مكبون ولها حاملون فبينما نحن
188

كذلك على شفا حفرة من النار من مات منا مات مشركا وصار إلى النار ومن بقي منا كان كافرا بربه قاطعا لرحمه حتى بعث الله لنا نبيا نعرف حسبه ونسبه هاديا مهديا رسولا نبيا واماما تقيا اظهر الاسلام بدعوته ودحض المشركين بكلمته جاءنا بقرآن مبين وصراط مستقيم ختم الله تعالى به النبيين وأمرنا بعباده رب العالمين نعبده ولا نشرك به شيئا ولا نتخذ من دونه وليا ولا نجعل لربنا صاحبة ولا ولدا لا شريك له ولا ضد ولا ند له ولا نسجد للشمس ولا للقمر ولا للنور ولا للنار ولا للصليب ولا للقربان ولا نسجد الا لله وحده لا شريك له ونقر بنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه انزل الله عليه كلامه الذي هدانا به مولانا فاستجبنا له وأطعنا أمره فكان مما أمرنا به ان نجاهد من لا يدين بديننا ولا يقول بقولنا ممن كفر بالله واتخذ معه شريكا جل ربنا وتعالى عن ذلك لا تأخذه سنة ولا نوم فمن اتبعنا كان أخانا وصار له ما لنا وعليه ما علينا ومن أبى الاسلام كانت عليه الجزية يؤديها الينا عن يد وهو صاغر فإذا أداها حقن بها ماله ودمه وولده ومن أبى الاسلام وأن يؤدي الجزية فالسيف حكم بيننا وبينه حتى يقضي الله جل جلاله بحكمه وهو خير الحاكمين ونحن ندعوكم إلى هذه الخصال الثلاث ليس غيرها اما أن تقولوا نشهد ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له وان محمدا عبده ورسوله أو الجزية في كل عام على كل محتلم من الرجال وليس على من لم يبلغ الحلم جزية ولا على امرأة ولا على راهب منقطع في صومعته قال ماهان فهل بعد قول لا اله الا اله غير هذا فقال خالد نعم أن تقيموا الصلاة وتؤتوا الزكاة وتحجوا البيت الحرام وتجاهدوا من كفر بالله تعالى وتأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر وتوالوا في الله تعالى وتعادوا في الله فان أبيتم ذلك فالحرب بيننا وبينكم حتى يورث الله أرضه من يشاء والعاقبة للمتقين قال ماهان فافعل ما
تشاء فإننا لا نرجع عن ديننا ولا نؤدي الجزية وأما ما ذكرت من أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده فلقد صدقت فإنها لم تكن لنا ولا لكم بل كانت لقوم غيرنا وغيركم فقاتلناهم عليها حتى ملكناها منهم والحرب بيننا وبينكم فابرزوا على اسم الله تعالى فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه ما أنتم بأشهى منا إلى الحرب وكأني بحيوشكم وقد انهزمت والنصر يقدمنا وتساق أنت والحبل في عنقك ذليلا حقيرا وتقدم بين يدي عمر بن الخطاب فيضرب عنقك قال فلما سمع ماهان كلام خالد بن الوليد غضب غضبا شديدا قال فلما نظرت البطارقة والحجاب والهرقلية والقياصرة إلى غضب ماهان هموا بقتل خالد الا انهم صبروا ينظرون امره فقال ماهان لخالد وقد اسشاظ غضبا وحق المسيح لاحضرن أصحابك الخمسة الأسارى وأضربن أعناقهم وأنت تنظر إليهم فقال له خالد اسمع ما أقول لك يا ماهان أنت أقل وأذل وأحقر من ذلك واعلم أن هؤلاء الذين في يدك هم منا ونحن منهم فوحق الدعوة المستجابة وحق بيعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وخلافة عمر بن الخطاب لئن قتلتهم لأقتلنك بسيفي هذا ويقتل كل رجل منا من قومك بعددهم وزيادة ثم وثب خالد رضي الله عنه من موضعه وانتضى سيفه
189

من غمده وفعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كفعله وهو يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله وجردوا سيوفهم وهاجوا كالجمال أو كالسباع الضواري واستقتلوا وأيقنوا بالشهادة في ذلك المكان
قال الشيخ أبو عبد الله محمد الواقدي مؤلف هذا الكتاب والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة ما اعتمدت في أخبار هذه الفتوح الا الصدق وما نقلت أحاديثها الا عن ثقات وعن قاعدة الحق لاثبت فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهادهم حتى أرغم بذلك أهل الرفض الخارجين عن السنة والفرض إذ لولاهم بمشيئة الله لم تكن البلاد للمسلمين وما انتشر علم هذا الدين فلله درهم لقد جاهدوا في الله حق جهاده ونصروا دينه وثبتوا للقاء الأعداء وبذلوا جهدهم ونصروا الدين حتى زحزحوا الكفر عن سريره وتقهقر لا جرم وقد قال فيهم الملك المقتدر * (فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر) *
قال الواقدي حدثني مسلم بن عبد الحميد عن جده رافع بن مازن قال كنت مع خالد يوم سرنا إلى ماهان وكنا في سرادقة فلما جذبنا السيوف وهممنا بالقوم وما في أعيننا من جيوش الروم شيء وقد أيقنا بالحشر من ذلك الموضع قال الواقدي فلما رأى ماهان الحقيقة منا ومن خالد وتبين الموت في شفار سيوفنا نادى ماهان مهلا يا خالد لا تكن بهذه العجلة تهلك وأنا أعلم انك ما قلت ذلك القول الا انك رسول والرسول يحمل ولا يقتل وأنا انما تكلمت بما تكلمت لاختبركم وانظر ما عندكم والآن فما أواخذك فارجع إلى عسكرك واعزم على القتال حتى يعطي الله تعالى النصر لمن يشاء فلما سمع ذلك أغمد سيفه وقال يا ماهان ما تصنع في هؤلاء الاسرى فقال ماهان أطلقهم كرامة لك وأخلي سبيلهم فيكونون عونا لك ولن تعجزونا في الحرب غدا ففرح خالد بذلك وأمر ماهان بتخلية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فاطلقوا من وثاقهم وهم خالد بالمسير فقال ماهان يا خالد اني كنت أحب أن يصلح الامر بيني وبينكم واني أسألك حاجة فقال خالد سل ما تريده فقال أن قبتك هذه الحمراء قد أعجبتني واني أريد أن تهبها لي وانظر في عسكري ما أعجبك من شيء فأهبه لك فقال خالد والله لقد فرحتني إذ طلبت ما أملكه وهي موهوبة لك وأما ما عرضت علي من عسكرك فلا حاجة لي فيه فقال ماهان لله درك أنت تكرمت وأجملت فقال خالد رضي الله عنه وأنت أيضا قد تكرمت علينا بما صنعت من اطلاق أصحابي من الأسر ثم انثنى خارجا من عند ماهان وأصحابه من حوله وقدم له جواده فركبه وركب أصحابه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر ماهان أصحابه وحجابه أن يسيروا معهم حتى يبلغوهم قال ففعل القوم ذلك ووصل خالد وأصحابه إلى الأمير أبي عبيدة رضي الله عنهم أجمعين وسلموا عليه وفرح المسلمون بخلاص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدث خالد أبا عبيدة بكل ما جرى لهم ثم قال خالد وحق المنبر والروضة ما كان
190

ماهان ليطلق لنا أصحابنا الا فزعا من سيوفنا
فقال أبو عبيدة حين سمع ما مر لخالد ولماهان من الخطاب والجدال هذا رجل حكيم الا أن الشيطان غلب على عقله فعلام افترقتم قال على أننا نلتقي معهم ويعطي الله النصر لمن يشاء فلما سمع أبو عبيدة رضي الله عنه ذلك جمع عظماء المسلمين وقام فيهم خطيبا فحمد الله تعالى وأثنى عليه وذكر النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرهم ان العدو يصبحهم بالقتال في غداة غد وأمرهم بالاهبة وأقبل فرسان المسلمين يحرض بعضهم بعضا وأقبل خالد على أصحابه وهم عسكر الزحف وقال لهم علموا أن هؤلاء الكفرة الذين نصركم الله عليهم في المواطن الكثيرة قد حشدوا لكم جموع بلادهم واني دخلت إلى عسكرهم ونظرت إليهم فكأنهم النمل ولكنهم أصحاب عدة بلا قلوب ولا لهم من ينصرهم عليكم وهذه الوقعة بيننا وبينهم وقد أيقنا أن القتال في غداة غد وأنتم أهل البأس والشدة فما عندكم رحمكم الله تعالى قال فتكلم أصحاب خالد وقالوا أيها الأمير القتال بغيتنا والقتل في سبيل الله تعالى مسرتنا ولا نزال نصبر لهم على الحرب والطعن والضرب حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين ففرح خالد بقولهم وقال لهم وفقكم الله تعالى وأرشدكم
قال الواقدي فلم يبق أحد منهم تلك الليلة الا وقد أخذ عدته واهبته واستعد بآلة الحرب والقتال وباتوا فرحين بالجهاد والثواب وخائفين من العقاب فلما أصبح القوم ولاج الفجر أذن المؤذنون في عسكر المسلمين حتى ارتفعت لهم جلبة عظيمة بالتوحيد واسبفوا الوضوء لصلاتهم خلف أبي عبيدة فلما صلوا ركبوا خيولهم إلى قتال عدوهم وعبوا صفوفهم للقتال وكانوا ثلاثة صفوف متلاصقة أول الصف لا يرى آخره وأقبل خالد بن الوليد على أبي عبيدة رضي الله عنه وقال أيها الأمير من تجعل في الميسرة قال كنانة بن مبارك الكناني أو قال عمرو بن معد يكرب الزبيدي والله أعلم أيهما كان فولاه الميسرة وأمره أن يكون مكانه في الميسرة ففعل وضم إلى كنانة قيسا قال فسار لما أمره أبو عبيدة رضي الله عنه
قال الواقدي حدثني فضالة بن عامر قال حدثني موسى بن عوف عن جده يوسف بن معن قال كان هذا الغلام كنانة عارفا بالحرب صاحب شجاعة وغارة وقد ذكر انه كان من شجاعته وشدة فراسته أنه كان يخرج من حي قومه بني كنانة وحده ويسير حتى يأتي احياء العرب المعادين له فإذا أشرف عليهم صرخ بهم وانتمى باسمه فتثور
الرجال على أعناق الخيل فلا يزال يقاتلهم ويقاتلونه فان ظفر بهم كان مراده وأن رأى منهم غلبة وعظم عليه أمرهم نزل عن جواده وسعى بين أيديهم فلا يلحقون منه الا الغبار
قال الراوي لما ولاه أبو عبيدة رضي الله عنه وقف حيث أمره والتفت أبو عبيدة إلى خالد وقال يا أبا سليمان قد وليتك على الخيل والرجل فول أمر الرجالة من شئت فقال
191

خالد ابن الوليد رضي الله عنه سأولي أمرهم رجالا لا يؤتي المسلمون من قبلهم ثم نادى بهاشم بن عتبة ابن أبي وقاص وقال له ولاك الأمير على الرجالة فقال أبو عبيدة رضي الله عنه انزل يا هاشم وكن معهم رحمك الله وأنا أوافقك
قال الواقدي ورتب أبو عبيدة صفوف المسلمين وعبأهم قال خالد بن الوليد رضي الله عنه ابعث الآن إلى أصحاب الرايات وقل لهم يسمعوا مني فدعا أبو عبيدة رضي الله عنه بالضحاك بن قيس وقال له يا بن قيس اسرع إلى أصحاب الرايات وقل لهم ان الأمير أبا عبيدة يأمركم أن تسمعوا لخالد وتطيعوا أمره ففعل الضحاك ذلك وجعل يدور على أصحاب الرايات حتى انتهى إلى معاذ بن جبل وقال له مثل ذلك قال معاذ بن جبل سمعا وطاعة ثم اقبل معاذ على الناس وقال أما انكم قد أمرتم بطاعة رجل ميمون الغرة مبارك الطلعة فان أمركم بأمر فلا تخالفوه فيما يأمركم به فما يريد غير صلاح المسلمين والاجر من رب العالمين قال فقلت لمعاذ بن جبل أنك لتقول في خالد قولا عظيما فقال ما أقول إلا ما قد عرفته فالله رده وقال الضحاك فرجعت إلى خالد وأخبرته بما تكلم به معاذ بن جبل وبما أثنى به عليه فأثنى وقال هو أخي في الله تعالى ولقد سبقت له ولأصحابه سوابق لا يفعلها خالد بن الوليد فمن يناله قال الضحاك فرجعت إلى معاذ بن جبل وأخبرته بما قال خالد وبما أثنى به عليه وما ذكره من أمره وبما أورده من علي شأنه فقال معاذ والله إني أحبه في الله تعالى وأرجو من الله ان يكون قد اثابه بحسن نيته ونصيحته للمسلمين
قال الواقدي فلما وصى الضحاك بن قيس أصحاب الرايات بقول أبي عبيدة بالطاعة لخالد بن الوليد رضي الله عنه جعل خالد يسير بين الصفوف ويقف على كل راية ويقول يا أهل الاسلام ان الصبر قد عزم إن شاء الله تعالى على صحبتكم والفشل والجبن سببان من أسباب الخذلان فمن صبر كان حقا على الله نصره على عدوه لان الله معه ومن صبر على حد السيوف فإنه إذا قدم على الله تعالى أكرم منزلته وشكر له فعله وسعيه الله يحب الشاكرين قال وما زال خالد رضي الله عنه يقول هذا الكلام لأهل كل راية حتى مر بجماعة الناس ثم إن خالدا جمع اليه خيل المسلمين من أهل الشدة والصبر ومن شهد معه الزحف فقسمهم أربعة أرباع فجعل على أحدهم قيس بن هبيرة المرادي وقال له أنت فارس العرب فكن على هذه الخيل واصنع كما أصنع وجعل على الربع الآخر ميسرة بن مسروق العبسي وأوصاه بمثل ذلك ودعا عامر بن الطفيل على الربع الثالث وأوصاه بمثل ذلك ووقف خالد مع عسكر الزحف
قال الواقدي فلم تطلع الشمس الا وقد فرغوا من تعبية صفوفهم للحرب وأما ماهان الأرمني فإنه أمر الروم بالزينة والأهبة للحرب ففعلوا ذلك الا ان المسلمين كانوا اسرع في التعبية قال وزحف الروم إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونظر الروم
192

إلى تعبيتهم فكان عسكر المسلمين صفوفا كالبنيان المرصوص وكان الطير تظلهم والصفوف متلاصقة والرماح مشرعة مشتبكة قال فلما رأى الروم ذلك داخلهم الفزع والجزع وألقى الله الرعب في قلوبهم ثم إن ماهان عبى عسكره فجعل العرب المتنصرة من غسان ولخم وجذام في مقدمة الصفوف وجعل عليهم جبلة وقدم أمامهم صليبا من الفضة وزنه خمسة أرطال وهو مطلي بالذهب وفي أربعة أركانه أربع جواهر تضيء كأنها الكواكب
قال الواقدي حدثني سنان بن أوس الربعي قال حدثني عدى بن الحرث الهمداني وكان ممن حضر الفتوح من أولها إلى آخرها قال وكانت الصفوف التي صفها ماهان ثلاثين صفا كل صف منها مثل عسكر المسلمين كله وقد أظهر ماهان بين الصفوف القسوس والرهبان وهم يتلون الإنجيل ويترنمون وأكثر من الرايات والاعلام والصلبان فلما تكاملت صفوفهم وإذا ببطريق عظيم الخلقة قد برز وعليه درع مذهب ولامة حرب مليحة وفي عنقه صليب من الذهب مرصع بالجوهر وتحته فرس أشهب وكان البطريق من عظماء الروم ممن يقف عند سرير الملك فلما برز جعل يرطن بكلام الروم بصوت كالرعد فعلم المسلمون انه يطلب البراز فتوقف المسلمون عن الخروج اليه فصاح خالد وقال يا أصحاب رسول الله هذا العلج الأغلف يدعوكم لقتاله وأنتم تتأخرون فإن لم تخرجوا اليه والا خرج خالد وهم بالخروج وإذا بفارس قد خرج من المسلمين على برذون أشهب عظيم الخلقة يشبه برذون المشرك وعلى المسلم لامة حسنة وعدة سابغة وقصد نحو البطريق فلم يكن في رجال خالد من يعرف الفارس الذي خرج فقال خالد لهمام مولاه أخرج إلى هذا الفارس وانظر من هو من المسلمين ومن أي العرب هو ومن قومه فمضى همام يهتف به وقد هم أن يقرب من البطريق فصاح به من أنت يا ذا الرجل من السلمين رحمك الله فقال أنا روماس صاحب بصرى فلما أخبر خالد به قال اللهم بارك فيه وزد في نيته فلما صار بإزاء العلج كلمه بلسانه فقال الرومي وقد عرفه يا روماس كيف تركت دينك وصبأت إلى هؤلاء القوم فقال روماس هذا الدين الذي دخلت فيه دين جليل شريف فمن تبعه كان سعيدا ومن خالفه فقد ضل
ثم حمل روماس على العلج وحمل العلج على روماس وتقاتلا ساعة حتى عجب الجمعان منهما فوجد العلج من روماس غفلة فضربه ضربة أسال دمه قال فأحس روماس بالضربة وقد وصلت اليه فانثنى راجعا نحو المسلمين فأتبعه العلج طالبا له لا يقصر عن طلبه وكاد أن يدركه فصاح به فرسان المسلمين من الميسرة والميمنة فقوي قلب روماس وداخل العلج الجزع والخوف من صياحهم والهلع وقصر عن طلبه ودخل روماس عسكر المسلمين والدم على وجهه فائر فأخذه جماعة من المسلمين فشدوا جراحه وشكروه على فعله ووعدوه بالغفران من الله تعالى وهنئوه بالسلامة
193

قال ولما رجع روماس منهزما أعجب العلج بنفسه وأظهر عناده وأغلظ في كلامه وطلب البراز فهم أن يخرج اليه ميسرة بن مسروق العبسي فقال له خالد يا ميسرة ان وقوفك في مكانك أحب إلي من خروجك إلى هذا العلج وأنت شيخ كبير وهذا علج عظيم الخلق والشاب شجاع ولا أحب أن تخرج اليه فإنه لا يكاد الشيخ الكبير يقاوم الشاب الحدث ولا سيما ان شعرة من مسلم أحب إلى الله تعالى من جميع أهل الشرك فرجع ميسرة إلى مكانه وهم أن يخرج اليه عامر بن الطفيل وقال أيها الأمير انك قد
عظمت قدر هذا الرومي الذميم وأدخلت في قلوب المسلمين منه الرعب فقال خالد ان الفرسان تعرف أكفاءها في الحرب وما يخفى علي ما هو فيه من الشجاعة والشدة وأنت لا تقاومه لأنه ما برز بين أصحابه وبين شجاعته الا وهو فارس في قومه فقف في مكانك فوقف عامر بن الطفيل في مكانه ولم يخالف قال والعلج يدعو إلى البراز والحرب فأقبل إلى خالد الحرث بن عبد الله الأزدي فلما وقف بين يديه قال أيها الأمير اخرج اليه قال خالد لعمري ان لك جسارة وقوة وشدة وما علمتك الا شهما فان شئت أن تخرج فأخرج على اسم الله واعزم فاخذ الأزدي أهبته وهم أن يخرج فقال خالد رضي الله عنه على رسلك يا عبد الله حتى أسألك فقال أسأل قال خالد هل بارزت أحدا قبله قال لا قال فارجع يا ابن أخي ولا تخرج فإنك غير مجرب الحروب وهذا فارس قد جرب الحرب وجربته وعرف مصادرها وما أحب أن يخرج اليه الا رجل مثله بصير بالحروب وجعل خالد يقول ذلك وينظر إلى قيس بن هبيرة فقال يا أبا سليمان اني أظنك تعرض بي وإياي تعني أنا ابرز اليه
قال خالد ابرز على اسم الله تعالى فإنك كفء والله تعالى يعينك عليه وخرج قيس بن هبيرة واجرى جواده حتى لين عريكته وكسر حدته ثم سرحه نحو البطريق وهو يقول بسم الله وعلى بركة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرب من البطريق فلما نظر العلج إلى فعاله علم أنه فارس شديد من فرسان المسلمين فعدل نحوه وقصد اليه وتحاملا قال فبادره قيس بن هبيرة وضربه على هامته فتلقاها العلج في حجفته فقد سيف ابن هبيرة الحجفة ووصل إلى البيضة فاشتبك فيها وهم أن يخرج سيفه فامتنع عليه وضرب العلج قيس بن هبيرة على حبل عاتقه فثبت للضربة والتقيا بعد الضربتين فطرح العلج نفسه عليه يريد أسره وهو جبار من الجبابرة وكان قيس بعد رجوعه من قتال أهل الردة قد عود نفسه الصيام والقيام وهو نحيف الجسم فلما نظر قيس إلى العلج وقد ظهر عليه انجذب من يده وبعد عنه وجعل ينظر اليه شزرا ويضمه له مكرا إلى أن سيفه قد خرج من يده فثنى عنان فرسه يريد عسكر الملسمين ليأخذ سيفا ويعود إلى القتال وقد ايس من نفسه فلما عطف راجعا صاح العلج في أثره وسعى في طلبه فقصر قيس بن هبيرة في سيره وقال في نفسه أنت مرادك الشهادة وتهرب من هذا العلج فرجع إلى العلج فصاح به خالد يا قيس سألتك بالله ورسوله الا رجعت
194

وتركت حدتها علي فقال قيس يا خالد لقد أقسمت علي بعظيمين ولكن ان رجعت إليك أتزيد في اجلي قال لا قال فلم اختار الفرار وأكون من أصحاب النار بل أصبر وافوز بالغفران من الله تعالى ثم عطف على قرنه وليس في يده سيف بل استل خنجرا كان معه على وسطه قال ونظر خالد إلى قيس بن هبيرة وليس في يده سيف فقال من يأخذ هذا السيف ويدفعه إلى قيس ابتغاء ثواب الله تعالى قال عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنا يا أبا سليمان فقال خالد أنت والله لها يا ابن الصديق ثم أخذ عبد الرحمن سيفه ولحق قيس بن هبيرة يريد أن يناوله السيف فلما نظرت الروم إلى عبد الرحمن وقد لحق بقيس ظنوا انه يريد أن يعاون قيسا لي صاحبهم فخرج عليه بطريق آخر وأقبل إلى صاحبه ووقف بإزائه قال فدفع عبد الرحمن السيف إلى ابن هبيرة ووقف معه وجعل البطريق الاخر يتكلم بكلام لا يفهمه عبد الرحمن فقال عبد الرحمن يا ويلك ما الذي تقول فما نعرف كلامك فخرج اليه ترجمان وقال له يا معشر العرب ألستم ذكرتم أنكم أصحاب نصفة وحق قال عبد الرحمن بلى وقال الترجمان فما رأينا من نصفتكم شيئا يخرج فارسان إلى فارس قال عبد الرحمن انما خرجت لأعطي صاحبي هذا السيف وارجع ولو خرج الينا منكم مائة لواحد ما كبر علينا ولا عظم لدينا وها أنتم ثلاثة وأنا واحد وأنا لكم كفء قال فأخبر الترجمان صاحبه بذلك فجعل ينظر اليه شزرا فقال عبد الرحمن يا قيس قد تعبت فقف وتفرج علي وانظر ما يكون مني ومنهم ثم حمل عبد الرحمن بن أبي بكرالصديق رضي الله عنه على الذي كان يخاطبه فطعنه في نحره فأخرج السنان يلمع من ظهره فوقع منجدلا ونظر العلجان إلى صاحبهما مجندلا فحملا على عبد الرحمن وقصداه فأراد قيس بن هبيرة أن يعاونه عليهما فقال له عبد الرحمن سألتك برسول الله صلى الله عليه وسلم وبحق أبي بكر الا تركت عبد الرحمن يصطلي بهما فان قتلت فأنت شريكي في الثواب وأقرىء عائشة مني السلام وقل لها أخوك قد لحق ببعلك وأبيك فتأخر قيس عنه وقد عجب من فعاله فحمل عبد الرحمن على أحد العلجين وهو الأول فطعنه برمحه فاشتبك السنان في درعه فرمى عبد الرحمن الرمح من يده وانتضى سيفه وقام في الركاب وضرب العلج بسيفه ضربة طرحه بها نصفين ونظر العلج الثالث إلى عبد الرحمن وجراءته فبقى حائرا متعجبا من حاله ونظر إلى البطريق وهو متحير باهت فبانت له فيه غفلة فقال ما يوقفك يا قيس وحمل على البطريق وضربه ضربة هشم بها هامته فسقط إلى الأرض صريعا فلما نظرت الروم إلى أصحابهم قال بعضهم لبعض ما هؤلاء العرب ألا شياطين
قال الواقدي وأخبر ماهان بفعالهم فقال لقومه ان الملك كان أخبر بهؤلاء القوم وحق المسيح لقد أعلم أن لكم أمرا فإن لم تحملوا عليهم بكثرتكم والا فما تقوم لكم قائمة قال فأتاه بطريق من البطارقة وسارر ماهان في اذنه طويلا ثم انزاح عنه
195

وقد اصفر وجه ماهان وسكت كأنه اخرس فاستخبروا ماهان عما حدثه البطريق فلم يخبرهم قال فحدث من رأى ذلك أنه سأل جبلة بن الأيهم فقال لما أخبر ماهان بخبر الثلاثة وفيهم البطريق الأول قال ماهان انهم منصورون عليكم فقال له البطريق في اذنه أيها الملك الحق ما قلت أعلم اني رأيت البارحة في منامي كأن رجالا نزلوا من السماء إلى الأرض وهم على دواب بلق وشهب وعليهم كامل السلاح واحدقوا بهؤلاء العرب ونحن قيام بإزائهم لا يخرج أحد من عسكرنا الا قتلوه حتى أتوا على أكثرنا وأظن أنهم هؤلاء الذين نراهم في اليقظة لان واحدا منهم قتل ثلاثة منا وما هم الا منصورون علينا من السماء قال فكسر بهاذا قلب ماهان فلم يرد جوابا فاجتمع القوم يسألونه عما قاله البطريق فلم يخبرهم فلما أكثروا عليه السؤال تكلم فيهم كالخطيب وقال يا أهل هذا الدين انكم ان لم تقاتلوا كنتم من الخاسرين وغضب عليكم المسيح وان الله عز وجل لم يزل لدينكم ناصرا ومظهرا وان لله الحجة عليكم إذ بعث فيكم رسولا وانزل عليه كتابا ولم يتبع رسولكم الدنيا وأمركم أن لا تتبعوها وفي كتابه لا تظلموا فإنه لا يحب الظلم ولا الظالمين فلما اتبعتم الدنيا وظلمتم وخالفتم نصر اعداؤكم عليكم فما عذركم عند خالقكم وقد تركتم أمر نبيكم وما انزل عليكم في كتاب ربكم وهؤلاء العرب بازائكم يريدون قتل فرسانكم وسبي ذراريكم ونسائكم وأنتم على المعاصي والذنوب ولا تخافون من علام الغيوب فان نزع الله سلطانكم من أيديكم واظهر عدوكم عليكم فذلك بحق منه وعدل لأنكم لا تأمرون بالمعروف ولا تنهون عن المنكر
قال الواقدي وكان ماهان لما سمع كلام البطريق الذي رآه في المنام أمره ان يكتمه واما قيس بن هبيرة وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق فاخذا سلاحهم واسلابهم ورجعا
إلى المسلمين فدفعا السلب إلى أبي عبيدة فقال هو لكما ومن قتل فارسا فله سلبه فكذا عهد الينا عمر بن الخطاب فأخذا السلب ووقف قيس في موضعه الذي اقامه خالد فيه ورجع عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق إلى ميدان الحرب فجال بين الصفين وكان قد ركب اشهب البطريق الذي قتله فرآه لا ينبعث تحته كما عهد من خيل العرب فرجع وغيره من تحته بفرس غيره وحمل على ميمنة الروم فشوش صفوفهم وقتل منهم فارسين ورجع فحمل على القلب ثم انثنى على الميسرة فرشق بالسهام فرجع حتى وقف في صدر الجيش وجعل يفزع الروم باسمه ويدعوا إلى البراز فخرج اليه علج من علوج الروم فما جال غير ساعة حتى قتله فخرج اليه آخر فقتله فقال خالد اللهم ارعه بعينك واحفظه فان عبد الرحمن قد اصطفى اليوم الحرب بنفسه ثم إن خالدا صاح به يا عبد الرحمن بحق شيبة أبيك وبيعته الا رجعت إلى مكانك فرجع حين أقسم عليه قال حزام بن غنم قلت لرجل ممن شهد اليرموك أكانت النساء معكم مشاهدات القتال قال نعم إحداهن أسماء بنت أبي بكر زوجة الزبير بن العوام وخولة بنت الأزور ونسيبة بنت كعب وأم أبان زوجة عكرمة بن أبي جهل وعزة
196

بنت عامر بن عاصم الضمري مع زوجها مسلمة بن عوف الضمري ورملة بنت طليحة الزبيري ورعلة وأمامه وزينب وهند ويعمر ولبنى وأمثالهن رضي الله عنهن فلقد كن يقاتلن قتالا يرضين به الله ورسوله
نساء المسلمين في المعركة
قال الواقدي حدثني عبد الملك بن عبد الحميد وكان قد شهد وقعة اليرموك وقال أولها شرر نار وآخرها ضرام الحرب وان كل يوم يأتي من القتال أصعب من اليوم الآخر قال عمرو بن جرير فشهدنا في اليوم الأول حربا يسيرا وذلك أن ماهان أمر عشرة من الصفوف أن تحمل على المسلمين بعد أن قتل عبد الرحمن من قتل وحمل المسلمون عليهم فالتقت الرجال بالرجال فنظر أبو عبيدة وكان واقفا إلى ماهان ولم يحمل على المسلمين فعلم أن الامر يصعب فقال لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم وجعل يتلون قوله تعالى * (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل) * قال ولم يزل الحرب بين الفريقين من قيام الشمس في قبة السماء إلى أن همت بالغروب ولم ينفصل الجمعان حتى فرق الليل بينهم فحينئذ افترق الجمعان وهم ما يعرفون الا بالشعار وخرج كل قوم من العرب يهتفون بشعارهم وينادون بأنسابهم ورجعت كل فئة إلى مكانها واستقبل المسلمين نساؤهم فصارت تجعل المرأة مرطها تمسح به عن وجه زوجها وتقول له أبشر بالجنة يا ولي الله وبات المسلمون في خير وسرور وأوقدوا النيران وذلك أن القتل في أول يوم لم يتبين في الفريقين بل قتل من الروم يسير ومن المسلمين عشرة رجلان من حضرموت أحدهما يقال له مازن والثاني يقال له صارم وثلاثة من عسفان رافع ومجلي وعلي وواحد من الأنصار وهو عبد الله بن الأخرم وثلاثة من بجيلة وواحد من مراد وهو سويد أبن أخي قيس بن هبيرة فحزن عليه قيس لما فقده فعلم أنه في القتلى فخرج قيس وخرج معه رجال من قومه حتى أتوا موضع المعركة وفتشوا عليه فلم يروه فلما هم بالرجوع نظر إلى نار قد أقبلت من جهة الروم يطلبون مكان الوقعة وهم يطلبون بطريقا كان معظما عندهم فقال قيس لجماعته أخمدوا ناركم فوالله لآخذن بثأر ابن أخي من هؤلاء القوم قال فأخمدوا نارهم ورقدوا بين القتلى وتأهبوا للقتال وإذا بالروم قد أتوا وهم نحو مائة وهم في زينة عظيمة وآلة وعدة وكان مع قيس سبعة من قومه فقالوا له أن القوم مائة ونحن سبعة وقد تولانا التعب فقال قيس ارجعوا أنتم واني والله أطلب الموت لا أريد غيره وأجاهد في الله حق جهاده فعجبوا من قوله ووقفوا معه وقفة الكرام وأقبلت الاعلاج يريدون المعركة ويدورون بين القتلى وقد وقفوا بالعلج وهو الذي برز أولا وقتله ابن أبي بكر الصديق فلما احتملوه وولوا يريدون عسكرهم صاح فيهم قيس من ورائهم وتابعه أصحابه بالصياح فذهلوا ورموا البطريق ووضع المسلمون السيف فيهم وجعلوا يقتلونهم قتلا
197

ذريعا وكان قيس إذا ضرب فيهم يقول هذا عن ابن أخي قال فقتل منهم ستة عشر رجلا وقتل أصحابه أكثر القوم وانفلت الباقون فلما فرغ قيس من القوم عاد يطلب ابن أخيه نحو عسكر الروم فسمع انينا فأقبل نحوه فإذا هو ابن أخيه سويد بن بهرام المرادي فلما عرفه بكى فقال ما أبكاك يا ابن أخي فقال يا عماه اني تبعت القوم فرجع إلي واحد منهم وطعنني في صدري واني لاعالج منها أمرا عظيما وهؤلاء الحور العين في حذائي ينتظرون خروج روحي قال فبكى قيس وقال يا ابن أخي لكل اجل كتاب ولعل أن يكون في أجلك طول فقال هيهات والله يا عم أفتقدر أن تحملني إلى عسكر المسلمين فأموت هناك قال أجل قال ثم احتملته على ظهري وأقبلت به إلى عسكر المسلمين وقصدت به إلى رحله وسجيته وسمع أبو عبيدة بمجيء قيس فأتى اليه ورأى الغلام يجود بنفسه فجلس عند رأسه وبكى وبكت المسلمون فقال له أبو عبيدة كيف تجدك يا ابن أخي فقال بخير والله وغفران وجزى الله محمدا عنا خيرا ولقد صدقنا في قوله وهذه الحور تنادي وتشخص فمات قال فما برحنا حتى واريناه بالتراب قال وخبره قيس بمن قتل في تلك الليلة من المشركين ففرح فرحا شديدا وعلم أن ذلك علامة النصر قال وبات الناس في ليلتهم يقرأون القرآن ويصلون ويسألون المعونة والنصر
قال وأما ماهان فإنه لما رجع إلى عسكره اجتمع اليه البطارقة والرهبان والقسوس فقدموا له طعاما ومدوا له سماطا فلم يأكل منه شيئا مما وقع في نفسه من الرؤيا التي رآها البطريق وكان ماهان يود لو ترك الامر وصالح على أداء الجزية ولكنه كان مغلوبا على أمره وأقبلت الملوك والقسوس والبطارقة والرهبان على ماهان وقالوا ما بال الملك امتنع من الطعام فإن كان ذلك من غمه على من مات وعلى ما جرى عليه من الحرب فان الحرب سجال فيوم لك ويوم عليك واعلم أيها الملك أن القوم بنا ظافرون وما نملكهم الا أن نحمل عليهم فلا يبقى منهم أحد قال ماهان ما أظنكم غير منصورين الا من تغير أديانكم والجور في سلطانكم فبهذا نصرت العرب عليكم فقام اليه رجل وقال أيها الملك عشت الدهر وأنا رجل من أهل دينكم وكان لي مائة رأس من الغنم وكان فيها ولدي يرعاها فضرب عظيم من عظماء أصحابك الفسطاط إلى جانبها ثم إنه عدا عليها فأخذ منها حاجته وأخذ بقيتها أصحابه فجاءته زوجتي تشكو اليه انتهاب غنمي فلما رآها أمر بها فأدخلت اليه فطال مكثها عنده فلما رأى ولدها ذلك دنا من الفسطاط فإذا هو يجامع أمه فصاح الغلام فأمر البطريق بقتل الغلام فقتل فأتيت أريد خلاص ولدي وزوجتي فامر بي فضربت بالسيف فتلقيت الضربة بيدي فقطعها ثم أنه
أخرج يده فإذا هي مقطوعة قال فغضب ماهان عند ذلك غضبا شديدا وقال للمعاهد أتعرف هذا البطريق الذي فعل بك ذلك قال نعم هو هذا وأومأ بيده إلى بطريق من البطارقة فنظر اليه ماهان مغضبا قال فغضب البطريق
198

وغضب البطارقة لغضبه ومالوا على المعاهد فضربوه بأسيافهم حتى قطعوه وماهان ينظر إليهم فزاد غضبه وقال خذلتم وهلكتم وحق المسيح يا ويلكم ترجون النصر وأنتم تفعلون هذا الفعال أما تخافون القصاص غدا وان الله ينتقم منكم وينزع منكم صالح ما أعطاكم ويعطيه غيركم ممن يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر فوالله أنتم الآن عندي كالكلاب وسوف ترون عاقبة هذا كله والي أي مصير مصيركم يكون قال ثم إنه قام وتركهم فلما انصرف القوم ولم يبق عنده الا بطريق واحد قال له أيها الملك والله ان القوم لكما تقول وما أظن الا أننا مغلوبون وأعلم أني رأيت في منامي كان رجالا نزلوا من السماء على خيل شهب فاحدقوا بهؤلاء العرب وعليهم كامل السلاح ونحن وقوف بإزائهم فنظرت إليهم ولا يخرج منا أحد الا قتلوه حتى أتوا على أكثرنا وذكر له كما قال ذاك الأول فأقبل ماهان يفكر طول ليلته فيما يصنع في أمر المسلمين فلما أصبح الصباح عبى المسلمون صفوفهم ونظروا إلى عسكر الروم وإذا فيه ارتعاد وانزعاج فعلموا ان لهم أمرا
قال أبو عبيدة دعوهم ولا تبقوا عليهم فان الباغي مخذول قال واجتمعت البطارقة والملوك الأربعة الا ماهان وهم قناطر وجرجير والديرجان وقورين وهم أصحاب الجيش يستأذنونه في الحرب فقال ماهان وكيف لي أن أقاتل بقوم يظلمون ان كنتم أحرارا فقاتلوا عن سلطانكم وامنعوا عن حريمكم فقالوا الآن أحببنا الحرب فوحق المسيح لا نفارقهم حتى ننفيهم من الشام إلى بلادهم أو يقتلونا أو نقتلهم فثق بقولنا وانهض بنا إليهم فإذا عزمت على القتال فدع كل واحد منا يقاتل يوما حتى تعرف منا من هو أفرس وأشد ويضجر المسلمون من المطاولة ونجمع عيالنا وأطفالنا وأموالنا فان كانت على العرب رددنا كل شيء إلى مكانه وان كانت للعرب علينا الحقوا ببلادهم وقومهم ويكون الامر بيننا وبينهم في يوم واحد أو يومين فقال له ماهان لعنه الله هذا هو الرأي أمهلوا إلى أن أكتب إلى الملك بمثل ذلك ثم إنه كتب إلى هرقل أما بعد فأسأل الله لك أيها الملك ولجيشك النصر ولأهل سلطانك العز والنصر وانك بعثتني فيما لا يحصى من العدد واني قدمت على هؤلاء العرب فنزلت بساحتهم وأطمعتهم فلم يطمعوا وسألتهم الصلح فلم يقبلوا وجعلت لهم جعلا على أن ينصرفوا فلم يفعلوا وقد فزع جند الملك منهم فزعا شديدا وأني خشيت أن يكون الفشل قد عمهم والرعب قد دخل في قلوبهم وذلك لكثرة الظلم فيهم وقد جمعت ذوي الرأي من أصحابي وذوي النصيحة للملك وقد أجمع رأينا على النهوض إليهم جميعا في يوم واحد ولا نزايلهم حتى يحكم الله بيننا فان اظهر الله عدونا علينا فارض بقضاء الله واعلم أن الدنيا زائلة عنك فلا تأسف على ما فات منها ولا تغتبط منها بشيء في يدك والحق بمعاقلك وبدار ملكك بالقسطنطينية وأحسن إلى رعيتك يحسن الله إليك وارحم ترحم وتواضع لله يرفعك الله فإنه لا يحب المتكبرين ولقد عملت حيلة في احضار أميرهم
199

خالد ومنيته ورغبته فما أجاب ورأيته على الحق مقيما فأردت أن أفتك به وأمكر فخفت عاقبة المكر والغدر وما نصر هؤلاء الا بالعدل واتباع الحق بينهم والسلام ثم طوى الكتاب وبعث به مع أصحابه من العلوج
قال الواقدي وبقي ماهان سبعة أيام أخر بعد الوقعة الأولى لم يقاتل المسلمين ولم يقاتلوه وبعث أبو عبيدة برجل من عيونه ينظر ما الذي أخر الروم عن القتال فغاب الرجل يوما وليلة ثم عاد وأخبر أبا عبيدة أن ماهان قد كاتب الملك وهو منتظر الجواب فقال خالد ابن الوليد ما تأخر ماهان عن قتالنا الا وقد وقع الفزع في قلبه فازحف بنا إليهم فقال أبو عبيدة رضي الله عنه لا تعجل فان العجلة من الشيطان
قال الواقدي وكان أبو عبيدة رجلا لين العريكة يحب الرفق فلما كان في اليوم الثامن نظر ماهان إلى تلهف أصحابه على الحرب والقتال فعزم أن يلقى بهم المسلمون وقد فرح بنشاطهم فدعا برجل من المتنصرة من لخم وقال له اذهب فادخل هؤلاء العرب وتجسس لي أخبارهم وانظر ما عندهم قال فمضى اللخمي حتى دخل عسكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام فيهم يوما وليلة يطوف في عسكرهم وليس أحد من المسلمين ينكره وهم آمنون وليس لهم همة الا اصلاح شأنهم والصلاة والقرآن والتسبيح وليس فيهم عدوان ولا ظلم ولا أحد يتعدى على أحد وقصد الموضع الذي فيه أبو عبيدة رضي الله عنه فنظر اليه كأنه أضعف ضعيف في العرب ساعة يجلس على الأرض وساعة ينام عليها فإذا كان وقت الصلاة قام وأسبغ الوضوء وأذن المؤذنون وصلى بالناس ونظر المتنصر إلى المسلمين وهم يصنعون كصنعه فقال المتنصر ان هذه طاعة حسنة ويوشك أنهم ينصرون قال فرجع إلى ماهان وحدثه بما رأى من القوم وما عاينه وقال أيها الملك اني جئتك من قوم يصومون النهار ويقومون الليل ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر رهبان في الليل ليوث بالنهار ولو سرق واحد منهم ولو كان كبيرهم قطعوه ولو زنا رجموه لا يغلب هواهم على الحق بل الحق عندهم غالب وأميرهم كاضعف من فيهم الا انه مطاع عندهم ان قام قاموا وان قعد قعدوا مناهم القتال وشهوتهم النزال ومرادهم أن يموتوا شهداء في قتالكم وما تأخروا عن قتالكم الا ليكون البغي منكم إذا بدأتموهم فقال ماهان هؤلاء القوم منصورون غير أني قد وجدت حيلة أعملها عليهم فقال المتنصر ما الحيلة أيها الملك
فقال ماهان ألست زعمت أنهم لا يبدأون بالقتال حتى نقاتلهم فنكون نحن الباغين قال نعم قال فانا لا نطلب الحرب بل نطول بيننا وبينهم وندهمهم على حين غفلة دون عدة منهم ولا أخذ حذرهم فعسى أن نظفر بهم قال ثم إن ماهان جمع الملوك وجعل يعقد لهم الرايات والصلبان حتى عقد ستين ومائة صليب تحت كل صليب عشرة آلاف وكان أول صليب عقد لقناطر وكان نظيره في الرتبة وأمره أن يكون في الميمنة ثم عقد صليبا للديرجان وضم اليه الأرمن والنجد والنوبة والروسية
200

والصقالبة ثم عقد لابن أخت الملك صليبا على الإفرنج والهرقلية والقياصرة والير والدوقس وعقد لجبلة بن الأيهم عقدا وضم اليه المتنصرة من لخم وجذام وغسان وضبة وأمره أن يكون على المقدمة وقال أنتم عرب وأعداؤنا عرب والحديد لا يقطعه الا الحديد ثم فرق الاعلام في أجناد عسكره فما انفجر الفجر وبان الصباح وأضاء بنوره ولاح حتى فرغ من تعبية جيوشه وترتيب طلائعه وأمر بمضرب له فضرب على كثيب عال على جانب اليرموك يشرف منه على العسكرين وأوقف عن يمينه ألف فارس عتاة حماة الروم شاكين السلاح وعن يساره كذلك وهم الملكية وأصحاب السرير وأمرهم باليقظة وقال أي كرب يكون على العرب أعظم من هذه فإنكم على تعبية وهم على
غير أهبة فإذا طلعت الشمس ورأيتم المسلمين على غير تعبية فاحملوا عليهم من كل جانب ومكان فما هم في عسكرنا الا كالشامة البيضاء في جلد الثور الأسود هكذا سمعت اياد بن غالب الحميري يذكر وكان من المعمرين قال حدثني جواد ابن أسيد السكاسكي عن أبيه أسد بن علقمة فلما انشق الفجر أذن المؤذن وتقدم أبو عبيدة وصلى بالناس وهو لا يعلم بمكيدة ماهان فقرأ في أول ركعة * (والفجر وليال عشر) * حتى قرأ ان ربك لبالمرصاد إذ هتف بهم هاتف وهم في الصلاة وهو يقول ظفرتم بالقوم ورب العزة وما يغني عنهم كيدهم شيئا وما أجرى الله هذه الآية على 2 لسان أميركم الا بشارة لكم فلما سمع المسلمون كلام الهاتف عجبوا مما سمعوا ثم قرأ في الركعة الثانية والشمس وضحاها إلى قوله فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها ولا يخاف عقباها وإذا بالهاتف يقول تم الفال وصح الزجر وهذه علامة النصر فلما فرغ أبو عبيدة من صلاته قال يا معاشر المسلمين هل سمعتم الهاتف قالوا نعم سمعنا قائلا يقول كذا وكذا فقال أبو عبيدة والله هذا هاتف النصر وبلوغ الامل فأبشروا بنصر الله ومعونته فوالله لينصرنكم الله وليرسلن عليهم سوط عذاب كما أنزل على القرون الأول ثم قال أبو عبيدة معاشر القوم اني رأيت الليلة في منامي رؤيا تدل على النصر على الأعداء والمعونة من الملأ الاعلى فقالوا أصلح الله شأن الأمير فما الذي رايت
قال رأيت كأني واقف بإزاء أعدائنا من الروم إذ حف بنا رجال وعليهم ثياب بيض لم أر كهيئتها حسنا لبياضها اشراق ونور يغشى الابصار وعلى رؤوسهم عمائم خضر وبأيديهم رايات صفر وهم على خيول شهب فلما اجتمعوا حولي قالوا تقدموا على عدوكم ولا تهابوهم فإنكم غالبون فان الله ناصركم ثم دعوا برجال منكم وسقوهم بكأس كان معهم فيه شراب وكأني أنظر عسكرنا وقد دخل في عسكر الروم فلما رأونا ولوا بين أيدينا منهزمين فقال رجل من المسلمين أصلحك الله أيها الأمير وأنا رايت الليلة رؤيا فقال أبو عبيدة خيرا تكون إن شاء الله تعالى ما الذي رايت يرحمك الله فقال رأيت كأنا خرجنا نحو عدونا فصاففناهم الحرب وقد انقضت عليهم من السماء
201

طيور بيض لها أجنحة خضر ومخاليب كمخاليب النسور فجعلت تنقض عليهم كانقضاض العقبان فإذا جاءت للرجل ضربته ضربة فيقع قطعا قال ففرح المسلمون بتلك الرؤيا وقال بعضهم لبعض أبشروا فقد أمنكم الله وأيدكم بالنصر وأمدكم بملائكته تقاتل معكم كما فعل بكم يوم بدر قال فسر أبو عبيدة بذلك وقال هذه رؤيا حسنة وهي حق تأويلها النصر واني أرجو من الله تعالى النصر وعاقبة المتقين فقال رجل من المسلمين أيها الأمير ما وقوفنا عن هؤلاء الكلاب الاعلاج وما انتظارك للحرب وعدو الله يريد كيدنا بمطاولته وما تأخر عنا الا لبلية يريد أن يوقعنا بها قال أبو عبيدة ان الامر أقرب مما تظنون قال سعيد بن رفاعة الحميري فبينما نحن كذلك إذ سمعنا الأصوات قد علت والزعقات قد ارتفعت من كل جانب يهتفون بالقتال وان الروم قد زحفت الينا فظن أبو عبيدة أن المسلمين قد كبسوا في وجه السحر فقام ليرى وكان على حرس المسلمين تلك الليلة سعيد بن زيد وعمرو بن نفيل العدوي رضي الله عنهما إذ أقبل سعيد وهو ينادي النفير النفير حتى وقف أمام أبي عبيدة ومعه رجل من المتنصرة فقال أيها الأمير ماهان كاد المسلمين بتخلفه عن الحرب وها هو قد عبى عساكره وصف جيوشه وزحف علينا زحف من يريد الكبسة بنا ونحن على غير أهبة ولا عدة وهذا الرجل قد أقبل الينا راغبا في الاسلام محذرا لنا من بأسه ويزعم أن ماهان قد قدم الينا حماة البطارقة وقد أتفق رأيهم على أن يقاتلنا كل ملك من ملوكهم بمن معه وهذا أصعب القتال ونظر المسلمون إلى رايات الروم تقرب منهم والصلبان تدنو فقال أبو عبيدة لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم ثم قال اين أبو سليمان خالد بن الوليد فأجابه بالتلبية فقال له أنت لي يا أبا سليمان فابرز في أبطال المسلمين وصد عن الحريم إلى أن تأخذ الرجال صفوفها وتستعد بآلات حربها فقال حبا وكرامة
فنادى خالد اين الزبير بن العوام أين عبد الرحمن بن أبي بكر أين الفضل بن العباس أين يزيد بن أبي سفيان أين ربيعة بن عامر أين ميسرة بن مسروق العبسي اين ميسرة بن قيس أين عبد الله بن أنيس الجهني أين صخر بن حرب الأموي أين عمارة الدوسي أين عبد الله بن سلام أين غانم الغنوي أين المقداد بن الأسود الكندي اين أبو ذر الغفاري اين عمرو بن معد يكرب الزبيدي أين عمار بن ياسر العبسي أين ضرار بن الأزور أين عامر بن الطفيل أين أبان بن عثمان بن عفان وجعل خالد يدعوهم رجلا بعد رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل رجل منهم يلقى جيشا فاجتمعوا إلى خالد بأجمعهم واشتغلوا بالحرب واشتغل أبو عبيدة بترتيب الصفوف وتعبية العساكر فأقبل أبو سفيان إلى أبي عبيدة وقال له أيها الأمير مر نساءنا أن يعلون على هذا التل قال نعم الرأي ما رأيت فأمرهن بذلك ففعلن وعلون على التل وحصن أنفسهم وأولادهن ومعهن الأطفال والأولاد فقال لهن أبو
202

عبيدة خذن بأيديكن أعمدة البيوت والخيام وأجعلن الحجارة بين ايديكن وحرضن المؤمنين على القتال فإن كان الامر لنا والظفر فكن على ما أنتن عليه وان رأيتن أحدا من المسلمين منهزما فاضربن وجهه بأعمدتكن واحصبنه بحجارتكن وارفعن اليه أولادكن وقلن له قاتل عن أهلك وعن دين الاسلام فقال النساء أيها الأمير أبشر بما يسرك
قال الواقدي فلما حصن أبو عبيدة النساء على التل أقبل يعبي جيشه وقد والعدة وقسم الخيالة ثلاثة فرق فجعلها في الثلاثة صفوف واستعمل عليهم ثلاثة من وابتدر الناس القتال بعدما عبأهم ميمنة وميسرة وقلبا وجناحين وقدم أصحاب الرايات وكانت راية المهاجرين صفراء وفيها ابيض وأخضر واسود وسائر القبائل أيضا راياتهم مختلفة وجعل المهاجرين والأنصار في القلب واظهر المسلمون العدة والسلاح وجعل عسكره ثلاثة صفوف فصف فيه النبلة من أهل اليمن وصف فيه أصحاب الخيل المسلمين أحدهم غياث بن حرملة العامري والثاني مسلمة بن سيف اليربوعي والثالث القعقاع بن عمرو التميمي ووقف المسلمون تحت راياتهم ووقف أبو عبيدة تحت رايته التي عقدها له أبو بكر الصديق رضي الله عنه يوم مسيره إلى الشام وهي راية رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفراء التي سار بها يوم خيبر قال ومع خالد راية العقاب وكانت سوداء وجعل على الرجالة شرحبيل بن حسنة وعلى الجناح الأيمن يزيد بن أبي سفيان وعلى الأيسر قيس بن هبيرة فلما ترتبت الصفوف سار أبو عبيدة بين الصفوف وجعل يحرض المؤمنين على القتال ويقول * (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) * والزموا الصبر فان الصبر منجاة من الكرب ومرضاة للرب ومقمعة للعدو فلا تزايلوا صفوفكم ولا تنقضوا نيتكم ولا تخطوا خطوة الا وأنتم تذكرون الله ولا تبدأوهم بالقتال حتى يبدأوكم وشرعوا الرماح واستتروا بالدرق والزموا الصمت الا من ذكر الله ولا تحدثوا حدثا حتى آمركم ثم رجع إلى مقامه من القلب فوقف فيه ثم خرج من بعده معاذ بن جبل فطاف على الناس محرضا لهم يقول يا أهل الدين ويا
أنصار الهدي والحق اعلموا رحمكم الله تعالى ان رحمة الله لا تنال الا بالعمل والنية ولا تدرك بالمعصية والتمني بغير عمل مرضي ولا تدخل الجنة الا بالأعمال الصالحة مع رحمة الله ولا يؤتي الله الرحمة والمغفرة الواسعة الا الصابرين والصادقين ألم تسمعوا قوله جل من قائل وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون واستحيوا من الله أن يراكم في فرار من عدوكم وأنتم في قبضته ليس لكم ملجا من دونه ولم يزل معاذ يقول ذلك إلى أن رجع إلى مقامه ثم خرج سهل بن عمرو فمشى بين الصفوف وهو شاكي السلاح وراكب فرسه متقلد سيفه وهو يقول مثله ثم رجع وخرج من بعده أبو سفيان فطاف بين الصفوف وهو شاكي السلاح راكب فرسه
203

متقلد سيفه معتقل رمحه وهو يقول معاشر العرب الكرام السادة العظام قد أصبحتم في ديار الاعلاج منقطعين عن الأهل والأوطان ووالله لا ينجيكم منهم الا الطعن الصائب في أعينهم والضرب المتدارك في هاماتهم وبذلك تبلغون أربكم وتنالون الفوز من ربكم واعلموا أن الصبر في مواطن البأس مما يفرج الله به الهم وينجي به من الغم فاصدقوا القتال فان النصر ينزل مع الصبر فان صبرتم ملكتم بلادهم وأمصارهم واستعبدتم أبناءهم ونساءهم وان وليتم فليس بين أيديكم الا مفاوز لا تنقطع الا بالزاد الكثير والماء الغزير ولا ترجعوا إلى دور ولا إلى قصور فامنعوا بسيوفكم وجاهدوا في الله حق جهاده ولا تموتن الا وأنتم مسلمون قال ثم خرج من بين الصفوف واقبل على النساء وهن على التل وفيهن المهاجرات وبنات الأنصار وغيرهن من نساء المسلمين ومعهن أولادهن فقال لهن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم والجنة أمامكم والشيطان والنار وراءكم واقبل حتى وقف مكانه ولم تغن مكيدة ماهان شيئا ورجعت الروم إلى ورائها حين نظروا خالدا زحف إليهم في خمسمائة فارس فخافوا لذلك ورجعوا حتى اصطفت الصفوف وعبى المسلمون كتائبهم فقال ماهان ما يوقفكم عن قتالهم فازحفوا إليهم فزحف الروم إلى المسلمين فنظر خالد إلى جيش عرمرم قال وكان ماهان قد انفذ ثلاثين ألفا من عظمائهم فحفروا لهم في الميمنة حفائر ونزلوا فيها وشدوا أرجلهم بالسلاسل واقترن كل عشرة في سلسلة التماسا لحفظ عسكرهم وحلفوا بعيسى بن مريم والصليب والقسيسين والرهبان والكنائس الأربع أن لا يفروا حتى يقتلوا عن آخرهم فلما نظر خالد إلى ما صنعوا قال لمن حوله من جيش الزحف هذا يوشك ان يكون يوما عظيما ثم قال اللهم أيد المسلمين بالنصر ثم أقبل على أبي عبيدة وقال أيها الأمير ان القوم قد اقترنوا في السلاسل وزحفوا الينا بالقواضب ويوشك أن يكون على الناس يوما عظيما فقال لهم أن العدو عدده كثير وما ينجيكم الا الصبر ثم قال لخالد فما الذي ترى من الرأي يا أبا سليمان
قال الواقدي وكان ماهان قدم من الروم من عرفت شجاعته وعلمت براعته واشتهر بالثبات في بلادهم وهم مائة الف فلما نظر خالد إليهم شهد لهم بالفروسية وأنهم من أهل الشدة وقال لأبي عبيدة ان الرأي عندي أن توقف في مكاننا الذي أنت فيه سعيد بن زيد وتقف أنت من وراء الناس في مائتين وفي ثلاثمائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا علم الناس انك من ورائهم استحيوا من الله ثم منك أن يفروا قال فقبل أبو عبيدة مشورته ودعا سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة فأوقفه أبو عبيدة مكانه ثم انتخب أبو عبيدة مائتي فارس من اليمن وفيهم رجال من المهاجرين والأنصار ووقف بهم من وراء الجيش بحذاء سعيد بن زيد
قال حدثني ورقة بن مهلهل التنوخي وكان صاحب راية أبي عبيدة يوم
204

اليرموك قال وكان أول من فتح باب الحرب يوم اليرموك في جيش السلاسل غلام من الازدحدثا كيسا فقال لأبي عبيدة أيها الأمير أني أردت أن أشفي قلبي وأجاهد عدوي وعدو الاسلام وابذل نفسي في سبيل الله تعالى لعلي أرزق الشهادة فهل تأذن لي في ذلك وان كان لك حاجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرني بها قال فبكى أبو عبيدة وقال اقرىء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره انا وجدنا ما وعدنا ربنا حقا قال ثم دفع الغلام الأزدي جواده وحمل يريد الحرب فخرج اليه علج من الروم قام من الرجال على فرس اشهب فلما رآه الغلام قصد نحوه وقد احتسب نفسه في سبيل الله تعالى فلما قرب منه قال
* لا بد من طعن وضرب صائب
* بكل لدن وحسام قاضب
* عسى أنال الفوز بالمواهب
* في جنة الفردوس والمراتب
*
قال وبعد شعره حمل كل منهما على صاحبه وابتدأ الغلام الأزدي الرومي بطعنة فجندله صريعا وأخذ عدته وجواده وسلم ذلك لرجل من قومه وعاد إلى البراز فخرج اليه آخر فقتله وثالث ورابع فقتلهم فخرج اليه خامس فقتل الأزدي فغضبت الأزد عند ذلك ودنت من صفوف المشركين فعندها أقبلت الروم وزحفت كالجراد المنتشر حتى دنا طرفهم من ميمنة المسلمين فقال أبو عبيدة أن أعداء الله قد زحفوا عليكم فنكلوهم واعلموا ان الله معكم وثبتوا نفوسكم بالصبر والصدق واللقاء والنصر من الله ثم رمق إلى السماء بطرفه وقال اللهم إياك نعبد وإياك نستعين ولك نوحد ولا نشرك بك شيئا وان هؤلاء أعداؤك يكفرون بك وبآياتك ويتخذون لك ولدا اللهم زلزل أقدامهم وأرجف قلوبهم وأنزل علينا السكينة وألزمنا كلمة التقوى وآمنا عذابك يا من لا تخلف الميعاد اللهم انصرنا عليهم يا من قال في كتابه العزيز واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير قال فبينما هو يدعو بهذه الدعوات إذ حملت الروم على ميمنة المسلمين وكان فيها الأزد ومذحج وحضرموت وخولان فحملت عليهم الروم حملة منكرة فصبروا لهم صبر الكرام وقاتلوا قتالا شديدا وثبتوا ثباتا حسنا وحملت عليهم كتيبة ثانية فصبروا صبرا جميلا وحملت عليهم كتيبة ثالثة فأزالوا المسلمين عن الميمنة فابتدر منهم عمرو بن معد يكرب الزبيدي وهو المقدم على زبيد والأمير عليهم وهم يعظمونه لما سبق من شجاعته في الجاهلية وكان يوم اليرموك قد مر له من العمر مائة وعشرون سنة الا ان همته الشجاعة فلما نظر إلى قومه وقد انكشفوا صاح في قومه يا آل زبيد يا آل زبيد تفرون من الأعداء وتفزعون من شرب كأس الردى أترضون
لأنفسكم بالعار والمذلة فما هذا الانزعاج من كلاب الاعلاج أما علمتم ان الله مطلع عليكم وعلى المجاهدين والصابرين فإذا نظر إليهم وقد لزموا الصبر في مرضاته وثبتوا لقضائه أمدهم بنصره وأيدهم بصبره فأين تهربون من الجنة أرضيتم بالعار ودخول النار وغضب الجبار قال فلما سمعت زبيد كلام سيدهم عمرو بن
205

معد يكرب رجعوا اليه وعطفوا عليه عطفة الإبل على أولادها فاجتمعوا حوله زهاء من خمسمائة فارس وراجل وشدوا على القوم شدة واحدة وحملت معهم حمير وحضرموت وخولان وحملوا حملة صعبة فازالوا الروم عن أماكنهم وحملت دوس مع أبي هريرة وهز رايته وهو يحرض قومه على القتال ويقول أيها الناس سارعوا إلى معانقة الحور العين في جوار رب العالمين وما من موطن أحب إلى الله من هذا الموطن الا وان الصابرين قد فضلهم الله على غيرهم الذين لم يشهدوا مشهدهم فلما سمعت دوس كلامه طافوا به وحملوا على الروم حملة منكرة ودارت بينهم الحرب كما تدور الرحى وتكاثرت جموع الروم على ميمنة المسلمين فعادت الخيل تنكص بأذنابها راجعة على أعقابها منكشفة كانكشاف الغنم بين أيدي الأسد ونظرت النساء خيل المسلمين راجعة على أعقابها فنادت النساء يا بنات العرب دونكن والرجال ردوهم من الهزيمة حتى يعودوا إلى الحرب قالت سعيدة بنت عاصم الخولاني كنت في جملة النساء يؤمئذ على التل فلما انكشفت ميمنة المسلمين صاحت بنا عفيرة بن غفار وكانت من المترجلات البازلات ونادت يا نساء العرب دونكن والرجال واحملن أولادكن على ايديكن واستقبلنهم بالتحريض فأقبلت النسوة يرجمن وجوه الخيل بالحجارة وجعلت ابنة العاص بن منبه تنادى قبح الله وجه رجل يفر عن حليلته وجعل النساء يقلن لأزواجهن لستم لنا ببعولة ان لم تمنعوا عنا هؤلاء الاعلاج قال العباس بن سهل الساعدي كانت خولة بنت الأزور وخولة بن ثعلبة الأنصارية وكعوب ابنة مالك بن عاصم وسلمى ابنة هاشم ونعم ابنة فياض وهند ابنة عتبة بن ربيعة ولبنى ابنة جرير الحميرية متحزمات وهن أمام النساء والمزاهر معهن وخولة تقول هذه الأبيات
* يا هاربا عن نسوة ثقات
* لها جمال ولها ثبات
* تسلموهن إلى الهنات
* تملك نواصينا مع البنات
* أعلاج سوق فسق عتاة
* ينلن منا أعظم الشتات
*
قال ورجعت الفرسان تحرض الفرسان على القتال فرجع المنهزمون رجعة عظيمة عندما سمعوا تحريض النساء وخرجت هند ابنة عتبة وبيدها مزهر ومن خلفها نساء من المهاجرين وهي تقول الشعر الذي قالته يوم أحد وهو هذا
* نحن بنات طارق
* نمشي على النمارق
* مشي القطا الموافق
* قيدي مع المرافق
* ومن أبى نفارق
* أن تغلبوا نمالق
* أو تدبروا نفارق
* فراق غير واثق
* هل من كريم عاشق
* يحمي عن العواتق
*
قال ثم استقبلت خيل ميمنة المسلمين فراتهم منهزمين فصاحت بهم إلى أين تنهزمون اين تفرون من الله ومن جنته وهو مطلع عليكم ونظرت إلى زوجها أبي سفيان
206

منهزما فضربت وجه حصانه بعمودها وقالت له إلى أين يا أبن صخر ارجع إلى القتال وابذل مهجتك حتى تمحص ما سلف من تحريضك على رسول الله صلى الله ليه وسلم قال الزبير بن العوام فلما سمعت كلام هند لأبي سفيان ذكرت يوم أحد ونحن بين يدي رسول الله عليه وسلم قال فعطف أبو سفيان عندما سمع كلام هند وعطف المسلمون معه ونظرت إلى النساء وقد حملن معهم وقد رأيتهن يسابقن الرجال وبأيديهن العمد بين أرجل الخيل ولقد رأيت منهن امرأة وقد أقبلت إلى علج عظيم وهو على فرسه فتعلقت به وما زالت به حتى نكسته عن جواده وقتلته وهي تقول هذا بيان نصر الله المسلمين قال الزبير بن العوام وحمل المسلمون حملة منكرة لا يريدون غير رضا الله ورسوله وقاتلت الأزد مع أبي هريرة وفشا فيهم القتل وأصيب منهم خلق كثير لأنهم تلقوأ الصدمة الأولى بأنفسهم واستشهد منهم ما لم يستشهد من غيرهم قال سعيد بن زيد كان القتال في الميمنة شديدا وكان المسلمون ينهزمون تارة ويعودون مرة وساعة نصبر وساعة نتأخر قال ونظر خالد بن الوليد إلى الميمنة وقد وصلت إلى القلب
فصاح بمن معه من الخيل ومال عليهم فمالوا وكانوا زهاء ستة آلاف فكبر وحمل على الروم فنكى بهم نكاية عظيمة حتى كشف أعداء الله عن الميمنة والقلب إلى أن ردت إلى مواضعها ووقف خالد أمامهم يطارد من كان قريبا للمسلمين قال فانكسر الروم أمام خالد ونظر خالد إلى فرسانه فرآهم متبددين فنادى يا أهل الاسلام والايمان ويا حملة القرآن ويا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قد تبينت في الروم الكسرة العظيمة ولم يبق عند القوم من الجلد والقتال الا ما رأيتم وقد كسر الله حدثتهم فردوا عليهم الكسرة وشدوا عليهم الكرة رحمكم الله فوالذي نفس خالد بيده اني لأرجو ان يمنحكم الله أكتافهم فنادى المسلمون من كل جانب احمل حتى نحمل معك قال فانتضى خالد سيفه وحمل وحملت أصحابه معه قال عبد الرحمن بن الحميدي الجمحي كنت ممن حمل مع خالد فوالله لقدانكشفت الروم بين أيدينا وولت كما تولي الغنم بين يدي الأسد وتبعهم المسلمون وكانت الحملة على ميمنة الروم فانكشفوا انكشافا قبيحا وأما المسلسلة فما برحوا من مواضعهم وكانوا يرمون بالسهام وهم حماة القوم
الشعار
قال عبد الرحمن وكان خالد أمامنا في حملته ونحن من ورائه وكان شعارنا يا محمد يا منصور أمتك أمتك فلم يزل خالد في حملته ونحن من ورائه حتى وصل إلى الديرجان وكان قائما في موضعه الذي أقامه فيه ماهان معه صليب من الجوهر ومعه أصحابه ينتظرون حملته فيحملون معه فلما وصلت خيل خالد إلى موضعه قال له البطارقة أيها الملك أما آن لك أن تحمل نحمل معك أو تولي فقد خالطتنا خيل العرب فقال لأصحابه اعلموا أن يوم السوء لا أحبه ولا أحب أن أراه ولا أحضره وقد أحضرني الملك إلى هذا الموقف وأنا كارهه ولكن لفوا وجهي ورأسي في هذا الثوب
207

حتى لا أرى الحرب قال فلفوا وجهه ورأسه في ثوب ديباج والناس يقتتلون حتى انهزمت الروم بين أيدي المسلمين ووصلوا إلى الديرجان وهو ملفوف الرأس فحمل عليه ضرار بن الأزور فقتله
قال الواقدي وكان أحسن صنع الله تعالى بالمسلمين ان جرجير و قناطر اختلفا وتنازعا وكان جرجير في الميمنة مع الأرمن وقناطر في الميسرة تحته فقال جرجير لقناطر احمل على العرب فما هذا وقت الوقوف فقال قناطر تأمرني أن أحمل وكيف لا تحمل أنت فقال جرجير لقناطر وكيف لا آمرك وأنا أمير عليك فقال قناطر كذب أنت أمير وأنا أمير عليك وفوقك وأنت مأمور لي بالطاعة فاختلفا وغضب جرجير من قول قناطر فحمل على المسلمين حملة شديدة وكانت حملته على كنانة وقيس وخثعم وجذام وقضاعة وعاملة وغسان وهم يؤمئذ فيما بين الميسرة والقلب فكشف الروم المسلمين حتى زالت عن مصافهم ولم يبق منهم الا أصحاب الرايات فقاتلوا من يليهم قتالا شديدا وركب الروم أكتاف المسلمين المنهزمين إلى أن دخلوا معهم إلى معسكرهم فاستقبلهم النساء بالعمد يضربن وجوه الخيل ويرمين وجوهها بالحجارة وينادين بهم إلى أين تنهزمون يا أهل الاسلام عن الأمهات والأخوات والبنين والبنات أتريدون أن تسلمونا للاعلاج قال منهال الدوسي فلقد كانت النساء أشد علينا غلظة من الروم فرجع المسلمون عن الهزيمة ونادى بعضهم بعضا * (وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) * وعطفوا على الروم عطفة عظيمة قال وكان قتامة بن أيشم الكناني أمام المسلمين يضرب في عراض المشركين تارة بالسيف وتارة بالرمح حتى كسر ثلاثة رماح وهو يقول
* ساحمل في الروم الكلاب النوابح
* وأضربهم ضربا بحد الصفائح
* وأرضي رسول الله خير مؤمل
* نبي الهدى للدين أشرف ناصح
*
قال الواقدي ثم حمل حتى كسر سيفين وجعل كلما كسر رمحا أو سيفا يقول من يعيرني سيفا أو رمحا في سبيل الله وأجره على الله ثم نادى يا معاشر قيس خذوا نصيبكم من الاجر والصبر فان الصبر في الدنيا عز ومكرمة وفي الآخرة رحمة وفضيلة * (اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون) * قال فاجابه قومه ونشطوا للقتال قال قتامة بن أيشم الكناني فما رأيت مثل حملة قناطر وقومه ولقد اختلطوا بنا واختلطنا بهم قال ورجع خالد من دهمته ومعه ألفان من أصحابه وقد وضعوا السيوف في الروم وقتلوهم قتلا ذريعا والقتل لا يبين فيهم لكثرتهم واقبل خالد على الناس من كرته فرأى الناس يقولون جزى الله قتامة بن الايشم خيرا عن الاسلام فشكره وجزاه خيرا قال وأقبلت ذرعه ابنة الحرث منحدرة عن التل وهي تقول ما فعل خالد حتى وقفت بين يديه وقالت يا ابن الوليد أنت من العرب الكرام وانما الرجال بامرائها فان ثبتوا ثبتت الرجال معهم وان انهزموا انهزمت الرجال معهم فقال لها خالد ما كنت من المنهزمين وما كنا الا نقاتل في الاعلاج فقالت قبح
208

الله وجه عبد نظر إلى أميره ثابتا وهو منهزم عنه
قال الواقدي ونظر ماهان لعنه الله إلى الميمنة من عسكره وقد عركت عراك الأديم فبعث إليهم يحرضهم على القتال فعندها خرج علج من الروم وعليه درع سابغ السلاح كأنه قطعة جبل وهو على شهباء عظيمة الخلقة فبرز بين الصفين وجال على شهبائه وسال القتال فخرج اليه غلام من الأزد فما جال معه جولة حتى قتله العلج ثم دعا بالبراز فهم ان يخرج اليه معاذ بن جبل فقال أبو عبيدة يا معاذ سألتك بحق رسول الله صلى الله عليه وسلم الا ما ثبت مكانك ولزمت رأيتك ولزومك الراية أحب إلي من برازك إلى هذا العلج فوقف معاذ بالراية ونادى يا معاشر المسلمين من أراد فرسا يقاتل عليه في سبيل الله فهذا فرسي وسلاحي فجاءه ولده عبد الرحمن فقال أنا يا أبت وكان غلاما لم يحتلم قال فلبس السلاح وركب الجواد وقال يا أبت أنا خارج إلى هذا العلج فان صبرت فالمنة لله علي وان قتلت فالسلام عليك وان كان لك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجة فأوصني بها فقال له معاذ يا بني أقرئه مني السلام وقل له جزاك الله عن أمتك خيرا ثم قال يا بني أخرج وفقك الله لما يحب ويرضي فخرج
عبد الرحمن بن معاذ إلى العلج كأنه شعلة نار وحمل على العلج وضربه بالسيف فمال عنه العلج ومال اليه وضربه على رأسه فقطع العمامة وشجه شجة فاضحة أسالت دمه فلما رأى العلج ذلك الدم ظن أنه قتل فتأخر إلى ورائه لينظر كيف يسقط عن جواده فلما نظر عبد الرحمن إلى العلج وقد تأخر عنه انثنى راجعا إلى المسلمين فقال له معاذ ما بك يا بني قال قتلني العلج قال له ما الذي تريد من الدنيا يا بني ثم إنه شد جرحه قال فعندها صال العلج وحمل فردته الأزد قال أبو عبيدة فمن له منكم فخرج اليه عامر بن الطفيل الدوسي وكان من أصحاب الرايات ممن شهد اليمامة مع خالد بن الوليد وكان قد رأى يوم اليمامة في منامه في قتال مسيلمة الكذاب كأن امرأة لقيته ففتحت له فرجها فدخل فيه ونظر اليه ابنه فأسرع ليدخل مكانه ثم استيقظ وقص ذلك على المسلمين فلم يدر أحد ما تأويله فقال ابن الطفيل أما أنا فأعرف تأويلها قالوا وما تأويلها يا أبن الطفيل قال تأويله أني أقتل لأن المرأة التي أدخلتني فرجها هي الأرض وابني سيصيبه جراح ويوشك أن يلتقي بي قال فقاتل يوم اليمامة وابلى بلاء حسنا وسلم ولم يلحقه أذى لا فلما كان يوم اليرموك شهد فيه الحرب وخرج إلى قتال العلج وهو كأنه شعلة حريق أو صاعقة وطعن البطريق وكانت قناته قد شهدت معه المشاهد فاندقت بين يديه وانتضى سيفه وهزه وضرب به العلج على عاتقه فخالط أمعاءه فتنكس العلج صريعا عن جواده وأسرع عامر بن الطفيل فرمى به إلى المسلمين وسلمه إلى ولده وانثنى راجعا نحو الروم وحمل على الميمنة وعلى الميسرة وعلى القلب
ثم قصد المتنصرة فقتل منهم فارسا ودعا للبراز وخرج اليه جبلة بن الأيهم وعليه درع من الديباج المثقل بالذهب وتحتها درع من دروع التبابعة وعليه بيضة تلمع
209

كشعاع الشمس وتحته فرس من نسل خيول عاد فلما خرج جبلة إلى عامر بن الطفيل قال له من أي الناس أنت قال أنا من دوس قال جبلة انك من القرابة فابق على نفسك وارجع إلى قومك ودع عنك الطمع فقال له عامر قد أخبرتك من أنا ومن قبيلتي فأنت من أي العرب قال أنا من غسان وأنا سيدها جميعها أنا جبلة بن الأيهم الغساني وانما خرجت إليك حين نظرت إليك وقد قتلت هذا البطريق الشديد وهو نظير ماهان وجرجير في الشجاعة فعلمت انك كفؤ فخرجت لأقتلك وأحظى عند ماهان وهرقل بقتلك فقال عامر بن الطفيل أما ما ذكرت من شدة القوم وعظم خلقهم فالله أشد منعة وهو مهلك الجبابرة وأما قولك انك تحظى بقتلي عند مخلوق مثلك فاني أريد أن أحظى بجهادي عند رب العالمين بقتلك وحمل عامر على جبلة بن الأيهم والتقيا بضربتين فخرجت ضربة عامر بن الطفيل غير ممكنة وخرجت ضربة جبلة ممكنة فقطعت من قرنه إلى كتفه فسقط عامر قتيلا فجال جبلة على مصرعه ووقف يعجب بنفسه وبما صنع وطلب البراز فخرج اليه ولد المقتول وهو جندب بن عامر بن الطفيل وكانت معه راية أبيه فاقبل إلى أبي عبيدة وقال أيها الأمير ان أبي قد قتل وأريد أن آخذ بثأره أو أقتل فادفع رأيتك لمن شئت من دوس فأخذ أبو عبيدة الراية ودفعها لرجل من دوس فحملها وخرج جندب إلى قتال جبلة بن الأيهم وهو ينشد ويقول
* سأبذل مهجتي أبدا لأني
* أريد العفو من رب كريم
* وأضرب في العدا جهدي بسيفي
* وأقتل كل جبار لئيم
* فان الخلد في الجنات حق
* تباح لكل مقدام سليم
*
قال ودنا من جبلة وقال له أثبت يا قاتل أبي لأقتلك به فقال جبلة ومن أنت من المقتول قال ولده قال جبلة ما الذي حملكم على قتل نفوسكم وأولادكم وقتل النفوس محرم قال جندب ان قتل النفس في سبيل الله محمود عند الله وننال به الدرحة العالية فقال له جبلة اني لا أريد قتلك فقال جندب وكيف أرجع وأنا المفجوع بأبي والله لا رجعت أو آخذ بثأر أبي أو الحق به ثم حمل على جبلة وجعلا يقتتلان وقد شخصت نحوهما الابصار ونظر جبلة إلى الغلام وما أبدى من شجاعته فعلم أنه شديد الباس صعب المراس فأخذ منه حذره وغسان ترمق صاحبها فرأت الغلام جندبا وقد ظهر على صاحبهم وقارنه في الحرب فصاح بعضهم على بعض وقالوا ان هذا الغلام الذي برز إلى سيدكم غلام نجيب وان تركتموه ظهر عليه فانجدوه ولا تدعوه فتأهب غسان للحملة ليستنفذوه ونظر المسلمون إلى جندب وما قد ظهر منه ومن شجاعته وشدته ففرحوا بذلك ونظر الأمير أبو عبيدة إلى ذلك وما فعل فبكى وقال هكذا يكون من يبذل مهجته في سبيل الله اللهم تقبل له فعله
قال جابر بن عبد الله شهدت قتال اليرموك فيما رأيت غلاما كان أنجب من جندب بن عامر بن الطفيل حين قاتله جبلة وبعد ذلك حمل على جبلة وضربه ضربة
210

أوهته بها وضربه جبلة فقتله وعجل الله بروحه إلى الجنة وتحقق منام أبيه عامر بن الطفيل وجال جبلة على مصرعه وطلب البراز فصاح به قومه ارجع الينا فقد قضيت ما يجب عليك فرجع وهو معجب بنفسه حتى وقف تحت صليبه قال وبعث اليه ماهان يشكره وأصيب المسلمون بعامر بن الطفيل وولده جندب قال فعندها صاحت دوس الجنة الجنة خذوا بثأر سيدكم عامر وساعدتها الأزد وكانوا احلافهم وحملوا على غسان ولخم وجذام وتناشدوا الاشعار فصاح أبو عبيدة بالمسلمين وقال أيها الناس سارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة الآية ومعانقة الحور العين في جنات النعيم فما من موطن أحب إلى الله من هذا الموطن الا وان الصابرين فضلهم الله على غيرهم ممن لم يشهد مشهدهم هذا ولما سمعت الأزد ذلك حملت مع دوس وكان شعارهم يؤمئذ الجنة الجنة
قال الواقدي حدثني موسى بن محمد عن عطاء بن مراد قال سألت رجالا عدة ما كان شعار المسلمين يوم اليرموك فأخبرت ان شعار أبي عبيدة أمت أمت وشعار عبس يا لعبس وشعار اليمن من أخلاط الناس يا أنصار الله وشعار خالد ومن معه يا حزب الله وشعار حمير الفتح وشعار دارم والسكاسك الصبر الصبر وشعار بني مراد يا نصر
الله أنزل فهذه كانت شعار المسلمين يوم اليرموك قال فلما حملت دوس تبعها الأزد وقصدت العرب المتنصرة وطلبت صليبهم وفرقتهم تفريقا صعبا حتى وصلوا إلى الصليب فطلب رجل منهم حامل العلم الذي لفسان فأرداه عن فرسه ووقع الصليب من يده منكوسا وقتل من الأزد ودوس رجال إلا أنهم كانوا مثل الشامة البيضاء في جلد البعير الأسود ثم كرت غسان تريد أخذ صليبهم فاقتتلوا عنده قتالا شديدا حتى قتلوا خلقا كثيرا
قال الواقدي حدثني هسام بن عمارة عن أبي الجريري عن نافع عن جبير بن الحويرث عن عبد الله بن عدي قال شهدت اليرموك فكان المسلمون خمسة وعشرين ألفا فغضب الحويرث وقال كذب من حدثك بهذا الحديث فان المسلمين كانوا يوم اليرموك أحدا وأربعين ألفا وقد أديت إليك ما سمعته ممن أثق به من الرواة قال الواقدي وهذا أثبت الأقاويل لان المسلمين كانوا يوم أجنادين اثنين وثلاثين ألفا وجاءت الامداد بعد ذلك
قال الواقدي حدثني ابن أبي نمرة عن عبد الحميد بن سهل عن جده قال لما حملت الأزد يوم اليرموك ودوس ودوخت المشركين دوخة عظيمة وحمل المشركون حملة هائلة انكشف المسلمون وكان صاحب لوائهم عياض بن غنم الأشعري فولى منهزما واللواء بيده فصاح به الناس إنما ثبات القوم وأهل الحرب بألويتهم فابتدر لأخذه عمرو بن العاص وخالد بن الوليد كلاهما يتسابق اليه فأخذه عمرو ولم يزل يقاتل به حتى انهزمت الروم وفتح الله على أيدي المسلمين وكان اليوم الثالث من اليرموك يوما
211

شديدا انهزمت فيه فرسان المسلمين ثلاث مرات كل مرة تردهم النساء بالحجارة والعمد ويلوحون بالأطفال إليهم فيرجعون إلى القتال ولم يزل القتال قائما إلى أن اقبل الليل بسواده ورجعت الروم إلى مواضعها والقتل فيهم كثير وفي المسلمين قليل الا ان الجراح فيهم فاشية من النشاب فلما دخل الليل بسواده رجعت كل فرقة إلى أماكنها وباتوا تحت السلاح قال وأما المسلمون فما كانت همتهم الا الصلاة وبعد ذلك شدوا الجراح وصلى أبو عبيدة رضي الله عنه وقال أيها الناس إذا عظم البلاء فانتظروا الفرج فإنه يأتي من عند الله فاضرموا نيرانكم وتحارسوا وأظهروا التهليل والتكبير وقام أبو عبيدة يمشي في الناس هو وخالد بن الوليد يتفقدان الجرحى ويقولان أيها الناس أن عدوكم يألم كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وباتا طول ليلهم كله وهما طائفان على المسلمين إلى أن أصبح الصباح قال وانحازت الروم إلى جانب اليرموك مع ماهان الأرمني فجمع بطارقته ووبخهم وزجرهم وقال لهم قد علمت أن هذا يكون منكم وقد رأيت فشلكم وخوفكم وجزعكم من هؤلاء العرب الضعاف قال فاعتذروا اليه وقالوا غدا نبارزهم فان فينا فرسانا وشجعانا لم يقاتلوا أصلا وغدا نصدقهم الحرب فتكون لنا العاقبة قال فسكت عن توبيخهم وأمرهم أن يتأهبوا لذلك وبات الفريقان يتحارسون وقد رعبت الروم من كثرة القتل فيهم واما المسلمون فإنهم أقوى قلوبا لشدة دينهم ويقينهم
قال فلما أصبح الصباح صلى بهم أبو عبيدة صلاة الخوف وإذا بالصلبان قد بدت وبرايات القوم قد طلعت في عدد الشوك والشجر كأنهم لم يلاقوا قتالا قط فوقفوا في مصافهم ونصب ماهان سريره على الكثيب الذي كان عليه بالأمس وهو يشرف منه على العساكر فامرهم أن يعبوا مصافهم فلما نظر أمير المؤمنين إلى سرعة الروم صاح كل أمير برجاله وحرضهم على القتال فانقلبوا من الصلاة إلى خيولهم ولبسوا السلاح وركبوا خيولهم ورجع كل أمير إلى مكانه وهو يعظ أصحابه ويوصيهم ويعدهم من الله بالنصر وسار أبو عبيدة بين الصفوف وهو يصف لهم فضل الجهاد وما أعد الله للمجاهدين الصابرين وخلف على الذراري والنساء والأموال والأولاد عمرو بن سعيد ابن عبد الله الأنصاري وجعل من الرماة خمسمائة في الميسرة وخمسمائة في القلب وطاف أبو عبيدة عليهم وقال لهم معاشر الرماة الزموا مراكزكم فان رأيتم القوم زحفوا الينا فارشقوهم بالنبل واذكروهم عند رميكم ولا تتركوها مفرقة ولتخرج سهامكم كأنها من كبد قوس واحدة فان هم زحفوا إليكم فاثبتوا مكانكم حتى يأتيكم أمري ففعلوا ما امرهم به الأمير وتقدم أبو سفيان إلى ولده يزيد والراية في يده وحوله أصحابه وقد عزم على الحملة والجهاد فقال يا بني ان أحسنت أحسن الله إليك عليك بتقوى الله والصبر فاتق الله حق تقاته وانصر دين الله وشرع نبيه صلى الله عليه وسلم وإياك والجزع فما قضاه ربنا قد أمضاه فاصبر مع أصحابك صبر أولى العزم وأياك ثم إياك أن يراك الله
212

منهزما فتبوء بغضب من الله قال يزيد سأصبر جهدي وطاقتي والله أسأله أن يكون معينا لي وناصرا
ثم صاح يزيد برجاله وهز الراية وندبهم إلى القتال وحمل على من يليه من الروم فقاتلوا قتالا عظيما ولم يزالوا حتى انكوا العدو نكاية عظيمة وأبلوا بلاء حسنا وكان قتالهم من جانب القلب ولم يزالوا كذلك حتى برز إليهم بطريق من البطارق وبيده رمح عظيم وعليه صليب من الذهب وحوله زهاء من عشرة آلاف فارس من الروم فحملوا على الميمنة وكان فيهم عمرو بن العاس ومن معه فرجعوا على أعقابهم منهزمين حتى دخلت الروم في أوائل عسكر المسلمين مما يلي عمرا ومن معه وهم يتراجعون على الرجال فيكرون تارة ويرجعون تارة حتى تكاثرت عليهم الروم فكشفوهم حتى الصقوهم بالتل الذي عليه النساء وأحاطوا بالتل فصاحت امرأة اين أنصار الدين اين حماة المسلمين وكان الزبير ابن العوام جالسا عند زوجته أسماء بنت أبي بكر الصديق يداوى عينه وكان أرمد فلما سمع صوت المرأة وهي تنادي أين أنصار الدين قال يا أسماء ما لهذه المرأة تصيح اين أنصار الدين فقالت له عفرة ابنة عثمان يا ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم انهزمت ميمنة المسلمين حتى الجاهم الروم الينا وأحاط بنا الاعلاج وهذه نساء الأنصار مستصرخة بانصار الدين فقال الزبير والله اني انا من أنصار الدين ولا يراني الله جالسا في مثل هذا الوقت قال ثم طرح الخرقة عن عينه واستوى جالسا على متن جواده فأخذ قناته وتسمى باسمه وقال في حملته أنا الزيبر بن العوام أنا ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل يطعن فيهم طعنا متداركا حتى ردهم على أعقابهم وخيلهم تنكص بأذنابها قال ليث بن جابر فلله در الزبير بن العوام لقد رد الروم بنفسه وحده إذ حمل عليهم وما كان معه من العرب أحد حتى ردهم إلى عسكرهم وتراجعت خيل عمرو ورجاله وهو ينادي الرجعة الرجعة الحزم الحزم يا أهل الاسلام الصبر الصبر فتراجعوا بعد أدبارهم
قال الواقدي وحمل جرجير الأرمني في ثلاثين ألفا من الأرمن على شرحبيل ابن حسنة كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم فانكشف أصحاب شرحبيل بن حسنة ولم يثبت غيره لقتال الروم في عصبة من قومه دون الخمسمائة فجعل شرحبيل يحمل على الأرمن وهو يقول يا أهل الاسلام لا فرار من الموت الصبر الصبر قال فتراجع
أصحابه اليه وحملوا على الأرمن فردوهم على أعقابهم وجعلوا يضربون فيهم حتى أصابوا من الأرمن ما لم يصبه الأرمن منهم فرجع شرحبيل إلى مكانه ودار به أصحابه فجعل يعنفهم بالقتال ويقول لهم ما الذي أصابكم حتى انهزمتم أمام هؤلاء الكفرة وأنتم الحماة البررة وأهل القرآن وعباد الرحمن أما سمعتم قوله عز وجل ومن يولهم يومئذ دبره الا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير وقال وقال الله تعالى أن الله أشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم
213

الجنة وأنتم تهربون فقالوا يا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم زلة من الشيطان مثل يوم أحد وحنين وها نحن معك فاحمل حتى نحمل معك فجزاهم خيرا ووقف مكانه وكان موقفه مما يلي سعيد بن زيد وقد لزموا مواقفهم لم يتحركوا التماسا للحفيظة ونظر قيس بن هبيرة إلى خيل شرحبيل وقد تراجعت فحمل بمن معه ونادى هو وأصحابه بشعارهم وكان شعارهم يا نصر الله انزل يا منصور أمت أمت وكان هذا شعارهم يوم بدر وأحد وحمل خالد بن الوليد بمن معه ذات اليمين وحمل قيس من ذات الشمال فقاتلوهم قتالا شديدا ولله در الزبير بن العوام وهاشم بن المرقال وخالد بن الوليد لقد حملوا حملة عظيمة حتى قربوا من سرادقات ماهان وتواقعت الروم على سرادقات ماهان وخيامه فلما نظر ماهان إلى ذلك نزل عن سريره هاربا وصاح بالروم وعنفهم فتراجعوا يطلبون القتال وصاح أبو عبيدة بسعيد بن زيد فحمل بمن معه وهو ينادي لا إله إلا الله يا منصور أمت أمت فأقبلوا يقتلون في الروم قتلا ذريعا فبينما المسلمون في حملتهم إذ سمعوا قائلا يقول يا نصر الله انزل يا نصر الله أقرب أيها الناس الثبات الثبات قال عامر بن أسلم فتأملنا الصارخ فإذا هو أبو سفيان وتحت رايته ابنه يزيد قال وشدت الامراء بأجمعهم على من يليهم وقاتلوا قتالا شديدا ولم يكن في الروم أثبت من أصحاب السلاسل فإنهم ثبتوا في أماكنهم يمنعون من أتاهم وأما الرماة وهم مائة ألف رام فكانوا إذا رشقوا سهامهم نحو العرب يسترون الشمس فلولا النصر والمعونة من الله لكان المسلمون هلكوا وانفصل المسلمون فرحين مستبشرين والمشركون قد هلك أكثرهم وبرز علج من أعلاج الروم كأنه نخلة باسقة وعليه درع مذهب وعلى رأسه بيضة مذهبة وعليها صليب من ذهب مرصع بالجوهر وهو راكب على شهباء وعليه زرد من حديد وبيده رمح فجال وأشهر نفسه وسأل البراز فنظر المسلمون إلى عظم خلقته وهول جثته فجعلوا ينظرون اليه فقال أبو عبيدة لا يهولنكم ما ترون من خلقته فكم رأيتم من هو عظيم خلقة ولا قلب له فمن له منكم يخرج اليه واستعينوا بالله عليه
قال فخرج اليه عبد من عبيد العرب وبيده سيفه وحجفته وهو زاجل فلما أراد أن يدنو من العلج صاح به مولاه ذو الكلاع الحميري فلما رجع خرج اليه ذو الكلاع وجال عليه وكان ذو الكلاع من أهل الشدة والبأس فتواقعا وكل منهما رامح فتطاعنا طعنا شديدا أشد من الجمر ثم إنهما تجاذبا سيوفهما والتقيا فضرب ذو الكلاع العلج ضربة وضرب العلج ضربة وكان سيف العلج قاطعا وساعده قويا فقطع سيفه درقة ذي الكلاع وسيفه ودرعه وما تحته من الثياب ووصلت الضربة إلى عضده الأيسر فجرحته جرحا بليغا وثقلت يده فلما نظر ذو الكلاع إلى ما لحقه من العلج عطف بجواده يريد المسلمين ونظر العلج إلى ذي الكلاع سابقا فلم يلحقه حتى لحق بالمسلمين فاتى قومه والدم يفور من جرحه فاجتمع فرسان قومه فقال لهم يا فرسان
214

حمير إياكم ان تتكلوا في قتالكم على السلاح ومنعته ولكن اتكلوا في قتالكم على الله عز وجل قالوا وكيف ذلك أيها السيد قال لأني رددت عبدي عن القتال شفقة عليه إذ ليس معه لامة حرب وقلت أني أفرس منه وأجود عدة ولامة فصنع بي هذا الأغلف ما ترون والله ما لحقني قبلها في حرب مثلها قط فشدوا جرحه ووقف مكانه ثم إنه صاح بقومه يا رجال حمير ان كان سيدكم قد رجع كلالا فما منكم من يأخذ بثأره فانتدب فارس من فرسان حمير وعليه صبائغ اليمن من الابراد والحبر كأنه جمرة نار وحمل نحو العلج مصمصما وجال جولة عظيمة وطعنة طعنة أثبتها في صدره فأرداه قتيلا وعجل الله روجه إلى النار فهم الحميري أن ينزل عن جواده ويأخذ سلبه فحمل عليه كردوس من الروم ليكشفوه عنه فردهم الحميري صاغرين ثم رجع اليه وأخذ سلسة وأقبل به على أبي عبيدة فأعطاه إياه فدفع السلب إلى قومه ورجع إلى مقامه في القتال فخرج اليه آخر فقتله وآخر فقتله فخرج اليه علج رابع فقتل الحميري ونزل ليأخذ سلب الحميري فرماه رجل من رماة الأنصار بنبلة فوضعها في لبته فجندله صريعا وعجل الله بروحه إلى النار قال فأنقلبت الروم على وجوهها وهابوا جميع المسلمين وكان ذلك البطريق الذي قتل بالنبلة من عظمائهم ويقال أنه كان صاحب نابلس فصاح بهم ماهان وسكنهم عن اضطرابهم وخرج إلى القتال ملك اللان واسمه مريوس وعليه لامة الملوك وعليه ديباجة وفي وسطه منطقة مرصعة بالجوهر فجال بين الصفين وشهر نفسه وقال أنا ملك اللان فلا يبرز لي الا أميركم فخرج اليه شرحبيل بن حسنة كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيده لواؤه وعليه درع من حديد وهو ممنطق بمنطقة من الأديم وهو على جواده فقال أبو عبيدة من هذا الذي خرج قالوا له شرحبيل بن حسنة فبعث اليه أبو عبيدة يقول له ادفع الراية لمن شئت واخرج من غير راية فلما سمع ذلك سلم الراية لرجل من قومه وقال له قف بها موضعي فان قدر علي فسلم الراية إلى الأمير أبي عبيدة يدفعها لمن يريد وان رجعت أخذتها فأخذها الرجل وخرج شرحبيل كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو ملك اللان وهو يقول
* سأحمل في اللئام بني الأعادي
* بكل مثقف لدن حداد
* فيا بؤسا لقيصر يوم نأتي
* وجمع الروم شرد في البلاد
*
قال فسمع البطريق شعر شرحبيل فلم يفهمه وكان يفهم قليلا بالعربية
فقال له يا عربي ما الذي تقول قال أقول كلاما تقوله العرب عند الحرب تشجع به نفوسها وتثق بوعد الله الذي وعد به نبينا فقال ملك اللان وما الذي وعدكم به نبيكم فقال شرحبيل وعدنا الله أن يفتح لنا الأرض في الطول والعرض ونملك الشام ونكون من الظافرين بنصر الله لنا قال ملك اللان أن الله لا ينصر من يبغي وأنتم تبغون علينا وتطلبون ما ليس لكم بحق فقال شرحبيل نحن قوم أمرنا الله أن نفعل ذلك والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين واني أراك تعرف
215

كلام العرب فلو تركت ما أنت عليه من عبادة الصليب ودخلت في دين الاسلام كنت من أهل الجنة وسعدت فقال ملك املان ما أترك دين المسميح أبدا فان دينه حق فقال شرحبيل لا تقل انه اله معبود ولا تقل صلب وقتل فان الله سبحانه وتعالى أحياه في الأرض ما شاء ثم رفعه إلى السماء ثم قال ملك اللان لن أرجع عن قولي ثم استخرج صليبا من عنقه فرفعه ووضعه على عينه وأقبل يستنصر به فغضب شرحبيل من فعاله فقال له يا ويلك تبا لك ولمن معك ولمن يقول بقولك ثم حمل عليه وأخذا في القتال وجالا جولانا عظيما فرمقتهما الابصار وجعل المسلمون يدعون لشرحبيل بالنصر والمعونة ونظر شرحبيل إلى شدة الكافر ففر بين يديه كأنه منهزم فتبعه عدو الله فلما علم شرحبيل انه قد قاربه ثنى عنان جواده فطعنه بقناته يريد أن يجعلها في نحره فزاغ المشرك عن الطعنة ونجا منها سالما ثم قال معاشر العرب أنتم لا تدعون الخديعة والمكر فقال شرحبيل ويلك أما علمت أن الحرب خدعة والمكر رأسها فقال العلج فما الذي نفعك من حيلتك قال فتضاربا حتى انقطع السيفان في أيديهما فاعتنقا معانقة شديدة وكان المشرك أعظم جثة وأشد منعة وكان شرحبيل نحيف الجسم من كثرة الصيام والقيام فضغط عليه المشرك ضغطة أوجعه بها وهم أن يقتله في سرجه والفريقان ينظران اليهما قال ضرار بن الأزور فداخلني والله الغيظ فقلت في نفسي ويحك يا ضرار يقتل هذا العلج كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت تنظر اليه فما يمنعك من نصرته
قال الواقدي فخرج ضرار نحوهما يسعى على قدميه كالظبية الخمصاء حتى قرب منهما ولا يعلمان به جميعا وكان في يده خنجر فضرب به العلج من ورائه فأطلع الخنجر من قلبه فسقط العلج قتيلا وخلص شرحبيل من الضغطة قال فلما سقط العلج عن ظهر جواده نزل اليه شرحبيل وسلب ما كان عليه من لامة حربه وركب ضرار جواده وانثنى راجعا هو وشرحبيل نحو المسلمن فهنأ المسلمون شرحبيل وشكروا ضرارا على فعله قال ثم إن شرحبيل أخذ سلب العلج فنازعه ضرار فيه فقال السلب لي وأنا قتلته وقال شرحبيل أنا آخذ السلب فأتيا أبا عبيدة فخاف أبو عبيدة أن يحكم بينهما فلا يرضون بحكمه فكتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول يا أمير المؤمنين ان رجلا خرج إلى البراز وقاتل علجا من الاعلاج وبلغ معه الجهد جهيد فخرج آخر من المسلمين فأعان الرجل وقتل العلج قال ولم يسم أبو عبيدة الرجلين فلمن السلب منهما فجاء الجواب من عمر بن الخطاب أن السلب للقاتل فأخذ السلب أبو عبيدة من شرحبيل وأعطاه ضرارا فقال ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء
قال الواقدي ولما قتل ضرار ملك اللان غضبت الروم فخرج فارس شجاع وطلب البراز فخرج اليه الزبير بن العوام رضي الله عنه فقتله وأخذ سلبه وخرج اليه ثان وثالث ورابع فقتلهم وأخذ أسلابهم فقال خالد لأبي عبيدة ان الزبير قد تجرد
216

للروم وبذل نفسه لله ولرسوله وأخاف عليه من التعب فصاح عليه أبو عبيدة وأقسم عليه فرجع الزبير إلى مقامه قال وخرج من الروم بطريق فخرج اليه خالد بن الوليد وكان ملك الروسية فقتله خالد وكان زوج بنت ملك اللان فقوم سلبه وتاجه ومنطقته وصليبه ودرعه بخمسة عشر ألفا قال فأخبر ماهان بذلك فغضب وقال سيدان منا قتلا في يوم واحد واني أظن أن المسيح لا ينصرنا ثم أمر الرماة أن يرموا عن يد واحدة فرموا سهامهم وأطلقوا نحو المسلمين دفعة واحدة مائة ألف سهم فكان النشاب يقع في عساكر المسلمين كسقوط البرد من السماء فكثرت الجراح في الناس وأعور من المسلمين سبعمائة عين فسمى ذلك اليوم يوم التعوير وكان ممن أصيب بعينه المغيرة ابن شعبة وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل التميمي وأبو سفيان صخر بن حرب وراشد بن سعيد وكان الرجل بعد ذلك يلقي الرجل فيقول له ما الذي أصاب عينك فيقول الآخر لا تقل مصيبة بل هي محنة من الله قال وعظم وقع السهام في عسكر المسلمين حتى ما كنت تسمع الا من يصيح واعينا وابصراه واحدقتاه وعظم اضطراب المسلمين من ذلك قال فجذبت العرب أعنة خيولها راجعة قال ونظر ماهان اللعين إلى اضطراب جيش المسلمين فحرض الرماة والروم وصاح برجاله وزحفت المسلسلة نحو المسلمين فهالهم ذلك وحمل جرجير وقناطر وقورين وقال ماهان اثبتوا على الحملة وارموا العرب بالنشاب فزادت الرماة في رميها وزحفت على ساق وأخذ المسلمون على أنفسهم اشفاقا مما نزل بهم ووصل إليهم من قلع الأحداق قال عبادة بن عامر فنظرت إلى جيش الشرك وهو نحونا سائر وفرسان المسلمين متأخرة وخيولهم ناكصة فقلت لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم اللهم انزل علينا نصرك الذي نصرتنا به في المواطن كلها ثم صحت في رجال حمير تهربون من الجنة إلى النار ما هذا الفرار أما تخافون العار أما أنتم بين يدي الجبار أما هو عالم الاسرار فررتم من الكفار قال فما أجابني والله أحد كأنهم صم لا يسمعون قال فقلت كان قبيلتك خرست عن الجواب فجعلت أهتف بقبائل العرب فكل قد شغل بنفسه عن إجابتي فجعلت أكثر من قولا لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم فما كان غير بعيد حتى نزل النصر من الله وذلك أن المسلمين قد انقلبوا راجعين نحو تل النساء ولم يثبت غير أصحاب الرايات قال عبد الله بن قرط الأسدي شهدت القتال كله فلم أر قتالا أشد من يوم التعوير ورجعت الخيل على أذنابها وقاتلت الامراء بأنفسها والرايات بأيديهم حتى كان أبو عبيدة ويزيد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص والمسبب بن نجيبة الفزاري وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق والفضل بن العباس يقاتلون قتالا شديدا قال عبد الله بن قرط فقلت في نفسي وكم مقدار ما يقاتلون هؤلاء وهم نفر يسير حتى ساعدتنا النساء اللاتي شهدن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاهد يداوين الجرحى ويسقين الماء ويبرزن إلى القتال ولم أر امرأة من نساء قريش قاتلت بين يدي رسول
217

الله صلى الله عليه وسلم ولا في اليمامة مع خالد مثل ما قاتلت نساء قريش يوم اليرموك حين دهمهن القتال وخالط الروم المسلمين فضربن بالسيوف ضربا وجيعا وذلك في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان قد انضم النساء المهاجرات لغيرهن وقامت الحرب على ساق وتنادى النساء بأنسابهن وأمهاتهن والقابهن وجعلن يقاتلن قتال الموت ويضربن وجوه الخيل بالعمد ويلوحن بالأطفال وجعل النساء بعضهن يقاتل المشركين وبعضهن يقاتل المسلمين حتى رجعوا إلى قتال المشركين وبعضهم يسقي الماء
وبعضهن يشد الجراح قال فبينما هن يقاتلن وقد هجمت الرجال إذ انهزمت نساء لخم وجذام وخولان فخرجت خولة بنت الأزور وأم حكيم ابنه حكيم بنت الحرث وسلمى بنت لؤي وجعلهن يضربن في وجوههن ورؤوسهن بالعمد ويقلن اخرجن من بيننا فانتن توهن جمعنا قال فرجعت نساء لخم وجذام يقاتلن قتال الموت وقاتلت أم حكيم بنت الحرث أمام الخيل بالسيف وما نسمع يومئذ صوت واحدة من النساء غير صوت واعظة تعظ وأما أم حكيم فإنها جعلت تنادي يا معاشر العرب احصدوا الغلف بالسيوف وأما أسماء بنت أبي بكر فإنها قرنت عنانها بعنان زوجها الزبير ابن العوام فما كان يضرب الا ضربت مثله قال فتراجع المسلمون إلى القتال حين رأوا النساء يقاتلن قتال الموت ويقول الرجل لمن يليه ان لم نقاتل نحن هؤلاء والا فنحن أحق بالخدور من النساء فلله در نساء قريش يوم اليرموك قال الواقدي حدثني عبد الرحمن بن الفضل عن يزيد بن أبي سفيان عن مكحول قال كانت وقعة اليرموك في رجب سنة خمس عشرة من الهجرة قال أبو عامر وحملت خولة بن الأزور على علج من الاعلاج كان قد حمل علينا فاستقبلته وجعلت تشالشه بالسيف فضربها العلج بسيفه على قصتها فأسال دمها وسقطت إلى الأرض فصاحت عفيرة بن عفان حين نظرتها صريعة ونادت فجع والله ضرار في أخته فأخذت رأسها على ركبتها والدم قد صبغ شعرها كالشقائق فقالت لها كيف تجدك قالت أنا بخير إن شاء الله تعالى ولكني هالكة لا محالة فهل لك على بأخي ضرار فقالت عفيرة يا ابنة الأزور ما رأيته فقالت خولة اللهم اجعلني فداء لأخي ولا تفجع به الاسلام قالت عفيرة فجهدت أن تقوم معي فلم تقم فحملناها إلى أن أتينا بها موضعها فلما كان الليل رايتها وهي تدور تسقي الرجال وكان ليس بها ألم قط ونظر إليها أخوها والضربة في رأسها فقال لها ما بك فقالت ضربني علج قتلته عفيرة فقال لها يا أختاه أبشري بالجنة فقد أخذت لك بثأر الضربة مرارا وقتلت منهم أعدادا قال ولم يزل الحرب من أول النهار وكلما قرب الليل يزيد ويشتعل ضرامها وأبو عبيدة يقاتل برايته والامراء يفعلون كفعله إلى أن فصل بينهما الظلام وقد قتل من الروم يوم التعوير أربعون ألفا أو يزيدون ونقل عن خالد انه انقطع في يده ذلك اليوم تسعة أسياف ولقد أخبرنا عن خالد بن الوليد ممن حضر قتال اليرموك وشاهده قال كان يعد قتال خالد بمائة
218

رجل من شجعان الرجال قال حازم بن معن وبرز من المشركين في قلب الوقعة أصحاب الديباج والحرير والتجافيف على الخيول الشهب والبلق كأنها من الجبال الراسيات فلما برزوا غاصوا في القلب وكروا كرة واحدة ورفعوا في وسطهم صليبا من الجوهر وحملت ميمنتهم على ميسرتنا وميسرتهم على ميمنتنا وقد شردوا إلى النساء والنساء يضربن وجوههم فجعلن يصحن بهم الله الله لا تغموا الاسلام بهزيمتكم واتقوا ربكم قال كان بين يدي أبي عبيدة رجل من محرز أسمه نجم بن مفرح وكان من خطباء العصر وأفصح العرب لسانا واجرئها جنانا وكان رفيع الصوت حسنه جدا فقصده العرب والفصحاء يسمعون ما ينطق به من نظمه ونثره
قال الواقدي حدثني عبد الملك بن محمد عن أبيه عن حسان بن كعب عن عبد الواحد عن عوف عن موسى بن عمران اليشكري قال رايت نصر بن مازن وهو بجامع النيل يحدث عن وقعة اليرموك قال مارد الناس عن الهزيمة بعد قضاء الله إلى نصرة الاسلام الا غلام رجل من بني محارب يقال له نجم بن مفرح وكان لا يتكلم الا بالسجع يؤلفه بحسن نظمه ولقد حفظنا منه يوم اليرموك ما نحن نذكره عنه ولقد بلغني ان البلغاء الفصحاء المتأخرين مثل الأصمعي وأبي عبيدة اللغوي ينسجان على منواله في حسن كلامه فكان من جملة ما وعظ به المسلمين يوم اليرموك وقت هزيمتهم أيها الناس هذا يوم له ما بعده وقد عاينتم قربه من بعده ولن تنال الجنة الا بالصبر على المكاره وتالله لا ينالها من هو للجهاد كاره وينشد
* ولله في عرض السماوات جنة
* ولكنها محفوفة بالمكاره
*
واعلى الدرجات درجة الشهادة فارضوا عالم الغيب والشهادة وهذا الجهاد قد قام على ساقه وكسد النفاق في أستواقه وأخفى نفاقه في نفاقه وأنتم أصحاب نبي العصر فأيستم من الثبات والنصر بشروا روح المصطفى بثباتكم وقوموا العزم بصفاء نياتكم وإياكم ان تولوا الادبار فتستوجبوا عذاب النار وغضب الجبار فوالذي قدر الاقدار وأدار الفلك الدوار وكل شيء عنده بمقدار لقد تزينت لكم الحور العين بأيديهن أباريق وكأس من معين فمن طلب دار البقاء هان عليه ما يلقى فحققوا حملتكم تنالوا بغيتكم واطعنوا الصدور تنالوا الحور وشرعوا الأسنة تنالوا الجنة واغتنموا الصبر يكتب لكم الاجر بشروا المؤمنين بحسن عملكم وإياكم ان تضلوا عن سبيلكم لا توافقوا الكفار في جهنم واعدلوا عن طريق قولهم ووافقوا من سلف من أسلافكم في فعلهم واسمعوا ما نزل في القرآن من أجلهم * (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون) * سيروا فقد سبق المفردون واجتهدوا فقد فاز المجتهدون يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن الا وأنتم مسلمون
219

قال وحمل خالد بن الوليد بعصابة حمراء وهو يفزع الروم باسمه ويقول انا خالد ابن الوليد فبرز اليه بطريق يقال له النسطور وعليه الديباج فأقبل يدعو خالد ويهمهم وخالد في القتال لا يشعر به ولا يدري ما يقول فعندما سمعه يرطن عطف عليه فاقتتلا قتالا شديدا فبينما هما في أشد القتال إذ كبا بخالد الجواد فوقع الفرس على يديه وهوى خالد على أم رأسه فقال الناس لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم
قال الواقدي وخالد يقول حي حي فعلا البطريق على ظهر خالد في عثرته وقد سقطت قلنسوته من رأسه فصاح قلنسوتي رحمكم الله فأخذها رجل من قومه من بني مخزوم وناوله إياها فأخذها خالد ولبسها فقيل له فيما بعد يا أبا سليمان أنت في مثل هذا الحال من القتال وأنت تقول قلنسوتي فقال خالد ان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حلق رأسه في حجة الوداع أخذت من شعره شعرات فقال لي ما تصنع بهؤلاء يا خالد فقلت أتبرك بها يا رسول الله وأستعين بها على القتال قتال أعدائي فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم لا تزال منصورا ما دامت معك فجعلتها في مقدمة قلنسوتي فلم ألق جمعا قط الا انهزموا ببركة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ثم شدها بعصابة
حمراء وحمل على النسطور وضربه على عاتقه أخرج السيف من علائقه وانسر من بقي من ملوكهم وكرهوا البراز بعد ذلك فكان يدعوهم إلى البراز فلا يخرج اليه أحد ولم يزل يضرب فيهم بسيفه حتى كل فاشفق عليه الحرث بن هشام المخزومي فقال لأبي عبيدة أيها الأمير لقد قضى خالد ما يجب عليه وأدى السيف حقه فلم لا أمرته أن يريح نفسه قال فمشى أبو عبيدة إليه وجعل يعزم عليه أن لا يتقدم ويسأله أن يريح نفسه فقال خالد أيها الأمير أما والله لأطلبن الشهادة بكل وجه فان أخطاتني فالله يعلم نيتي وحمل فلم يرجع عن حملته حتى جلاها وذلك أن كل المسلمين استعفوه في حملته وأقبلوا على القتال من بعد هزيمتهم والنساء أمام الرجال ولم يزل الحرب بين الفريقين حتى انقلب الروم على أعقابها وقد قتل منهم ألوف عديدة وأما أصحاب السلاسل فانحطم أكثرهم ووطئتهم الخيل بحوافرها ولم يزل القتال بينهم حتى مالت الشمس بغروبها وانفصل الجمعان وقد جرت الدماء بينهم وفرشت الأرض بالقتلى والجراح فاشية في الجمعين لكن في الروم أكثر ورجع كل قوم إلى اصلاح شأنهم ومداواة جرحاهم واما النساء فأصلحن الطعام وشددن الجروح وداوين السقام ولم يقل أبو عبيدة لاحد من المسلمين من يكون الليلة على حرس المسلمين لما عندهم من التعب بل إنه تولى الحرس بنفسه ومعه جماعة من المسلمين قال فبينما هو يدور إذ رأى فارسين قد لقياه وهما يدوران بدورانه فكلما قال لا اله إلا الله قالا محمد رسول الله فقرب أبو عبيدة منهما فإذا هما الزبير بن العوام وزوجته أسماء بنت أبي بكر الصديق فسلم عليهما وقال يا أبن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الذي أخرجكما قال الزبير نحرس المسلمين وذلك أن أسماء قالت لي يا ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ان المسلمين مشتغلون بأنفسهم في هذه
220

الليلة عن الحرس بما لحقهم من التعب في الجهاد طول يومهم فهل لك ان تساعدني على حرس المسلمين فأجبتها إلى ذلك فشكرهما أبو عبيدة وعزم عليهما أن يرجعا فلم يفعلا ولم يزالا كذلك إلى الصباح
قال الواقدي حدثني أبو عبيدة عن صفوان بن عمرو عن عبد الرحمن ابن حبيران ابا الجعيد كان رئيسا من رؤساء أهل حمص فلما اجتمعت الروم على المسلمين في اليرموك دخلوا على حمص ونزلوا في بلدة تسمى الزراعة وكان أبو الجعيد هذا قد جعلها مسكنه لطيب هوائها ومائها وانتقل من حمص إليها فنزل عسكر الروم على الزراعة عنده وكان فيها عرس لأبي الجعيد وزوجته تزف عليه في تلك الليلة قال فتكلف أبو الجعيد بضيافة الروم وأكرمهم وأطعمهم وسقاهم الخمر فلما فرغوا من أمورهم قال هات امرأتك الينا فأبى ذلك وسبهم فأبوا الا أخذ العروس فلما شنع عليهم بذلك عمدوا إلى العروس واخذوها كرها منه وعبثوا بها بقية ليلتهم فبكى أبو الجعيد من حزنه ودعا عليهم فقتلوا أولاده وكان له ولد من زوجة غيرها قال فأقبلت أم الفتى فأخذت رأس ولدها في خمارها وأقبلت به إلى مقدم ذلك الجيش ورمت الرأس اليه وشكت حالها وقالت له انظر ما صنع أصحابك بولدي فخذ بحقي فلم يعبأ بكلامها فقالت له أم الفتى والله لتنصرن العرب عليكم ورجعت وهي تدعو عليه فما كان الا يسير حتى هلكوا في أيدي المسلمين قال فلما كان يوم اليرموك بعدها قتل النسطور أتى أبو الجعيد إلى عساكر المسلمين وقال لخالد أعلم أن هذا الجيش النازل بازائكم جيش عظيم ولو سلموا أنفسهم إليكم للقتل لما فرغتم من قتلهم الا في المدة الطويلة فان كدتهم لكم في هذه الليلة مكيدة تظفرون بها عليهم ماذا تعطوني قالوا نعطيك كذا وكذا تؤدي جزية أنت وولدك وأهل بيتك ونكتب لك بذلك عهدا إلى آخر عقبك
قال الواقدي فلما استوثق منهم لنفسه مضى إلى الروم وهم لا يعلمون وأتى إلى واد عظيم مملوء ماء فأنزل الروم إلى جانبه وقال لهم ان هذا المنزل به العرب وأنا سأكيد لكم العرب بمكيدة يهلكون بها قال وجعل الناقوصة فيما بين الروم والعرب ولم يعلم أحد من الروم ما عمقها قال فلما كان يوم التعوير وعلم أبو الجعيد ان النصر للعرب وأن العرب هم المنصورون جاء أبو الجعيد إلى أبو عبيدة فوجده يطوف تلك الليلة هو وجماعة من المسلمين المهاجرين فقال لهم ما قعودكم قالوا وما نصنع قال إذا كان ليلة غد فأكثروا من النيران ثم رجع إلى الروم لينصب عليهم حيلة فلما كانت الليلة الثانية أوقد المسلمون أكثر من عشرة آلاف نار فلما اشتعلت النيران أقبل إليهم أبو الجعيد فقالوا قد أشعلنا النيران كما أردت فما بعد ذلك قال أريد منكم خمسمائة رجل من أبطالكم حتى أشير عليهم بما يصنعون
قال الواقدي فاختار من المسلمين خمسمائة رجل من جملتهم ضرار بن الأزور
221

وعياض ورافع وعبد الله بن ياسر وعبد الله بن أوس وعبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر وغانم بن عبد الله ومثل هؤلاء السادات فلما اجتمعوا سار بهم أبو الجعيد على غير المخاضة وقصدبهم عسكر الروم فلما كادوا يخالطونهم اخذ أبو الجعيد منهم رجالا ودلهم على المخاضة ولم يكن يعلم بها أحد سواه ممن سكن اليرموك وقال لهم ناوشوهم الحرب ثم انهزموا ودعوني وإياهم ففعلوا ذلك وصاحوا فيهم وحملوا ثم انهزموا قدامهم نحو المخاضة فعند ذلك صاح أبو الجعيد برفيع صوته يا معاشر الروم دونكم ومن انهزم فهؤلاء المسلمون قد أوقدوا نيرانهم وعولوا على الحرب قال فأقبلت الروم على حال عجلة يظنون أن ذلك حق فبعضهم ركب جواجه عريانا وبعضهم راجل وساروا في طلب المنهزمين وأبو الجعيد يعدو بين أيديهم إلى أن أوقفهم على الناقوصة وقال لهم هذه المخاضة دونكم وإياهم فاقبلوا يتساقطون في الماء كتساقط الجراد حتى هلك في الماء ما لا يعد
ولا يحصى عددا ولا يدركه جنان فسمتها العرب الناقوصة لنقص الروم قال الواقدي هذا ما جرى للروم ولا يعلم الأول بما جرى للآخر حتى أصبحوا فنظروا المسلمين في أماكنهم فعلموا أنهم قد دهموا في الليل وقل عددهم وتبدد شملهم فقال بعضهم لبعض من كان الصائح في ليلتنا قال الرجل الذي عبثتم بزوجته وقتلتم ولده وقد أخذ بثاره منكم قال فلما أصبح ماهان وعلم الحقيقة وعلم ما نزل بأصحابه علم أنه هالك لا محالة وأن العرب ظافرون عليه فبعث إلى قورين فقال ما ترى أن أصنع وقد ظهرت العرب علينا وان حملوا علينا حملة لم ينفلت منا أحد فهل لك أن تسألهم أن يأخروا القتال حتى نفعل الحيلة في خلاص أنفسنا قال قورين أفعل ذلك قال فدعا ماهان برجل من لخم وبعثه إلى المسلمين يقول لهم اعلموا أن الحرب سجال والدنيا زوال وقد مكرتم بنا فلا تبغوا فالبغي له مصرع واخروا الحرب عنا يومنا هذا فإذا كان غد يكون الانفصال بيننا وبينكم قال فأقبل اللخمي إلى أبي عبيدة وبلغه الرسالة فهم أبو عبيدة أن يجيبهم إلى ذلك فمنعه خالد من ذلك وقال له لا نفعل أيها الأمير فما عند القوم خير
بعد ذلك فقال أبو عبيدة ارجع إلى صاحبك وقل له لا نؤخر عنك القتال وانا على عجل من أمرنا فرجع الرسول إلى ماهان فأعلمه بجواب أبي عبيدة فعظم عليه وكبر لديه وكفر وتجبر وقال لقد كنت أتربص بنفسي عن العرب أرجو بذلك الصلح فوحق الصليب لا يبرز لهم غيري ثم صرخ بالروم وأصحاب سرير الملك ومن كان يتكل عليه في الشدائد وأمرهم ان يأخذوا الأهبة فاستعدوا وخرج ماهان في مقدمة الجيش والصليب أماه وإذا بالمسلمين أخذوا مصافهم للقتال وذلك أن أبا عبيدة صلى بالمسلمين صلاة الفجر وأمرهم بالسرعة للقتال وأخذوا مواضعهم للحرب ففعلوا وقد أيقنوا أنهم منصورون على عدوهم وصف أبو عبيدة أصحاب الرايات ووقف هو وخالد في الخيل المعروفة بخيل الزحف وطلعت
222

الشمس وخرج جرجير هو وبعض ملوك الروم ودعا بالبراز وقال لا يبرز لي الا أمير العرب فسمعه أبو عبيدة فسلم الراية إلى خالد وقال أنت للراية يا أبا سليمان فان عدت من قتاله فالراية لي وان هو قتلني فامسك رأيتك حتى يرى عمر رأيه فقال خالد أنا لقتاله دونك فقال أبو عبيدة لا هو طلبني ولا بد لي من الخروج اليه وأنت شريكي في الاجر فخرج أبو عبيدة وما أحد من المسلمين الا وهو كاره لذلك فأقبلوا يسألونه فلج في الخروج فتركوه ورأيه فلما قرب أبو عبيدة من جرجير وعاينه قال له أنت أمير هذا الجيش فقال أبو عبيدة أنا ذلك وقد أجبتك إلى ما طلبت من أمر البراز فدونك وعرض الميدان فأما هزمتكم أو قتلتك واقتل ماهان بعدك فقال جرجير أمة الصليب تغلبكم وحمل جرجير على أبي عبيدة وحمل أبو عبيدة على جرجير وطال بينهما القتال وبقي خالد ينظر إلى أبي عبيدة ويدعو له بالسلامة والنصر وجميع المسلمين يدعون له قال وفر جرجير أمام أبي عبيدة وأخذ في عرض الجيش وطلب في فراره جيش المشركين في الميمنة وتبعه أبو عبيدة على أثره فعندها عطف عليه جرجير وخرج كأنه البرق والتقيا بضربتين فكان أبو عبيدة أسبق فوقعت الضربة على عاتق جرجير فخرجت من علائقه فكبر عند ذلك أبو عبيدة وكبر المسلمون ووقف أبو عبيدة على مصرع جرجير وجعل يتعجب من عظم جثته ولم يأخذ من سلبه شيئا فناداه به خالد لله درك أيها الأمير ارجع إلى رأيتك فقد قضيت ما يجب عليك فلم يرجع أبو عبيدة فاقسم عليه المسلمون أن يرجع فرجع وأخذ الراية من يد خالد ونظر ماهان إلى جرجير فعظم ذلك عليه وكبر لديه لأنه كان ركنا من أركانهم فهم بالهزيمة ثم قال في نفسه ماذا يكون عذري عند هرقل ولا بد أن أبرز إلى الحرب فان قتلت فقد استرحت من العار وان سلمت كان لي عند الملك عذر أحسن من أن أولي الادبار ثم أنه أعلم رجاله أنه يريد المبارزة بنفسه وأخذ عدته ولبس زينته وخرج كأنه جبل ذهب يلمع ثم جمع اليه البطارقة والقسوس والرهبان وقال لهم ان الملك هرقل كان أعلم منكم بهذا الامر وانه أراد الصلح فخالفتموه فها أنا أبرز أليهم بنفسي فتقدم اليه بطريق من بطارقة السرير وكان فيه نسك ودين وكان يعظم الكنائس والرهبان ويتبع ما فرض عليه في الإنجيل وكان يقرب من جرجير في النسب فلما علم بقتله عظم عليه وقال وحق الصليب لابرزن إلى المسلمين وآخذ بالثأر فاما أن الحق به واما أن أقتل قاتله
ثم قال ماهان قد تعين علي الجهاد وأنا أؤدي فرض المسيح ولا بد لي من المبارزة قال فتركه ماهان فخرج وكان أسمه جرجيس وكان عليه درع وعلى الدرع ثوب حديد متقلد بسيفه ومعه فنطارية وعوذته القسوس وبخروه ببخور الكنائس واقبل اليه راهب عمورية وأعطاه صليبا كان في عنقه وقال هذا الصليب من أيام المسيح يتوارثه الرهبان ويتمسحون به فهو ينصرك فأخذه جرجيس ونادى البراز بكلام عربي فصيح حتى ظن الناس انه عربي من المتنصرة فخرج اليه ضرار بن الأزور كأنه شعلة
223

نار فلما قاربه ونظر اليه والى عظم جثته ندم على خروجه بالعدة التي أثقلته فقال في نفسه وما عسى يغني هذا اللباس إذا حضر الاجل ثم رجع موليا فظن الناس انه ولى فزعا فقال قائل منهم ان ضرار قد انهزم من العلج وما ضبط عنه قط انه انهزم وهو لا يكلم أحدا حتى صار إلى خيمته ونزع ثيابه وبقي بالسراويل واخذ قوسه وتقلد بسيفه وجحفته وعاد إلى الميدان كأنه الظبية الخمصاء فوجد مالكا النخعي قد سبقه إلى البطريق وكان مالك من الخطاط إذا ركب الجواد تسحب رجلاه على الأرض فنظر ضرار فإذا بمالك ينادي العلج تقدم يا عدو الله يا عابد الصليب إلى الرجل النجيب ناصر محمد الحبيب فلم يجبه العلج لما داخله من الخوف منه قال فجال عليه وهم ان يطعنه فلم يجد للطعنة مكانا لما عليه من الحديد فقصد جواده وطعنه في خاصرته فأطلع السنان يلمع من الجانب الآخر فنفر الجواد من حرارة الطعنة وهم مالك ان يخرج الرمح فلم يقدر لأنه قد اشتبك في ضلوع الجواد وهو على ظهره لم يقدر ان يتحرك لأنه مزرر في ظهر الجواد بزنانير إلى سرجه فنظر المسلمون إلى ضرار وقد أسرع اليه مثل الظبية حتى وصل اليه وضربه بسيفه على هامته فشطرها نصفين واخذ سلبه فأتاه مالك وقال ما هذا يا ضرار تشاركني في صيدي فقال ما أنا بشريكك وانما انا صاحب السلب وهو لي فقال مالك أنا قتلت جواده فقال ضرار رب ساع لقاعد آكل غير حامل فتبسم مالك وقال خذ صيدك هناك الله به قال ضرار انما انا مازح في كلامي خذه إليك فوالله ما آخذ منه شيئا وهو لك وأنت أحق به مني ثم انتزع سلب العلج وحمله على عاتقه وما كاد ان يمشي به وهو يتصبب عرقا قال زهير بن عابد ولقد رايته وهو يسير به وهو راجل ومالك فارس حتى طرحه في رحل مالك فقال أبو عبيدة بأبي وأمي والله قوم وهبوا أنفسهم لله وما يريدون الدنيا قال فلما قتل البطريق قص جناح ماهان فصاح بقومه وجمعهم اليه وقال لهم اسمعوا يا أصحاب الملك وبلغوه عني اني ما تركت جهدي في نصرة هذا الدين وحاميت عن الملك وقاتلت عن نعمته وما أقدر ان أغالب رب السماء لأنه قد نصر العرب علينا وملكهم بلدنا والآن مالي وجه ارجع به إلى الملك حتى أخرج إلى الحرب وأبرز إلى مقام الطعن والضرب وعزمت ان أسلم الصليب إلى أحدكم وأبرز إلى قتال المسلمين فان قتلت فقد استرحت من العار ومن توبيخ الملك لي وان رزقت النصر وأثرت في المسلمين أثرا ورجعت سالما علم الملك أني لم أقصر عن نصرته فقالوا أيها الملك لا تخرج إلى الحرب حتى نخرج نحن إلى القتال قبلك فإذا قتلنا فافعل بعدنا ما شئت قال فحلف ماهان بالكنائس الأربع لا يبرز أحد قبله قال فلما حلف أمسكوا عنه وعن مراجعته ثم أنه دعا بابن له فدفع اليه الصليب وقال قف مكاني وقدم لماهان عدة فأفرغت عليه
قال الواقدي وبلغنا ان عدته التي خرج بها إلى الحرب تقومت بستين ألف دينار لان جميعها كان مرصعا بالجوهر فلما عزم على الخروج تقدم له راهب من
224

الرهبان فقال أيها الملك ما أرى لك إلى البراز سبيلا ولا أحبه لك قال ولم ذلك قال لأني رأيت لك رؤيا فارجع ودع غيرك يبرز فقال ماهان لست أفعل والقتل أحب إلي من العار قال فبخروه وودعوه وخرج ماهان إلى القتال وهو كأنه جبل ذهب يبرق وأقبل حتى وقف بين الصفين ودعا إلى البراز وخوف باسمه فكان أول من عرفه خالد بن
الوليد فقال هذا ماهان هذا صاحب القوم قد خرج ووالله ما عندهم شيء من الخير قال وماهان يرعب باسمه فخرج اليه غلام من الأوس وقال والله انا مشتاق إلى الجنة وحمل ماهان وبيده عمود من ذهب كان تحت فخذه فضرب به الغلام فقتله وعجل الله بروحه إلى الجنة قال أبو هريرة رضي الله عنه فنظرت إلى الغلام عندما سقط وهو يشير بإصبعه نحو السماء ولم يهله ما لحقه فعلمت أن ذلك لفرحه بما عاين من الحور العين قال فجال ماهان على مصرعه وقوي قلبه ودعا إلى البراز فسارع المسلمون اليه فكل يقول اللهم اجعل قتله على يدي وكان أول من برز مالك النخعي الأشتر رضي الله عنه وساواه في الميدان فابتدر مالك ماهان بالكلام وقال له أيها العلج الأغلف لا تغتر بمن قتلته وانما أشتاق صاحبنا إلى لقاء ربه وما منا الا من هو مشتاق إلى الجنة فان أردت مجاورتنا في جنات النعيم فانطق بكلمة الشهادة أو أداء الجزية والا فأنت هالك لا محالة فقال له ماهان أنت صاحبي خالد بن الوليد قال لا أنا مالك النخعي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ماهان لا بد لي من الحرب ثم حمل على مالك وكان من أهل الشجاعة فاجتهدا في القتال فأخرج ماهان عموده وضرب به مالكا على البيضة التي على رأسه فغاصت في جبهة مالك فشترت عينيه فمن ذلك اليوم سمي بالأشتر قال فلما رأى مالك ما نزل به من ضربة ماهان عزم على الرجوع ثم فكر فيما عزم عليه فدبر نفسه وعلم أن الله ناصره قال والدم فائر من جبهته وعدو الله يظن أنه قتل مالكا وهو ينظره متى يقع عن ظهر فرسه وإذا بمالك قد حمل وأخذته أصوات المسلمين يا مالك استعن بالله يعينك على قرينك قال مالك فاستعنت بالله عليه وصليت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وضربته ضربة عظيمة فقطع سيفي فيه قطعا غير موهن فعلمت ان الاجل حصين فلما أحسن ماهان بالضربة ولى ودخل في عسكره
قال الواقدي ولما ولى ماهان بين يدي مالك الأشتر منهزما صاح خالد بالمسلمين يا أهل النصر والباس احملوا على القوم ما داموا في دهشتهم ثم حمل خالد ومن معه من جيشه وحمل كل الامراء بمن معهم وتبعهم المسلمون بالتهليل والتكبير فصبرت لهم الروم بعض الصبر حتى إذا غابت الشمس وأظلم الأفق انكشف الروم منهزمين بين أيديهم وتبعهم المسلمون يأسرون ويقتلون كيف شاءوا فقتلوا منهم زهاء من مائة ألف وأسروا مثلها وغرق في الناقوصة منهم مثلها وأمم لا تحصى وتفرق منهم في الجبال والأودية وخيول المسلمين من ورائهم يقتلون ويأسرون ويأتون من الجبال بالأسارى ولم يزل المسلمون يقتلون ويأسرون إلى أن راق الليل فقال أبو عبيدة
225

أتركهم إلى الصباح فتراجعت المسلمون وقد امتلأت أيديهم من الغنائم والسرادقات وآنية الذهب والفضة والزلازل والنمارق والطنافس قال الواقدي ووكل أبو عبيدة رجالا من المسلمين بجمع الغنائم وبات المسلمون فرحين بنصر الله حتى أصبحوا فإذا ليس للروم خبر ووقع أكثرهم في الناقوصة في الليل
قال عامر بن ياسر حدثني نوفل بن عدي عن جابر بن نصر عن حامد بن مجيد قال أراد أبو عبيدة أن يحصى عدد المشركين فلم بقدر أن يحصي ذلك فأمر بقطع القصب من الوادي وجعل على كل قتيل قصبة ثم عدوا القصب فإذا القتلى مائة ألف وخمسة آلاف والأسارى أربعون ألفا غير من غرق في الناقوصة وقتل من المسلمين أربعة آلاف ووجد أبو عبيدة رؤوسا في اليرموك فلم يعلم أهم من العرب أم من الروم قال ثم إنه صلى على قتلى المسلمين وسار في طلبهم إلى الجبال والأودية وإذا هم براع قد استقبلهم فسألوه هل مر بك أحد من الروم قال نعم مر بي بطريق ومعه زهاء من أربعين ألفا
قال الواقدي وكان ذلك ماهان لعنه الله فاتبعهم خالد بن الوليد وجعل يقفو أثرهم ومعه عسكر الزحف فأدركهم على دمشق ولما أشرف عليهم كبر وكبر المسلمون وحملوا ووضعوا فيهم السيف فقتل مقتلة عظيمة وكان ماهان قد ترجل عن جواده وقيل إنه ترجل ينكر نفسه ويسلم من القتل فأتاه رجل من المسلمين فحامى عن نفسه فقتله الرجل وكان قاتله النعمان ابن جهلة الازدري وعاصم بن خوال اليربوعي وقد اختلفوا في أيهما قتل ماهان قال الواقدي وخرج أهل دمشق إلى لقاء خالد وقالوا له نحن على عهدنا الذي كان بيننا وبينكم قال خالد أنتم على عهدكم ومضى في طلب الروم يقتلهم حيث وجوهم حتى انتهى إلى ثنية العقاب وأقام تحتها يوما ثم مضى إلى حمص ونزل بها وبلغ ذلك أبا عبيدة فسار حتى لحق به فيمن معه قال والامراء في طلب الروم من كل جهة من الشام ثم اجتمعوا وعادوا إلى دمشق وجمع أبو عبيدة الغنائم واخرج منها الخمس وكتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتاب البشارة والفتح بسم الله الرحمن الرحيم وصلوات الله على نبيه المصطفى ورسوله المجتبي صلى الله عليه وسلم من أبي عبيدة عامر بن الجراح أما بعد فأنا أحمد الله الذي لا إله إلا هو وأشكره على ما أولانا من النعم وخصنا به من كرمه ببركات بني الرحمة وشفيع الأمة صلى الله عليه وسلم وأعلم يا أمير المؤمنين أني نزلت اليرموك ونزل ماهان مقدم جيوش الروم بالقرب منا ولم ير المسلمون أكثر جمعا منه فأقصى الله تلك الجموع ونصرنا عليهم بمنه وكرمه وفضله فقتلنا منهم زهاء من مائة ألف وخمسة آلاف وأسرنا منهم أربعين ألفا واستشهد من المسلمين أربعة آلاف ختم الله لهم بالشهادة ووجدت في المعركة رؤوسا مقطوعة لم أعرفها فصليت عليها
226

ودفنتها وقتل ماهان على دمشق قتله عاصم بن خوال وقد كان قبل وقعة الانفصال نصب عليهم رجل منهم يقال له أبو الجعيد من أهل حمص حيلة فألقاهم في موضع يقال له الناقوصة فغرق منهم ما لا يحصى عددهم الا الله تعالى وأما من قتل من المشركين في الأودية والجبال من المنهزمين وغيرهم وأخذت عدتهم فتسعون ألفا وقد ملكنا أموالهم وخيولهم وحصونهم وبلادهم وكتبنا إليك هذا الكتاب بعد الفتح ونزلنا في دمشق والسلام عليه ورحمة الله وبركاته وعلى جميع المسلمين وطوى الكتاب وختمه ودعا بحذيفة بن اليمان ودفع الكتاب اليه وضم اليه عشرة من المهاجرين والأنصار وقال لهم سيروا بكتاب الفتح والبشرى إلى أمير المؤمنين وبشروه بذلك وأجركم على الله فأخذ حذيفة الكتاب وسار هو والعشرة من وقتهم وساعتهم يجدون السير ليلا ونهارا حتى قربوا من المدينة
قال الواقدي قال عبد الله بن عوف المالكي عن أبيه قال لما هزم الله الروم في اليرموك وكان من أمرهم ما كان رأى عمر بن الخطاب ليلة هزيمة الروم رسول الله صلى لله عليه وسلم جالسا في الروضة ومعه أبو بكر الصديق رضي الله عنه وكان عمر يسلم عليهما ويقول يا رسول الله ان قلبي مشغول على المسلمين وما يصنع الله بهم وقد بلغني ان الروم في ألف ألف وستين ألف فقال يا عمر أبشر فقد فتح الله على المسلمين وقد انهزم عدوهم وقتل كذا وكذا ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الدار
الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا الآية قال فلما كان من الغد صلى عمر بالناس صلاة الفجر وأعلم الناس بما رأى في منامه قال فاستبشر المسلمون وفرحوا وعلموا ان الشيطان لا يتمثل بالنبي صلى الله عليه وسلم وأرخوا تلك الليلة فكانت كما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم فسجد عمر لله شكرا ووصله الكتاب فقرأه عمر على الناس فارتفعت أصوات المسلمين بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير ثم قال يا حذيفة فهل قسم أبو عبيدة الغنائم فقال يا أمير المؤمنين هو منتظر كتابك وأمرك فدعا عمر بدواة وقرطاس وكتب إلى أبي عبيدة كتابا يقول فيه بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر بن الخطاب إلى عامله بالشام سلام عليك أما بعد فاني أحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وقد فرحت بما فتح الله على المسلمين من نصرتهم وانهزام عدوهم فإذا وصل إليك كتابي هذا فاقسم الغنيمة بين المسلمين وفضل أهل السبق وأعط كل ذي حق حقه واحفظ المسلمين واكلأهم واشكرهم على صبرهم وفعالهم وأقم بموضعك حتى يأتيك أمري والسلام عليك وعلى جميع المسلمين ورحمة الله وبركاته وطوى الكتاب وسلمه لحذيفة ابن اليمان فأخذه حذيفة وسار حتى ورد على أبي عبيدة فوجده على دمشق فسلم عليه وعلى المسلمين وناوله الكتاب فلما قرأه على المسلمين قسم الغنائم فأصاب الفارس أربعة وعشرون ألف مثقال من الذهب الأحمر والراجل ثمانية آلاف وكذلك من الفضة وأعطى الفرس الهجين سهما والفرس العتيق سهمين وألحق
227

القادمين على الخيل بالعراب فلما فعل أبو عبيدة ذلك قال أصحاب الحمر الحقنا بالعراب فقال أبو عبيدة اني قسمت عليكم بما قسم النبي صلى الله عليه وسلم الغنيمة بين أصحابه فلم يقبلوا قوله فكتب إلى عمر بذلك يعلمه باختلاف الناس في الخيل والهجين والعراب فكتب اليه عمر يقول اما بعد فقد عملت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تتعد حكمه فاعظ الفرس العربي سهمين والهجين سهما واعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرب العربين وهجن الهجين يوم خيبر فجعل للهجين سهما وللعربي سهمين فلما ورد الكتاب على أبي عبيدة وقرأه على المسلمين قال ما أراد أبو عبيدة ان يحقر رجلا منكم ولكن تبعت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال الواقدي فلما قسم أبو عبيدة الغنائم على المسلمين قال له خالد بن الوليد ان رجلا من المسلمين تشفع بي إليك أن تلحق فرسه الهجين بفرسه العتيق العربي وتعطيه سهمين فأبى أبو عبيدة وقال والله ان سف التراب أحب إلي من ذلك وروى عثمان أن ابن الزبير قال شهدت جدي الزبير بن العوام يوم اليرموك ومعه فرسان يتعقب عليهما للقتال يركب هذا يوما وهذا يوما فلما كان وقت قسم الغنائم أعطاه أبو عبيدة ثلاثة أسهم له سهم ولفرسه سهمان فقال الزبير أما تصنع بي كما صنع بي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر كان معي فرسان فأسهمني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر خمسة أسهم لفرسي أربعة وأعطاني سهما وقال المقداد ابن عمرو كنت أنا وأنت يوم بدر ومعنا فرسان لا غيرهما فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم سهمين سهمين للفرسين قال أبو عبيدة انك لصادق يا مقداد أنا أتبع فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطي الزبير وأقبل جابر بن عبد الله الأنصاري فشهد عند أبي عبيدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى الزبير يوم خيبر خمسة أسهم فلما فعل ذلك أتى رجال من رجال العرب لكل واحد منهم أربعة أفراس وخمسة أفراس فقالوا الحقنا بالزبير قال فاستأذن عمر في ذلك فقال صدق الزبير ان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاه يوم خيبر خمسة أسهم فلا تعط غيره مثله
وروى عروة عن أبي الزبير قال لقي الزبير غلاما كان قد وقع بيده يوم غنيمة عمان فهرب منه فلما كان يوم اليرموك قبل قسم الغنائم عرفه فقبض عليه وأخذ بيده فقال له الموكل على حفظ الغنيمة لست أدعك فبينما هما في المحاورة إذ أقبل أبو عبيد فقال ما بالكما فقال الزبير أيها الأمير هذا غلامي وصل إلي من غنيمة عمان وهرب مني وقد رأيته الآن فلا بد لي منه فقال أبو عبيدة صدق ابن عمه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو له وأنا سلمته له من غنيمة عمان فسلمه اليه فاخذه الزبير قال زيد المرادي هربت منا جارية إلى العدو وظفرنا بها يوم اليرموك في قسم الغنائم فكلمنا أبا عبيدة فيها فكتب إلى عمر فرد اليه الجواب ان كانت جارية حربية ففيها السهام والا فلا سبيل إليها وان كانت لم تجر فيها السهام فردوها فكان القوم لا يرضون بهذا من أبي عبيدة فقال أبو عبيدة والله الذي لا إله إلا هو هذا كتاب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب
228

يحكم بما أمرتكم فقبل قوله ودفع الجارية إلى القسم
قال الواقدي حدثني لؤي بن عبد ربه عن سالم مولى حذيفة بن اليمان عن القاسط بن سلمة بن عدي بن عاصم عمن حدثه عن فتوح الشام قال لما هزم الله الروم باليرموك على يد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغ الخبر إلى هرقل بهزيمة جيشه وقد قتل ماهان وجرجير وغيرهما قال علمت أن الامر يصل إلى هنا ثم أقام ينتظر ما يجري من المسلمين
ذكر فتح مدينة بيت المقدس قال الواقدي واما ما كان من المسلمين فإنهم أقاموا على دمشق شهرا فجمع أبو عبيدة امراء المسلمين وقال لهم أشيروا علي بما أصنع وأين أتوجه فاتفق رأي المسلمين أما إلى قيسارية واما إلى بيت المقدس فقال فما الذي ترون منهما فقالوا أنت الرجل الأمين وما تسير إلى موضع الا ونحن معك فقال معاذ بن جبل اكتب إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فحيث أمرك فسر واستعن بالله فقال أصبت الرأي يا معاذ فكتب إلى أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب يعلمه انه قد عزم على قيسارية أو إلى بيت المقدس وانه منتظر ما يأمره به والسلام وأرسل الكتاب مع عرفجة بن ناصح النخعي وأمره بالمسير فسار حتى وصل المدينة فأرسل الكتاب لعمر رضي الله عنه فقرأه على المسلمين واستشارهم في الامر فقال علي رضي الله عنه يا أمير المؤمنين مر صاحبك أن يصير إلى بيت المقدس فيحدقوا بها ويقاتلوا أهلها فهو خير الرأي وأكبره وإذا فتحت بيت المقدس فاصرف جيشه إلى قيسارية فإنها تفتح بعد إن شاء الله تعالى كذا أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال صدقت يا أبا الحسن فكتب اليه بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر بن الخطاب إلى عامله بالشام أبي عبيدة أما بعد فاني أحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي على نبيه وقد ورد علي كتابك وفيه تستشيرني في أي ناحية تتوجه إليها وقد أشار ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسير إلى بيت المقدس فان الله سبحانه وتعالى يفتحها على يديك والسلام عليك ثم طوى الكتاب ودفعه إلى عرفجة وأمره أن يعجل بالمسير فسار حتى قدم على على أبي عبيدة فوجده على الجابية فدفع الكتاب اليه فقرأ على المسلمين
ففرحوا بمسيرهم إلى بيت المقدس فعندها دعا أبو عبيدة بخالد بن الوليد وعقد له راية وضم اليه خمسة آلاف فارس من خيل الزحف وسرحه إلى بيت المقدس ثم دعا بيزيد بن أبي سفيان وعقد له راية على خمسة آلاف وأمره أن يلحق بخالد إلى بيت المقدس وقال له يا ابن أبي سفيان ما علمتك الا ناصحا فإذا أشرفت على بلد ايلياء فارفعوا أصواتكم بالتهليل والتكبير واسألوا الله بجاه نبيه ومن سكنها من الأنبياء والصالحين أن يسهل فتحها على أيدي المسلمين فأخذ يزيد الراية وسار يريد بيت المقدس فسار ثم دعا شرحبيل بن حسنة كاتب وحي النبي صلى الله عليه وسلم وعقد له راية وضم اليه خمسة آلاف
229

فارس من أهل اليمن وقال له سر بمن معك حتى تقدم بيت المقدس وانزل بعسكرك عليها ولا تختلط بعسكر من تقدم قبلك ثم دعا بالمرقال بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص وضم اليه خمسة آلاف فارس مع جمع من المسلمين وسرحه على أثر شرحبيل ابن حسنة وقال له انزل على حصنها وأنت منعزل عن أصحابك ثم عقد راية خامسة فسلمها للمسيب ابن نجية الفزاري وأمره أن يلحق بأصحابه وضم اليه خمسة آلاف فارس من النخع وغيرهم من القبائل وعقد راية سادسة وسلمها إلى قيس بن هبيرة المرادي وضم اليه خمسة آلاف فارس وسيره وراءه ثم عقد راية سابعة وسلمها إلى عروة بن مهلهل بن يزيد الخيل وضم اليه خمسة آلاف فارس وسيره وراءهم فكان جملة من سرحه أبو عبيدة إلى بيت المقدس خمسة وثلاثين ألفا وسارت السبعة امراء في سبعة أيام في كل يوم أمير وذلك كله يرهب به أعداء الله فبقي كل يوم ينزل عليهم أمير بجيشه فكان أول من طلع عليهم بالراية خالد بن الوليد فلما أشرف عليهم كبر وكبر أصحابه فلما سمع أهل بيت المقدس ضجيج أصواتهم انزعجوا وتزعزعت قلوبهم وصعدوا على أسوار بلدهم فلما نظروا إلى قلة المسلمين استحقروهم وظنوا ان ذلك جميع المسلمين فنزل خالد ومن معه مما يلي باب أريحاء واقبل في اليوم الثاني يزيد بن أبي سفيان وفي اليوم الثالث شرحبيل بن حسنة وأقبل في اليوم الرابع المرقال وأقبل في اليوم الخامس المسيب بن نجيبة وأقبل في اليوم السادس قيس بن هبيرة فنزل وأقبل في اليوم السابع عروة بن مهلهل بن زيد الخيل فنزل مما يلي طريق الرملة قال عبد الله بن عامر بن ربيعة الغطفاني ما نزل أحد من المسلمين على بيت المقدس الا وكبر وصلى ما قدره الله عليه ودعا بالنصر والظفر على الأعداء ويقال ان خالدا كان هو وأبو عبيدة قال فلما مضى العسكر قام أبو عبيدة وخالد وبقية المسلمين والذراري والسواد والغنم وما أفاء الله على المسلمين من المواشي والأموال فلم يبرحوا من مكانهم قال واقام العسكر على بيت المقدس ثلاثة أيام لا يبارزهم حرب ولا ينظرون رسولا يأتي إليهم ولا يكلمهم أحد من أهلها الا انهم قد حصنوا أسوارهم بالمجانيق والطوارق والسيوف والدرق والجواشن والزرد الفاخرة قال المسيب بن نجية الفزاري ما نزلنا ببلد من بلاد الشام فرأينا أكثر زينة ولا أحسن عدة من بيت المقدس وما نزلنا بقوم الا وتضعضعوا لنا وداخلهم الهلع وأخذتهم الهيبة الا أهل بيت المقدس نزلنا بإزائهم ثلاثة أيام فلم يكلمنا منهم أحد ولا ينطقون غير أن حارسهم شديد وعدتهم كاملة فلما كان في اليوم الرابع قال رجل من البادية لشرحبيل بن حسنة أيها الأمير كأن هؤلاء القوم صم فلا يسمعون أو بكم فلا ينطقون أو عمي فلا يبصرون ازحفوا بنا إليهم فلما كان في اليوم الخامس وقد صلى المسلمون صلاة الفجر كان أول من ركب من المسلمين من الامراء لسؤال أهل بيت المقدس يزيد بن أبي سفيان فشهر سلاحه
230

وجعل يدنو من سورهم وقد أخذ معه ترجمانا يبلغه عنهم ما يقولون فوقف بإزاء سورهم بحيث يسمعون خطابه وهم صامتون
فقال لترجمانه قل لهم أمير العرب يقول لكم ماذا تقولون في إجابة الدعوة إلى الاسلام والحق وكلمة الاخلاص وهي كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله حتى يغفر لكم ربنا ما سلف من ذنوبكم وتحقنون بها دماءكم وان أبيتم ولم تجيبونا فصالحوا عن بلدكم كما صالح غيركم ممن هو أعظم منكم عدة وأشد منكم وان أبيتم هاتين الحالتين حل بكم البوار وكان مصيركم إلى النار قال فتقدم الترجمان إليهم وقال لهم من المخاطب عنكم فكلمه قس من القساوسة عليه مدارع الشعر وقال أنا المخاطب عنهم ماذا تريد فقال الترجمان ان هذا الأمير يقول كذا وكذا ويدعوكم إلى احدى هذه الخصال الثلاث اما الدخول في الاسلام أو أداء الجزية واما السيف قال فبلغ القس من وراءه ما قال الترجمان قال فضجوا بكلمة كفرهم وقالوا لا نرجع عن دين العز والقبول وان قتلنا أهون علينا من ذلك فبلغ الترجمان ذلك ليزيد قال فمشى إلى الامراء وأخبرهم بجواب القوم قال لهم ما انتظاركم بهم فقالوا ان الأمير أبا عبيدة ما أمرنا بالقتال ولا بحرب القوم بل بالنزول عليهم ولكن نكتب إلى امين الأمة فان أمرنا بالزحف زحفنا فكتب يزيد بن أبي سفيان إلى أبي عبيدة يعلمه بما كان من جواب القوم فما الذي تأمر فكتب إليهم أبو عبيدة يأمر بالزحف وانه واصل في اثر الكتاب فلما وقف المسلمون على كتاب أبي عبيدة فرحوا واستبشروا وباتوا ينتظرون الصباح
قال الواقدي ولقد بلغني ان المسلمين باتوا تلك الليلة كأنهم ينتظرون قادما يقدم عليهم من شدة فرحهم بقتال أهل بيت المقدس وكل أمير يريد أن يفتح على يديه فيتمتع بالصلاة فيه والنظر إلى آثار الأنبياء قال فلما أضاء الفجر أذن وصلت الناس صلاة الفجر قال فقرأ يزيد لأصحابه يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا الآية فيقال ان الامراء أجرى الله على ألسنتهم في تلك الصلاة أن قرأوا هذه الآية كأنهم على ميعاد واحد فلما فرغوا من الصلاة نادوا النفير النفير يا خيل الله اركبي قال فأول من برز للقتال حمير ورجال اليمن وبرز المسلمون للحرب كأنهم أسود ضارية ونظر إليهم أهل بيت المقدس وقد انشرحوا لقتالهم فنشطهم ورشقوا المسلمين بالنشاب فكانت كالجراد فجعل المسلمون يتلقونها بدرقهم فلم تزل الحرب بينهم من الغد إلى الغروب يقاتلون قتالا شديدا ولم يظهروا فزعا ولا رعبا ولم يطمعوهم في بلدهم فلما غربت الشمس رجع الناس وصلى المسلمون ما فرض الله عليهم وأخذوا في اصلاح شأنهم وعشائهم فلما فرغوا من ذلك أوقدوا النيران واستكثروا منها لان الحطب عندهم كثير فبقي قوم يصلون وقوم يقرأون وقوم يتضرعون وقوم نائمون مما لحقهم من التعب والقتل فلما كان الغد بادر
231

المسلمون إليهم وذكروا الله كثيرا وأثنو عليه وصلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقدمت رماة النبل وأقبلوا يرمون ويذكرون الله وهم يضجون إلى الله بالدعاء قال الواقدي ولم يزل المسلمون على القتال عدة أيام وأهل بيت المقدس يظهرون الفرح وانه ليس على قلوبهم من هم ولا جزع فلما كان اليوم الحادي عشر أشرفت عليهم راية أبي عبيدة يحملها غلامه سالم ومن ورائها فرسان المسلمين وابطال الموحدين وقد احدقوا بأبي عبيدة وخالد عن يمينه وعبد الرحمن بن أبي بكر عن يساره وجاءت النسوان
والأموال وضج الناس ضجة واحدة بالتهليل والتكبير فاجابتهم القبائل ووقع الرعب في قلوب أهل بيت المقدس فانقلب كبارهم وعظماؤهم وبطارقتهم إلى البيعة العظمى عندهم وهي الغمامة فلما وقفوا بين يدي جئليقهم وكانوا يعظمونه ويبجلونه فلما سمعوا تلك الضجة دخلوا عليه ووقفوا بين يديه وخضعوا له وقالوا يا ابانا قد قدم أمير القوم الينا ومعه بقية المسلمين وهذه الضجة بسببه فلما سمع بتركهم وجائليقهم تغير لونه وتغير وجهه وقال هي هي قالوا ما ذلك أيها البترك والأب الكبير قال وحق الإنجيل ان كان قدم أميرهم فقد دنا هلاككم والسلام قالوا وكيف ذلك قال لأنا نجد في العلم الذي ورثناه عن المتقدمين ان الذي يفتح الأرض في الطول والعرض هو الرجل الأسمر الأحور المسمى بعمر صاحب نبيهم محمد فإن كان قد قدم فلا سبيل لقتاله ولا طاقة لكم بنزاله ولا بد لي أن اشرف عليه وانظر اليه والى صورته فإن كان إياه عمدت إلى مصالحته وأجبته إلى ما يريد وان كان غيره فلا نسلم اليه قط لان مدينتنا لا تفتح الا على يد من ذكرته لكم والسلام ثم إنه وثب قائما والقسوس والرهبان والشمامسة من حوله وقد رفعوا الصلبان على رأسه وفتحوا الإنجيل بين يديه ودارت البطارقة من حوله وصعد على الصور من الجهة التي فيها أبو عبيدة فنظر إلى المسلمين وهم يسلمون عليه ويعظمونه ثم يرجعون إلى القتال كأنهم الأسد الضارية فناداهم رجل ممن كان يمشي بين يدي البترك فقال يا معاشر المسلمين كفوا عن القتال حتى نستخبركم ونسألكم قال فأمسك الناس عن القتال فناداهم رجل من الروم بلسان عربي فصيح اعلموا أن صفة الرجل الذي يفتح بلدنا هذا وجميع الأرض عندنا فإن كان هو أميركم فلا نقاتلكم بل نسلم إليكم وان لم يكن إياه فلا نسلم إليكم ابدا
قال الواقدي فلما سمع المسلمون ذلك أقبل نفر منهم إلى أبي عبيدة وحدثه بما سمعوه قال فخرج أبو عبيدة إليهم إلى أن حاذاهم فنظر البترك اليه وقال ليس هو هذا الرجل فأبشروا وقاتلوا عن بلدكم ودينكم وحريمكم فلما سمعوا قوله رفعوا أصواتهم وأعلنوا بكلمة كفرهم وأقبلوا يقاتلون القتال الشديد وعاد البترك إلى القمامة ولم يخاطب أبا عبيدة بكلمة واحدة بل أمر قومه بالحرب والقتال وعاد أبو عبيدة إلى أصحابه فقال خالد ما كان منك أيها الأمير فقال لا علم لي غير اني خرجت
232

إليهم كما رايت وأشرفت علي شيطان من شياطينهم الذي يضلهم فما هو غير أن نظر لي وتاملني حتى ضجوا ضجة واحدة وولى عني ولم يكلمني فقال خالد يوشك ان يكون لهم في ذلك تأويل ورأي فنقف عليه ونعلم نبأه ثم قال شدوا عليهم الحرب والقتال فشد عليهم المسلمون قال الواقدي وكان نزول المسلمين على بيت المقدس في أيام الشتاء والبرد وظنت الروم أن المسلمين لا يقدرون عليهم في ذلك الوقت قال وزحف المسلمون إليهم وبرزت النبالة من أهل اليمن وصمم أصحاب القسي ورشقوهم بالنبل وكانوا غير محترزين من النبل لقلة أكتراثهم به حتى رأوا النبل ينكسهم على رؤوسهم من وراء ظهورهم وهم لا يشعرون قال مهلهل لله در عرب اليمن فلقد رأيتهم يرمون بالنبل الروم فيتهافتون من سورهم كالغنم فلما رأوا ما صنع بهم النبل احترزوا منه وستروا السور بالحجف والجلود وبما يرد النبل قال ونظرت الروم إلى ضرار بن الأزور وقد اقبل نحو الباب الأعظم وعليه بطريق كبير وعلى رأسه صليب من الجوهر وحوله غلمان وعليهم الطوارق وبأيديهم القسي الموترة والعمد وهو يحرص القوم على القتال قال عوف بن مهلهل إلى ضرار وقد قصد نحوه وهو يختفي ويستتر إلى أن قرب من البرج الذي عليه البطريق ثم أطلق اليه نبلة قال عوف فنظرت إلى النبلة مع علو هذا الجدار وقد خرجت من قوس ضرار والبرج عال رفيع فقلت وما تكون هذه النبلة مع علو هذا الجدار وما الذي تصنع في هذا العلج وعليه هذه اللامة اللامعة فاقسم بالله لقد وقعت هذه النبلة في فيه فتردى إلى أسفل برجة فسمعت للقوم ضجة عظيمة ورجولة هائلة فعلمت أنه قتل قال ولم يزل أبو عبيدة ينازل بيت المقدس أربعة أشهر كاملة وما من يوم الا ويقاتلهم قتالا شديدا والمسلمون صابرون على البرد والثلج والمطر فلما نظر أهل بيت المقدس إلى شدة الحصار وما نزل بهم من المسلمين قصدوا القمامة ووقفوا بين يدي بتركهم وسجدوا بين يديه وعظموه وقالوا له يا ابانا قد دار علينا حصار هؤلاء العرب ورجونا أن يأتينا مدد من قبل الملك ولا شك أنه اشتغل عنا بنفسه من اجل هزيمة جيشه وانهم أشهى منا للقتال وانهم من يوم نزلوا علينا لم نخاطبهم بكلمة واحدة ولم نجبهم احتقارا منا لهم والآن قد عظم علينا الامر وانا نريد منك ان تشرف على هؤلاء العرب وتنظر ما الذي يريدون منا فإن كان أمرهم قريبا أجبنا إلى ما يريدون ويطلبون وان كان صعبا فتحنا الأبواب وخرجنا إليهم فاما ان نقتل عن آخرنا واما ان نهزمهم عنا فأجابهم البترك إلى ذلك واشتمل بلباسه وصعد معهم على السور وحمل الصليب بين يديه واجتمع القسوس والرهبان حوله وبأيديهم الأناجيل مفتحة والمباخر حتى اشرف على المكان الذي فيه أبو عبيدة فنادى منهم رجل بلسان فصيح العربية يا معاشر العرب ان عمدة دين النصرانية وصاحب شريعتها قد أقبل يخاطبكم فليدن منا أميركم فأخبروا أبا عبيدة بمقالهم
233

فقال والله اني لأجيبه حيث دعاني ثم قام أبو عبيدة وجماعة من الامراء والصحابة ومعه ترجمان فلما وقف بإزائه قال لهم الترجمان ما الذي تريدون منا في هذه البلدة المقدسة ومن قصدها يوشك أن الله يغضب عليه ويهلكه فأخبره الترجمان بذلك فقال قل لهم نعم انها شريفة ومنها أسرى بنبينا إلى السماء ودنا من ربه كقاب قوسين أو أدنى وانها معدن الأنبياء وقبورهم فيها ونحن أحق منكم بها ولا نزال عليها أو يملكنا الله إياها كما ملكنا غيرها قال البترك فما الذي تريدون منا قال أبو عبيدة خصلة من ثلاث أولها أن تقولوا لا إله إلا الله وحده لا شريك له وان محمدا عبده ورسوله فان أجبتم إلى هذه الكلمة كان لكم ما لنا وعليكم ما علينا قال البترك انها كلمة عظيمة ونحن قائلوها الا ان نبيكم محمدا ما نقول إنه رسول قال أبو عبيدة كذبت يا عدو الله انك لم توحد قط وقد أخبرنا الله في كتابه انكم تقولون المسيح ابن الله لا إله إلا الله سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا قال البترك هذه خصلة لا نجيبكم إليها فما الخصلة الثانية فقال أبو عبيدة تصالحوننا عن بلدكم أو تؤدون الجزية الينا عن يد وأنتم صاغرون كما أداها غيركم من أهل الشام
قال البترك هذه الخصلة أعظم علينا من الأولى وما كنا بالذي يدخل تحت الذل والصغار أبدا فقال أبو عبيدة ما نزال نقاتلكم حتى يظفرنا الله بكم ونستعبد أولادكم ونساءكم ونقتل منكم من خالف كلمة التوحيد وعكف على كلمة الكفر فقال البترك فأنا لا نسلم مدينتنا أو نهلك عن آخرنا وكيف نسلمها وقد استعددنا بآلة الحرب والحصار وفيها العدة الحسنة والرجال الشداد ولسنا كمن لاقيتم من أهل المدن الذين أذعنوا لكم بالجزية فإنهم قوم غضب عليهم المسيح فأدخلهم تحت طاعتكم ونحن في بلد من إذا سأل المسيح
ودعاه أجاب دعوته فقال أبو عبيدة كذبت والله يا عدو الله ما المسيح بن مريح الا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام فقال أنا أقسم بالمسيح أنكم لو أقمتم علينا عشرين سنة ما فتحتموها ابدا وانما تفتح لرجل صفته ونعته في كتبنا ولسنا نجد صفته ونعته معك أبدا فقال أبو عبيدة وما صفة من يفتح مدينتكم قال البترك لا نخبركم بصفته لكن نجد في كتبنا وما قرأناه من علمنا أنه يفتح هذه البلدة صاحب محمد اسمه عمر يعرف بالفاروق وهو رجل شديد لا تأخذه في الله لومة لائم ولسنا نرى صفته فيكم قال فلما سمع أبو عبيدة ذلك من كلام البترك تبسم ضاحكا وقال فتحنا البلد ورب الكعبة ثم أقبل عليه وقال له إذا رأيت الرجل تعرفه قال نعم وكيف لا أعرفه وصفته عندي وعدد سنينه وأيامه قال أبو عبيدة هو والله خليفتنا وصاحب نبينا فقال البترك ان كان الامر كما ذكرت فقد علمت صدق قولنا فاحقن الدماء وابعث إلى صاحبك يأت فإذا رأيناه وتبيناه وعرفنا صفته ونعته فتحنا له البلد من غير هم ولا نكد وأعطينا الجزية فقال أبو عبيدة فاني أبعث اليه بأن يقوم علينا أفتحبونا
234

القتال أم نكف عنكم فقال البترك معاشر العرب الا تدعون بغيكم أنخبركم بأننا قد صدقناكم في الكلام طلبا لحقن الدماء وأنتم تأبون الا القتال قال أبو عبيدة نعم لان ذلك اشهى الينا من الحياة نرجو به العفو والغفران من ربنا قال فأمر أبو عبيدة بالكف عنهم وانصرف البترك
قال الواقدي فجمع أبو عبيدة الامراء والمسلمين اليه وأخبرهم بما قال البترك فرفع المسلمون أصواتهم بالتهليل والتكبير وقالوا افعل أيها الأمير واكتب إلى أمير المؤمنين بذلك فلعله يسير الينا ويفتح هذا البلد علينا فقال شرحبيل بن حسنة اصبر حتى نقول لهم ان الخليفة معنا ويتقدم خالد إليهم فإذا نظروا اليه فتحوا الباب وكفينا التعب وكان خالد أشبه الناس بعمر بن الخطاب رضي الله عنه فلما أصبح الصباح قال له الترجمان قد جاء الخليفة وكان قد قال أبو عبيدة لخالد فركبوا جميعا وقالوا قد جاء الرجل الذي تطلبونه فعرفوا البترك فأقبل إلى أن وقف على السور وقال له قل له يتقدم بحيث نراه عيانا فتقدم خالد فتبينه وقال وحق المسيح كأنه هو ولكن باقي العلامات ما هي فيه فبحق دينك من أنت فقال أنا من بعض أصحابه فقال البترك يا فتيان العرب كم يكون هذا الخداع فيكم وحق المسيح لئن لم نر الرجل الموصوف ما نفتح لكم ولا يرجع أحد منا يكلمكم ولو أقمتم علينا عشرين سنة ثم ولى ولم يتكلم فقال المسلمون عند ذلك اكتبوا إلى أمير المؤمنين وعرفوه بذلك فعسى أن يأتي ويتشرف بهذه البقعة فكتب أبو عبيدة كتابا يقول فيه بسم الله الرحمن الرحيم إلى عبد الله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب من عامله أبي عبيدة عامر بن الجراح أما بعد السلام عليك فأني أحمد الله الذي لا إله إلا هو واصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأعلم يا أمير المؤمنين انا منازلون لأهل مدينة ايلياء نقاتلهم أربعة أشهر كل يوم نقاتلهم ويقاتلوننا ولقد لقي المسلمون مشقة عظيمة من الثلج والبرد والأمطار الا انهم صابرون على ذلك ويرجون الله ربهم فلما كان اليوم الذي كتبت إليك الكتاب فيه اشرف علينا بتركهم الذي يعظمونه وقال إنهم يجدون في كتبهم انه لا يفتح بلدهم الا صاحب نبينا واسمه عمر وانه يعرف صفته ونعته وهو عندهم في كتبهم وقد سألنا حقن الدماء فسر الينا بنفسك وانجدنا لعل الله أن يفتح هذه البلدة علينا على يديك ثم إنه طوى الكتاب وختمه وقال يا معاشر المسلمين من ينطلق بكتابي هذا وأجره على الله فأسرع بالإجابة ميسرة بن مسروق العبسي وقال أنا أكون الرسول وأرجع مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه إن شاء الله تعالى
قال أبو عبيدة فخذ الكتاب بارك الله فيك فأخذه ميسرة واستوى على ناقة له كوماء ولم يزل سائرا إلى أن دخل المدينة فدخلها ليلا وقال والله لا نزلت عند أحد من الناس فأناخ ناقته على باب المسجد وعقلها ودخل المسجد وسلم على قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى قبر أبي بكر الصديق رضي الله عنه ثم أتى مكانا في المسجد فنام وكان له ليال
235

عدة لم ينم فأخذته عيناه فما استيقظ الا على أذان عمر وكان يغلس في الاذان فلما أذن دخل المسجد وهو يقول الصلاة رحمكم الله قال ميسرة فقمت وتوضأت وصليت خلف عمر صلاة الفجر فلما انحرف عن محرابه قمت اليه وسلمت عليه فلما نظر إلي صافحني واستبشر وقال ميسرة ورب الكعبة ثم قال ما وراءك يا ابن مسروق قلت الخير والسلامة يا أمير المؤمنين ثم ناولته الكتاب فقراه على المسلمين فاستبشروا به فقال ما ترون رحمكم الله فيما كتب به أبو عبيدة فكان أول من تكلم عثمان بن عفان رضي الله عنه فقال يا أمير المؤمنين ان الله قد أذل الروم وأخرجهم من الشام ونصر المسلمين عليهم وقد حاصر أصحابنا مدينا ايلياء وضيقوا عليهم وهم في كل يوم يزدادون ذلا وضعفا ورعبا فان أنت أقمت ولم تسر إليهم رأوا انك بأمرهم مستخف ولقتالهم مستحقر فلا يلبثون الا اليسير حتى ينزلوا على الصغار ويعطون الجزية فلما سمع عمر ذلك من مقال عثمان جزاه خيرا وقال هل عند أحد منكم رأي غير هذا فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه نعم عندي غير هذا الرأي وأنا ابديه لك رحمك الله فقال عمر وما هو يا أبا الحسن قال إن القوم قد سألوك وفي سؤالهم ذلك فتح للمسلمين وقد أصاب المسلمين جهد عظيم من البرد والقتال وطول المقام واني أرى انك ان سرت إليهم فتح الله هذه المدينة على يديك وكان في مسيرك الاجر العظيم في كل ظمأ ومخمصة وفي قطع كل واد وصعود جبل حتى تقدم إليهم فإذا أنت قدمت عليهم كان لك وللمسلمين الامن والعافية والصلاح والفتح ولست آمن ان يياسوا منك ومن الصلح ويمسكوا حصنهم ويأتيهم المدد من بلادهم وطاغيتهم فيدخل فلا يتخلفون عنه والصواب أن تسير إليهم إن شاء الله تعالى قال ففرح عمر بن الخطاب بمشورة علي رضي الله عنه وقال لقد أحسن عثمان النظر في المكيدة للعدو وأحسن علي المشورة للمسلمين فجزاهما الله خيرا ولست آخذ الا بمشورة علي فما عرفناه الا محمود المشورة ميمون الغرة ثم إن عمر رضي الله عنه أمر الناس بأخذ الأهبة للمسير معه والاستعداد فأسرع المسلمون إلى ذلك واستعدوا وتأهبوا وأمر عمر أن يكونوا خارج المدينة ففعلوا ذلك وأتى عمر المسجد فصلى فيه أربع ركعات ثم قام إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم عليهم وعلى أبي بكر رضي الله عنه واستخلف على المدينة علي بن أبي طالب وخرج من المدينة وأهلها يشيعونه ويودعونه
قال الواقدي وخرج عمر من المدينة وهو على بعير له أحمر وعليه غرارتان في إحداهما سويق وفي الأخرى تمر وبين يديه قربة مملوءة ماء وخلفه جفنة للزاد وخرج ومعه جماعة من الصحابة قد شهدوا اليرموك وعادوا إلى المدينة منهم الزبير وعبادة بن الصامت وسار عمر نحو بيت المقدس فكان إذ نزل منزلا لا يبرح منه حتى يصلي الصبح فإذا انفتل من الصلاة أقبل على المسلمين وقال الحمد لله الذي أعزنا بالاسلام وأكرمنا بالايمان وخصنا بنبيه عليه الصلاة والسلام وهدانا من الضلالة
236

وجمعنا بعد الشتات على كلمة التقوى وألف بين قلوبنا ونصرنا على عدونا ومكن لنا في بلاده وجعلنا اخوانا متحابين فاحمدوا الله عباد الله على هذه النعمة السابغة والمنن الظاهرة فان الله يزيد المستزيدين الراغبين فيما لديه ويتم نعمته على الشاكرين ثم يأخذ الجفنة فيملؤها سويقا ويصف التمر حولها ويقرب للمسلمين ويقول كلوا هنيئا مريئا فياكل ويأكل المسلمون معه ثم يرحل فلم يزل كذلك في مسيره قال عمرو بن مالك العبسي كنت مع عمر بن الخطاب حين سار إلى الشام فمر على ماء لجذام وعليه طائفة منهم نزول والماء يدعى ذات المنار فنزل بالمسلمين عليه فبينما هو كذلك وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حوله إذ أقبل اليه قوم من جذام فقالوا يا أمير المؤمنين ان عندنا رجلا له أمرأتان وهما أختان لأب وأم قال فغضب عمر وقال علي به فاتى بالرجل اليه فقال له عمر ما هاتان المرأتان قال الرجل زوجتاي قال فهل بينهما قرابة قال نعم هما أختان قال عمر فما دينك ألست مسلما قال بلى قال عمر وما علمت أن هذا حرام عليك والله يقول في كتابه وأن تجمعوا بين الأختين الا ما قد سلف فقال الرجل ما علمت وما هما علي حرام فغضب عمر وقال كذبت والله انه لحرام عليك ولتخلين سبيل إحداهما والا ضربت عنقك قال الرجل افتحكم علي قال أي والله الذي لا إله إلا هو فقال الرجل ان هذادين ما أصبنا فيه خيرا ولقد كنت غنيا عن أن أدخل فيه قال عمر ادن مني فدنا منه فخفق رأسه بالدرة خفقتين وقال له اتتشاءم بالاسلام يا عدو الله وعدو نفسه وهو الدين الذي ارتضاه الله لملائكته ورسله وخيرته من خلقه خل يا ويلك سبيل أحداهما وإلا جلدتك جلدة المفثري فقال الرجل كيف اصنع بهما وأني أحبهما ولكن اقرع بينهما فمن خرجت القرعة عليها كنت لها وهي لي وإن كنت لهما جميعا محبا فأمر عمر فاقترع فوقعت القرعة على إحداهما فأمسكها وأطلق سبيل الثانية ثم أقبل عليه عمر وقال له اسمع يا ذا الرجل وع ما أقول لك أنه من دخل في ديننا ثم رجع عنه قتلناه فإياك أن تفارق الاسلام وإياك يبلغني أن قد أصبت أخت امرأتك التي فارقتها فإنك ان فعلت ذلك رجمتك
قال الواقدي وسار عمر حتى مر على حي من بني مرة فإذا بقوم منهم قد أقاموا في الشمس يعذبون فقال لهم عمر ما بال هؤلاء يعذبون فقيل عليهم خراج فهم يعذبون قال فما يقولون قال يقولون ما نجد نؤدي فقال عمر دعوهم ولا تكلفوهم ما لا يطيقون فاني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
لا تعذبوا الناس في الدنيا يعذبكم الله يوم القيامة فخلى سبيلهم ثم سار حتى إذا كان بواد القرى أخبروه أن شيخا على الماء وله صديق يوده فقال له صديقه هل لك أن تجعل لي في زوجتك نصيبا وأكفيك رعي أبلك والقيام عليها ولي فيها يوم وليلة ولك فيها يوم وليلة قال له الشيخ قد فعلت ذلك ورضي فلما أخبر عمر بذلك أمر بهما فأحضرا فقال ويلكما ما دينكما قالا الاسلام قال عمر فما الذي بلغني عنكما قالا وما هو فأخبرهما
237

عمر بما سمعه من العرب فقال الشيخ قد كان ذلك يا أمير المؤمنين فقال عمر أما علمتما أن ذلك حرام في دين الاسلام قالا لا والله ما علمنا ذلك فقال عمر للشيخ وما دعاك ان صنعت هذا القبيح قال أنا شيخ كبير ولم يكن لي أحد أثق به ولاأتكل عليه فقلت يا هذا أتكفيني الرعي والسقي وتعينني على دوابي وانا أجعل لك نصيبا في امرأتي والآن علمت أنه حرام فلا أفعله فقال لي عمر خذ بيد امرأتك فلا سبيل لي عليها ثم قال للشاب أياك ان تقرب منها فإنه ان بلغني ذلك ضربت عنقك ثم ارتحل عمر يريد بيت المقدس حتى دنا من أول الشام وأشرف عليه قال أسلم ابن برقان مولى عمر فلما أشرفنا على الشام وأشرف عليه المسلمون نظرنا إلى طائفة من خيل المسلمين فقال عمر للزبير اسرع وانتظر ما هذه الخيل فأسرع الزبير إليها فلما قرب منها وإذا هي خيل من اليمن قد بعث بها أبو عبيدة يأخذون له خبر عمر رضي الله عنه قال الزبير فسلموا علي وقالوا يا فتى من أين أقبلت فقلت من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا كيف خلفت أهلها قلت بخير قالوا فما فعل عمر هل قدم علينا أم قال الزبير من أنتم قالوا نحن من عرب اليمن قد وجهنا أبو عبيدة لنأخذ له خبر عمر قال فرجع الزبير إلى عمر وحدثه قال أصبت يا ابا عبد الله فاقبل علينا جمع آخر فسلموا علينا وسألونا عن عمر فقال لهم ها أنا عمر فما تريدون قالوا يا أمير المؤمنين قد ذرفت العيون وطالت الأعناق بطول قدومك فلعل الله أن يفتح بيت المقدس على يدك قال الواقدي ثم رجعوا على أعقابهم حتى أشرفوا على عسكر المسلمين وأبي عبيدة ونادوا بأصواتهم أبشروا يا مسلمون بقدوم عمر قال فأرتج الناس وهموا ان يركبوا لاستقباله بأجمعهم فقال لهم أبو عبيدة عزيمة على كل رجل أن لا يخرج من مركزه ثم سار أبو عبيدة في أناس من المهاجرين والأنصار حتى أشرف بمن معه على عمر قال ونظر عمر إلى أبي عبيدة وهو لابس سلاحه متنكب قوسه وهو راكب على قلوصه مغطى بعباءة قطوانية وخطام قلوصة من شعر فلما نظر أبو عبيدة إلى عمر رضي الله عنه أناخ قلوصه وأناخ عمر بعيره وترجل كلاهما ومد أبو عبيدة يده فصافح عمر وتعانقا جميعا وسلم بعضهما على بعض واقبل المسلمون يسلمون على عمر ثم ركبا جميعا وجعلا يسيران أمام الناس وهما يتحادثان ولم يزالا كذلك حتى نزلا ببيت المقدس فلما نزل صلى عمر رضي الله عنه بالمسلمين صلاة الفجر ثم خطبهم خطبة حسنة فقال في خطبته الحمد لله الحميد المجيد القوي الشديد الفعال لما يريد ثم قال إن الله تعالى قد أكرمنا بالاسلام وهدانا بمحمد عليه أفضل الصلاة والسلام وأزاح عنا الضلالة وجمعنا بها الفرقة والف بين قلوبنا من بعد البغضاء فاحمدوه على هذه النعمة تستوجبوا نه المزيد فقد قال الله تعالى * (لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد) * ثم قرأ من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا قال فلما تلا عمر ذلك قام قس من النصارى كان حاضرا بين يديه فقال ان الله لا
238

يضل أحدا فلما كررها قال عمر انظروا ان عاد إلى قوله فاضربوا عنقه فعرف القس ما قال عمر فأمسك ومضي عمر في خطبته فقال أما بعد فاني أوصيكم بتقوى الله عز وجل الذي يبقي ويغني كل شيء سواه الذي بطاعته ينفع أولياءه وبمعصيته يفني أعداءه أيها الناس أدوا زكاة أموالكم طيبة بها قلوبكم وأنفسكم لا تريدون بها جزاء من مخلوق ولا شكورا أفهموا ما توعظون به فان الكيس من احرز دينه وان السعيد من اتعظ بغيره الا ان شر الأمور مبتدعاتها وعليكم بالسنة سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم فالزموها فان الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة والزموا القرآن فان فيه الشفاء والثواب أيها الناس انه قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كقيامي فيكم وقال
الزموا أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يظهر الكذب حتى يشهد من لم يستشهد ويحلف من لم يحلف فمن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة وتعوذوا من الشيطان
ولا يخلون أحد منكم بامرأة فإنهن من حبائل الشيطان ومن سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن والصلاة الصلاة فلما فرغ من خطبته جلس فجعل أبو عبيدة يحدثه بما لقي من الروم وعمر باهت فتارة يبكي وتارة يهدأ فلم يزل كذلك إلى أن حضرت صلاة الظهر فقال الناس يا أمير المؤمنين اسأل بلالا ان يؤذن لنا وكان بلال مقيما ببلد فلما بلغه أن عمر قد وصل سار مع أبي عبيدة حتى سلم على عمر فعظم قدره فلما حضرت صلاة الظهر وسأل المسلمون عمر أن يسأل بلالا فقال له يا بلال أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألون أن تؤذن لهم وتذكرهم أوقات نبيهم صلى الله عليه وسلم فقال بلال نعم فلما قال الله أكبر خشعت جلودهم واقشعرت أبدانهم قال فلما قال أشهد ان لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله بكى الناس بكاء شديدا حتى كادت قلوبهم أن تتصدع عند ذكر الله ورسوله فلما فرغ بلال من أذانه وجلس قال بلال يا أمير المؤمنين أن أمراء المسلمين وأجناد الشام يأكلون لحوم الطيور والخبز النقي وما لا يلحق ضعفاء الناس وما لاتناله أيديهم وأن الكل يفني وما له إلى التراب ومصيرنا اليه فقال له يزيد بن أبي سفيان أن سعر بلادنا هذه رخيص وانا لنصيب ما قاله بلال ههنا مثل ما كنا نقوت به أنفسنا مدة من الزمان في الحجاز فقال عمران الامر كما ذكرت فكلوا هنيئا مريئا ولست أبرح من مكاني حتى تجمعوا إلي من في المنازل وان تكتبوا إلى فقراء المسلمين ممن في المدن والقرى فأفرض لكل أهل بيت ما يجزيهم من البر والشعير والعسل والزيت وما يحتاجون اليه ولا بد لهم منه ثم قال عمر هذا لكم من أمرائكم غير ما يأتيكم مني من بيت مال المسلمين فان قطعت عنكم أمراؤكم فأمروني حتى أعزلهم عنكم ثم أمرهم بالرحيل فلما هم بالركوب على بعيره وعليه مرقعة من صوف وفيها أربع عشرة رقعة بعضها من أدم
قال الواقدي بلغني ممن أثق به أنها كانت مرقعة من صوف فقال له المسلمون يا أمير المؤمنين لو ركبت بدل بعيرك جوادا ولبست ثيابا بيضا قال ففعل
239

قال الزبير احسب انها كانت من ثياب مصر تساوي خمسة عشر درهما وطرح على عاتقه منديلا من كتان ليس جديدا ولا بالخلق دفعه اليه أبو عبيدة وقدم اليه برذون أشهب من براذين الروم فلما صار عمر على ظهره جعل البرذون يهملج به فلما نظر عمر إلى البرذون وفعاله نزل عنه مسرعا وقال أقيلوا عثرتي أقال الله عثرتكم يوم القيامة فقد كاد أميركم ان يهلك بما دخل من العجب والكبر واني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من الكبر ولقد كاد أن يهلكني ثوبكم الأبيض وبرذونكم المهملج ثم إن عمر رضي الله عنه نزع ما كان عليه ثم عاد إلى لبس مرقعته
قال الواقدي كنا يوم نقرأ فتوح الشام وفتوح بيت المقدس عند قبر أبي حنيفة وكان الفتوح يقرأ على عبادة بن عوف الدينوري وكان من أهل الفضل وكان يسجع كلامه فلما وصل إلى ما ذكرناه من لبس عمر لمرقعته قال قد سمح خاطري بما أنا قائله
قال الواقدي قلت قل ولا تخف الصدق فتهوى في النار وان الصدق أمانة والكذب خيانة قال لما لبس عمر مرقعته وجعل يتميز في شمائل فقره والكائنات تتعجب من زهده وصبره عندما تزينت له الدنيا بملابسها وتراءت له في حلل أمنيتها بواسطة حدثان مشيئتها وقد جعلت أشباح شهواتها على قمة رأس مرآتها وأقبلت رافلة في حلة مراودته مطلقة عند الطمع في طلب زوال مجاهدته معرضة بملابس جمالها على سوق معارضته في سناء قبلة مرآة تبهرجها في عين مشاهدته واقفة على قدم الاستدراج إلى ترك خدمته جاعلة ودادها ذريعة إلى وصلته وعمر قد أمسك عرا طاعته بيد عصمته فلما نصبت له حبائل بلاها ولم تره وقع في أشراك هواها أسمعت في معناها قد شغفها حبا انا لنراها وقالت يا عمر قد وليت أرضي فلا بد من القيام بفرضي فالولاية لا تقوم الا بالملابس الهنية والمآكل الشهية والظلم في الرعية فقال عمر اذهبي فلست من رجالك ولا ممن يقع في حبالك ولا في أوحالك أما علمت اني قد تجردت لمعاندتك ولا حاجة لي في مشاهدتك وها أنا على قدم تجردت لإقامة دعوة سيد الأمم حتى افتح بلاد الروم والعجم ثم اظهر في وجهها صارم اجتهاده من معنى قوله * (وجاهدوا في الله حق جهاده) * قال الواقدي فاستحسنت هذا الكلام والحقت ما قاله في هذا الموضع بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ان من البيان لسحرا قال وان عمر سار يريد العقبة ليصعد منها إلى بيت المقدس فلقيه قوم من المسلمين وعليهم ثياب الديباج مما أخذوه من اليرموك فأمر عمر أن يحثوا التراب في وجوههم وان تمزق عليهم ولم يزل على ذلك حتى أشرف على بيت المقدس فلما نظر إليها قال الله أكبر اللهم افتح لنا فتحا يسيرا واجعل لنا من لدنك سلطانا نصيرا ثم سار واستقبلته العشائر والقبائل وأصحاب
240

العقود وسار عمر حتى نزل بالموضع الذي كان فيه أبو عبيدة وضربت له خيمة من شعر وجلس فيها هناك على التراب ثم قام يصلي أربع ركعات
قال الواقدي وعلت للمسلمين ضجة عظيمة وصياح مزعج بالتهليل والتكبير فسمع أهل بيت المقدس الضجة والجلبة فقال لهم البترك يا ويلكم ما شأن العرب قد ارتفعت لهم جلبة من غير شيء فأشرفوا عليهم وانظروا ما شأنهم قال الواقدي فأشرف عليهم رجل ممن يعرف العربية فقال يا معاشر العرب أخبرونا ما قصتكم قالوا أن أمير المؤمنين عمر قد قدم علينا من مدينة نبينا وهذه الضجة من فرح المسلمين به قال فرجع وأعلم البترك فأطرق إلى الأرض ولم يتكلم فلما كان الغد وصلى عمر بالناس صلاة الفجر قال لأبي عبيدة يا عامر تقدم إلى القوم وأعلمهم اني قد اتيت قال فخرج أبو عبيدة وصاح بهم وقال يا أهل هذه البلدة ان صاحبنا أمير المؤمنين قد ورد فما تصنعون فيما قلتم قال فاعلموا البترك فخرج من كنيسته وعليه المسوح وترجل الرهبان والقسوس والاساقفه معه وقد حمل بين يديه صليب لا يخرجونه الا في عيدهم وسار معه البطاليق الوالي عليهم وهو يقول للبترك يا ابانا ان كنت تعرفه معرفة حقيقية والا فلا تفتح له ودعنا وهؤلاء العرب فاما أن بنيدهم واما ان يبيدونا قال البترك أنا أفعل ذلك ثم صعدا على الصور ووقف البطاليق إلى جانبه والصليب أمامهم وأشرف على أبي عبيدة وقال ما تشاء أيها الشيخ الباهي قال أبو عبيدة هذا أمير المؤمنين عمر وليس عليه أمير قد أتى فأخرجوا اليه واعقدوا معه الأمان والذمة وأداء الجزية فقال البترك يا ذا الرجل ان كان صاحبك الذي ليس عليه أمير قد أتى فدعه يدن منا فانا نعرفه بنعته وصفته وأفردوه من بينكم وليقف بازائنا حتى نراه فإن كان صاحبنا الذي نعته في الإنجيل نزلنا اليه وعقدنا معه الأمان وأقررنا له بالجزية وان كان غير الذي نجد نعته في الإنجيل وصفته فما لكم عندنا غير القتال قال فرجع أبو عبيدة إلى عمر واخبره بما قاله البترك فهم عمر بالقيام فقال له أصحابه يا أمير المؤمنين تخرج إليهم منفردا وليس عليك آلة حرب غير هذه المرقعة وانا نخشى عليك منهم غدرا أو مكرا فينالون منك فقال عمر قل لن يصيبنا الا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون ثم أمر ببعيره
فقدم اليه فاستوى في ركوبه عليه وعليه مرقعة ليس عليه غيرها وعلى رأسه قطعة عباءة قطوانية وقد عصب بها رأسه وليس معه غير أبي عبيدة رضي الله عنه وهو سائر بين يديه حتى قرب من السور ووقف بإزاء السور والبترك والبطاليق عليه فتكلم أبو عبيدة وقال يا هؤلاء هذا أمير المؤمنين قد أتى فمسح البترك عينه ونطر إليه وزعق بأعلى صوته هذا والله الذي نجد صفته ونعته في كتبنا ومن يكون فتح بلادنا على يديه بلا محالة ثم إنه قال لأهل بيت المقدس يا ويحكم انزلوا اليه واعقدوا معه الأمان والذمة هذا والله صاحب محمد بن عبد الله
241

قال الواقدي فلما سمعت الروم كلام البترك نزلوا مسرعين وكانوا قد ضاقت أنفسهم من الحصار ففتحوا الباب وخرجوا إلى عمر بن الخطاب يسألونه العهد والميثاق والذمة ويقرون له بالجزية فلما نظر إليهم عمر على تلك الحالة تواضع لله وخر ساجدا على قتب بعيره ثم نزل إليهم وقال ارجعوا إلى بلادكم ولكم الذمة والعهد إذ سألتمونا وأقررتم بالجزية قال فرجع القوم إلى بلدهم ولم يغلقوا الأبواب ورجع عمر إلى عسكره فبات فيه ليلة فلما كان الغد قام فدخل إليها وكان دخوله يوم الاثنين واقام بها إلى يوم الجمعة وخط بها محرابا من جهة الشرق وهو موضع مسجده فتقدم وصلى هو وأصحابه صلاة الجمعة فهمت الروم بغدرهم وكان أبو الجعيد الذي احتال على الروم باليرموك ببيت المقدس هو وأهله وماله فقالوا ما ترى في غدر هؤلاء العرب إذا هم اشتغلوا بصلاتهم وليس معهم آلة حرب ولا ما يحترزون به من الضرب والقتل فقال لهم أبو الجعيد يا قوم لا تفعلوا ولا تغدروا بهم فان فعلتم ذلك أخبرتهم بما تريدون أن تفعلوا بهم فقالوا وما الذي نصنع فقال أبو الجعيد اظهروا للعرب ما لكم من الزينة ومتاع الدنيا فان متاع الدنيا وما فيها لا يصبر صاحبهما عنهما فان طلبوهما بغدر فشأنكم وما تريدون قال فأقبل القوم على ما كانوا يقدرون عليه من المال والمتاع الحسن فاظهروه وصفوه في طريق المسلمين وشوارعهم فجعل المسلمون ينظرون إلى ذلك في دخولهم وخروجهم وهم يعجبون منهم ولم يمل أحد منهم اليه ولم يلمسه وهم يقولون الحمد لله الذي أورثنا ديار قوم مثل هذا ولو ساوت الدنيا عند الله جناح بعوضة لما سقي كافرا منها شربة ماء قال عوف بن سالم فوالله ما من المسلمين من جعل يده على شيء من متاعهم ولا لمسه فقال لهم أبو الجعيد هؤلاء القوم الذين وصفهم الله في التوراة والإنجيل وانهم لا يزالون على الحق ولا يقر بهم أحد ما داموا على ما هم عليه قال الواقدي واقام عمر في بيت المقدس عشرة أيام قال شهر بن حوشب سمعت كعب الأحبار يقول إن عمر بن الخطاب لما صالح أهل بيت المقدس ودخلها أقام فيها عشرة أيام فأقبلت اليه وكنت في قرية من فلسطين وتقدمت اليه لاسلم عليه واسلم على يديه وذلك أن أبي كان أعلم الناس بما أنزل الله على موسى بن عمران وانه كان لي محبا وعلي مشفقا ولم يكتم علي شيئا الا أعلمني إياه مما كان يعلم الناس فلما حضرته الوفاة دعاني اليه وقال لي يا بني انك تعلم أني ما ادخرت عنك شيئا مما كنت أعلمه لأني خشيت أن يخرج بعض هؤلاء الكاذبين وتتبعهم وقد جعلت هاتين المورقتين في هذه الكرة التي ترى فلا تتعرض لهما ولا تنظر فيهما إلى أن تسمع بخبر نبي يبعث في آخر الزمان اسمه محمد فان يرد الله بك خيرا فأنت تتبعه ثم مات بعد وصيته إياي قال كعب فدفنته فما كان شيء أحب إلي بعد انقضاء العزاء من النظر في الورقتين وقراءة ما فيهما ففتحهما فإذا فيهما لا إله إلا الله محمد رسول الله
242

خاتم النبيين لا نبي بعده مولده بمكة ودار هجرته طيبة ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب أمته الحامدون الذين يحمدون الله على كل حال ألسنتهم رطبة بالتهليل والتكبير وهم منصورون على كل من عاداهم من أعدائهم أجمعين يغسلون وجوههم ويسترون أوساطهم أناجيلهم في صدورهم تراحمهم بينهم تراحم الأنبياء بين الأمم وهم أول من يدخل الجنة يوم القيامة من الأمم قال كعب الأحبار فلما قرأت ذلك قلت في نفسي وهل علمني أبي شيئا أعظم من هذا ثم مكثت بعد وفاة والدي ما شاء الله إلى أن بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم الموصوف قد ظهر بمكة وهو يظهر مرة بعد أخرى فقلت هو والله لا محالة ولم أزل أبحث عن أمره حتى قيل أنه خرج ونزل بيثرب فجعلت أترقب أمره حتى غزا غزوات ونصر على أعدائه فتجهزت أريد المسير اليه فبلغني انه قد قبض صلى الله عليه وسلم وانقطع الوحي فقلت في نفسي لعله ليس الذي كنت أنتظره حتى رايت في منامي كان أبواب السماء قد فتحت والملائكة تنزل زمرة بعد زمرة وقائل يقول قد قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وانقطع الوحي عن أهل الأرض فرجعت إلى دار قومي وجاءنا الخبر انه تقدم أمته خليفة اسمه أبو بكر فقلت أقدم عليه فلم البث حتى جاءتنا جنوده إلى الشام ثم جاءتنا وفاته ثم قيل إنه استخلف عليهم رجل اسمه عمر فقلت لا أدخل هذا الدين حتى أحققه ولم أزل متوقفا حتى قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه ببيت المقدس وصالح أهلها ونظرت إلى وفائهم بعهدهم وما صنع الله بأعدائهم وقلت أنهم أمة النبي الأمي فحدثت نفسي بالدخول في هذا الدين فوالله اني كنت ذات ليلة على سطحي وإذا أنا برجل من المسلمين يقول * (يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا) * قال كعب فلما سمعت هذه الآية خفت والله أن لا أصبح حتى يحول وجهي فما كان شيء أحب إلي من الصباح أن يرد فلما أصبحت غدوت من منزلي وسألت عن عمر فقيل لي أنه ببيت المقدس فقصدت اليه وإذا به قد صلى بأصحابه صلاة الفجر عند الصخرة فأقبلت اليه وسلمت عليه فرد علي السلام وقال لي من أنت فقلت له أنا كعب الأحبار وانني جئت أريد الاسلام والدخول فيه فاني وجدت صفة محمد صلى الله عليه وسلم وأمته في الكتب المنزلة وان الله عز وجل أوحى إلى موسى عليه السلام اني ما خلقت خلقا أكرم علي من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ولولاه ما خلقت جنة ولا نارا ولا سماء ولا أرضا وأمته خير الأمم ودينه خير الأديان بعثته آخر الزمان أمته مرحومة وهو نبي الرحمة وهو النبي الأمي التهامي القرشي الرحيم بالمؤمنين الشديد على الكافرين سريرته مثل علانيته وقوله لا يخالف فعله القريب والبعيد عنده سواء أصحابه متراحمون متواصلون فقال عمر أحقا ما تقول يا كعب قال أي والله والله يسمع ما أقول ويعلم ما تخفي الصدور فقال عمر الحمد لله الذي أعزنا وأكرمنا وشرفنا
243

ورحمنا برحمته التي وسعت كل شيء وهدانا بمحمد صلى الله عليه وسلم فهل لك يا كعب في الدخول في ديننا فقال كعب يا أمير المؤمنين في كتابكم الذي انزل إليكم في أمر دينكم ذكر إبراهيم فقال عمر نعم وقرأ ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني ان الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن الا وأنتم مسلمون أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد الهك واله آبائك إبراهيم وإسماعيل واسحق الها واحدا ونحن له مسلمون ثم قرأ ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن
كان حنيفا مسلما ثم قرأ أفغير دين الله يبغون وله أسلم الآية ثم قرا ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه الآية ثم قرأ * (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما) * الآية ثم قرا وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل الآية قال كعب فلما سمعت هذه الآيات قلت يا أمير المؤمنين أن أشهد ان لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ففرح عمر باسلام كعب الأحبار ثم قال هل لك أن تسير معي إلى المدينة فنزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم وتتمتع بزيارته فقلت نعم يا أمير المؤمنين انا أفعل ذلك قال وارتحل عمر بعد ان كتب لأهل بيت المقدس كتابا أي عهدا وأقرهم في بلدهم على الجزية وسار بمن معه من العساكر إلى الجابية فأقام بها ودون الدواوين وأخذ الخمس الذي لله مما أفاء الله على المسلمين ثم قسم الشام قسمين فأعطى أبا عبيدة من حوران إلى حلب وما يليها وأمره بالمسير إلى حلب وأن يقاتلوا أهلها إلى أن يفتحها الله على يديه وأعطى أرض فلسطين وارض القدس والساحل ليزيد بن أبي سفيان وجعل أبا عبيدة واليا عليه وأمر يزيد أن يحارب أهل قيسارية إلى أن يفتحها الله على يديه وكان قد اعطى أكثر الأجناد لأبي عبيدة مع خالد وسير عمرو بن العاص إلى مصر واستعمل على قضاء حمص عمرو بن سعيد الأنصاري ثم سار عمر رضي الله عنه يريد مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم واخذ كعب الأحبار معه وكان أهل المدينة يظنون أن عمر يقيم بالشام لما يرون من كثرة خيرها وطيب فواكهها ورخص أسعارها ولما يخبرون عنها أنها بلاد الأنبياء وهي الأرض المقدسة وفيها المحشر فبقى الناس يتطاولون نحوه ويخرجون في كل يوم ينظرونه حتى قدم عمر رضي الله عنه فارتجت المدينة يوم قدومه واستبشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه برؤيته وسلموا ورحبوا به وهنئوه بما فتح الله على يديه فأول ما بدأ بالمسجد سلم على قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه ثم صلى ركعتين وعاد بكعب الأحبار وقال حدث المسلمين بما رايت في الوقتين فازداد الناس ايمانا
قال أبو عبد الله محمد بن عمر الواقدي حدثنا أحمد بن الحسين بن العباس المعروف بأبي سفيان النحوي قال حدثنا أبو جعفر بن أحمد بن عبيد الناسخ قال حدثني عبد الله بن أسلم الزهري وعبد الله بن يحيى الزرقي عمن حدثه ممن تقدم ذكرهم واسماؤهم أول الكتاب وحديث القوم قريب بعضه من بعض والله يعيذنا من
244

الزيادة والنقصان لان الصدق أمانة والكذب خيانة والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة ما اعتمدت في خبر هذه الفتوح الا على الصدق وما حدثت حديثه الا على قاعدة الحق لاثبت فضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهادهم حتى أرغم بذلك أهل الرفض الخارجين على أهل السنة إذ لولاهم بمشيئتة الله تعالى لم تكن البلاد للمسلمين وما انتشر علم هذا الدين فلله درهم لقد جاهدوا في الله حق جهاده لا جرم وقد قال فيهم الملك المقتدر * (فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر) *
قال الواقدي وذلك أنه لما بعث عمر بن الخطاب أبا عبيدة رجعله أمير الشام وأمره بالمسير إلى حلب وأنطاكية والمفرق وما يليهم من الحصون بعث عمرو بن العاص إلى مصر ويزيد بن أبي سفيان إلى ساحل الشام فنزلوا قيسارية وهي آهلة بالخلق كثيرة الجند وكان عليها قسطنطين إلى أن نزل يزيد وقسطنطين هذا ابن الملك هرقل وكان معه ثمانون ألف من الروم والعرب المتنصرة والروسية فلما نظر قسطنطين إلى نزول يزيد بن أبي سفيان عليه بعث إلى أبيه يستنجده فبعث اليه هرقل بصاحب مرعش وعشرين ألفا من أبطال الروسية وأنفذ له المراكب بالزاد والعلوفة فلما نظر يزيد إلى ذلك وأن لا قدرة له على ذلك كتب إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يقول بسم الله الرحمن الرحيم من يزيد بن أبي سفيان العامل على بعض الشام إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه اني نازلت أهل قيسارية وهي مدينة آهلة بالخلق كثيرة الجند وليس إليها سبيل وان قسطنطين قد استنجد بأبيه وقد انجده بصاحب مرعش وعشرين ألفا والمراكب ترد عليه كل يوم بالعلوفة والزاد وأريد النجدة والسلام وبعث الكتاب مع عمرو بن سالم بن حميد النخعي فلما ورد المدينة وسلم الكتاب إلى عمر بن الخطاب قال عمر من أين هذا الكتاب قال من عاملك يزيد بن أبي سفيان فقرأه فلما أتى على آخره تفكر في أمر يزيد وما وقع له حتى دخل عليه علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فأراه كتاب يزيد من قيسارية الشام يطلب من نجدة فقال علي لا تغتم على المسلمين فان الله يفتحها على يديك رغما فأنجد يزيد وانفذ اليه الكتاب
ذكر فتح مدينة حلب وقلاعها
قال الواقدي كان مع أبي عبيدة عشرون ألفا ومع يزيد وعمرو بن العاص عشرة آلاف
قال الواقدي فلما وصل كتاب عمر إلى أبي عبيدة أنفذ إلى يزيد ثلاثة آلاف فارس مع حرب بن عدي وبقي أبو عبيدة في سبعة عشر ألفا وأكثرهم من اليمن وكان أبو عبيدة قد صالح أهل قنسرين والعواصم على خمسة عشر ألف مثقال من الذهب ومثلها من فضة والف ثوب من أصناف الديباج وخمسمائة وسق من التين والزيت فلما تم الصلح وجاءوا بما ضمنوه من مدينتهم كتب لهم كتاب وشرط فيه الشروط ودخل أبو عبيدة وخالد في رجال من المؤمنين وسادات المسلمين فحطوا بها مسجدا
245

فبلغ ذلك أهل حلب من الصلح لقنسرين ومسير العرب فاضطربوا اضطرابا شديدا وكان عليهم رئيسان أخوان لأب وأم وكانا يسكنان في القلعة ولم تكن القلعة محيطة بالمدينة بل كانت المدينة منفردة بذاتها وكان البطريقان يقال لأحدهما يوقنا والآخر يوحنا وكان أبوهما ملك البلد وأعماله وضياعه ورساتيقه إلى حدود الضروب والى حدود الفرات وقد ملك حلب سنين لا ينازعه فيها منازع وكان هرقل طاغية الروم يهابه ويوقره ولا يحاربه كل ذلك لبقاء ملكهم واجتماع كلمتهم لأنه كان قد انتزع من رومية إلى أقصى البلاد لئلا يجيش عليه أحد جيشا ولا ينازعه في ملكه لكثرة شره وتدبيره وشدة بني عمه فلما نزل بالعواصم استخلص لنفسه قلعة حلب وبناها وحصنها ومكن في البلاد فلما هلك آل الامر بعده لولده يوقنا وكان الكبير وكان شجاعا بطلا جامعا للأموال مقداما للحروب لا يصطلي له بنار ولا يدفع شره وكان أخوه يوحنا دينا قد نزع يده من الرياسة وترهب وكان أعلم الناس في أهل زمانه وانه لما بلغهم الخبر أن أبا عبيدة قد قصد إليهم قال لأخيه يوقنا على ماذا عولت قال على قتال العرب ولا أدعهم يقربون من أرضنا وبلادنا حتى يرى العرب أني لست كمن لقوا من بطارقة الشام ولا من غيرها وكان يوحنا قد درس الإنجيل وقرأ المزامير وليس له همة الا عمارة الكنائس والأديرة وتشييد المواضع وكثرة الشمامسة والقسوس والرهبان والقيام بأمورهم فلما بلغ هذين الأخوين فتح العواصم عنوة وقنسرين صلحا وان العرب نازلون عليها
وان خيلهم تضرب إلى الفرات والعواصم والبقاع فأقبل يوحنا على أخيه الأكبر يوقنا وقال يا أخي أريد أن أختلي بك الليلة واشاورك وأطلعك على سري ورأيي وأشرف على سرك ورأيك قال نعم فلما اجتمعا في الليل في دار كانت لأبيهما في القلعة وجلسا للمشورة أقبل يوقنا على أخيه يوحنا وقال يا أخي الا ترى ما نزل بنا من العرب الجياع الأكباد العراة الأجساد وما حل بأهل الشام منهم من القتل والنهب وأخذ الأموال وأنهم لا ينزلون مدينة من مدن الشام الا فتحوها وملكوا أهلها فما ترى أن تصنع في أمر هؤلاء فكأني بهم وقد أشرفوا علينا
قال الواقدي فقال يوحنا يا أخي إذ قد استشرتني في أمرك فاني أنصحك ولا أغشك إذا قبلت النصيحة وأن كنت أصغر منك سنا فاني أعلم منك بصيرة فوحق المسيح والقربان لئن قبلت مشورتي ليعلون أمرك ويسلم لك مالك ونفسك فقال يوقنا يا أخي ما علمتك الا ناصحا فما عندك من الرأي فقال الرأي عندي أن ترسل رسولا إلى العرب وتبذل لهم ما شاءوا وتسألهم الصلح وتتفق معهم على معلوم يدفع لهم في كل عام ما دامت الغلبة لهم فلما سمع يوقنا ذلك من كلام أخيه يوحنا اقبل عليه وقد استوثق منه الغضب وقال قبحك المسيح ما أعجز رأيك ما ولدتك أمك الا راهبا أو قسيسا ولم أقلدك لا ملكا ولا محاربا ولا مقاتلا والرهبان ليس لهم قلوب لاكلهم العدس والزيت والبقل ولا يأكلون اللحم ولا يعرفون النعيم وليس لهم بالقتال
246

بصيرة ولا بملاقاة الرجال خبرة وأما أنا فملك ابن ملك وليس بيني وبينهم الا الحرب و لا ترى الملوك العجز ويلك كيف نسلم ملكنا العرب ونعطيهم القياد من أنفسنا من غير حرب ولا قتال قال فلما سمع يوحنا ذلك من أخيه تبسم من كلامه وتعجب كل العجب وقال يا أخي وحق المسيح ان أجلك قد اقترب لأنك صاحب بغي تحب سفك الدماء وقتل النفس وما أظن جموعك أكثر من جموع الملك هرقل التي جمعها باليرموك مع ماهان ويوم أجنادين وهؤلاء القوم قد أيدهم الله علينا فاتق الله ولا تسع في قتل نفسك فلما سمع يوقنا كلام أخيه داخله الغضب وقال له قد أكثرت وأطلت في مدحك العرب واني لست كمن لا قوه من هذه الجموع التي ذكرتها ولا أقاس بهم ومع ذلك اعلم أن كل من ذكرت من أهل المدن وغيرها أسلم بلده عنوة أو صلحا قبل ان يقاتل بلا عذر في القتال ويبذل المجهود عن نفسه وانما جمعت الأموال من قبل إلى الآن لادفع بها الأذى عن نفسي واني مجمع على قتال العرب ومحاربتهم فان أظفرني الصليب بهم وأعانني المسيح عليهم طلبت العرب إلى أن أدخل خلفهم الحجاز وأسود على سائر الملوك وأرجع إلى الشام ملكا فلا يقدر هرقل أن ينازعني وان هزمتني العرب طلعت إلى قلعتي هذه ولزمتها فاني قد عبيت فيها من الزاد والأطعمة ما يكفيني طول دهري وأكون فيها عزيزا إلى أن أموت ولا ألقي يدي إلى العرب ولا ابذل أموالي من غير طلب فلا تعارضني في شيء من أمر العرب ولا تدعني إلى الصلح والا بطشت بك قبلهم
قال الواقدي واحتوى الشيطان على قلب يوقنا وقد سولت له نفسه العمل فلما سمع يوحنا من أخيه يوقنا هذا المقال قال له كلامك علي حرام أبدا حتى ترجع إلى رأيي ونعود إلى قولي ثم قام عنه مغضبا فلما كان من الغد جمع يوقنا اليه جميع من التجأ اليه من العسكر من الأرمن والمتنصرة وغيرهم وعرضهم على نفسه فمن أراد سلاحا أعطاه وفرق فيهم الأموال وجعل يهون العرب عليهم ويقول انما هم قليل ونحن أكثر منهم لان جموعهم قد تفرقت منها جماعة على قيسارية ومنهم من توجه إلى مصر قال الواقدي وعزم على قتال أبي عبيدة قبل أن يصل اليه والى بلده ثم عمد إلى بطريق من بطارقته يقال له كراكس وضم اليه ألف فارس ووكله بحفظ بلده وسار يوقنا بمن معه يريد أن يلقي جيش أبي عبيدة والمسلمين هو وقومه في اثني عشر ألف مدرع غير من كان معه بغير درع ونشرت أمامه الاعلام والصلبان وكان فيها صليب من الذهب والجوهر ومن حوله الف غلام عليهم ثياب الديباج المنسوج بالذهب قال ابن ثعلبة الكندي فأقام أبو عبيدة على مدينة قنسرين بعد أن فتحها بالصلح وبعد أن اتاه يزيد بكتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمره أن يبعث إلى يزيد بن أبي سفيان طائفة من جيشه فبعث له بثلاثة آلاف فارس لابسين السلاح الكامل وعول أبو عبيدة على المسير إلى حلب فدعا برجل من بني ضمرة وكان بطلا مجربا بشدة البأس وكان إذا
247

ثبت على وجه الأرض للقتال لا يهاب الجحافل قلت أو كثرت فضم اليه ألف فارس وسيره على مقدمته وقال يا كعب لا تقاتل جيشا لا تطيقه واختبر امر هذا العلج واعرف خبره وانا راحل من ورائك فسار كعب بن ضمرة يريد حلب وكان يوقنا قدم أمامه عيونا يأتون بالاخبار فأتته جواسيسه يخبرونه ان خيول العرب قد أتت تريد بلده وقتاله فقال لهم في كم أتت العرب قالوا في ألف فارس وهم على ستة أميال من بلدك نزول قال فكمن يوقنا كمينا ثم سار إليهم بجيوشه وبطارقته فلما أشرف عليهم وهم نزول على نهر يسقون خيلهم ويتوضئون فبينما هم كذلك إذ أشرف عليهم يوقنا بجيوشه وبطارقته والصليب أمامه فنادى المسلمون بعضهم بعضا واستووا على متون خيولهم وورد كعب بن ضمرة على فرسه وسبق في أول الخيل وأشرف على جيش يوقنا فحزره انه في خمسة آلاف فارس وكان يوقنا قد قسم عسكره شطرين النصف معه والنصف مع الكمين فلما نظر كعب إلى يوقنا وجيشه انقلب إلى أصحابه وقال يا أنصار دين الله اني نظرت عسكر عدوكم وحزرته فهو في خمسة آلاف وهم لكم مغنم ويقاتل الواحد منكم خمسة قالوا بلى والله واقبل أصحابه يشجع بعضهم بعضا فقربت الفئة من الفئة وصاح يوقنا بأصحابه ورجاله وغلمانه وعبيده وبطارقته وأمرهم بالحملة على المسلمين فحملوا بأجمعهم حملة صعبة وحمل عليهم المسلمون والتقى الجمعان واشتبك الحرب وقاتل الجمعان قتال الموت وقد أيقن المسلمون بالظفر والغنيمة فطلع عليهم الكمين من ورائهم وأكبوا عليهم جميعا
قال مسعود بن عون العجي شهدت الخيل التي بعثها أبو عبيدة طلائع مع كعب بن ضمرة وكنت فيها يوم التقى الجمعان وقد خرج علينا الكمين ونحن في القتال ونحن لا نظن أن لهم كمينا يطلع من ورائنا وإذا بأصوات حوافر الخيل أكبت علينا وأيقنا بالهلكة بعدما كنا موقنين بالغلبة وصرنا في وسط عسكر الكفار فلم يكن لنا بد من القتال فافترقت المسلمون ثلاث فرق فرقة منهم منهزمة وفرقة قصدت قتال الكمين وفرقة مع كعب بن ضمرة قصدت قتال يوقنا ومن معه قال مسعود بن عون فلله در كندة يؤمئذ لقد قاتلوا قتالا شديدا وأبلوا بلاء حسنا ووهبوا أنفسهم لله تعالى حتى قتل منهم ذلك اليوم مائة رجل في مقام واحد وعمل أهل الكمين عملا عظيما وكعب بن ضمرة قلق على
المسلمين فجاهد عنهم وهو يجول بالراية وينادي يا محمد يا محمد يا نصر الله انزل معاشر المسلمين اثبتوا انما هي ساعة ويأتي النصر وأنتم الأعلون فاجتمع المسلمون عليه والجراح فيهم فاشية وقتل من المسلمين مائة وسبعون رجلا من الأعيان منهم عباد بن عاصم النخعي وزفر بن أم راضي وحازم ابن شهاب المقري وسهل بن اشيم ورفاعة بن محصن وغانم بن برد وسهيل بن مفلج وكان ممن شهد يوم السلاسل وتبوك بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهد قتال اليمامة مع خالد بن الوليد قال مسعود بن عون والله لقد تأسفنا على قتله ووجدنا فيه أربعين ضربة كلها في
248

مقدمه رضي الله عنه ولم نجد واحدة في ظهره وكان الأعيان أربعين رجلا لان الرجل منا ما قتل حتى قتل عددا من المشركين فلما نظروا إلى ثبات المسلمين مع قلتهم وما هالهم ممن قتل منهم هم المشركون أن ينهزموا فثبتهم يوقنا وقال ويلكم ما العرب الا مثل الذئاب ان صدمت ولت وان تركت طمعت ولما نظر كعب بن ضمرة إلى من قتل تحت رايته أغتم لذلك غما شديدا فنزل عن فرسه ولبس درعا من فوق درعه وشد وسطه بمنطقة ومسح وجه فرسه ومنخره وقبله بين عينيه وكان قد شهد معه المواطن وجاهد معه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قد سماه الهطال فقال يا هطال هذا يومك المحمود عاقتبه فاثبت للقتال في طاعة الله ولما استوى على متنه وقف أمام المسلمين وجعل ينظر إلى القتلى وهو متفكر في امره والراية بيده وهو ينتظر من أبي عبيدة جيشا يقبل عليه أو طليعة تنجده فلم ير لذلك أثرا
وذلك أن أبا عبيدة ما قطعه من المسير اليه الا قدوم أهل حلب عليه وذلك أنه لما سار يوقنا إلى حرب المسلمين اجتمع مشايخ أهل حلب والروسية بعضهم إلى بعض وقالوا يا قوم تعلمون أن هؤلاء العرب قد أطاعهم أهل دين النصرانية والصليب ودخلوا في دينهم ومنهم من رجع إلى دينهم ومنهم من قاتلهم فأما الذي فاتلهم فخسر فهل لكم أن تسيروا إلى أمير المؤمنين ونسأله الصلح ونصالح عن مدينتنا وندفع اليه ما أحب من أموالنا فان ظفر المسلمون بالبطريق يوقنا نكن نحن آمنين غير وجلين منهم ونقر عينا من بأسهم وان صالح يوقنا القوم نكن نحن قد سبقناه إلى الصلح وان غلب ورجع سالما لم نبلغه ولم نعلمه واستوى رأيهم على ذلك فخرج منهم ثلاثون رجلا من رؤسائهم وسلكوا طريقا غير طريق يوقنا حتى أشرفوا على عسكر المسلمين فنادوا الغوث الغوث وكان العرب قد علمت أن الغوث بالرومية هو الأمان وقال لهم الأمير فمن سمعتموه يقولها فلا تعجلوا عليه بالقتل لئلا يطالبكم الله يوم القيامة وعمر بريء منه فكان العرب يعرفونها فلما سمع المسلمون منهم ذلك أسرعوا إليهم واوقفوهم بين يدي أبي عبيدة فقال خالد يوشك أن هؤلاء يطلبون الصلح والأمان لأنفسهم وهم أهل حلب قال أبو عبيدة أرجو ذلك إن شاء الله تعالى وان صالحوني صالحتهم وهو لا يعلم ما أصابه من الحرب الشديد والقتل العتيد وكان قدومهم عليه ليلا والنيران تضرم بين يديه وكان في العسكر رجال قيام في صلاتهم يتلون القرآن فجعل بعضهم يقول لبعض بهذه الفعال ينصرون علينا فلما سمع الترجمان مقالهم أخبر أبا عبيدة بما قد تناجوا بينهم فقال أبو عبيدة انا قوم قد سبقت لنا العناية من ربنا وانا رجال لا نريد من الله ورسوله بدلا ولن نجزع من قتال الأعداء فأخبرهم الترجمان بذلك ثم قال لهم من أنتم قالوا نحن سكان حلب من تجارها وسوقتها ورؤسائها وقد جئنا نطلب منكم الصلح فقال أبو عبيدة فكيف نصالحكم وقد بلغنا أن بطريقكم قد صمم على قتالنا وقد حصن قلعته وجعل فيها ما يقوته سنين واتخذ الجند وأكثر من ذلك
249

وما لكم عندنا صلح فقالوا أيها الأمير ان صاحبنا قد خرج من عندنا يريد حربكم وقتالكم قال أبو عبيدة ومتى خرج قالوا خرج سحر ونحن من بعده وسلكنا طريقا غير طريقه وانا نرجو انه هالك لا محالة لأنه ركب البغي ولم يرض بالصلح وقد أطاع هواه فقد وقع في شرك الردى فلما سمع أبو عبيدة بخروج البطريق خاف على طليعته منه فقال لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم هلك والله كعب ومن معه إنا لله وإنا إليه راجعون ثم اطرق إلى الأرض فقالوا لبعض مشايخ أهل حلب كلم لنا الأمير في الصلح قال فكلمه فقال أبو عبيدة بضجر لا صلح لكم عندنا قال فخاف الشيوخ على أنفسهم وقالوا انا قد اجتمع عندنا من القرى والرساتيق خلق كثير فان صالحتمونا عمرنا لكم الأرض وكنا لكم عونا على عمارتها وعشنا في ظلكم أيام عدلكم وان أنتم أبيتم ذلك فر الناس عنكم وطلبوا أقصى البلاد وشاع الخبر عنكم انكم لا تصالحون فلا يبقى حولكم أحد قال فأعلمه الترجمان بما قالوا فجعل ينظر إليهم وإذا قد برز من القوم وصاح رجل احمر الوجه وكان من حكماء الروم فصيحا بلسان عربي فقال أيها الأمير اسمع ما ألقيه إليك من العلم الذي أنزل الله في الصحف على الأنبياء قال أبو عبيدة قل لنسمع فإن كان حقا علمناه وان كان غير حق لا نسمعه ولا نعمل به وكان اسمه دحداح فقال أيها الأمير ان الله سبحانه وتعالى أنزل على أنبيائه يقول أنا الرب الرحيم خلقت الرحمة وأسكنتها في قلوب المؤمنين وأني لا أرحم من لا يرحم من أحسن أحسنت اليه ومن تجاوز تجاوزت عنه ومن عفا عفوت عنه ومن طلبني وجدني ومن أغاث ملهوفا أمنته يوم القيامة وبسطت له في رزقه وباركت له في عمره وأكترث له أهله ونصرته على عدوه ومن شكر المحسن على احسانه فقد شكرني وأنا قد اتيناك ملهوفين خائفين فأقل عثراتنا وآمن روعاتنا وأحسن الينا
قال فبكى أبو عبيدة من قوله وقرأ * (إن الله يحب المحسنين) * ثم قال اللهم صل على محمد وعلى جميع الأنبياء فبهذا والله أرسل نبينا أرسله الله إلى جميع الخلق والحمد لله على هدايته لنا ثم أقبل على المسلمين وهم حوله وفيهم الرؤساء من المهاجرين والأنصار وقال لهم الحمد لله على هدايته ثم قال أن هؤلاء أهل متجر وسوقة وضياع وهم مستضعفون وقد رأينا أن نحسن إليهم ونصالحهم ونطيب قلوبهم ومتى كانت المدينة في أيدينا والسوقة معنا فإنهم يميروننا بالعلوفة ويعلموننا بما يعزم عليه عدونا ويكونون عونا لنا عليه فقال رجل من المسلمين أصلح الله الأمير ان مدنية القوم بالقرب من القلعة ولا نأمن أن القوم يدلون على عوراتنا ويخبرون بأحوالنا وما أنى القوم ليخدعونا الا ترى إلى بطريقهم وقد خرج يبغي قتالنا وحربنا فكيف يطلب هؤلاء الصلح منا ولا شك انهم مكروا بكعب بن ضمرة ومن معه من المسلمين فقال أبو عبيدة أحسن ظنك بالله وثق بالله فان الله ينصرنا ولا يسلط علينا عدونا فرحم الله من قال خيرا أو صمت وإذا أشرط عليهم النصيحة في صلحهم للمسلمين ثم
250

اقبل على القوم وقال أني أريد أن تبذلوا في صلحكم ما بذله أهل قنسرين 2 فقالوا أيها الأمير ان قنسرين اقدم من مدينتنا وأكثر جمعا ومدينتنا خالية من السكان لجور صاحبنا لأنه قد أخذ أموالنا وغلاتنا وأصعد الكل إلى قلعته وما بقي عندنا الا الضعفاء ومن لا ماله له وانا نسألك الترفق بنا والعدل فينا والاحسان الينا فقال أبو عبيدة فما الذي تريدون أن تبذلوا في صلحكم قالوا نعطي نصف ما أعطى أهل قنسرين فقال أبو عبيدة قد قبلت منكم ذلك على أننا إذا نزلنا بصاحبكم اعنتمونا بالميرة والعلوفة وتبيعون
وتشترون في عسكرنا ولا تكتموا عنا خبرا تكونون تعلمونه من أعدائنا ولا تتركوا جاسوسا يتجسس علينا وان رجع إليكم بطريقكم منهزما تمنعوه أن يصل إلى القلعة فقالوا أيها الأمير أما قولك هذا أن نمنع البطريق أن لا يصعد إلى القلعة فما نجد إلى ذلك من سبيل ولا نقول لك ما لا نفعله ما لنا به طاقة ولا بمن معه من أعوانه وجندوه قال أبو عبيدة فلا تمنعوه من الصعود إلى القلعة وعليكم عهد الله وميثاقه والايمان المؤكدة الغليظة ان لا تقولوا هذا القول وان توفوا لنا كل شرط تم عليكم ثم حلفهم بالايمان التي يعرفونها فحلف القوم عن آخرهم وصالحوا عن رجالهم ودوابهم وأبنائهم ونسائهم وعبيدهم وسائر أهاليهم وانتهوا على ذلك فقال أبو عبيدة انكم قد حلفتم وقد قبلنا قولكم وايمانكم فان أصبنا أحدا قد اخلف أو علم من البطريق علما ولم يعلمنا به فقد وجب عليه القتل واخذ ماله وولده حلال لنا لا يطلبنا الله بذمته ومتى نقضتم ما شرطنا عليكم فلا عهد لكم عندنا ولا ذمة لكم علينا ولنا عليكم الجزية في العام المقبل قال سعيد بن عامر التنوفي فرضي أهل حلب بما شرطه عليهم أبو عبيدة وأخذوا عهدهم وكتب أسماءهم وعزم القوم على الانصراف إلى ديارهم وقال لهم أبو عبيدة على رسلكم حتى أبعث معكم من يسير معكم إلى مأمنكم فقد وجب علينا حفظكم إلى أن تعودوا سالمين إلى بلدكم فقال له الدحداح أيها الأمير اننا نرجع من الطريق الذي جئنا منه وما نريد أحدا يسير معنا فتركهم أبو عبيدة وبات بقية ليلته قلقا على كعب بن ضمرة ومن معه
قال الواقدي ورجع القوم من ليلتهم إلى حلب وانفجر الصبح ولم يصلوا فلما أشرفوا على حلب نظر إليهم بعض أعلاج البطريق وهم راجعون فأقبل إليهم وسألهم من أين أقبلتم وما صنعتم فظنوا أنه من أهل حلب فأخبروه بصلحهم مع أبي عبيدة فتركهم ومضى وان القوم استقبلهم أهل حلب فسالوهم فأخبروهم بالصلح ففرحوا بذلك واقبل العلج حتى اشرف على عسكر يوقنا وهو نازل على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أحاط بهم وهو يظن أنه قد ملكهم وهو يتوقع الصباح إذ أتى عليه العلج فقال له أيها البطريق انك غافل عما نزل بك ودهمك قال له وما ذاك يا ويلك قال له ان أهل بلدك قد صالحوا العرب وكأنك بهم وقد ملكوا القلعة وأخذوا الأموال والنسوان فلما سمع يوقنا ما أخبر به العلج خشي على قلعته أن يملكوها في
251

غيبته فانعكس عليه ما كان يؤمل أن يفوز به من الظفر بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قد قتل من المسلمين نيف وعن المائتين وكعب قد اجهد نفسه في الحرب وأيقنوا أنهم هالكون لا محالة قال كعب بن ضمرة وكنت ذلك اليوم صاحب القوم وأنا أثبتهم في الحرب والى الحرب أنهضهم بهمتي وأدفع عنهم بمهجتي فإذا أجحفني القتال وركبني الحرب التجأت إلى أصحابي وأنا مع ذلك أتوقع فرجا من الله تعالى واترقب راية أبي عبيدة أن تطلع فبعد علينا ذلك ولم تزل الحرب بيننا يوما وليلة إلى الصباح من اليوم الثاني فأقسم بالله ان كان أحدنا ليصلي ولا حصل له زاد يأكله ولا ماء يشربه وأنا بين اليأس والرجاء أترقب طريق قنسرين أن تطلع منه علينا راية الاسلام فما أرى لها أثرا فرأيت عند الصباح جيش العدو وقد اضطرب من جوانبه وقد علت لهم ضجة عظيمة من جميع جوانبه فقلت ما هذا الا مدد لحقهم من البلد أو من الملك فالتجأت إلى كلمة الشدائد وهي لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم قال كعب بن ضمرة فوعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قلت الكلمة حتى رايت جيش العدو وقد انكشف عنا على عقبة فقلت الحمد لله حمد الشاكرين واني أظن أن صائحا صاح بهم من السماء فبددهم أو ملائكة نزلت عليهم كيوم بدر فلم ار لهم اثرا قال كعب فهممت أن اتبعهم فصاح المسلمون إلى اين يا كعب أما كفاك ما نحن فيه انزل بنا إلى الأرض وارض بما نحن فيه من التعب والنصب ونؤدي فرضنا ونريح خيولنا فما رد الله هؤلاء القوم الا بمشيئته وقدرته قال فنزل كعب وشربوا الماء واسبغوا الوضوء وصلوا ما فاتهم وأكلوا زادهم واستقبلوا الراحة
قال الواقدي وابطأ خبر كعب على أبي عبيدة فلما صلى الصبح انفتل من صلاته وأقبل على المسلمين وخاطب من بينهم خالدا وقال يا أبا سليمان ان أخاك أبا عبيدة ما رقد الليلة غما وانه كان يجب علينا الشكر بما فتح الله علينا وان نفسي تحدثني بأن الذين مع كعب ابن ضمرة قد قتلوا لما أخبرني هؤلاء الذين يسألون الصلح ان صاحبهم يوقنا قد سار إليهم ولم أر أثرا وأظن أنه صادف أصحابنا وقتلهم وأفناهم عن آخرهم فقال خالد والله اني ما نمت مثلك من الغم عليهم فما الذي عزمت ان تصنع قال الرحيل ثم أمر الناس بالرحيل وارتحلوا وساروا يريدون حلب وعلى المقدمة خالد بن الوليد وعلى الساقة أبو عبيدة فما كان غير بعيد حتى أشرف على المسلمين خالد بن الوليد وهم نيام وقد أقاموا لهم من الديدبان من يحرسهم فلما أشرف عليهم خالد والراية في يده رفعها فوق رأسه فلما رآها الديدبان صاح النفير يا أنصار الدين فثاروا عن مضاجعهم كأنهم أسد ثائرة واستووا في متون خيولهم واستقبلوا صاحب الراية فعرفوه فصاح بعضهم ببعض هذه والله راية الاسلام والمسلمين فنزل خالد وسلم عليهم واتصلت بهم الساقة واقبل أبو عبيدة فلما نظر كعب بن ضمرة حمدالله وأثنى عليه ونظر إلى موضع القتلى مطروحين وما كان من
252

المسلمين ورأوهم فلما نظروا إلى ذلك عاد فرحهم ترحا واسترجعوا وقالوا لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم إنا لله وإنا إليه راجعون وسأل كعبا كيف قتل أصحابك هؤلاء ومن قتلهم فأخبره كعب بقتال يوقنا وانه أشرف هو وقومه ومن كان معه على الهلاك حتى لم يبق فيهم حركة ونمنا ليلتنا هذه فلما أصبحنا وإذا هم قد صاحوا وانقلبوا راجعين عنا من غير قتال فقال أبو عبيدة فسبحان مسبب الأسباب ليت أبا عبيدة قتل أمامهم ولم يقتلوا تحت رايته ثم أمر بدفن المسلمين بعدما جمعهم زمرا زمرا وصلى عليهم ودفنوهم باسلابهم ودمائهم ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يحشر الله الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله يوم القيامة ودماؤهم على أجسادهم اللون لون الدم والريح ريح المسك والنور يتلألا عليهم ويدخلون الجنة فلما واروهم في حفرهم قال لخالد ان كان عدو الله يوقنا رجع إلى القوم وعلم بصلحهم لنا فيلقون منه تعبا عظيما فألحق بهم فقد وجب علينا أن نذب عنهم لأنهم تحت ذمتنا وارتحل أبو عبيدة يريد حلب فلما وصل إليها رأى البطريق وجنوده قد أحدقوا بأهل البلد وهم يريدون قتلهم ويقال لهم يا ويلكم صالحتم العرب عن أنفسكم وصرتم عونا لهم علينا قالوا قد فعلنا ذلك وانهم قوم منصورون فقال يا ويلكم ان المسيح لا يرضى بفعلكم فوحق المسيح لأقتلنكم عن آخركم أو تخرجون معي إلى قتالهم وتنقضون ما بينكم وبينهم من العهد والميثاق فأخبروني بمن بدأ بهذا الامر حتى أبدا به قال فلم يطيعوه على ذلك فقال لعبيده ادخلوا عليهم وأئتوني بهم لأقتلنهم فقد أخبرني فلان أنه لقيهم وعرفني بهم فهجم العبيد عليهم وجعلوا يقتلونهم على فرشهم وأبواب منازلهم فسمع أخوه يوحنا الضجة في البلد وهم في القلعة فنظر إلى أخيه وهو يقتل في الناس وقد قتل من أهل البلد
ثلاثمائة فصاح بهم وبأخيه على رسلك لا تفعل فان المسيح يغضب عليك وقد نهانا أن نقتل عدونا فكيف بمن هو على ديننا فقال يوقنا لأخيه انهم صالحوا العرب عن البلد وصاروا لهم عونا علينا فقال يوحنا وحق المسيح لا أبقت عليك العرب أبدا وان لهم من يقتص منك
قال ومن يقتص مني قال المسيح يقتلك كما قتلتهم بغير ذنب فقال يوقنا أنت حملتهم على ذلك وأنت أول من أبطش به ثم عمد إلى أخيه وقبض عليه وجرد سيفه ليعلوه به فلما نظر يوحنا إلى أخيه وقد جرد سيفه وعلم أنه هالك رفع رأسه إلى السماء وقال اللهم أشهد على أني مسلم واني مخالف لدين هؤلاء القوم وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ثم قال لأخيه اصنع ما أنت صانع فان كنت قاتلي فاني صائر إلى جنات النعيم فورد على يوقنا من اسلام أخيه مورد عظيم ومن أهل بلده ومن فزعه من المسلمين فحمله الغيظ على أن يرمي برأس أخيه عن جسده والتفت إلى أهل البلد فوجدهم يستغيثون فلا يغاثون ويسألونه فلا يجيبهم ولا يكف عنهم فكثر منهم الضجيج وعلت الجلبة وقد أخذوا عليهم البلد من سائر
253

جوانبها وقد أيس أهل حلب من نفوسهم وإذا بالفرج وقد أتى والمعونة وقد أدركتهم وأشرفت عليهم رايات المسلمين وأبطال الموحدين وهم ينادون بكلمة التوحيد ويقدمهم خالد بن الوليد فلما نظر خالد إلى أهل حلب ولهم ضجيج بالصياح والبكاء قال لأبي عبيدة أيها الأمير هلك والله أهل صلحك وذمامك كما ذكرت فصاح بجواده وحملة الراية وزعق في القوم وقال أفرجوا معاشر الاعلاج عن أهل صلحنا ثم أجاد فيهم الطعن وحمل المسلمون معه وبذلوا السيف في الاعلاج فلما نظر يوقنا إلى ذلك انهزم إلى القلعة ومعه بطارقته قال محصن بن عترة فرج الله عن أهل البلد بقتل الاعلاج يوم حلب في البلد فمن لجأ إلى القلعة سلم ومن طلب الهرب قتلناه قال محصن فكان جملة من قتل يوقنا من أهل صلحنا ثلاثمائة وقتلنا نحن من أصحابه ثلاثة آلاف أو يزيدون فكانت وقعة عجيبة ففرح المسلمون بها فلما قتل من قتل وفرج الله عن أهل حلب ما يجدون أخبروا أبا عبيدة كيف قتل يوقنا أخاه يوحنا وبالقصة جميعها
قال الواقدي فلما سمع يوقنا سيوف المسلمين صعد القلعة هو ومن معه من جنده واستعد للحصار ونصب المجانيق ونشر السلاح على الاسوار وكثر آلة الحصار وأما أهل حلب فإنهم أخرجوا لعساكر المسلمين أربعين أسيرا من البطارقة فقال لهم أبو عبيدة لأي سبب أسرتم هؤلاء قالوا لأنهم من أصحاب يوقنا هربوا الينا فلم نر أن نخفيهم منك لأنهم ليسوا منا ولا معنا في الصلح قال فعرض عليهم الاسلام فأسلم منهم سبعة وأما الباقون فأبوا فضرب رقابهم وقال لهم لقد نصحتم في صلحكم وسترون منا ما يسركم وصار لكم ما لنا وعليكم ما علينا وهذا بطريقكم قد تحصن في هذه القلعة فهل تعرفون لها عورة تدلونا عليها حتى نقاتلهم منها فان فتحها الله 8 علينا جعلناها لكم غنيمة مع ما غنمتم من قومكم حتى نكافئكم بفعلكم الجميل فقالوا أيها الأمير والله ما نعرف لها عورة وان يوقنا قد شحن طرقاتها وقطع مسالكها ووعر فجاجها وهذا ما نعلمه ولولا أنه قتل يوحنا لكان أخذها سهلا لكم فقال أبو عبيدة وما جرى له فأخبروه بخبره وحديثه مع أخيه وانه أسلم بعدما رفع يديه إلى السماء وما ندري ما قال غير اننا سمعنا طرف كلامه وهو يقول اللهم إني أشهد أن لا إله إلا أنت وأن عيسى عبدك ورسولك ومحمدا عبد ورسولك ختمت به الأنبياء وجعلته سيد المرسلين ولا دين أعلى من دينه فاصنع ما أنت صانع فلما اسلم قتله قال فلما سمع أبو عبيدة ذلك قال في أي موضع قتله ثم وثب وأخذ خالدا معه وجماعة من المسلمين وأتوا إلى موضع قتله وهو راس سوق الساعة فوجده ملقى على ظهره وكأنه البدر ليلة تمامه مشيرا بأصبعه إلى السماء وقد مات وأصبعه قائمة فأخذه أبو عبيدة وكفنه وصلى عليه ودفنه في مقام إبراهيم فلما واروه أتى إلى أبي عبيدة رجل من المسلمين فقال أصلح الله الأمير انظر إلى هؤلاء القوم فان كانوا من حزبنا نصحوا ودلونا على عورات قومهم فقال لا والله ما يفعلون ذلك أبدا فعندها اقبل أبو عبيدة على المسلمين وقال
254

أشيروا علي رحمكم الله فقال له ذلك الرجل وكان اسمه يونس بن عمرو الغساني وكان رجلا بصيرا بالشام وجباله ومدنه وجميع أرضه وعارفا بطريق الشام أصلح الله الأمير انظر إلى ما أعرف من البلد وما عندي من الرأي
قال أبو عبيدة تكلم يا ابن عمرو فأنت عندنا ناصح للمسلمين فقال ان الله قد فتح على يدك الشام وسهله وجبله وحزنه ووعره وقتل طاغية الكفر وحاميته وأما بقايا عساكرهم فهي من وراء الدروب وهي جبال وعرة ومضايق والقوم قد رعبت قلوبهم مما أباد الله منهم وليس لهم قلوب يقاتلون بها المسلمين فحاصر هذه القلعة وبث الخيل وشن الغارات وفي بقايا البلاد وشاطى الفرات فما لهم زاد يقوم بهم فتبسم خالد من كلام الغساني وقال هذا والله هو الرأي وأنا أشير عليكم بمشورة أخرى أن نزحف نحو القلعة فلعل الله أن يفتحها في وقتنا هذا فاني أخشى ان طال بنا المقام ان تعطف علينا جيوش الروم من جهة أخرى فيحولوا بينها وبيننا قال أبو عبيدة يا أبا سليمان لقد أشرت فأحسنت وقلت فصدقت ثم امر أبو عبيدة بالزحف إلى القلعة فترجلت الفرسان عن خيولهم وتجردت من ثيابهم واختلط العبيد والسادات وافتخرت القبائل وانبثت العشائر وتجابوا بالاشعار وتداعوا بالأنساب قال مسروق بن مالك فوالله ما رايت في قتال حصون الشام يوما كان أعظم من ذلك اليوم لأننا كنا نشبه دوران الحرب كدوران الرحى تهشم ما دارت عليه وقد برزنا إليهم في أول حربهم وتبادرت ابطال اليمن وسادات ربيعة ومضر يتلو بعضهم بعضا وجعلوا يطلبون القلعة من حيث لا طريق عليها فإذا دنوا منها أخذتهم الحجارة من كل جانب ورموهم بالمجانيق والغرازات وكنت أنا وأصحابي أقرب الناس إلى الأرض ففزعنا راجعين على أعقابنا يدفع بعضنا بعضا لا نظن أن ينجو منا أحد فوقعت الخذلة في المسلمين وقد شدخت منا الحجارة خلقا كثيرا فقتلت بعضنا وبعضنا رمته فكان من جملة من قتل يوم حصار قلعة حلب بالحجارة عامر بن الأصلع الربعي ومالك بن خزعل الربعي وحسان بن حنظلة ومروان بن عبد الله وسليمان بن فارغ العامري وعطاف بن سالم الكلابي وسراقة بن مسلم بن عوف العدوي ورجال من أهل اليمن من آل عامر ومن بني كلاب وغيرهم وسبعة من بني عبد الله قال مرزوق بن مالك فلقد كنا نرى بعد ذلك بسنين خلقا كثيرة عرجا من يوم حصار قلعة حلب فعندها نصب أبو عبيدة رايته خارج المدينة وجعل ينادي بالمسلمين فاجتمعوا اليه فقال أيها الناس انكم قاتلتم اليوم على غرة فادفنوا الشهداء وشدوا كل من أصابه جرح فانتدب المسلمون إلى ذلك وفرح الروم بهزيمة المسلمين وما قد نزل بهم فقال لهم يوقنا ان العرب لا تدنوا من القلعة بعد هذا اليوم ابدا وان حاصرونا
فلاكيدنهم ولاهبطن إلى عسكرهم
قال الواقدي ولقد حدثني عبد الله بن سليمان الدينوري وكان ممن نقل أخبار الشام وفتوحه عن ثقات المسلمين قال حدثني عمرو أن يوقنا انتخب ألفين من خيار
255

بطارقته وابطاله وقال لهم انزلوا مسرعين وليحذر بعضكم بعضا وميلوا على طرف عسكر المسلمين إذا خمدت نيرانهم واغتنموا غرتهم وأمر عليهم وزيره فنزلوا ليلا من القلعة وجعلوا يدورون حول العسكر إلى أن أتوا إلى مكان وقد خمدت نيرانهم وكان القوم بادية من أهل اليمن مثل مراد وبني كلاب وعبيدهم قال عبد الله بن صفوان البكي كنا تلك الليلة غادين من عدونا آمنين لكثرتنا وقد غفل حرسنا فلم نشعر الا وجماعة الروم قد هجموا علينا وهم ينادون بلغتهم وقد أعلنوا التبهرج بزينتهم فلا نعلم ما يقولون ووضعوا السيف فينا فكان النجيب منا من استوى على جواده وطلب النجاة وهو لا يعلم من أين هي ولا كيف يتخلص وقد وقعت الجندلة في أبطال المسلمين وعساكرهم والقوم ينادون النفير النفير دهينا ورب الكعبة وهم يسرعون إلى خيمة أبي عبيدة وينادون أيها الأمير كبسنا يوقنا فعندها ركب الأمير في بعض الرجال وجعل يدور حول العسكر فنظر صاحب الروم إلى العرب وقد لحقته فصاح بأصحابه من كان أخذ شيئا فليتركه ويطلب نجاة نفسه قال عبد الله بن صفوان أخذوا من رجالنا نحو خمسين رجلا من أخلاط الناس وأكثرهم من ربيعة ومضر ومضوا يجمع بعضهم بعضا ويطلبون القلعة فلما نظر خالد إلى ذلك حمل في أصحابه واقتطع من الروم زهاء من مائة رجل ووضع فيهم السيف فقتلهم عن آخرهم فلما وصل أصحاب يوقنا إلى القلعة فتح لهم وأدخلهم فلما أضاء الفجر وطلعت الشمس دعا يوقنا بالمسلمين الخمسين رجلا وهم موثقون بالحبال فقربهم إلى موضع ينظرهم المسلمون ويسمعون أصواتهم وهم يقولون لا إله إلا الله محمد رسول الله حتى قتلوا عن آخرهم فلما نظر أبو عبيدة إلى ذلك أمر مناديا ينادي في عسكره عزيمة من الله ورسوله ومن الأمير أبي عبيدة على كل رجل لا يكل حرسه إلى غيره ولكن كل رجل منكم حارس نفسه ولا يتكلم بعضكم مع بعض قال فأخذ القوم حذرهم وأعدوا حرسهم وأقبل يوقنا يدبر أمره في مكيدة أخرى ليكيد بها المسلمين إذ علم أنهم محاصرون ومع ذلك جواسيسه تأتيه بالاخبار في الليل والنهار وكان أعظم جواسيسه من متنصرة العرب لأنهم كانوا يحسنون لسان الرومية
قال فبينما يؤقنا ذات يوم جالس في قلعته والبطارقة من حوله وقد أضر بهم الحصار وأشد ما كان عليهم من أهل المدينة لأنهم لا ينظرون إلى رجل من أصحابه يعرفونه الا أخذوه وسلموه للمسلمين وإذا بجاسوس قد اقبل وهو من عيونه فقال له أيها السيد أن أردت أن تكيد العرب فهذا وقتك فقال له يوقنا وكيف ذلك وما الذي عندك من الخبر قال إن العلافة منهم قد خرجوا إلى وادي بطنان وقد صالحوا أهله وعلوفة العرب ميرتهم منه وقد رأيت منهم جمالا وبغالا ومعهم طائفة منهم وعليهم القمصان الخلقة وبأيديهم الرماح المشبعة وهم يقصدون القرى في طلب الميرة وهم قليلون وليس هم في كثرة فلما سمع يوقنا ذلك من جاسوسه اختار ألفا من
256

أصحابه وقال لهم أصلحوا شأنكم فوحق المسيح لاضيقن على العرب مسالكهم ولاقطعن عليهم طرقاتهم فلما أقبل الليل فتح لهم الباب وسار الجاسوس أمامهم حتى استقاموا على الجادة وجعلوا يسيرون تحت جنح الليل فبينما هم كذلك إذ هم براع ومعه سرح من البقر يريد بها بلده وقد خرج بها من بلد آخر وهو يسير بها سيرا عنيفا فلما نظروا اليه أسرعوا نحوه وقالوا أحسست بأحد من العرب قد عبر عليك قال نعم والشمس عند الغروب قد اصفرت وهم نحو مائة رجل على خيول وهم مسرعون ومعهم جمال وبغال وهم يريدون الميرة من هذا الوادي من الذين هم في صلحهم ولسنا نخاف منهم فقال له المقدم عليهم الآن قد ألقيت علينا من صلح أهل هذا الوادي ما لم يكن عندنا منه خبر فبحق المسيح أخبرنا بأي طريق ذهبت العرب فقال من ههنا وأومأ بيده إلى الشرق فصار البطريق بمن معه ولم يعرفوا أن صاحب البقر منهم حتى إذا قرب الصبح أشرفوا على خيل المسلمين وكان الأمير عليها يقال له مناوش فلما نظر مناوش إلى خيل الروم قد أقبلت أقبل على أصحابه وقال يا بني العرب هذا بطريق من بطارقة الروم قد أقبل الينا فدونكم إياه والجهاد والصبر على الشدة تنالوا الجنة ثم حمل وحمل معه أصحابه فحملت عليهم الروم فثبت لهم المسلمون واقتتلوا قتالا شديدا وقتل مناوش بن الضحاك والغطريف بن ثابت ومنيع بن ثابت ومنيع بن عاصم وكهلان بن مرة فقتل من المسلمين ثلاثون رجلا كلهم من طيء وانهزم الباقون وملكت الروم ما كان مع المسلمين من الإبل والبغال وعاد المسلمون منهزمين فعند ذلك أقبل البطريق على أصحابه وقال ارموا الأحمال عن هذه الدواب واعقروها وسوقوا بقية الدواب بما عليها فإنها لنا ميرة واطلبوا الجبل واختفوا عن أعين العرب والا ففي هذه الساعة تطلع علينا خيول العرب كالرياح تهزمكم فأكمنوا حتى إذا جاء الليل طلبنا القلعة واعتصمنا بها ففعلوا ذلك وقتلوا الجمال وساقوا الدواب والتجؤا في الجبل إلى قرية فأقاموا بقية يومهم يرقبون الليل ليرجعوا إلى القلعة وأقاموا لهم ديدبانا قال عوف صباح الطائي كنت في الخيل لما قتل عمي مناوش ونحن في قلة وقد دهمتنا الخيل فلما نظرنا إلى كثرة الروم وشدة بأسهم مع قلتنا أخذنا على أنفسنا وأتينا المسلمين فبادر الينا أبو عبيدة وقال لنا ما وراءكم قلنا الحرب والطعان قتل منا مناوش وقتل معه خلق كثير من فرساننا وأخذ ما كان معنا من الزاد والدواب
فقال أبو عبيدة وما الذي دهاكم وقد حاصر الله الروم ما يجسر أحد أن يخرج منهم قالوا لا علم لنا غير أنا رأينا بطريقا عظيما قد أشرف علينا وهو في عدة حصنة وخيول كثيرة مستعدين للقتال لا نعلم عددهم ولا من اين أتى مددهم فهجموا علينا ونحن سائرون فأصيب أميرنا وقتل رجالنا وأخذوا ما كان معنا من الدواب والزاد فلما سمع أبو عبيدة ذلك دعا بخالد بن الوليد اليه وقال يا أبا سليمان أنت لها والمعد لمثلها وأنا
257

واثق بالله ثم بك مع اني أستخير الله في أموري سر على بركة الله تعالى وخذ معك من المسلمين من أردت لعلك أن تقفوا القوم وتعاني موضع اثر الوقعة وتتبع آثارهم عسى الله أن يوقعنا بهم واطلبهم أينما كانوا وحيث ساروا لعلك تأخذ بثأر المسلمين وأعلم اننا صالحنا أهل الوادي واننا لا ننقض عهدنا ولا نحول عن قولنا الا ان يكون القوم قد مكروا بنا فنجد إلى قتالهم سبيلا فاتق الله فيهم سر يرحمك الله قال فأسرع خالد إلى خيمته ولبس سلاحه واستوى على متن جواده وهم بالمسير وحده فقال له أبو عبيدة إلى أين يا أبا سليمان قال له اسارع إلى ما أمرتني به فقال له خذ من أردت معك من المسلمين فقال خالد أنا أمضي وحدي وما أريد أحدا فقال له أبو عبيدة كيف تمضي وحدك وعدوك في عدد كثير قال خالد لو كانوا في ألف أو ألفين ألقاهم بمعونة الله تعالى فقال له أبو عبيدة انك كذلك ولكن خذ معك رجالا قال فاخذ ضرارا وأمثاله
وسار حتى أتى إلى موضع الوقعة فرأى القتلى مطروحين ورأى حولهم أهل الوادي وهم يبكون خوفا من المسلمين على أنفسهم وذراريهم وان العرب تطالبهم بهم فلما طلع عليهم خالد ومن معه كأنهم شعلة نار تصارخ القوم في وجهه والقوا أنفسهم بين يديه فقال لهم خالد من هؤلاء القوم الذين قتلوا أصحابنا قالوا أنا نحن بريئون من دماء أصحابكم ونحن في صلحكم فاستحلفهم خالد انهم لا يعلمون من قتلهم فحلفوا له فقال لهم من الذي أوقع بأصحابي فقالوا بطريق بعثه يوقنا من القلعة ومعه ألف فارس من أشد قومه وان لهم في عسكركم عيونا يخبرونه بما أنتم فيه كل ساعة فقال لهم وفي أي طريق قصدوا قالوا في هذا الطريق فقال خالد أو ما حلفتم ان ما عندكم علم بهم قالوا هذا الذي يخبرك من أهل حلب قد أتى يشتري طعاما ولولا انك أقبلت في هذه الساعة ما كنا عرفنا من قتلهم فقال له خالد أعلى هذا الطريق اخذوا فقال له الرجل نعم ورأيتهم يطلبون الجبل فقال خالد لأصحابه ان القوم علموا انهم لا بد لهم من خيل تطلبهم وتتبعهم وقد عدلوا عن طريقنا حتى إذا هجم عليهم الليل رجعوا إلى قلعتهم فعولوا على المسير في طلبهم ثم إنهم ارخوا الأعنة وخالد يقدمهم وقد أخذ معه رجالا من المعاهدين يقفون بهم اثر الطريق والقوم فلما حصلوا على الطريق قال خالد لواحد من المعاهدين ألهم طريق إلى قلعتهم غير هذا قال نعم ولكن كن ههنا فإنك تفوز بهم إن شاء الله تعالى فنزل خالد ومن معه في الوادي وهم يرقبون الطريق فما مضى من الليل الا قليل إذ سمع وقع حوافر الخيل والبطريق أمامهم والخيل من ورائه وهو يزجرهم ويحثهم على المسير فلما توسطوهم صاح خالد صيحة شديدة ووثب خالد كأنه الأسد وخرج عليهم هو وأصحابه فما كان قصد خالد غير البطريق وظن أنه يوقنا فضربه ضربة رماه نصفين وقد وضعوا السيف فيهم وجعلوا يطلبونهم وهم في الهرب فلم ينج منهم الا من أطال الله أجله وحازوا جميع ما معهم وأتوا برأس البطريق إلى أبي عبيدة على رأس رمح فوجدوه
258

متلهفا على قدومهم فلما أشرف خالد بمن معه من الأسارى والاسلاب والدواب هللوا وكبروا فأجابهم العسكر بالتهليل والتكبير قال وأتى خالد ومن معه بالرأس والاسلاب والأسارى فكانوا أزيد من ثلاثمائة أسير ورؤوس القتلى سبعمائة فعرضوا عليهم الاسلام فأبوا وقالوا نحن نعطيك الفداء فقال خالد نضرب رقابهم قبال القلعة لنوهن بذلك عدو الله قال فضربت رقابهم قبال القلعة فقال خالد أنا كنا نظن أنا محاصرون القوم وإذا نحن بخلاف ذلك وهم يرقبون غفلتنا وينتظرون غرتنا وقد قتلوا جمالنا والدواب والصواب أن نجعل عليهم حرسا في كل طريق يمكننا ولا نمكنهم أن يخرجوا من قلعتهم ونضيق عليهم ما استطعنا قال أبو عبيدة جزاك الله خيرا يا أبا سليمان ما ابصرك بالأمور فلما كان من الغد وصلى أبو عبيدة بالناس صلاة الفجر دعا بعبد الرحمن بن أبي بكر وبضرار بن الأزور وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وقيس بن هبيرة وميسرة بن مسروق ففرقهم حول القلعة ومعهم من اختاروا وأمرهم ان يمسكوا الطريق والمسالك على يوقنا حتى لو طار طائر منها أو إليها اقتنصوه وأقام القوم على ذلك مدة فلما طال عليهم ذلك ضجر أبو عبيدة لطول مقامه فأمر الناس بالرحيل عنهم وعزم أن يتباعد عنهم أي عن القلعة لعل أن يجد منهم غفلة فينتهزها قال فبعد عن المدينة فنزل بقرية بقرب منها يقال لها النيرب وهو يريد حيلة يصل بها إلى يوقنا قال ويوقنا لا ينزل من القلعة ولا يفتح بابها ففكر أبو عبيدة غاية الفكرة وقال لخالد يا أبا سليمان أن جواسيس عدو الله تكشف أخبارنا وتوصلها اليه وتخوفه فاني أقسم عليك يا أبا سليمان الا ما جلت في عسكرنا جولة واختبرت أمر الناس فلعلك تقع بأحد من جواسيسه قال فركب خالد وأمر الناس أن يدوروا في عسكرهم وأن يقبضوا على كل من أنكروه قال فبينما خالد في طوافه إذ نظر إلى رجل من العرب المتنصرة وبين يديه عباءة يقلبها فجعل خالد يرقبه فاستراب الرجل منه فناداه وقال من أي الناس أنت يا أخا العرب قال أنا رجل من اليمن قال من أيها قال فأراد أن يقول وينتمي إلى غير قبيلته فجرى الحق على لسانه فقال أنا من غسان فلما سمع خالد كلامه قبض عليه وقال له يا عدو الله أنت عين علينا لعدونا قال ما أنا متنصر وأنا مسلم فأتى به إلى أبي عبيدة وقال أيها الأمير قد رابني أمر هذا لأنني ما رأيته قط إلا يومي هذا وقد ذكر أنه من غسان ولا شك أنه من عباد الصليب فقال أبو عبيدة اختبره يا أبا سليمان قال وكيف أختبره قال اختبره بالقرآن والصلاة فان أجابك والا فهو كافر فقال له خالد فصل ركعتين واجهر بالقراءة فيهما فلم يدر ما يقول فقال له خالد أنت يا عدو الله عين علينا ثم استخبره عن شأنه فأخبره وأقر أنه عين عليهم فقال له خالد أنت وحدك قال لا ولكنا ثلاثة أنا أحدهم والاثنان قد ذهبا إلى القلعة ليخبرا يوقنا بخبركم وأنا قد تخلفت لانظر ما يكون من أمركم
فقال أبو عبيدة أخبرني أيما أحب إليك القتل أو الاسلام فليس بعدهما شيء فقال الغساني أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ثم رجع
259

أبو عبيدة إلى حلب وما زالت القلعة محاصرة أربعة أشهر وقيل خمسة اشهر وابطأ خبر أبي عبيدة على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكتب إلى أبي عبيدة يقول بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر إلى عامله أبي عبيدة سلام عليك فاني أحمد الله الذي لا إله إلا هو واصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم واعلم يا أبا عبيدة أن بانقطاع كتابك وابطاء خبرك يكثر قلقي ويضني جسدي على اخواني المسلمين وما لي ليل ولا نهار الا وقلبي عندكم ومعكم فإذا لم يأت منك خبر ولا رسول فان عقلي طائر وفكري حائر وكأنك لا تكتب إلي الا بالفتح أو الغنيمة واعلم يا أبا عبيدة أنني وان غائبا عنكم فان همتي عندكم واني داعي لكم وقلقي عليكم كقلق الوالدة الشفوقة على ولدها فإذا قرأت كتابي هذا فكن للاسلام والمسلمين عضدا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعث الكتاب إلى أبي عبيدة فلما ورد عليه وقرأه عليهم قال معاشر المسلمين إذا كان أمير المؤمنين داعيا لكم وراضيا عنكم في فعالكم فان الله ينصركم على عدوكم ثم كتب جواب الكتاب يقول بسم الله الرحمن الرحيم إلى أبي عبد الله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب من عامله بالشام أبي عبيدة سلام عليك وأني أحمد الله تعالى وأصلي على نبيه وبعد يا أمير المؤمنين فان الله تعالى له الحمد قد فتح على أيدينا قنسرين وقد شننا الغارة على العواصم وقد فتح الله علينا مدينة حلب صلحا وقد عصت علينا قلعتها وبها خلق كثير مع بطريقها يوقنا وقد كادنا مرارا وذكر له ما جرى له مع أخيه يوحنا وأنه قتل منا رجالا ورزقهم الله الشهادة على يديه ثم إنه ذكر له من قتل والله تعالى من ورائه بالمرصاد وقد أردنا الحيلة عليه فلم نقدر وأردت الرحيل عنه وعن محاصرته إلى البلاد التي بين حلب وأنطاكية وأنا منتظر جوابك والسلام عليك وعلى جميع المسلمين وبعث الكتاب مع عبد الله بن قرط وجعدة بن جبير فسار إلى أن اخذا في طريق هيشت العتيقة وجدا في السير حتى قطعا أرض الجفار إلى صكاصكة وهي حصن العرب قريبة من تيما فلما وصلا إليها عارضهما فارس
وعليه درع سابغ وعلى رأسه بيضة تلمع وهو معتقل برمح كأنه قد برز إلى عدوه أو قاصد إلى قتال فلما نظر اليهما قصدهما فقال عبد الله بن قرط لجعدة ابن جبير يا ويلك أما ترى هذا الفارس وقد عارضنا في مثل هذا المكان على مثل هذه الحالة فقال له جعدة وما عسى أن نتخوف من فرسان العرب ورجالها وليس في هذا الموضع من رفع عمودا أو ضرب وتدا الا وأصبح معنا ودخل تحت طاعتنا وفي شريعتنا فلما قرب الفارس منا سلم علينا وقال من أين أقبلتما والى اين قاصدان فقالا له نحن رسولان من الأمير أبي عبيدة إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فمن أنت أيها الرجل قال أنا هلال بن بدر الطائي فقالا له ما لنا نرى عليك آلة الحرب قال إني خرجت في طوائف من قومي وجماعة من أصحابي نريد الشام للجهاد لكتاب ورد علينا من عمر بن الخطاب فلما رأيتكما في بطن الوادي قصدتكما لانظر ما قصتكما ولي أصحاب من ورائي مقبلون
260

ثم سلم عليهما وولى فركضا مطيهما وسارا وإذا بالخيل قد أشرفت والإبل قد أقبلت تتبع هلال بن بدر ارسالا يتبع بعضها بعضا إلى أن لحقوه فأخبرهم بقصة صاحبي رسول الله صلى الله عليه وسلم ففرحوا بذلك وساروا يريدون الشام وأما عبد الله بن قرط وجعدة بن جبير فإنهما وصلا المدينة ودخلا المسجد وسلما على عمر بن الخطاب وعلى المسلمين ودفعا له الكتاب فلما قرأه استبشر ورفع كفيه إلى السماء وقال اللهم اكف الناس شر كل ذي شر ثم امر مناديا في الناس الصلاة جامعة فلما اجتمع الناس قرا عليهم كتاب أبي عبيدة فلما قرأه قدم عليه من حضرموت وأقاصي اليمن من همدان ومدان وسبا ومارب يسألونه أن ينفذهم إلى الشام فقال لهم عمر في كم أنتم بارك الله فيكم قالوا نحن زهاء من أربعمائة فارس وثلاثمائة مطية مردفين ومعنا أناس يمشون على أقدامهم لا ركاب لهم فإن كان عند أمير المؤمنين ما يحملهم عليه حتى نصل إلى عدونا فقال لهم عمر وكم يبلغ الرجال الذين معكم قالوا أربعين ومائة رجل فقال لهم عرب أو موال قالوا عرب وموال أذن لهم ساداتهم في الجهاد والمسير إلى الأعداء فعندها دعا عمر بعبد الله ابنه رضي الله عنه وقال أمض إلى مال الصدقات فأت القوم بسبعين راحلة ليعتقبوا عليها ويحملوا زادهم وميرتهم على ظهورها فأسرع عبد الله بن عمر وأتى بسبعين بعيرا وسلمها إليهم وقال لهم جدوا رحمكم الله إلى اخوانكم المسلمين واسرعوا إلى حرب عدوكم ثم كتب إلى أبي عبيدة اما بعد فقد ورد علي كتابك مع رسلك فسرني ما سمعت من الفتح والنصر على أعدائكم ومن قتل من الشهداء وأما ما ذكرته من انصرافك إلى البلاد التي بين حلب وأنطاكية وتترك القلعة ومن فيها فهذا رأي غير صواب تترك رجلا قد دنوت من دياره وملكت مدينته ثم ترحل فيبلغ إلى جميع النواحي أنك لم تقدر عليه ولم تصل اليه فيضعف ذكرك ويعلو ذكره ويطمع من يطمع ويجترىء عليك أجناد الروم خاصتهم وعامتهم وترجع اليه الجواسيس وتكاتب ملوكها في أمرك فإياك ان تبرح عن مجاهدته حتى يقتله الله أو يسلم إليك إن شاء الله تعالى أو يحكم الله وهو خير الحاكمين وبث الخيل في السهل والوعر والضيق والسعة وأكناف الجبال والأودية وشن الغارات في حدود المفازات ومن صالحكم منهم فاقبل صلحه ومن سالمك فسالمه والله خليفتي عليك وعلى المسلمين وقد أنقذت كتابي إليك ومعه عصبة من حضرموت وغيرهم وأهل مشايخ اليمن ممن وهب نفسه لله تعالى ورغب في الجهاد في سبيل الله وهم عرب وموال فرسان ورجال والمدد يأتيك متواترا إن شاء الله تعالى والسلام وختم الكتاب وسلمه لعبد الله بن قرط وجعدة وجعل القوم يجدون في سيرهم ومع ذلك يسألون عبد الله بن قرط وصاحبه عن بلاد الشام وفتح البلاد وقتل الروم إلى أن سألوهما عن مستقر العسكر فقال لهم عبد الله ان جميع المسلمين وأميرهم محاصرون بقلعة حلب وفيها عظيم من عظماء الروم ومعه أعلاج من أصحابه وقد تحصنوا في رأس قلعته فقالوا له يا ابن قرط ما لهؤلاء لا يدخلون في جملة من صالح من أصحابهم فقال لهم يا معاشر
261

العرب انا لم نر بعد وقعة اليرموك رجالا أشجع من هذا فلقد قتل رجالا وجندل أبطالا وأنه ليغير على أطراف العسكر في وقت صلاتهم فيقتل رجالهم وينهب أموالهم ويرجع إلى قلعته وربما أنه يستتر في سواد الليل في طلب العلافة فيقع بهم فيأمر بهم ويأخذ دوابهم وجميع زادهم وميرتهم ثم يعود إلى قلعته ونحن لا نعلم به وان المسلمين له محاصرون ومنه خائفون حذرون
قال وكان فيمن سمع كلامه وفهمه مولى من موالي بني طريف من ملوك كندة ويقال له دامس ويكنى بأبي الأهوال مشهور باسمه وكنيته وكان اسود كثير السواد بصاصا كأنه النخلة السحوق إذا ركب الفرس العالي من الخيل تخط رجلاه بالأرض وان ركب البعير العالي تقارب ركبتاه رجلي البعير وكان فارسا شجاعا قويا قد شاع ذكره ونما أمره وعلا قدره في بلاد كندة وأودية حضرموت وجبال مهرة وارض الشحر وقد أخاف البادية ونهب أموال الحاضرة وكان مع ذلك لا تدركه الخيل العتاة وكان إذا أدركته العرب في باديتها تعجبت من صولته وشجاعته وبراعته فلما سمع دامس أبو الهول بذكر يوقنا وما فعل بالمسلمين كاد أن يتمزق غيظا وحنقا وقال لعبد الله ابن قرط أبشر يا أخا العرب فوالله لاجتهدن في أن يخذله الله على يدي فلما سمع عبد الله كلامه جعل ينظر اليه شزرا وقال يا ابن السوداء لقد حدثتك نفسك آمالا لا تبلغها وأشياء لا تدركها يا ويلك ألم تعلم أن فرسان المسلمين وأبطال الموحدين بأجمعهم له محاصرون ولأصحابه محاربون ومع ذلك لا يقدر أحد له على شر وقد كاد ملوكا وقهرها فلما سمع دامس كلام عبد الله بن قرط غضب وقال والله يا عبد الله لولا ما يلزمني لك من أخوة الاسلام لبدأت بك قبله فاحذر أن تزدري بالرجال وان أحببت ان تعرفني فسل عني من حضر من أهلي وما قد تقدم من فعلي الذي من ذكره تطيش العقول وتضيق الصدور كم من عساكر قتلتها وجموع فرقتها ومحافل بددتها وغارات شننتها ولا يضام لي جار ولا يلحقني عار وبحمدالله أنا فارس كرار غير فرار ثم تركه مغضبا وسار أمام الناس وان قوما من العرب قالوا لعبد الله بن قرط يا أخا العرب ارفق بنفسك فإنك وأيم الله تخاطب رجلا يقرب اليه البعيد ويهون عليه الصعب الشديد وانه لجليد فريد لا تهوله الرجال ولا تفزعه الابطال ان كان في حرب كان في أولها لا يدركه من طلب ولا يفوته من هرب فقال عبد الله لقد كثر وصفكم وأطنبتكم في ذكركم وأرجو أن يجعل الله فيه خيرا وفرجا للمسلمين قال ثم أخذ القوم في جد السير حتى قدموا حلب إلى أبي عبيدة وهو منازل أهل قلعة حلب ومحاصرها وقد أحاط المسلمون بالقلعة من كل جانب فلما أشرف القوم عليهم أخذوا في زينتهم وجردوا سيوفهم وأشهروا سلاحهم ونشروا راياتهم وكبروا بأجمعهم وصلو على نبيهم فأجابهم أهل العسكر بالتكبير من كل جانب واستقبلهم أبو عبيدة وسلم عليهم وسلموا عليه ونزل كل قوم عند بني
عمهم وعشيرتهم ويوقنا ما زال في كل ليلة ينشط إليهم برجاله ويناوشهم وذلك أنه كان لا يقاتلهم الا قليلا ولا يظهر من القلعة نهارا ابدا وكان
262

أكثر خروجه في وقت خروج الناس فلما بات المسلمون القادمون في تلك الليلة ونظرت طيء وسنيس ونبهان وكندة وحضرموت إلى شدة الحرس وعظم حرسهم وحذرهم اقبل دامس أبو الهول على أهله الذين نزل عليهم من طريف وكندة فقال لهم دامس والله ما أنتم محاصرون لا محالة فقالوا له وكيف ذلك قال لان العدو في راس قلعة وأنتم قدام العدو من الأرض لقربكم ولا عسكر بازائكم تخافونه فما هذا الخوف قالوا يا أبا الهول ان صاحب هذه القلعة علج ميشوم يرتقب غفلتنا ويغير على أطرافنا ويأتينا من امننا فبينما دامس يخاطب القوم وإذا بالضجة قد وقعت في طرف عسكر المسلمين ولها جلبة عظيمة فوقف دامس منتضيا حسامه متنكبا حجفته وطلب الناحية التي سمع منها الصوت حتى بلغ إليها وإذا بيوقنا في خمسمائة رجل أبطال أنجاد وليوث شداد وقد وجد غرة من القوم فلما نظر دامس إلى الروم وقع في وسطهم وجعل يقول
* أنا أبو الهول واسمي دامس
* أكر في جمعهم مداعس
* ليث هزبر بطل ممارس
* مدمر كل عدو ناكس
*
قال وجعل يضرب في أعراضهم بسيفه ومعه طائفة من بني طريف من شجعانهم وفرسانهم فلما نظر يوقنا ما نزل به تقهقر إلى ورائه وقد قتل من رجاله مائتان ودامس يكر عليهم ويتبعهم إلى رأس درب القلعة وكندة من ورائه فناداهم أبو عبيدة عزيمة مني عليكم أن لا يتبعهم منكم أحد في ظلمة هذا الليل فقال الناس يا أبا الهول ان الأمير يعزم علينا وعليك بالرجوع فارجع رحمك الله فرجع دامس إلى رحله وتراجع القوم إلى رحالهم وقد أبليت كندة بلاء حسنا والناس قد خرجوا فلما أصبح الناس اجتمعوا للصلاة مع أبي عبيدة فلما قضيت الصلاة تفرقوا ولم يبق الا نفر يسير من أمراء المسلمين فجعلوا يذكرون ليلتهم فقال خالد أصلح الله الأمير لقد رايت كندة وقد أبليت بلاء حسنا وقد تقدمت رجالها وثبتت ابطالها وما زالت تضرب حتى أزالت عنا حامية الكفر والعدو فقال أبو عبيدة صدقت والله يا أبا سليمان والله لقد أسعدت الناس كندة بثباتها والله لقد سمعتم يقولون أحسن دامس وأجاد أبو الهول فقام إلى أبي عبيدة رجل من رؤساء كندة يقال له سراقة بن مرداس بن يكرب فقال أصلح الله الأمير دامس هو أبو الهول وهو مولى طريف قدم مع هذا الوفد الذي ورد بالأمس وهو رجل يفجر ويهول على الإبطال ويفضح الشجعان وبذل الأقران لا يهوله جمع ولا يصعب عليه غارة فقال أبو عبيدة لخالد أما تسمع كلام سراقة في عبدهم دامس فقال خالد يوشك أن يكون صادقا في قوله ولقد سمعت بذكره وحديثه وشجاعته وبراعته ولقد أخبرني رجل يقال له النعمان بن عشيرة المهري أن دامسا هذا أغار وحده وهم على ساحل البحر في سبعين رجلا من أهل مهرة وكان دامس هذا يطلبهم لأجل ثأر كان له عند القوم وكانوا يخافون منه ومن شره وبأسه
263

فكانوا مع ذلك يفتدون بأموالهم ودوابهم ويهربون إلى أطراف الجبال وسواحل البحر حذرا منه وكان مع ذلك يسال عن أخبارهم ويطلع على آثارهم فلما أصبح عند نزولهم على ساحل البحر استصرخ قومه للغزو فتشاغلوا ولم ينفر منهم أحد معه وكان خبيرا بالبلاد سهلها ووعرها برها وبحرها فلما ايس من قومه دخل إلى خبايته واحتمل رزمة على عاتقه فأتاه أناس من قومه وقالوا له إلى اين تريد وما هذا الذي معك فقال يا قوم انا أريد الغارة على بني الشعر وآخذ بالثار واكشف العار فقال له مشايخ الحي ما رأينا أعجب من أمرك وأنت تعلم أن بني الشعر سبعون فمن يريد أن يغير عليهم وحده ويأخذ منهم بالثأر وما سمعنا بهذا ابدا وانا نرى ان تقصد جواد وكانت جواد هذه أمة لبني حياس من الحضارمة وكانت بقرية من قرى حضرموت يقال لها أسفل وكان دامس هذا يهواها وكل ما يأخذه من الأموال والخيل والإبل يدفعه إليها ولا يعظم عليه كثرته وكان لا يرضى لها بالقليل ولا يشبع لها بالكثير فظن القوم انه مضى إليها وقصد نحوها بحملته التي معه من رزمته فقال لهم وأيم الله اني بطل فما تظنون وسوف تعلمون أن ما أفعله الحق واليقين قال فرجع قومه وتركوه وسار إلى أن أتى إلى مرعى قومه فأخذ راحلته من إبلهم ورحلها واخذ سيفه وحجفته وجعل الرزمة تحته وسار بقية يومه وليلته حتى إذ كان آخر الليل عطف بالراحلة إلى بعض الأودية فأبركها وحل رحلها وعقلها ودورها ترعى معقولة ثم كمن بين حجرين وكان قريبا من القوم ويخاف ان يدوروا به فلما مضى عليه نهاره واقبل ليله أتى إلى راحلته وأبركها ورحلها واستوى في كورها وسار حتى اشرف على نار القوم فعدل بناقته حتى اشرف على الحي وكان في ذلك الشرف شجر من الطلح فأبرك ناقته وزم شدقها لئلا ترغو فيسمع القوم رغاءها ثم عمد إلى رزمته فحلها واستخرج منها الثياب واتى إلى تلك الشجرة فجعل على كل عود منها مثل عمامة الرجل ويأتي بالعود ينصبه ويسنده بالحجارة ويطرح عليه الإزار ولم يزل حتى أقام أربعين عودا على هذه الصفة وجعل عليه حلة حمراء أرجوانية وهبط من ذلك الشرف الذي عليه الثياب وقصد الحي ودار حول بيوتهم وتفكر في أمره وكيف يحتال وقد مضى أكثر الليل ثم صبر إلى أن طلع الفجر وسار نحو الساحل فلما قرب منهم صاح فيهم وقال دنا أجلكم أنا أبو الهول ولقد أصبحتم بالويل وأخذتم من البر والبحر وجعل ينادي يا لثار طريف يا آل طريف يا آل كندة فلما وقع صوته في أسماعهم ذهلت رجالهم وتصارخت نساؤهم وفزع القوم بين يديه من البيوت هاربين والى الساحل نحو الجبل طالبين وهو من خلفهم فلما رأوه وحده شجع بعضهم بعضا ورجعوا اليه يقاتلونه وطمعوا فيه لما رأوه وحده ولم يروا أحدا من ورائه وأخذوا في طلبه فجعل يكر عليهم ويرجع عنهم ويقتل رجلا بعد رجل فلما نظروا إلى شدة بأسه وعظم مراسه وهول صولته وشدة حملته أرادوا أن يسبقوه إلى الشرف ليأتوا اليه من ورائه فلما علم أنهم قد قاربوا الأعواد التي عملها وعليها الثياب خاف أن ينظروا إليها
264

ويعلموا ما فعله من المكر فسبقهم إلى الشرف وسار أمامهم وأقبل على الأعواد مخاطبا لها كأنه يخاطب الرجال وهو يقول يا أهل كندة يا أهل طريف إياكم والقوم قد أتتكم
الرجال فلا تحملوا عليهم وأنا أفديكم بنفسي فان رأيتم علي الحيف فاحملوا على القوم فمد القوم ابصارهم اليه فوجدوا عنده الثياب على الأعواد في انشقاق الفجر فلم يشكو انهم رجال فانقلبوا راجعين نحو البحر وجعل دامس ينادي الا يا قوم أقسمت عليكم أن لا تبرحوا من أماكنكم وأنا أكفيكم مؤنة القوم وحدي فرجعت بنو مهرة ناكصين على أعقابهم هذا قد أردف زوجته وهذا أولاده وهذا أمته وهذا أخذ ما قدر عليه من أثاثه ورجع أبو الهول إلى الحي فلم يصادف فيه الا العبيد والصبيان والمشايخ والعجائز فأمر العبيد أن يوقروا الجمال فحملوها وكتفهم وساق الجميع قدامه وعاد وأخذ الثياب من على الأعواد ولحقهم وأتى بهم ديار قومه فعجبوا منه ومن فعاله فلما سمع أبو عبيدة ذلك من خالد أقبل على سراقة وقال له ادع لي عبدكم حتى أنظر اليه واسمع كلامه فأتى به سراقة فقال له أبو عبيدة أنت دامس قال نعم أصلح الله الأمير فقال له بلغني عنك عجائب وأنت وأيم الله أهلها لأنك جزل من الرجال وأعلم أنك وقومك تقاتلون في بلاد سهلة لا تأتون الجبال ولا القلاع ولقد اقتحمت البارحة أثر القوم اقتحاما منكرا فارفق بنفسك واحذر من هذا البطريق يوقنا فقال له دامس أصلح الله الأمير لقد غزوت مهرة وأخذت أموالها وان جبالها منيعة شامخة رفيعة ذات وعر وحجر وما هذه بامنع من تلك الجبال فقال أبو عبيدة أنا أراك نجيبا فهل حدثتك نفسك من أمر هذه القلعة بشيء فقال دامس أصلح الله الأمير اني لما قدمت عليك في هذا الوقت كنت رأيت في نومي رؤيا فقال أبو عبيدة وما الذي رأيت أراك الله الخير قال رأيت كأني سائر في وطأة من الأرض واني مجد أطلب قومي فبينما أنا في مسيري إذ أشرفت عليهم وهم حائرون لا يتقدمون ولا يتأخرون فناديتهم يا قوم ما شأنكم وأي شيء عرض لكم في طريقكم فقال لي القوم ما ترى هذا الجبل كيف قد عرض لنا في آخر هذا الطريق وليس لنا فيه مسلك ولا مطلع فقلت على رسلكم الا ترون هذه الفجوة في هذا الجبل فقالوا هيهات ليس لنا فيه منقذ ولا مطلع فقلت ولم ذلك قالوا لان فيه ثعبانا عظيما لا يمر به أحد الا وأهلكه وقد قتل رجالا وجندل أبطالا فقلت يا قوم الا تهجمون عليه بأجمعكم قالوا لا نقدر على ذلك لان النار تخرج من أنفاسه وليس لنا عليه من سبيل فقلت لهم فالتمسوا لكم طريقا من وراء ظهره فقالوا لا نقدر على ذلك من عظم جثته فتركتهم والتمست لي طريقا فلم أجد الا طريقا صعبا حرجا فاقتحمته فما سلكته الا بعد المشقة وأتيت إلى الثعبان من ورائه فقتلته ثم أشرفت على قومي فاتبعوني فما وصلوا الا بعد جهد جهيد وهم آمنون من عدوهم ثم استيقظت فرحا مسرورا
فقال أبو عبيدة خير رأيت وخيرا يكون يا دامس أما رؤياك هذه فإنها للمسلمين
265

بشارة ولعدونا خسارة ثم قال له اجلس مكانك وأمر أبو عبيدة أن ينادي المسلمين فحضر رؤساء المسلمين وأعيانهم فلما حضروا قال أبو عبيدة الله أكبر فتح الله ونصر وحبانا بالظفر وخذل من كفر ثم قال يا معاشر المسلمين اسمعوا رؤيا أخيكم دامس فإنها عبرة لمن اعتبر وموعظة لمن افتكر قال فأقبلوا يسمعون له فعندها قام أبو عبيدة على قدميه وقال الحمد لله وصلى الله على رسوله وسلم ثم قال يا معاشر الناس ان الله سبحانه وتعالى له الحمد قد وعدنا في كتابه على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم الغلبة على أعدائنا والظفر بمرادنا وما كان الله ليخلف وعده واني نذرت ان فتح الله هذه القلعة على يدي أصنع من البر ما استطعت والآن قد هجس في نفسي ووقع في قلبي أنا ظافرون بهذه القلعة ومن فيها إن شاء الله تعالى ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم لأنه قد دلني على ذلك رؤيا هذا الغلام ثم قبض بكفه على زند أبي الهول وقال له رحمك الله حدث اخوانك بما رأيت في منامك فقام دامس قائما وقال اعلموا أني رأيت في منامي كذا وكذا وجعل يقص على الناس رؤياه من أولها إلى آخرها فلما فرغ منها أقبل المسلمون على أبي عبيدة وقالوا له أيها الأمير قد سمعنا قوله وحفظنا شرحه فما تأويل رؤياه قال أبو عبيدة أعلموا رحمكم الله أما الجبل الذي رآه عاليا شامخا شديد الامتناع بين الشعاب والقلاع فذلك دين الاسلام بلا شك وسنة محمد صلى الله عليه وسلم وأما الثعبان الذي رآه وقد منع الناس وقد هجم عليه بسيفه فأمر حسن هو أن يفرج الله على يديه على المسلمين ففرح الناس بتأويل أبي عبيدة وقالوا أيها الأمير فما الذي تأمرنا به فقال آمركم بتقوى الله سرا وجهرا ثم المكيدة على الأعداء طوعا وصبرا فارجعوا إلى رحالكم حفظكم الله واصلحوا شأنكم وآلة حربكم وما تحتاجون اليه فاني أقدمكم غداة غد إلى أعاديكم إلى أن يحدث لي رأي غير هذا فاني لست أدع الاجتهاد في الرأي والمشاورة لمن أثق به وبرأيه من المسلمين فقالوا بأجمعهم وفق الله رأيك أيها الأمير وظفرك بأعدائك أنه سميع عليم فعال لما يريد ومضوا إلى رحالهم فجعل هذا يحد سيفه وهذا يصلح آلة حربه وفرسه وهذا يتفقد درعه وهذا قوسه ونشابه وما زالوا كذلك بقية يومهم فلما أصبحوا دعا أبو عبيدة بدامس فقال له أيها الولد المبارك ماذا ترى في أمر هذه القلعة وما عندك من الحيلة فقال دامس اعلم أيها الأمير انها قلعة منيعة شامخة حصينة تعجز اتوافد وتمنع القاصد في أهلها محاصرة ولا تضيق صدورهم من قتال غير أني أفكر في حيلة احتالها أو بلية اعملها وأرجو من الله ان يتم ذلك عليهم فيكون تبديدهم ونملك بمشيئة الله ديارهم ونقلع آثارهم فقال أبو عبيدة يا دامس وما هي فقال أصلح الله الأمير أنت تعلم ما في إذاعة عة الاسرار من الشر والاضرار ومن كتم سره كانت الخيرة فيما لديه ويقال أن دامسا هذا أول من تكلم بهذه الكلمة فصارت مثلا فقال أبو عبيدة فما الذي تشير اليه وما الذي تعتمد عليه
قال تزحف بعسكرك وجملة من معك من أصحابك حتى تنزلوا بإزاء القلعة ليظهر
266

لهم منك الحرص والهيبة واعلم أن في ذلك من الحيل ما أرجو من الله أن يتمها أن شاء الله تعالى ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم فأمر أبو عبيدة عسكره بالرحيل فارتحلوا ونزلوا تحت القلعة وهللوا وكبروا وأظهروا سلاحهم وارهبوا أعداء الله تعالى قال فأشرف عليهم الروم ونظروا إلى جمعهم فهابوهم وألقى الله الرعب في قلوبهم حتى أنهم اضطربوا في قلعتهم وماجوا وجعل كبراؤهم يستشيرون فيما بينهم فقال قوم نقاتلهم وقال قوم بل نقعد في قلعتنا فإنهم لا يقدرون علينا ثم اجتمع رأيهم على القتال من فوق القلعة وقعدوا على الأبراج والبنيان وجعلوا يرمون المسلمين بالحجارة والسهام وقد أقاموا على ذلك ليلا ونهارا ودامس مع ذلك يعمل حيله يصل بهم إليهم بسوء قال فلما كان بعد السبعة والأربعين يوما أقبل دامس على أبي عبيدة وقال له أيها الأمير قد عجزت وأنا أعمل حيلا فما صدر من يدي في حقهم شيء وقد افتكرت في شيء وأرجو من الله أن يكون به الظفر والظهور على أعداء الله فقال أبو عبيدة وما الذي دبرت قال تضيف إلي من صناديد الرجال ثلاثين رجلا وتامرهم بالطاعة وترك المخالفة والاعتراض علي فيما آمرهم به وأفعله وأراه فقال أبو عبيدة سأفعل ذلك ثم ضم اليه ثلاثين رجلا من الشجعان حتى إذا اجتمعوا قال لهم أبو عبيدة معاشر المسلمين أني قد
أمرت دامسا عليكم وأمرتكم بالطاعة والقبول لامره واعلموا رحمكم الله اني ما أمرته عليكم لكونه أجل منكم حسبا ونسبا ولا أعظم موكبا ولا أشد بأسا ولا أكثر مراسا فلا يقل أحدكم اني قد أمرت عليكم عبدا احتقارا بكم وبالله أحلف مجتهدا لولا ما يلزمني من تدبير هذا العسكر لكنت أول من ينطلق معه في جمعكم وأنا أرجو من الله أن يفتح على يديكم فأقبلوا عليه بجمعهم وقالوا أصلح الله الأمير ما نشك في أعظامك لنا ومعرفتك بسابقتنا ولقد كان كلامك الأول أثر في نفوسنا وها نحن لك وبين يديك ولو أمرت علينا علجا اغلف لم نخرج لك من أمر ولا رأي إذ علمنا أنك لا تريد الا نصحا للدين وحياطة فالسمع والطاعة لله ثم لك ثم لمن وليته علينا من قبلك كائنا من الناس أجمعين قال ففرح أبو عبيدة بما قالوه ووثق بكلامهم وجزاهم خيرا وقال لهم اعلموا رحمكم الله تعالى أن نفسي تحدثني ان الله تعالى يفتح هذه القلعة على يد هذا العبد المقبل لأنه دقيق الحيلة حسن البصيرة فسيروا معه وثقوا بالله وتوكلوا عليه وقد تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولى قوادا على سادات العرب من المسلمين والاشراف من عشيرته ثم اقبل على دامس فقال له يا دامس ما الذي تحب بعد هذا قال ترحل أنت بجيشك من وقتك هذا فتكون منا على مسيرة فرسخ فتنزل بالعسكر وتأمرهم بقلة الحركة وان يختفوا ما استطاعوا أو يكون لك رجال تثق بشدتهم ونصحهم للمسلمين يتجسسون عن أخبارنا وآثارنا من غير أن يعلم بهم وبنا أحد ويكونون بغير سلاح سوى الخناجر فإذا عاينوا منا الظهور على أعدائنا والظفر بهم لحقوك وبشروك بذلك فتلحق بنا إن شاء الله تعالى وليكونوا متفرقين في موضع واحد فان ذلك اسلم لهم وأبلغ لما يريدون من أمورهم والله المستعان في جميع الأمور
267

والأحوال
فعلم أبو عبيدة انه نصيح من الرجال صاحب رأي وبصيرة ثم إن دامسا اقبل على رفاقه الذين ولى عليهم وقال لهم يا فتيان العرب انهضوا بنا بارك الله فيكم حتى نكمن في بعض هذا الوادي ما دام الناس عازمين على الرحيل لئلا تشرف الروم فينظروا إلى رحيلنا فلا يتفق لنا أن نطلب لنا مكمنا إذا أشرفوا من أعلى حصنهم وليكن مع كل رجل منكم سيفه وحجفته وخنجره لا غير ففعلوا ذلك فلما تكاملوا لبس دامس لامة حربه وجعل خنجره تحت أثوابه واخذ جماعته وخرج بهم حتى إذا فارق العسكر جعلوا يخفون آثارهم واشخاصهم وهو سائر بهم حتى أتى بهم كهفا في الجبل فأمرهم بالدخول اليه وجلس على بابه قال واما أبو عبيدة فإنه امر الناس بالرحيل بعد ما رتب الرجال كما وصاه أبو الهول فارتحل العسكر وأشرف عليهم أهل القلعة فرأوهم يرحلون ففرحوا بذلك وسروا سرورا عظيما وصاروا يصيحون على المسلمين من أعلى القلعة وقالوا لبطريقهم أيها السيد افتح لنا الباب حتى نخرج وراء العرب فلعل أن نقتل أحدا أو ناسره فنهاهم عن ذلك قال وداموا بقية يومهم إلى العشاء فقال دامس لأصحابه من فيكم ينهض إلى تحت القلعة ويأتينا بخبر منها إذ يقدر على رجل يأسره فيأتينا به فنأخذ منه خبرا فلم يجبه أحد فقال أنا أعلم أن ما في هذه الجماعة الا من هو ضنين نفسه كاره للموت وأنا لكم الفداء فانظروا كيف تكمنون ثم تركهم دامس ومضى فغاب عنهم ساعة وإذا به قد اتى ومعه علج وقال لهم يا فتيان العرب دونكم هذا فاسألوه فسألوه فلم يفقهوا قوله فقال على رسلكم فغاب غير بعيد وأتى بثلاثة أخر فلم يكن فيهم من يفهم بلغة العرب فقال دامس لعن الله هؤلاء ما أفظع لغتهم وأكثر طمطمتهم ثم أوثقهم كتافا وغاب إلى أن مضى من الليل نصفه ولم يأت فقلق عليه أصحابه قلقا شديدا واغتموا عليه وقال بعضهم لبعض أنا أقول أن دامسا قد فطن به فقتل أو أسر وماجوا في ذكره وهموا ان يرجعوا إلى العسكر فبينما هم في ذلك إذ دخل إليهم دامس وهو يقود رجلا من الروم فتواثبوا إليه وقبلوه بين عينيه وسألوه عن ابطائه وقالوا له يا دامس لقد حدثتنا نفوسنا بالعظائم وصعب علينا ابطاؤك عنا فقال اعلموا رحمكم الله تعالى اني لما فارقتكم سرت إلى قريب من سور القلعة وكمنت لهم وهم يمرون علي وهم يرطنون بلغتهم وأنا لا أتعرض للقوم كل ذلك وأنا أطلب من يتعرض للعربية ويتكلم بها فلم أر أحدا حتى أيست وهممت بالرجوع خائبا إذ سمعت هدة شديدة قد وقعت من أعلى السور فأسرعت إليها لانظر إليها ما هي فإذا أنا بهذا الرجل وقد ألقى نفسه من القلعة إلى أسفل السور فبادرت اليه وأخذته وأتيت به إليكم فانظروا ما هو فدنوا اليه وخاطبوه فلم يكلمهم الا بلغته وإذا به قد انفتحت جبهته فقال لهم دامس اعلموا أن له شأنا وأي شأن واني أظنه هاربا من القوم وليس فيكم من يفهم ما يقول ولكن على رسلكم فأنا آتيكم بمن يتكلم بلسانه وبالعربية ثم اسرع دامس من عندهم فلم يكن الا قليل وإذا به قد عاد ومعه رجل قد نزلت عمامته
268

في رقبته وهو يقوده حتى مثله عندنا فقالوا له من المدينة أنت أم من القلعة فقال له دامس ممن أنت تكون أمن الروم أم من العرب المتنصرة قال ولكني مع العرب المتنصرة فقالوا يا هذا هل لك ان تطلعنا على عورات القلعة أو عورة من عوراتها ونحن نطلق سبيلك ولا يتعرض إليك أحد بسوء فقال يا هؤلاء لست أعرف لهذه القلعة عورة ولا طريقا ولو عرفت لما وسعني في ديني ولا رايت أن أدلكم عليها وحق المسيح قال فانغاظ منه دامس وقال له اسأل هؤلاء الأسارى هل فيهم أحد من أهل الربض فان بيننا وبينهم صلحا قال فسألهم فلم يجد فيهم أحدا من أهل الربض بل كلهم من أهل القلعة وأنا أعرفهم
فقال له دامس فاسأل هذا الرجل لم طرح نفسه من السور وما دعاه إلى ذلك فسأله فقال له انه يقول إن الملك يوقنا غضب على أهل الربض لأجل صلحهم لكم وبعث يتهددهم فلما انصرفت العرب نزل يوقنا فجمع رؤوسهم واصعدهم إلى القلعة وأنا في جملتهم وطلب منا من الأموال ما لا طاقة لنا به ولا نقدر عليه فلما رأيت ما قد نزل بنا هربت وألقيت نفسي من القلعة اطلب الفرج وأنجو من العقوبة فلم أشعر الا وأنت قد قبضت علي وأنا من أهل الربض فان كنتم من العرب فأنا في ذمتكم وأمانكم فلا تنكثوا ولا تغدروا وان كنتم من غيرهم فاطلبوا مني ما أردتم من الفداء فاني قد هربت من العقوبة فقال له دامس قل له نحن من العرب ولا بأس عليك ولا خوف ولا ينالك منا سوء وأراد دامس أن يرى الربض ما يفعل بأعدائه فأخرج الروم والمتنصرة وضرب رقابهم ولم يدع غير الربض ثم أطلقه واستمروا إلى الليل وعمد دامس إلى مزوده فاستخرج منه جلد ماعز وألقاه على ظهره وأخرج كعكا يابسا وقال لأصحابه بسم الله استعينوا بالله وتوكلوا عليه واخفوا نفوسكم وقدموا الحزم في أموركم فاني معول على فتح هذه القلعة إن شاء الله تعالى فقالوا سر على بركة الله تعالى فقاموا مسرعين وتقدم دامس وبعث رجلين من أصحابه يعلمان أبا عبيدي بشأنهم ويقولان له ابعث الخيل عند طلوع الفجر قال فانطلق الرجلان وصعد دامس ومن معه تحت الظلام ودامس على المقدمة يمشي على أربعة والجلد على ظهره وكلما أحس بشيء قرض في
الكعك كأنه كلب يقرض عظما وهم من ورائه يقفون أثره وهم يستترون بين الأحجار فلا زالوا كذلك حتى لاصقوا السور وسمعوا أصوات الحرس وزعقات الرجال من أعلى القلعة والحرس شديد فلم يزل دامس دائرا بهم حول السور إلى أن اتى إلى مكان لم يجد به حسا وإذا بحرسه قد ناموا وراء المكان ولم يروا في السور أقرب منه فقال دامس لأصحابه أنتم ترون هذه القلعة وعلوها وتحصينها وليس فيها حيلة لشدة الحرس ويقظة القوم فما الذي ترون من الرأي أن نصنع بها وكيف الحيلة في الصعود إليها إلى أن نحصل في وسطها فقالوا يا دامس ان الأمير أمرك علينا وأنت أدرى منا وأجرا جنانا ونحن لك بين يديك فمهما رأيت فيه الصلاح للمسلمين فلا نتأخر عنه
269

ووالله أن قتل نفوسنا وذهاب أرواحنا أسهل علينا من الرجوع بغير فائدة فمنك الامر ومنا السمع والطاعة فليس منا من يتأخر عنك ولا نموت الا تحت ظلال السيوف وفي طاعة الله ونصرة دين الاسلام فقال دامس شكر الله فضلكم ورزقكم النصر على أعدائكم فان كانت هذه نيتكم فالتصقوا بنا إلى هذا المكان قال وكانوا ثمانية وعشرين رجلا واثنان كانوا ارسلوهم إلى الأمير يعلمانه بأن يأتي إليهم في الصبح
فقال لهم دامس أفيكم من يقدر على الصعود على هذه القلعة فقلنا له يا أبا الهول وكيف لنا أن نرقى إليها وعلى أي شيء نصل إلى أعلاها بغير سلم فقال على رسلكم ثم إنه اختار منا سبعة رجال كالأسد الضواري لو كلفوا حمل ذلك البرج على مناكبهم لما عظم ذلك عليهم ثم جلس على قرافيصه وقال لاحد السبعة اجلس على منكبي وارم بحيلك إلى الجدار واجلس كما أنا جالس ففعل الرجل ما أمر به وأمر آخر ان يفعل ويصعد على منكبي الآخر وان يرمي بقوته على الجدار قال ففعل ثم إنه لم يزل يصعد واحد بعد واحد إلى أن صعد الثامن بقوته على الجدار وهم متمسكون به فعند ذلك أمر الاعلى ان يقوم قائما وان يطرح حيله على الجدار فقام الأول وقام الثاني ثم قام الثالث ثم قام الرابع والخامس والسادس وكل واحد منهم قد طرح نفسه على الجدار ثم قام دامس آخرهم فإذا الاعلى قد وصل إلى شرافة السور وتعلق بها فاستوى على السور ونظر إلى حارس ذلك المكان فوجده نائما وهو ثمل من الخمر فأخذ بيده ورجله ورماه فلما وصل إلى الأرض قطعوه وأخفوا جسده ووجد من أصحابه اثنين سكارى وهم رقود فذبحهم بخنجره ورمى بهم ثم أرخى عمامته لصاحبه ونشله اليه فإذا هو معه على السور وكان دامس قد أعطاه حبلا فبقوا ينشلون به بعضهم إلى أن تكاملوا على السور واصعدوا من بقي معهم على الأرض وكان آخر من صعد أبو الهول فقال لهم مكانكم حتى أقفوا الخبر واكشف لكم الأثر ثم إنه أتى إلى دار البطريق وهو في وسط القلعة وإذا عنده سادات البطارقة وأكابرهم وهم جلوس وبين أيديهم بواطى الخمر ويوقنا جالس في وسطهم على بساط من الديباج منسوج من الذهب وعليه بدلة من اللؤلؤ ومعصب بعصابة من الجوهر والقوم يشربون والمسك والبخور يفوح عندهم فعاد دامس إلى أصحابه وقال أعلموا ان القوم خلق كثير وان هجمنا عليهم فلا نأمن الغلبة من كثرتهم ولكن ندعهم فيما هم فيه فإذا كان وقت السحر هجمنا على يوقنا ومن معه من الملوك نقتلهم بسيوفنا فإذا ظفرنا بهم وذلهم الله لنا وعلى أيدينا فهو الذي نريد وان كان غير ذلك فيكون الصباح قد قرب ولا شك أن الرجلين من أصحابنا قد أعلما خالد بن الوليد فيأتينا فقالوا ما نخالف لك امرا ونحن قد صرنا في قلعة هؤلاء الأعداء وليس ينجينا الا صدق جهادنا والعزم والشدة من قوتنا فقال لهم مكانكم فلعل أن يفتح الباب قال وكان للقلعة بابان وبينهما دهليز والبوابون داخلهما والرجال تنام عندهم بالنوبة فلما وصل دامس إلى الباب وجده مغلقا وإذا بالقوم
270

رقود من السكر فعاجلهم بالذبح ثم فتح البابين وتركهما مردودين ورجع إلى أصحابه وقد قرب الفجر فقال لهم أبشروا فاني قد فتحت البابين وقتلت من كان وراءهما فدونكم والباب فاسبقوهم اليه وخذوه عليهم فقد بقي القوم حصيدا بأسياف المسلمين إن شاء الله تعالى قال وأرسل من يستعجل خالدا ويبشره بذلك ثم أرسل خمسة من أصحابه يمسكون الباب وأخذ الباقين ومشى نحو دار يوقنا فصاحوا عليه ووقع الصياح في القلعة فرجعوا بأجمعهم إلى الباب وأخذ كل واحد منهم مكانا يحميه فعندها جاءت الابطال وصاحت الروم ويلاه كيف تمت علينا هذه الحيلة وصرخ يوقنا بأصحابه فأتوا من كل جانب فعندها كبر المسلمون ونادوا بلسان واحد الله أكبر فخيل للروم أن القلعة ملآنة منهم قال ابن أوس وقاتلت الروم قتالا شديدا وأما المسلمون فكانوا كالأسد الضارية فما رايت أقوى بأسا ولا أشد مراسا من دامس أبي الهول في ذلك اليوم فلقد عددنا في بدنه بعد ما انفصلنا ثلاثة وسبعين جرحا كلها في مقدم بدنه قال فبينما نحن في أشد القتال ونحن يحمي بعضنا بعضا وقد بقي منا ثلاثة وعشرون وقتل منا أربعة وهم أوس بن عامر الحزمي من بني حزم وأبو حامد بن سراقة الحميري والفارع بن مسيب التميمي وفزارة بن مراد العوفي
قال الواقدي لقد حدثني نوفل بن سالم عن جده غويلم بن حازم وكان ممن صحب دامسا في قلعة حلب قال لما قتل من قتل منا وقد قتل أيضا ملاعب بن مقدام بن عروة الحضرمي وكان ممن حضر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديبية وتبوك ومرارة بن ربيعة العامري وهلال بن أمية وهو ابن أخي كعب الذي تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبوك وأنزل الله فيه ما أنزل قال وبقينا عشرين رجلا وتكاثرت الروم علينا في أزيد من خمسة آلاف وهم سد من حديد قال ونحن قد أيسنا من الحياة إذ دخل علينا خالد بن الوليد ومعه جيش الزحف فوجدنا ونحن في أشد ما يكون من القتال فلما دخلوا علينا صاح فيهم خالد فجفلت الروم عنا قال أوس فلما رأيناهم كذلك وانفرج عنا ما كنا فيه اشتدت قلوبنا فعندها كبرت المسلمون ودخل ضرار وأمثاله يضربون رقابهم فلما رأى الروم ذلك وعلموا أنهم لا طاقة لهم بما وقع بهم ألقوا السلاح ونادوا الغوث الغوث وكفوا أنفسهم عن القتال فكفت المسلمون أيديهم عنهم فبينما هم كذلك إذ أقبل أبو عبيدة ومعه عساكر الاسلام فأخبروه أن الروم يطلبون الأمان وأن المسلمين قد رفعوا عنهم القتل إلى أن تأتي وترى فيهم رأيك فقال أبو عبيدة قد وفقوا وسددوا فأمر باحضار رجالهم ونسائهم وعرض عليهم الاسلام فكان أول من أسلم بطريقهم يوقنا وجماعة من ساداتهم قال فردج عليهم أموالهم وأهاليهم واستبقى منهم الفلاحين وعفا عنهم من القتل والأسر وأخذ عليهم العهود أن لا يكونوا الا مثل أهل الصلح والجزية وأخرجهم من القلعة قال ثم أخرج المسلمون من الذهب والأواني ما لا يقع عليه عدد فأخرج منه الخمس وقسم الباقي على المسلمين وأخذ الناس في حديث دامس وحيله
271

وعجائبه وعالجوا جراحته حتى برأت قال وأعطاه أبو عبيدة سهمين ثم إن أبا عبيدة طلب أمراء المسلمين وأكابرهم وشاورهم في أمره وقال إن الله وله الحمد قد فتح هذه
القلعة على أيدي المسلمين وما بقي لنا موضع نخافه فهل نقصد أنطاكية وهي دار الملك وكرسي عزهم وفيها بقية ملوكهم مع هرقل فما ترون من الرأي قال فعندها قام البطريق يوقنا وتكلم بلسان عربي فصيح وقال أيها الأمير ان الله تبارك وتعالى قد ايدكم واظفركم بعوكم ونصركم وما ذاك الا أن دينكم هو الدين القويم والصراط المستقيم ونبيكم هو المشهور في الإنجيل وهو لا محالة الذي بشر به المسيح ولا شك فيه ولا مراء وهو الفاروق الذي يفرق بين الحق والباطل وهو النبي الكريم اليتيم الذي يموت أبوه وأمه ويكفله جده وعمه فهل كان ذلك أم لا أيها الأمير فقال أبو عبيدة نعم هو نبينا صلى الله عليه وسلم واني يا يوقنا قد حرت في أمرك وأنت بالأمس تقاتلنا ومرادك ان تكسر عسكرنا وتقطع الطريق على علوفتنا واليوم تقول مثل هذا القول وقد بلغني انك لا تفهم بالعربية شيئا فمن اين لك حفظها فقال لا إله إلا الله ومحمد رسول الله وانك تعجب أيها الأمير من هذا الامر قال نعم قال له اعلم أيها الأمير أني كنت البارحة مفكرا في أمركم وقد وصلتم إلى قلعتنا ونصرتم علينا وانه لم يكن عندنا أمة أضعف منكم وتوسوست في ذلك فلما نمت رأيت شخصا ابهى من القمر وأطيب رائحة من المسك الأذفر ومعه جماعة فسألت عنه فقيل لي هذا محمد رسول الله فكأني أقول أن كان نبيا حقا فليسأل ربه أن يعلمني العربية وكان يشير إلي وهو يقول يا يوقنا أنا محمد الذي بشر بي المسيح وانا لا نبي بعدي وان أردت فقل لا إله إلا الله وأبي محمد رسول الله فأخذت يده فقبلتها وأسلمت على يديه واستيقظت وفمي من تلك الليلة كالمسك الأذفر وأنا أتكلم بالعربية ثم أني قمت إلى منزل أخي يوحنا وفتحت خزانة كتب فوجدت في بعض الكتب صفة محمد صلى الله عليه وسلم وما يكون من أمره ووجدت كل الصفات صحيحة وان أبغض الخلق اليه اليهود أكان ذلك أيها الأمير أم لا
فقال أبو عبيدة نعم كانت اليهود تطلبنا أشد الطلب حتى نصرنا الله عليهم وأخذنا حصونهم وقتلنا أبطالهم قال يوقنا وجدت هذا في سيرته وجملة أخباره وأن الله تعالى كان يوصيه بأصحابه وبالمسلمين وبالايتام والمساكين أكان ذلك أم لا قال أبو عبيدة نعم أما وصيته من الله على أصحابه فقد قال الله تعالى واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين وقال في حق اليتيم والمسكين فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر فقال يوقنا كيف قال ووجدك ضالا فهدى فما معنى وصفه بالضلال وهو عند الله كريم فقال له معاذ بن جبل رضي الله عنه وجدناك ضالا في تيه صحبتنا فهديناك إلى مشاهدتنا وأيضا سهل لك الوصول إلى سبل المكاشفة ووفقك للوقوف في مقام المشاهدة ووجدك ضالا في بحار الطلب على مركب العطب فهداك إلى سواحل الحق وقربك إلى ظل حقائق الصدق لتكون بقلبك مائلا عن الاغيار أو تهيم في قيعان
272

الاختيار متمنيا ساعات الوصول والتلاق وليس لك منا خبر ولا معك منا أثر ألحنا لك لوائح الرضا وكشفنا لك عن واضح القضا أما علمت يا يوقنا أنه لا شيء عند المؤمن أوفى من العلم ولا أربح من الحلم ولا حسب أوضح من الدين ولا قرين أزين من العقل ولا رفيق أشر من الجهل ولا شيء أعز من التقوى ولا شيء أوفى من ترك الهوى ولا عمل أفضل من الفكر ولا حسنة أعلى من الصبر ولا سيئة أخرى من الكبر ولا دواء الين من الرفق ولا داء أوجع من الخرق ولا رسول أعدل من الحق ولا دليل أنصح من الصدق ولا فقر أذل من الطمع ولا غنى أشقى من الجمع ولا حياة أحسن من الصحة ولا معيشة أهنا من العفة ولا عبادة أفضل من الخشوع ولا زهد خير من القنوع ولا حارس أحفظ من الصمت ولا غائب أقرب من الموت فلما سمع يوقنا هذا الكلام من معاذ تهلل وجهه وقال هكذا قرأته في كتب أخي يوحنا وهو مذكور في الإنجيل والتوراة ثم خر ساجدا وقبل الأرض شكرا وقال الحمد لله الذي هداني إلى هذا الدين ووالله لقد رسخ هذا الدين في قلبي وعلمت أنه الحق وسأقاتل في الله كما كنت أقاتل في طاعة الشيطان ووالله لانصرن هذا الدين حتى الحق بأخي يوحنا ثم أنه بكى بكاء شديدا على ما فرط في أمر أخيه فقال له أبو عبيدة قال الله في حق اخوة يوسف لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين وقال له أن أخاك في عليين مع الحور العين وأما أنت فساعة أسلمت خرجت من ذنوبك كيوم ولدتك أمك فبكى لذلك وقال أشهد علي المسلمين أني كلما جاهدت وقتلت من المشركين فثوابه في صحيفة أخي يوحنا ولا بد أن أقاتل في سبيل الله وأمحو ما سلف من الفعال فقال أبو عبيدة يا عبد الله دلنا أين نسير فقال يوقنا أعلم أيها الأمير أن حصن عزاز حصن منيع وهو قوي بالرجال والعدد والزاد وفيه ابن عم لي اسمه دراس بن جوفناس وهو ذو شدة وبأس وقوة ومراس جلد في الحرب قوي عند الطعن والضرب وأن أنتم تركتموه ومضيتم إلى نحو أنطاكية أغار على حلب وقنسرين وأذاقهم شرا فقال أبو عبيدة يا عبد الله قد أنطق الله لسانك بالحق والصواب فما عندك من الحيلة
فقال يوقنا عندي من الرأي أن أركب جوادي وتضم إلي مائة فارس من المسلمين ولنكن على زي الروم ولباسهم وأتقدم بهم ثم يتقدم أمير من العرب ومعه ألف فارس على خفاف الخيل وأنا في المقدمة بالمائة فارس على مقدار فرسخ كأننا هاربون منكم وأوائل الخيل الألف في طلبنا فإذا أشرفنا على عزاز نلقي الصوت فإذا نظر الينا صاحبها دراس لا بد أن ينزل الينا ويلقانا فإذا سألني أخبرته أني أسلمت زورا ثم هربت فخرجت العرب في طلبي فإذا سمع مني ذلك يصعد بنا إلى حصنه وليكن مقدم الألف بالقرب منا في قرية هناك فإذا كان نصف الليل سرنا في وسط الحصن ونضع السيف في أعدائنا فإذا كان عند صلاة الفجر يأتينا أمير العرب بالألف الذي معه فلما سمع أبو عبيدة ذلك استنار وجهه واستشار خالدا ومعاذا في ذلك فقالا يا أمين الأمة
273

رأي سديد ان لم يغدر هذا الرجل ويرجع إلى دينه فقال أبو عبيدة ان ربك لبالمرصاد فقال يوقنا انا والله رجعت عن ديني إلى دينكم بعدما كنت أعظم من تلك الصور والصلبان وما بقي في قلبي سوى محبة الرحمن ومحمد سيد ولد عدنان والجهاد عن أفضل الأديان والله على ما أقول وكيل وحق الذي لا إله إلا هو وحق محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم الذي رايته وعاينته في المنام ان كنتم تظنون في غير ذلك فلا تتركوني أفعل شيئا مما ذكرته لكم فقال أبو عبيدة يا عبد الله ان أنت نصحت للمسلمين ولم تغدر بهم كان الله لك معينا في كل ما تحاوله فأتبع الصدق تنج به فان ديننا مبني على الصدق وأتبع سنن إخوانك المؤمنين وأعلم أن المؤمن الصادق قوته ما وجد ولباسه ما ستر ومسكنه ما وجد فلا يحزنك ما تركت من ملكك وحكمك وامارتك فان الذي تركته فان والذي تطلبه باق لان نعمة الدنيا فانية والآخرة خير وأبقى واعلم أنك في يومك هذا عار من الشرك واعلم أن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر والمؤمن يتيقن ان القبر مضجعه والخلوة مجلسه والاعتبار فكره والقرآن حديثه والرب أنيسه والذكر رفيقه والزهد قرينه والحزن شأنه والحياء شعاره والجوع ادامه والحكمة كلامه والتراب فراشه والتقوى زاده والصمت غنيمته والصبر معتمده والتوكل حسبه
والعقل دليله والعبادة حرفته والجنة داره وأعلم يا يوقنا أن المسيح قال عجبت لمن ليله غافل وليس بمغفول عنه ومؤمل دنيا والموت يطلبه وبان قصرا والقبر مسكنه وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم من أعطى أربعا أعطي أربعا وتفسير ذلك في كتاب الله تعالى من أعطى الذكر ذكره الله عز وجل لأن الله تعالى يقول * (فاذكروني أذكركم) * ومن أعطى الدعاء أعطى الإجابة لان الله تعالى يقول ادعوني استجب لكم ومن اعطى الشكر أعطى الزيادة لان الله تعالى يقول لئن شكرتم لأزيدنكم ومن اعطى الاستغفار أعطى المغفرة لان الله تعالى يقول استغفروا ربكم انه كان غفارا قال الواقدي حدثني عامر بن قبيصة اليشكري قال حدثني يونس ابن عبد الأعلى قراءة عليه قال شهر بن حوشب عن جده عامر بن زيد قال كنت ممن شهد فتوح الشام وكنت في فتوح قنسرين وحلب مع أبي عبيدة وكنت كثيرا ما أصحب الروم الذين دخلوا في ديننا فلم أر منهم أشد اجتهادا ولا أخلص اعتقادا ولا أعظم نية ولا أحسن في الجهاد حمية ولا أبلغ في قتال الروم من يوقنا ولقد نصح والله للمسلمين وجاهد في الكافرين وأرضى رب العالمين ولقد فعل في الروم ما لم يقدر أحد عليه من أبناء جنسه من بعد ما قاسى المسلمون منه على قلعة حلب وما تركهم ينامون ولا يقرون ليلا ولا نهارا وما قتل من المسلمين رضي الله عنهم أجمعين
ذكر فتح عزاز
قال الواقدي لما وعظ أبو عبيدة يوقنا وفرغ من وعظه ضم اليه مائة فارس وألبسهم زي الروم قال وكان كل عشرة من قبيلة قال وهم من طيء وفهر وخزاعة
274

وسنيس ونمير والحضارمة وحمير وباهلة وتميم ومراد وجعل على كل عشرة نقيبا فأما نقيب طيء فخزعل بن عاصم وعلى فهر فهر بن مزاحم وعلى خزاعة سالم بن عدي وعلى سنيس مسروق ابن سنان وعلى نمير أسد بن حازم وعلى الحضارمة ماجد بن عميرة وعلى حمير ملكهم ذو الكلاع الحميري وعلى باهلة سيف بن قادح وعلى تميم سعد بن حسن وعلى مراد مالك بن فياض فلما كملوا قال لهم أبو عبيدة أعلموا رحمكم الله أني مرسلكم مع هذا الرجل الذي وهب نفسه لله ورسوله وكل طائفة منكم عليها نقيب وقد وليته عليكم فاسمعوا له وأطيعوا ما دام مرضاة الله عز وجل قال فلبسوا وركبوا وساروا معه فلما بعدوا بفرسخ أرسل وراءهم الف فارس وأمر عليهم مالكا الأشتر النخعي وقال له سر في أثر القوم وانظر ما يكون من أمر هذا العبد الصالح فإذا قربت من هذا الحصن فأكمن إلى وقت السحر ثم تظاهر لاخوانك سر وفقك الله وأرشدك فسار مالك يقدم قومه فساروا بقية يومهم فلما جن عليهم الليل كمنوا في قرية بالقرب من الحصن وهي خالية من السكان وأما ما كان من يوقنا فإنه اخذ على غير طريق وسار طالبا عزاز
قال الواقدي حدثني سليمان بن عبد الله اليشكري حدثني الشديد بن مازن عن جده خزعل بن عاصم قال كنت في خيل يوقنا لما وجهنا أبو عبيدة معه قال لما شارفنا عزاز قال لنا يوقنا أعلموا يا فتيان العرب أنا قد شارفنا هذا العدو فإياكم ان يتكلم أحد منكم فان لغتكم لا تخفى على الروم وأنا المترجم عنكم وكونوا على يقظة من أمركم فإذا رأيتموني وقد بطشت بصاحب الحصن فثوروا على اسم الله تعالى ثم ساروا وليس عنده خبر من تواتر القدر
قال الواقدي حدثني سليمان بن عبد الله اليشكري قال حدثني عبد الرحمن المازني وكان ممن يكتب فتوح الشام قال حدثني الأكوع بن عباد المازني قال كنت مع مالك الأشتر من جملة الألف حين سرنا في أثر يوقنا صاحب حلب حتى إذا كنا في تلك القرية ونحن ننتظر الصباح وإذا نحن بجيش من ورائنا من غربي القرية فسار مالك الأشتر وقصد الحصن فغاب عنا غير بعيد وعاد ومعه رجل من العرب المتنصرة وقد أقبل به فلما صار بيننا قال يا فتيان اسمعوا ما يقول هذا الرجل فقلنا وما الذي يقوله قال أسألوه فإنه يخبركم فسألناه وقلنا من أي الناس أنت قال من غسان من بني عم جبلة بن الأيهم فقال له مالك ما اسمك قال أسمي طارق بن شيبان فقال له يا طارق بحق ذمة العرب لا تكتمنا أمرا تعرفه من أعدائنا قال والله لا أكتم أمرا أعرفه ولكن خذوا على أنفسكم قبل قدوم عدوكم قال مالك وكيف ذلك قال لأنا البارحة ورد علينا جاسوس من عندكم وهو منا أسمه عصمة بن عرفجة وكان يسمع ما تناجيتم به من الحيلة التي أرادها يوقنا على صاحب عزاز فلما سمع الجاسوس منكم ذلك كتب رقعة وربطها تحت جناح طير كان معه وأطلقه إلى صاحب عزاز فلما
275

قرأها أرسلني إلى صاحب الراوندات لوقا بن شاس يستنجده عليكم فمضيت اليه بالرسالة وهو قادم في خمسمائة فارس وكأنكم بهم وقد هجموا فخذوا حذركم قال الواقدي وأما ما كان من أمر يوقنا فإنه سار حتى وصل إلى الحصن فوجد صاحبه قد تجهز بنفسه ومعه أصحابه وهو خارج الحصن وكان اللعين يركب في ثلاثة آلاف فارس من الروم والف من العرب المتنصرة غير من التجأ اليه من السواد فلما قدم عليه يوقنا لم يوهمه في شيء من أمره بل استقبله وترجل اليه وأقبل كأنه يقبل ركابه وكان في يده سكين أمضى من القضاء فقطع به حزام فرس يوقنا وجذبه اليه وإذا به قد وقع على أم رأسه فأطبق الأربعة آلاف على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يمهلوهم حتى أخذوهم قبضا بالكف وشدوهم كتافا وبصق دراس في وجه يوقنا وقال لقد غضب عليك المسيح والصليب إذ فارقت دينك ودخلت في دين أعدائك وحق المسيح لا بد لي أن أبعثك إلى الملك الرحيم هرقل يصلبك على باب أنطاكية بعدما أضرب رقاب هؤلاء العرب ثم إنه أصعدهم إلى الحصن قال الواقدي ومن خيرة الله للمسلمين أن الجاسوس لم يكتب لصاحب عزاز في مكاتبته بسير مالك الأشتر قال وان مالكا الأشتر لما سمع كلام المتنصر أيقظ أصحابه وربط المتنصر عنده وأقاموا ينتظرون صاحب الراواندات فلما راق الليل سمعوا وقع حوافر الخيل فلم يكلمهم مالك حتى توسطوا الكمين وأطبقوا عليهم فكل اثنين ربطوا واحدا من الروم واخذوهم بالكف ولم ينفلت منهم أحد ولبسوا ثيابهم ورفعوا رايتهم وصليبهم كما كانت ثم أن مالكا قال للمتنصر هل لك أن ترجع إلى دين الله عز وجل ودين نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فيمحو عنك ما سلف من الكفر بالايمان وتبقى لنا من جملة الاخوان فقال ان قلبي ولبي عندكم فلا جزي الله من ألجانا إلى الدخول في هذا الدين خيرا وأنا والله من الطائفة التي هي أول من اسلم على يد عمر بن الخطاب وقد سمعنا عن محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال
من بدل دينه فاقتلوه فقال له مالك لقد صدقت في قولك ولكن انسخ هذا الحديث بقول لا إله إلا الله فقد قال الله تعالى الا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله
سياتهم حسنات الآية وقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم توبة وحشي قاتل عمه حمزة فأنزل الله فيه الآيات فلما سمع الغساني ذلك فرح وقال أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله والآن والله يا مالك قد طاب قلبي وانجبر كسري أخذ الله بيدك وأنقذك الله يوم القيامة قال ففرح مالك باسلامه وقال له وفقك الله وثبت ايمانك ثم قال له يا عبد الله اني أريد أن تمحو ما سلف منك بما تفعله فقال وما تريد أيها الأمير قال تمضي إلى صاحب عزاز وتبشره بقدوم صاحب الراوندات إلى نصرته فقال أفعل ذلك أن شاء الله تعالى وان كنت في شك من أمري فأرسل معي من تثق به حتى يسمع ما أقول فان الليل قد تنصف والحرس شديد وباب الحصن مقفول وانا أخاطبهم من شفير الخندق قال
276

فأرسل معه مالك ابن عم له يقال له راشد بن مقبس ووصاه أن يكون مستيقظا فسارا جميعا إلى أن وصلا إلى الحصن فوجدا الحرس شديدا والروم تضرب بوقاتها والصوت عال في وسط الحصن فقال طارق لابن عم مالك ما هذا وحق أبي الاقتال وضرب وحرب فانصتا فإذا هو كما قال طارق
قال الواقدي وكان السبب في ذلك أن ابن صاحب عزاز شاب شجاع يقال له لاوان كان أبوه دراس في وقت يرسله إلى يوقنا بالهدايا والتحف لما بينهم من القرابة وكان يقيم عنده أشهرا في أعز مكان وانه حضر عنده في بعض المرات في عيد الصليب في البيعة التي هي اليوم الجامع وكان يدخل في كل وقت فرأى يوما ابنة يوقنا وهي بين جواريها وخدمها وحشمها فوقع بقلبه حبها فكتم أمرها وعاد إلى عزاز وشكا حاله إلى أمه وما كان لأبيه ولد غيره وهي تجد له محبة عظيمة فقالت له أنا أخاطب أباك في ذلك والزمه أن يرسل ليخطبها من أبيها ويزوجك بها ونبذل له من المال ما أراده وطلبه واشتغل قلب الشاب بحب الجارية وفي أثناء ذلك جاءت العرب إلى بلادهم واشتغلت خواطرهم فلما وقع يوقنا في يد أبيه كان وكان من أمره ما كان وقبض عليه وعلى المائة من المسلمين وحبسهم جميعا في دار ولده لاوان ووصاه بحفظهم فقال لاوان في نفسه وحق ديني أن ابن عمنا يوقنا أعلم من أبي بالأديان ولولا أنه رأى الحق مع هؤلاء العرب ما تبعهم بعدما قاتلهم أشد القتال وأيضا ان جيوش الملك ما ساوتهم وان الله قد نصرهم على ضعفهم وانا قلبي متعلق بابنته واني أرى من الرأي السديد أن أحل هؤلاء القوم من الوثاق وارجع إلى دينهم بعد أن أثق من ابن عمي أن يزوجني ابنته فإنه على الحق وأنال ما أطلب بعدها وأتزوج ابنته فلما حدثته نفسه بذلك اقبل يوقنا وجلس بين يديه وقال له يا عم أني عولت على أن أحل وثاقك أنت وأصحابك وقد اخترتك على أهلي وأبي وملكي وأنت تعلم أن فراق الأهل صعب واخترت الايمان على الكفر وقد علمت أن دين هؤلاء صحيح ولكن لي عليك شرط أن تزوجني ابنتك ومهرها عتقك أنت وهؤلاء الناس الذين معك فقال يوقنا يا بني ما لك إلى زواجها من سبيل إذا كنت تدخل فيه لأجل غرض الدنيا وليكن دخولك فيه خالصا من قلبك حتى أن الله يأجرك على ما تفعله وانا إن شاء الله تعالى أبلغك ما ترومه وتنال عز الدنيا والآخرة فقال لا وأنا اشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله ثم حل وثاق يوقنا وأعطاه سلاحه وحل المائة وأعطاهم سلاحهم وقال لهم كونوا على أهبة وأنا أمضي إلى أبي وهو ممل بالخمر فأقتله وثورا على بركة الله تعالى في رضا الله فعندها قال يوقنا للمائة أشهدوا علي أني زوجته أبنتي وجعلت صداقها عتنقا فقبل منه ومضى إلى دار أبيه فوجد أباه مقطوع الرأس واخوته عنده فقال لهم من فعل هذا بأبي قالوا نحن قال ولم ذلك قالوا أردنا بذلك وجه الله وقد سمعناك وما تحدثت به مع يوقنا وأصحابه فخفنا عليك أن لا يتم لك هذا الامر ويتكاثر الجمع على القوم ويبلغ ابانا خبرك
277

فيقتلك فبطشنا به قبلك قال ففرح لاوان بذلك ورجع إلى يوقنا وأصحابه وأعلمهم بما جرى فخرجوا من دار لاوان وتوسطوا الحصن ورفعوا أصواتهم بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير والسراج المنير ووضعوا السيف في الروم قال ووقع الصائح في الحصن كما وصفنا وتبادرت الروم لقتال المسلمين وفي تلك الساعة قدم طارق ورفيقه قال فسمعنا الأصوات قال فرجعنا إلى مالك وأعلمناه بما سمعناه فقال مالك لأصحابه اركضوا لاصحابكم فركضوا خيولهم وخلف منهم مائة يحفظون الاسرى فلما قربوا من الحصن وكان يوقنا قد قال للاوان ان نجدة من المسلمين تأتينا فأتى لاوان فرأى المسلمين قد اتوا ففتح لهم باب الحصن من باب السر وأدخلهم فلما حصل مالك الأشتر في حصن عزاز نادى هو ومن معه الله أكبر فتح الله ونصر وخذل من كفر فلما رأى أهل الحصن ذلك رموا سلاحهم ونادوا الغوث الغوث فرفعوا عنهم السلاح وأخذوهم أسارى وشكروا ليوقنا ومن معه قال فحدث يوقنا مالكا الأشتر بحديث الغلام لاوان فقال مالك إذا أراد الله أمرا هيأ أسبابه
قال الواقدي حدثني قيس عن عقبة عن صفوان عن عمرو بن عبد الرحمن عن جبير عن أبيه قال سألت أبا لبابة بن المنذر وكان ممن حضر فتوح الشام كيف كانت فتوح عزاز وقتل دراس فان نفسي تنكر هذا وأريد صحته فقال لما وضعت الحرب أوزارها وجمع مالك الأشتر الأسارى والمال والثياب والذهب والفضة والآنية وأمر باخراج ذلك من الحصن ووكل به قيس بن سعد وكان ممن حضر وأصابه سهم فعوره وكذلك أبو لبابة بن المنذر وكلاهما حضر بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يبق أحد في عزاز ثم قام مالك فمشى في الحصن وتقعد دراسا فوجده مقتولا فقال من قتل هذا اللعين فقال لاوان قتله أخي لوقا وهو أكبر مني سنا فأمر مالك باحضاره وقال لم قتلته وهو أبوك وما سمعنا ولدا قتل أباه من الروم سواك فقال حملني على ذلك محبة دينكم لان في بيعة هذا الحصن قسا من المعمرين وكنأ نقرأ عليه الإنجيل ويعلمنا بعلم الروم واني كنت في بعض الأيام في البيعة أنا وهو وليس عندنا أحد وكان اسمه أبا المنذر فقلت له يا أبا المنذر الا ترى إلى بلاد الشام كيف استولت عليها العرب وملكوا أكثرها وهزموا جيوش الملك وما كنا نظن أن العرب تقدر على ذلك لأنه ليس في الأمم أضعف منهم وأن الله تعالى نصرهم على ضعفهم فهل قرأت ذلك في كتب الروم أو ملاحمهم أو ملاحم اليونانيين فقال يا بني نعم اني قرأت ذلك ولقد أخبرنا الملك هرقل بذلك قبل وقوع هذا الامر وجمع اليه الملوك والاساقفه والبطارقة وغيرهم وأخبرهم ان العرب لا بد أن يملكوا ما تحت سريري هذا ولقد بلغنا عن نبي القوم أنه قال زويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها فقلت له يا أبانا فما تقول في نبي القوم قال له يا بني ان في كتبنا ان الله تعالى يبعث نبيا بالحجاز وقد بشر به عيسى المسيح بن مريم ولا ندري
278

أهو هذا أم لا فعلمت انه كتم عني امره مخافة ان أذيع سره فكتمت ما قال لي البارحة فلما رأيت يوقنا وأصحابه اسرى قلت هذا يوقنا قد قتل أخاه يوحنا وعاند العرب
وقاتلهم ثم إنه رجع إلى دينهم وما ذاك الا انه قد علم الحق معهم فقلت انا لنفسي قم أنت واقتل أباك وخلص يوقنا وأصحابه وارجع إلى دين هؤلاء فهو الدين الحق لا شك فيه فلما نام أبي بعدما شرب الخمر وسكر قتلته وسرت إلى خلاص يوقنا ومن معه فوجدت أخي لاوان قد سبقني إلى ذلك فقال له مالك يا غلام لم فعلت ذلك قال محبة في دينكم وأنا أشهد ان لا إله إلا الله وان محمدا رسول الله فقال له مالك قبلك الله ووفقك ثم خرج مالك من الحصن وولاه سعيد بن عمرو الغنوي وترك معه المائة الذين كانوا مع يوقنا وقدموا اليه صاحب الراوندات ومن معه فعرض عليهم الاسلام فأبوا فضرب رقابهم قال الواقدي حدثني عبد الملك بن محمد عن أبيه حسان بن كعب عن عبد الواحد عن عبد الله بن قرط الأزدي ان فتح عزاز كان هكذا والذي ذكر ان بنات دراس وزوجته قتلنه لم يصح والله أعلم ثم إن مالكا الأشتر أراد ان يرحل فعرض عليه سبي عزاز فكان ألف رجل من الشباب والبنات ومائتين وخمسة وأربعين رجلا من الشيوخ والرهبان والفي امرأة من النساء والبنات ومائة وثمانين عجوزا ونظر إلى شيخ من الرهبان مليح الشبيبة واضح الهيبة فقال ان صدقت الفراسة فهذا القس الذي أخبرني به لوقا واخوه لاوان فدعا بهما وقال هذا هو القس الذي أخبرني به لوقا فقال نعم فقال له يا شيخ إذا كنت من علماء أهل الكتاب فكيف تكتم الحق عن مستحقيه فقال والله ما كتمت الحق عن مستحقيه ولكن خفت من الروم أن يقتلوني لان الحق ثقيل وقد قتلوا الأبناء والاخوة وذلك لأجل الحق فكيف أنا فقال له مالك افتدخل في ديننا
فقال لست أدخل فيه الا إذا سألتكم عن مسائل وجدتها في الإنجيل فقال له مالك هات ما عندك فلما أراد القس أن يتكلم وقع الصياح في الحصن فارتاع الناس ووثب مالك لينظر ما خبر الناس وظن أن الروم قد غدرت بهم وإذا بأناس من المسلمين الذين بالحصن يقولون أيها الأمير خذوا حذركم فانا نرى غبرة على طريق منبج وبزاعة ولا ندري ما هي فركب مالك ومن معه ووقفوا ينتظرون ما ذاك وإذا قد لاح من تحتها خيول الاسلام وهم يسوقون السبايا والأموال والرجال وهم مشددون في الحبال ووراءهم الف فارس من المسلمين وأميرهم الفضل بن العباس رضي الله عنه وكان قد أرسله أبو عبيدة حتى غازي منبج والباب وبزاعة فوقع الكثير في الفريقين وسلم بعضهم على بعض وسأل الفضل مالكا عن قصته فحدثه أن الله قد فتح عزاز وأذل من فيها وحدثه بما كان من حديث يوقنا وانني ما منعني من الرحيل الا هذا القس وسؤاله فقال له الفضل أيها القس قل ما أنت قائل فقال القس أخبرني عن أي شيء خلقه الله تعالى قبل خلق السماوات والأرض فقال الفضل أول ما خلق اللوح والقلم ويقال العرش
279

والكرسي ويقال الوقت والزمان ويقال العدد والحساب ويقال أول ما خلق الله جوهرة فنظر إليها فصارت ماء ثم خلق العرش ياقوته وكان عرشه على الماء وانه نظر إلى الماء فاضطرب وارتعد وصعد منه دخان فخلق الله منه السماء ثم خلق الأرض وقيل خلق أولا العقل لأنه أراد أن ينتفع به الخلق وقيل أول ما خلق الله نورا وظلمة ثم دعاهما إلى الاقرار فأنكرت الظلمة وأقر النور فخلق منه الجنة لرضاه عنه وخلق النار من الظلمة لسخطه عليها وخلق أرواح السعداء من النور وأرواح الأشقياء من الظلمة فلأجل ذلك كل منهم يرجع إلى مستقره ويقال أول ما خلق الله نقطة فنظر إليها بالهيبة فتضعضعت وسالت ألفا فجعلها مبدأ كتابه العزيز فسبحان من ألف كتابه من نقطة وخلق خلقه من نقطة ثم يميتهم بقبضة ويحييهم بنفخة فلما سمع القس ذلك من كلام الفضل ابن العباس قال أشهد ان لا إله إلا الله وأشهد ان محمدا رسول الله هذا هو العلم الذي استأثر به أنبياء الله تعالى فلما نظر أهل عزاز إلى قسهم وقد أسلم اسلموا عن آخرهم الا قليلا منهم والله أعلم
قال الواقدي حدثني عامر بن يحيى عن أسد بن مسلم عن دارم بن عياش عن جده قال لما أسلم أهل عزاز باسلام قسهم الذي كان معتقدهم عول الفضل ومالك على المسير إلى حلب فقال يوقنا أنا والله ما لي وجه أقابل به المسلمين لأني كنت قلت قولا ودبرت أمرا فلم يتم لي وأني سائر إلى أنطاكية فلعل الله أن يظفرني بالاعداء وينصرني عليهم فقال له الفضل ان الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم ليس لك من الامر شيء فلا تحمل قلبك هما فقال ودين الاسلام لا أرجع الا بأمر يبيض الله به وجهي عند اخواني المسلمين فنظر وقد صحبه مائتان من بني عمه ممن قد رسخ في قلوبهم الايمان ولهم عيال وأولاد في حلب فاخذهم يوقنا وسار يريد أنطاكية فلما قرب من ارضها أخذ منهم أربعة وأمر الباقي أن يتعوقوا خلفه أربعة أيام ثم يأتوا كأنهم هاربون من العرب ليتم ما دبره في خاطره وسار هو والأربعة على طريق حارم والباقي على طريق أرناح وقال لهم الميعاد بيننا أنطاكية ففعلوا ذلك وساروا وسار هو إلى أن اشرف على دير سمعان المشرف على البحر فوجد هناك خيلا ورجالا يحفظن الطرقات فلما رأوا يوقنا والأربعة معه بادروا إليهم واستخبروهم عن حالهم فقال لهم يوقنا أنا صاحب حلب وقد هربت من العرب فوكل بهم صاحب الدرك جماعة وأمرهم ان يسيروا بهم إلى الملك فأخذتهم الخيل وأتوا بهم اليه فوجدوه في كنيسة الفتيان يصلي فوقفوا حتى فرغ من صلاته فاوقفوا يوقنا بين يديه وقالوا أيها الملك ان بطرس صاحب الحرس الذي عند دير سمعان قد وجه بهذا ومن معه إليك ويزعم أنه صاحب حلب فلما سمع هرقل ذلك قال له يا يوقنا ما الذي اتى بك وقد بلغني أنك دخلت في دين العرب فقال أيها الملك لقد بلغك الحق وذلك اني ما أسلمت الا لمكيدة القوم حتى أتخلص من شرهم ومن كراهة منظرهم ونتن رائحتهم واني قلت
280

لهم اسلم إليكم حصن عزاز واقتل صاحبها واخذت منهم مائة سيد من ساداتهم وسرت بهم وأمرت أن ينفذ ورائي الف حتى إذا صاروا داخل الحصن اقبض عليهم وأرسلهم إليك فعجل دراس علي ولم يفهم ما أضمرته ووثق بكلام جاسوسه ولم يثق بكلامي فقبض علينا فأتت العرب ووضعت السيف في أهلها وذلك أن لوقا قتل أباه رجل من العرب وأنا من جملتهم فلما اشتغلوا بالقتال والنهب هربت انا وهؤلاء الأربعة وجئنا إليك ولولا محبتي في ديني ما كنت قتلت أخي يوحنا وصبرت على قتال العرب وحصارهم سنة كاملة
قال الواقدي فاعانته البطارقة والملوك الذين كانوا حاضرين وقالوا صدق يوقنا أيها الملك وسيظهر لك فعله وعمله وجهاده فانبش وجه الملك لذلك وخلع عليه من لباسه الذي هو عليه وسوره ومنطقه وتوجه وقال له أن كانت حلب أخذت منك فاني وليتك على أنطاكية وأعطاه وظيفة دمستقها وسكندرها يعني واليها قال الواقدي فسمع يوقنا له ودعا له فبينما هو كذلك إذ أتى اليه الموكل بجسر الحديد واخبر الملك انه قد قدم عليهم مائتا بطريق من فرسان حلب وهم يزعمون أنهم من بيت واحد من الرومية من بني عم يوقنا وانهم قد هربوا من العرب فلما سمع ذلك قال ليوقنا أيها الدمستق والكندر قم واركب وأشرف على هؤلاء القوم فان كانوا من بني عمك فأهل بهم وضمهم إليك
ليكونا عسكرك وان كانوا غير ذلك فات بهم لأرى فيهم ما أرى وإياك أن يكونوا من قبل العرب ممن رجع إلى دينهم من أهل سيجر وحماة والرستن وجوسية وبعلبك ودمشق وحوران فقال نعم أيها الملك فركب وركبت معه الفرسان من الملكية والسريرية وأتوا إلى جسر الحديد وأمر أصحاب الدرك أن يأتوا بالمائتين فلما رآهم يوقنا رحب بهم ونظروا اليه وهو في ذلك الزي والحشمة وخلعة الملك عليه فترجلوا وقبلوا ركابه فقال لهم كيف خلصتم من أيدي العرب فقالوا أيها السيد أننا خرجنا منع أمير من أمرائهم وأغرنا على منبج وبزاعة فلما رجعنا نريد حلب أخذنا على عزاز فوجدناهم قد ملكوها فلما كان الليل تركناهم وأتينا قال الواقدي وهذا كله وحجاب الملك يسمعون فلما حضروا أخبروا
الملك بذلك ودخل يوقنا بهم على الملك فخلع عليهم وأنزلهم وأمرهم أن يكونوا في خدمة يوقنا وأعطاه دارا بإزاء قصره فقال يوقنا أيها الملك أنت تعلم أن هذه الدار لا يدوم نعيمها وأن السيد المسيح شبهها بالجيفة وطلابها بالكلاب يتجاذبونها كما روى عن المسيح أنه رأى طائرا حسنا مزينا بكل زينة فنزع جلده فرآه أقبح ما يكون منظرا فقال له من أنت قال اناالدنيا ظاهري مليح وباطني قبيح وإنما ضربت لك هذا المثل أيها الملك لتعلم أنه ما خلا جسد من حسد وإذا أقبلت الدنيا على أحد كثرت حساده وأنا أخاف من الحساد أن يتكلموا في عند الملك ويرموني بالبهتان وبما لا أفعله فان
281

كان الملك ينفر مني فليول هذه الوظائف غيري وانا ما أبرح على ركابك ثم إنه بكى فقال له الملك أيها الدمستق ما وليتك هذا الامر الا وقلبي وخاطري وأثق بك من تكلم فيك بشيء سلمته إليك تفعل به ما تريد فشكره يوقنا وأراد الخروج إلى وظيفته التي ولاه إياها وإذا بخيل البريد قد أقبلت من مرعش وهم رسل ابنته زيتونة وانها خائفة من العرب وهي تريد القدوم عليك حتى ترى ما يؤول من الامر وانها تسألك أن ترسل لها جيشا يوصلها إليك فلما سمع الملك ذلك قال ليس لهذا الامر الا الدمستق يوقنا فقبل الأرض وقال السمع والطاعة لامرك فضم اليه الف فارس ومائتين من أصحابه من المدبجة والقياصرة قال الواقدي فسار بالألفين والمائتي فارس وقد رفع الصليب فوق رأسه وجنبت الجنائب وعليها الرخوة المذهبة وسار يجد السير إلى أن وسل إلى مرعش وأخذ زيتونة بنت هرقل وهي الصغرى وكان الملك قد ولاها على تلك البلاد وزوجها بنوسطير بن حارس وكانوا يسمونه سيف النصرانية لشجاعته وكان قد قتل على اليرموك من جراحات اصابته قال الواقدي فلما اخذ يوقنا ابنة الملك وعاد يطلب بها أنطاكية اخذ على الجادة العظمى لعله يلقي أحدا من جواسيس المسلمين أو يرى معاهدا فيرسله ليعلم أبا عبيدة انه قد تمكن من الملك ومن البلد فلما وصل مرج الديباج وكان ليلا وإذا بخيله التي على مقدمته قد أتته وهم مذعورون فقال لهم ما بالكم فقالوا له أيها السيد الدمستق ان هناك عسكرا نازلا فقربنا منهم فإذا هم عرب وهم نيام ولا شك انهم مسلمون فقال لهم خذوا أهبتكم وأيقظوا خواطركم وانصحوا لدينكم وجاهدوا عدوكم وقاتلوا عن ابنة الملك ولا تسلموها إلى أعدائها وكونوا خير جند قاتل عن نعمة صاحبه وإذا تمكن الحرب بيننا وبينهم فاعتمدوا على الأسر وإياكم والقتل واعلموا ان العرب وأميرهم لا بد لهم ان يقصدوا الملك ومن معه فان أسروا منا أحدا يكن عندنا الفداء فقد وجدت في كتاب حرفناس الحكيم ان من نظر في عواقب زمانه توشح بوشاح أمانه ومن أهمل أمره خاف حذره ومن أكثر الغدر حل به الامر سيروا على بركة الله قال الواقدي فشرعوا الأعنة وقوموا الأسنة وقصدوا ذلك العسكر فلما أحسوا بهم بادروا إليهم واستقبلوهم وهم ينادون بعيسى بن مريم والصليب المفخم من أنتم فقال لهم يوقنا ومن أنتم فقالوا نحن أصحاب جبلة بن الأيهم فلما سمع يوقنا ذلك ترجل عن دابته وسلم عليه وسلمت العرب المتنصرة على الروم فقال جبلة من أين جئتم فقال له مرعش ومعي ابنة الملك وأنتم من أين جئتم فقال جبلة من العمق وقد أتينا بميرة أهلها فلما رجعت ووصلت إلى مرج دابق لقيت كتيبة من فرسان المسلمين وهم زيادة عن مائتي وهم لابسون زينا فلما وصلنا إليهم ابتدرونا
282

بعزم شديد وحرب عتيد وإذا مقدمهم لا يصطلي له بنار فلقد أباد منا رجالا وجندل منا ابطالا ونحن في ألفي فارس وهم مائتان وكان فينا كالنار المحرقة فما زلنا نقاتلهم حتى أسرناهم بعدما قتل الفارس منهم الفارس والاثنين والثلاثة منا وبقي أميرهم إلى آخر الناس فقصدنا جواده بالسهام حتى قتلناه ووقع فهجمنا عليه وأخذناه أسيرا فإذ هو من أصحاب محمد وهو ضرار بن الأزور ونحن قاصدون بهم إلى الملك هرقل ليرى فيهم رأيه فاظهر لهم يوقنا الفرح وقال وحق ديني لقد فزت بالفخر بأسرك لهؤلاء وهذا الغلام فلقد بلغني عنه ما فعل بأبطال الشام وفرسان الروم ثم سار القوم جميعا يطلبون أنطاكية
قال الواقدي حدثني الشريد بن عاصم عن شروان بن مجزل عن قادم ابن بشر عن زائدة بن معمر قال حدثنا بشار عن عوف عن صالح عن عبد الله عن جده مسروق قال المؤلف وحدثني هذا الحديث عباد بن عاصم عن عمران بن حصين قال لما فتح المسلمون حصن عزاز وترك مالك الأشتر عليها سعيد بن عمرو الغنوي والتقى بالفضل بن العباس ورجعا بالغنائم إلى حلب استبشر أبو عبيدة بسلامة الناس وبفتوح عزاز فسأل مالكا عن يوقنا فحدثه فيما بينه وبينه سرا وأنه قصد أنطاكية ليدخل على كلب الروم بحيلة ولم يكن له وجه يعود إليك به فقال أبو عبيدة الله ينصره ويظفره ويغفر له فلقد ظهر لنا منه ما لم يكن لنا في حساب ثم إنه كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتابا يقول فيه بسم الله الرحمن الرحيم من أبي عبيدة عامر بن الجراح إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب سلام عليك فاني أحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أما بعد فان الله سبحانه له المنة علينا التي يستوجب بها الحمد من جميع المسلمين إذ فتح علينا مستصعب قلاع الكفر وحصونه وأذل لنا ملوكهم وأورثنا ارضهم وديارهم وان سبحانه قد فتح علينا قلعة حلب وأردفها بحصن عزاز وأن البطريق يوقنا صاحب حلب قد أسلم وحسن اسلامه وقد صار عونا للمسلمين على الكافرين من بعد ما قاسينا منه ما الله عالم به فالله يجازيه فلقد نصر الله به الدين ونصح للمسلمين وأباد المشركين وقد دخل أنطاكية يدبر حيلة على كلب الروم وقد ألقى بنفسه إلى الهلاك في طاعة الله ورسوله ولقد كتبت هذا الكتاب ونحن معولون على المسير إلى أنطاكية نقصد طاغية الروم فما بقي حصن سواه لأعدائنا قريبا منا ونحن طامعون في أخذه وأخذ سريره وكنوزه كما وعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فزودنا بالدعاء منك فإنه سلاح المؤمنين ودمار الكافرين والسلام عليك وعلى من معك من المسلمين ورحمة الله وبركاته ثم إنه أخرج الخمس وسلمه إلى رباح بن غانم اليشكري وضم إليه مائتي فارس من المسلمين فيهم قتادة وسلمة بن الأكوع وعبد الله بن
بشار وجابر بن عبد الله ومثل هؤلاء رضي الله عنهم فأخذوا الخمس وساروا ثم أن أبا عبيدة دعا بضرار بن الأزور وضم اليه مائتي فارس وأمره أن يشن الغارة فركب ضرار
283

وكان معهم سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يزل ضرار سائرا هو ومن معه ومعهم رجال من المعاهدين يدلونهم على الطرق حتى وصلوا إلى مرج دابق وكان وقت السحر فقال لهم المعاهد ارفقوا على خيولكم فنزلوا وأراحوها بقية يومهم وليلتهم حتى إذا كان وقت السحر فما شعروا الا وجبلة كبسهم فلما وقع الصياح ركب ضرار وركب معه نحو مائة فارس وأما المائة الأخرى فقد دهمتهم خيول المتنصرة فلم يتمكنوا من الركوب فقاتلوا رجالا فنفرت خيولهم ووصل إليهم عدوهم حتى أنه قتل كل واحد خصمه وتكاثرت عليهم الخيل فأسروا المائة وأما ضرار فإنه صاح بالمائة الثانية وقال يا فتيان العرب أن أعداءكم قد هاجموكم على حين غفلة منكم وهم عرب مثلكم وهذه أفضل الساعات عند الله فقووا عزمكم ولا تفشلوا فأنتم تعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
الجنة تحت ظلال السيوف وقد قال الله تعالى كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين قال ميسرة بن عامر وكان من جملة من حضر معنا في مرج دابق ربيعة بن معمر بن أبي عوف وهو ابن عمر بن ربيعة الشاعر وكان ربيعة من فصحاء العرب لا يتكلم الا بالسجع كلامه ينظم بحسن مقاله وكنا نصغي اليه إذا سجع ونحفظ منه فلما سمع ضرارا وهو يحرضنا قال يا فتيان العرب لن تنالوا الجنة الا بالصبر على المكاره والله لن يدخلها من هو للجهاد كاره
* ولله في عرض السماوات جنة
* ولكنها محفوفة بالمكاره
*
وأعلى الدرجات درجة الشهادة فارضوا علم الغيب والشهادة فهذا الجهاد قد قام على ساقه وكسد النفاق في أسواقه واختفى بنفاقه في انفاقه أما أنتم أصحاب نبي العصر ولم يئستم من الثبات والنصر بشروا روح المصطفى بثباتكم وقووا العزم بصفاء نياتكم وإياكم ان تولوا الادبار فتستوجبوا غضب الجبار واعلموا ان النصر والثبات جندان منصوران فمن طلب دار البقا هان عليه الملتقى فصححوا طلبتكم تنالوا رحمة ربكم وحققوا حملتكم تنالوا بغيتكم واطعنوا النحور تنالوا الحور وتسكنوا القصور وقوموا الأسنة تنالوا الجنة واعتمدوا على الصبر تنالوا النصر وإياكم ان توافقوا الكفار في حالهم واعدلوا عن طريق قولهم قال العالم بحالهم وفعلهم * (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم) * قال سمرة ابن غانم والله لقد دهشت أنفسنا بقوله وحملنا على المتنصرة وضرار ينشد
* الا فاحملوا نحو اللئام الكواذب
* لترووا سيوفا من دماء الكتائب
* وردوا عن الدين المعظم في الورى
* وأرضوا اله العرش رب المواهب
* فمن كان منكم يبتغي عتق ربه
* من النار في يوم الجزا والمآرب
* فيحمل هذا اليوم حملة ضيغم
* ويرضي رسولا في الورى غير كاذب
*
قال الواقدي ثم حمل ضرار ونحن من ورائه وبذلنا نفوسنا وروينا سيوفنا
284

ورماحنا من المتنصرة وجرى الحرب بما لا يوصف وضرار فيهم كأنه النار في الحطب اليابس وجبلة بن الأيهم يتعجب من حملاته وضرباته فأمر قومه ان يقصدوا جواده بسهامهم ففعلوا ذلك فانصرع الجواد ووقع ضرار فتكاثروا عليه وأخذوه أسيرا وأخذوا بقية أصحابه وساروا يريدون أنطاكية فالتقوا بيوقنا وابنة الملك كما ذكرنا قال الواقدي ولقد حدثني معمر بن رواحة عن القاسم عن خزامة بن عمرو وعن أبي المنذر أن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في حرب ضرار بن الأزور أسيرا فلما كان الليل انطلق هاربا يلتمس الوصول إلى أبي عبيدة فإذا هو بأسد عارضه فقال سفينة يا ابا الحرث أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان من أمري كيت وكيت فقرب منه وهو يبصبص بذنبه حتى وقف إلى جانبه وأشار اليه برأسه 8 أن سر فسرت وهو إلى جانبي حتى أتى بي إلى بلد من صلحنا فتركني ومضى
قال الواقدي فلما وصل سفينة الجيش حدث الناس باسر ضرار ومن معه فصعب ذلك على المسلمين وبكى أبو عبيدة وخالد بن الوليد على أسرهم وقالا لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم وبلغ ذلك أخته خولة فقالت أنا لله وأنا اليه راجعون يا بن أمي ليت شعري في السلاسل أوثقوك أم بالحديد قيدوك أم في البيداء طرحوك أم بدمائك خضبوك وأنشدت تقول
* الا مخبر بعد الفراق يخبرنا
* فمن ذا الذي يا قوم اشغلكم عنا
* فلو كنت أدري انه آخر اللقا
* لكنا وقفنا للوداع وودعنا
* الا يا غراب البين هل أنت مخبري
* فهل بقدوم الغائبين تبشرنا
* لقد كانت الأيام تزهو لقربهم
* وكنا بهم نزهو وكانوا كما كنا
* الا قاتل النوى ما أمره واقبحه ماذا يريد النوى منا
* ذكرت ليالي الجمع كنا سوية
* فقرقنا ريب الزمان وشتتنا
* لئن رجعوا يوما إلى دار عزهم
* لئمنا خفافا للمطايا وقبلنا
* ولم انس إذ قالوا ضرار مقيد
* تركناه في دار العدو ويممنا
* فما هذه الأيام الا معارة
* وما نحن الا مثل لفظ بلا معنى
* أرى القلب لا يختار في الناس غيرهم
* إذ ما ذكرهم ذاكر قلبي المضنى
* سلام على الأحباب في كل ساعة
* وان بعدوا عنا وان منعوا منا
* قال الواقدي ولقد بلغني عن واصل بن عوف أنه قال اجتمعت النساء من العربيات ممن كان لهم أسير مع ضرار عند خولة ومن جملتهم مزروعة بنت عملوق الحيرية وكانت من فصحاء زمانها وكان ولدها صابر بن أوس فيمن أسر مع ضرار فجعلت تندب ولدها وتقول
* أيا ولدي قد زاد قلبي تلهبا
* وقد أحرقت مني الخدود المدامع
* وقد أضرمت نار المصيبة شعلة
* وقد حميت مني الحشا والاضالع
*
285

* وأسأل عنك الركب كي يخبرونني
* بحالك كيما تستكن المدامع
* فلم يكن فيهم مخبر عنك صادقا
* ولا منهم من قال إنك راجع
* فيا ولدي مذ غبت كدرت عيشتي
* فقلبي مصدوع وطرفي دامع
* وفكري مقسوم وعقلي موله
* ودمعي مسفوح وداري بلاقع
* فان تك حيا صمت لله حجة
* وان تكن الأخرى فما العبد صانع
* فقالت لهم سليمى بنت سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وكانت من الزاهدات العابدات أبهذا أمركن الله انما امركن بالصبر ووعدكن على ذلك الاجر أما سمعتن ما قال الله سبحانه وتعالى * (الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون) * فاصبرن تؤجرن فسكتن عن البكاء قال الواقدي ولما ورد الخمس على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكتاب أبي عبيدة مع رباح بن غانم اليشكري وقع الصائح في المدينة بقدومه فاجتمع الناس إلى المسجد ليسمعوا ما تجدد من أمر المسلمين فلما دخل رباح المسجد بدأ بالسلام على قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى قبر أبي بكر وصلى
ركعتين وأتى عمر وقبل يده وعرض عليه الكتاب فقرأه على المسلمين فضجوا بالتهليل والتكبير وصلوا على البشير النذير واخذ الخمس وكتب إلى أبي عبيدة يأمره بالمسير إلى أنطاكية ولا يصده عن ذلك شيء ورد الجواب مع رباح اليشكري
قال الواقدي أخبرني مازن بن عبد ربه عن مالك بن أسيد عن جده مروان بن الجرير ان الجواب لما ورد على أبي عبيدة سار من يومه يطلب أنطاكية قال وأما ما كان من أمر يوقنا رحمه الله تعالى وجبلة بن الأيهم لعنه الله فإنهم ساروا إلى أنطاكية وسبق البشير إلى الملك هرقل بقدوم ابنته مع يوقنا وقدوم يوقنا ومعه المائتا أسير من المسلمين فأمر بتزيين البلد والبيع فأظهرت الروم زينتها ودفعت الصدقات إلى الفقراء وأخرج موكب الروم إلى لقائهم مع ابن أخيه في زينة عظيمة ودخل القوم وهم في زيهم وحشمهم وكان يوما مشهودا وقد ترجلت الملكية والسريرية بين يدي ابنة الملك وخرج كل من بأنطاكية وقدموا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أمامها وهم مشدودون والروم تشتمهم وتبصق عليهم وقد دارت بهم الرجال والبطارقة ودخلت ابنة الملك إلى قصر أبيها قال الواقدي ودخل جبلة بن الأيهم يوقنا على الملك فخلع عليهما وعلى كبار أصحابهما ثم أنهم احضروا الصحابة وأوقفوهم بين يديه وهم في الحبال فلما وقفوا صاحت بهم الحجاب اسجدوا إلى الأرض تعظيما للملك فلم يلتفتوا إلى قولهم ولا اعتنوا به فقال لهم الحاجب الكبير ما منعكم ان تعظموا الملك بالسجود بين يديه فقال لهم ضرار لا يحل لنا أن نسجد لمخلوق وقد نهانا نبينا صلى الله عليه وسلم عن ذلك
286

قال الواقدي حدثني سهل بن برقان رضي الله عنه عن السائب بن جازم عن الحكم بن مازن قال لما وقف ضرار والصحابة بين يدي هرقل خاطبهم من غير ترجمان وأراد الملك أن يسمع بطارقته وحجابه بما كان يحدثهم به حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم وذلك أنه جمعهم اليه لما بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ظهر وقال هذا هو النبي المبعوث الذي بشر به عيسى بن مريم وهو صاحب الوقت ولا بد لدينه أن يظهر حتى يملأ المشرق والمغرب ثم إن هرقل دعاهم لاداء الجزية فأرادوا قتله فأراد ذلك اليوم ان يبين لهم حقيقة قوله وانه أراد بذلك الاصلاح لهم ولجالهم فقال لضرار ومن معه من يخاطبني منكم عما أسأله من العلم فأشاروا إلى قيس بن عاصم الأنصاري رضي الله عنه وكان شيخا معمرا وكان شاهد جميع أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعجزاته وغزواته فلما أشاروا اليه قال للملك قل ما أنت قائل أيها الملك قال هرقل كيف نزل علي نبيكم الوحي أول مبتدأ أمره فقال قيس ابن عاصم سأل هذا السؤال لنبينا صلى الله عليه وسلم رجل من مكة يقال له الحرث بن هشام فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يأتيك الوحي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني أحيانا مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فينفصم عني وقد وعيت عنه وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول قال قيس ولقد كان ينزل عليه في اليوم الشديد البرد فينفصم عنه وان جبينه ليرفض عرقا فأول ما بدىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم فكان لا يرى رؤيا الا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب اليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه أي يتعبد الليالي ذوات العدد فلم يزل كذلك حتى جاءه الملك وقال له اقرأ فقال لست بقارئ قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم ارسلني وقال لي أرسلي اقرأ فقلت ما أنا بقاريء فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الانسان من علق اقرا وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الانسان ما لم يعلم فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف بهافؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال زملوني زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الروع فأخبر خديجة وقال لها لقد خشيت على نفسي فقالت له خديجة كالا لا يخزيك الله أبدا أنك تصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقوي الضعيف الضعيف وتعين على نوائب الدهر والحق وذكر الحديث بطوله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري فإذا أنا بالملك الذي جاءني بحراء وهو جالس على كرسي بين السماء والأرض فخشيت منه رعبا فرجعت إلى خديجة فقلت دثروني دثروني فأنزل الله تعالى يا أيها المدذر قم فأنذر الآية ثم حمى الوحي وتتابع ولقد كنت معه يوما في المسجد إذ دخل رجل ومعه بعير له فأناخه بالباب وعقله ودخل وقال السلام عليكم فرددنا عليه السلام فقال أيكم محمد فقلنا هذا الأبيض الوجه فقال له الرجل يا ابن عبد المطلب قد أتيت أسألك مشددا عليك فلا تجد علي في نفسك فقال له سل
287

عما بدا لك فقال بربك ورب من قبلك الله أرسلك إلى الناس كلهم كافة قال اللهم نعم قال أنشدك بالله الله أمرك أن تصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة قال اللهم نعم
قال أنشدك بالله الله أمرك أن تصوم هذا الشهر من السنة فقال اللهم نعم فقال أنشدك بالله الله أمرك ان تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا فقال اللهم نعم فقال الرجل آمنت بما جئت به وأنا رسول من ورائي من قومي أنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر فقال هرقل بحق دينك ما الذي رأيت من معجزاته قال كنت معه في سفر فأقبل اليه أعرابي فدنا منه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أتشهد ان لا إله إلا الله وأني محمد رسول الله قال الاعرابي ومن يشهد بما تقول فقال النبي صلى الله عليه وسلم هذه الشجرة ثم إن النبي صلى اللهعليه وسلم دعا الشجرة وهي بشاطىء الوادي فأقبلت اليه وهي تخط الأرض حتى قامت بين يديه فاستشهدها ثلاث مرات فقالت أنت محمد رسول الله ثم أمرها فرجعت إلى منبتها فقال هرقل أنا نجد في كتابنا ان الرجل من أمته إذا عمل السيئة كتبت عليه واحدة وان عمل الحسنة كتبت له عشرا قال قيس بن عاصم هذا في كتابنا قال الله تعالى * (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها) * فقال هرقل أعلم ان النبي صلى الله عليه وسلم الذي بشر به عيسى المسيح هو الشاهد على الناس يوم القيامة فقال قيس هوة نبينا قال الله تعالى في كتابه العزيز يا أيها النبي أنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا الآية أما شهادته في العقبي فهو قول ربنا في كلامه القديم وجئنا بك على هؤلاء شهيدا فقال هرقل ان الذي وصفته لك هو الذي يأمر العباد أن يمضوا اليه في حياته ويصلوا عليه في حياته وبعد وفاته فقال قيس هو نبينا صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى في كتابه العزيز ان الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما قال هرقل ان الذي وصفه المسيح يعرج به إلى السماء ويخاطبه العلي الاعلى فقال قيس هو والله نبينا صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى في حقه سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى
قال الواقدي وكان في ذلك الوقت بترك الروم وهو رأس دينهم جالسا يستمع هذا الكلام فالتفت هذا البترك إلى الملك وقال له أيها الملك ان الذي ذكره عيسى لم يبعث بعده ولا قبله بل هي تآويل كاذبة فقال ضرار بن الأزور كذبت في وجهك وكذبت هذه اللحية الملعونة المخزية يا كلب الروم أنت من أمثالك من يكذب عيسى عليه السلام وينكر بعث نبينا محمد عليه الصلاة والسلام أما تعلم أن عيسى قرأه في الإنجيل وموسى قرأه في التوراة وقرأه داود في الزبور وان نبينا المبعوث بخير الأديان المشهود له بالنبوة والرسالة في كتاب الله العزيز وجميع الكتب المنزلة على الأنبياء من قبله وهو نبينا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب المكي ولكن حجاب الكفر منعكم عن معرفته فلما أن سمع هرقل من ضرار هذا الكلام قال له لقد أسأت الأدب في المجلس إذ خرجت
288

واحدة يطلبون جيش الموحدين وقد تركوا عزهم وفارقوا دينهم فلما قربوا من جيش المسلمين ظهر لهم يوقنا وبنو عمه المائتان فقال يوقنا لفلنطانوس أيها الملك عولت على أن تكبس المسلمين فقال لا والقديم الأزلي وانما أنا قاصد إليهم وداخل في دينهم وملتهم وأكون من جملتهم فمن نظر إلى الدنيا بعين الفناء عمل للآخرة فما الذي يمنعك يا يوقنا مما نحن عولنا عليه فقال يوقنا أيها الملك لقد جذبك جاذب الحق عن طريق الضلال ثم إنه حدثه بحديثه وانه عازم على أن يغدر بالروم فقبله فلنطانوس وفرح بمقالته وقال له كيف تقدر على ذلك وما أرى معك الا نفرا يسيرا فقال أيها الملك ان في داخل بيتي مائتين من المسلمين من أكابر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقام عشرين ألفا من الروم ولقد رأيت أن تعود أنت وقومك ولا تستعجل ونبعث رجلا إلى أمير المسلمين يخبره بما نحن معولون عليه فإذا كان غدا تقف أنت وجيشك حول الملك هرقل وأدخل أنا البلد وأطلق المائتي أسير وأعطيهم سلاحا ويحمل جيش العرب وتحمل أنت وعسكرك على مركب هرقل وتقصده بنفسك فتقبض عليه وتكون قد جاهدت وأسير أنا ومن معي في داخل البلد فنملكها إن شاء الله تعالى وان أردت ان ترجع إلى دار ملكك ويكون أمرك مكتوما علينا فحول أمر جيشك لمن تثق به من بني عمك قال فلنطانوس ما فعلت هذا ولي نية في ملكي ولا في ملك الدنيا بل إذا قضى هذا الامر ونصر الاسلام قصدت مكة فأحج وأزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم ثم أرجع إلى بيت المقدس فأقيم فيه إلى أن أموت فمن يذهب إلى أمير العرب برسالتي ويخبرهم بما قد عولنا عليه فقال له يوقنا أعلم ان لهم عندنا عيونا وجواسيس ممن هو تحت ذمتهم وأنا أعلمهم بما قد وقع قال فبينما هم في الكلام تحت ستر الليل وإذا بشيخ قصد اليهما فتأمله يوقنا فإذا هو عمرو بن أمية الضمري ساعي رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم على يوقنا وعلى من معه وقال ليوقنا ان الأمير أبا عبيدة يقول لك جزاك الله خيرا عن الاسلام وانه رأى في المنام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بما كان من أمر صاحب رومية وما تحدثتما به وما وقع له مع قومه وما عزمتم عليه وبشره بأن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وقد تفتح أنطاكية ويزول عز الروم عنها وينتزع ملك صاحبها
قال الواقدي فتهلل وجه فلنطانوس فرحا وأزداد أيمانا وقال الحمد لله الذي هدانا للاسلام والايمان قال الواقدي وذلك أن أبا عبيدة رضي الله عنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم وهو يقول يا أبا عبيدة ابشر برضوان الله ورحمته وغدا تفتح أنطاكية صلحا وان صاحب رومية المدائن الكبرى قد جرى من أمره كيت وكيت هو ويوقنا صاحب حلب وهما بالقرب منك فانفذ اليهما بنجاز الامر قال فاستيقظ أبو عبيدة وقص رؤياه على خالد وأنفذ عمرو بن أمية كما ذكرنا قال فلما سمع فلنطانوس ذلك اقشعر جلده وارتعدت فرائصه وقال أشهد ان لا إله إلا الله وأشهد ان محمدا رسول الله وأشهد أن هذا
289

* ولا ضاع عند الله ما تصنعانه
* فقد خف عني ما وجدت من الضر
* 5 بصنعكما لي نلت خيرا وراحة
* كذلك فعل الخير بين الورى يجري
* وما بي وأيم الله موتي وانما
* تركت عجوزا في المهامة والقفر
* ضعيفة حال ما لها من جلادة
* على نائبات الحادثات التي تجري
* تعودها حب القفار مقيمة
* على الشيح والقيصوم والنبت والزهر
* وكنت لها ركنا تعد رحاله
* وأكرمها جهدي وأن مسني فقري
* وأطعمها من صيد كفى أرانبا
* من الوحش واليربوع والظبي والصقر
* من الضب والغزلان والبهت بعد
* مع البقر والوحش المقيمات في البر
* وأحمي حماها أن تضام ولم أزل
* لها ناصرا في موقف الخير والشر
* وأني أردت الله لا شيء غيره
* وجاهدت في جيش الملاعين بالسمر
* وأرضيت خير الخلق أعني محمدا
* لعلي أنال الفوز في موقف الحشر
* فمن خاف يوم الحشر أرضى الهه
* وقاتل عباد الصليب بني الكفر
* كذا جلت يوم الحرب في كل كافر
* وجندلته بالطعن في الكر والفر
* تقول وقد حان الفرات لحينه
* الا يا أخي ما لي على البين من صبر
* إلا يا أخي هذا الفراق فمن لنا
* بحسن رجوع قادم منك بالبشر
* إذا سافر الانسان عن أرض أهله
* فاما رجوع أو هلاك مدى الدهر
* الا بلغاها عن أخيها تحية
* وقولا غريب مات في قبضة الكفر
* جريح طريح بالسيوف مشرح
* على نصرة الاسلام والطاهر الطهر
* الا يا حمامات الأراك تحملي
* رسالة صب لا يفيق من السكر
* حمائم نجد بلغي قول شائق
* إلى عسكر الاسلام والسادة الغر
* وقولي ضرار في القيود مكبل
* بعيد عن الأوطان في بلد وعر
* حمائم نجد اسمعي قول مفرد
* غريب كئيب وهو في ذلة الأسر
* وان سألت عني الأحبة خبري
* بأن دموعي كالسحاب وكالقطر
* حمائم نجد خبري الأخت انني
* قتلت بحد المرهفات من البتر
* حمائم نجد عددي عند موطني
* وقولي ضرار قد يحن إلى الوكر
* وقولي لهم اني أسير مقيد
* له علة بين الجوانح والصدر
* له من عداد العمر عشر وسبعة
* وواحدة عند الحساب بلا نكر
* وفي خده خال محته مدامع
* على فقد أوطان وكسر بلا جبر
* مضى سائرا يبغي الجهاد تطوعا
* فوافاه أبناء اللئام على غدر
* الا فادفناني بارك الله فيكما
* الا واكتبا هذا الغريب على قبري
* الا يا حمامات الحطيم وزمزم
* الا خبرا أمي ودلا على أمري
* عسى تسمح الأيام منا بزورة
* لقلب غريب لا يرام من الفكر
*
قال الواقدي لما كتب ابن يوقنا هذه الأبيات كتب أبوه يوقنا إلى أبي عبيدة
290

يعلمه بما يريد أن يدبره وسلمه إلى رجل يثق به وبعثه إلى المسلمين
قال المؤلف حدثني جابر بن عمران الدوسي ونحن في أرض يقال لها البلاط إذ جاء معن بن أوس من آل مخزوم ولقد تركه أبو عبيدة في المقدمة فجاء برجل من الروم فقال لأبي عبيدة خذ هذا إليك فهو يزعم أنه رسول فاستخبره أبو عبيدة في السر فقال أنا رسول إليك بكتاب فقال ممن قال من يوقنا ومن أسير لكم بأنطاكية يقال له ضرار بن الأزور فأخذ أبو عبيدة الكتاب وقرأه على من يعز عليه فبكوا من أبيات ضرار وبلغ الخبر أخته فأتت أبو عبيدة وقالت يا أمين الأمة اسمعني أبيات أخي فقرأ البعض عليها ولم يتمها فاسترجعت وقالت إنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم فوالله لآخذن بثأره إن شاء الله تعالى وحفظ الناس أبيات ضرار وتداولوها بينهم فكان أشد الناس عليه حزنا خالد بن الوليد
قال الواقدي حدثنا عبد الملك بن محمد عن أبيه حسان ابن كعب عن عبد الواحد بن عون عن موسى بن عمران اليشكري عن عامر بن يحيى عن أسد بن مسلم عن دارم بن عياش ان أهل حازم فتحوا قلاعا كثيرة وحصونا منها الراوندات وما سواها من قورص وباسوطا ولم يزل أبو عبيدة سائرا بالمسلمين إلى أن نزل على جسر الحديد وبلغ الخبر هرقل فتمكن الخوف من قلبه وأمر بطارقته بالتأهب للقتال ونصب سرادقاته مما يلي جسر الحديد وضربت الملوك خيامها وفتح الملك هرقل خزائن السلاح وفرقها على رجاله وأبطاله وخلع على يوقنا وقال له أيها الدمستق قد وليتك على جيشي هذا كله فكن أنت مدبره وسلم اليه صليبا كان في بيعة القيسان لا يخرجونه الا في الأيام العظام عندهم وقال له أيها الدمستق قدم هذا الصليب بين يديك واعتمد على نصرته فهو ينصرك فأخذه وسلمه إلى ولده وأمره أن يحمله بين يديه فعندها ركب الملك هرقل إلى كنيسة القيسان ومعه الملوك والحجاب حتى يصلي صلاة النصر فلما وصلوا وصلى الملك جلس وأمر باحضار المائتين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقربهم قربانا فقبل يوقنا يده وقال له يا عظيم الروم ما ولاك الله على البلاد والعباد الا وقد علم أن عقلك يسع ذلك وقد قال ديسقور الحكيم ان العقل مرقى جليل وصاحبه نبيل لأنه عز الانسان ومصباح الأنام وأعلم أيها الملك أن العرب قد قصدتنا بعددها وعديدها وقد نزلوا على جسر الحديد ولا بد لنا من القتال والمصاف معهم ولا ندري على من تكون الدائرة فان قتلت هؤلاء الاسرى ووقع أحد منا بأيديهم فإنهم لا يبقون عليه والصواب تركهم إلى أن نرى ما يؤول من أمرنا فان أسروا من أصحابنا أحدا أو من أعياننا نفاديه فقال أرباب الدولة صدق الدمستق في قوله قال البترك أيها الملك أحضرهم إلى هذه الكنيسة فإنها أحسن كنائس بلدنا وأمر النساء والبنات يتزين ويحضرن هنا فإذا هم نظروا إلى نسائنا وحسنهن وجمالهن وطيب رائحتهن مالت أنفسهم إليهن فيرجعون إلى ديننا فيكون ذلك وهنا على المسلمين
291

قال فأمر بذلك فلما حضروا رفعت القسوس أصواتهم بقراءة الإنجيل فرفع المسلمون أصواتهم بالتهليل والتكبير وقالوا كذب الجاحدون وضلوا ضلالا بعيدا ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من اله وكان في الاسرى رجل من اليمن من فضلائهم وعلمائهم ممن علم علم الحميرين وقرأ الكتب السالفة وكان اسمه رفاعة بن زهير يقول الشعر وينظم الكلام وانه لما نظر الكنيسة ملآنة بأهل الكفر ورآهم يعظمون الصلبان ويسجدون للصور قال الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله كذب العادلون عن الله أصحاب الشيطان والا اله الا الله الواحد الرحمن الذي ليس له أب محسوب وانه فرد صمد لا إلى شيء منسوب ليس له ضد ولا ند ولا حد أوجد الموجودات وصور المخلوقات وخلق الكائنات ودبر الأرض والسماوات أول لا افتتاح لوجوده وآخر لا عدم لشهوده لا يموت ولا يفنى ولا يزول ولا يبلى لا شريك له ولا وزير له ولا صاحب له ولا مشير له ليس كمثله شيء وهو السميع البصير قال فاضطربت الكنيسة لقوله ومالت القسوس بعكاكيزها اليه فأشارت الحجاب إليهم ان لا يكموه ويتركوه فتفرقوا عنه فقال له الملك هرقل ما اسمك يا أخا العرب قال أيها الملك وما تريد من اسمي ولست من جنسكم فتستخبروني فقال البترك صدق أيها الملك ليس هو من جنسنا ولا له علم ولا خبرة فعلام تسأله انما هو بدوي يعلم بسكنى القفار وصحبة الأشرار والحكمة من بلادنا ظهرت وفي حكمائنا اشتهرت لأنها نبعت من اليونانيين ووعاها جدودنا السريانيون من أين للعرب حكمة يتوارثونها وعلوم يتدارسونها والفضائل كلها من علمائنا والعدل في ملوكنا الإسكندر وبطليموس وموريق ويوسطنيوس وأرمويل وانطاميس وأرجاس وجرجس واسطوس واسطانيس وسارغورس النوصيدي وهو الذي بنى أنطاكية وسفليوس واريسا وكان نبيا ملكا ويلينوس وهو الذي بنى الرها ومنبج واسطبس وكان كاهنا وهو الذي اخبر ملك زمانه انه قد ولد مولود يخاطب الرب ويكون له شأن ونبأ عظيم يهلك على يديه أفلاطون وهو فرعون ومنافسطين الحكيم ومنا فجر العلوم ومنا منتهو وهو الذي بنى رومية الكبرى وباسمه ومناسطاليوس وهو الذي وضع الكتاب الأول الذي فيه حوزة الأرض بجبالها وبحارها وبنائها وصوانها ووصف أمة كل إقليم بألوانها
وخواصها ووصف ما في كل إقليم من معدن ذهب أو فضة أو جوهر وأحصى عيون الأرض جميعها بأسمائها وجبالها وأوديتها وشعابها وغدرانها وعجائبها ومنا ايردروس القلنسب الرومي وهو الذي يقول حشرني الله مع الذين يقال لهم في الميعاد أدبروا مع إبليس وجنوده إلى النار ألم تطهر نفسك أيها المسكين الناظر في كتابي القاري الآبي من ادناس الدنيا وشهواتها المظلمة للنفوس المعوقة للحس الروحاني النوراني ان ترقى إلى عالم عليين فانظر في الحكمة فإنها سلم العالم الروحاني فمن عدمها فقد عدم القرب إلى بارئه ومصوره ومنشئه
قال الواقدي انما تكلم البترك بهذا الكلام بين يدي الملك هرقل وهو يظن أنه
292

يطعن في العرب ليسمع جبلة بن الأيهم حكمته وكان جبلة وولده حاضرين وكان بين البترك وبينه عداوة سببها أن البترك كان بنى له ديرا عظيما وجعل له عيدا في السنة تقصده الروم من كل مكان بالنذور والأموال والستور والشموع وكان ذلك كله برسم البترك قال فاعطى الملك لجبلة تلك الأرض التي فيها الدير فتغلب جبلة على الدير وبنى حوله مدينة وسماها باسمه وهي جبلة هذه
حدثنا سليمان بن عامر عن منصور الجوني قال حجاج بن جريج أخبرني يحيى بن عمارة ابن أبي الحسن قال لما سمع رفاعة بن زهير كلام البترك تبسم من قوله وقال أيها البترك لقد مدحت أقواما ليس لهم إلى الفضل سبيل ولا فيهم فاضل ولا نبيل ولا من وحد الملك الجليل الذي ليس له مثيل ولا عديل وما الفضل الا لولد إسماعيل بن إبراهيم الخليل الذي لهم البيت الحرام وزمزم والمقام والمشعر الحرام ومنهم التبابعة والاقيال والحماة والأشبال الذين ملكوا الأرض في الطول والعرض ومنهم الملك الصعب الإسكندر الذي ملك قرني الأرض ودخل الظلمات ودخل في طاعته أهل الأرض وبلغ مطلع الشمس ومغربها وأذل ملوكها وجعل له منهم جندا وأعوانا وسماه الله ذا القرنين ومنهم سبأ بن يعرب بن قحطان وشداد بن عاد وشديد بن عاد وعمرو ذو الأذقان وهو ابن سكسك والهدهد بن عاد ولقمان بن عاد وشعبان بن إكسير بن تنوخ وعباد بن رقيم وهاديل بن عتبان وكان يتكلم بالحكمة ومناجاة موسى بن جلهمة بن سياسة بن عجلان بن ياقد بن رخ وثمود بن كنعان ومنا سبأ بن يشجب وهو أول متوج منا ثم ولى بعده حمير ثم منا تبع وهو متوج ومنا وائل بن حمير متوج ومنا عاد بن حمير متوج ومنا بني الله حنظلة ابن صفوان من أهل الرس ومنا نفيل بن عبد المدان بن خشدم بن عبد ياليل بن جرهم بن قحطان بن هود عليه السلام عاش خمسمائة سنة وهو الذي بني المصانع واستخرج الكنوز وقاد الجيوش وورثه الله علم نبيه حنظله بن صفوان وقد ختم الله شرفنا ورفع قدرنا إذ جعل محمدا صلى الله عليه وسلم منا فنحن السادة وأنتم العبيد
حدثنا سفيان عن عبد ربه قال أخبرنا رحيم قال حدثنا الوليد بن زيادة عن حزام ابن حكيم قال بلغني أن هذا الرجل يعني رفاعة بن زهير بن زياد بن عبيد بن سرية الجرهمي كان عالما بأنساب العرب وأخبارهم وملوكهم وكان طالع كتب هود وصالح وحنظله عليهم السلام فلما تكلم بحضرة الملك هرقل بهذا الكلام أراد البترك ان يعجزه بسؤال يلقيه عليه فقال يا ذا الهمم العلية والقرائح الذكية بم تصل القلوب إلى نسيم العقل الروحاني وترقى إلى ملكوت اللاهوت والطيور الخفية الغائبة عن الابصار بالأقطار وترقى في رياضات الألباب المصفاة من الأدناس والأفكار النورانية بصفو اكدار الاخلاف المحيطة بالأفكار من الهياكل الجسمانية فعند الصفو من مفارقة الكدر تعيش الأرواح عيشة الأبد الذي لا يصل اليه انحلال ولا اضمحلال فحينئذ
293

يختلط العنصر بالعنصر ويطفو الصفو بالصفو ويرسب الكدر إلى الكدر فقال رفاعة بن زهير ما أصبت أيها البترك في مقالتك فقال ولم قال رفاعة كيف تدل القلوب إلى علام الغيوب وقد حجب عنها صواب المصيب أم كيف يتخلص الصفو من الكدر بغير تهذيب من الكفر وكيف تحلى الافكار من غوامض الاسرار وهي في حجب الاغترار إذا تناهت الأهوال إلى مفازلتها وقربت الهمم من مواضعها وعادت الفكر إلى عناصرها وعادت متحركات الفكر إلى مساكنها وغاليات الأذهان إلى أماكنها فانحازت الاشكال عن الاشكال بلطف تأثير الهوى فيها وانكبت مشرفة عن هياكلها من أقطار عناصرها قال أيها البترك هذا كلام العرب الذي زعمت أن الحكمة ليست من أخلاقهم ولا تباع في أسواقهم ولقد كان ملك من ملوك اليمن اسمه سيف بن ذي يزن الذي بشر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يتكلم بغوامض العلوم الحكمية ووشح بوشاح شكر النعمة ومن جملة ما قال فصيح من فصحائنا اسمه قيس بن ساعدة هذه الأبيات
* الا اننا من معشر سبقت لهم
* اياد من الحسنى فعوفوا من الجهل
* ولم ينظروا يوما إلى ذات محرم
* ولا عرفوا الا التقية في الفعل
* وفينا من التوحيد والفعل شاهد
* عرفناه والتوحيد يعرف بالعقل
* نعاين ما فوق السماء جميعها
* معاينة الاشخاص بالجوهر المجلى
* ونعلم ما كنا ومن أين بدؤنا
* وما نحن بالتصوير في عالم الشكل
* وانا وان كنا على مركز الثرى
* فأرواحنا في عالم النور تستجلي
* وما صعدت كي تستريح وإنما
* حقيقة ممثول وجلت عن المثل
*
قال الواقدي قال أبو سعيد حدثنا شيبة بن أبي عبد الله بن عيسى عن لقية بن هند عن عبد الله بن ربيعة قال قلت لرفاعة بن زهير لما خلص من قبضة الروم يا عم كيف كان البترك يفهم ما تقول وتفهم ما يقول فقال يا بني ما رأيت أفصح من اللعين بلسان العربية ولقد سألت عن ذلك من عبد الله يوقنا فقال أما علمت أن ملوك الروم والبطارقة لا يستقيم ملكهم الا أن يتعلموا لسان العربية قال ولما حدث رفاعة المسلمين بمناظرة البترك كتبها كثير من الناس
قال الواقدي وكان لرفاعة بن زهير الجرهمي ولد جاهل قال وكان أسر معه قال وكان قلبه يميل إلى الكفر وكان رفاعة يدعو عليه فلما حضر الأسارى في كنيسة القيسان واشتغل رفاعة مع البترك بالمناظرة أقبل ولد عامر يحدق بنظره إلى البيعة وزينتها وصورها وصلبانها ويتأمل نسار الروم وزينتهن فبادر إلى تقبيل الصلبان والاشراك بالرحمن فلما رآه أبوه رفاعة بكى وقال يا ويلك أكفرت بعد الايمان يا ويلك طردت عن باب الرحمن يا ويلك كفرت بالملك الديان يا طريد القدرة يا من بعد عن الحضرة فيا ولدي ما بكائي على فراقك وانما إذا سلكت أنا في طريق وأنت في طريق إذا مضيت أنت إلى دار الأبالسة وحشرت مع الرهبان والشمامسة
294

وتكون في طبقة النار السادسة وأنا أمضي مع محمد إلى دار فيها الأرواح مستأنسة يا بني لا تطلب حياة الدنيا يا بني لا تختر شهوتها على الآخرة واخجلني من فعالك إذا وقفت بين يد العزيز الجبار يا بني لقد فضحت شيبة أبيك إذ كفرت بعالم السر والنجوى يا بني لقد خاب أملي فيك والرجاء يا بني كيف طاب قلبك ان تتبرأ من محمد المصطفى يا بني ممن تطلب الشفاعة غدا يا بني غرتك الحياة فصرت تكفر بالعليم يا بني صرت إلى الشقاء من بعد كونك في النعيم يا بني أما تخشى العذاب في الجحيم أما تستحي من أحمد يوم القيامة أما تعلم أن أباك قد غدا من أجل كفرك في هموم اين المفر إذا دعاك الله في اليوم العظيم ويقول يا عبدي كفرت بواحد فرد يا بني أنت في عيش ذميم أما أبوك فإنه يبقى بعز مقيم أسألك يا ولدي بما قد كان في الزمن القديم من حنوي وتعطفي حال الرضاعة والفطام الا رجعت إلى الذي غطاك بالستر العميم قال فقيل له ان ولدك قد أغلق الباب عليه وأرخى الحجاب فأمر به البترك فحل من الوثاق وأمر به إلى جرن ماء المعمودية فغمسوه فيه ودارت به القسوس والشمامسة وبخروه ووقعت عليه الخلع منن البطارقة والملوك ووهب له البترك مركبا وجارية ومنزلا وضمه إلى عسكر جبلة بن الأيهم ثم قال البترك يا هؤلاء ما منعكم أن تدخلوا في ديننا كما فعل صاحبكم قالوا منعنا من ذلك صحة ديننا وثبات يقيننا وما نحن من الذين يبدلون أيمانهم بالكفر ولو قتلنا فقال لهم البترك طردكم المسيح عن بابه وابعدكم عن جنابه
فقال له رفاعة الله يعلم أينا المطرود ومن هو عن رحمة ربه مبعود فقال هرقل يا معاشر العرب قد وصل الينا ان خليفتكم وأميركم يلبس مرقعة وقد وصل اليه من أموالنا وذخائرنا ما يكل عنه الوصف فما منعه ان يتزيا بزي الملوك فقال رفاعة يمنعه من ذلك طلب الآخرة والفزع من جبار الجبابرة فقال هرقل ما صفة دار أمارته فقال رفاعة مبنية بالطين خالية من الحجاب آنسة بالفقراء والمساكين قال فما بساطه قال العدل والتمكين قال فما سريره قال العقل واليقين قال فما بدلة ملكه قال الزهد والدين قال فما خزائنه قال الثقة برب العالمين قال فمن جنده قال أبطال الموحدين أما علمت أيها الملك أن جماعته قالوا له يا عمر قد ملكت كنوز القياصرة وذللت البطارقة والأكاسرة فهلا لبست ثيابا فاخرة قال أنتم تريدون زينة الحياة الظاهرة وأنا أريد رب الدنيا والآخرة فلما ابدى هذا القول وأضمر أشار اليه منادي القدرة وبشر * (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر) * قال ثم إن الملك هرقل أمر بهم إلى السجن الذي هو في كنيسة القيسان وخرج إلى عسكره ليشرف على الخيام فرأى السرادقات قد ضربت لان البطارقة ضربت سرادقاتها عند خيامه ونونيا الملوك قد نصبت بإزاء كل نونية كنيسة من الخشب المدهون بسائر الاصانيع والنواقيس على
295

أبوابها وكان زي الروم ذلك وهذه البيع والخشب كانوا يتنافسون فيها وفي صنعتها وتكون معهم في أسفارهم وعساكرهم وطاف هرقل على عسكره جميعه وأراد الدخول إلى أنطاكية وإذا بفوارس تركض اليه فقالت لهم الحجاب وأصحاب السرير ما وراءكم قالوا ملك جسر الحديد منا وقد حصلت العرب منا على داخل الجسر قال فأيقن الملك بزوال ملكه وقال وكيف ملكت العرب الجسر والبرجين وفيها ثلاثمائة من البطارقة الشداد قالوا أيها الملك ان المقدم الذي على الأبراج هو الذي سلمهم قال الواقدي ومن حسن لطف الله بالمسلمين ان صاحب الملك كان في كل يوم يمضي إلى الجسر ويوصي من في البرجين باليقظة والحرس الشديد وانه مضى في بعض الأيام على عادته فوجدهم يشربون الخمر وليس عندهم حفظ ولا حرس فأخذهم وضرب كبراءهم وهم بقتل مقدمهم ثم أنه أمسك عنه خوف الملك فعمل الحقد في قلوبهم فجاءهم يوقنا في بعض الأيام يتجسس ليدبر فيه حيلة فرآهم حنقين من صاحب الملك فسألهم فأنكروا منه فقال لهم اطلعوني على خبركم فقالوا له أتعطينا منك أمانا فأعطاهم فقالوا نحن نسلم هذا الجسر للعرب فلما صح عنده ذلك قال لهم ما مرادكم قالوا نأخذ أمانا من المسلمين فقال يوقنا أنا أكتب لكم كتابا إلى أميرهم بأن يعطيكم أمانا وان دخلتم في دينهم فهو خير لكم فقالوا له وكيف أنت دخلت في دينهم ثم رجعت فقال حاش الله وانما أتيت أدبرهم على تسليم أنطاكية لهم فلما صح عندهم ذلك قالوا ونحن نسلم إليهم الجسر فلما وافقهم على ذلك كتموا أمرهم فلما قدم المسلمون مضى إليهم صاحب الجسر من غير أن يعلم به أحد وأخذ له ولمن معه أمانا وناوله كتاب يوقنا ففرح المسلمون بذلك بأن يأخذوا جسر الحديد من غير قتال فأعطوا للمقدم أمانا فلما وصل عسكر المسلمين إلى الباب الذي على الجسر فتح لهم فدخلوا فلما سمع هرقل بذلك أمر الناس أن يتأهبوا للحرب قال ففعلوا ذلك
قال الواقدي حدثنا ياسر بن عبد الرحمن عن منازل بن نزاف الصيدلاني وكان أعرف الناس بفتوح الشام قال بلغني أنه لما صار المسلمون بأرض أنطاكية قال أبو عبيدة لخالد يا أبا سليمان قد صرنا بأرض أنطاكية بلد كلب الروم والساعة يأتينا عسكره فما ترى من الرأي قال خالد ان الله قال * (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) * الآية فأمر أصحابك أن يتأهبوا ويظهروا زينة الاسلام وقوة الايمان وسير كل أمير بجيشه ولتكن الكتائب والمواكب يتلو بعضها بعضا قال ففعل أبو عبيدة ذلك وأول من سير سعيد بن زيد أحد العشرة ومعه ثلاثة آلاف فارس فيهم المهاجرون والأنصار وجعله على مقدمة الجيش وسير وراءه رافع بن عميرة الطائي ومعه ألف فارس وسير وراءه ميسرة بن مسروق العبسي في ثلاثة آلاف فارس وسار وراءه خالد في جيش الزحف وسار وراءهم أبو عبيدة في بقية العسكر وكان معه عمرو بن
296

معد يكرب الزبيدي وذو الكلاع الحميري وعبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن عمر وابان بن عثمان ابن عفان والفضل بن العباس وأبو سفيان صخر بن حرب وراشد بن ضمرة وسعيد بن رافع وزيد ابن عمرو ومثل هؤلاء السادات وراءهم النساء اللاتي لهن الاسرى وفيهم خولة بنت الأزور وعفيرة ابنة عفان ومروعة ابنة عملوق وأم ابان بنت عتبة وليس فيهم أشد حزنا من خولة بنت الأزور
قال الواقدي ومما بلغني أنها قالت في أسر أخيها من المراثي المبكيات
* ابعد أخي يلذ الغمض عيني
* فكيف ينام مقروح الجفون
* سأبكي ما حييت على شقيق
* أعز علي من عيني اليمين
* فلو اني لحقت به قتيلا
* لهان علي إذ هو غير هون
* وكنت إلى السلو أرى طريقا
* وأعلق منه بالحبل المتين
* وانا معشر من مات منا
* فليس يموت موت المستكين
* واني أن يقال مضى ضرار
* لباكية بمنسجم هتون
* وقالوا كم بكاؤك قلت مهلا
* أما أبكى وقد قطعوا وتيني
*
قال فسار أبو عبيدة في مواكبه كما ذكرنا فبينما الروم في خيامها وعسكرها إذ وقع فيهم الصائح بقدوم العرب فركزوا خيولهم وصفوا صفوفهم فأول من أشرف عليهم برايته سعيد بن زيد وبعده المسيب بن نجيبة الفزازي وبعده ميسرة بن مسروق العبسي وبعده أتى خالد بن الوليد وبعدهم أبو عبيدة في مواكبه فنزل كل أمير بقومه فلما نظر هرقل إليهم وانهم قد نزلوا بفنائه وبنائه ترك على حفظ جيشه صاحبه الأكبر نسطاروس بن روميل وكان من شجعان الروم ودخل إلى كنيسة القيسان وجمع الملوك والبطارقة والسريرية والحجاب وقام هرقل فيهم خطيبا وقال يا أهل يدين النصرانية ويا بني المعمودية قد قرب ما حذرتكم منه من زوال ملككم وذهاب عزكم من أرض سورية وقد كنت حذرتكم من زوال ملككم ومن هذا المقام فلم تقبلوا مني وأردتم قتلي وهؤلاء القوم قد دخلوا بدار ملككم ورياح عزكم فقاتلوا عن حريمكم وأموالكم وأنفسكم وأياكم والفشل لا يلحقكم في الجهاد فقد جاهدت عنكم جهدي وأتلفت أموالي وخزائني ورجالي عن دينكم وملككم فلم تصادفني مساعدة ولا أدركت من القوم فائدة فان أنتم فشلتم وتقاعستم ولم تجردوا لهؤلاء العرب سيوف العزم والا كان العار عليكم والذلة تصل إليكم أين أبناؤكم ومن سلف من آبائكم ماتوا كراما غير لئام وسكنت ديارهم العرب اللئام وكنائسهم صيروها جوامع وأخربوا البيع والصوامع وأذلوا ملوككم واستعبدوا أبناءكم ونساءكم وملكوا قلاعكم واستولوا على حصونكم ومدائنكم وقد مضى ما مضى فاستأنفوا الامر وقاتلوا فكم هلك من الأمم قبلكم على ممالكهم وعلى الغيرة على حريمهم ولقد كانت حكمتي أنتجت لكم ان تنسجوا على منوال المصحالة بينكم وبين هؤلاء العرب فأبيتم
297

ذلك لان ظلمة جهلكم قد أطفأت نور الحكمة أما علمتم انه قد وجد لوح من الحجر على قبر طفيماون تلميذ اقيانوس وفيه مكتوب الحكمة سلم العالم الاعلى من عدمها فقد عدم القرب إلى بارئة الحكمة حياة القلوب وبغية الأذهان نزهة النفوس ونور العقول من لم يكن حكيما لم يزل سقيما من تدبر نظر ومن نظر عرف ومن عرف عمل ومن عمل انفتح ذهنه وعقله ومن انفتح عقله صفت نفسه فقام اليه جبلة بن الأيهم وقال يا عظيم الروم انما قتال هؤلاء العرب بقتل خليفتهم عمر بالمدينة فلو أنت أرسلت اليه رجلا من آل غسان يقتله فيكون سبب فشلهم وانتزاع الشام من أيديهم فقال هرقل هذا شيء لا يصح امله ولا ينقضي أجله لان الآجال مقدرة والأنفاس مقررة ولكن هو شيء تطيب النفس عند سماعه فافعل ما أردت قال فأرسل جبلة من قومه رجلا يقال له واثق بن مسافر الغساني وكان جريئا مقداما في الحروب فقال له انطلق إلى يثرب
فلعلك تقتل عمر فان أنت فعلت ذلك فانا أعطيك ما أردته من الأموال قال فانطلق واثق بن مسافر حتى دخل المدينة ليلا فلما كان الغد صلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالناس صلاة الصبح ودعا وخرج إلى ظاهر المدينة يتنسم اخبار المجاهدين بالشام قال فسبقه المتنصر وجلس له بأعلى شجرة من حديقة بن الدحداح الأنصاري واستتر بأغصانها ثم إن عمر قام عن ظاهر المدينة حين حميت الرمضاء وعاد وهو وحده فقرب من الحدية ودخلها ونام في ظلها فلما نام هم المتنصر بالنزول من الشجرة وجرد خنجره وإذا هو بأسد أقبل وهو بقدر البقرة الكبيرة وطاف حول عمر وجلس عند قدميه يلحسهما واقام حتى استيقظ فعندها نزل المتنصر وقبل يد عمر قال له يا عمر قد عدلت فأمنت بأبي والله من الكائنات تحفظه والسباع تحرسه والملائكة تصفه والجن تعرفه ثم حدثه بأمره وأسلم على يديه
قال الواقدي وكانت هذه الفعلة قبل نزول المسلمين على أنطاكية
حدثنا أبو محمد قال أخبرني أبي عن حسان عن السدي عن يحيى الواقدي عن شهر بن عباس البيروتي ان عمر حدثه عن نزول أبي عبيدة بالمسلمين على أنطاكية قال وعظ هرقل قومه بكنيسة القيسان واستحلفهم انهم لا ينهزمون أو يموتوا عن دم واحد فحلفوا وخرجوا مع الملك إلى عسكره وقد رفعت الصلبان وقرأت القسوس والرهبان وارتفع الضجيج من أهل الكفر والطغيان واصطفوا للقتال وكان المسلمون قد رتبوا صفوفهم وأوقفوا كل أمير في مكانه ونشرت الرايات والاعلام وأشار أبو عبيدة إلى ربيعة بن معمر الشاعر وكان لسنا فصيحا لا يتكلم الا بالكلام المنظوم فقال له يا ربيعة فوق سهام لفظك ووعظك إلى المجاهدين وحرض المسلمين على قتال المشركين قال فتقدم ربيعة أمام الصفوف وكان جهوري الصوت يسمعه القريب والبعيد فقال أيها الناس إلى متى هذه المهلة فتأهبوا للحملة فهذه طيور الأرواح قد عولت على فراق أقفاص الأشباح وقد ارتاحت إلى باريها وأجابت صوت مناديها وها هي تخاطبنا
298

بلسان اشارتها عن نطق عبارتها ما هذا الوقوف على بذل أنفسكم وقد اشتراها مؤيدكم افركنتم إلى حب الحياة الفانية والأنفس الدانية وهذه أوقاتكم بالنصر مؤيدة وهمتكم عن طلب زينة الدنيا متحيدة والمواعظ الصادقة بكلام الحق مقيدة أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وهذه طوالع سعودنا بالاقبال طالعة وشجرة آمالنا بالتأييد يانعة فلله درهم فلقد ظهرت زهرة نجوم المحبة في أفلاك راياتهم وتبلج فجر العشق في سماء سماتهم وأشرقت شموس المعرفة في مشارق عشقهم فلما هموا بالحملة بأجمعهم واصطفوا وقدموا همم النفوس في رضا الملك القدوس واستبقوا وزاحموا بعضهم بعضا ولم يرفقوا نودوا من صفاء اسرارهم * (من المؤمنين رجال صدقوا) *
قال الواقدي رحمه الله حدثني زيد بن إسماعيل الصائغ عن جعفر بن عون عن عياش ابن ابان عن جابر بن أوس قال كنت حاضرا في مصاف أبي عبيدة على أنطاكية حين وعظنا بسجعه ربيعة بن معمر فكان أول من خرج من الروم للبراز شجاع الروم نسطاروس بن روبيل وهو كأنه برج من حديد فلما توسط الميدان طلب البراز فخرج إليه دامس أبو الهول مولى بني طريف فاتح قلعة حلب وهو يومئذ فارس غطريف فحملا على بعضهما فلما اشتعلت نار الحرب بينهما عثر جواد دامس فسقط على ظهره فانقض عليه نسطاروس وأخذه أسيرا وقاده ذليلا ورجع إلى الميدان فخرج عليه الضحاك بن حسان الطائي وكان يشبه خالدا في حملاته وخفته فلما برز قال قائل من الروم ممن شاهد قتال خالد في المواطن وعرفه هذا فارس الشام والمسلمين الذي فتح بلادنا فصار كل من في أنطاكية ينظر اليه وهم يظنون أنه خالد فازدحمت خيل المشركين من كثرة النظر اليه فقطعت حبال السرادقات التي لنسطاروس وغيروا سريره فخاف الغلمان على أنفسهم وسرادقاته على ذلك وإذا رآها على تلك الحالة قتلهم ولم يجدوا أحدا يعينهم على رفع السرادق لان كل من في العسكر مشغول بالفرجة على نسطاروس مع خصمه فاتفق اثنان من الفراشين وكانوا ثلاثة على حل دامس أبي الهول وقالوا له نحن نحلك من وثاقك وتعيننا على شيل عمود هذا السرادق ونعيدك إلى الوثاق فإذا جاء البطريق نشفع فيك فإنه يخلي سبيلك فقال نعم فحلوه من وثاقه فعندها قبض على الاثنين كل واحد بيد وضرب واحد بواحد فصرعهما فماتا فهجم على الثالث فقتله وفتح صندوقا من الصناديق فوجد فيه ثياب نسطاروس فلبسها وركب من الطوالة جوادا من خيارها وأخذ بيده قنطارية وسيفا ولثم وجهه وقصد عسكر المتنصرة ووقف إلى جانب حازم بن عبد يغوث وهو ابن عم جبلة وكان قدمه على عسكر المنتصرة وجبلة وولده وبنو عمه في موكب الملك
قال الواقدي ولم يزل القتال بين نسطاروس والضحاك بن حسان إلى أن كل الجوادان ولم يقدر أحد منهما على صاحبه فافترقا وعاد نسطاروس إلى سرادقاته
299

ليستريح فوجد السرادق على الأرض والفراشين قتلى ولم ير دامسا فعلم أن المصيبة من قبله فمضى إلى الملك وأعلمه بذلك فقال وحق المسيح ما هؤلاء العرب الا شياطين قال وهرج العسكر بصنع أبي الهول فقال الملك هو الآن في عسكرنا وما رأيناه خرج وما هو الا مختف في عسكر المتنصرة لأنه من جنسهم فلما رأى دامس هرج عسكر الروم وأن ذلك بسببه انتضى سيفه على حين غفلة وضرب به حازم بن عبد يغوث فرمى رأسه عن بدنه فبهتت المتنصرة من فعله وأمسك الله عنه أيديهم ودهشوا لذلك وأطلق جواده وطلب عسكر المسلمين فلما راوه صاحوا بالتهليل والتكبير فأتى إلى أبي عبيدة وأخبره بما وقع له مع القوم فقال لا شلت يداك قال وبلغ الخبر جبلة من قتل ابن عمه حازم فغضب وأتى إلى هرقل وصقع له وقال يا عظيم الروم أنا لا أقدر على الصبر ولا بد لنا من الحملة على هؤلاء الذين قد تعدوا طورهم وجهلوا قدرهم فأراد الملك أن يأمرهم بالحملة وإذا قد أقبلت عليه خيل تركض فقال لهم ما وراءكم قالوا أيها الملك أنه قد قدم إلى نصرتك فلنطانوس بن سطانيوس بن أرمونيا صاحب المدائن ورومية الكبرى وباسم جده سميت وكان قدج وضع فيها هيكلا عظيما يسمى ابا سرفيا وكان به صورة من نحاس مطلية بالذهب الاحمد ولذلك الهيكل سبعة أبواب من الذهب على كل باب هيكل مدور على رأسه شخص آدمي وبيده عدة ألواح من الذهب وفي كل عام يعلق منها لوح على الهيكل تلقاء الشمس ثم ينظر كاهن ذلك الهيكل في ذلك اللوح فيعلم ما يجري في الإقليم المختص بذلك اللوح وكان كل لوح مختصا بأقليم من الأقاليم السبعة وكذلك لكل هيكل من تلك السبعة هياكل فيعلم أهل رومية الكبرى ما يجري في العالم بما وضعه حكماؤهم الأقدمون وفي وسط تلك السبعة هياكل قبة مثمنة على ثمانية عمد من نحاس اصفر مطلية بالذهب محوط به سور مرقط ببياض وفيه بابها الأعظم وعلى رأسها صورة من حجر لا يعلم ما هو بل الحجر أسود فإذا كان استواء الزيتون في مشارق الأرض ومغاربها يسمعون من تلك
الصور صوتا هائلا تكاد القلوب تتفطر منه فإذا كان الغد تأتي من آفاق الأرض زارزيرها وكل زرزور حامل ثلاث زيتونات واحدة في منقاره واثنتان في رجليه فيلقونها على رأس تلك الصورة فلا تزال كذلك حتى يمتلئ ذلك المكان العظيم قال فيعصرون منه زيتهم وما يأكلون من العام إلى العام وكان في داخل الهيكل الأعظم بيت مقفل لم يفتح منذ بنيت رومية ولما أراد فلنطانوس الملك النهوض إلى نصرة هرقل احتاج إلى مال يصرفه على عسكره فأتى إلى ذلك البيت المقفل وهم بفتحه فقال له عظماؤه وعطماوس وهو القيم على أمر الهياكل كلها أيها الملك ان هذا البيت منذ أقفل تاريخه سبعمائة سنة وذلك من قبل ظهور المسيح بمائة سنة وسبعين وما أحد من أجدادك تعرض اليه ولا أحد ممن ولى أمر هذه الكنيسة الا ويوصي على هذا البيت ان لا يفتح فلا تزل حكمة أسسها من كان قبلك من الحكماء والملوك وقد بنى هذه المدينة وأسس هذا الهيكل وهذا البيت وهو بيت جدك رسيوي بن قطاوس وبقي
300

في ملكه على ما بلغنا ثلاثمائة وسبعين سنة ووصي كوصية أبيه وتولى عليه أحد أجدادك حتى وصل إليك هذا الملك ولك فيه مائة سنة فلا تزل حكمة أجدادك أجدادك الذين اسسوها وطلاسم وضعوها قال فأخذه اللجاج في فتحه فلما فتحه لم يجد فيه شيئا الا أنه رأى في البيت صورة القدس مدن الشام وصفة ملوكهم وعددهم وفي آخرهم صورة ليطن وهو هرقل كأنه ينظر في اللوح مكتوب باليونانية يا طالب العلم عليك بكثرة القراءة فإنه كلما تكرر مرور النكت على مسامع من يتعلمها كان ذلك أشد لثبوته وأحكم لتصريفه إذ العلوم كلها انما تستخرج بالعقل والقياس وانما يكون بكثرة الرياضة والعلم مطية التدبير والتدبير موضع العلم والعلم موضع العقل هذا هو المتمم لاشكال العلوم وقد رأينا في الحكم والاسرار الخفية أن صاحب الغمامة إذا خيمت على صفحة الأرض وحلت الضلالة خرج مصباح الهداية من أرض تهامة فيذهب بظلام الجهل المظلم للحس ويدعو الناس بدينه إلى توحيد الصانع وهو صاحب الجمل الاورق فيذهب بالأديان والملك يضيق لدعوته السهل والجبل فإذا غلب نوره على كل كثيف انتقل إلى العلم الروحاني وولى بعده رجل نحيف الصورة قلبه منور بنور الصدق يشيد ملته ويصدق شريعته وويل للشام مما يحل بها من الرجل الأحور الذاهب بملك قيصر وهو الرجل الكثيف صولته الربعة صورته العدل صفته والحق منقبته جبته مرقعة وسيفه درته في أيامه تذهب الدول وتتحول وتضمحل وتزول وأوانه إذا فتح هذا البيت المصور بالحكمة المحفوظ بحفظ النعمة فطوبى لمن رسخت الحكمة في قلبه وأشرقت مصابيحها في لبه وأتبع الحق وعرفه وجانب الباطل وخالفه قال فلما قرأ فلنطانوس ما في اللوح أخذه العجب وقال لعطماوس قيم الهياكل أيها الأب الشفيق ما تقول في هذه الحكمة قال أيها الملك وما عسى أن أقول في حكمة وضعتها العظماء وعلمت بها الحكماء وانما العلوم غامضة يصل إليها الخبر الجوهري بنور العقل وانما أرى أن دولة هرقل وهي عز دولتها وانهدت أركان ملكه من أرض سوريا وانتقل ملك الروم إلى ارض اسطور يعني قسطنطينية وبذلك أخبر مهراييس الحكيم في كتابه العزيز الذي وضعه وسماه اسلاوس يعني جواهر الحكمة ومن جملته إذا ظهر نور اليتيمة المصفاة من الأدناس من جبال ثاران تصفت الأذهان بنور حكمته وانصرفت الظلمة المتكاثفة في سماء الجهل بقوة عزيمته ودعا الناس إلى لطيف دعوته وقادهم بأزمة لطافته فيعلو على الأفلاك فويل لأرض إيليا من صولة صاحبه المتوشح بوشاح الهيبة المتوج بتاج العقل صاحب فتوح الأرض ومذل ملوكها العدل فسطاطه والمرقعة لباسه في زمانه ينكسر الصليب وتخرج الهياكل وتندرج المذابح ويذوب ماء المعمودية فلا نجاة من صولته الا باتباع شريعته وصاحبه قال فلما سمع ذلك فلنطانوس من القيم على الهياكل كتم الامر في نفسه وقال لا بد لي من النظر إلى العرب والمسير إليهم والى نصرة الملك هرقل وقد وصل إلى كتاب البترك وندبني إلى نصرة دين المسيح فان تأخرت حرمني ثم إنه اختار من جيشه في رومية
301

ثلاثين ألفا وهم الكرجية وولى في موضعه ولده استفليوس وهو مثلث النعمة واستخرج من بيت الحكمة رايات الإسكندر اليوناني وكانت منسوجة بالذهب واللؤلؤ التي نشرها يوم فتحت الواحات من أرض باليوس وكانت لا تنشر الا في يوم واحد في السنة ببيعة ايا صوفيا وهو يوم عيد الصليب والشعانين قال فلما رفعت على رأس فلنطانوس سار حتى ورد أنطاكية ونزل على باب هاوس ومعناه باب فارس قال وركب الملك هرقل في موكبه إلى لقائه وضربت سرادقاته بإزاء سرادقات هرقل وفرحت الروم وتفاءلت بالنصر وضربت النواقيس ووقعت ضجة عظيمة في جيوشهم وارتفعت أصواتهم وجاءت عيون المسلمين فأخبروهم بقدوم صاحب رومية فرفع أبو عبيدة كفه إلى السماء وقال اللهم أن أعداءك يستنصرون علينا بكثرة عددهم وتزايد مددهم فشتت كلمتهم ودمر جيوشهم وزلزل أقدامهم وعسر أيامهم واجعل كلمتنا العليا وكلمتهم السفلى وانصرنا كنصر نبيك في يوم الأحزاب اللهم رد كيدهم في نحرهم وانصرنا عليهم قال وأمنت المسلمون على دعائه
قال الواقدي حدثنا إبراهيم بن العلاء عن أبي يوسف الكندي عن أبي جعفر الدارمي عن الربيع بن أنس عن جعفر بن ميسرة قال قال لي عمي لما قدم صاحب رومية بجنوده خاف المسلمون ولكن ثبتهم الله وبعث أبو عبيدة معاذ بن جبل ومعه ثلاثة آلاف وقال له يا صاحب رسول الله أن الروم قد تجمعت من سواحل البحر لنصرة دينها فانهض وشن الغارات على بلاد السواحل واحتفظ أن تؤتي المسلمون من قبلك قال ففعل ذلك معاذ وسار إلى جبلة واللاذقية فاحتوش أموالها وأخذ غنائمها ووجد على باب جبلة عنان بن جرهم الغساني ابن عم جبلة بن الأيهم ومعه الف دابة محملة برا وشعيرا لعسكر الكفر وقد جمعها من طرابلس وعكا وصور وصيدا وقيسارية وقد بعث بها قسطنطين بن هرقل إلى أبيه فلما وصلت مدينة جبلة سلمها العرب المتنصرة لابن عم جبلة وعادوا فوقع بها معاذ رضي الله عنه فأخذها ورجع قافلا إلى عسكر المسلمين فلما رأوها رفعوا أصواتهم بالتهليل والتكبير فسأل هرقل عن ذلك فأخبروه بما وقع فغضب على أخذ الميرة التي تتقوت بها عسكر أعدائه فقال لبطارقته ما بقي بيننا وبين هؤلاء الا المصاف ويعطي الله النصر لمن يشاء ثم إنه أمر عساكره بالاهبة للقتال ثم إنه ركب والى جانبه فلنطانوس صاحب رومية وصاحب مرعش وصاحب قلعة اسكبادنيس وهي قلعة الروم وصاحب طرطوس وصاحب مصيصه وصاحب قونية وصاحب ماصر وصاحب اقصرا وصاحب قيسارية الروم الأقصى وصاحب قوماط وصاحب انطرانه وصاحب طبرزند وجبلة ابن الأيهم
قال الواقدي واقبل يوقنا يرتب الصفوف في الحرب فلما وقف كل ملك بجيشه وكل بطريق بأصحابه أراد فلنطانوس ملك رومية أن يتقرب إلى هرقل بمبارزة العرب فصقع
له على قربوس سرجه وقال أيها الملك ما تركت ملكي واتيت إلى خدمتك
302

من مائتي فرسخ الا حتى ارضي المسيح وأخدمه بين يديك وان كل عسكرك قد قاتلوا وجاهدوا وأريد أن ابرز في هذا اليوم إلى هؤلاء المحمديين واشفي فؤادك وفؤادي منهم فأراد الملك أن يطيب قلبه فقال له الزم مكانك ولا تخرق بحرمتك وحشمتك حشمة الملوك فأنت أقدم مني في المملكة فدع غيرك يكون لهذا الامر فما بلغ من شأن العرب أن تخرج أنت إليهم بنفسك فقال فلنطانوس أيها الملك وأي حشمة بقيت لنا مع هؤلاء وقد أهملوا عزنا وأذلوا أعز ديننا والجهاد مفروض على كبيرنا وصغيرنا أما علمت أيها الملك انه من نظر إلى الدنيا بعين المحبة جذبته الشهوات إلى الغلو في محبتها والتعلق بزخارفها فإذا فعل ذلك ركب غيم كثافه الجهل على صفحة صدره فمنعه ذلك عن طلب معاده ومن سارع إلى طاعة خالقه بترك شهواته ارتقى إلى دار دائرة القدس في محل الانس ولما علم القديم الأزلي بركون أنفسكم المحجوبة بحجاب الغفلة إلى طلب ما يفني سلط عليكم أضعف أمة قد أخرجتكم من دياركم وأبعدتكم عن أوطانكم وما ذاك الا لخلودكم إلى الأهواء الجاذبة إلى مهاويكم والى ادراك المهالك لأنكم حكمتم بغير الحق واجترأتم على الرعية بطلبكم منهم ما ليس لكم بحق والجور في أخذ أموالهم وفساد أحوالهم وكثرة الزنا وأتباع الخنا فلأجل ذلك لم تنصروا ودارت دائرة السوء عليكم قال ثم تكلم صاحب الملك هرقل الكبير واسمه سروند وصاح عليه وقال له أيها السيد لا تحمل على قلب الملك من كلامك ما لا يطيق في مثل هذه الساعة فقد وعظه من هو أكبر منك فلم يسمع قوله قال فغضب فلنطانوس من صياح الحاجب عليه وكتم أمره إلى الليل فلما مضى من الليل ربعه طلب حجابه وخواصه وقال لهم أرضيتم أن يزعق علي حاجب هرقل ويوبخني بين الملوك وأنتم تعلمون أن بيتي أعظم من بيته ونسبه أدنى من نسبي وملكي أقدم من ملكه ولقد قال قسيس حكيم بلاد الذكر المشهور بحكمته وهو الذي وضع المنار الأعظم في يوم كبير كان بين بلاد الجرامقة وبلاد الانجار وهي مسيرة أثني عشر يوما ولا يصل إلى أرضها الا بعد عناء كبير فاحتفر لها بئرا ووضع في وسطها عمودا على راس حجر يدور من صنعة حكمتها يسمع له من حده النداء من حوله ويرشح له بقدر ما يملأ ذلك الجرن العظيم فإنه قال لا تسع بقدمك إلى من يراك دونه فتصغر عنده واجعل عز نفسك في مقابلة كبرياء عجبه فان عزه النفوس تقابل جاه الملوك ولا تصنع صنيعك لغير مستحقه لأنها تجلب عليك السوء من قبل ذلك فان ذلك الاحسان لا يزكو الا عند ذوي الأصول فإنه يندسج عند السفهاء والأرذال لا تصنع إليهم النصيحة فإنك أنت تطلب منفعته وهو يريد هوى نفسه بأذيتك وقد جئنا من مائة فرسخ وأكثر إلى خدمة رجل يرى أننا قد قصدنا داره وتاج عزه واننا نحن من جملة خدمه وان نور العقل المجوهر للحس يمنعني من اتباع الجهل المظلم للحواس وان نفسي تأبى ذلك والعز محل جليل ومقام نبيل والذل وبيل وصاحبه قليل وقد عولت أن أسير إلى هؤلاء العرب وأختبر ملتهم فإنها هي الملة الواضحة بالحق المؤيدة بالصدق ومن كان عليها أمن في معاده من الهول الأكبر فما
303

أنتم قائلون قالوا أيها الملك وكيف تطيب نفسك بترك دينك وملكك وعزك وتتبع هؤلاء وهم لا فضل لهم ولا عندهم حكمة فقال فلنطانوس أما الحكمة البالغة فعندهم مقرها وفي نفوسهم موطنها لان نور توحيدهم صفى أذهانهم ونور ايمانهم ببركة صاحبهم المسمى في علوم الغيوب لان مغناطيس حكمته الربانية جذب جوهر عقولهم إلى متابعته والاقتداء بشريعته ومن أراد أن يلقى عالم عليين فلا يقعد على صفحة أرض الجهل أما علمتم أن النور أنور من الظلمة والموت نهار الحياة قال فلما سمعوا قوله قالوا أيها الملك نحن ما نمنعك من عز دائم يخرجنا من الذل ومهابة الغلبة فإذا كنت تطلب بنا طريقا يؤدي إلى البقاء ويذهب بالشقاء فالحق اتباع الحق ونفي الباطل فنحن لك وبين يديك قال فخذوا على أنفسكم فإذا كانت ليلة غد ركبنا كأنا نطوف حول البيت نحرسه ونطلب جيش العرب قال ففعلوا ذلك وأخذ فلنطانوس في أمره قال ابن وهب وابن صالح عن أبي موسى الأشعري قال لما عزم أن يسير إلى جيش المسلمين أتى اليه يوقنا برسالة الملك هرقل فلما أدى الرسالة وهم بالقيام قال له فلنطانوس من أنت من الحجاب قال أنا يوقنا صاحب حلب قال وكيف تركت بلدك قال استولت عليها العرب وحدثه بحديثه فقال فلنطانوس وما الذي ظهر لك من هؤلاء العرب قال أيها الملك اني دخلت في دينهم واطلعت على أمرهم وكشف سرهم فرأيت القوم لا يستمعون إلى الباطل ولا يحيدون عن الحق ولا ينامون الليل من كثرة اجتهادهم ولا يتكلمون بغير ذكر ربهم ينصفون المظلوم من الظالم ويواسي غنيهم فقيرهم الامراء منهم في زي المساكين والعزيز والذليل عندهم سواء فقال له فلنطانوس فإذا وقفت على سرهم ورأيت فضلهم فما منعك أن تقيم عندهم وبينهم فقال يوقنا منعني من ذلك صحة ديني وصحبة قومي لأني لم أر فراقهم
قال فلنطانوس ان النفوس الزكية الباقية إذا رأت الحق جذبها جاذب اليقين إلى حضرة طلب الاخلاص من المعيشة الذميمة إلى أن ترقى إلى أعلى عليين قال فخرج يوقنا وقد رسخ كلام فلنطانوس في قلبه فقال والله ما تكلم بشيء الا وهو منقوش على صفحة صدري وكلامه يشهد بقبول عقله لصحة دين الاسلام وأقام يوقنا على قلق من ذلك حتى اقبل الليل فأتى إلى فلنطانوس فرآه وهو على نية الركوب إلى ما ذكرناه فلما وقف بين يديه صقع له فقال له فلنطانوس باي حجاب حجب الله الظالمين عن اتباع سبيل المتقين فالحق واضح لمن طلبه والباطل خفي عمن اتبعه فقال يوقنا أيها الملك ما معنى هذا الكلام الذي أشرت اليه فقال لو أنك رايت بعين البصيرة لما رجعت عن ملتهم ولا أردت بدلا غيرهم وانما أنت طلبت نعيما يؤول إلى الزوال إلى النكال قال فسكت يوقنا وخرج من عنده وجعل يتجسس عليه ومضى ووقف على الطريق الذي يمضي إلى المسلمين فركب فلنطانوس وخرج من سرادقة فوجد بني عمه قد أخذوا أهبتهم وهم أربعة آلاف فارس وقدموا عزمهم وساروا يدا
304

واحدة يطلبون جيش الموحدين وقد تركوا عزهم وفارقوا دينهم فلما قربوا من جيش المسلمين ظهر لهم يوقنا وبنو عمه المائتان فقال يوقنا لفلنطانوس أيها الملك عولت على أن تكبس المسلمين فقال لا والقديم الأزلي وانما أنا قاصد إليهم وداخل في دينهم وملتهم وأكون من جملتهم فمن نظر إلى الدنيا بعين الفناء عمل للآخرة فما الذي يمنعك يا يوقنا مما نحن عولنا عليه فقال يوقنا أيها الملك لقد جذبك جاذب الحق عن طريق الضلال ثم إنه حدثه بحديثه وانه عازم على أن يغدر بالروم فقبله فلنطانوس وفرح بمقالته وقال له كيف تقدر على ذلك وما أرى معك الا نفرا يسيرا فقال أيها الملك ان في داخل بيتي مائتين من المسلمين من أكابر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقام عشرين ألفا من الروم ولقد رايت أن تعود أنت وقومك ولا تستعجل ونبعث رجلا إلى أمير المسلمين يخبره بما نحن معولون عليه فإذا كان غدا تقف أنت وجيشك حول
الملك هرقل وأدخل أنا البلد وأطلق المائتي أسير وأعطيهم سلاحا ويحمل جيش العرب وتحمل أنت وعسكرك على مركب هرقل وتقصده بنفسك فتقبض عليه وتكون قد جاهدت وأسير أنا ومن معي في داخل البلد فنملكها أن شاء الله تعالى وان أردت أن ترجع إلى دار ملكك ويكون أمرك مكتوما علينا فحول أمر جيشك لمن تثق به من بني عمك قال فلنطانوس ما فعلت هذا ولي نية في ملكي ولا في ملك الدنيا بل إذا قضى هذا الامر ونصر الاسلام قصدت مكة فأحج وأزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم ثم أرجع إلى بيت المقدس فأقيم فيه إلى أن أموت فمن يذهب إلى أمير العرب برسالتي ويخبرهم بما قد عولنا عليه فقال له يوقنا اعلم أن لهم عندنا عيونا وجواسيس ممن هو تحت ذمتهم وأنا أعلمهم بما قد وقع قال فبينما هم في الكلام تحت ستر الليل وإذا بشيخ قصد اليهما فتأمله يوقنا فإذ هو عمرو بن أمية الضمري ساعي رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم على يوقنا وعلى من معه وقال ليوقنا ان الأمير أبا عبيدة يقول لك جزاك الله خيرا عن الاسلام وانه رأى في المنام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بما كان من أمر صاحب رومية وما تحدثتما به وما وقع له مع قومه وما عزمتم عليه وبشره بأن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وقد تفتح أنطاكية ويزول عز الروم عنها وينتزع ملك صاحبها
قال الواقدي فتهلل وجه فلنطانوس فرحا وازداد ايمانا وقال الحمد لله الذي هدانا للاسلام والايمان قال الواقدي وذلك أن أبا عبيدة رضي الله عنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم وهو يقول يا أبا عبيدة ابشر برضوان الله ورحمته وغدا تفتح أنطاكية صلحا وان صاحب رومية المدائن الكبرى قد جرى من أمره كيت وكيت هو يوقنا صاحب حلب وهما بالقرب منك فأنفذ اليهما بنجاز الامر قال فاستيقظ أبو عبيدة وقص رؤياه على خالد وأنفذ عمرو بن أمية كما ذكرنا قال فلما سمع فلنطانوس ذلك اقشعر جلده وارتعدت فرائصه وقال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد ان محمدا رسول الله وأشهد أن هذا
305

الدين هو الحق اليقين ثم إنهم عادوا وطافوا بجيش الملك كأنما يحرسون فبينما يوقنا قد ذهب بأصحابه من عند صاحب رومية وقد قوي عزمهم على ما ذكرنا من أمر كبسهم الملك وإذا بالحاجب قد لقيه والمشاعل بين يديه وقد خرج من أنطاكية ومعه ضرار بن الأزور ورفاعة بن زهير والمائتا أسير وقد عول على قتلهم وان يرمي غدا برؤوسهم إلى المسلمين فلما سمع يوقنا ذلك ضاقت الدنيا عليه وقال له أيها الحاجب الكبير أنت تعلم أن المصاف غدا واقع بيننا وبينهم فان أنتم قتلتم هؤلاء ورميت برؤوسهم إلى المسلمين فإنهم لا يقعون بأحد منا فيبقون عليه فاتق الله ولا تعجل بذلك ودعهم عندي وراجع الملك في امرهم إلى أن نرى ما يؤول أمرهم اليه قال فتركهم الحاجب عند يوقنا ومضى إلى الملك وأخبره بما قال يوقنا فقال له دعهم عند الدمستق فرجع اليه وقال له الملك يقول لك احتفظ عليهم فأمرهم لك فاخذهم يوقنا وسار بهم إلى خيمته وصعب عليه اخراجهم من أنطاكية لأنه كان قد عول على أن يملك بهم البلد فلما حلوا في خيمته حلهم من الوثاق وسلم إليهم العدد وأخبرهم بما قد عزم عليه هو وصاحب رومية من القبض على الملك هرقل فقال ضرار والله لارضين الرب غدا بجهادنا وكانت قد ختمت جراحاته لأنه كان في الأسر ثمانية أشهر وفرقتم مع بني عمه
قال الواقدي حدثنا أبو محمد عن سعيد بن أبي مريم عن يحيى بن أيوب عن عبد الله بن مسعود أن الذي أمر باخراج الاسرى لم يكن هرقل وانما كان مملوكه الخاص واسمه تاليس بن رينوس وكان قد ألبسه تاجه ومنطقته وكان أشبه الخلق به وقال له كن غدا مكاني فاني أريد أن أكيد العرب وأكمن خلفهم وما ذاك الا انه رأى في نومه كأن شخصا قد نزل من السماء وقلبه عن سريره وكأن تاجه قد طار من على رأسه وكأن شخصا يقول له قد قرب ما بعد وقد زال ملكك من سورية وقد ذهبت دولة الشقاق والنفاق وجاءت دولة الوفاق وكأن ذلك الشخص قد نفخ في عسكره فأوقد نارا فاستيقظ مرعوبا وفسر منامه على نفسه بزوال ملكه وكان قبل نزول العرب قد عبى خزائنه وجمع ما يخاف عليه من التحف ووضعها في المراكب من حيث لا يعلم بذلك أحد من دولته وعبى الزاد والماء ثم أنه ارسل أهل بيته في تلك الليلة بعدما رأى في المنام ولم يدع من حريمه وأولاده وعياله أحدا وبعده أمر مملوكه تاليس بن رينوس بما أمره أن يفعله قال فلما ركب تاليس فما كان من أمره الا أن قال للحاجب اخرج الأسارى واضرب رقابهم فأخرجهم وأخذهم يوقنا كما وصفنا قال حدثنا ياسر عن سليمان بن عبد الواحد عن صفوان بن بشر عن عروة بن مذعور عن محمد بن علي عن عدي عن شعبة عن قتادة عن أبي الصديق الناجي عن ابن سعد قال ما خرج هرقل من أنطاكية الا وهو مسلم وذلك أنه كتب إلى عمر بن الخطاب في السر عن قومه ان بي صداعا لا يسكن فانفذ إلي بدواء أتداوى به فأرسل اليه قلنسوة فكان إذا وضعها على
306

رأسه سكن صداعه وإذا رفعها عاد اليه فتعجب من ذلك وأمر بفتحها فإذا فيها مكتوب بسم الله الرحمن الرحيم فقال هرقل ما أكرم هذا الاسم وأعزه حيث شفاني الله به وكانوا قد توارثوا هذه القلنسوة إلى أن وصلت إلى صاحب عمورية فلما كان يوم المعتصم ونزل عليها عرض للمعتصم صداع فأرسل اليه صاحب عمورية بالقلنسوة فلما وضعها على رأسه سكن ما به فأمر المعتصم بفتحها فإذا فيها الرقعة ومكتوب فيها بسم الله الرحمن الرحيم
قال الواقدي وأما ما كان من أمر تاليس فلما أصبح ركب ورتب عساكر الروم عن آخرها ودارت المواكب حول تاليس بن رينوس وكان كل من رآه يظن أنه هرقل ولا يشك فيه ودار بمواكبه عسكر فلنطانوس صاحب رومية وركب يوقنا ومن معه وهم متنكرون تحت السلاح فكان أول من حمل خالد بن الوليد بجيش الزحف قال وتبعه سعيد بن زيد وتبعه قيس بن هبيرة وتبعه ميسرة وبعده عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وذو الكلاع الحميري وأمثالهم وأطبق الناس بعضهم على بعض فلما اشتبكت الحرب هجم يوقنا ومن معه وحمل ضرار فلله دره لقد أعطى السيف حقه وأخذ بثاره من الروم وكلما قتل واحدا صاح واثارات أسر ضرار بن الأزور وكان قد قصد عسكر المتنصرة هو وأصحابه ورفاعة بن زهير يشجعهم ويوبخهم ويقول خذوا بثاركم ممن أسركم واحملوا وإياكم ان تفشلوا واعلموا ان الجنة قد فتحت أبوابها وزينت حورها وقصورها وأشرق بنيانها ومرح ولدانها وتجلى ديانها ثم صاح يافتيان العرب أيكم يرغب في زواج الحور فان يذل النفوس هي المهور ومن يريد عرسا في الجنان ويقوم في خدمته الولدان من يرغب فيما قال الملك الديان متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان أين من شهد بدرا وحنين مع سيد الكونين أين من يزيل عن قلبه حجاب الغفلة والرين وافقوا قوما صارت هممهم إلى دار الأزل فأناخوا بباب من لم يزل محبوبهم فأراد الحق أن يوقفهم على منازلهم ليزيدوا في حسن أفعالهم فكشف عن
سرائرهم فرأوا دارا بناؤها النور قواعدها من الرحمة حيطانها من الذهب ملاطها المسك ماؤها من الحيوان حصباؤها الدر والجوهر ترابها الكافور والعنبر سورها المجيد اللطيف ستورها الكرم أشجارها لا إله إلا الله أغصانها محمد رسول الله ثمارها سبحان الله والحمد لله عرضها السماوات والأرض سقفها عرش الرحمن فلما كشف لهم عن هذه الاسرار اشتاقوا إلى سكنى الدار قيل لهم لن تصلوا إليها الا ببذل النفوس في رضا الملك القدوس ثم خلع عليهم خلع الاحسان وتوجهم بتيجان الرضوان ونشر على رؤوسهم رايات الغفران مرسوم على طرازها بقلم السر المكنون ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون لقد بذلوا النفوس في رضا القدوس
قال الواقدي فبينما ضرار يحمل في الأعداء ويذيقهم شراب الردى وإذا هو
307

بفارس يطحطح الكتائب ويفرق المواكب ويصيح واثارات ضرار بن الأزور فتأمله فإذا هو أخته خولة فناداها دارك يا بنت الأزور انا والله أخوك فأقبلت لتسلم عليه فقال لها إليك عني ما هذا وقت سلام وان قتال الكفر أفضل من كلامك يا بنت الأزور فاجعلي عنانك مع عناني وسنانك مع سناني وجاهدي في سبيل الله فان قتل أحدنا فالملتقى في الحشر عند حوض سيد البشر فبينما هم في ذلك إذ نظر إلى جيوش الروم وقد تقهقرت وفرسانهم قد انهزمت وكان السبب في ذلك ان صاحب رومية رحمه الله لما رأى الحرب قد أضرمت نيرانها وعلا دخانها حمل بأصحابه وقصد تاليس بن رينوس فقبض عليه وهو يظن أنه هرقل فصاح الصائح ان الملك هرقل قد قبض عليه فلنطانوس ملك رومية وغدر به فولت الروم الادبار وقتل المسلمون منهم مقتلة عظيمة لم يقتل مثلها الا بأجنادين واليرموك وقتل من العرب المتنصرة زهاء من أثني عشر ألفا وطلب جبلة ولده فلم ير لهم خبرا فقيل إنهم وأكابر قومهم ركبوا مع الملك هرقل في المراكب وكان جملة من هرب من سادات المتنصرة مع جبلة وابنه خمسمائة من جملتهم ابن عمه قرظة وعروة بن واثق ومرهف بن واثق وهحام بن سالم وشيبان بن مرة قال فسكنوا جزائر البحر فمن نسلهم هذه الإفرنج قال وأخذ المسلمون ما كان من السرادقات والخيام والديباج والمتاع والخزائن وأسروا ثلاثين ألفا وقتلوا من الروم سبعين ألفا وولت العرب المتنصرة منهزمين فمنهم من أخذ نحو الدروب ومنهم من طلب قيسارية إلى قسطنطين بن هرقل فلما وضعت الحرب أوزارها وخمدت نارها جمعوا الأموال والأثقال والاسرى بين يدي أبي عبيدة فلما نظر إلى ذلك سجد لله شكرا وسلم المسلمون بعضهم على بعض وجاء ضرار وأصحابه ويوقنا وفلنطانوس وأصحابه وسلموا على المسلمين وفرحوا بهم فلما وصل فلنطانوس قام اليه المسلمون وقال كبار الصحابة سمعنا نبينا صلى الله عليه وسلم
يقول إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه قال فنظر فلنطانوس إلى تواضعهم وحسن سيرتهم وكثرة عبادتهم فقال هؤلاء والله القوم الذين بشر بهم عيسى عليه السلام قال فأسلم بنو عمه عن آخرهم وجاهدوا في الكفار إلى أن فتحوا جميع الأمصار وبعدها مضى فلنطانوس إلى مكة فحج وزار قبر النبي صلى الله عليه وسلم المختار وسلم على عمر رضي الله عنه فلما رآه وثب اليه قائما وصافحه هو وجميع المسلمين وعاد إلى بيت المقدس فجلس يعبد الله فيه حتى اتاه اليقين
قال الواقدي ونظر أبو عبيدة إلى جيش أنطاكية وقد تحصنوا فيها وهم لا يحصون فقال اللهم اجعل لنا إلى فتحها من سبيل وافتح لنا فتحا مبينا قال وكان على أنطاكية بطريق اسمه صليب بن مرقس وكان جاهلا في رايه فعزم على القتال من داخل السور فاجتمع أكابر البلد إلى البترك في الليل وقالوا له اخرج إلى هؤلاء العرب وصالح بيننا وبينهم على ما تقدر عليه قال فخرج البترك إلى أبي عبيدة وحدثه في الصلح فأجابه إلى ذلك فكان جملة ما صالح عليه أهل أنطاكية ثلاثمائة الف
308

مثقال من الذهب فلما تقرر الصلح قال له أبو عبيدة احلف لنا انكم لا تغدرون بنا فان مدينتكم مانعة كثيرة الجبال والوعر فقال خالد ومن يحلفه فقال أبو عبيدة يوقنا قال فوضع يوقنا يده على راس البترك فوق يده وقال قل والله والله والله أربعين مرة والا قطعت زناري وكسرت صليبي ولعنتني الشمامسة والديرانيون وخلعت دين النصرانية وذبحت الجمل في جرن ماء المعمودية ونجستها ببول مولود من أولاد اليهود وقتلت كل الشهود والا خرقت شدائد مريم وعصبت رأسي والا ذبحت القسوس وصبغت بدمائهم ثوب عروس والا جعلت مريم زانية به والا جعلت في المذبح حيضة يهودية وإلا أطفأت قنايل بيعه جرجيس وجعلت عزيرا في مقام كالوس وإلا تزوجت يهودية طامثة لا تلقي ابدا والا غسلت أثوابي صبيحة يوم الجمعة وهدمت الكنائس والبيع وأحللت الأعياد والجمع والا عبدت اللاهوت وجحدت الناسوت والا أكلت لحم الجمل يوم الشعانين والا صمت رمضان عاطشا وكنت للحم الرهبان ناهشا والا صليت في ثياب اليهود وقلت إن عيسى دباغ الجلود اننا لا نغدر بكم ولا كنا الا معكم قال الواقدي فعندها قام أبو عبيدة ودخل أنطاكية وكان دخوله لخمسة أيام مضين من شعبان سنة سبع عشرة من الهجرة فدخله وبين يديه اللواء الذي عقده له أبو بكر الصديق رضي الله عنه وعن يمينه خالد بن الوليد وعن يساره ميسرة بن مسروق ودخلها والقراء بين يديه يقرأون سورة الفتح فلن يزل سائرا حتى وصل إلى باب الجنان فنزل هناك وخط هناك مسجدا وأمر ببنائه وبه يعرف إلى يومنا هذا قال ميسرة بن مسروق فنظرنا إلى بلد رطب طيب الهواء كثير الماء والخيرات فاستطابه المسلمون ووددنا لو أقمنا فيه شهر لنستريح فما تركنا أبو عبيدة فيه غير ثلاثة أيام ثم إنه كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه سلام عليك واني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو واصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأشكره على ما فتح علينا ورزقنا من الغنيمة والنصر وأعلمك يا أمير المؤمنين أن الله عز وجل قد فتح على المسلمين كرسي النصرانية مدينة أنطاكية وكسر الله عسكرها ونصرنا الله عليهم وهرب هرقل في البحر واني لم أقم بها لطيب هوائها واني خشيت على المسلمين أن يغلب حب الدنيا على قلوبهم فيقطعهم عن طاعة ربهم واني معول على المسير إلى حلب واني منتظر أمرك فان أمرتني أن أسير إلى داخل الدروب فعلت وان أمرتني بالمقام أقمت واعلم يا أمير المؤمنين أن العرب قد نظرت إلى بنات الروم فدعتهم أنفسهم إلى التزوج فمنعتهم من ذلك واني أخشى عليهم الفتنة الا من عصمه الله فعجل إلي بأمرك والسلام عليك وعلى جميع المسلمين وطوى الكتاب وختمه وقال معاشر المسلمين من يسير بكتابي هذا إلى أمير المؤمنين فاسرع بالإجابة زيد بن وهب مولى عمير بن سعيد مولى عمرو بن عوف فقال أنا أيها الاميرأوصله إن شاء الله تعالى فقال أبو عبيدة يا زيد أنت لست مالك نفسك وانما أنت مملوك فان أردت المسير فسل مولاك أن يأذن لك في
309

ذلك فاسرع زيد إلى مولاه عمير فانكب على يديه يقبلهما فمنعه من ذلك وذلك أن عميرا كان رجلا زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة ما يملك من الدنيا سوى سيفه ورمحه
وفرسه وبعيره ومزادته وقصعته ومصحفه وكان الذي يصيبه من الغنائم لا يدخر منه ولا يأخذ الا ما يقوته وكان يفرق الباقي على قرابته وقومه فان فاض شيء يرسله إلى عمر رضي الله عنه يفرقه على فقراء المسلمين المهاجرين والأنصار قال فلما أراد زيد أن يقبل يد سيده منعه وقال له ما الذي تريد فقال يا مولاي تأذن لي أن أكون رسولا للمسلمين بشيرا إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال عمير بن سعيد تريد أن تكون بشيرا للمسلمين وأمنعك من ذلك اني إذا لآثم امض فأنت حر لوجه الله تعالى وأرجو بعتقك أن يجيرني الله من النار قال ففرح زيد بذلك وعاد إلى أبي عبيدة فأخبره أن ببركة كتابه صار حرا فسر أبو عبيدة وسار زيد على نجيب من نجب اليمن دفعه اليه وكان سابقا قال فجعل زيد يطلب أقرب الطرق حتى قدم المدينة ودخلها وإذا بها ضجة عظيمة ولأهلها ضجيج وهم يهرعون نحو البقيع وقباء فقلت لنفسي ان لهم أمرا فتبعتهم لأرى ما شأنهم وأنا أحسب انهم يريدون حربا فرأيت رجلا فعرفته فسلمت عليه فعرفني وقال أنت زيد قلت نعم قال الله أكبر ما وراءك يا زيد قلت البشارة والغنيمة والفتح قلت ما فعل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب قال أنه خارج يريد الحج ومعه أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يحج بهن والناس يشيعونه قال زيد بن وهب فأنخت بعيري وعقلته وأسرعت مهرولا حتى وقفت بين يدي عمر رضي الله عنه وهو يمشي راجلا ووراءه مولاه يقود بعيرا وقد رحله بعباءة قطوانية وزاده وجفنته عليه والهوادج بين يديه سائرة وعن يمينه علي بن أبي طالب وعن يساره العباس ابن عبد المطلب ومن ورائه المهاجرون والأنصار وهو يوصيهم بالمدينة قال زيد بن وهب فلما وقفت بين يديه ناديت السلام عليك يا أمير المؤمنين أنا زيد بن وهب مولى عمير بن سعيد اتيتك بشيرا قال عمر بشرك الله بخير فما بشارتك قلت هذا كتاب من عاملك أبي عبيدة يخبرك أن الله قد فتح على يديه أنطاكية قال فلما سمع عمر بذكر أنطاكية وان الله فتحها خر لله ساجدا يمرغ خديه على التراب ثم إنه رفع رأسه من سجوده وقد تترب وجهه وشيبته من التراب وهو يقول اللهم لك الحمد والشكر على نعمك السابغة ثم قال هات الكتاب رحمك الله فناولته إياه فلما قرأه بكى فقال له علي كرم الله وجهه مم بكاؤك قال مما صنع أبو عبيدة بالمسلمين وبما استعقب رايه في الموحدين ثم قال إن النفس لامارة بالسوء ودفع الكتاب إلى علي فقرأه على المسلمين إلى آخره قال زيد بن وهب ثم رأيت عمر قد هدا من بكائه وقد زاد فرحه وأقبل علي وقال يا زيد إذا عدت فأمعن النظر في اتيانها وأعنا بها واحمد الله كثيرا فقلت يا أمير المؤمنين ليس هذا أوانه قال ثم جلس عمر على الأرض ودعا بدواة وقرطاس
310

وكتب إلى أبي عبيدة كتابا يقول فيه بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر إلى عامله بالشام أبي عبيدة عامر ابن الجراح سلام عليك واني أحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي على نبيه وأشكره على ما وهب من النصر للمسلمين وجعل العاقبة للمتقين ولم يزل بنا لطيفا معينا وأما قولك لم نقم بأنطاكية لطيبها فان الله عز وجل لم يحرم الطيبات على المؤمنين الذين يعملون الصالحات فقال يا أيها الرسل كلوا من الطيبات وأعملوا صالحا وقال * (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله) * الآية فكان يجب عليك أن تريح المسلمين من تعبهم وتدعهم يرغدون في مطعمهم ويريحون أبدانهم من نصب القتال مع من كفر بالله وأما قولك انك منتظر أمري فالذي آمرك به أن تدخل وراء العدو وتفتح الدروب فإنك الشاهد وأنا الغائب وقد يرى الشاهد ما لا يراه الغائب وأنت بحضرة عدوك وعيونك تأنيك بالأخبار فإن رأيت أن دخولك إلى الدروب بالمسلمين صواب فابعث إليهم بالسراية وادخل معهم إلى بلادهم وضيق عليهم المسالك ومن طلب منك الصلح فصالحهم ووف لهم بما تقدر وأما قولك ان العرب أبصرت نساء الروم فرغبت في التزوج فمن أحب ذلك فدعه ان لم يكن له أهل بالحجاز ومن أراد أن يشتري الإماء فدعه فان ذلك أصون لفروجهم واعف لنفوسهم وما تحتاج أن أوصيك في أمر فلنطانوس صاحب رومية أوسع عليه في النفقة وعلى من معه فإنه قد فارق أهله وملكه وأمره ونهيه والسلام عليك وعلى جميع المسلمين وطوى الكتاب ودفعه لزيد بن وهب وقال له انطلق رحمك الله وأشرك عمر في ثوابك فأخذ زيد الكتاب وهم أن يسير فأمره أن يقف وقال له على رسلك حتى يزودك عمر من قوته ثم إن عمر أناخ راحلته وأخرج له تمرا وأعطاه صاع تمر وصاع سويق وقال يا زيد اعذر عمر فهذا ما أمكنه ثم إن عمر قبل راس زيد بن وهب فبكى زيد وقال يا أمير المؤمنين أو بلغ من قدري أن تقبل رأسي وأنت أمير المؤمنين وصاحب سيد المرسلين وقد ختم الله بك الأربعين فبكى عمر وقال أرجو أن يغفر الله لعمر بشهادتك قال زيد بن وهب فاستويت على كور ناقتي وهممت بالمسير فسمعته يقول اللهم احمله عليها بالسلامة واطو له البعيد وسهل له القريب انك على كل شيء قدير قال زيد بن وهب ففرحت بدعوة عمر رضي الله عنه وعلمت ان الله لا يرد دعوته إذ كان لربه طائعا ولنبيه تابعا فجعلت أسير والأرض تطوي لي تحت اخفاف مطيتي فكنت والله في اليوم الثالث عند أبي عبيدة وقد رحل عن أنطاكية وقد نزلت على حازم قال زيد فلما وصلت إلى عساكر المسلمين سمعت ضجة وجلبة وقد ارتفعت الأصوات فسألت رجلا من أهل اليمن ما سبب ذلك قال فرحا بما فتح الله على المسلمين وهذا خالدج قد اتى وكان قد ضرب على شاطىء الفرات وأغار بخيله وقد صالحه أهل منبج وبزاعة وبالس وأتى برجالهم وأموالهم وافتتحها صلحا وقد فتح منبج وبزاعة وبالس وقلعة نجم في العشر الأوسط من المحرم سنة ثماني عشرة من الهجرة وصالحهم بعد رد أموالهم على مائة ألف وخمسين
311

ألف دينار وأخذها بعد أن نزل صاحبهم جرفناس وسار بأمواله وعبيده وخيوله إلى بلاد الروم وولى على منبج عباد ابن رافع التيميي وعلى الجسر نجم بن مفرج وولى على بزاعة أوس بن خالد الرابعي وعلى بالس بادر بن عوف الحميري وبنى له بها قلعة إلى جانب بالس من الشرق وسماها باسمه وعاد خالد بالأموال والأثقال يوم قدوم زيد بن وهب قال فأتيت أبا عبيدة وهو جالس وخالد إلى جانبه وقد قدم مال الصلح فانحت ناقتي وسلمت عليهم ودفعت الكتاب إلى أبي عبيدة ففضه وقراه على المسلمين فلما سمعت المسلمون ما فيه قال أبو عبيدة معاشر المسلمين ان أمير المؤمنين قد جعل أمر الدخول إلى الدروب إلي وقال أنت الشاهد وأنا الغائب وأنا لا أفعل شيئا الا برأيكم فما تشيرون علي أن أفعل رحمكم الله فلم يجبه أحد وأعاد القول ثانيا فلم يجبه أحد والله أعلم
تم الجزء الأول
312