الكتاب: الكامل في التاريخ
المؤلف: ابن الأثير
الجزء: ٨
الوفاة: ٦٣٠
المجموعة: مصادر التاريخ
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع: ١٣٨٦ - ١٩٦٦م
المطبعة: دار صادر - دار بيروت
الناشر: دار صادر للطباعة والنشر - دار بيروت للطباعة والنشر
ردمك:
ملاحظات:

الكامل في التاريخ
8
1

الكامل في التاريخ
تأليف
الشيخ العلامة عز الدين أبي الحسن علي بن أبي الكرم
محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني المعروف
بابن الأثير
المجلد الثامن
دار صادر
للطباعة والنشر
دار بيروت
للطباعة والنشر
بيروت
1385 ه‍ _ 1965 م
3

بسم الله الرحمن الرحيم
295
ثم دخلت سنة خمس وتسعين ومائتين
ذكر وفاة إسماعيل بن أحمد الساماني وولاية ابنه أحمد
في هذه السنة منتصف صفر توفي إسماعيل بن أحمد أمير خراسان وما وراء النهر ببخارى وكان يلقب بعد موته بالماضي وولى بعده ابنه أبو نصر أحمد وأرسل إليه المكتفي عهده بالولاية وعقد لواء بيده.
وكان إسماعيل عاقلا عادلا حسن السيرة في رعيته حليما؛ حكي عنه أنه كان لولده أحمد مؤدب يؤدبه فمر به الأمير إسماعيل يوما والمؤدب لا يعلم به فسمعه وهو يسب ابنه ويقول له لا بارك الله فيك ولا فيمن ولدك! فدخل إليه وقال له يا هذا نحن لم نذنب ذنبا لتسبنا فهل ترى أن تعفينا من سبك وتخص المذنب بشتمك وذمك فارتاب المؤدب فخرج إسماعيل عنه وأمر له بصلة جزاء لخوفه منه.
5

وقيل جرى بين يديه ذكر الأنساب والأحساب فقال لبعض جلسائه كن عصاميا ولا تكن عظاميا؛ فلم يفهم مراده فذكر له معنى ذلك.
وسأل يوما يحيى بن زكريا النيسابوري فقال له ما السبب في أن آل معاذ لما زالت دولتهم بقيت عليهم نعمتهم بخراسان مع سوء سيرتهم وظلمهم وأن آل طاهر لما زالت دولتهم عن خراسان زالت معها نعمتهم مع عدلهم وحسن سيرتهم ونظرهم لرعيتهم.
فقال له يحيى السبب في ذلك أن آل معاذ لما تغير أمرهم كان الذي ولي البلاد بعدهم آل طاهر في عدلهم وإنصافهم واستعفافهم عن أموال الناس ورغبتهم في اصطناع أهل البيوتات فقدموا آل معاذ وأكرموهم وأن آل طاهر لما زالت عنهم كان سلطان بلادهم آل الصفار في ظلمهم وغشمهم ومعاداتهم لأهل البيوتات ومناصبتهم لأهل الشرف والنعم فأتوا عليهم وأزالوا نعمتهم.
فقال إسماعيل لله درك يا يحيى فقد شفيت صدري وأمر له بصلة.
ولما ولي بعد أخيه كان يكاتب أصحابه وأصدقائه بما كان يكاتبهم أولا فقيل له في ذلك فقال يجب علينا إذا زادنا الله رفعة أن لا ننقص إخواننا
6

بل نزيدهم رفعة وعلاء وجاها ليزيدوا لنا إخلاصا وشكرا.
ولما ولى بعده ابنه أبو نصر أحمد واستوثق أمره أراد الخروج إلى الري فأشار عليه إبراهيم بن زيدويه بالخروج إلى سمرقند والقبض على عمه إسحاق بن أحمد لئلا يخرج عليه ويشغله، ففعل ذلك، واستدعى عمه إلى بخارى فحضر فاعتقله بها ثم عبر إلى خراسان، فلما ورد نيسابور هرب بارس الكبير من جرجان إلى بغداد خوفا منه.
وكان سبب خوفه أن الأمير إسماعيل كان قد استعمل ابنه أحمد على جرجان لما أخذها من محمد بن زيد، ثم عزله عنها واستعمل عليها بارس الكبير على ما ذكرناه فاجتمع عند بارس أموال جمة من خراج الري وطبرستان وجرجان فبلغت ثمانين وقرأ فحملها إلى إسماعيل، فلما سارت عنه بلغه خبر موت إسماعيل فردها إليه وأخذها فلما سار إليه أحمد خافه وكتب إلى المكتفي يستأذنه في المسير إليه فأذن له في ذلك، فسار إليه في أربعة آلاف فارس فأرسل أحمد خلفه عسكرا فلم يدركوه.
واجتاز الري فتحصن بها نائب أحمد بن إسماعيل، فسار إلى بغداد فوصلها وقد مات المكتفي وولي المقتدر بعده فأعجبه المقتدر.
وكان وصوله بعد حادثة ابن المعتز فسيره المقتدر في عسكره إلى بني حمدان وولاه ديار ربيعة، فخافه أصحاب الخليفة أن يتقدم عليهم فوضعوا عليه
7

غلاما له فسمه فمات، واستولى غلامه على ماله وتزوج امرأته وكان موته بالموصل.
ذكر وفاة المكتفي
في هذه السنة في ذي القعدة توفي أمير المؤمنين المكتفي بالله أبو محمد علي بن المعتضد بالله أبي العباس أحمد بن الموفق بن المتوكل؛ وكانت خلافته ست سنين وستة أشهر وتسعة عشر يوما وكان عمره ثلاثا وثلاثين سنة وقيل اثنتين وثلاثين سنة.
وكان ربعة جميلا رقيق البشرة حسن الشعر وافر اللحية وكنيته أبو محمد وأمه أم ولد تركية اسمها جيجك؛ وطل عليه مرضه عدة شهور ولما مات دفن بدار محمد بن طاهر رحمه الله.
ذكر خلافة المقتدر بالله
وكان السبب في ولاية المقتدر بالله الخلافة وهو أبو الفضل جعفر بن المعتضد أن المكتفي لما ثقل في مرضه فكر وزيره حينئذ وهو العباس بن
8

الحسن فيمن يصلح للخلافة، وكان عادته أن يسايره إذا ركب إلى دار الخلافة وأخذ من هؤلاء الأربعة الذين يتولون الدواوين وهم أبو عبد الله بن محمد بن الجراح وأبو الحسن محمد بن عبدان وأبو الحسن علي بن محمد بن الفرات، وأبو الحسن علي بن عيسى، فاستشار الوزير يوما محمد بن داود بن الجراح في ذلك فأشار بعبد الله بن المعتز ووصفه بالعقل والأدب والرأي، واستشار بعده أبا الحسن بن الفرات فقال هذا شيء ما جرت به عادتي أشير فيه وإنما أشاور في العمال لا في الخلفاء؛ فغضب الوزير وقال هذه مقاطعة باردة وليس يخفى عليه الصحيح.
وألح عليه فقال إن كان رأي الوزير قد استقر على أحد بعينه فليفعل فعلم أنه عني ابن المعتز لاشتهار خبره فقال الوزير لا أقنع إلا أن تمحضني النصيحة فقال ابن الفرات فليتق الله الوزير ولا ينصب إلا من عرفه واطلع على جميع أحواله ولا ينصب بخيلا فيضيق على الناس ويقطع أرزاقهم ولا طماعا فيشره في أموالهم فيصادرهم ويأخذ أموالهم وأملاكهم ولا قليل الدين فلا يخاف العقوبة والآثام ويرجو الثواب فيما يفعله ولا يولي من عرف نعمة هذا وبستان هذا وضيعة هذا وفرس هذا ومن قد لقي الناس ولقوه وعاملهم وعاملوه ويتخيل ويحسب حساب نعم الناس وعرف وجوه دخلهم وخرجهم. فقال الوزير صدقت ونصحت فيمن تشير؟
9

قال أصلح الموجود جعفر بن المعتضد قال ويحك هو صبي قال ابن الفرات إلا أنه ابن المعتضد ولم نأت برجل كامل يباشر الأمور بنفسه غير محتاج إلينا.
ثم إن الوزير استشار علي بن عيسى فلم يسم أحدا وقال لكن ينبغي أن يتقي الله وينظر من يصلح الدين والدنيا؛ فمالت نفس الوزير إلى ما أشار به ابن الفرات وإنصاف إلى ذلك وصية المكتفي، فإنه أوصى لما اشتد مرضه بتقليد أخيه جعفر الخلافة.
فلما مات المكتفي نصب الوزير جعفرا للخلافة وعينه لها وأرسل صافيا الحرمي إليه ليحذره من دور آل طاهر بالجانب الغربي وكان يسكنها، فلما حطه في الحراقة وحدره وصارت الحراقة مقابل دار الوزير صاح غلمان الوزير بالملاح ليدخل إلى دار الوزير فظن صافي الحرمي أن الزير يريد القبض على جعفر وينصب في الخلافة غيره فمنع الملاح من ذلك وسار إلى دار الخلافة، وأخذ له صافي البيعة على الخدم وحاشية الدار ولقب نفسه المقتدر بالله، ولحق الوزير به وجماعة من الكتاب فبايعوه، ثم جهزوا المكتفي ودفنوه بدار محمد بن طاهر.
ولما بويع المقتدر كان في بيت المال حين بويع خمسة عشر ألف ألف دينار فأطلق يد الوزير في بيت المال فأخرج منه حق البيعة.
وكان مولد المقتدر ثامن رمضان سنة اثنتين وثمانين ومائتين، وأمه أم
10

ولد يقال لها شغب، فلما بويع استصغره الوزير وكان عمره إذ ذاك ثلاث عشرة سنة وكثر كلام الناس فيه فعزم على خلعه وتقليد الخلافة أبا عبد الله محمد بن المعتمد على الله وكان حسن السيرة جميل الوجه والفعل، فراسله في ذلك واستقر الحال وانتظر الوزير قدوم بارس حاجب إسماعيل صاحب خراسان وكان قد أذن له في القدوم كما ذكرناه، وأراد الوزير [أن] يستعين به على ذلك ويتقوى به على غلمان المعتضد فتأخر بارس.
وأتفق أنه وقع بين أبي عبد الله بن المعتضد وبين ابن عمرويه صاحب الشرطة منازعة في ضيعة مشتركة بينهما فأغلظ له ابن عمرويه فغضب ابن المعتمد غضبا شديدا وأغمي عليه وفلج في المجلس فحمل إلى بيته في محفة فمات في اليوم الثاني، فأراد الوزير البيعة لأبي الحسين بن المتوكل فمات أيضا بعد خمسة أيام وتم أمر المقتدر.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة كانت وقعة بين نجح بن جاخ وبين الأجناد بمنى ثاني عشر ذي الحجة، فقتل منهم جماعة لأنهم طلبوا جائزة بيعة المقتدر
11

بالله وهرب الناس إلى بستان ابن عامر، وأصاب الحجاج في عودهم عطش عظيم فمات منهم جماعة.
وحكي أن أحدهم كان يبول في كفه ثم يشربه.
وفيها خرج عبد الله بن إبراهيم المسمعي عن أصبهان إلى قرية من قراها مخالفا للخليفة واجتمع إليه نحو من عشرة آلاف من الأكراد وغيرهم، فأمر بدر الحمامي بالمسير إليه فسار في خمسة آلاف من الجند، وأرسل إليه منصور بن عبد الله بن منصور الكاتب يخوفه عاقبة الخلاف فسار إليه وأدى إليه الرسالة فرجع إلى الطاعة وسار إلى بغداد واستخلف على عمله بأصبهان فرضي عنه المكتفي بالله.
وفيها كانت وقعة للحسين بن موسى على أعراب طيء الذين كانوا حصروا وصيفا على غرة منهم فقتل فيهم كثيرا وأسر.
وفيها أوقع الحسن بن أحمد بالأكراد الذين تغلبوا على نواحي الموصل فظفر بهم واستباحهم ونهب أموالهم وهرب رئيسهم إلى رؤوس الجبال فلم يدرك.
12

فيها فتح المظفر بن حاج بعض ما كان غلب عليه الخارجي باليمن وأخذ رئيسا من رؤساء أصحابه ويعرف بالحكيمي.
وفيها تم الفداء بين المسلمين والروم في ذي القعدة وكان عدة من فودي به من الرجال والنساء ثلاثة آلاف نفس؛ وحج الناس الفضل بن عبد الملك الهاشمي.
وفيها توفي أبو بكر محمد بن إسماعيل بن مهران الجرجاني الإسماعيلي الفقيه الشافعي المحدث ومحمد بن أحمد بن نصر أبو جعفر الترمذي الفقيه الشافعي توفي ببغداد وأبو الحسن أحمد بن محمد النوري شيخ الصوفية؛ وتوفي الحسين بن عبد الله بن احمد أبو علي الخرقي الفقيه الحنبلي يوم الفطر (الخرقي بالخاء المعجمة والقاف)؛ وعبد الله بن أبي دارة.
13

296
ثم دخلت سنة ست وتسعين ومائتين
ذكر خلع المقتدر وولاية ابن المعتز
وفيه هذه السنة اجتمع القواد والقضاة والكتاب مع الوزير العباس بن الحسن على خلع المقتدر والبيعة لابن المعتز وأرسلوا إلى ابن المعتز في ذلك فأجابهم على أن لا يكون فيه سفك دم ولا حرب فأخبروه باجتماعهم عليه وأنهم ليس لهم منازع ولا محارب.
وكان الرأس في ذلك العباس بن الحسن ومحمد بن داود بن الجراح وأبو المثنى أحمد بن يعقوب القاضي ومن القواد الحسين بن حمدان وبدر الأعجمي ووصيف بن صوارتكين.
ثم أن الوزير رأى أمره صالحا مع المقتدر وأنه على ما يحب فبدا له في ذلك فوثب به الآخرون فقتلوه، وكان الذي تولى قتله منهم الحسين بن حمدان وبدر الأعجمي ووصيف ولحقوه وهو سائر إلى بستان له فقتلوه في طريقه وقتلوا من معه فاتكا المعتضدي وذلك في العشرين من ربيع الأول وخلع المقتدر من الغد وبايع الناس لابن المعتز.
وركض الحسين بن حمدان إلى الحلبة ظنا منه أن المقتدر يلعب هناك
14

بالكرة فيقتله فلم يصادفه لأنه كان هناك فبلغه قتل الوزير وفاتك فركض دابته فدخل الدار وغلقت الأبواب فندم الحسين حيث لم يبدأ بالمقتدر.
وأحضروا ابن المعتز وبايعوه بالخلافة وكان الذي يتولى أخذ البيعة له محمد بن سعيد الأزرق وحضر الناس والقواد وأصحاب الدواوين سوى أبي الحسن بن الفرات وخواص المقتدر فإنهم لم يحضروا ولقب ابن المعتز المرتضى بالله واستوزر محمد بن داود بن الجراح وقلد علي بن عيسى الدواوين، وكتب الكتب إلى البلاد من أمير المؤمنين المرتضى بالله أبي العباس عبد الله بن المعتز بالله ووجه إلى المقتدر يأمره بالانتقال إلى دار ابن طاهر التي كان مقيما فيها لينتقل هو إلى دار الخلافة فأجابه بالسمع والطاعة وسأل الإمهال إلى الليل.
وعاد الحسين بن حمدان بكرة غد إلى دار الخلافة فقاتله الخدم والغلمان والرجالة من وراء الستور عامة النهار فانصرف عنهم إلى آخر النهار فلما جنه الليل سار عن بغداد بأهله وماله وكل ما له إلى الموصل لا يدري لم فعل ذلك ولم يكن بقي مع المقتدر من القواد غير مؤنس الخادم ومؤنس الخازن وغريب الخال وحاشية الدار.
فلما هم المقتدر بالانتقال عن الدار قال بعضهم لبعض لا نسلم الخلافة من غير أن نبلى عذرا ونجتهد في دفع ما أصابنا فاجمع رأيهم على أن يصعدوا في الماء إلى الدار التي فيها ابن المعتز بالحرم يقاتلونه فأخرج لهم
15

المقتدر السلاح والزرديات وغير ذلك وركبوا في السميريات واصعدوا في الماء فلما رآهم من عند ابن المعتز هالهم كثرتهم واضطربوا وهربوا على وجوههم من قبل أن يصلوا إليهم وقال بعضهم لبعض إن الحسين بن حمدان عرف ما يريد [أن] يجري فهرب من الليل وهذه مواطأة بينه وبين المقتدر، وهذا كان سبب هربه.
ولما رأى ابن المعتز ذلك ركب ومعه وزيره محمد بن داود وهربا وغلام له ينادي بين يديه يا معشر العامة ادعوا لخليفتكم السني البربهاري، وإنما نسب هذه النسبة لأن الحسين بن القاسم بن عبيد الله البربهاري كان مقدم الحنابلة والسنة من العامة ولهم فيه اعتقاد عظيم فأراد استمالتهم بهذا القول.
ثم إن ابن المعتز ومن معه ساروا نحو الصحراء ظنا منهم أن من بايعه من الجند يتبعونه فلم يلحقه منهم أحد فكانوا عزموا أن يسيروا إلى سر من رأى بمن يتبعهم من الحند فيشتد سلطانهم، فلما رأوا أنهم لم يأتهم أحد رجعوا عن ذلك الرأي واختفى محمد بن داود في داره ونزل ابن المعتز عن دابته ومع غلامه يمن وانحدر إلى دار أبي عبد الله بن الجصاص فاستجار به واستتر أكثر من بايع ابن المعتز ووقعت الفتنة والنهب والقتل ببغداد وثار العيارون والسفل ينهبون الدور.
وكان ابن عمرويه صاحب الشرطة ممن بايع ابن المعتز فلما هرب جمع ابن عمرويه أصحابه، ونادى بشعار المقتدر، يدلس بذلك،
16

فناداه العامة يا مرائي يا كذاب فهرب واستتر وتفرق أصحابه فهجاه يحيى بن علي بأبيات منها:
(بايعوه فلم يكن عند الأن‍ * وك إلا التغيير والتخبيط)
(رافضيون بايعوا أنصب الأ * مة هذا لعمري التخليط)
(ثم ولى من زعقة ومحامو * ه ومن خلفهم لهم تضريط)
وقلد المقتدر تلك الساعة الشرطة مؤنسا الخازن وهو غير مؤنس الخادم وخرج بالعسكر وقبض على وصيف بن صوارتكين وغيره فقتلهم، وقبض على القاضي أبي عمر
وعلي بن عيسى، والقاضي محمد بن خلف وكيع ثم أطلقهم، وقبض على القاضي المثنى أحمد بن يعقوب فقتله لأنه قيل له بايع المقتدر فقال لا أبايع صبيا فذبح.
وأرسل المقتدر إلى أبي الحسن بن الفرات وكان مختفيا فأحضره واستوزره وخلع عليه.
وكان في هذه الحادثة عجائب منها: أن الناس كلهم أجمعوا على خلع
17

المقتدر والبيعة لابن المعتز فلم يتم ذلك بل كان على العكس من إرادتهم وكان أمر الله مفعولا.
ومنها أن ابن حمدان على شدة تشيعه وميله إلى علي عليه السلام وأهل بيته يسعى في البيعة لابن المعتز على انحرافه عن علي وغلوه في النصب إلى غير ذلك.
ثم أن خادما لابن الجصاص يعرف بسوسن أخبر صافيا الحرمي بأن ابن المعتز عند مولاه ومعه جماعة فكبست دار ابن الجصاص وأخذ ابن المعتز منها وحبس إلى الليل وعصرت خصيتاه حتى مات، ولف في كساء وسلم إلى أهله وصودر ابن الجصاص على مال كثير.
وأخذ محمد بن داود وزير ابن المعتز وكان مستترا فقتل، ونفي علي بن عيسى إلى واسط فأرسل إلى الوزير ابن الفرات يطلب منه أن يأذن له في المسير إلى مكة فأذن له في ذلك فسار إليها على طريق البصرة وأقام بها.
وصودر القاضي أبو عمر على مائة ألف دينار، وسيرت العساكر من بغداد في طلب الحسين بن حمدان فتبعوه إلى الموصل ثم إلى بلد فلم يظفروا به فعادوا إلى بغداد، فكتب الوزير إلى أخيه أبي الهيجاء بن حمدان وهو الأمير على الموصل يأمره بطلبه فسار إليه إلى بلد ففارقها الحسين إلى سنجار،
18

وأخوه في أثره فدخل البرية فتبعه أخوه عشرة أيام فأدركه فاقتتلوا فظفر أبو الهيجاء وأسر بعض أصحابه وأخذ منه عشرة آلاف دينار وعاد عنه إلى الموصل ثم انحدر إلى بغداد، فلما كان فوق تكريت أدركه أخوه الحسين فبيته فقتل منهم قتلى، وانحدر أبو الهيجاء إلى بغداد.
وأرسل الحسين إلى ابن الفرات وزير المقتدر يسأله الرضا عنه، فشفع فيه إلى المقتدر بالله ليرضى عنه وعن إبراهيم بن كيغلغ وابن عمرويه صاحب الشرطة وغيرهم فرضي عنهم، ودخل الحسين بغداد فرد عليه أخوه ما أخذ منه، وأقام الحسين ببغداد إلى أن ولي قم فسار إليها وأخذ الجرائد التي فيه أسماء من أعان على المقتدر فغرقها في دجلة وبسط ابن الفرات العدل والإحسان وأخرج الإدرارات للعباسيين والطالبيين وأرضى القواد بالأموال ففرق معظم ما كان في بيوت الأموال.
ذكر حادثة ينبغي أن يحتاط من مثلها ويفعل فيه مثل فعل صاحبها
كان سليمان بن الحسن بن مخلد متصلا بابن الفرات وبينهما مودة وصداقة فوجد الوزير كتب البيعة لابن المعتز بخط سليمان لاتصال كان لمحمد بن دواد بن الجراح وقرابة بينهما فلم يظهر عليها المقتدر وأخفاها عنه، وأحسن ابن الفرات إلى سليمان وقلده الأعمال فسعى سليمان بابن
19

الفرات إلى المقتدر وكتب بخطه مطالعة تتضمن ذكر أملاك الوزير وضياعه ومستغلاته وما يتعلق بأسبابه، وأخذ الرقعة ليوصلها إلى المقتدر فلم يتهيأ له ذلك.
وحضر دار الوزير وهي معه وسقطت من كمه فظفر بها بعض الكتاب فأوصلها إلى الوزير فلما قرأها قبض على سليمان وجعله في زوق وأحدره إلى واسط ووكل به هناك وصادره ثم أراد العفو عنه، فكتب إليه نظرت أعزك الله في حقك علي وجرمك إلي فرأيت الحق موفيا على الجرم وتذكرت من سالف خدمتك ما عطفني عليك وثناني إليك وأعادني لك إلى أفضل ما عهدت وأجمل ما ألفت؛ وأطلق له عشرة آلاف درهم وعفا عنه واستعمله وأكرمه.
ذكر ولاية أبي مضر أفريقية
وهربه إلى العراق وما كان من أمره
في هذه السنة مستهل شهر رمضان ولى أبو مضر زيادة الله بن أبي العباس بن عبد الله أفريقية بعد قتل أبيه فانعكف على اللذات والشهوات
20

وملازمة الندماء والمضحكين وأهمل أمور المملكة وأحوال الرعية، وأرسل كتابا يوم ولى إلى عمه الأحول على لسان أبيه يستعجله في القدوم عليه ويحثه على السرعة فسار مجدا ولم يعلم بقتل أبي العباس فلما وصل قتله وقتل من قدر عليه من أعمامه وأخوته.
واشتدت شوكة أبي عبد الله الشيعي في أيامه وقوي أمره وكان الأحول قبالته فلما قتل صفت له البلاد ودانت له الأمصار والعباد، فسير إليه زيادة الله جيشا مع إبراهيم بن أبي الأغلب وهو من بني عمه بلغت عدتهم أربعين ألفا سوى من انضاف إليه فهزمه أبو عبد الله الشيعي على ما نذكره آنفا فلما اتصل بزيادة الله خبر الهزيمة علم أنه لا مقام له لأن هذا الجمع هو آخر ما انتهت قدرته إليه فجمع ما عز عليه من أهل ومال وغير ذلك وعزم على الهرب إلى بلاد الشرق وأظهر للناس أنه قد جاء خبر الهزيمة أبي عبد الله الشيعي، وأمر بإخراج رجال من الحبس فقتلهم، وأعلم خاصته حقيقة الحال وأمرهم بالخروج معه.
فأشار عليه بعض أهل دولته بأن لا يفعل ولا يترك ملكه وقال له إن أبا عبد الله لا يجسر عليك، فشتمه ورد عليه رأيه وقال أحب الأشياء إليك أن يأخذني من يدي. وانصرف كل واحد من خاصته وأهله يتجهز للمسير معه وأخذ ما أمكنه حمله.
وكانت دولة آل الأغلب بإفريقية قد طالت مدتها وكثرت عبيدها
21

وقوى سلطانها، وسار عن أفريقية إلى مصر في سنة ست وتسعين ومائتين واجتمع معه خلق عظيم فلم يزل سائرا حتى وصل طرابلس فدخلها فأقام به تسعة عشر يوما ورأى بها أبا العباس أخا أبي عبد الله الشيعي وكان محبوسا بالقيروان حبسه زيادة الله فهرب إلى طرابلس، فلما رآه أحضره وقرره هل هو أخو أبي عبد الله؟ فأنكر وقال أنا رجل تاجر قيل عني إنني أخو أبي عبد الله فحبستني فقال له زيادة الله أنا أطلقك فإن كنت صادقا في أنك تاجر فلا نأثم فيك وإن كنت كذبا وأنت أخو أبي عبد الله فليكن للصنيعة عندك موضع وتحفظنا فيمن خلفنا وأطلقه.
وكان من كبار أهله وأصحابه إبراهيم بن أبي الأغلب فأراد قتله وقتل رجل آخر كانا قد عرضا أنفسهما على ولاية القيروان فعلما ذلك وهربا إلى مصر وقدما على العامل بها وهو عيسى النوشري فتحدثا معه وسعيا بزيادة الله وقالا له: إنه يمني نفسه بولاية مصر فوقع ذلك في نفسه وأراد منعه من دخول مصر إلا بأمر الخليفة من بغداد فوصل زيادة الله ليلا وعبر الجسر إلى الجيزة قهرا فلما رأى ذلك النوشري لم يمكنه منعه فأنزله بدار ابن الجصاص ونزل أصحابه في مواضع كثيرة فأقام ثمانية أيام ورحل يريد بغداد فهرب عنه بعض أصحابه وفيهم غلام له وأخذ منه مائة
22

ألف دينار فأقام عند النوشري فأرسل النوشري إلى الخليفة وهو المقتدر بالله يعرفه حال زيادة الله وحال من تخلف عنه بمصر فأمره برد من تخلف عنه إليه مع المال ففعل.
وسار زيادة الله حتى بلغ الرقة وكتب إلى الوزير وهو ابن الفرات يسأله في الإذن له لدخول بغداد فأمره بالتوقف فبقي على ذلك سنة فتفرق عنه أصحابه وهو مع هذا مدمن الخمر واستماع الملاهي، وسعى به إلى المقتدر، وقيل له يرده إلى المغرب يطلب بثأره، فكتب إليه بذلك وكتب إلى النوشري بإنجاده بالرجال والعدد والأموال من مصر ليعود إلى المغرب فعاد إلى مصر فأمره النوشري بالخروج إلى ذات الحمام ليكون هناك إلى أن يجتمع إليه ما يحتاج من الرجال والمال ففعل ومطله فطال مقامه وتتابعت به الأمراض، وقيل بل سمه بعض غلمانه فسقط شعر لحيته فعاد إلى مصر وقصد البيت المقدس فتوفي بالرملة ودفن بها.
فسبحان الحي الذي لا يموت ولا يزول ملكه، ولم يبق بالمغرب من بني الأغلب أحد، وكانت مدة ملكهم مائة سنة واثنتي عشرة سنة، وكانوا يقولون إننا نخرج إلى مصر والشام ونربط خيلنا في زيتون فلسطين فكان زيادة الله هو الخارج إلى فلسطين على هذه الحال لا على ما ظنوه.
23

ذكر ابتداء الدولة العلوية بإفريقية
هذه دولة اتسعت أكناف مملكتها وطالت مدتها فإنها ملكت إفريقية هذه السنة وانقرضت دولتهم بمصر سنة سبع وستين وخمسمائة فنحتاج [أن] نستقصي ذكرها فنقول:
أول من ولي منهم أبو محمد عبيد الله فقيل هو محمد بن عبد الله بن ميمون بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، ومن ينسب هذا النسب يجعله عبد الله بن ميمون القداح الذي ينسب إليه القداحية وقيل هو عبد الله بن أحمد بن إسماعيل الثاني محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم.
وقد اختلف العلماء في صحة نسبه فقال هو وأصحابه القائلون بإمامته إن نسبه صحيح على ما ذكرناه ولم يرتابوا فيه، وذكر كثير من العلويين العالمين بالأنساب إلى موافقتهم أيضا ويشهد بصحة هذا القول ما قاله الشريف الرضي:
(ما مقامي على الهوان وعندي * مقول صارم وأنف حمي)
(ألبس الذل في البلاد الأعادي * وبمصر الخليفة العلوي)
(من أبوه أبي ومولاه مولا * ي إذا ضامني البعيد القصي)
24

(لف عرقي بعرقه سيد النا * س جميعا محمد وعلي)
(إن ذلي بذلك الجد عز * وأوامي بذلك الربع ري)
وإنما لم يودعها في بعض ديوانه خوفا ولا حجة بما كتبه في المحضر المتضمن القدح في أنسابهم فإن الخوف يحمل على أكثر من هذا على أنه قد ورد ما يصدق ما ذكرته وهو أن القادر بالله لما بلغته هذه الأبيات أحضر القاضي أبا بكر بن الباقلاني فأرسله إلى الشريف أبي أحمد الموسوي والد الشريف الرضي يقول له قد عرفت منزلتك منا وما لا نزال عليه من الاعتداد بك بصدق الموالاة منك وما تقدم لك في الدولة من مواقف محمودة ولا يجوز أن تكون أنت على خليفة ترضاه ويكون ولدك على ما يضادها وقد بلغنا أنه قال شعرا وهو كذا وكذا، فياليت شعري على أي مقام ذل أقام وهو ناظر في النقابة والحج وهما من أشرف الأعمال ولو كان بمصر لكان كبعض الرعايا وأطال القول فحلف أبو أحمد أنه ما علم بذلك.
وأحضر ولده وقال له في المعنى فأنكر الشعر فقال له أكتب خطك إلى الخليفة بالاعتذار واذكر فيه أن نسب المصري مدخول وأنه مدع في نسبه فقال لا أفعل فقال أبو تكذبني في قولي فقال ما أكذبك،
25

ولكني أخاف من الديلم وأخاف من المصري من الدعاة في البلاد فقال أبوه أتخاف ممن هو بعيد عنك وتراقبه وتسخط من هو قريب وأنت بمرأى منه ومسمع وهو قادر عليك وعلى أهل بيتك؟
وتردد القول بينهما ولم يكتب الرضى خطه فجرد عليه أبوه وغضب وحلف أنه لا يقيم معه في بلد، فآل الأمر إلى أن حلف الرضى أنه ما قال هذا الشعر واندرجت القصة على هذا.
ففي امتناع الرضي من الاعتذار ومن أن يكتب طعنا في نسبهم مع الخوف دليل قوي على صحة نسبهم.
وسألت أنا جماعة من أعيان العلويين في نسبه فلم يرتابوا في صحته وذهب غيرهم إلى أن نسبه مدخول ليس بصحيح، وعدا طائفة منهم إلى أن جعلوا نسبه يهوديا، وقد كتب في الأيام القادرية محضر يتضمن القدح في نسبه ونسب أولاده وكتب فيه جماعة من العلويين وغيرهم أن نسبه إلى أمير المؤمنين علي غير صحيح.
فمن كتب فيه من العلويين المرتضى وأخوه الرضي وابن البطحاوي وابن الأزرق العلويين ومن غيرهم ابن الأكفاني وابن الخرزي وأبو العباس الأبيوردي وأبو حامد
والكشفلي والقدوري والصيمري،
26

وأبو الفضل النسوي وأبو جعفر النسفي وأبو عبد الله بن النعمان فقيه الشيعة.
وزعم القائلون بصحة نسبه إن العلماء ممن كتب في المحضر إنما كتبوا خوفا وتقية ومن لا علم عنده بالأنساب فلا احتجاج بقوله.
وزعم الأمير عبد العزيز صاحب تاريخ إفريقية والمغرب إن نسبه معروف في اليهودية ونقل فيه عن جماعة من العلماء، وقد استقصى ذكر ابتداء دولتهم وبالغ.
وأنا أذكر معنى ما قاله مع البراءة من عهدة طعنة في نسبه وما عداه فقد أحسن فيما ذكر قال:
لما بعث الله تعالى سيد الأولي والآخرين محمدا صلى الله عليه وسلم عظم ذلك على اليهود والنصارى والروم والفرس وقريش وسائر العرب لأنه سفه أحلامهم وعاب أديانهم وآلهتهم وفرق جمعهم فاجتمعوا يدا واحدة عليه فكفاه الله كيدهم ونصره عليهم فأسلم منهم من هداه الله تعالى؛ فلما قبض نجم النفاق وارتدت العرب وظنوا أن الصحابة يضعفون بعده، فجاهد أبو بكر رضي الله عنه في سبيل الله فقتل مسيلمة، ورد الردة وأذل الكفر ووطأ جزيرة العرب وغزا فارس والروم فلما حضرته الوفاة ظنوا أن بوفاته ينتقص الإسلام، فاستخلف عمر بن الخطاب فأذل فارس والروم وغلب على ممالكها،
27

فدس عليه المنافقون أبا لؤلؤة فقتله ظنا منهم أن بقتله ينطفئ نور الإسلام فولى بعده عثمان فزاد في الفتوح واتسعت مملكة الإسلام فلما قتل وولي بعده أمير المؤمنين علي قام بالأمر أحسن قيام، فلما يئس أعداء الإسلام من استئصاله بالقوة أخذوا في وضع الأحاديث الكاذبة وتشكيك ضعفة العقول في دينهم بأمور قد ضبطها المحدثون وأفسدوا الصحيح بالتأويل والطعن عليه.
فكان أول من فعل ذلك أبو الخطاب محمد بن أبي زينب مولى بني أسد، وأبو شاكر ميمون بن ديصان صاحب كتاب الميزان في نصرة الزندقة، وغيرهما، فألقوا إلى من وثقوا به أن لكل شيء من العبادات باطنا وأن الله تعالى لم يوجب على أوليائه ومن عرف من الأئمة والأبواب صلاة ولا زكاة ولا غير ذلك ولا حرم عليهم شيئا وأباحوا لهم نكاح الأمهات والأخوات.
وإنما هذه قيود للعامة ساقطة عن الخاصة.
وكانوا يظهرون التشيع لآل النبي صلى الله عليه وسلم ليستروا أمرهم ويستميلوا العامة، وتفرق أصحابهم في البلاد وأظهروا الزهد والعبادة يغرون الناس بذلك وهم على خلافه، فقتل أبو الخطاب وجماعة من أصحابه بالكوفة، وكان أصحابه قالوا له إنا نخاف الجند فقال لهم: إن
28

أسلحتهم لا تعمل فيكم فلما ابتدأوا في ضرب أعناقهم قال له أصحابه ألم تقل إن سيوفهم لا تعمل فينا فقال إذا كان قد أراد الله فما حيلتي؟
وتفرقت هذه الطائفة في البلاد وتعلموا الشعبذة، والنارنجيات والزور والنجوم والكيمياء فهم يحتالون على كل قوم بما ينفق عليهم وعلى العامة بإظهار الزهد.
ونشأ لابن ديصان ابن يقال له عبد الله القداح علمه الحيل وأطلعه على أسرار هذه النحلة فحذق وتقدم.
وكان بنواحي كرخ وأصبهان رجل يعرف بمحمد بن الحسين ويلقب بدندان يتولى تلك المواضع وله نيابة عظيمة وكان يبغض العرب ويجمع مساويهم فسار إليه القداح وعرفه من ذلك ما زاد به محله، وأشار عليه أن لا يظهر ما في نفسه إنما يكتمه ويظهر التشيع والطعن على الصحابة فإن الطعن فيهم طعن في الشريعة فإن بطريقهم وصلت إلى من بعدهم فاستحسن قوله وأعطاه مالا عظيما ينفقه على الدعاة إلى هذا المذهب فسيره إلى كور الأهواز والبصرة والكوفة وطالقان وخراسان وسلمية من أرض حمص وفرقه في دعاته وتوفي القداح ودندان.
29

وإنما لقب القداح لأنه كان يعالج العيون ويقدحها. فلما توفي القداح قام بعده ابنه أحمد في مقامه وصحبه إنسان يقال له رستم بن الحسين بن حوشب بن دادان النجار من أهل الكوفة فكانا يقصدان المشاهد، وكان باليمن رجل اسمه محمد بن الفضل كثير المال والعشيرة من أهل الجند يتشيع فجاء إلى مشهد الحسين بن علي يزوره فرآه أحمد ورستم يبكي كثيرا، فلما خرج اجتمع به أحمد وطمع فيه لما رأى من بكائه وألقى إليه مذهبه فقبله وسير معه النجار إلى اليمن وأمره بلزوم العبادة والزهد ودعاء الناس إلى المهدي وأنه خارج في هذا الزمان باليمن فسار النجار إلى اليمن ونزل بعدن بقرب قوم من الشيعة يعرفون ببني موسى وأخذ في بيع ما معه.
وأتاه بنو موسى وقالوا له فيم جئت فقال للتجارة قالوا: لست بتاجر وإنما أنت رسول المهدي وقد بلغنا خبرك ونحن بنو موسى ولعلك قد سمعت بنا فانبسط ولا تحتشم فإنا إخوانك فاظهر أمره وقوى عزائمهم وقرب أمر المهدي فأمره بالاستكثار من الخيل والسلاح وأخبرهم أن هذا أوان ظهور المهدي ومن عندهم يظهر.
واتصلت أخباره بالشيعة الذين بالعراق فساروا إليه فكثر جمعهم وعظم بأسهم وأغاروا على من جاورهم وسبوا وجبوا الأموال وأرسل إلى من بالكوفة من ولد عبد الله القداح هدايا عظيمة، وكانوا أنفذوا إلى المغرب رجلين أحدهما يعرف بالحلواني والآخر يعرف بأبي سفيان
30

وقالوا لهما: إن المغرب أرض بور فاذهبا فاحرثا حتى يجيء صاحب البذر؛ فسارا فنزل أحدهما بأرض كتامة ببلد يسمى مرمجنة والأخر بسوق حمار، فمالت قلوب أهل تلك النواحي إليهما وحملوا إليهما الأموال والتحف فأقاما سنين كثيرة وماتا وكان أحدهما قريب الوفاة من الآخر.
ذكر ارسال أبي عبد الله الشيعي إلى المغرب
كان أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن محمد بن زكريا الشيعي من أهل صنعاء؛ وقد سار إلى ابن حوشب النجار وصحبه بعدن وصار من كبار أصحابه وكان له علم وفهم ودهاء ومكر، فلما أتى خبر وفاة الحلواني وأبي صفيان إلى ابن حوشب قال لأبي عبد الله الشيعي إن ارض كتامة من المغرب قد حرثها الحلواني وأبو سفيان وقد ماتا وليس لها غيرك فبادر فإنها موطأة ممهدة لك.
فخرج أبو عبد الله إلى مكة وأعطاه ابن حوشب مالا وسير معه عبد الله بن أبي ملاحف، فلما قدم أبو عبد الله مكة سأل عن حجاج كتامة فأرشد إليهم فاجتمع بهم ولم يعرفهم قصده وجلس قريبا منهم، فسمعهم يتحدثون بفضائل أهل البيت فأظهر استحسان ذلك وحدثهم بما لم يعلموه،
31

فلما أراد القيام سألوه أن يأذن لهم في زيارته والانبساط معه فأذن لهم في ذلك فسألوه أين مقصدك فقال أريد مصر ففرحوا بصحبته.
وكان من رؤساء الكتاميين بمكة رجل اسمه حريث الجميلي وآخر اسمه موسى بن مكاد فرحلوا وهو لا يخبرهم بغرضه وأظهر لهم العبادة والزهد فازدادوا فيه رغبة وخدموه وكان يسألهم عن بلادهم وقبائلهم وعن طاعتهم لسلطان إفريقية فقالوا: ماله علينا طاعة وبيننا وبينه عشرة أيام. قال أفتحملون السلاح؟ قالوا: هذا شغلنا؛ ولم يزل يتعرف أحوالهم حتى وصلوا إلى مصر فلما أراد وداعهم قالوا له أي شيء تطلب بمصر؟ قال: اطلب التعليم بها، قالوا: إذا كنت تقصد هذا فبلادنا أنفع لك ونحن أعرف بحقك ولم يزالوا به حتى أجابهم إلى المسير معهم بعد الخضوع والسؤال فسار معهم.
فلما قاربوا بلادهم لقيهم رجال من الشيعة فأخبروهم بخبره فرغبوا في نزوله عندهم واقترعوا فيمن يضيفه منهم ثم رحلوا حتى وصلوا إلى أرض كتامة منتصف شهر ربيع الأول سنة ثمانين ومائتين فسأله قوم منهم أن ينزل عندهم حتى يقاتلوا دونه، فقال لهم أين يكون فج الأخيار؟ فتعجبوا من ذلك ولم يكونوا ذكروه له، فقالوا له: عند بني سليان فقال إليه نقصد ثم نأتي كل قوم منكم في ديارهم ونزورهم في بيوتهم فأرضى بذلك الجميع.
32

وسار إلى جبل يقال له انكجان وفيه فج الأخيار فقال هذا فج الأخيار وما سمي إلا بكم ولقد جاء في الآثار: أن للمهدي هجرة تنبو عن الأوطان ينصره فيها الأخيار من أهل ذلك الزمان قوم مشتق اسمهم من الكتمان فإنهم كتامة وبخروجكم من هذا الفج يسمى فج الأخيار.
فتسامعت القبائل وصنع من الحيل والمكيدات والنارنجيات ما أذهل عقولهم، وأتاه البربر من كل مكان وعظم أمره إلى تقاتلت كتامة عليه مع قبائل البربر وسلم من القتل مرارا وهو في كل ذلك لا يذكر اسم المهدي فاجتمع أهل العلم على مناظرته وقتله فلم يتركه الكتاميون يناظرهم، وكان اسمه عندهم أبا عبد الله المشرقي.
وبلغ خبره إلى إبراهيم أحمد بن الأغلب أمير أفريقية فأرسل إلى عامله على مدينة ميلة يسأله عن أمره فصغره وذكر له أنه يلبس الخشن ويأمر بالخير والعبادة فسكت عنه.
ثم أنه قال للكتاميين أنا صاحب البدر الذي ذكر لكم أبو سفيان والحواني فازدادت محبتهم له وتعظيمهم لأمره، وتفرقت كلمة البربر وكتامة بسببه فأراد بعضهم قتله فاختفى ووقع بينهم قتال شديد واتصل الخبر بإنسان اسمه الحسن بن هارون وهو من أكابر كتامة فأخذ أبا عبد
33

الله إليه ودافع عنه، ومضيا إلى مدينة ناصرون فأتته القبائل من كل مكان وعظم شأنه وصارت الرياسة للحسن بن هارون وسلم إليه أبو عبد الله أعنة الخيل وظهر الاستتار وشهر الحروب فكان الظفر له فيها وغنم الأموال، وانتقل إلى مدينة ناصرون وخندق عليها فزحفت قبائل البربر إليها فاقتتلوا ثم اصطلحوا ثم أعادوا القتال، وكان بينهم وقائع كثيرة ظفر بهم وصارت إليه أموالهم فاستقام له أمر البربر وعامة كتامة.
ذكر ملكه مدينة ميلة وانهزامه
فلما تم لأبي عبد الله ذلك زحف إلى مدينة ميلة فجاءه منها رجل اسمه الحسن بن أحمد فأطلعه على غرة البلد فقاتل أهله قتالا شديدا وأخذ الأرباض فطلبوا منه الأمان ودخل مدينة ميلة وبلغ الخبر أمير أفريقية وهو حينئذ إبراهيم بن أحمد فنفذ ولده الأحول في اثني عشر ألفا وتبعه مثلهم فالتقيا فاقتتل العسكران فانهزم أبو عبد الله وكثر القتل في أصحابه وتبعه الأحمل وسقط ثلج عظيم حال بينهم، وسار أبو عبد الله إلى جبل إنكجان فوصل الأحول إلى مدينة ناصرون فأحرقها وأحرق مدينة ميلة ولم يجد بها أحدا.
وبنى أبو عبد الله بانكجان دار هجرة فقصده أصحابه، وعاد
34

الأحول إلى أفريقية فسار أبو عبد الله بعد رحيلهم فغنم ما رأى مما تخلف عنهم وأتاه خبر وفاة إبراهيم فسر به، ثم أتاه خبر قتل أبي العباس وولده وولاية زيادة الله واشتغاله باللهو واللعب فاشتد سروره.
وكان الأحول قد جمع جيشا كثيرا أيام أخيه أبي العباس ولقي عبد الله فانهزم الأحول.
وبقي الأحول قريبا منه يقاتله ويمنعه من التقدم، فلما ولي أبو مضر زيادة الله أفريقية أحضر الأحول وقتله كما ذكرنا ولم يكن أحولا وإنما كان يكسر عينه إذا أدام النظر فلقب به فلما قتل انتشرت حينئذ جيوش أبي عبد الله في البلاد وصار أبو عبد الله يقول المهدي يخرج في هذه الأيام ويملك الأرض، فيا طوبى لمن هاجر إلي وأطاعني! ويغري الناس بأبي مضر ويعيبه.
وكان كل من عند زيادة الله من الوزراء فلا يسوءهم أن يظفر أبو عبد الله لا سيما مع ما كان يذكر لهم من الكرامات التي للمهدي من إحياء الموتى ورد الشمس من مغربها وملكه الأرض بأسرها! وأبو عبد الله يرسل إليهم ويسحرهم ويعدهم.
35

ذكر سبب اتصال المهدي عبيد الله بأبي عبد الله
الشيعي ومسيره إلى سجلماسة
لما توفي عبد الله بن ميمون القداح ادعى ولده أنهم من ولد عقيل بن أبي طالب وهم مع هذا يسترون ويسرون أمرهم ويخفون أشخاصهم.
وكان ولده أحمد هو المشار إليه منهم فتوفي وخلف ولده محمدا وكان هو الذي يكاتبه الدعاة في البلاد، وتوفي محمد وخلف أحمد والحسين، فسار الحسين إلى سليمة من
أرض حمص وله بها ودائع وأموال من ودائع جده عبد الله القداح ووكلاء وغلمان وبقي ببغداد من أولاد القداح أبو الشلغلغ.
وكان الحسين يدعي أنه الوصي وصاحب الأمر والدعاء باليمن والمغرب يكاتبونه ويراسلونه واتفق أنه جرى بحضرته حديث النساء بسلمية فوصفوا له امرأة رجل يهودي حداد مات عنها زوجها وهي في غاية الحسن فتزوجها ولها ولد من الحداد يماثلها في الجمال فأحبها وحسن موقعها معه وأحب ولدها وأدبه وعلمه فتعلم العلم وصارت له نفس عظيمة وهمة كبيرة.
فمن العلماء من أهل هذه الدعوة من يقول إن الإمام الذي كان بسلمية وهو الحسين مات ولم يكن [له] ولد فعهد إلى ابن اليهودي الحداد وهو
36

عبيد الله وعرفه أسرار الدعوة من قول وفعل وأين الدعاة وأعطاه الأموال والعلامات، وتقدم إلى أصحابه بطاعته وخدمته وأنه الإمام والوصي، وزوجه ابنة عمه أبي الشلغلغ وهذا قول أبي القاسم الأبيض العلوي وغيره، وجعل لنفسه نسبا وهو عبيد الله بن الحسين بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب.
وبعض الناس يقولون وهم قليل أن عبيد الله هذا من ولد القداح، وهذه الأقوال فيها ما فيها، فياليت شعري ما الذي حمل أبا عبد الله الشيعي وغيره ممن قام في إظهار هذه الدعوة حتى يخرجوا هذا الأمر من أنفسهم ويسلموه إلى ولد يهودي وهل يسامح نفسه بهذا الأمر من يعتقده دينا يثاب عليه؟
قال: فلما عهد الحسين إلى عبيد الله قال له أنك ستهاجر بعدي هجرة بعيدة وتلقى محنا شديدة؛ فتوفي الحسين وقام بعده عبيد الله وانتشرت دعوته وبذلك الأموال خلاف ما تقدم، وأرسل إليه أبو عبد الله رجالا من كتامة من المغرب ليخبروه بما فتح الله عليه وأنهم ينتظرونه.
وشاع خبره عند الناس أيام المكتفي فطلب فهرب هو وولده أبو القاسم نزار الذي ولي بعده وتلقب بالقائم وهو يومئذ غلام وخرج معه خاصته ومواليه يريد المغرب وذلك أيام زيادة الله، فلما انتهى إلى مصر أقام مستترا بزي التجار، كان عامل مصر حينئذ عيسى النوشري فأتته الكتب من الخليفة بصفته وحليته وأمر بالقبض عليه وعلى كل من يشبهه.
37

وكان بعض خاصة عيسى متشيعا بالانصراف فخرج من مصر مع أصحابه ومعه أموال كثيرة فأوسع النفقة على صحبه فأخبر المهدي وأشار عليه فلما وصل الكتاب إلى النوشري فرق الرسل في طلب المهدي وخرج بنفسه فلحقه فلما رآه لم يشك فيه فقبض عليه ونزل ببستان ووكل به فلما حضر الطعام دعاه ليأكل فأعلمه أنه صائم فرق له وقال له أعلمني بحقيقة حالك حتى أطلقك فخوفه بالله تعالى وأنكر حاله ولم يزل يخوفه ويتلطفه فأطلقه وخلى سبيله، وأراد أن يرسل معه من يوصله إلى رفقته فقال لا حاجة لي في ذلك ودعا له.
وقيل: أنه أعطاه في الباطن مالا حتى أطلقه فرجع بعض أصحاب النوشري عليه باللوم فندم على إطلاقه وأراد إرسال الجيش وراءه ليردوه، وكان المهدي لما لحق أصحابه رأى ابنه أبا القاسم قد ضيع كلبا كان له يصيد به وهو يبكي عليه فعرفه عبيده أنهم تركوه في البستان الذي كانوا فيه، فرجع المهدي بسبب الكلب حتى دخل البستان ومعه عبيده فرآهم النوشري فسأل عنهم فقيل إنه فلان، وقد عاد بسبب كذا وكذا؛ فقال النوشري لأصحابه قبحكم الله أردتم أن تحملوني على قتل هذا حتى آخذه فلو كان يطلب ما قال أو كان مريبا لكان يطوي المراحل ويخفي نفسه ولا كان رجع في طلب كلب؛ وتركه.
وجد المهدي في الهرب فلحقه لصوص بموضع يقال له الطاحونة،
38

فأخذوا بعض متاعه، وكانت عنده كتب وملاحم لآبائه فأخذت فعظم أمرها عليه فيقال إنه لما خرج ابنه أبو القاسم في المرة الأولى إلى الديار المصرية أخذها من ذلك المكان.
وانتهى المهدي وولده إلى مدينة طرابلس، وتفرق من صحبه من التجار، وكان في صحبته أبو العباس أخو أبي عبد الله الشيعي فقدمه المهدي إلى القيروان ببعض ما معه وأمره أن يلحق بكتامة. فلما وصل أبو العباس إلى القيروان وجد الخبر قد سبقه إلى زيادة الله بخبر المهدي فسأل عنه رفقته فأخبروا أنه تخلف بطرابلس وأن صاحبه أبا العباس بالقيروان فأخذ أبو العباس وقرر فأنكر وقال إنما أنا رجل تاجر صحبت رجلا في القفل فحبسه.
وسمع المهدي فسار إلى قسطيلة، ووصل كتاب زيادة الله إلى عامل طرابلس بأخذه وكان المهدي قد أهدى له واجتمع به فكتب العامل يخبره أنه قد سار ولم يدركه، فلما وصل المهدي إلى قسطيلة ترك قصد أبي عبد الله الشيعي لأن أخاه أبا العباس كان قد أخذ، فعلم أنه إذا قصد أخاه تحققوا الأمر وقتلوه فتركه وسار إلى سجلماسة، ولما سار من قسطيلة وصل الرسل في طلبه فلم يوجد ووصل إلى سجلماسة فأقام بها وفي كل ذلك عليه العيون في طريقه.
وكان صاحب سجلماسة رجلا يسمى اليسع بن مدرار فأهدى له المهدي وواصله فقربه اليسع وأحبه فأتاه كتاب زيادة الله يعرفه أنه الرجل الذي يدعو إليه أبو عبد الله الشيعي فقبض عليه وحبسه، فلم يزل محبوسا حتى أخرجه أبو عبد الله الشيعي على ما نذكره.
39

ذكر استيلاء أبي عبد الله على أفريقية وهرب زيادة الله أميرها
قد ذكرنا من حال أبي عبد الله ما تقدم، ثم أن زيادة الله لما رأى استيلاء أبي عبد الله على البلاد وأنه قد فتح مدينة ميلة.
ومدينة سطيف وغيرهما، أخذ في جمع العساكر وبذل الأموال، فاجتمعت إليه عساكر عظيمة، فقدم عليهم إبراهيم بن خنيش وهو من أقاربه وكان لا يعرف الحرب فبلغت عدة جيشه أربعين ألفا وسلم إليه الأموال والعدد، ولم يترك بأفريقية شجاعا إلا أخرجه معه، وسار إليه فانضاف إليه مثل جيشه، فلما وسل قسطينة الهواء وهي مدينة قديمة حصينة نزل بها وأتاه كثير من كتامة الذين لم يطيعوا أبا عبد الله فقتل في طريقه كثيرا من أصحاب أبي عبد الله، وخاف أبو عبد الله منه وجميع كتامة، وأقام
بقسطينة ستة أشهر وأبو عبد الله متحصن في الجبل.
فلما رأى إبراهيم أبا عبد الله لا يتقدم إليه بادر وزحف بالعساكر المجتمعة إلى بلد اسمه كرمة فأخرج إليه أبو عبد الله خيلا اختارها ليختبر نزوله فوافاها بالموضع المذكور، فلما رأى إبراهيم الخيل قصد إليها بنفسه ولم يصحبه إليها أحد من جيشه، وكانت أثقال العسكر على ظهور الدواب لم تحط ونشبت الحرب واقتتلوا قتالا شديدا.
واتصل الخبر بأبي عبد الله فزحف بالعساكر فوقعت الهزيمة على إبراهيم
40

ومن معه فجرح وعقر فرسه وتمت الهزيمة على الجيش جميعه وأسلموا الأثقال بأسرها فغنمها أبو عبد الله وقتل منهم خلقا كثيرا، وتم [أمر] إبراهيم إلى القيروان فشاشت بلاد أفريقية وعظم أمر أبي عبد الله واستقرت دولته وكتب أبو عبد الله كتابا إلى المهدي وهو في سجن سجلماسة يبشره وسير الكتاب مع بعض ثقاته فدخل السجن في زي قصاب يبيع اللحم فاجتمع به وعرفه ذلك.
وسار أبو عبد الله إلى مدينة طبنة فحصرها ونصب عليها الدبابات ونقب برجا وبدنة فسقط السور بعد قتال شديد وملك البلد.
فاحتمى المقدمون بحص البلد فحصرهم فطلبوا الأمان فأمنهم وأمن أهل البلد، وسار إلى مدينة بلزمة وكان قد حصرها مرارا كثيرة فلم يظفر بها فلما حصرها الآن ضيق عليها وجد في القتال ونصب عليها الدبابات ورماها بالنار فأحرقها وفتحتها بالسيف وقتل الرجال وهدم الأسوار.
واتصلت الأخبار بزيادة الله فعظم عليه [ذلك] وأخذ في الجمع والحشد، فجمع عسكرا عدتهم اثنا عشر ألفا وأمر عليهم هارون بن الطبني، فسار واجتمع معه خلق كثير وقصد مدينة دار ملوك وكان أهلها قد أطاعوا أبا عبد الله فقتل هارون أهلها وهدم الحصن، ولقيه في طريقه خيل لأبي عبد الله كان قد أرسلها ليختبروا عسكره فلما رآها العسكر اضطربوا وصاحوا صيحة عظيمة وهربوا من غير قتال فظن أصحاب أبي عبد الله
41

أنها مكيدة، فلما ظهر أنها هزيمة استدركوا الأمر ووضعوا السيف فما يحصى من قتلوا؛ وقتل هارون أمير العسكر، وفتح أبو عبد الله مدينة تيجس صلحا فاشتد الأمر حينئذ على زيادة الله وأخرج الأموال وجيش الجيوش وخرج بنفسه إلى محاربة أبي عبد الله فوصل إلى الأربس في سنة خمس وتسعين ومائتين، فقال له وجوه دولته إنك تغرر بنفسك فإن يكن عليك لا يبقى لنا ملجأ والرأي أن ترجع إلى مستقر ملكك وترسل الجيوش مع من تثق إليه فإن كان الفتح لنا فنصل إليك وإن كان غير ذلك فتكون ملجأ لنا.
ورجع ففعل ذلك وسير الجيش وقدم عليه رجلا من بني عمه يقال له إبراهيم بن أبي الأغلب وكان شجاعا وبلغ أبا عبد الله الخبر وكان أهل باغاية قد كاتبوه بالطاعة فسار إليهم فلما قرب منها هرب عاملها إلى الأربس فدخلها أبو عبد الله وترك بها جندا وعاد إلى إنكجان، ووصل الخبر إلى زيادة الله فزاده غما وحزنا فقال له إنسان كان يضحكه يا مولانا لقد عملت شعرا فعسى تجعل من يلحنه وتشرب عليه وأترك هذا الحزن؛ فقال ما هو فقال المضحك للمغنين غنوا شعر كذا وقولوا بغد فراغ كل بيت:
(اشرب واسقينا * من القرب يكفينا)
42

فلما غنوا طرب زيادة الله وشرب وانهمك في الأكل والشرب والشهوات، فلما رأى ذلك أصحابه ساعدوه على مراده.
ثم إن أبا عبد الله أخرج خيلا إلى مدينة مجانة فافتتحها عنوة وقتل عاملها وسير عسكرا آخر إلى مدينة تيفاش فملكها وأمن أهلها.
وقصد جماعة من رؤساء القبائل أبا عبد الله يطلبون منه الأمان فأمنهم وسار بنفسه إلى مسكيانة ثم إلى تبسة ثم إلى مدبرة فوجد فيها أهل قصر الأفريقي ومدينة مرمجنة ومدينة مجانة واخلاطا من الناس قد التجؤوا إليها وتحصنوا فيها وهي حصينة فنزل عليها وقاتلها فأصابه علة الحصى وكانت تعتاده فشغل بنفسه وطلب أهلها الأمان فأمنهم بعض أهل العسكر ففتحوا الحصن فدخلها العسكر ووضعوا السيف وانتهبوا.
وبلغ ذلك أبا عبد الله فعظم عليه، ورحل فنزل على القصرين من قمودة وطلب أهلها الأمان فأمنهم، وبلغ إبراهيم بن أبي الأغلب أمير الجيش الذي سيره زيادة الله [أن] أبا عبد الله يريد أن يقصد زيادة الله برقادة ولم يكن مع زيادة الله كبير عسكر فخرج من الأربس ونزل دردمين، وسير أبو عبد الله سرية إلى دردمين فجرى بينهما وبين أصحاب زيادة الله قتال فقتل من أصحاب أبي عبد الله جماعة وانهزم الباقون.
واستبطأ أبو عبد الله خبرهم فسار في جميع عساكره فلقي أصحابه منهزمين فلما رأوه قويت قلوبهم ورجعوا وكروا على أصحاب
43

إبراهيم وقتلوا منهم جماعة وحجز الليل بينهم.
ثم سار أبو عبد الله إلى قسطيلة فحصرها فقاتله أهلها ثم طلبوا الأمان فأمنهم وأخذ ما كان لزيادة الله فيها من الأموال والعدد ورحل إلى قفصة فطلب أهلها الأمان فأمنهم، ورجع إلى باغاية فترك بها جيشا وعاد إلى جبل إنكجان.
فسار إبراهيم بن أبي الأغلب في جيشه إلى باغاية وحصرها، فبلغ الخبر أبا عبد الله فجمع عسكره وسار مجدا إليها ووجه اثني عشر ألف فارس وأمر مقدمهم أن يسير إلى باغاية فإن كان إبراهيم قد رحل عنها فلا يجاوز فج العرعار، فضى الجيش وكان أصحاب أبي عبد الله الذين في باغاية قد قاتلوا عسكر إبراهيم قتالا شديدا فلما رأى صبرهم عجب هو وأصحابه منهم فأرعب ذلك قلوبهم، ثم بلغهم قرب العسكر منهم فعاد إبراهيم بعساكره فوصل عسكر أبي عبد الله فلم يروا أحدا فنهبوا ما وجدوا وعادوا.
ورجع إبراهيم بن الأربس. ولما دخل فصل الربيع وطاب الزمان جمع أبو عبد الله عساكره فبلغت مائتي ألف فارس وراجل واجتمع نم عساكر زيادة الله بالأربس مع إبراهيم ما لا يحصى وسار أبو عبد الله أول جمادى الآخرة سنة ست وتسعين ومائتين فالتقوا واقتتلوا أشد قتال،
44

وطال زمانه، وظهر أصحاب زيادة الله، فلما رأى ذلك أبو عبد الله اختار من أصحابه ستمائة رجل وأمر أصحابه أن يأتوا عسكر زيادة الله من خلفهم فمضوا لما أمرهم في الطريق الذي أمرهم بسلوكه.
واتفق أن إبراهيم فعل مثل ذلك فالتقى الطائفتان فاقتتلوا في مضيق هناك، فانهزم أصحاب إبراهيم ووقع الصوت في عسكره بكمين أبي عبد الله وانهزموا وتفرقوا وهرب كل قوم إلى جهة بلادهم، وهرب إبراهيم وبعض من معه إلى القيروان وتبعهم أصحاب أبي عبد الله يقتلون ويأسرون وغنموا الأموال والخيل والعدد ودخل أصحابه مدينة الأربس فقتلوا بها خلقا عظيما، ودخل كثير من أهلها الجامع فقتل فيه أكثر من ثلاثة آلاف ونهبوا البلد وكانت الوقعة أواخر جمادى الآخرة وانصرف أبو عبد الله إلى قمودة.
فلما وصل خبر الهزيمة إلى زيادة الله هرب إلى الديار المصرية وكان من أمره ما تقدم ذكره، ولما هرب زيادة الله هرب أهل مدينة رقادة على وجوههم في الليل إلى القصر القديم وإلى القيروان، وسوسة ودخل أهل القيروان رقادة ونهبوا فيها وأخذ القوي الضعيف ونهبت قصور بني الأغلب وبقي النهب ستة أيام.
ووصل إبراهيم بن الأغلب إلى القيروان فقصد قصر الإمارة واجتمع إليه أهل القيروان ونادى مناديه بالأمان وتسكين الناس، وذكر لهم أحوال زيادة الله وما كان عليه حتى أفسد ملكه وصغر أمر أبي عبد الله الشيعي،
45

ووعدهم أن يقاتل عنهم ويحمي حريمهم وبلدهم وطلب منهم المساعدة بالسمع والطاعة والأموال فقالوا: إنما نحن فقهاء وعامة وتجار وما في أموالنا ما يبلغ غرضك وليس لنا بالقتال طاقة؛ فأمرهم بالانصراف، فلما خرجوا من عنده وأعلموا الناس بما قاله صاحوا به أخرج عنا فما لك عندنا سمع ولا طاعة وشتموه فخرج عنهم وهم يرجمونه.
ولما بلغ أبا عبد الله هرب زيادة الله كان بناحية سبيبة ورحل فنزل بوادي النمل وقدم بين يديه عروبة بن يوسف، وحسن بن أبي خنزير في ألف فارس إلى رقادة فوجدوا الناس ينهبون ما بقي من الأمتعة والأثاث فأمنوهم ولم يتعرضوا لأحد، وتركوا لكل واحد ما حمله فأتى الناس إلى القيروان فأخبروه الخبر ففرح أهلها.
وخرج الفقهاء ووجوه البلد إلى لقاء أبي عبد الله فلقوه وسلموا عليه وهنأوه بالفتح فرد عليهم ردا حسنا، وحدثهم وأعطاهم الأمان فأعجبهم ذلك وسرهم، وذموا زيادة الله وذكروا مساويه فقال لهم ما كان إلا قويا وله منعة ودولة شامخة وما قصر في مدافعته ولكن أمر الله لا يعاند ولا يدافع فأمسكوا عن الكلام ورجعوا إلى القيروان.
ودخل رقادة يوم السبت مستهل رجب من سنة ست وتسعين ومائتين فنزل ببعض قصورها وفرق دورها على كتامة ولم يكن بقي أحد من أهلها فيها وأمر فنودي بالأمان فرجع الناس إلى أوطانهم وأخرج العمال إلى البلاد وطلب أهل الشر فقتلهم، وأمر أن يجمع ما كان لزيادة الله
46

من الأموال والسلاح وغير ذلك، فاجتمع كثير منه وفيه كثير من الجواري لهن مقدار وحظ من الجمال فسأل عمن كان يكفلهن فذكر له امرأة صالحة كانت لزيادة الله، فأحضرها وأحسن إليها وأمرها بحفظهن وأمر لهن بما يصلحهن ولم ينظر إلى واحدة منهن.
ولما حضرت الجمعة أمر الخطباء بالقيروان والرقادة فخطبوا ولم يذكروا أحدا وأمر بضرب السكة وأن لا ينقش عليها اسم ولكنه جعل مكان الاسم من وجه بلغت حجة الله ومن الوجه الآخر تفرق أعداء الله؛ ونفش على السلاح عدة في سبيل الله ووسم الخيل عن أفخاذها الملك لله؛ وأقام على ما كان عليه من لبس الدون الخشن والقليل من الطعام الغليظ.
ذكر مسير أبي عبد الله إلى سحلماسة وظهور المهدي
لما استقرت الأمور لأبي عبد الله في رقادة وسائر بلاد أفريقية أتاه أخوه أبو العباس محمد ففرح به وكان هو الكبير، فسار أبو عبد الله في رمضان من السنة من رقادة واستخلف على أفريقية أخاه أبا العباس، وأبا زكي وسار في جيوش عظيمة فاهتز المغرب لخروجه وخافته زناتة وزالت القبائل عن طريقه وجاءته رسلهم ودخلوا في طاعته.
فلما قرب من سجلماسة وانتهى خبره إلى اليسع بن مدرار أمير سجلماسة أرسل إلى المهدي وهو حبسه على ما ذكرناه يسأله عن نسبه وحاله وهل إليه قصد أبو عبد الله فحلف له المهدي أنه ما رأى أبا
47

عبد الله، ولا عرفه وإنما أنا رجل تاجر؛ فاعتقله في داره وحده وكذلك فهل بولده أبو القاسم وجعل عليهما الحرس، وقرر ولده أيضا فما حال عن كلام أبيه وقرر رجالا كانوا معه وضربهم فلم يقروا بشيء.
وسمع أبو عبد الله ذلك فشق عليه فأرسل إلى اليسع يتلطفه وأنه لم يقصد الحرب وإنما له حاجة مهمة عنده ووعده الجميل فرمى الكتاب وقتل الرسل، فعاوده بالملاطفة خوفا على المهدي ولم يذكر له فقتل الرسل أيضا فأسرع أبو عبد الله في السير ونزل عليه فخرج إليه اليسع وقاتله يومه ذلك وافترقوا فلما جنهم الليل هرب اليسع وأصحابه من أهله وبنى عمه وبات أبو عبد الله ومن معه في غم عظيم لا يعلمون ما صنع بالمهدي وولده، فلما أصبح خرج إليه أهل البلاد وأعلموه بهرب اليسع فدخل هو وأصحابه البلد وأتوا المكان الذي فيه المهدي فاستخرجه واستخرج ولده فكانت في الناس مسرة عظيمة كادت تذهب بعقولهم فأركبهما ومشى هو ورؤساء القبائل بين أيديهما وأبو عبد الله يقول للناس هذا مولاكم وهو يبكي من شدة الفرح حتى وصل إلى فسطاط قد ضرب له فنزل فيه، وأمر بطلب اليسع فطلب فأدرك فأخذ وضرب بالسياط ثم قتل.
فلما ظهر المهدي أقام بسجلماسة أربعين يوما وسار إلى أفريقية وأحضر الأموال من إنكجان فجعلها أحمالا وأخذها معه، ووصل إلى رقادة العشر الأخير من ربيع الآخر
من سنة سبع وتسعين ومائتين، وزال
48

ملك بني الأغلب وملك بني مدرار الذين منهم اليسع وكان لها ثلاثون ومائة سنة منفردين بسجلماسة، وزال ملك بني رستم من تاهرت ولهم ستون ومائة سنة تفردوا بتاهرت وملك المهدي جميع ذلك. فلما قرب من رقادة تلقاه أهلها وأهل القيروان وأبو عبد الله ورؤساء كتامة مشاة بين يديه وولده خلفه فسلموا عليه فرد [ردا] جميلا، وأمرهم بالانصراف ونزل بقصر من قصور رقادة، وأمر يوم الجمعة بذكر اسمه في الخطبة في البلاد وتلقب بالمهدي أمير المؤمنين.
وجلس بعد الجمعة رجل يعرف بالشريف ومعه الدعاة وأحضروا الناس بالعنف والشدة ودعوهم إلى مذهبهم فمن أجاب أحسن إليه ومن أبى حبس فلم يدخل في مذهبهم إلا بعض الناس وهم قليل وقتل كثير ممن لم يوافقهم على قولهم.
وعرض عليه أبو عبد الله جواري زيادة الله فاختار منهن كثيرا لنفسه ولولده أيضا وفرق ما بقي على وجوه كتامة، وقسم عليهم أعمال أفريقية ودون الدواوين وجبى الأموال واستقرت قدمه ودانت له أهل البلاد واستعمل العمال عليها جميعها فاستعمل على أرض جزيرة صقلية الحسن بن أحمد بن أبي خنزير فوصل إلى مازر عاشر ذي الحجة سنة سبع وتسعين ومائتين، فولى أخاه على جرجنت وجعل قاضيا بصقلية إسحاق بن
49

المنهال وهو أول قاض تولى بها للمهدي العلوي.
وبقي ابن أبي خنزير إلى سنة ثمان وتسعين [ومائتين]، فسار في عسكره إلى دمشق فغنم وسبى وأحرق وعاد فبقي مدة يسيرة وأساء السيرة في أهلها فثاروا به وأخذوه وحبسوه وكتبوا إلى المهدي بذلك واعتذروا فقبل عذرهم واستعمل عليهم علي بن عمر البلوي فوصل آخر ذي الحجة سنة تسع وتسعين ومائتين.
ذكر قتل أبي عبد الله الشيعي وأخيه أبي العباس
في سنة ثمان وتسعين ومائتين قتل أبو عبد الله الشيعي قتله المهدي عبيد الله.
وسبب ذلك أن المهدي لما استقامت له البلاد ودانت له العباد وباشر الأمور بنفسه وكف يد أبي عبد الله ويد أخيه أبي العباس دخل أبا العباس الحسد وعظم عليه الفطام عن الأمر والنهي والأخذ والعطاء، فأقبل يزري على المهدي في مجلس أخيه ويتكلم فيه وأخوه ينهاه ولا يرضى فعله فلا يزيده ذلك إلا لجاجا.
50

ثم أنه أظهر أبا عبد الله على ما في نفسه وقال له ملكت أمرا فجئت بمن أزالك عنه وكان الواجب عليه أن لا يسقط حقك.
ولم يزل حتى أثر في قلب أخيه فقال يوما للمهدي لو كنت تجلس في قصرك وتتركني مع كتامة آمرهم وأنهاهم لأني عارف بعاداتهم لكان أهيب لك في أعين الناس.
وكان المهدي سمع شيئا مما يجري بين أبي عبد الله وأخيه فتحقق ذلك غير أنه رد ردا لطيفا، فصار أبو العباس يشير إلى المقدمين بشيء من ذلك فمن رأى منه قبولا كشف له ما في نفسه وقال ما جازاكم على ما فعلتم، وذكر لهم الأموال التي أخذها المهدي من إنكجان وقال هلا قسمها فيكم!
وكل ذلك يتصل بالمهدي وهو يتغافل وأبو عبد الله يداري ثم صار أبو العباس يقول إن هذا ليس الذي كنا نعتقد طاعته وندعو إليه لأن المهدي يختم بالحجة ويأتي بالآيات الباهرة، فأخذ قوله بقلوب كثير من الناس منه إنسان من كتامة يقال له شيخ المشايخ، فواجه المهدي بذلك وقال إن كنت المهدي فأظهر لنا آية فقد شككنا فيك فقتله المهدي، فخافه أبو عبد الله وعلم أن المهدي قد تغير عليه فاتفق هو وأخوه ومن معهما على الاجتماع عند أبي زاكي وعزموا على قتل المهدي واجتمع معهم قبائل كتامة إلا قليلا منهم.
51

وكان معهم رجل يظهر أنه منهم وينقل ما يجري إلى المهدي ودخلوا عليه مرارا فلم يجسروا على قتله، فاتفق أنهم اجتمعوا ليلة عند أبي زاكي فلما أصبحوا لبس أبو عبد الله ثوبه مقلوبا ودخل على المهدي فرأى ثوبه فلم يعرفه به، ثم دخل عليه ثلاثة أيام والقميص بحاله فقال له المهدي ما هذا الأمر الذي أذهلك عن إصلاح ثوبك؟ فهو مقلوب منه ثلاثة أيام فعلمت أنك ما نزعته؛ فقال ما علمت بذلك إلا ساعتي هذه؛ قال أين كنت البارحة والليالي قبلها فسكت أبو عبد الله فقال أليس بت في دار أبي زاكي قال بلى قال ومن الذي أخرجك من دارك قال خفت قال وهل يخاف الإنسان إلا من عدوه فعلم أن أمره ظهر للمهدي فخرج وأخبر أصحابه وخافوا وتخلفوا عن الحضور.
فذكر ذلك للمهدي وعنده رجل يقال له ابن القديم كان من جملة القوم وعنده أموال كثيرة من أموال زيادة الله فقال يا مولاي إن شئت أتيتك بهم، ومضى فجاء بهم، فعلم المهدي صحة ما قيل عنه فلاطفهم وفرقهم في البلاد، وجعل أبا زاكي واليا على طرابلس وكتب إلى عاملها أن يقتله عند وصوله، فلما وصلها قتله عاملها وأرسل رأسه إلى المهدي فهرب ابن القديم فأخذ فأمر المهدي بقتله فقتل.
وأمر المهدي عروبة ورجالا معه أن يرصدوا أبا عبد الله وأخاه أبا العباس ويقتلوهما، فلما وصلا إلى قرب القصر حمل عروبة على أبي عبد الله فقال لا تفعل يا بني فقال الذي أمرتنا بطاعته أمرنا بقتلك فقتل هو وأخوه وكان قتلهما في اليوم الذي قتل فيه أبو زاكي فقيل إن المهدي صلى على أبي عبد الله وقال رحمك الله أبا عبد الله وجزاك خيرا بجميل سعيك.
52

وثارت فتنة بسبب قتلهما وجرد أصحابهما السيوف فركب المهدي وأمن الناس فسكنوا ثم تتبعهم حتى قتلهم.
وثارت فتنة ثانية بين كتامة وأهل القيروان قتل فيه خلق كثير فخرج المهدي وسكن الفتنة وكف الدعاة عن طلب التشيع من العامة.
ولما استقامت الدولة للمهدي عهد إلى ولده أبي القاسم نزار بالخلافة، ورجعت كتامة إلى بلادهم فأقاموا طفلا وقالوا: هذا هو المهدي ثم زعموا أنه نبي يوحى إليه وزعموا أن أبا عبد الله لم يمت، وزحفوا إلى مدينة ميلة فبلغ ذلك المهدي فأخرج ابنه أبا القاسم فحصرهم فقاتلوهم فهزمهم واتبعهم حتى أجلاهم إلى البحر وقتل منهم خلقا عظيما وقتل الطفل الذي أقاموه.
وخالف عليه أهل صقلية مع ابن وهب فأنفذ إليهم أسطولا ففتحها وأتى بابن وهب فقتله.
وخالف عليه أهل تاهرت فغزاها ففتحها وقتل أهل الخلاف، وقتل جماعة من بني الأغلب برقادة كانوا قد رجعوا إليها بعد وفاة زيادة الله.
ذكر عدة حوادث
فيها سير القاسم بن سيما وجماعة من القواد في طلب الحسين بن حمدان فساروا حتى بلغوا قرقيسيا والرحبة فلم يظفروا به.
فكتب
53

المقتدر إلى أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان وهو الأمير بالموصل يأمره بطلب أخيه الحسين فسار هو والقاسم بن سيما فالتقوا عند تكريت فانهزم الحسين فأرسل أخاه إبراهيم بن حمدان يطلب الأمان فأجيب إلى ذلك ودخل بغداد وخلع عليه وعقد له قم وقاشان، فسار إليها وصرف عنها العباس بن عمرو.
وفيها وصل بارس غلام إسماعيل الساماني وقلد ديار ربيعة، وقد تقدم ذكره.
وفيها كانت وقعة بين طاهر بن محمد بن عمرو بن الليث وبين سبكري غلام عمر فأسر طاهرا ووجه وأخاه يعقوب بن محمد بن عمرو إلى المقتدر مع كاتبه عبد الرحمن بن جعفر الشيرازي فأدخلا بغداد أسيرين فحبسا، وكان سبكري قد تغلب على فارس بغير أمر الخليفة فلما وصل كاتبه قرر أمره على مال يحمله وكان وصوله إلى بغداد سنة سبع وتسعين.
وفيها خلع على مؤنس المظفر الخادم وأمر بالمسير إلى غزو الروم فسار في جمع كثيف فغزا من ناحية ملطية ومعه أبو الأغر السلمي فظفر وغنم وأسر منهم جماعة وعاد.
وفيها قلد يوسف بن أبي الساج أعمال أرمينية وآذربيجان وضمنها بمائة ألف وعشرين ألف دينار فسار إليها من الدينور.
وفيها سقط ببغداد ثلج كثير من بكرة إلى العصر فصار على الأرض أربع أصابع وكان معه برد شديد وجمد الماء والخل والبيض والأدهان،
54

وهلك النخل وكثير من الشجر؛ وحج بالناس الفضل بن عبد الملك الهاشمي.
وفيها توفي محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر.
وفيها قتل سوسن حاجب المقتدر، وسبب ذلك أنه كان له أثر في أمر ابن المعتز فلما بويع ابن المعتز واستحجب غيره لزم المقتدر فلما استوزر ابن الفرات تفرد بالأمور فعاداه سوسن وسعى في فساد حاله فاعلم ابن الفرات المقتدر بالله بحال سوسن وأنه كان ممن أعان ابن المعتز فقبض عليه وقتله.
وفيها توفي محمد بن داود الجراح عم علي بن عيسى الوزير وكان عالما بالكتابة.
وفيها توفي عبد الله بن جعفر بن خاقان وأبو عبد الرحمن الدهكاني.
55

297
ثم دخلت سنة سبع وتسعين ومائتين
ذكر استيلاء الليث على فارس وقتله
في هذه السنة سار الليث بن علي بن الليث من سجستان إلى فارس [في جيش] وأخذها واستولى عليها وهرب سبكري عنها إلى أرجان، فلما بلغ الخبر المقتدر جهز مؤنسا الخادم وسيره إلى فارس معونة لسبكرى، فاجتمعا بأرجان.
وبلغ خبر اجتماعهما الليث فسار إليهما فأتاه الخبر بمسير الحسين بن حمدان من قم إلى البيضاء معونة لمؤنس فسير أخاه في بعض جيشه إلى شيراز ليحفظها، ثم سار في بعض جنده في طريق مختصر ليواقع الحسين بن حمدان فأخذ به الدليل في طريق الرجالة فهلك أكثر دوابه، ولقي هو وأصحابه مشقة عظيمة فقتل الدليل وعدل عن ذلك الطريق فأشرف على عسكر مؤنس فظنه هو وأصحابه أنه عسكره الذي سير مع أخيه إلى شيراز فكبروا فثار إليهم مؤنس وسبكري في جندهما فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزم عسكر الليث وأخذ هو أسيرا.
فلما أسره مؤنس قال له أصحابه إن المصلحة أن نقبض على سبكري
56

ونستولي على بلاد فارس ونكتب إلى الخليفة ليقرأها عليك فقال سأفعل غدا إذا صار إلينا على عادته فلما جاء الليل أرسل مؤنس إلى سبكري سرا يعرفه ما أشار به أصحابه وأمره بالمسير من ليلته إلى شيراز ففعل، فلما أصبح مؤنس قال لأصحابه أرى سبكري قد تأخر عنا فتعرفوا خبره فسار إليه بعضهم وعاد فأخبره أن سبكري سار من ليلته إلى شيراز فلام أصحابه وقال من جهتكم بلغه الخبر حتى استوحش؛ وعاد مؤنس ومع الليث إلى بغداد وعاد الحسين بن حمدان إلى قم.
ذكر أخذ فارس من سبكري
لما عاد مؤنس عن سبكري استولى كاتبه عبد الرحمن بن جعفر على الأمور فحسده أصحاب سبكري فنقلوا عنه أنه كاتب الخليفة وأنه قد حلف أكثر القواد له، فقبض عليه وقيده وحبسه واستكتب مكانه إسماعيل بن إبراهيم اليمني فحمله على العصيان ومنع ما كان يحمله إلى الخليفة ففعل ذلك.
فكتب عبد الرحمن بن جعفر إلى ابن الفرات وزير الخليفة يعرفه ذلك وأنه لما نهى سبكري عن العصيان قبض عليه فكتب ابن الفرات إلى مؤنس وهو بواسط يأمره بالعود إلى فارس ويعجزه حيث لم يقبض على سبكري ويحمله مع الليث إلى بغداد، فعاد مؤنس إلى الأهواز.
وأرسل سبكري مؤنسا وهاداه وسأله أن يتوسط حاله مع الخليفة،
57

فكتب في أمره وبذل عنه مالا فلم يستقر بينهم شيء؛ وعلم ابن الفرات أن مؤنسا يميل إلى سبكري فأنفذ وصيف كاتبه وجماعة من القواد ومحمد بن جعفر الفريابي وعول عليه في فتح فارس وكتب إلى مؤنس يأمره باستصحاب الليث معه إلى بغداد فعاد مؤنس.
وسار محمد بن جعفر إلى فارس وواقع سبكري على باب شيراز فانهزم سبكري إلى بم وتحصن بها وتبعه محمد بن جعفر وحصره بها فخرج إليه سبكري وحاربه مرة ثانية فهزمه محمد ونهب ماله ودخل سبكري مفازة خراسان فظفر به صاحب خراسان على ما نذكره واستولى محمد بن جعفر على فارس فاستعمل عليها قنبجا خادم الأفشين والصحيح أن فتح فارس كان سنة ثمان وتسعين [ومائتين].
ذكر عدة حوادث
فيها وجه المتقدر القاسم بن سيما لغزو الصائفة؛ وحج بالناس الفضل بن عبد الملك الهاشمي.
وفيها توفي عيسى النوشري في شعبان بمصر بعد موت أبي العباس بن بسطام بعشرة أيام ودفن بالبيت المقدس، واستعمل المقتدر مكانه
58

تكين الخادم وخلع عليه منتصف شهر رمضان.
وفيها توفي أبو عبد الله محمد بن سالم صاحب سهل بن عبد الله التستري.
وفيها توفي الفيض بن الخضر وقيل ابن محمد أبو الفيض الأولاشي الطرسوس وأبو بكر محمد بن داود بن علي الأصفهاني الفقيه الظاهري وموسى بن إسحاق القاضي والقاضي أبو محمد يوسف بن يعقوب بن حماد وله تسع وثمانون سنة.
59

298
ثم دخلت سنة ثمان وتسعين ومائتين
ذكر استيلاء أحمد بن إسماعيل على سجستان
في هذه السنة في رجب استولى أبو نصر احمد بن إسماعيل الساماني على سجستان.
وسبب ذلك أنه لما استقل أمره وثبت ملكه خرج في سنة سبع وتسعين ومائتين إلى الري، وكان يسكن بخارى ثم سار إلى هراة فسير منها جيشا في المحرم سنة ثمان وتسعين ومائتين إلى سجستان، وسير جماعة من أعيان قواده وأمرائه منهم أحمد بن سهل ومحمد بن المظفر وسيمجور الدواتي وهو والد آل سيمجور ولاة خراسان للسامانية وسيرد ذكرهم واستعمل أحمد على هذا الجيش الحسين بن علي المروروذي فساروا حتى أتوا سجستان وبها المعدل بن علي بن الليث الصفار وهو صاحبها.
فلما بلغ المعدل خبرهم سير أخاه أبا علي محمد بن علي بن الليث إلى بست والرخج ليحمي أموالها ويرسل منها الميرة إلى سجستان فسار الأمير أحمد بن إسماعيل إلى أبي علي ببست وجاذبه وأخذه أسيرا وعاد به إلى هراة.
وأما الجيش الذي بسجستان فإنهم حصروا المعدل وضايقوه فلما
60

بلغه أن أخاه أبا علي محمدا قد أخذ أسيرا صالح الحسين بن علي واستأمن إليه فاستولى الحسين على سجستان فاستعمل عليها الأمير أحمد أبا صالح منصور بن إسحاق وهو ابن عمه وانصرف الحسين عنها ومعه المعدل إلى بخارى ثم إن سجستان خالف أهلها سنة ثلاثمائة على ما نذكره.
ولما استولى السامانية على سجستان بلغهم خبر مسير سبكري في المفازة من فارس إلى سجستان، فسيروا إليه جيشا فلقوه هو وعسكره قد أهلكهم التعب فأخذوه أسيرا واستولوا على عسكره، وكتب الأمير أحمد إلى المقتدر بذلك وبالفتح، فكتب إليه يشكره على ذلك ويأمره بحمل سبكري، ومحمد بن علي بن الليث إلى بغداد فسيرهما وأدخلا بغداد مشهورين على فيلين، وأعاد المقتدر رسل أحمد صاحب خراسان ومعهم الهدايا والخلع.
ذكر عدة حوادث
فيها أطلق الأمير أحمد بن إسماعيل عمه إسحاق بن أحمد من محبسه وأعاده إلى سمرقند وفرغانة.
وفيها توفي محمد بن جعفر الفريابي وقنبج الخادم أمير فارس فاستعمل عليها عبد الله بن إبراهيم المسمعي وأضاف إليه كرمان.
61

وفيها جعلت أم موسى الهاشمية قهرمانة دار المقتدر بالله فكانت تؤدي الرسائل من المقتدر وأمه إلى الوزير، وإنما ذكرناها لأن لها فيما بعد من الحكم في الدولة ما أوجب ذكرها وإلا كان الإضراب عنها أولى.
وفيها غزا القاسم بن سيما الصائفة.
وفيها في رجب توفي المظفر بن حاج أمير اليمن وحمل إلى مكة ودفن بها واستعمل الخليفة على اليمن بعده ملاحظا؛ وحج بالناس في هذه السنة الفضل بن عبد الملك الهاشمي.
وفيها في شعبان أخذ جماعة ببغداد قيل إنهم أصحاب رجل يدعي الربوبية يعرف بمحمد بن بشر.
وفيها هبت ريح شديدة حارة صفراء بحديثة الموصل فمات لشدة حرها جماعة كثيرة.
وفيها توفي أبو القاسم الجنيد بن محمد الصوفي وكان أمام الدنيا في زمانه وأخذ الفقه عن أبي ثور صاحب الشافعي والتصوف عن سري السقطي.
وفيها توفي أبو برزة الحساب واسمه الفضل بن محمد.
وفيها توفي القاسم بن العباس أبو أحمد المعشري، وإنما قيل المعشري لأنه ابن بنت أبي معشر نجيح المدني وكان زاهدا فقيها.
وفيها توفي أحمد بن سعيد بن مسعود بن عصام أبو العباس ومحمد بن إياس والد أبي زكريا صاحب تاريخ الموصل وكان خيرا فاضلا وهو أزدي.
62

299
ثم دخلت سنة تسع وتسعين ومائتين
ذكر القبض على ابن الفرات ووزارة الخاقاني
في هذه السنة قبض المقتدر على الوزير أبي الحسن بن الفرات في ذي الحجة وكان قد ظهر قبل القبض عليه بمدة يسيرة ثلاث كواكب مذنبة أحدها ظهر آخر رمضان في برج الأسد والآخر ظهر في ذي القعدة في المشرق، والثالث ظهر في المغرب في ذي القعدة أيضا في برج العقرب.
ولما قبض على الوزير وكل بداره وهتك حرمه ونهب ماله ونهبت دور أصحابه ومن يتعلق به وافتتنت بغداد لقبضه ولقي الناس شدة ثلاثة أيام ثم سكنوا.
وكان مدة وزارته هذه وهي الوزارة الأولى ثلاث سنين وثمانية أشهر وثلاثة عشر يوما وقلد أبو علي محمد بن يحيى بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان الوزارة فرتب أصحاب الدواوين وتولى مناظرة ابن
63

الفرات أبو الحسين أحمد بن يحيى بن أبي البغل، وكان أخوه أبو الحسن بن أبي البغل مقيما بأصبهان فسعى أخوه له في الوزارة هو وأم موسى القهرمانة، فأذن المقتدر في حضوره ليتولى الوزارة فحضر فلما بلغ ذلك الخاقاني انحلت أموره فدخل على الخليفة وأخبره بذلك فأمره بالقبض على أبي الحسن وأبي الحسين أخيه فقبض على أبي الحسن وكتب في القبض على أبي الحسين فقبض أيضا، ثم خاف القهرمانة فأطلقهما واستعملهما.
ثم أن أمور الخاقاني انحلت لأنه كان ضجورا ضيق الصدر مهملا لقراءة كتب العمال وجباية الأموال، وكان يتقرب إلى الخاصة والعامة فمنع خدم السلطان وخواصه أن يخاطبوه بالعبد، وكان إذا رأى جماعة من الملاحين والعامة يصلون جماعة ينزل ويصلي معهم وإذا سأله أحد حاجة دق صدره وقال نعم وكرامة، فسمي دق صدره إلا أنه قصر في إطلاق الأموال للفرسان والقواد فنفروا عنه واتضعت الوزارة بفعله ما تقدم.
وكان أولاده قد تحكموا عليه فكل منهم يسعى لمن يرتشي منه، وكان يولي في الأيام القليلة العمال، فاجتمعوا في الطريق فعرضوا توقيعاتهم فسار الأخير منهم وعاد الباقون يطلبون ما خدمهم به أولاده فقيل فيه:
(وزير قد تكامل في الرقاعة * يولي ثم يعزل بعد ساعة)
(إذا أهل الرشا اجتمعوا لديه * فخير القوم أوفرهم بضاعه)
64

(وليس يلام في هذا بحال * لأن الشيخ أفلت من مجاعة)
ثم زاد الأمر حتى تحكم أصحابه فكانوا يطلقون الأموال ويفسدون الأحوال فانحلت القواعد وخبثت النيات، واشتغل الخليفة بعزل وزرائه والقبض عليهم والرجوع إلى قول النساء والخدم والتصرف على مقتضى آرائهم، فخرجت الممالك وطمع العمال في الأطراف وكان ما نذكره فيما بعد.
ثم أن الخليفة أحضر الوزير ابن الفرات من محبسه فجعله عنده في بعض الحجر مكرما فكان يعرض عليه مطالعات العمال وغير ذلك وأكرمه وأحسن إليه بعد أن أخذ أمواله.
ذكر عدة حوادث
فيها غزا رستم أمير الثغور الصائفة من ناحية طرسوس ومعه دميانة فحصر حصن مليح الأرمني ثم دخل بلده وأحرقه.
وفيها دخل بغداد العظيم والأغبر وهما من قواد ذكرويه القرمطي، دخلا بالأمان؛ وحج بالناس الفضل بن عبد الملك.
وفيها جاء نفر من القرامطة من أصحاب أبي سعيد الجنابي إلى باب البصرة وكان عليها محمد بن إسحاق بن كنداجيق وكان وصولهم يوم
65

الجمعة، والناس في الصلاة فوقع الصوت بمجيء القرامطة فخرج إليهم الموكلون بحفظ البصرة فرأوا رجلين منهم فخرجوا إليهما فقتل القرامطة منهم رجلا وعادوا فخرج إليهم محمد بن إسحاق في جمع فلم يرهم، فسير في أثر جماعة فأدركوهم وكانوا نحو ثلاثين رجلا فقاتلوهم فقتل بينهم جماعة، وعاد ابن كنداجيق وأغلق أبواب البصرة ظنا منه أن أولئك القرامطة كانوا مقدمة لأصحابهم وكاتب الوزير ببغداد يعرفه وصول القرامطة ويستمده فلما أصبح ولم ير للقرامطة أثرا ندم على ما فعل، وسير إليه من بغداد عسكرا مع بعض القواد.
وفيها خالف أهل طرابلس الغرب على المهدي عبيد الله العلوي، فسير إليها عسكرا فحاصرها فلم يظفر بها، فسير إليها المهدي ابنه أبا القاسم في جمادى الآخرة سنة ثلاثمائة فحاصرها وصابرها واشتد في القتال فعدمت الأقوات في البلد حتى أكل الناس الميتة ففتح البلد عنفا وعفا عن أهله وأخذ أموالا عظيمة من الذين أثاروا الخلاف وغرم أهل البلد جميع ما أخرج على عسكره وأخذ وجوه البلد رهائن عنده واستعمل عليها عاملا وانصرف.
وفيها كانت زلازل بالقيروان لم ير مثلها شدة وعظمة، وثار أهل القيروان فقتلوا من كتامة نحو ألف رجل.
66

وفيها توفي محمد بن أحمد بن كيسان أبو الحسن النحوي وكان عالما بنحو البصريين والكوفيين لأنه أخذه عن ثعلب والمبرد.
وفيها توفي محمد بن السري القنطري وأبو صالح الحافظ وأبو علي بن سيبويه وأبو يعقوب إسحاق بن حنين الطبيب.
67

300
ثم دخلت سنة ثلاثمائة
ذكر عزل الخاقاني عن الوزارة ووزارة علي بن عيسى
في هذه السنة ظهر للمقتدر تخليط الخاقاني وعجزه في الوزارة فأراد عزله وإعادة أبي الحسن بن الفرات إلى الوزارة فمنعه مؤنس الخادم عن ابن الفرات لنفوره عنه لأمور منها إنفاذ الجيش إلى فارس مع غيره وإعادته إلى بغداد وقد ذكرناه، فقال للمقتدر متى أعدته ظن الناس أنك إنما قبضت عليه شرها في ماله والمصلحة أن تستدعي علي بن عيسى من مكة وتجعله وزيرا فهو الكافي الثقة الصحيح العمل المتين الدين.
فأمر المقتدر بإحضاره فأنفذ من يحضره فوصل إلى بغداد أول سنة إحدى وثلاثمائة وجلس في الوزارة، وقبض على الخاقاني وسلم إليه فأحسن قبضه ووسع عليه وتولى علي بن عيسى ولازم العمل والنظر في الأمور ورد المظالم وأطلق من المكوس شيئا كثيرا بمكة وفارس وأطلق المواخير والمفسدات بدوبق، وأسقط زيادات كان الخاقاني قد زادها للجند لأنه عمل الدخل والخرج فرأى الخرج أكثر فأسقط أولئك وأمر بعمارة المساجد والجوامع وتبييضها وفرشها بالحصر وإشعال الأضواء
68

فيها وأجرى للأئمة والقراء والمؤذنين أرزاقا، وأمر بإصلاح البيمارستانات وعمل ما يحتاج إليه المرضى من الأدوية، وقرر فيها فضلاء الأطباء وأنصف المظلومين وأسقط ما زيد في خراج الضياع، ولما عزل الخاقاني أكثر الناس التزوير على خطه بمسامحات وإدرارات، فنظر علي بن عيسى في تلك الخطوط فأنكرها وأراد إسقاطها فخاف ذم الناس ورأى أن ينفذها إلى الخاقاني ليميز الصحيح من المزور عليه فيكون الذم له، فلما عرضت تلك الخطوط عليه قال هذه جميعها خطى وأنا أمرت بها، فلما عاد الرسول إلى علي بن عيسى بذلك قال والله لقد كذب ولقد علم المزور من غيره ولكنه اعترف بها ليحمده الناس ويذموني وأمر بها فأجيزت.
وقال الخاقاني لولده: يا بني هذه ليست خطى ولكنه أنفذها إلي وقد عرف الصحيح من السقيم ولكنه أراد أن يأخذ الشوك بأيدينا ويبغضنا إلى الناس وقد عكست مقصوده.
ذكر خلاف سجستان وعودها إلى طاعة أحمد
ابن إسماعيل الساماني
وفي هذه السنة أنفذ الأمير أبو نصر أحمد بن إسماعيل الساماني عسكرا إلى سجستان ليفتحها ثانية وكانت قد عصت عليه وخالف من بها.
وسبب ذلك أن محمد بن هرمز المعروف بالمولى الصندلي، كان خارجي
69

المذهب، وكان قد أقام ببخارى وهو من أهل سجستان وكان شيخا كبيرا، فجاء يوما إلى الحسين بن علي بن محمد العارض يطلب رزقه فقال له علي إن الأصلح لمثلك من الشيوخ أن يلزم رباطا يعبد الله فيه حتى يوافيه أجله فغاظه ذلك، فانصرف إلى سجستان والوالي عليها منصور بن إسحاق فاستمال جماعة من الخوارج ودعا إلى الصفار وبايع في السر لعمرو بن يعقوب بن محمد بن عمرو بن الليث، وكان رئيسهم محمد بن العباس المعروف بابن الحفار وكان شديد القوة فخرجوا وقبضوا على منصور بن إسحاق أميرهم وحبسوه في سجن أرك وخطبوا لعمرو بن يعقوب وسلموا إليه سجستان.
فلما بلغ الخبر إلى الأمير أحمد بن إسماعيل سير الجيوش مع الحسين بن علي مرة ثانية إلى زرنج في سنة ثلاثمائة فحصرها تسعة أشهر فصعد يوما محمد بن هرمز الصندلي إلى السور وقال ما حاجتكم إلى أذى شيخ لا يصلح إلا للزوم رابط يذكرهم بما قاله العارض ببخارى؛ واتفق أن الصندلي مات فاستأمن عمرو بن يعقوب الصفار وابن الحفار إلى الحسين بن علي وأطلقوا عن منصور بن إسحاق وكان الحسين بن علي يكرم ابن الحفار ويقربه فواطأ ابن الحفار جماعة على الفتك بالحسين فعلم الحسين ذلك، وكان ابن الحفار يدخل على الحسين لا يحجب عنه فدخل إليه يوما وهو مشتمل على سيف فأمر الحسين بالقبض عليه وأخذه معه إلى بخارى.
ولما انتهى خبر فتح سجستان إلى الأمير أحمد استعمل عليها سيمجور الدواتي وأمر الحسين بالرجوع إليه فرجع ومعه عمرو بن يعقوب وابن الحفار وغيرهما، وكان عوده في ذي الحجة سنة ثلاثمائة، واستعمل الأمير أحمد منصورا ابن عمه إسحاق على نيسابور وأنفذه إليها وتوفي ابن الحفار.
70

ذكر طاعة أهل صقلية للمقتدر وعودهم
إلى طاعة المهدي العلوي
قد ذكرنا سنة سبع وتسعين ومائتين استعمال المهدي علي بن عمر على صقلية فلما وليها كان شيخا لينا فلم يرض أهل صقلية بسيرته فعزلوه عنهم وولوا على أنفسهم أحمد بن قرهب فلما ولى سير سرية إلى أرض قلورية فغنموا منها وأسروا من الروم وعادوا.
وأرسل سنة ثلاثمائة ابنه عليا إلى قلعة طبرمين المحدثة في جيش وأمره بحصرها وكان غرضه إذا ملكها أن يجعل بها ولده وأمواله وعبيده فإذا رأى من أهل صقلية ما يكره امتنع بها، فحصرها ابنه ستة أشهر ثم اختلف العسكر عليه وكرهوا المقام فأحرقوا خيمته وسواد العسكر وأرادوا قتله فمنعهم العرب.
ودعا أحمد بن قرهب الناس إلى طاعة المقتدر فأجابوه إلى ذلك فخطب له بصقلية وقطع خطبة المهدي، وأخرج ابن قرهب جيشا في البحر إلى ساحل أفريقية فلقوا هناك أسطول المهدي ومقدمه الحسن بن أبي خنزير فأحرقوا الأسطول وقتلوا الحسن وحملوا رأسه إلى ابن قرهب، وسار الأسطول الصقلي إلى مدينة سفاقس فخربوها وساروا إلى طرابلس فوجدوا فيها القائم بن المهدي فعادوا.
ووصلت الخلع السود والألوية إلى ابن قرهب من المقتدر ثم أخرج مراكب
71

فيها جيش إلى قلورية فغنم جيشه وخربوا وعادوا وسير أيضا أسطولا إلى أفريقية فخرج عليها أسطول المهدي فظفروا بالذي لابن قرهب وأخذوه، ولم يستقم بعد ذلك لابن قرهب حال وأدبر أمره وطمع فيه الناس وكانوا يخافونه.
وخاف منه أهل جرجنت وعصوا أمره وكاتبوا المهدي، فلما رأى ذلك أهل البلاد كاتبوا المهدي أيضا وكرهوا الفتنة وثاروا بابن قرهب وأخذوه أسيرا سنة ثلاثمائة وحبسوه وأرسلوه إلى المهدي مع جماعة من خاصته فأمر بقتلهم على قبر ابن أبي خنزير فقتلوا واستعمل على صقلية أبا سعيد موسى بن أحمد وسير معه جماعة كثيرة من شيوخ كتامة فوصلوا إلى طرابنش.
وسبب إرسال العسكر معه أن ابن قرهب كان قد كتب إلى المهدي يقول له إن أهل صقلية يكثرون الشغب على أمرائهم ولا يطيعونهم وينهبون أموالهم ولا يزول ذلك إلا بعسكر يقهرهم ويزيل الرياسة عن رؤسائهم ففعل المهدي ذلك، فلما وصل معه العسكر خاف منه أهل صقلية فاجتمع عليه أهل جرجنت وأهل المدينة وغيرهما فتحصن منهم أبو سعيد وعمل على نفسه سورا إلى البحر وصار المرسي معه فاقتتلوا فانهزم أهل صقلية وقتل جماعة من رؤسائهم وأسر جماعة، وطلب أهل المدينة الأمان فأمنهم إلا رجلين هما أثارا الفتنة فرضوا بذلك وتسلم الرجلين وسيرهما إلى
72

المهدي بأفريقية وتسلم المدينة وهدم أبوابها وأتاه كتاب المهدي يأمره بالعفو عن العامة.
ذكر وفاة عبد الله بن محمد صاحب الأندلس
وولاية عبد الرحمن
وفيها توفي عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الحاكم بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية الأموي صاحب الأندلس في ربيع الأول وكان عمره اثنتين وأربعين سنة، وكان أبيض أصهب ربعة يخضب بالسواد، وكانت ولايته خمسا وعشرين سنة وأحد عشر شهرا، وخلف أحد عشر ولدا ذكرا أحدهم محمد المقتول قتله في حد من الحدود وهو والد عبد الرحمن الناصر.
ولما توفي ولي بعده ابنه هذا محمد واسمه عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الحاكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم الأموي وأمه أم ولد تسمى مرتة وكان عمره لما قتل أبوه عشرين يوما.
وكانت ولايته من المستطرف لأنه كان شابا وبالحضرة أعمامه وأعمام أبيه فلم يختلفوا عليه، وولي الإمارة والبلاد كلها وقد اختلف
73

عليهم قبله، وامتنع حصون بكورة ريه وحصن ببشتر فحاربه حتى صلحت البلاد بناحيته، وكان من بطليطلة أيضا قد خالفوا فقاتلهم حتى عادوا إلى الطاعة ولم يزل يقاتل المخلفين حتى أذعنوا له وأطاعوه نيفا وعشرين سنة فاستقامت البلاد وأمنت في دولته ومضى لحال سبيله.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة عزل عبد الله بن إبراهيم المسمعي عن فارس وكرمان واستعمل عليها بدر الحمامي وكان بدر يتقلد أصبهان واستعمل بعده على أصبهان علي بن وهسوذان الديلمي.
وفيها ورد الخبر إلى بغداد ورسول من عامل برقة وهي من عمل مصر وما بعدها بأربع فراسخ لمصر وما وراء ذلك من عمل المغرب بخبر خارجي خرج عليهم وأنهم ظفروا به وبعسكره وقتلوا منهم خلقا كثيرا ووصل على يد الرسول من أنوفهم وآذانهم شيء كثير.
وفيها كثرت الأمراض والعلل ببغداد.
وفيها كلبت الكلاب والذئاب بالبادية فأهلكت خلقا كثيرا.
وفيها ولي بشر الأفشيني طرسوس.
74

وفيها قلد مؤنس المظفر الحرمين والثغور.
وفيها انقضت الكواكب انقضاضا كثيرا إلى جهة المشرق.
وفيها مات اسكندروس بن لاون ملك الروم وملك بعده ابنه واسمه قسطنطين وعمره اثنتا عشرة سنة.
وفيها توفي عبيد الله بن عبد الله بن طاهر بن الحسين وكان مولده سنة ثلاث وعشرين ومائتين.
وفيها توفي أحمد بن علي الحداد وقيل سنة تسع وتسعين ومائتين وهو الصحيح.
وفيها توفي أحمد بن يعقوب ابن أخي العرق المقرئ والحسين بن عمر بن أبي الأحوص وعلي بن طيفور النسوي وأبو عمر القتات.
وفيها في ربيع الآخر توفي يحيى بن علي بن يحيى المنجم المعروف بالنديم.
75

301
ثم دخلت سنة إحدى وثلاثمائة
في هذه السنة خلع على الأمير أبي العباس بن المقتدر بالله وقلد أعمال مصر والمغرب وعمره أربع سنين واستخلف له على مصر مؤنس الخادم وهذا أبو العباس هو الذي ولي الخلافة بعد القاهر بالله ولقب الراضي بالله.
وخلع أيضا على الأمير علي بن المقتدر وولي الري ودنباوند وقزوين وزنجان وأبهر.
وفيها أحضر بدار عيسى رجل يعرف بالحلاج ويكنى أبا محمد مشعبذا في قول بعضهم وصاحب حقيقة في قول بعضهم ومعه صاحب له فقيل إنه يدعي الربوبية وصلب هو وصاحبه ثلاثة أيام كل يوم من بكرة إلى انتصاف النهار ثم يؤمر بهما إلى الحبس، وسنذكر أخباره واختلاف الناس فيه عند صلبه.
وفيها في صفر عزل أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان عن الموصل وقلد يمن الطولوني المعونة بالموصل ثم صرف عنها في هذه السنة واستعمل عليها تحرير الخادم الصغير.
وفيها خالف أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان على المقتدر فسير إليه مؤنس
76

المظفر، وعلى مقدمته بني بن نفيس خرج إلى الموصل منتصف صفر ومعه جماعة من القواد وخرج مؤنس في ربيع الأول.
فلما علم أبو الهيجاء بذلك قصد مؤنسا مستأمنا من تلقاء نفسه وورد معه إلى بغداد فخلع المقتدر عليه.
وفيها توفي دميانة أمير الثغور وبحر الروم وتقلد مكانه ابن بلك.
ذكر قتل الأمير أبي نصر أحمد بن إسماعيل الساماني
وولاية ولده نصر
وفي هذه السنة قتل الأمير أحمد بن إسماعيل بن أحمد الساماني صاحب خراسان وما وراء النهر، وكان مولعا بالصيد فخرج إلى فربر متصيدا فلما انصرف أمر بإحراق ما اشتمل عليه عسكره وانصرف، فورد عليه كتاب نائبه بطبرستان وهو أبو العباس صعلوك وكان يليها بعد وفاة ابن نوح بها يخبره بظهور الحسن بن علي العلوي الأطروش بها وتغلبه عليها وأنه أخرجه عنها فغم ذلك أحمد وعاد إلى معسكره الذي أحرقه فنزل عليه فتطير الناس من ذلك.
وكان له أسد يربطه كل ليلة على باب مبيته فلا يجسر أحد [أن] يقربه، فأغفلوا إحضار الأسد تلك الليلة فدخل إليه جماعة من غلمانه فذبحوه على سريره وهربوا وكان قتله ليلة الخميس لسبع بقين من جمادى الآخرة
77

سنة إحدى وثلاثمائة فحمل إلى بخارى فدفن بها ولقب حينئذ بالشهيد، وطلب أولئك الغلمان فأخذ بعضهم فقتل.
وولى الأمر بعده ولده أبو الحسن نصر بن أحمد وهو ابن ثمان سنين وكانت ولايته سنة وثلاثة وثلاثين يوما، وكان موته في رجب سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة ولقب بالسعيد وبايعه أصحاب أبيه ببخارى بعد دفن أبيه، وكان الذي تولى ذلك أحمد بن محمد بن الليث وكان متولي أمر بخارى فحمله على عاتقه وبايع له الناس ولما حمله خدم أبيه ليظهر للناس خافهم وقال أتريدون أن تقتلوني كما قتلتم أبي فقالوا: لا إنما نريد أن تكون موضع أبيك أميرا؛ فسكن روعه.
واستصغر الناس نصرا، واستضعفوه، وظنوا أن أمره لا ينتظم مع قوة عم أبيه الأمير إسحاق بن أحمد وهو شيخ السامانية وهو صاحب سمرقند وميل الناس بما وراء النهر سوى بخارى إليه وإلى أولاده وتولى تدبير دولة السعيد نصر بن أحمد أبو عبد الله محمد بن أحمد الجيهاني فأمضى الأمور وضبط المملكة واتفق هو وحشم نصر بن أحمد على تدبير الأمر فأحكموه، ومع هذا فإن أصحاب الأطراف طمعوا في البلاد فخرجوا من النواحي على ما نذكره.
فممن خرج عن طاعته أهل سجستان وعم أبيه إسحاق بن أحمد بن أسد بسمرقند وابناه منصور وإلياس ابنا إسحاق ومحمد بن الحسين بن مت وأبو الحسن بن يوسف، والحسين بن علي المروروذي، ومحمد بن
78

جيد، وأحمد بن سهل وليلى بن نعمان صاحب العلويين بطبرستان ووقعة سيمجور مع أبي الحسن بن الناصر وقراتكين وما كان بن كالي وخرج عليه اخوته يحيى ومنصور وإبراهيم أولاد أحمد بن إسماعيل وجعفر بن أبي جعفر وابن داود ومحمد بن إلياس ونصر بن محمد بن مت ومرداويج وشمكير ابنا زيار، وكان السعيد مظفرا منصورا عليهم.
ذكر أمر سجستان
ولما قتل الأمير أحمد بن إسماعيل خالف أهل سجستان على ولده نصر وانصرف عنها سيمجور الدواتي فولاها المتقدر بالله بدرا الكبير، فأنفذ إليها الفضل بن حميد وأبا يزيد خالد بن محمد المروزي، وكان عبيد الله بن أحمد الجيهاني ببست والرخج وسعد الطالقاني بغزنة من جهة السعيد نصر بن أحمد فقصدهما الفضل وخالد وانكشف عنهما عبيد الله وقبضا على سعد الطالقاني وأنفذاه إلى بغداد واستولى الفضل وخالد على غزنة وبست ثم اعتل الفضل وانفرد خالد بالأمور وعصي على الخليفة فأنفذ إليه دركا أخا نجح الطولوني فقاتله فهزمه خالد.
79

وسار خالد إلى كرمان فأنفذ إليه بدر جيشا فقاتلهم خالد فجرح وانهزم أصحابه وأخذ هو أسيرا فمات فحمل رأسه إلى بغداد.
ذكر خروج إسحاق بن أحمد وابنه إلياس
وفي هذه السنة وهي إحدى وثلاثمائة خرج على السعيد نصر بن أحمد بن إسماعيل عم أبيه إسحاق بن أحمد بن أسد وابنه إلياس وكان إسحاق بسمرقند لما قتل أحمد بن إسماعيل وولي ابنه نصر بن أحمد فلما بلغه ذلك عصي بها وقام ابنه إلياس بأمر الجيش وقوي أمرهما فساروا نحو بخارى فسار إليه حمويه بن علي في عسكر وكان ذلك في شهر رمضان فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزم إسحاق إلى سمرقند ثم جمع وعاد مرة ثانية فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزم إسحاق أيضا وتبعه حمويه إلى سمرقند فملكها قهرا.
واختفى إسحاق طلب حمويه ووضع عليه العيون والرصد فضاق بإسحاق مكانه فأظهر نفسه واستأمن إلى حمويه فأمنه وحمله إلى بخارى فأقام بها إلى أن مات.
وأما ابنه إلياس فإنه سار إلى فرغانة وبقي بها إلى أن خرج ثانيا.
80

ذكر ظهور الحسن بن علي الأطروش
وفيها استولى الحسن بن علي بن الحسن بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب على طبرستان وكان يلقب بالناصر.
وكان سبب ظهوره ما نذكره، وقد ذكرنا فيما تقدم عصيان محمد بن هارون على أحمد بن إسماعيل وهربه منه وغير ذلك ثم أن الأمير أحمد بن إسماعيل استعمل على طبرستان أبا العباس عبد الله بن محمد بن نوح فأحسن فيهم السيرة وعدل فيهم وأكرم من بها من العلويين وبلغ في الإحسان إليهم وراسل رؤساء الديلم وهاداهم واستمالهم.
وكان الحسن بن علي الأطروش قد دخل الديلم بعد قتل محمد بن زيد وأقام بينهم نحو ثلاثة عشرة سنة يدعوهم إلى الإسلام ويقتصر منهم على العشر ويدافع عنهم ابن حسان ملكهم فأسلم منهم خلق كثير واجتمعوا عليه وبنى في بلادهم مساجد.
وكان للمسلمين بإزائهم ثغور مثل قزوين، وسالوس وغيرهما وكان بمدينة سالوس حصن منيع قديم فهدمه الأطروش حين أسلم الديلم والجيل؛ ثم إنه جعل يدعوهم إلى الخروج معه إلى طبرستان فلا يجيبونه إلى ذلك إلا حسان بن نوح فاتفق أن الأمير أحمد عزل ابن نوح عن طبرستان وولاها سلاما فلم يحسن أهلها وهاج عليه الديلم فقاتلهم وهزمهم،
81

واستقال عن ولايتها فعزله الأمير أحمد وأعاد إليها ابن نوح فصلحت البلاد معه.
ثم أنه مات بها واستعمل عليها أبو العباس محمد بن إبراهيم صعلوك فغير رسوم ابن نوح وأساء السيرة وقطع عن رؤساء الديلم ما كان يهديه إليهم ابن نوح فانتهز الحسن بن علي الفرصة وهيج الديلم عليه ودعاهم إلى الخروج معه فأجابوه وخرجوا معه.
وقصدهم صعلوك فالتقوا بمكان يسمى نوروز وهو على شاطئ البحر على يوم من سالوس فانهزم ابن صعلوك وقتل من أصحابه نحو أربعة آلاف رجل، وحصر الأطروش الباقين ثم أمنهم على أموالهم وأنفسهم وأهليهم فخرجوا إليه فأمنهم وعاد عنهم إلى آمل، وانتهى إليهم الحسن بن القاسم الداعي العلوي وكان ختن الأطروش فقتلهم عن آخرهم لأنه لم يكن أمنهم ولا عاهدهم، واستولى الأطروش على طبرستان.
وخرج صعلوك إلى الري وذلك سنة إحدى وثلاثمائة ثم سار منها إلى بغداد، وكان الأطروش قد أسلم على يده من الديلم الذين هم وراء أسفيدروذ إلى ناحية آمل وهم يذهبون مذهب الشيعة.
وكان الأطروش زيدي المذهب شاعرا مفلقا ظريفا علامة إماما في الفقه والدين كثير المجون حسن النادرة.
حكي عنه أنه استعمل عبد الله بن المبارك على جرجان وكان يرمي
82

الابنة فاستعجزه الحسن يوما في شغل له وأنكر عليه فقال أيها الأمير أنا أحتاج إلى رجال أجلاد يعينوني؛ فقال قد بلغني ذلك.
وكان سبب صممه أنه ضرب على رأسه بسيف في حرب محمد بن زيد فطرش وكان له من الأولاد الحسن وأبو القاسم والحسين فقال يوما لابنه الحسن يا بني ههنا شيء من الغراء نلصق به كاغدا فقال لا إنما ههنا بالخاء فحقدها عليه ولم يوله شيئا وولى ابنيه أبا القاسم والحسين، وكان الحسن ينكر تركه معزولا ويقول أنا أشرف منهما لأن أمي حسنية وأمهما أمة.
وكان الحسن شاعرا وله مناقضات مع ابن المعتز ولحق الحسن بابن أبي الساج فخرج معه يوما متصيدا فسقط عن دابته فبقي راجلا فمر به ابن أبي الساج فقال له اركب معي على دابتي! فقال أيها الأمير لا يصلح بطلان على دابة.
ذكر القرامطة وقتل الجنابي
في هذه السنة قتل أبو سعيد الحسن بن بهرام الجنابي كبير القرامطة قتله خادم له صقلبي في الحمام فلما قتله استدعى رجلا من أكابر
83

رؤسائهم وقال له: السيد يستدعيك فلما دخل قتله ففعل ذلك بأربعة نفر من رؤسائهم واستدعى الخامس فلما دخل فطن لذلك فأمسك بيد الخادم وصاح فدخل الناس وصاح النساء وجرى بينهم وبين الخادم مناظرات ثم قتلوه.
وكان أبو سعيد قد عهد إلى ابنه سعيد وهو الأكبر فعجز عن الأمر فغلبه أخوه الأصغر أبو طاهر سليمان وكان شهما شجاعا وسيرد من أخباره ما يعلم به محله.
ولما قتل أبو سعيد كان قد استولى على هجر والإحساء والقطيف والطائف وسائر بلاد البحرين؛ وكان المتقدر قد كتب إلى أبي سعيد كتابا لينا في معنى من عنده من أسرى المسلمين ويناظره ويقيم الدليل على فساد مذهبه ونفذه مع الرسل فلما وصل إلى البصرة بلغهم خبر موته فأعلموا الخليفة بذلك فأمرهم بالمسير إلى ولده فأتوا أبا طاهر بالكتاب فأكرم الرسل وأطلق الأسرى ونفذهم إلى بغداد وأجاب عن الكتاب.
ذكر مسير جيش المهدي إلى مصر
في هذه السنة جهز المهدي العساكر من أفريقية وسيرها مع ولده أبي القاسم إلى الديار المصرية فساروا إلى برقة واستولوا عليها في ذي الحجة، وساروا إلى مصر فملك الإسكندرية والفيوم وصار في يده أكثر البلاد
84

وضيق على أهلها، فسير إليها المقتدر بالله مؤنسا الخادم في جيش كثيف فحاربهم وأجلاهم عن مصر فعادوا إلى المغرب مهزومين.
ذكر عدة حوادث
وفي هذه السنة كثرت الأمراض الدموية بالعراق ومات بها خلق كثير وأكثرهم بالحربية فإنها أغلقت بها دور كثيرة لفناء أهلها.
وفيها توفي جعفر بن محمد بن الحسن الفريابي ببغداد والقاضي أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن أبي بكر المقدمي الثقفي.
85

302
ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثمائة
في هذه السنة أمر علي بن عيسى الوزير بالمسير إلى طرسوس لغزو الصائفة فسار في ألفي فارس معونة لبشر الخادم والي طرسوس فلم يتيسر لهم غزو الصائفة فغزوها شاتية في برد شديد وثلج.
وفيها تنحى الحسن بن علي الأطروش العلوي عن آمل بعد غلبته عليها كما ذكرناه، وسار إلى سالوس ووجه إليه صعلوك جيشا من الري فلقيهم الحسن وهزمهم وعاد إلى آمل.
وكان الحسن بن علي حسن السيرة عادلا ولم ير الناس مثله في عدله وحسن سيرته وإقامته الحق وقد ذكره ابن مسكويه في كتاب تجارب الأمم فقال الحسن بن علي الداعي وليس به إنما الداعي علي بن القاسم وهو ختن هذا على ما ذكرناه.
وفيها قبض المقتدر على أبي عبد الله الحسين بن عبد الله المعروف بابن الجصاص الجوهري وأخذ ما في بيته من صنوف الأموال وكان قيمته أربعة آلاف دينار، وكان هو يدعي أن قيمة ما أخذ منه عشرون ألف ألف دينار وأكثر من ذلك.
86

ذكر مخالفة منصور بن إسحاق
وفي هذه السنة خالف منصور بن إسحاق بن أحمد بن أسد على الأمير نصر بن أحمد، ووافقه على المخالفة الحسين بن علي المروزي، ومحمد ابن حيد.
وكان سبب ذلك أن الحسين بن علي لما افتتح سجستان الدفعة الأولى على ما ذكرناه للأمير أحمد بن إسماعيل طمع أن يتولاها فوليها منصور بن إسحاق هذا فخالف أهلها وحبسوا منصورا، فأنفذ الأمير أحمد عليا أيضا فافتتحها ثانيا وطمع أن يتولاها فوليها سيجمور وقد ذكرنا هذا جميعه.
فلما وليها سيمجور استوحش علي لذلك ونفر منه وتحدث مع منصور بن إسحاق في الموافقة والتعاضد بعد موت الأمير أحمد وتكون إمارة خراسان لمنصور ويكون الحسين بن علي خليفته على أعماله فاتفقا على ذلك فلما قتل الأمير أحمد بن إسماعيل كان منصور بن إسحاق بنيسابور والحسين بهراة فأظهر الحسين العصيان وسار إلى منصور يحثه على ما كانا اتفقا عليه فخالف أيضا وخطب لمنصور بنيسابور فتوجه إليها من بخارى حمويه بن علي في عسكر ضخم لمحاربتهما، فاتفق أن منصورا مات، فقيل
87

إن الحسين بن علي سمه، فلما قاربه حمويه سار الحسين بن علي عن نيسابور إلى هراة وأقام بها.
وكان محمد بن حيد على شرطة بخارى مدة طويلة فسير من بخارى إلى نيسابور لشغل يقوم به فوردها ثم عاد عنها بغير أمر، فكتب إليه من بخارى بالإنكار عليه فخاف على نفسه فعدل عن الطريق إلى الحسين بن علي بهراة، فسار الحسين بن علي نم هراة إلى نيسابور واستخلف بهراة أخاه منصور بن علي واستولى على نيسابور، فسير من بخارى إليه أحمد بن سهل لمحاربته فابتدأ أحمد بهراة فحصرها وأخذها واستأمن إليه منصور بن علي وسار أحمد من هراة إلى نيسابور وكان وصوله إليها في ربيع الأول سنة ست وثلاثمائة فنازل الحسين وحصره وقاتله فانهزم أصحاب الحسين وأسر الحسين بن علي وأقام أحمد بن سهل بنيسابور.
وكان ينبغي أن نذر استيلاء أحمد على نيسابور وأسر الحسين سنة ست وثلاثمائة لكن رأينا أن نجمع سياق الحادثة لئلا ينسى أولها.
وأما ابن حيد فإنه كان بمرو فلما بلغه استيلاء أحمد بن سهل على نيسابور وأسره الحسين بن علي سار إليه فقبض عليه أحمد وأخذ ماله وسواده وسيره والحسين بن علي إلى بخارى، فأما ابن حيد فإنه سير إلى خوارزم فمات بها.
وأما الحسين بن علي فإنه حبس ببخارى إلى أن خلصه أبو عبد الله الجيهاني وعاد إلى خدمة الأمير نصر بن أحمد، فبينما هو يوما عنده إذ طلب الأمير نصر
88

ماء، فأتى بماء في كوز غير حسن الصنعة فقال الحسين بن علي لأحمد بن حمويه وكان حاضرا ألا يهدي والدك [إلى] الأمير من نيسابور من هذه الكيزان اللطاف النظاف فقال أحمد إنما يهدي أبي إلى الأمير مثلك ومثل أحمد بن سهل ومثل ليلى الديلمي لا الكيزان فأطرق الحسين مفحما وأعجب نصرا قوله.
ذكر خبر مصر مع العلوي المهدي
وفيها أنفذ أبو محمد عبيد الله العلوي الملقب بالمهدي جيشا من أفريقية مع قائد من قواد يقال له حباسة إلى الإسكندرية فغلب عليها.
وكان مسيره في البحر ثم سار منها إلى مصر فنزل بين مصر والإسكندرية فبلغ ذلك المقتدر فأرسل مؤنسا الخادم في عسكر إلى مصر لمحاربة حباسة وأمده بالسلاح والمال، فسار إليها فالتقى العسكران في جمادى الأولى فاقتتلوا قتالا شديدا فقتل من الفريقين جمع كثير جرح مثلهم ثم كان بينهم وقعة أخرى بنحوها ثم وقعة ثالثة ورابعة فانهزم فيها المغاربة أصحاب العلوي وقتلوا وأسروا، فكان مبلغ القتلى سبعة آلاف مع الأسرى وهرب الباقون.
وكانت هذه الوقعة سلخ جمادى الآخرة وعادوا إلى الغرب، فلما وصلوا إلى الغرب قتل المهدي حباسة.
89

وفيها خالف عروبة بن يوسف الكتامي على المهدي بالقيروان واجتمع إليه خلق كثير من كتامة والبرابر فأخرج المهدي إليهم مولاه غالبا فاقتتلوا قتالا شديدا في محضر القيروان فقتل عروبة وبنو عمه وقتل معهم عالم لا يحصون، وجمعت رؤوس مقدميهم في قفة وحملت إلى المهدي فقال ما أعجب أمور الدنيا قد جمعت هذه القفة رؤوس
هؤلاء وقد كان يضيق بعساكرهم فضاء المغرب.
ذكر عدة حوادث
فيها غزا بشر الخادم والي طرسوس بلاد الروم ففتح فيها وغنم وسبى وأسر مائة وخمسين بطريقا وكان السبي نحوا من ألفي رأس.
وفيها أوقع مؤنس الخادم بناحية وادي الذئاب بمن هنالك من الأعراب من بني شيبان فقتل منهم خلقا كثيرا ونهب بيوتهم فأصاب فيها من أموال التجار التي كانوا أخذوها بقطع الطريق ما لا يحصى.
وفيها في ذي الحجة ماتت بدعة المغنية مولاة غريب مولى المأمون.
وفيها في ذي الحجة خرجت الأعراب من الحاجز على الحجاج، فقطعوا
90

عليها الطريق وأخذوا من العين وما معهم من الأمتعة والجمال ما أرادوا وأخذوا مائتين وخمسين امرأة؛ وحج بالناس هذه السنة الفضل بن عبد الملك.
وفيها قلد أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان الموصل.
وفيها مات الشاه بن ميكال.
وفيها في ليلة الأضحى انقض ثلاثة كواكب كبار اثنان أول الليل وواحد آخره سوى كواكب صغار كثيرة.
وإلى أخر هذه السنة انتهى تاريخ أبي جعفر الطبري، رحمه الله، ورأيت في بعض النسخ إلى آخر سنة ثلاث وثلاثمائة وقيل ان سنة ثلاث زيادة فيه وليست من تاريخ الطبري والله أعلم.
وفيها توفي إسحاق بن أبي حسان الأنماطي وإبراهيم بن شريك وأبو عيسى بن القزاز وأبو العباس البراني، وعلي بن محمد بن نصر بن بسام الشاعر وله نيف وسبعون سنة.
91

303
ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثمائة
ذكر أمر الحسين بن حمدان
في هذه السنة خرج الحسين بن حمدان بالجزيرة عن طاعة المقتدر.
وسبب ذلك أن الوزير علي بن عيسى طالبه بمال عليه من ديار ربيعة وهو يتولاها فدافعه فأمره بتسليم البلاد إلى عمال السلطان فامتنع.
وكان مؤنس الخادم غائبا بمصر لمحاربة عسكر المهدي العلوي صاحب أفريقية فجهز الوزير رائقا الكبير في جيش وسيره إلى الحسين بن حمدان، وكتب إلى مؤنس يأمره بالسير إلى ديار الجزيرة لقتال الحسين بعد فراغه من أصحاب العلوي، فسار رائق إلى الحسين بن حمدان.
وجمع لهم الحسين نحو عشرين ألف فارس وسار إليهم فوصل إلى الحبشة وهم قد قاربوها، فلما رأوا كثرة جيشه علموا عجزهم عنه لأنهم كانوا أربعة آلاف فارس فانحازوا إلى جانب دجلة ونزلوا بموضع ليس له طريق إلا من وجه واحد.
وجاء الحسين فنزل عليهم وحصرهم ومنع الميرة عنهم من فوق ومن أسفل فضاقت عليهم الأقوات والعلوفات، فأرسلوا إليه يبذلون له أن يوليه الخليفة ما كان بيده ويعود عنهم فلم يجب إلى ذلك.
92

ولزم حصارهم وأدام قتالهم إلى أن عاد مؤنس من الشام، فلما سمع العسكر بقربه قويت نفوسهم وضعفت نفوس الحسين ومن معه فخرج العسكر إليه ليلا وكبسوه فانهزم وعاد إلى ديار ربيعة وسار العسكر فنزلوا على الموصل.
وسمع مؤنس خبر الحسين فجد مؤنس في المسير نحوه واستصحب معه أحمد بن كيغلغ، فلما قرب منه راسله الحسين يعتذر وترددت الرسل بينهما فلم يستقر حال، فرحل مؤنس نحو الحسين حتى نزل بإزاء جزيرة ابن عمر، ورحل الحسين نحو أرمينية مع ثقله وأولاده وتفرق عسكر الحسين عنه وصاروا إلى مؤنس.
ثم إن مؤنسا جهز جيشا في أثر الحسين مقدمهم بليق ومعه سيما الجزري وجنى الصفواني فتبعوه إلى تل فافان فرأوها خاوية على عروشها قد قتل أهلها وأحرقها، فجدوا في اتباعه فأدركوه فقاتلوه فانهزم من بقي معه من أصحابه وأسر هو ومعه ابنه عبد الوهاب وجميع أهله وأكثر من صحبه وقبض أملاكه.
وعاد مؤنس إلى بغداد على [طريق] الموصل والحسين معه فأركب على جمل هو وابنه وعليهم البرانس واللبود الطوال وقمصان من شعر أحمر وحبس الحسين وابنه عند زيدان القهرمانة، وقبض المقتدر على أبي الهيجاء بن
93

حمدان وعلى جميع اخوته وحبسوا، وكان قد هرب بعض أولاد الحسين بن حمدان فجمع جمعا ومضى نحو آمد فأوقع بهم مستحفظها وقتل ابن الحسين وأنفذ رأسه إلى بغداد.
ذكر بناء المهدية
في هذه السنة خرج المهدي بنفسه إلى تونس وقرطاجنة وغيرهما يرتاد موضعا على ساحل البحر يتخذ فيه مدينة.
وكان يجد في الكتب خروج أبي يزيد على دولته ومن أجله بنى المهدية فلم يجد موضعا أحسن ولا أحصن من موضع المهدية وهي جزيرة متصلة بالبر كهيئة كف متصل
بزند فبناها وجعلها دار ملكه وجعل لها سورا محكما وأبوبا عظيمة وزن كل مصراع مائة قنطار.
وكان ابتداء بنائها يوم السبت لخمس خلون من ذي القعدة سنة ثلاث وثلاثمائة، فلما ارتفع السور أمر راميا [أن] يرمي بالقوس سهما إلى ناحية المغرب فرمى سهمه فانتهى إلى موضع المصلى فقال إلى موضع هذا يصل صاحب الحمار يعني أبا يزيد الخارجي لأنه كان يركب حمارا.
وكان يأمر الصناع بما يعملون، ثم أمر أن ينقر دار صناعة في الجبل
94

تسع مائتي شيني وعليها باب مغلق؛ ونقر في أرضها أهراء للطعام ومصانع للماء وبنى فيها القصور والدور، فلما فرغ منها قال اليوم أمنت على الفاطميات يعني بناته وارتحل عنها.
ولما رأى اعجاب الناس بها وبحصانتها كان يقول هذا لساعة من نهار وكان كذلك لأن أبا يزيد وصل إلى موضع السهم ووقف فيه ساعة وعاد ولم يظفر.
ذكر عدة حوادث
فيها أغارت الروم على الثغور الجزرية وقصدوا حصن منصور وسبوا من فيه وجرى على الناس أمر عظيم وكانت الجنود متشاغلة بأمر الحسين ابن حمدان.
وفيها عاد الحجاج وقد لقوا من العطش والخوف شدة وخرج جماعة من العرب على أبي حامد ورقاء بن محمد المرتب على الثعلبية لحفظ الطريق فقاتلهم وظفر بهم وقتل جماعة منهم وأسر الباقين وحملهم إلى بغداد فأمر المقتدر بتسليمهم إلى صاحب الشرطة ليحسبهم فثارت بهم العامة فقتلوهم وألقوهم في دجلة.
وفيها ظهر بالجامدة إنسان زعم أنه علوي فقتل العامل بها ونهبها، وأخذ
95

من دار الخراج أموالا كثيرة ثم قتل بعد ظهوره بيسير وقتل معه جماعة من أصحابه وأسر جماعة.
وفيها ظهرت الروم وعليهم الغثيط فأوقعوا بجماعة من مقاتلة طرسوس والغزاة فقتلوا منهم نحو ستمائة فارس ولم يكن للمسلمين صائفة.
وفيها خرج مليح الأرمني إلى مرعش فعاث في بلدها وأسر جماعة ممن حولها وعاد.
وفيها وقع الحريق ببغداد في عدة مواضع فاحترق كثير منها.
وفيها توفي أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي صاحب كتاب السنن بمكة ودفن بين الصفا والمروة والحسن بن سفيان النسوي.
وفيها توفي أبو بكر محمد بن عينونة بنصيبين وكان يتولى أعمال الخراج والضياع بديار ربيعة ولما توفي ولي ابنه الحسن مكانه.
وفيها توفي أبو علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي المعتزلي.
وفيها توفي يموت بن المزرع العبدي وهو ابن أخت الجاحظ توفي بدمشق.
96

304
ثم دخلت سنة أربع وثلاثمائة
ذكر عزل ابن وهسوذان عن أصبهان
في هذه السنة في المحرم أرسل علي بن وهسوذان وهو متولي الحرب بأصبهان غلاما كان رباه وتبناه إلى أحمد بن شاه متولي الخراج في حاجة فلقيه راكبا فكلمه في حاجة مولاه ورفع صوته فشتمه أحمد وقال يا مؤاجر تكلمني بهذا على الطريق وحرد عليه فعاد إلى مولاه باكيا وعرفه ذلك فقال صدق لولا أنك مؤاجر لقتلته فعاد الغلام فلقيه وهو راكب فقتله، فأنكر الخليفة ذلك وصرف علي بن وهسوذان عن أصبهان وولى مكانه أحمد بن مسرور البلخي وأقام ابن وهسوذان بنواحي الجبل.
97

ذكر وزارة ابن الفرات الثانية وعزل علي بن عيسى
في هذه السنة في ذي الحجة عزل علي بن عيسى عن الوزارة وأعيد إليها أبو الحسن علي بن الفرات.
وكان سبب ذلك أن أبا الحسن بن الفرات كان محبوسا وكان المقتدر يشاوره وهو في محبسه ويرجع إلى قوله وكان علي بن عيسى يمشي أمر الوزارة ولم يتبع أصحاب ابن الفرات وأسبابه ولا غيره، وكان جميل المحضر قليل الشر فبلغه أن أبا الحسن بن الفرات قد تحدث له جماعة من أصحاب الخليفة في إعادته إلى الوزارة فشرع واستعفى من الوزارة وسأل في ذلك فأنكر المقتدر عليه ومنعه من ذلك فسكن.
فلما كان آخر ذي القعدة جاءته أم موسى القهرمانة لتتفق معه على ما يحتاج حرم الدار والحاشية التي للدار من الكسوات والنفقات فوصلت إليه وهو نائم فقال لها حاجبه إنه نائم ولا أجسر [أن] أوقظه فاجلسي في الدار ساعة حتى يستيقظ فغضبت من هذا وعادت، واستيقظ علي بن عيسى في الحال فأرسل إليها حاجبه وولده يعتذر فلم تقبل منه، ودخلت على المقتدر وتخرصت على الوزير عنده وعند أمه فعزله عن الوزارة وقبض عليه ثامن ذي القعدة.
98

وأعيد ابن الفرات إلى الوزارة، وضمن على نفسه أن يحمل كل يوم إلى بيت المال ألف دينار وخمسمائة دينار، فقبض على أصحاب الوزير علي بن عيسى وعاد فقبض على الخاقاني الوزير وأصحابه، واعترض العمال وغيرهم وعاد عليهم بأموال عظيمة ليقوم بما ضمنه.
وكان علي بن عيسى قد تعجل بمال من الخراج لينفقه في العيد فاتسع به ابن الفرات.
وكان قد كاتب العمال بالبلاد كفارس والأهواز وبلاد الجبل وغيرها في حمل المال وحثهم على ذلك غاية الحث بعد قبضه فادعى ابن الفرات الكفاية والنهضة في جمع المال.
وكان أبو علي بن مقلة مستخفيا مذ قبض ابن الفرات إلى الآن فلما عاد ابن الفرات إلى الوزارة ظهر فأشخصه ابن الفرات وقربه.
ذكر أمر يوسف بن أبي الساج
كان يوسف بن أبي الساج على أذربيجان وأرمينية قد ولي الحرب والصلاة والأحكام وغيرها منذ أول وزارة ابن الفرات الأولى وعليه مال يؤديه إلى ديوان الخلافة، فلما عزل ابن الفرات وولي الخاقاني الوزارة وبعده علي بن عيسى طمع فأخر حمل بعض المال فاجتمع له ما قويت به نفسه على الامتناع وبقي كذلك إلى هذه السنة.
99

فلما بلغه القبض على الوزير علي بن عيسى أظهر أن الخليفة أنفذ له عهدا بالرمي وأن الوزير علي بن عيسى سعى له في ذلك فأنفذه إليه وجمع العساكر وسار إلى الري وبها محمد بن علي صعلوك يتولى أمرها لصاحب خراسان وهو الأمير نصر بن أحمد بن إسماعيل الساماني، وكان صعلوك قد تغلب على الري وما يليها أيام وزارة علي بن عيسى ثم أرسل إلى ديوان الخليفة فقاطع عليها بمال يحمله، فلما بلغه مسير يوسف بن أبي الساج نحوه سار إلى خراسان فدخل يوسف الري واستولى عليها وعلى قزوين وزنجان وأبهر، فلما بلغ المقتدر فعله وقوله إن علي بن عيسى أنفذ له العهد واللواء بذلك فأنكره واستعظمه.
وكتب يوسف إلى الوزير ابن الفرات يعرفه أن علي بن عيسى أنفذ إليه بعهده على هذه الأماكن وأنه افتتحها وطرد عنها المتغلبين عليها ويعتذر بذلك ويذكر كثرة ما أخرجه، فعظم ذلك على المقتدر وأمر ابن الفرات أن يسأل علي بن عيسى عن الذي ذكره يوسف فأحضره وسأله فأنكر ذلك، وقال سلوا الكتاب وحاشية الخليفة فإن العهد واللواء لا بد أن يسير بهما بعض خدم الخليفة أو بعض قواده؛ فعلموا صدقه.
وكتب ابن الفرات إلى ابن أبي الساج ينكر عليه تعرضه إلى هذه البلاد وكذبه على الوزير علي بن عيسى، وجهز العساكر لمحاربته وكان مسير العساكر سنة خمس وثلاثمائة.
100

وكان المقدم على العسكر خاقان المفلحي ومعه جماعة من القواد كأحمد بن مسرور البلخي وسيما الجزري وتحرير الصغير فساروا والتقوا بيوسف واقتتلوا فهزمهم يوسف وأسر منهم جماعة وأدخلهم الري مشهورين على الجمال، فسير الخليفة مؤنسا الخادم في جيش كثيف إلى محاربته فسار وانضم إليه العسكر الذي كان مع خاقان، فصرف خاقان عن أعمال الجبل ووليها تحرير الصغير.
وسار مؤنس فأتاه أحمد بن علي وهو أخو محمد بن علي صعلوك مستأمنا فأكرمه ووصله؛ وكتب ابن أبي الساج يسأل الرضا وأن يقاطع على أعمال الري وما يليها على سبعمائة ألف دينار لبيت المال سوى ما يحتاج إليه الجند وغيرهم فلم يجبه المقتدر إلى ذلك ولو بذل ملء الأرض لما أقره على الري يوما واحدا لإقدامه على التزوير، فلما ابن أبي الساج ذلك سار عن الري بعد أن أخربها وجبى خراجها في عشرة أيام.
وقلد الخليفة الري وقزوين وأبهر وصيفا البكتمري، وطلب ابن أبي الساج أن يقاطع على ما كان بيده من الولاية فأشار ابن الفرات بإجابته إلى ذلك فعارضه نصر الحاجب وابن الحواري وقالا: لا يجوز أن يجاب إلى ذلك إلا بعد أن يطأ البساط.
ونسب ابن الفرات إلى موطأة ابن أبي الساج والميل معه فحصل بينهما وبين ابن الفرات عداوة فامتنع المقتدر من إجابته إلى ذلك إلى أن يحضر في
101

خدمته بنفسه، فلما رأى يوسف أن دمه على خطر إن حضر لخدمته حارب مؤنسا فانهزم مؤنس إلى زنجان وقتل من قواده سيما بن بويه وأسر جماعة منهم فيهم فيهم هلال بن بدر فأدخلهم أردبيل مشتهرين على الجمال.
وأقام مؤنس بزنجان يجمع العساكر ويستمد الخليفة وكاتبه ابن أبي الساج في الصلح وتراسلا في ذلك، وكتب مؤنس إلى الخليفة فلم يجبه إلى ذلك فلما كان في المحرم سنة سبع وثلاثمائة والوزير يومئذ حامد بن العباس اجتمع لمؤنس عسكر كبير فسار إلى يوسف فتواقعا على باب أردبيل فانهزم عسكر يوسف وأسر يوسف وجماعة من أصحابه وعاد بهم مؤنس إلى بغداد فدخلها في المحرم أيضا، وأدخل يوسف أيضا بغداد مشتهرا على جمل وعليه برنس بأذناب الثعالب فأدخل إلى المقتدر ثم حبس بدرا الخليفة عند زيدان القهرمانة.
ولما ظفر مؤنس بابن أبي الساج قلد على ابن وهسوذان أعمال الري ودنباوند وقزوين وأبهر وزنجان وجعل أموالها لرجاله وقلد أصبهان، وقم وقاشان وساوه أحمد بن علي بن صعلوك وسار عن أذربيجان.
102

ذكر حال هذه البلاد بعد مسير مؤنس
لما سار مؤنس عن أذربيجان إلى العراق وثب سبك غلام يوسف بن أبي الساج على بلاد أذربيجان فملكها واجتمع إليه عسكر عظيم، فأنفذ إليه مؤنس محمد ابن عبيد الله الفارقي وقلده البلاد، وسار إلى سبك وحاربه فانهزم الفارقي وسار إلى بغداد وتمكن سبك من البلاد ثم كتب إلى الخليفة يسأل أن يقاطع على أذربيجان فأجيب إلى ذلك وقرر عليه كل سنة مائتان وعشرون ألف دينار وأنفذت إليه الخلع والعهد فلم يقف على ما قرره.
ثم وثب أحمد بن مسافر صاحب الطرم على ابن أخيه علي بن وهسوذان وهو مقيم بناحية قزوين فقتله على فراشه وهرب إلى بلده فاستعمل مكان علي بن وهسوذان وهو مقيم بناحية قزوين فقتله على فراشه وهرب إلى بلده فاستعمل مكان علي بن وهسوذان وصيفا البكتمري وقلد محمد بن سليمان صاحب الجيش أعمال الخراج بها.
وسار أحمد بن علي بن صعلوك من قم إلى الري فدخلها، فأنفذ الخليفة ينكر عليه ذلك ويأمره بالعود إلى قم فعاد، ثم أنه أظهر الخلاف وصرف العمال الخراج عن قم واستعد للمسير إلى الري فكوتب تحرير الصغير وهو على همذان ليسير هو ووصيف إلى الري لمنع أحمد بن علي عنها فساروا إليها، فلقيهم أحمد بن علي على باب الري فهزمهم أحمد وقتل محمد
103

ابن سليمان واستولى أحمد على الري، وكاتب نصرا الحاجب ليصلح أمره مع الخليفة ففعل ذلك وأصلح أمره، وقر عليه عن الري ودنباوند وقزوين وزنجان وأبهر مائة وستين ألف دينار محمولة كل سنة إلى بغداد، فنزل أحمد عن قم فاستعمل الخليفة عليها من ينظر فيها.
ذكر تغلب كثير بن أحمد على سجستان ومحاربته
كان كثير بن أحمد بن شهفور قد تغلب على أعمال سجستان، فكتب الخليفة إلى بدر بن عبد الله الحمامي وهو متقلد أعمال فارس يأمره أن يرسل جيشا يحاربون كثيرا ويؤمر عليهم دردا ويستعمل على الخراج بها زيد بن إبراهيم، فجهز بدر جيشا كثيفا وسيرهم فلما وصلوا قاتلهم كثير فلم يكن له بهم قوة وضعف أمره وكادوا يملكون البلد، فبلغ أهل البلد أن زيدا معه قيود وأغلال لأعيانهم فاجتمعوا مع كثير وشدوا منه وقاتلوا معه فهزموا عسكر الخليفة، وأسروا زيدا فوجدوا معه القيود والأغلال فجعلوها في رجليه وعنقه.
وكتب كثير إلى الخليفة يتبرأ من ذلك ويجعل الذنب فيه لأهل البلد، فأرسل الخليفة إلى بدر الحمامي يأمره أن يسير بنفسه إلى قتال كثير فتجهز
104

بدر، فلما سمع كثير ذلك خاف فأرسل بطلب المقاطعة على مال يحمله كل سنة فأجيب إلى ذلك وقوطع على خمسمائة ألف درهم وقررت البلاد عليه.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة في الصيف خافت العامة ببغداد من حيوان كانوا يسمونه الزبزب ويقولون أنهم يرونه في الليل على سطوحهم.
وأنه يأكل أطفالهم وربما عض يد الرجل وثدي المرأة فقطعهما وهرب بهما، فكان الناس يتحارسون ويتزاعقون ويضربون بالطرشات والصواني وغيرها ليفزعوه فارتجب بغداد لذلك ثم إن أصحاب السلطان صادوا ليلة حيوانا أبلق أسود قصير اليدين والرجلين فقالوا: هذا هو الزبزب وصلبوه على الجسر فسكن الناس، وهذه دابة تسمى طبرة، وأصاب اللصوص حاجتهم لاشتغال الناس عنهم.
وفيها توفي الناصر العلوي صاحب طبرستان في شعبان وعمره تسع وسبعون سنة، وبقيت طبرستان في أيدي العلوية إلى أن قتل الداعي وهو الحسن بن القاسم سنة ست عشرة وثلاثمائة على ما نذكره.
105

وفيها خالف أبو يزيد خالد بن محمد المادراني على المقتدر بالله بكرمان، وكان يتولى الخراج وسار منها إلى شيراز يريد التغلب على فارس، فخرج إليه بدر الحمامي فحاربه وقتله وحمل رأسه إلى بغداد وطيف به.
وفيها سير مؤنس المظفر إلى بلاد الروم لغزاة الصائفة، فلما صار بالموصل قلد سبك المفلحي بازندي وقردى وقلد عثمان العنزي مدينة بلد وباعيناثا وسنجار، وقلد وصيفا البكتمري باقي بلاد ربيعة، وسار مؤنس إلى ملطية وغزا فيها، وكتب إلى أبي القاسم علي بن أحمد بن بسطام أن يغزو من طرسوس في أهلها ففعل.
وفتح مؤنس حصونا كثيرة من الروم وأثر آثارا جميلة، وعتب عليه أهل الثغور وقالوا: لو شاء لفعل أكثر من هذا وعاد إلى بغداد فأكرمه الخليفة وخلع عليه.
وفيها توفي يموت بن المزرع العبدي وهو ابن أخت الجاحظ وسليمان بن محمد بن أحمد أبو موسى النحوي المعروف بالحامض أخذ العلم عن ثعلب وكانت وفاته في ذي الحجة وكان من أصحاب ثعلب ويوسف بن الحسين بن علي بن يعقوب الرازي وهو من أصحاب ذي النون المصري وهو صاحب قصة الفارة معه.
106

305
ثم دخلت سنة خمس وثلاثمائة
في هذه السنة في المحرم وصل رسولان من ملك الروم إلى المقتدر يطلبان المهادنة والفداء فأكرما إكراما كثيرا، وأدخلا على الوزير وهو في أكمل أبهة وقد صف الأجناد بالسلاح والزينة التامة وأديا الرسالة إليه، ثم أنهما دخلا على المقتدر وقد جلس لهما واصطف الأجناد بالسلاح والزينة التامة وأديا الرسالة فأجابهما المقتدر إلى ما طلب ملك الروم من الفداء، وسير مؤنسا الخادم ليحضر الفداء وجعله أميرا على كل بلد يدخله يتصرف فيه على ما يريد إلى أن يخرج عنه وسير معه جمعا من الجنود وأطلق لهم أرزاقا واسعة وأنفذ معه مائة ألف وعشرين ألف دينار لفداء أسارى المسلمين، وسار مؤنس والرسل وكان الفداء على يد مؤنس.
وفيها أطلق أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان وإخوته وأهل بيته من الحبس وكانوا محبوسين بدار الخليفة وقد تقدم ذكر حبسهم وسببه.
وفيها مات العباس بن عمرو الغنوي وكان متقلدا أعمال الحرب بديار
107

مضر فجعل مكانه وصيف البكتمري فلم يقدر على ضبط العمل فعزل وجعل مكانه جني الصفواني فضبطه أحسن ضبط.
وفي هذه السنة كانت بالبصرة فتنة عظيمة، وسببها أنه كان الحسن بن الخليل بن رمال متقلدا أعمال الحرب بالبصرة وأقام بها سنين وجرت بينه وبين العامة من مضر وربيعة فتن كثير وسكنت، ثم ثارت بينهم فتنة اتصلت فلم يمكنه الخروج من منزله برحبة بني نمير واجتمع الجند كلهم معه وكان لا يوجد أحد منهم في طريق إلا قتل حتى حوصرت وعروت القناة التي يجري فيها الماء إلى بني نمير فاضطر إلى الركوب إلى المسجد الجامع فقتل من العامة خلقا كثيرا.
فلما عجز عن إصلاحهم خرج هو ومعه الأعيان من أهل البصرة إلى واسط، فعزل عنها واستعمل أبو دلف هاشم بن محمد الخزاعي عليها فبقي نحو سنة وصرف عنها، ووليها سبك المفلحي نيابة عن شفيع المقتدري.
وفيها عقد لثمال الخادم على الغزاة في بحر الروم وسار.
وفيها غزا جني الصفواني بلاد الروم فغنم ونهب وسبى وعاد سالما.
108

وفي هذه السنة مات أبو خليفة المحدث البصري.
وفيها في جمادى الأولى مات أبو جعفر بن محمد بن عثمان العسكري المعروف بالسمان ويعرف أيضا بالعمري رئيس الأمامية.
وكان يدعي أنه الباب إلى الإمام المنتظر، وأوصى إلى أبي القاسم بن الحسين بن روح.
وفي آخرها توفي أحمد بن محمد بن شريح وكان عالما بمذهب الشافعي.
109

306
ثم دخلت سنة ست وثلاثمائة
ذكر عزل ابن الفرات ووزارة حامد بن العباس
في هذه السنة في جمادى الآخرة قبض على الوزير أبي الحسن بن الفرات وكانت مدة وزارته هذه وهي الثانية سنة واحدة وخمسة أشهر وتسعة عشر يوما.
وكان سبب ذلك أنه أخر إطلاق أرزاق الفرسان واحتج عليهم بضيق الأموال وأنها أخرجت في محاربة ابن أبي الساج وأن الارتفاع نقص بأخذ يوسف أموال الري وأعمالها فشغب الجند شغبا عظيما وخرجوا إلى المصلى والتمس ابن الفرات من المقتدر اطلاق مائتي ألف دينار من بيت المال الخاصة ليضيف إليها مائتي ألف دينار يحصلها ويصرف الجميع في أرزاق الجند، فاشتد ذلك على المقتدر وأرسل إليه أنك ضمنت أنك ترضي جميع الأجناد وتقوم بجميع النفقات الراتبة على العادة الأولة وتحمل بعد ذلك ما ضمنت أنك تحمله يوما بيوم فأراك تطلب من بيت المال الخاص؛ فاحتج
110

بقلة الارتفاع وما أخذه ابن أبي الساج من الارتفاع وما خرج على محاربته فلم يسمع المقتدر حجته وتنكر له عليه.
وقيل: كان سبب قبضه أن المقتدر قيل له إن ابن الفرات يريد إرسال الحسين بن حمدان إلى ابن أبي الساج ليحاربه وإذا صار عنده اتفقا عليك ثم إن ابن الفرات قال للمقتدر في إرسال الحسين إلى ابن أبي الساج، فقتل ابن حمدان في جمادى الأولى وقبض على ابن الفرات في جمادى الآخرة.
ثم ان بعض العمال ذكر لابن الفرات ما يتحصل لحامد بن العباس من أعمال واسط زيادة على ضمانه فاستكثره وأمره أن يكاتبه بذلك فكاتبه فخاف حامد أن يؤخذ ويطالب بذلك المال فكتب إلى نصر الحاجب وإلى والدة المقتدر وضمن لهما مالا ليتحدثا له في الوزارة، فذكر للمقتدر حاله وسعة نفسه وكثرة أتباعه وأنه له أربعمائة مملوك يحملون السلاح؛ واتفق ذلك عند نفرة المقتدر عن ابن الفرات فأمره بالحضور من واسط فحضر وقبض على ابن الفرات وولده المحسن وأصحابهما وأتباعهما.
ولما وصل حامد إلى بغداد أقام ثلاثة أيام في دار الخليفة فكان يتحدث مع الناس ويضاحكهم ويقوم لهم فبان للخدم ولأبي القاسم بن الحواري وحاشية الدار قلة معرفته بالوزارة، وقال له حاجبه يا مولانا الوزير يحتاج إلى لبسه وجلسه وعبسه، فقال له تعني أن نلبس ونقعد فلا نقوم لأحد ولا نضحك في وجه أحد ولا نحدث أحدا قال نعم.
111

قال حامد: إن الله أعطاني وجها طلقا وخلقا حسنا وما كنت بالذي أعبس وجهي وأقبح خلقي لأجل الوزارة؛ فعابوه عند المقتدر ونسبوه إلى الجهل بأمور الوزارة فأمر المقتدر بإطلاق علي بن عيسى من محبسه وجعله يتولى الدواوين شبه النائب عن حامد فكان يراجعه في الأمور ويصدر عن رأيه ثم أنه استبد بالأمر دون حامد ولم يبق إلى حامد غير اسم الوزارة ومعناها لعلي حتى قيل فيهما:
(هذا وزير بلا سواد * وذا سواد بلا وزير)
ثم إن حامدا أحضر ابن الفرات ليقابله على أعماله ووكل بمناظراته علي بن أحمد الماذرائي ليصحح عليه الأموال فلم يقدر على إثبات الحجة عليه، فانتدب له حامد وسبه ونال منه وقام إليه فلكمه.
وكان حامد سفيها فقال له ابن الفرات أنت على بساط ابن السلطان وفي دار المملكة وليس هذا الموضع مما تعرفه من بيدر تقسمه أو غلة تستفضل في كيلها ولا هو مثل أكار تشتمه، ثم قال لشفيع اللؤلؤي قل لأمير المؤمنين عني إن حامدا إنما حمله على الدخول في الوزارة وليس من أهلها أنني أوجبت عليه أكثر من ألفي ألف دينار من فضل ضمانه وألححت في مطالبته بها فظن أنه تندفع عنه بدخوله في الوزارة وأنه يضيف إليه غيرها فاستشاط حامد وبلغ في شتمه، فأنفذ المقتدر فأقام ابن الفرات من مجلسه ورده إلى محبسه، وقال علي بن عيسى ونصر الحاجب لحامد قد جنيت
112

علينا وعلى نفسك جناية عظيمة بما فعلته بابن الفرات وأيقظت منه شيطانا لا ينام.
ثم ان ابن الفرات صودر على مال عظيم وضرب ولده المحسن وأصحابه وأخذ منهم أموال جمة.
وفي هذه السنة عزل نزار عن شرطة بغداد وجعل فيها نجح الطولوني وجعل في الأرباع فقهاء يكون عمل أصحاب الشرطة بفتواهم فضعفت هيبة السلطنة بذلك وطمع اللصوص والعيارون وكثرت الفتن وكبست دور التجار وأخذت بنات الناس في الطريق المنقطعة وكثر المفسدون.
ذكر إرسال المهدي العلوي العساكر إلى مصر
وفي هذه السنة جهز المهدي صاحب أفريقية جيشا كثيفا مع ابنه القاسم وسيرهم إلى مصر وهي المرة الثانية فوصل إلى الإسكندرية في ربيع الآخر سنة سبع وثلاثمائة فخرج عامل المقتدر عنها ودخلها القائم ورحل إلى مصر فدخل الجيزة وملك الأشمونين وكثيرا من الصعيد، وكتب إلى أهل مكة يدعوهم إلى الدخول في طاعته فلم يقبلوا منه.
113

ووردت بذلك الأخبار إلى بغداد فبعث المقتدر بالله مؤنسا الخادم في شعبان وجد في السير فوصل إلى مصر وكان بينه وبين القائم عدة وقعات، ووصل من أفريقية ثمانون مركبا نجدة للقائم فأرست بالإسكندرية وعليها سليمان الخادم ويعقوب الكتامي وكانا شجاعين، فأمر المقتدر بالله أن يسير مراكب طرسوس إليهم فسار خمسة وعشرون مركبا وفيها النفط والعدد ومقدمها أبو اليمن، فالتقت المراكب بالمراكب واقتتلوا على رشيد فظفر أصحاب مراكب المقتدر وأحرقوا كثيرا من مراكب أفريقية، وهلك أكثر أهلها وأسر منهم كثير وفي الأسرى سليمان الخادم ويعقوب فقتل من الأسرى كثير وأطلق كثير، ومات سليمان في الحبس بمصر وحمل يعقوب إلى بغداد ثم هرب منها وعاد إلى أفريقية.
وأما عسكر القائم فكان بينه وبين مؤنس وقعات كثيرة وكان الظفر مؤنس فلقب حينئذ بالمظفر.
ووقع وباء في عسكر القائم والغلاء فمات منهم كثير من الناس والخيل فعاد من سلم إلى أفريقية وسار عسكر مصر في أثرهم حتى أبعدوا فوصل القائم إلى المهدية في رجب من السنة.
114

ذكر عدة حوادث
في هذه السنة غزا بشر الأفشيني بلاد الروم فافتتح عدة حصون وغنم وسلم وغزا ثمال في بحر الروم فغنم وسبا وعاد، وكان على الموصل أبو أحمد بن حماد الموصلي.
وفيها دخل جني الصفواني بلاد الروم فنهب وخرب وأحرق وفتح وعاد فقرئت الكتب على المنابر ببغداد بذلك.
وفيها وقعت فتنة ببغداد بين العامة والحنابلة فأخذ الخليفة جماعة منهم وسيرهم إلى البصرة فحبسوا.
وفيها أمر المقتدر ببناء بيمارستان فبنى وأجرى عليه النفقات الكثيرة وكان يسمى البيمارستان المقتدري.
وفيها توفي القاضي محمد بن خلف بن حيان أبو بكر الضبي المعروف بوكيع وكان عالما بأخبار الناس وغيرها وله تصانيف حسنة؛ والقاضي أبو العباس أحمد بن عمر بن سريج الفقيه الشافعي وله سبع وخمسون سنة.
وفيها مات كنيز المغني وهو مشهور بالحذق في الغناء. (كنيز بضم الكاف وفتح النون وآخرها زاي).
115

307
ثم دخلت سنة سبع وثلاثمائة
في هذه السنة ضمن حامد بن العباس أعمال الخراج والضياع الخاصة والعامة والمستحدثة والفراتية بسواد بغداد والكوفة وواسط والبصرة والأهواز وأصبهان.
وسبب ذلك أنه لما رأى أنه قد تعطل عن الأمر والنهي وتفرد به علي بن عيسى شرع في هذا ليصير له حديث وأمر ونهي، واستأذن المقتدر في الانحدار إلى واسط ليدبر أمر ضمانه الأول فأذن له في ذلك فانحدر إليها واسم الوزارة عليه وعلي بن عيسى يدبر الأمور، وأظهر حامد زيادة ظاهرة في الأموال وزاد زيادة متوفرة فسر المقتدر بذلك وبسط يده حامد في الأعمال حتى خافه علي بن عيسى.
ثم إن السعر تحرك ببغداد فثارت العامة والخاصة لذلك واستغاثوا وكسروا المنابر وكان حامد يخزن الغلال وكذلك غيره من القواد ونهبت عدة من دكاكين الدقاقين فأمر المقتدر بإحضار حامد بن العباس فحضر من الأهواز فعاد الناس إلى شغبهم فأنفذ حامد لمنعهم فقاتلوهم وأحرقوا الجسرين وأخرجوا المحبسين من السجون ونهبوا دار صاحب الشرطة ولم يتركوا له شيئا، فأنفذ المقتدر جيشا مع غريب الخال،
116

فقاتل العامة، فهربوا من بين يديه ودخلوا الجامع بباب الطاق فوكل بأبواب الجامع وأخذ كل من فيه فحبسهم وضرب بعضهم وقطع أيدي من يعرف بالفساد.
ثم أمر المقتدر من الغد فنودي في الناس بالأمان فسكنت الفتنة، ثم إن حامدا ركب إلى دار المقتدر في الطيار فرجمه العامة ثم أمر المقتدر بتسكينهم فسكنوا وأمر المقتدر بفتح مخازن الحنطة والشعير التي لحامد ولأم المقتدر وغيرهما وبيع ما فيهما فرخصت الأسعار وسكن الناس فقال علي بن عيسى للمقتدر إن سبب غلاء الأسعار إنما هو ضمان حامد لأنه منع من بيع الغلال في البيادر وخزنها، فأمر بفسخ الضمان عن حماد وصرف عماله عن السواد، وأمر علي بن عيسى أن يتولى ذلك فسكن الناس واطمأنوا؛ وكان أصحاب حامد يقولون إن ذلك الشغب كان بوضع من علي بن عيسى.
ذكر أمر أحمد بن سهل
في هذه السنة ظفر الأمير نصر بن أحمد صاحب خراسان وما وراء النهر بأحمد بن سهل ونحن نذكر حاله من أوله.
117

كان هذا أحمد بن سهل من كبار قواد الأمير إسماعيل بن أحمد وولده أحمد بن إسماعيل وولده نصر بن أحمد، وقد تقدم من ذكر تقدمه على الجيوش في الحروب ما يدل على علو منزلته.
وهو أحمد بن سهل بن هاشم بن الوليد بن جبلة بن كامكار بن يزدجر بن شهريار الملك، وكان كامكار دهقانا بنواحي مرو وإليه ينسب الورد الكامكاري وهو الشديد الحمرة وهو الذي يسمى بالري القصراني وبالعراق والجزيرة والشام الجوري، ينسب إلى قصران وهي قرية بالري وإلى مدينة جور وهي من مدن فارس.
وكان لأحمد إخوة يقال لهم محمد والفضل والحسين قتلوا في عصبية العرب والعجم بمرو، وكان أحمد خليفة عمرة بن الليث على مرو فقبض عليه عمرو ونقله إلى سجستان فحبسه بها، فرأى وهو في السجن كأن يوسف النبي عليه السلام على باب السجن فقال له ادع الله أن يخلصني ويوليني فقال له قد أذن الله في خلاصك لكنك لا تلي عملا برأسك.
ثم ان أحمد طلب الحمام فأدخل إليها فأخذ النورة فطلى بها رأسه ولحيته فسقط شعره وخرج من الحمام ولم يعرفه أحمد فاختفى فطلبه عمرو فلم يظفر به ثم خرج من سجستان نحو مرو فقبض على خليفة عمرو واستولى عليها واستأمن إلى إسماعيل بن أحمد ببخارى فأكرمه وقدمه ورفع قدره وكان عاقلا كتوما لأسراره.
118

فلما عصى الحسين بن علي سير إليه أحمد فظفر به على ما ذكرناه وضمن له الأمير نصر أشياء لم يف له بها فاستوحش من ذلك فأتاه يوما بعض أصحاب أبي جعفر صعلوك فحادثه فأنشده أحمد بن سهل وقد ذكر حاله وأنهم لم يفوا له بما وعدوه:
(ستقطع في الدنيا إذا ما قطعتني * يمينك فأنظر أي كفيك تبدل)
(وفي الناس إن رثت حبالك واصل * وفي الأرض عن دار العلا متحول)
(إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته * على طرف الهجران إن كان يعقل)
(وتركب حد السيف من أن تضيمه * إذا لم يكن عن شفرة السيف مرحل)
(إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكد * إليه بوجه آخر الدهر تقبل)
قال: فعلمت أنه قد أضمر المخالفة فلم تمض إلا أيام حتى خالفه بنيسابور واستولى عليها وأسقط خطبة السعيد نصر بن أحمد وأنفذ رسولا إلى بغداد يخطب له أعمال خراسان.
وسار من نيسابور إلى جرجان وبها قراتكين فحاربه واستولى عليها وأخرج قارتكين عنها، ثم عاد إلى خراسان وقصد مرو فاستولى عليها وبنى عليها سورا وتحصن بها، فأرسل إليه السعيد نصر الجيوش مع حمويه بن علي من بخارى فوافى مرو الروذ فأقام بنواحيها ليخرج إليه أحمد بن سهل منها فلم يفعل.
ودخل بعض أصحاب أحمد عليه يوما وهو يفكر بعد نزول حمويه
119

عليه، فقال له صاحبه لا شك أن الأمير مشغول القلب لهذا الخطب فما هو رأي الأمير فقال ليس بي ما تظن ولكن ذكرت رؤيا رأيتها في حبس سجستان وذكر قول يوسف الصديق عليه السلام إنك لا تلي عملا برأسك قال فقلت له ان القوم يغتنمون سلمك ويعطونك ما تريد فإن رأيت أن يتوسط الحال فعلنا فأنشد:
(سأغسل عني العار بالسيف جالبا * على قضاء الله ما كان جالبا)
ولما رأى حمويه أنه لا يخرج إليه من مرو عمل الحيلة في ذلك فجعل يقول قد أدخلت ابن سهل في جحر فأر وسددت عليه وجوه الفرار وأشباه هذا من الكلام ليغضب أحمد فيخرج فلم يفعل ذلك، فحينئذ أمر حمويه جماعة من ثقات قواده فكاتبوا أحمد بن سهل سرا وأظهروا له الميل ودعوه إلى الخروج من مرو ليسلموا إليه حمويه فأجابهم إلى ذلك لما في نفسه من الغيظ على حمويه، فخرج من مرو نحو حمويه فالتقوا على مرحلة من مرو الروذ في رجب سنة سبع وثلاثمائة، فانهزم أصاحب أحمد وحارب هو إلى أن عجزت دابته فنزل عنها واستأمن فأخذ أسيرا وأنفذوه إلى بخارى فمات بها في الحبس في ذي الحجة من سنة سبع وثلاثمائة.
وكان الأمير أحمد بن إسماعيل بن أحمد يقول لا ينبغي لأحمد بن سهل أن يغيب عن باب السلطان فإنه إن غاب أثار شغلا عظيما كأنه كان يترسم فيه ما فعل فهكذا ينبغي أن تكون فراسة الملك.
120

ذكر عدة حوادث
في هذه السنة وقع حريق بالكرخ من بغداد فاحترق فيه كثير من الدور والناس.
وفيها قلد إبراهيم بن حمدان ديار ربيعة وقلد بني بن نفيس شهرزور فامتنعت عليه فاستمد المقتدر فسير إليه جيشا فحصرها ولم يفتحها وقلد القتال بالموصل وأعمالها.
وفيها أوقع ثمال متولي الغزو في البحر بمراكب للمهدي العلوي صاحب أفريقية وقتل جماعة ممن فيها وأسر خادما له.
وفيها انقض كوكب عظيم فاشتد ضوؤه وعظم وتفرق ثلاث فرق وسمع عند انقضاضه مثل صوت الرعد الشديد ولم يكن في السماء غيم.
وفيها كانت فتنة بالموصل بين أصحاب الطعام وبين الأساكفة واحترق سوق الأساكفة وما فيه، وكان الوالي على الموصل وأعمالها العباس بن محمد بن إسحاق بن كنداج وكان خارجا عن البلد فسمع بالفتنة فرجع ليوقع بأهل الموصل فعزموا على قتاله وحصنوا البلد وسدوا الدروب، فما علم بذلك ترك قتالهم وأمر الأعراب بتخريب الأعمال فصاروا
121

يقطعون الطريق على الجسر وفي الميدان ويقاسمونه فخرب البلد، فبلغ الخبر إلى الخليفة فعزله سنة ثمان وثلاثمائة، واستعمل بعده عبد الله بن محمد الفتان وكان عفيفا صارما كف الأعراب عن بلده.
وفيها توفي أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصل صاحب المسند بها.
122

308
ثم دخلت سنة ثمان وثلاثمائة
في هذه السنة خلع المقتدر على أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان وقلد طريق خراسان والدينور وخلع على أخويه أبي العلاء وأبي السرايا.
وفيها وصل رسول أخي صعلوك بالمال والهدايا والتحف ويخبر باستمراره على الطاعة للمقتدر بالله.
وفيها توفي إبراهيم بن حمدان في الحرم.
وفيها قلد بدر الشرابي دقوقا وعكبرا وطريق الموصل وفيها توفي إبراهيم بن محمد بن سفيان صاحب مسلم بن الحجاج ومن طريقه يروى صحيح مسلم إلى اليوم.
123

309
ثم دخلت سنة تسع وثلاثمائة
ذكر قتل ليلى بن النعمان الديلمي
في هذه السنة قتل ليلى بن النعمان الديلمي وكان هذا ليلى أحد قواد أولاد الأطروش العلوي وكان إليه ولاية جرجان وكان قد استعمله عليها الحسن بن القاسم الداعي سنة ثمان وثلاثمائة وكان أولاد الأطروش يكاتبونه المؤيد لدين الله المنتصر لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلى بن النعمان وكان كريما بذالا " للأموال شجاعا مقداما على الأهوال.
وسار من جرجان إلى الدامغان فحاربه أهلها فقتل منهم مقتلة عظيمة وعاد إلى جرجان فابتنى أهل الدامغان حصنا يحميهم وسار قراتكين إليه بجرجان فحاربه على نحو عشرة فراسخ من جرجان فانهزم قراتكين واستأمن غلامه بارس إلى ليلى ومعه ألف فارس فأكرمه ليلى وزوجه أخته واستأمن إليه أبو القاسم بن حفص ابن أخت أحمد بن سهل فأكرمه ليلى.
ثم إن الأجناد كثروا على ليلى بن النعمان فضاقت الأموال عليه فسار نحو نيسابور بأمر الحسن بن القاسم الداعي وتحريض أبي القاسم بن حفص وكان بها قراتكين فوردها في ذي الحجة سنة ثمان وثلاثمائة وأقام بها
124

الخطبة للداعي، وأنفذ السعيد نصر من بخارى إليه حمويه بن علي فالتقوا بطوس واقتتلوا فانهزم أكثر أصحاب حمويه بن علي حتى بلغوا مرو وثبت حمويه ومحمد بن عبد الله البلغمي وأبو جعفر صعلوك وخوارزم شاه وسيمجور الدواتي فاقتتلوا فانهزم بعض أصحاب ليلى ومضى ليلى منهزما، فدخل ليلى سكة لم يكن له فيها مخرج ولحقه بغرا فيها فلم يقدر ليلى على الهرب فنزل وتوارى في دار فقبض عليه بغرا وأنفذ إلى حمويه فأعلمه بذلك فأنفذ من قطع رأس ليلى ونصبه على رمح فلما رآه أصحابه طلبوا الأمان فأمنوا.
ثم قال حمويه للجند قد مكنكم الله من شياطين الجيل والديلم فأبيدوهم واستريحوا منهم أبد الدهر فلم يفعلوا، وحامى كل قائد جماعة فخرج منهم من خرج بعد ذلك، وكان قتل ليلى في ربيع الأول سنة تسع وثلاثمائة وحمل رأسه إلى بغداد وبقي بارس غلام قراتكين بجرجان.
وقيل إن حمويه لما سار إلى قتال ليلى قيل له إن ليلى يستبطئك في قصده فقال إني ألبس أحد خفي للحرب العام والآخر في العام المقبل فبلغ قوله ليلى فقال لكني ألبس أحد خفي للحرب قاعدا والثاني قائما وراكبا فلما قتل قال حمويه هكذا من تعجل إلى الحرب.
125

ذكر قتل الحسين الحلاج
في هذه السنة قتل الحسين بن منصور الحلاج الصوفي وأحرق، وكان ابتداء حاله أنه كان يظهر الزهد والتصوف ويظهر الكرامات ويخرج للناس فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء ويمد يده إلى الهواء فيعيدها مملوءة دراهم عليها مكتوب قل هو الله أحد ويسميها دراهم القدرة ويخبر الناس بما أكلوه وما صنعوا في بيوتهم ويتكلم بما في ضمائرهم فافتتن به خلق كثير واعتقدوا فيه الحلول والجملة فإن الناس اختلفوا فيه اختلافهم في المسيح عليه السلام، فمن قائل إنه حل فيه جزء إلهي ويدعي فيه الربوبية، ومن قائل إنه ولي الله تعالى وأن الذي يظهر منه من جملة كرامات الصالحين، ومن قائل إنه مشعبذ وممخرق وساحر كذاب ومتكهن والجن تطيعه فتأتيه بالفاكهة في غير أوانها.
وكان قدم من خراسان إلى العراق وسار إلى مكة فأقام بها سنة في الحجر لا يستظل تحت سقف شتاء ولا صيفا، وكان يصوم الدهر فإذا جاء العشاء أحضر له القوام كوز ماء وقرصا فيشربه ويعض من القرص ثلاث عضات من جوانبها فيأكلها ويترك الباقي فيأخذونه ولا يأكل شيئا آخر إلى الغد آخر النهار.
وكان شيخ الصوفية يومئذ بمكة عبد الله المغربي فأخذ أصحابه ومشى
126

إلى زيارة الحلاج، فلم يجده في الحجر وقيل له قد صعد إلى جبل أبي قبيس فصعد إليه فرآه على صخرة حافيا مكشوف الرأس والعرق يجري منه إلى الأرض فأخذ أصحابه وعاد ولم يكلمه فقال هذا يتصبر ويتقوى على قضاء الله سوف يبتليه الله بما يعجز عنه صبره وقدرته وعاد الحسين إلى بغداد.
وأما سبب قتله فإنه نقل عنه عند عوده إلى بغداد إلى الوزير حامد بن العباس أنه أحيا جماعة وأنه يحيي الموتى وأن الجن يخدمونه وأنهم يحضرون عنده ما يشتهي وأنهم قدموه على جماعة من حواشي الخليفة وأن نصرا الحاجب قد مال إليه وغيره فالتمس حامد الوزير من المقتدر بالله أن يسلم إليه الحلاج وأصحابه فدفع عنه نصر الحاجب فألح الوزير فأمر المقتدر بتسليمه إليه فأخذه وأخذ معه إنسانا يعرف بالشمري وغيره قيل أنهم يعتقدون أنه إله فقررهم فاعترفوا أنهم قد صح عندهم أنه إله وأنه يحيي الموتى وقابلوا الحلاج على ذلك فأنكره وقال أعوذ بالله أن أدعي الربوبية أو النبوة وإنما أنا رجل أعبد الله عز وجل فأحضر حامد القاضي أبا عمرو والقاضي أبا جعفر بن البهلول وجماعة من وجوه الفقهاء والشهود فاستفتاهم فقالوا: لا يفتي في أمره بشيء إلا أن يصح عندنا ما يوجب قتله ولا يجوز قبول قول من يدعي عليه ما ادعاه إلا ببينة أو قرار.
127

وكان حامد يخرج الحلاج إلى مجلسه ويستنطقه فلا يظهر منه ما تكره الشريعة المطهرة.
وطال الأمر على ذلك وحامد الوزير مجد في أمره وجرى له معه قصص يطول شرحها وفي آخرها أن رأى الوزير له كتابا حكي فيه أن الإنسان إذا أراد الحج ولم يمكنه
أفرد من داره بيتا لا يلحقه شيء من النجاسات ولا يدخله أحد فإذا حضرت أيام الحج طاف حوله وفعل ما يفعله الحاج بمكة ثم يجمع بين ثلاثين يتيما ويعمل أجود الطعام يمكنه ويطعمهم في ذلك البيت وخدمهم بنفسه فإذا فرغوا كساهم وأعطى كل واحد منهم سبعة دراهم فإذا فعل ذلك كان كمن حج.
فلما قرئ هذا على الوزير قال القاضي أبو عمرو للحلاج من أين لك هذا قال من كتاب الإخلاص للحسن البصري قال له القاضي كذبت يا حلال الدم قد سمعناه بمكة وليس فيه هذا فلما قال له يا حلال الدم وسمعها الوزير قال له اكتب بهذا فدافعه أبو عمرو فالزمه حامد فكتب بإباحة دمه وكتب بعده من حضر المجلس.
ولما سمع الحلاج ذلك قال ما يحل لكم دمي واعتقادي الإسلام
128

ومذهبي السنة ولي فيها كتب موجودة فالله الله في دمي وتفرق الناس.
وكتب الوزير إلى الخليفة يستأذنه في قتله وأرسل الفتاوى إليه فأذن في قتله فسلمه الوزير إلى صاحب الشرطة فضربه ألف سوط فما تأوه ثم قطع يده ثم رجله ثم يده ثم رجله ثم قتل وأحرق بالنار فلما صار رمادا ألقي في دجلة ونصب الرأس ببغداد وأرسل إلى خراسان لأنه كان له بها أصحاب فأقبل بعض أصحابه يقولون انه لم يقتل وإنما ألقي شبهه على دابة وانه يجيء بعد أربعين يوما وبعضهم يقول لقيته على حمار بطريق النهروان وأنه قال لهم لا تكونوا مثل هؤلاء البقر الذين يظنون أني ضربت وقتلت.
ذكر عدة حوادث.
وفيها في ربيع الأول وقع حريق كبير في الكرخ فأحترق فيه بشر كثير.
وفيها استعمل المقتدر على حرب الموصل ومعونتها محمد بن نصر الحاجب في جمادى الأولى وسار إليها فيه فلما وصل إليها أوقع بمن خالفه من الأكراد المارانية فقتل وأسر وأرسل إلى بغداد نيفا وثمانين أسيرا فشهروا.
129

وفيها قلد داود بن حمدان ديار ربيعة.
وفيها توفي أبو العباس أحمد بن محمد بن سهل بن عطاء الآدمي الصوفي من كبار مشايخهم وعلمائهم وأبو إسحاق إبراهيم بن هارون الحراني الطبيب وأبو محمد عبد الله بن حمدون النديم.
130

310
ثم دخلت سنة عشر وثلائمائة
ذكر حرب سيمجور مع أبي الحسين بن العلوي
قد ذكرنا قتل ليلى بن النعمان وان جرجان تخلف بها بارس غلام قراتكين فلما قتل ليلى بن النعمان عاد قراتكين إلى جرجان فاستأمن إليه غلامه بارس فقتله قراتكين وانصرف عن جرجان وقدمها أبو الحسين بن الحسن بن علي الأطروش العلوي الملقب والده بالناصر وأقام بها فأنفذ اليه السعيد نصر بن أحمد سيمجور الدواتي في أربعة آلاف فارس فنزل على فرسخين من جرجان وحاصر أبا الحسين نحو شهر من هذه السنة.
وخرج إليه أبو الحسين في ثمانية آلاف رجل من الديلم والجرجانية وصاحب جيشه سرخاب بن وهسوذان ابن عم ما كان بن كالي الديلمي فتحاربا حربا عظيمة وكان سيمجور قد جعل كمينا من أصحابه فأبطأوا عنه فانهزم سيمجور ووقع أصحاب أبي الحسين في عسكر سيمجور واشتغلوا بالنهب والغارة فخرج عليهم الكمين بعد الظفر فقتلوا من الديلم والجرجانية نحو أربعة آلاف رجل، وانهزم أبو الحسين وركب في البحر ثم عاد إلى أستراباذ واجتمع اليه كل أصحابه.
131

وكان سرخاب قد تبع سيمجور في هزيمته فلما عاد رأى أصحابه مقتلين مشردين فسار إلى استراباذ واستصحب معه عيال أصحابه ومخلفيهم وأقام بها مع أبي الحسين بن الناصر ثم سمع سيمجور بظفر أصحابه فعاد إليهم وأقام بجرجان ثم اعتل سرخاب ومات، ورجع ابن الناصر إلى سارية واستخلف ما كان بن كالي على استراباذ فاجتمع إليه الديلم وقدموه وأمروه على أنفسهم.
ثم سار محمد بن عبيد الله البلغمي وسيمجور إلى باب استراباذ وحاربوا ما كان بن كالي فلما طال مقامهم اتفقوا معه على أن يخرج عن استراباذ إلى سارية وبذلوا له على هذا مالا ليظهر للناس أنهم قد افتتحوها ثم ينصرفون عنها ويعود إليها ففعل وسار إلى سارية ثم رحلوا عن استراباذ إلى جرجان ثم إلى نيسابور وجعلوا بغرا باسترأباذ فلما أسروا عنها عاد إليها ما كان بن كالي ففارقها بغرا إلى جرجان وأساء السيرة في أهلها وخرج إليه ما كان فرجع بغرا إلى نيسابور وأقام ما كان بجرجان ونحن نذكر ابتداء حال ما كان وننقلها عند قتله سنة تسع وعشرين وثلائمائة.
ذكر خروج إلياس بن إسحاق بن أحمد بن أسد الساماني
ثم خرج إلياس بن إسحاق بن أحمد المقدم ذكره أنه خرج مع أبيه وانهزم إلى فرغانة فلما بلغ فرغانة أقام بها إلى أن خرج ثانيا واستعان
132

عند خروجه بمحمد بن الحسين بن مت وجمع من الترك فاجتمع معه ثلاثون الف عنان فقصد سمرقند مشاقا للسعيد نصر بن أحمد فسير إليه نصر أبا عمرو محمد بن أسد وغيره في ألفين وخمسمائة رجل فكمنوا خارج سمرقند يوم ورود إلياس فلما وردها واشتغل هو ومن معه بالنزول خرج الكمين عليه من بين الشجر ووضعوا السيوف فيهم فانهزم إلياس وأصحابه فوصل إلياس إلى فرغانة ووصل ابن مت إلى اسبيجاب ومنها إلى ناحية طراز فكوتب دهقان الناحية التي نزلها وأطمع وقبض عليه وقتله وأنفذ رأسه إلى بخارى.
وكان ابن مت شجاعا وكان قد سخر جمالا عند خروجه فجاء أصحابها يطلبونها منه فقال سأردها عليكم ببغداد _ يعني أنه لا يرد شيئا من بغداد ثقة بكثرة جمعه وقوته، فجاءت الأقدار بما لم يكن في الحساب.
ثم عاد إلياس فخرج مرة ثالثة وأعانه أبو الفضل بن أبي يوسف صاحب الشاش فسير إليه محمد بن اليسع فحاربهم فانهزم إلى كاشغر وأسر أبو الفضل وحمل إلى بخارى فمات بها.
وأما إلياس فصاهر دهقان كاشغر طغانتكين واستقر بها ثم ولى
133

محمد بن الظفر فرغانة فرجع إليها إلياس بن إسحاق معاندا فحاربه محمد بن المظفر فهزمه مرة أخرى فعاد إلى كاشغر فكاتبه محمد بن المظفر واستماله ولطف به فأمن إلياس إليه وحضر إلى بخارى فأكرمه السعيد وصاهره وأقام معه.
ذكر وفاة محمد بن جرير الطبري
وفي هذه السنة توفي محمد بن جرير الطبري صاحب التاريخ ببغداد ومولده سنة أربع وعشرين ومائتين ودفن ليلا بداره لأن العامة اجتمعت ومنعت من دفنه نهارا، وادعوا عليه الرفض ثم ادعوا عليه الإلحاد وكان علي بن عيسى يقول والله لو سئل هؤلاء عن معنى الرفض والإلحاد ما عرفوه ولا فهموه هكذا ذكره ابن مسكويه صاحب تجارب الأمم وحاشى ذلك الإمام عن مثل هذه الأشياء.
وأما ما ذكره من تعصب العامة فليس الأمر كذلك وإنما بعض الحنابلة تعصبوا عليه ووقعوا فيه فتبعهم غيرهم ولذلك سبب وهو أن الطبري جمع كتابا ذكر فيه اختلاف الفقهاء لم يصنف مثله ولم يذكر فيه أحمد بن حنبل فقبل له في ذلك فقال لم يكن فقهيا وإنما كان محدثا فاشتد ذلك على الحنابلة وكانوا لا يحصون كثرة ببغداد فشغبوا عليه وقالوا ما أرادوا:
(حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه * فالناس أعداء له وخصوم)
134

(كضرائر الحسناء قلن لوجهها * حسدا وبغضا انه لدميم)
وقد ذكرت شيئا من كلام الأئمة في أبي جعفر يعلم [منه] محله في العلم والثقة وحسن الاعتقاد، فمن من ذلك ما قاله الإمام أبو بكر الخطيب بعد أن ذكر من روى الطبري عنه ومن روى عن الطبري فقال وكان أحد أئمة العلماء يحكم بقوله ويرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره فكان حافظا لكتاب الله عارفا بالقراءات بصيرا بالمعاني فقيها في أحكام القرآن عالما بالسنن وطرقها صحيحها وسقيمها ناسخها ومنسوخها عارفا بأقاويل الصحابة والتابعين ومن بعدهم في الأحكام ومسائل الحلال والحرام خبيرا بأيام الناس وأخبارهم، وله الكتاب المشهور في تاريخ الأمم والملوك والكتاب الذي في التفسير لم يصنف مثله، وله في أصول الفقه وفروعه كتب كثيرة واخبار من أقاويل الفقهاء وتفرد بمسائل حفظت عنه.
وقال أبو أحمد الحسين بن علي بن محمد الرازي أول ما سألني الإمام أبو بكر بن خزيمة قال لي كتبت عن محمد بن جرير الطبري قلت: لا! قال: لم؟ قلت: لا يظهر وكانت الحنابلة تمنع من الدخول عليه فقال بئسما فعلت ليتك لم تكتب عن كل من كتبت عنه وسمعت عن أبي جعفر وقال حسينك واسمه الحسين بن علي التميمي عن ابن خزيمة نحو ما تقدم.
135

وقال ابن خزيمة حين طالع كتاب التفسير للطبري ما أعلم على أديم الأرض أعلم من أبي جعفر ولقد ظلمته الحنابلة.
وقال أبو محمد عبد الله بن أحمد الفرغاني بعد أن ذكر تصانيفه وكان أبو جعفر ممن لا يأخذه في الله لومة لائم ولا يعدل في علمه وتبيانه عن حق يلزمه لربه وللمسلمين إلى باطل لرغبة ولا رهبة مع عظيم ما كان يلحقه من الأذى والشناعات من جاهل وحاسد وملحد.
وأما أهل الدين والورع فغير منكرين علمه وفضله وزهده وتركه الدنيا مع اقبالها عليه وقناعته بما كان يرد عليه من قرية خلفها له أبوه بطبرستان يسيرة ومناقبه كثيرة لا يحتمل ههنا أكثر من هذا.
ذكر عدة حوادث
فيها أطلق المقتدر يوسف بن أبي الساج من الحبس بشفاعة مؤنس الخادم وحمل اليه، ودخل إلى المقتدر وخلع عليه ثم عقد له على الري وقزوين وأبهر وزنجان وأذربيجان وقرر عليه خمسمائة ألف دينار محمولة كل سنة إلى بيت المال سوى أرزاق العساكر الذين بهذه البلاد.
وخلع في هذا اليوم على وصيف البكتمري وعلى طاهر ويعقوب ابني
136

محمد بن عمرو بن الليث.
وتجهز يوسف وضم إليه المقتدر بالله العساكر مع وصيف البكتمري وسار عن بغداد في جمادى الآخرة إلى أذربيجان وأمر أن يجعل طريقه على الموصل وينظر في أمر ديار ربيعة فقدم إلى الموصل ونظر في الأعمال وسار إلى أذربيجان فرأى غلامه سبكا قد مات.
وفيها قلد نازوك الشرطة ببغداد.
وفيها وصلت هدية إلى أبي زنبور الحسين بن أبي أحمد الماذرائي من مصر وفيها بغلة معها فلو يتبعها ويرضع منها وغلام طويل اللسان يلحق لسانه أرنبة أنفه.
وفيها قبض المقتدر على أم موسى القهرمانة، وكان سبب ذلك أنها زوجت أختها من أبي العباس أحمد بن محمد بن إسحاق ابن المتوكل على الله وكان محسنا له نعمة
ظاهرة ومروءة حسنة وكان يرشح للخلافة، فلما صاهرته أكثرت من النثار والدعوات وخسرت أموالا جليلة فتكلم أعداؤها وسعوا بها إلى المقتدر وقالوا إنها قد سعت لأبي العباس في الخلافة وخلفت له القواد وكثر القول عليها فقبض عليها وأخذ منها أموالا عظيمة وجواهر نفيسة.
وفيها غزا المسلمون في البر والبحر فغنموا وسلموا.
137

وفيها كان بالموصل شغب من العامة وقتلوا خليفة محمد بن نصر الحاجب بها، فتجهز العسكر من بغداد إلى الموصل.
وفيها في جمادى الآخرة انقض كوكب عظيم له ذنب في المشرق في برج السنبلة طوله نحو ذراعين.
وفيها سار محمد بن نصر الحاجب من الموصل إلى الغزاة على قاليقلا فغزا الروم من تلك الناحية، ودخل أهل طرسوس ملطية فظفروا وبلغوا من بلاد الروم والظفر بهم ما لم يظنوه وعادوا.
وفيها توفي أبو عبد الله محمد بن العباس بن أبي محمد اليزيدي الأديب أخذ العلم عن ثعلب والرياشي وحج بالناس هذه السنة إسحاق بن عبد الملك الهاشمي.
138

311
ثم دخلت سنة إحدى عشرة وثلاثمائة
ذكر عزل حامد وولاية ابن الفرات
في هذه السنة في ربيع الآخر عزل المقتدر حامد بن العباس عن الوزارة وعلي بن عيسى عن الدواوين وخلع على أبي الحسن بن الفرات وأعيد إلى الوزارة.
وكان سبب ذلك ان المقتدر ضجر من استغاثة الأولاد والحرم والخدم والحاشية من تأخير أرزاقهم فإن علي بن عيسى كان يؤخرها فإذا اجتمع عدة شهور أعطاهم البعض واسقط البعض وحط من أرزاق العمال كل سنة شهرين وغيرهم ممن له رزق فزادت عداوة الناس له.
وكان حامد بن العباس قد ضجر من المقام ببغداد وليس إليه من الأمر شيء غير لبس السواد وأنف من اطراح علي بن عيسى بجانبه فإنه كان يهينه في توقيعاته بالإطلاق عليه لضمانه بعض الأعمال، وكان يكتب ليطلق جهبذ الوزير أعزه الله وليبادر نائب الوزير.
وكان إذا شكى إليه بعض نواب حامد يكتب على القصة: إنما عقد الضمان،
139

على النائب الوزيري، عن الحقوق الواجبة السلطانية فليتقدم إلى عماله بكف الظلم عن الرعية فاستأذن حامد وسار إلى واسط لينظر في ضمانه فأذن له وجرى بين مفلح الأسود وبين حامد كلام قال له حامد لقد هممت ان اشتري مائة خادم اسود وأسميهم مفلحا وأهبهم لغلامي؛ فحقده مفلح وكان خصيصا بالمقتدر فسعى معه المحسن بن الفرات لوالده بالوزارة وضمن أموالا جليلة، وكتب على يده رقعة يقول ان يسلم الوزير وعلي بن عيسى وابن الحواري وشفيع اللؤلؤي ونصر الحاجب وأم موسى القهرمانة والماذرانيون يستخرج منهم سبعة آلاف الف دينار.
وكان المحسن مطلقا وكان يواصل السعاية بهؤلاء الجماعة وذكر ابن الفرات للمقتدر ما كان يأخذه ابن الحواري كل سنة من المال فاستكثره، فقبض على علي بن عيسى في ربيع الآخر وسلم إلى زيدان القهرمانة فحبسته في الحجرة التي كان ابن الفرات محبوسا فيها، أطلق ابن الفرات وخلع عليه وتولى الوزارة وخلع على ابنه المحسن وهذه الوزارة الثالثة لابن الفرات وكان أبو علي بن مقلة سعى بابن الفرات وكان يتقلد بعض الأعمال أيام حامد فحضر عند ابن الفرات وكان ابن الفرات هو الذي قدم ابن مقلة ورباه وأحسن اليه ولما قيل عنه إنه سعى به ولم يصدق ذلك منه تكرر ذلك منه.
ثم أن حامدا صعد من واسط فسير اليه ابن الفرات من يقبض عليه في الطريق وعلى أصحابه فقبض على بعض أصحابه وسمع حامد فهرب
140

واختفى ببغداد ثم إن حامدا لبس زي راهب وخرج من مكانه الذي اختفى فيه ومشى إلى نصر الحاجب فاستأذن عليه فأذن له فدخل عليه وسأله ايصال حاله إلى الخليفة فاستدعى نصر مفلحا الخادم وقال هذا يستأذن إلى الخليفة إذا كان عند حرمه.
فلما حضر مفلح فرأى حامدا قال: أهلا بمولانا الوزير أين مماليكك السودان الذين سميت كل واحد منهم مفلحا فسأله نصر أن لا يؤاخذه وقال له حامد يسأل ان يكون محبسه في دار الخليفة ولا يسلم إلى ابن الفرات.
فدخل مفلح وقال ضد ما قيل له فأمر المقتدر بتسليمه إلى ابن الفرات فأرسل اليه فحبسه في دار حسنة وأجرى عليه من الطعام والكسوة والطيب وغير ذلك ما كان له وهو وزير ثم أحضره وأحضر الفقهاء والعمال وناظره على ما وصل اليه من المال وطالبه به فاقر بجهات تقارب الف الف دينار وضمنه المحسن بن أبي الحسن بن الفرات من المقتدر بخمسمائة ألف دينار فسلمه اليه فعذبه بأنواع العذاب وأنفذه إلى واسط مع بعض أصحابه ليبيع ماله بواسط وأمرهم بأن يسقوه سما فسقوه سما في بيض مشوي وكان طلبه فأصابه إسهال فلما وصل إلى واسط أفراط القيام به وكان قد تسلمه محمد بن علي البزوفري فلما
141

رأى حاله أحضر القاضي والشهود ليشهدوا عليه أن ليس له في أمره صنع، فلما حضروا عند حامد قال لهم إن أصحاب المحسن سقوني سما في بيض مشوي فأنا أموت منه وليس لمحمد في أمري صنع لكنه قد أخذ قطعة من أموالي وأمتعتي وجعل يحشوها في المساور وتباع المسورة في السوق بمحضر من أمين السلطان بخمسة دراهم ووضع عليها من يشتريها ويحملها اليه فيكون فيها أمتعة تساوي ثلاثة آلاف دينار فأشهدوا على ذلك.
وكان صاحب الخبر حاضرا فكتب ذلك وسيره وندم البزوفري على ما فعل ثم مات حامد في رمضان من هذه السنة، ثم صودر علي بن عيسى بثلاثمائة ألف دينار فأخذه المحسن بن الفرات ليستوفي منه المال فعذبه وصفعه فلم يؤد اليه شيئا.
وبلغ الخبر الوزير أبا الحسن بن الفرات فأنكر على ابنه ذلك لأن عليا كان محسنا إليهم إيام ولايته وكان قد اعطى المحسن وقت نكبته عشرة آلاف درهم وأدى علي بن عيسى مال المصادرة وسيره ابن الفرات إلى مكة وكتب إلى أمير مكة ليسيره إلى صنعاء ثم قبض ابن الفرات على أبي علي بن مقلة، ثم أطلقه؛ وقبض على ابن الحواري وكان خصيصا بالمقتدر وسلمه إلى ابنه المحسن فعذبه عذابا شديدا وكان المحسن وقحا سئ الأدب ظالما ذا قسوة شديدة وكان الناس يسمونه الخبيث ابن الطيب وسير ابن الحواري إلى الأهواز ليستخرج منه الأموال التي له فضربه الموكل به حتى مات.
142

وقبض أيضا على الحسين بن أحمد ومحمد بن علي الماذرائيين، وكان الحسين قد تولى مصر والشام فصادرهما على الف الف دينار وسبعمائة الف دينار ثم صادر جماعة من الكتاب ونكبهم.
ثم إن ابن الفرات خوف المقتدر من مؤنس الخادم وأشار عليه بأن يسيره عن الحضرة إلى الشام ليكون هنالك فسمع قوله وأمره بالمسير، وكان قد عاد من الغزاة فسأل أن يقيم عدة أيام بقيت من شهر رمضان فأجيب إلى ذلك وخرج في يوم شديد المطر.
وسبب ذلك أن مؤنسا لما قدم ذكر للمقتدر ما اعتمده ابن الفرات من مصادرات الناس وما يفعله ابنه من تعذيبهم وضربهم إلى غير ذلك من أعمالهم فخافه ابن الفرات فأبعده عن المقتدر ثم سعى ابن المقتدر بنصر الحاجب وأطمع المقتدر في ماله وكثرته فالتجأ نصر إلى أم المقتدر فمنعته من ابن فرات.
ذكر القرامطة
وفيها قصد أبو طاهر سليمان بن أبي سعيد الهجري البصرة فوصلها ليلا في ألف وسبعمائة رجل ومعه السلاليم الشعر فوضعها على السور وصعد أصحابه ففتحوا الباب وقتلوا الموكلين به وكان ذلك في ربيع الآخر.
وكان على البصرة سبك المفلحي فلم يشعر بهم إلا في السحر ولم يعلم أنهم القرامطة بل اعتقد أنهم عرب تجمعوا فركب إليهم ولقيهم فقتلوه
143

ووضعوا السيف في أهل البصرة، وهرب الناس إلى الكلأ وحاربوا القرامطة عشرة أيام فظفر بهم القرامطة وقتلوا خلقا كثيرا وطرح الناس أنفسهم في الماء فغرق أكثرهم.
وأقام أبو طاهر سبعة عشر يوما يحمل منها ما يقدر عليه من المال والأمتعة والنساء والصبيان فعاد إلى بلده واستعمل المقتدر على البصرة محمد بن عبد الله الفارقي فانحدر إليها وقد سار الهجري عنها.
ذكر استيلاء ابن أبي الساج على الري
في هذه السنة سار يوسف بن أبي الساج من أذربيجان إلى الري فحاربه أحمد بن علي أخو صعلوك فانهزم أصحاب أحمد وقتل هو في المعركة وأنفذ رأسه إلى بغداد وكان أحمد بن علي قد فارق أخاه صعلوكا وسار إلى المقتدر فأقطع الري كما ذكرناه ثم عصى وهادن ما كان بن كالي وأولاد الحسن بن علي الأطروش وهم بطبرستان وجرجان وفارق طاعة المقتدر وعصي عليه ووصل رأسه إلى بغداد.
وكان ابن الفرات يقع في نصر الحاجب ويقول للمقتدر إنه هو الذي أمر أحمد بن علي بالعصيان لمودة بينهما.
144

وكان قتل أحمد بن علي آخر ذي القعدة واستولى ابن أبي الساج على الري ودخلها في ذي الحجة من السنة ثم سار عنها في أول سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة إلى همذان واستخلف بالري غلامه مفلحا فأخرجه أهل الري عنهم فلحق يوسف وعاد يوسف إلى الري في جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة واستولى عليها.
ذكر عدة حوادث
وفيها غزا مؤنس المظفر بلاد الروم فغنم وفتح حصونا وغزا ثمال أيضا في البحر فغنم من السبي ألف رأس ومن الدواب ثمانية آلاف رأس ومن الغنم مائتي الف رأس ومن الذهب والفضة شيئا كثيرا.
وفيها ظهر جراد كثير بالعراق فأضر بالغلات والشجر وعظم.
وفيها استعمل بني بن نفيس على حرب أصبهان.
وفيها توفي بدر المعتضدي بفارس وهو أميرها وولى ابنه محمد مكانه.
وفيها توفي أبو محمد أحمد بن محمد بن الحسين الجريري الصوفي وهو من مشاهير مشايخهم (الجريري بضم الجيم)؛ وأبو إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج النحوي صاحب كتاب معاني القرآن.
145

312
ثم دخلت سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة
ذكر حادثة غريبة
في هذه السنة ظهر في دار كان يسكنها المقتدر بالله إنسان أعجمي وعليه ثياب فاخرة وتحتها مما يلي بدنه قميص صوف ومعه مقدحة وكبريت ومحبرة وأقلام وسكين وكاغد وفي كيس سويق وسكر وحبل طويل من قنب يقال إنه دخل مع الصناع فبقي هناك فعطش فخرج يطلب الماء فأخذ، فاحضروه عند ابن الفرات فسأله عن حاله فقال: لا أخبر إلا صاحب الدار فرفق به فلم يخبره بشيء وقال لا أخبر إلا صاحب الدار فضربوه ليقرروه فقال بسم الله بدأتم بالشر ولزم هذه اللفظة ثم جعل يقول بالفارسية
ندانم معناه لا أدري فأمر به فأحرق.
وأنكر ابن الفرات على نصر الحاجب هذه الحال حيث هو الحاجب وعظم الأمر بين يدي المقتدر ونسبه إلى أنه أخفاه ليقتل المقتدر فقال نصر لم أقتل أمير المؤمنين وقد رفعني من الثرى إلى الثريا إنما يسعى في قتله من صادره وأخذ أمواله وأطال حبسه هذه السنين وأخذ ضياعه وصار لابن الفرات بسبب هذا الحادث في معنى نصر.
146

ذكر أخذ الحاج
في هذه السنة سار أبو طاهر القرمطي إلى الهبير في عسكر عظيم ليلقي الحاج سنة إحدى عشرة وثلاثمائة في رجوعهم من مكة فأوقع بقافلة تقدمت معظم الحاج وكان فيها خلق كثيرا من أهل بغداد فنهبهم واتصل الخبر بباقي الحاج وهم بفيد فأقاموا بها حتى فني زادهم فارتحلوا مسرعين.
وكان أبو الهيجاء بن حمدان قد أشار عليهم بالعود إلى وادي القرى وأنهم لا يقيمون بفيد فاستطالوا الطريق ولم يقبلوا منه وكان إلى أبي الهيجاء طريق الكوفة وكثير الحاج فلما فني زادهم ساروا على طريق الكوفة فأوقع بهم القرامطة وأخذوهم وأسروا أبا الهيجاء وأحمد بن كشمرد ونحرير وأحمد بن بدر عم والدة المقتدر وأخذ أبو الطاهر جمال الحجاج جميعها وما أراد من الأمتعة والأموال والنساء والصبيان وعاد إلى هجر وترك الحاج في مواضعهم فمات أكثرهم جوعا وعطشا من حر الشمس.
وكان عمر أبي طاهر حينئذ سبع عشرة سنة، وانقلبت بغداد واجتمع حرم المأخوذين إلى حرم المنكوبين الذين نكبهم ابن الفرات وجعلن ينادين القرمطي الصغير أبو طاهر قتل المسلمين في طريق مكة والقرمطي الكبير ابن الفرات قد قتل المسلمين ببغداد.
147

وكانت صورة فظيعة شنيعة وكسر العامة منابر الجوامع وسودوا المحاريب يوم الجمعة لست خلون من صفر وضعفت نفس ابن الفرات وحضر عند المقتدر ليأخذ أمره فيما بفعله وحضر نصر الحاجب المشورة فانبسط لسانه على ابن الفرات وقال له الساعة تقول أي شيء نصنع وما هو الرأي بعد ان زعزعت أركان الدولة وعرضتها للزوال في الباطن بالميل مع كل عدو يظهر ومكاتبته ومهادنته وفي الظاهر بإبعادك مؤنسا ومن معه إلى الرقة وهم سيوف الدولة فمن يدفع الآن هذا الرجل إن قصد الحضرة أنت أو ولدك وقد ظهر الآن إن مقصودك بإبعاد مؤنس وبالقبض علي وعلى غيري أن تستضعف الدولة وتقوي أعداؤها لتشفي غيظ قلبك ممن صادرك وأخذ أموالك ومن الذي سلم الناس إلى القرمطي غيرك لما يجمع بينكما من التشيع والرفض وقد ظهر أيضا أن ذلك الرجل العجمي كان من أصحاب القرمطي وأنت أوصلته.
فحلف ابن الفرات انه ما كاتب القرمطي ولا هاداه ولا رأى ذلك الأعجمي إلا تلك الساعة والمقتدر معرض عنه وأشار نصر على المقتدر أن يحضر مؤنسا ومن معه ففعل ذلك وكتب إليه بالحضور فسار إلى ذلك ونهض ابن الفرات فركب في طيارة فرجمه العامة حتى كاد يغرق.
148

وتقدم المقتدر إلى ياقوت بالمسير إلى الكوفة ليمنعها من القرامطة فخرج في جمع كثير ومعه ولداه المظفر ومحمد فخرج على ذلك العسكر مال عظيم وورد الخبر بعدو القرامطة فعطل مسير ياقوت.
ووصل مؤنس المظفر إلى بغداد ولما رأى المحسن ابن الوزير ابن الفرات انحلال أمورهم أخذ كل من كان محبوسا عنده من المصادرين فقتلهم لأنه كان قد أخذ منهم أموالا جليلة ولم يوصلها إلى المقتدر فخاف أن يقروا عليه.
ذكر القبض على الوزير ابن الفرات وولده المحسن
ثم ان الأرجاف كثر على ابن الفرات فكتب إلى المقتدر يعرفه ذلك وإن الناس انما عادوه لنصحه وشفقته وأخذ حقوقه منهم فانفذ المقتدر إليه يسكنه ويطيب قلبه فركب هو وولده إلى المقتدر فأدخلهما إليه فطيب قلوبهما فخرجا من عنده فمنعهما نصر الحاجب من الخروج ووكل بهما فدخل مفلح على المقتدر وأشار عليه بتأخير عزله فأمر باطلاقهما فخرج هو وابنه المحسن فأما المحسن فإنه اختفى وأما الوزير فإنه جلس عامة نهاره يمضي الأشغال إلى الليل ثم بات
149

مفكرا فلما أصبح سمعه بعض خدمه ينشد:
(وأصبح لا يدري وإن كان حازما * اقدامه خير له أم وراءه)
فلما أصبح الغد وهو الثامن من ربيع الأول وأرتفع النهار أتاه نازوك وبليق في عدة من الجند فدخلوا إلى الوزير وهو عند الحرم فأخرجوه حافيا مكشوف الرأس وأخذ إلى دجلة فألقى عليه يلبق طيلسانا غطى به رأسه وحمل إلى طيار فيه مؤنس المظفر ومعه هلال بن بدر فاعتذر اليه ابن الفرات والآن كلامه فقال له أنا الآن الأستاذ وكنت بالأمس الخائن الساعي في فساد الدولة وأخرجتني والمطر على رأسي ورؤوس أصحابي ولم تمهلني.
ثم سلم إلى شفيع اللؤلؤي فحبس عنده وكانت مدة وزارته هذه عشرة أشهر وثمانية عشر يوما وأخذ أصحابه وأولاده ولم ينج منهم إلا المحسن فإنه اختفى؛ وصودر ابن الفرات على جملة من المال مبلغها ألف ألف دينار.
ذكر وزارة أبي القاسم الخاقاني
ولما تغير حال ابن الفرات سعى عبد الله بن محمد بن عبد الله بن يحي بن خاقان أبو القاسم بن أبي علي الخاقاني في الوزارة وكتب خطه أنه يتكفل ابن الفرات وأصحابه بمصادرة ألفي ألف دينار وسعى له مؤنس الخادم،
150

وهارون بن غريب الخال ونصر الحاجب.
وكان أبو علي الخاقاني والد أبي القاسم مريضا شديد المرض وقد تغير عليه لكبر سنه فلم يعلم بشيء من حال ولده وتولى أبو القاسم الوزارة تاسع ربيع الأول وكان المقتدر يكرهه فلما سمع ابن الفرات وهو محبوس بولايته قال الخليفة هو الذي نكب لا أنا يعني أن الوزير عاجز لا يعرف أمر الوزارة.
ولما وزر الخاقاني شفع اليه مؤنس الخادم في إعادة علي بن عيسى من صنعاء إلى مكة فكتب إلى جعفر عامل اليمن في الأذن لعلي بن عيسى في العود إلى مكة ففعل ذلك وأذن لعلي في الاطلاع على اعمال مصر والشام.
ومات أبو علي الخاقاني في وزارة ولده هذه.
ذكر قتل ابن الفرات وولده المحسن
وكان المحسن ابن الوزير ابن الفرات مختفيا كما ذكرنا وكان عند حماته حزانة وهي والدة الفضل بن جعفر بن الفرات وكانت تأخذه كل يوم إلى المقبرة وتعود به إلى المنازل التي يثق بأهلها عشاء وهو في زي امرأة فمضت يوما إلى مقابر قريش وأدركها الليل فبعد عليها الطريق فأشارت عليها امرأة معها ان تقصد امرأة صالحة تعرفها بالخير تختفي عندها فأخذت المحسن وقصدت تلك المرأة وقالت لها معنا صبية بكر نريد بيتا نكون
151

فيه؛ فأمرتهم بالدخول إلى دارها وسلمت إليهم قبة في الدار فأدخلن المحسن إليها وجلسن النساء الذين معه في صفة بين يدي باب القبة فجاءت جارية سوداء قرأت المحسن في القبة فعادت إلى مولاتها فأخبرتها أن في الدار رجلا فجاءت صاحبتها فلما رأته عرفته.
وكان المحسن قد أخذ زوجها ليصادره فلما رأى الناس في داره يجلدون ويشقصون ويعذبون مات فجأة فلما رأت المرأة المحسن وعرفته ركبت في سفينة وقصدت دار الخليفة وصاحت معي نصيحة لأمير المؤمنين فأحضرها نصر الحاجب فأخبرته بخبر المحسن فانتهى ذلك إلى المقتدر فأمر ناوزك صاحب الشرطة ان يسير معها ويحضره فأخذها معه إلى منزلها ودخل المنزل واخذ المحسن وعاد به إلى المقتدر فرده إلى دار الوزير فعذب بأنواع العذاب ليجيب إلى مصادرة يبذلها فلم يجبهم إلى دينار واحد وقال لا اجمع لكم بين نفسي ومالي واشتد العذاب عليه بحيث امتنع عن الطعام.
فلما علم ذلك المقتدر أمر بحمله مع أبيه إلى دار الخلافة فقال الوزير أبو القاسم لمؤنس وهارون بن غريب الخال ونصر الحاجب ان ينقل ابن الفرات إلى دار الخلافة بذل أمواله وأطمع المقتدر في أموالنا وضمننا منه وتسلمنا فأهلكنا فواضعوا القواد والجند حتى قالوا للخليفة إنه لا بد
152

من قتل ابن الفرات وولده فإننا لا نأمن على أنفسنا ما داما في الحياة.
وترددت الرسائل في ذلك وأشار مؤنس وهارون بن غريب ونصر الحاجب بموافقتهم وإجابتهم إلى ما طلبوا فأمر نازوك بقتلهما فذبحهما كما يذبح الغنم.
وكان ابن الفرات قد أصبح يوم الأحد صائما فأتى بطعام فلم يأكله فأتى أيضا بطعام ليفطر عليه فلم يفطر وقال رأيت أخي العباس في النوم يقول لي أنت وولدك عندنا يوم الاثنين ولا شك أننا نقتل فقتل ابنه المحسن يوم الاثنين لثلاث عشرة خلت من ربيع الآخر وحمل رأسه إلى أبيه فارتاع لذلك شديدا ثم عرض أبوه على السيف فقال ليس إلا السيف راجعوا في أمري فإن عندي أموالا جمة وجواهر كثيرة فقيل له جل الأمر عن ذلك وقتل وكان عمره إحدى وسبعين سنة وعمر ولده المحسن ثلاثا وثلاثين سنة فلما قتلا حمل رأساهما إلى المقتدر بالله فأمر بتغريقهما.
وقد كان أبو الحسن بن الفرات يقول ان المقتدر بالله يقتلني فصح قوله فمن ذلك أنه عاد من عنده يوما وهو مفكر كثير الهم فقيل له في ذلك فقال كنت عند أمير المؤمنين فما خاطبته في شيء من الأشياء إلا قال لي نعم فقلت له الشيء وضده ففي كل ذلك يقول نعم فقيل له هذا لحسن ظنه بك وثقته بما تقول واعتماده على شفقتك فقال لا والله،
153

ولكنه اذن لكل قائل وما يؤمني أن يقال له بقتل الوزير فيقول نعم والله انه قاتلي!
ولما قتل ركب هارون بن غريب مسرعا إلى الوزير الخاقاني وهنأه بقتله فأغمي عليه حتى ظن هارون ومن هناك أنه قد مات وصرخ أهله وأصحابه عليه فلما أفاق من غشيته لم يفارقه هارون حتى أخذ منه ألفي دينار.
وأما أولاده سوى المحسن فإن مؤنسا المظفر شفع في ابنيه عبد الله وأبي نصر فأطلقا له فخلع عليهما ووصلهما بعشرين ألف دينار وصودر ابنه الحسن على عشرين ألف دينار وأطلق إلى منزله.
وكان الوزير أبو الحسن بن الفرات كريما ذا رياسة وكفاية في عمله حسن السؤال والجواب ولم يكن له سيئة إلا ولده المحسن.
ومن محاسنه أنه جرى ذكر أصحاب الأدب وطلبة الحديث وما هم عليه من الفقر والتعفف فقال أنا أحق من أعانهم وأطلق لأصحاب الحديث عشرين ألف درهم وللشعراء عشرين ألف درهم ولأصحاب الأدب عشرين ألف درهم وللفقهاء عشرين ألف درهم وللصوفية عشرين ألف درهم فذلك مائة ألف درهم.
وكان إذا ولى الوزارة ارتفعت أسعار الثلج والشمع والسكر،
154

والقراطيس لكثرة ما كان يستعملها ويخرج من داره للناس، ولم يكن فيه ما يعاب به إلا أن أصحابه كانوا يفعلون ما يريدون ويظلمون فلا يمنعهم، فمن ذلك أن بعضهم ظلم امرأة في ملك لها فكتبت إليه تشكو منه غير مرة وهو لا يرد لها جوابا فلقيته يوما وقالت له أسألك بالله أن تسمع مني كلمة فوقف لها فقالت قد كتبت إليك في ظلامتي غير مرة ولم تجبني وقد تركتك وكتبتها إلى الله تعالى. فلما كان بعد أيام ورأى تغير حاله قال لمن معه من أصحابه ما أظن إلا جواب رقعة تلك المرأة المظلومة قد خرج فكان كما قال.
ذكر دخول القرامطة الكوفة
وفي هذه السنة دخل أبو طاهر القرمطي إلى الكوفة، وكان سبب ذلك أن أبا طاهر أطلق من كان عنده من الأسرى الذين كان أسرهم من الحجاج وفيهم ابن حمدان وغيره
، وأرسل إلى المقتدر يطلب البصرة والأهواز فلم يجبه إلى ذلك، فسار من هجر يريد الحاج.
وكان جعفر بن ورقاء الشيباني متقلدا أعمال الكوفة وطريق مكة، فلما سار
155

الحجاج من بغداد سار جعفر بين أيديهم خوفا من أبي طاهر ومعه ألف رجل من بني شيبان وسار مع الحجاج من أصحاب السلطان ثمال صاحب البحر وجني الصفواني وطريف السبكري وغيرهم في ستة آلاف رجل فلقي أبو طاهر القرمطي جعفرا الشيباني فقاتله جعفر.
فبينما هو يقاتله إذ طلع جمع من القرامطة عن يمينه فانهزم من بين أيديهم فلقي القافلة الأولى وقد انحدرت من العقبة فردهم إلى الكوفة ومعهم عسكر الخليفة وتبعهم أبو طاهر إلى باب الكوفة فقاتلهم فانهزم عسكر الخليفة وقتل منهم وأسر جنيا الصفواني وهرب الباقون والحجاج من الكوفة ودخلها أبو طاهر وأقام ستة أيام بظاهر الكوفة يدخل البلد نهارا فيقيم في الجامع إلى الليل ثم يخرج يبيت في عسكره وحمل منها ما قدر على حمله من الأموال والثياب وغير ذلك، وعاد إلى هجر.
ودخل المنهزمون بغداد فتقدم المقتدر إلى مؤنس المظفر بالخروج إلى الكوفة فسار إليها فبلغها وقد عاد القرامطة عنها فاستخلف عليها ياقوتا، وسار مؤنس إلى واسط خوفا عليها من أبي طاهر وخاف أهل بغداد وانتقل الناس إلى الجانب الشرقي ولم يحج في هذه السنة من الناس أحد.
156

ذكر عدة حوادث
في هذه السنة خلع المقتدر علي نجح الطولوني وولي أصبهان.
وفيها ورد رسول ملك الروم بهدايا كثيرة ومعه أبو عمر بن عبد الباقي فطلبا من المقتدر الهدنة وتقرير الفداء فأجيبا إلى ذلك بعد غزاة الصائفة.
وفي هذه السنة خلع على جني الصفواني بعد عوده من ديار مضر.
وفيها استعمل سعيد بن حمدان على المعاون والحرب بنهاوند.
وفيها دخل المسلمون بلاد الروم فنهبوا وسبوا وعادوا.
وفيها ظهر عند الكوفة رجل ادعى أنه محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وهو رئيس الإسماعيلية وجمع جمعا عظيما من الأعراب وأهل السواد واستفحل أمره في شوال فسير إليه جيش من بغداد فقاتلوه فظفروا به وانهزم وقتل كثير من أصحابه.
وفيها في شهر ربيع الأول توفي محمد بن نصر الحاجب وقد كان استعمل على الموصل وتقدم ذلك.
وفيها توفي شفيع اللؤلؤي وكان عمل البريد وغيره من الأعمال فولى ما كان عليه شفيع المقتدري.
157

313
ثم دخلت سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة
ذكر عزل الخاقاني عن الوزارة ووزارة الخصيبي
في هذه السنة في شهر رمضان عزل أبو القاسم الخاقاني عن وزارة الخليفة وكان سبب ذلك أن أبا العباس الخصيبي علم بمكان امرأة المحسن بن الفرات فسأل أن يتولى النظر في أمرها فأذن له المقتدر في ذلك فاستخلص منها سبعمائة ألف دينار وحملها إلى المقتدر فصار له معه حديث، فخافه الخاقاني فوضع من وقع عليه وسعى به فلم يصغ المقتدر إلى ذلك، فلما علم الخصيبي بالحال كتب إلى المقتدر يذكر معايب الخاقاني وابنه عبد الوهاب وعجزهما وضياع الأموال وطمع العمال.
ثم أن الخاقاني مرض مرضا شديدا وطال به فوقفت الأحوال وطلب الجند أرزاقهم وشغبوا، فأرسل المقتدر إليه في ذلك فلم يقدر على شيء فحينئذ عزله واستوزر أبا العباس الخصيبي وخلع عليه، وكان يكتب لأم المقتدر فلما وزر كتب لها بعده أبو يوسف عبد الرحمن بن محمد، وكان قد تزهد وترك عمل السلطان ولبس الصوف والفوط فلما أسند
158

إليه هذا العمل ترك ما كان عليه من الزهد، فسماه الناس المرتد.
فلما ولي الخصيبي أقر علي بن عيسى على الأشراف على أعمال مصر والشام فكان يتردد من مكة إليها في الأوقات، واستعمل العمال في الأعمال واستعمل أبا جعفر محمد بن القاسم الكرخي بعد أن صادره بثمانية وخمسين ألف دينار على الإشراف على الموصل وديار ربيعة.
ذكر ما فتحه أهل صقلية
في هذه السنة سار جيش صقلية مع أميرهم سالم بن راشد وأرسل إليهم المهدي جيشا من أفريقية فسار إلى أرض انكبردة ففتحوا غيران وأبرجة وغنموا غنائم كثيرة، وعاد جيش صقلية وساروا إلى أرض قلورية وقصدوا مدينة طارنت فحصروها وفتحوها بالسيف في شهر رمضان، ووصلوا إلى مدينة أدرنت فحصروها وخربوا منازلها فأصاب المسلمين مرض شديد كبير فعادوا ولم يزل أهل صقلية يغيرون على ما بأيدي الروم من جزيرة صقلية، وقلورية وينهبون ويخربون.
159

ذكر عدة حوادث
في هذه السنة فتح إبراهيم المسمعي ناحية القفص وهي من حدود كرمان وأسر منهم خمسة آلاف إنسان وحملهم إلى فارس وباعهم.
وفيها كثرت الأرطاب ببغداد حتى عملوا منها التمور وحملت إلى واسط والبصرة فنسب أهل بغداد إلى البغي.
وفيها كتب ملك الروم إلى أهل الثغور يأمرهم بحمل الخراج إليه فان فعلوا وإلا قصدهم فقتل الرجال وسبى الذرية وقال إنني صح عندي ضعف ولاتكم؛ فلم يفعلوا ذلك،
فسار إليهم وأخرب البلاد ودخل ملطية في سنع أربع عشرة وثلاثمائة فأخربوها وسبوا منها ونهبوا وأقام بها ستة عشرة يوما.
وفيها اعترض القرامطة الحاج بزبالة فقاتلهم أصحاب الخليفة فانهزموا ووضع القرامطة على الحاج قطيعة فأخذوها وكفوا عنهم وساروا إلى مكة.
وفيها انقض كوكب كبير وقت المغرب له صوت مثل الرعد الشديد وضوء عظيم أضاءت له الدنيا.
وفيها توفي محمد بن محمد بن سليمان الباغندي في ذي الحجة وهو
160

من حفاظ المحدثين وأبو العباس محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن مهران السراج النيسابوري وعمره تسع وتسعون سنة، وكان من العلماء الصالحين وعبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي توفي ليلة الفطر وكان عمره مائة سنة وسنتين وهو ابن بنت أحمد بن منبع.
وفيها توفي علي بن بشار أبو الحسن الزاهد.
161

314
ثم دخلت سنة أربع عشرة وثلاثمائة
ذكر مسير ابن أبي الساج إلى واسط
وفي هذه السنة قلد المقتدر يوسف بن أبي الساج نواحي المشرق وأذن له في أخذ أموالها وصرفها إلى قواده وأجناده وأمره بالقدوم إلى بغداد من أذربيجان والمسير إلى واسط ليسير إلى هجر لمحاربة أبي طاهر القرمطي فسار إلى واسط وكان بها مؤنس المظفر فلما قاربها يوسف صعد مؤنس إلى بغداد ليقيم بها وجعل له أموال الخراج بنواحي همدان وساوة وقاشان وماه البصرة وماه الكوفة وماسبذان لينفقها على مائدته ويستعين بذلك على محاربة القرامطة وكان هذا كله من تدبير الخصيبي.
162

ذكر الحرب بين
عبد الله بن حمدان والأكراد والعرب
وفي هذه السنة أفسد الأكراد والعرب بأرض الموصل وطريق خراسان، وكان عبد الله بن حمدان يتولى الجميع وهو ببغداد وابنه ناصر الدولة بالموصل، فكتب إليه أبوه يأمره بجمع الرجال والانحدار إلى تكريت ففعل وسار إليها فوصل إليها في رمضان واجتمع بأبيه وأحضر العرب وطالبهم بما أحدثوا في عمله بعد أن قتل منهم ونكل ببعضهم فردوا على الناس شيئا كثيرا، ورحل بهم إلى شهرزور فوطئ الأكراد الجلالية فقاتلهم وانضاف إليهم غيرهم فاشتدت شوكتهم ثم انهم انقادوا إليه لما رأوا قوته وكفوا عن الفساد والشر.
ذكر عزل الخصيبي ووزارة علي بن عيسى
في هذه السنة في ذي القعدة عزل المقتدر أبا العباس الخصيبي عن الوزارة.
وكان سبب ذلك أن الخصيبي أضاق إضاقة شديدة ووقفت أمور السلطان
163

لذلك واضطرب أمر الخصيبي.
وكان حين ولي الوزارة قد اشتغل بالشرب كل ليلة وكان يصبح سكران لا قصد فيه لعمل وسماع حديث وكان يترك الكتب الواردة الدواوين لا يقرؤها إلا بعد مدة ويهمل الأجوبة عنها فضاعت الأموال وفاتت المصالح ثم أنه لضجره وتبرمه بها وبغيرها من الأشغال وكل الأمور إلى نوابه وأهمل الاطلاع عليهم فباعوا عليه مصلحته بمصلحة نفوسهم.
فلما سار الأمر إلى هذه الصورة أشار مؤنس المظفر بعزله وولاية علي بن عيسى فقبض عليه وكانت وزارته سنة وشهرين وأخذ ابنه وأصحابه فحبسوا، وأرسل المقتدر بالله بالغد إلى دمشق يستدعي علي بن عيسى وكان بها، وأمر المقتدر أبا القاسم عبيد الله بن محمد الكلوداني بالنيابة عن علي بن عيسى إلى أن يحضر، فسار علي بن عيسى إلى بغداد فقدمها أوائل سنة خمس عشرة [ثلاثمائة] واشتغل بأمور الوزارة ولازم النظر فيها فمشت الأمور واستقامت الأحوال.
وكان من أقوم الأسباب في ذلك أن الخصيبي كان قد اجتمع عنده رقاع المصادرين وكفالات من كفل منهم وضمانات العمال بما ضمنوا من المال بالسواد والأهواز وفارس والمغرب فنظر فيها علي وأرسل في طلب تلك الأموال فأقبلت إليه شيئا بعد شيء فأدى الأرزاق وأخرج العطاء،
164

وأسقط من الجند من لا يحمل السلاح ومن أولاد المرتزقة من هو في المهد فإن آباءهم أثبتوا أسماءهم، ومن أرزاق المغنين والمساخرة والندماء والصفاعنة وغيرهم مثل الشيخ الهرم ومن ليس له سلاح فإنه أسقطهم وتولى الاعمال بنفسه ليلا ونهارا واستعمل العمال في الولايات المتحدة واختار الكفاة.
وأمر المقتدر بالله بمناظرة أبي العباس الخصيبي فأحضره وأحضر الفقهاء والقضاة والكتاب وغيرهم، وكان علي وقورا لا يسفه فسأله عما صح من الأموال من الخراج والنواحي والأصقاع والمصادرات والمتكلفين بها ومن البواقي القديمة إلى غير ذلك، فقال: لا أعلمه.
وسأله عن الإخراجات والواصل إلى المخزن فقال لا اعرفه وقال له لم أحضرت يوسف بن أبي الساج وسلمت إليه أعمال المشرق سوى أصبهان وكيف تعتقد أنه يقدر هو وأصحابه وهم قد ألفوا البلاد الباردة الكثيرة المياه على سلوك البرية القفراء والصبر على حر بلاد الإحساء والقطيف ولم لا جعلت معه منفقا يخرج المال على الأجناد فقال ظننت أنه يقدر على قتال القرامطة وامتنع من أن يكون معه منفق.
فقال له كيف استخرت في الدين والمروءة ضرب حرم المصادرين وتسليمهن إلى أصحابك كامرأة ابن الفرات وغيره فان كانوا فعلوا ما لا يجوز ألست أنت السبب في
ذلك؟
165

ثم سأله عن الحاصل له وعن إخراجاته فخلط في ذلك فقال له غررت بنفسك وغررت بأمير المؤمنين ألا قلت له انني لا أصلح للوزارة. فقد كان الفرس إذا أرادوا أن يستوزروا وزيرا نظروا في تصرفه لنفسه فإن وجدوه حازما ضابطا ولوه وإلا قالوا: من لا يحسن أن يدبر نفسه فهو عن غير ذلك أعجز وتركوه ثم أعاده إلى محبسه.
ذكر استيلاء السامانية على الري
لما استدعى المقتدر يوسف بن أبي الساج إلى واسط كتب إلى السعيد نصر بن أحمد الساماني بولاية الري وأمره بقصدها وأخذها من فاتك غلام يوسف، فسار نصر بن أحمد إليها أوائل سنة أربع عشرة وثلاثمائة فوصل إلى جبل قارن فمنعه أبو نصر الطبري من العبور فأقام هناك. فراسله وبذل له ثلاثين ألف دينار حتى مكنه من العبور، فسار حتى قارب الري فخرج فاتك عنها واستولى نصر بن أحمد عليها في جمادى الآخرة وأقام بها شهرين وولى عليها سيمجور الدواتي وعاد عنها.
ثم استعمل عليها محمد بن علي صعلوك وسار نصر إلى بخارى ودخل صعلوك الري فأقام بها إلى أوائل شعبان سنة ست عشرة وثلاثمائة فمرض فكاتب الحسن الداعي، وما كان بن كالي في القدوم عليه ليسلم
166

الري إليهما فقدما عليه فسلم الري إليهما وسار عنها فلما بلغ الدامغان مات.
ذكر عدة حوادث
وفي هذه السنة ضمن أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان أعمال الخراج والضياع بالموصل وقردى وبازبدى وما يجرى معها.
وفيها سار ثمال إلى عمله بالثغور وكان في بغداد.
وفيها في ربيع الآخر خرجت الروم إلى ملطية وما يليها مع الدمستق ومعه مليح الأرمني صاحب الدروب فنزلوا على ملطية وحصروها، فصبر أهلها ففتح الروم أبوابا من الربض فدخلوا فقاتلهم أهلها وأخرجوهم منه ولم يظفروا من المدينة بشيء وخربوا قرى كثيرة من قراها ونبشوا الموتى ومثلوا بهم ورحلوا عنهم؛ وقصد أهل ملطية بغداد مستغيثين في جمادى الأولى فلم يغاثوا فعادوا بغير فائدة، وغزا أهل طرسوس صائفة فغنموا وعادوا.
وفيها جمدت دجلة عند الموصل من بلد إلى الحديثة حتى عبر عليها الدواب لشدة البرد.
وفيها توفي الوزير أبو القاسم الخاقاني وهرب ابنه عبد الوهاب ولم
167

يحضر غسل أبيه ولا الصلاة عليه وكان الوزير قد أطلق من محبسه قبل موته.
وفيها توجه أبو طاهر القرمطي نحو مكة فبلغ خبره إلى أهلها فنقلوا حرمهم وأموالهم إلى الطائف وغيره خوفا منه.
وفيها كتب الكلوذاني إلى الوزير الخصيبي قبل عزله بأن أبا طالب النبوبندجاني قد صار يجري مجرى أصحاب الأطراف وأنه قد تغلب على ضياع السلطان واستغل منها جملة عظيمة فصودر أبو طالب على مائة ألف دينار.
168

315
ثم دخلت سنة خمس عشرة وثلاثمائة
ذكر ابتداء الوحشة بين المقتدر ومؤنس
في هذه السنة هاجت الروم وقصدوا الثغور ودخلوا سميساط وغنموا جميع ما فيها من مال وسلاح وغير ذلك وضربوا في الجامع بالناقوس أوقات الصلوات.
ثم إن المسلمين خرجوا في أثر الروم وقاتلوهم وغنموا منهم غنيمة عظيمة، فأمر المقتدر بالله بتجهيز العساكر مع مؤنس المظفر وخلع المقتدر عليه في ربيع الآخر ليسير، فلما لم يبق إلا الوداع امتنع مؤنس من دخول دار الخليفة للوداع واستوحش من المقتدر بالله وظهر ذلك.
وكان سببه أن خادما من خدام المقتدر حكى لمؤنس أن المقتدر بالله أمر خواص خدمه أن يحفروا جبا في دار الشجرة ويغطوه ببراية وتراب، وذكر أنه يجلس فيه لوداع مؤنس فإذا حضر وقاربها ألقاه الخدم فيها وخنقوه وأظهروه ميتا، فامتنع مؤنس من دخول دار الخليفة وركب إليه جميع الأجناد وفيهم عبد الله بن حمدان وإخوته، وخلت دار الخليفة،
169

وقالوا لمؤنس نحن نقاتل بين يديك إلى أن تنبت لك لحية فوجه إليه المقتدر رقعة بخطه يحلف له على بطلان ما بلغه، فصرف مؤنس الجيش وكتب الجواب انه العبد المملوك وأن الذي أبلغه ذلك قد كان وضعه من يريد إيحاشه من مولاه وأنه ما استدعى الجند وإنما هم حضروا وقد فرقهم.
ثم إن مؤنسا قصد دار المقتدر في جمع من القواد ودخل إليه وقبل يده وحلف المقتدر على صفاء نيته له وودعه وسار إلى الثغر في العشر الآخر من ربيع الآخر، وخرج لوداعه أبو العباس بن المقتدر وهو الراضي بالله علي بن عيسى.
ذكر وصول القرامطة
إلى العراق وقتل يوسف بن أبي الساج
في هذه السنة وردت الأخبار بمسير أبي طاهر القرمطي من هجر نحو الكوفة، ثم وردت الأخبار من البصرة بأنه اجتاز قريبا منهم نحو الكوفة. فكتب المقتدر إلى يوسف بن أبي الساج يعرفه هذا الخبر ويأمره بالمبادرة إلى الكوفة، فسار إليها عن واسط آخر شهر رمضان وقد أعد له بالكوفة الإنزال له ولعسكره، فلما وصلها أبو
طاهر الهجري هرب نواب السلطان عنها واستولى عليها أبو
170

طاهر وعلى تلك الإنزال والعلوفات، وكان فيها مائة كر دقيقا وألف كر شعيرا وكان قد فني ما معه من الميرة والعلوفة فقووا بما أخذوه.
ووصل يوسف إلى الكوفة بعد وصول القرمطي بيوم واحد فحال بينه وبينها وكان وصوله يوم الجمعة ثامن شوال فلما وصل إليهم أرسل إليهم يدعوهم إلى طاعة المقتدر فإن أبوا فموعدهم الحرب يوم الأحد فقالوا: لا طاعة علينا إلا لله تعالى والموعد بيننا للحرب بكرة غد.
فلما كان الغد ابتدأ أوباش العسكر بالشتم ورمي الحجارة ورأى يوسف قلة القرامطة فاحتقرهم وقال إن هؤلاء الكلاب بعد ساعة في يدي وتقدم بأن يكتب كتاب الفتح والبشارة بالظفر قبل اللقاء تهوانا بهم.
وزحف الناس بعضهم إلى بعض فسمع أبو طاهر أصوات البوقات والزعقات فقال لصاحب له ما هذا فقال فشل فقال أجل لم يزد على هذا فاقتتلوا من ضحوة النهار يوم السبت إلى غروب الشمس وصبر الفريقان فلما رأى أبو طاهر ذلك باشر الحرب بنفسه ومعه جماعة يثق بهم وحمل بهم فطحن أصحاب يوسف ودقهم فانهزموا بين يديه وأسر يوسف وعددا كثيرا من أصحابه وكان أسره وقت المغرب وحملوه إلى عسكرهم ووكل به أبو طاهر طبيبا يعالج جراحه.
وورد الخبر إلى بغداد بذلك فخاف الخاص والعام من القرامطة خوفا شديدا وعزموا على الهرب إلى حلوان وهمذان ودخل المنهزمون بغداد أكثرهم رجالة حفاة عراة، فبرز مؤنس المظفر ليسير إلى الكوفة فأتاهم الخبر بأن القرامطة قد ساروا إلى عين التمر فأنفذ من بغداد خمسمائة سميرية فيها المقاتلة لتمنعهم من عبور الفرات وسير جماعة من
171

الجيش إلى الأنبار لحفظها ومنع القرامطة من العبور هنالك.
ثم إن القرامطة قصدوا الأنبار فقطع أهلها الجسر ونزل القرامطة غرب الفرات وأنفذ أبو طاهر أصحابه إلى الحديثة فأتوه بسفن ولم يعلم أهل الأنبار بذلك وعبر فيها ثلاثمائة رجل من القرامطة فقاتلوا عسكر الخليفة فهزموهم وقتلوا منهم جماعة واستولى القرامطة على مدينة الأنبار وعقدوا الجسر وعبر أبو طاهر جريدة وخلف سواده بالجانب الغربي.
ولما ورد الخبر بعبور أبي طاهر إلى الأنبار خرج نصر الحاجب في عسكر جرار فلحق بمؤنس المظفر فاجتمع في نيف وأربعين ألف مقاتل سوى الغلمان ومن يريد النهب وكان ممن معه أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان ومن إخوته أبو الوليد وأبو السرايا في أصحابهم وساروا حتى بلغوا نهر زبارا على فرسخين من بغداد عند عقرقوف فأشار أبو الهيجاء بن حمدان بقطع القنطرة التي عليه فقطعوها وسار أبو طاهر ومن معه نحوهم فبلغوا نهر زبارا وفي أوائلهم رجل أسود يقال له صبح فما زال الأسود يدنو من القنطرة والنشاب يأخذه ولا يمتنع حتى اشرف عليها فرآها مقطوعة فعاد وهو مثل القنفذ.
وأراد القرامطة العبور فلم يمكنهم لأن النهر لم يكن فيه مخاضة ولما أشرفوا على عسكر الخليفة هرب منهم خلق كثير إلى بغداد من غير أن يلقوهم فلما رأى ابن حمدان ذلك قال لمؤنس كيف رأيت ما أشرت به عليكم؟ فوالله لو عبر القرامطة النهر لأنهزم كل من معك ولأخذوا بغداد ولما رأى
172

القرامطة ذلك عادوا إلى الأنبار، وسير مؤنس المظفر صاحبه يلبق في ستة آلاف مقاتل إلى عسكر القرامطة غربي الفرات ليغنموه ويخلصوا ابن أبي الساج فبلغوا إليهم وقد عبر أبو طاهر الفرات في زورق صياد وأعطاه ألف دينار فلما رآه أصحابه قويت قلوبهم ولما أتاهم عسكر مؤنس كان أبو طاهر عندهم فاقتلوا قتالا شديدا فانهزم عسكر الخليقة.
ونظر أبو طاهر إلى ابن أبي الساج وهو قد خرج من الخيمة ينظر ويرجو الخلاص وقد ناداه أصحابه أبشر بالفرج فلما انهزموا حضره وقتله وقتل جميع الأسرى من أصحابه وسلمت بغداد من نهب العيارين لأن نازوك كان يطوف هو وأصحابه ليلا ونهارا ومن وجدوه بعد العتمة قتلوه فامتنع العيارون، واكترى كثير من أهل بغداد سفنا ونقلوا إليها أموالهم وربطوها لينحدروا إلى واسط وفيهم من نقل متاعه إلى واسط وإلى حلوان ليسيروا إلى خراسان وكان عدة القرامطة ألف رجل وخمسمائة رجل منهم سبعمائة فارس وثمانمائة راجل وقيل كانوا الفين وسبعمائة.
وقصد القرامطة مدينة هيث وكان المقتدر قد سير إليها سعيد بن حمدان وهارون بن غريب فلما بلغها القرامطة رأوا عسكر الخليفة قد سبقهم فقاتلوهم على السور فقتلوا من القرامطة جماعة كثيرة فعادوا عنها.
ولما بلغ أهل بغداد عودهم من هيت سكنت قلوبهم ولما علم المقتدر بعدة عسكره وعسكر القرامطة قال لعن الله نيفا وثمانين إليه يعجزون عن ألفين وسبعمائة.
173

وجاء إنسان إلى علي بن عيسى وأخبره أن في جيرانه رجلا من شيراز على مذهب القرامطة يكاتب أبا طاهر بالأخبار فأحضره وسأله واعترف وقال ما صحبت أبا طاهر إلا لما صح عندي أنه على الحق وأنت وصاحبك كفار تأخذون ما ليس لكم ولا بد لله من حجة في أرضه وامامنا المهدي محمد بن فلان بن فلان بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق المقيم ببلاد المغرب ولسنا كالرافضة والاثني عشرية الذين يقولون بجهلهم ان لهم إماما ينتظرونه ويكذب بعضهم لبعض فيقول قد رأيته وسمعته وهو يقرأ ولا ينكرون بجهلهم وغباوتهم أنه لا يجوز أن يعطي من العمر ما يظنونه فقال له قد خالطت عسكرنا وعرفتهم فمن فيهم على مذهبك فقال وأنت بهذا العقل تدبر الوزارة كيف تطمع مني أنني أسلم قوما مؤمنين إلى قوم كافرين يقتلونهم لا أفعل ذلك فأمر به فضرب ضربا شديدا ومنع الطعام والشراب فمات بعد ثلاثة أيام.
وقد كان ابن أبي الساج قبل قتاله القرامطة قد قبض على وزيره محمد بن خلف النيرماني وجعل مكانه أبا علي الحسن بن هارون وصادر محمدا خمسمائة ألف دينار، وكان سبب ذلك أن النيرماني عظم شأنه وكثر ماله فحدث نفسه بوزارة الخليفة فكتب إلى نصر الحاجب يخطب الوزارة ويسعى بابن أبي الساج ويقول له إنه قرمطي يعتقد
إمامه العلوي الذي
174

بأفريقية وانني ناظرته على ذلك فلم يرجع عنه وانه لا يسير إلى قتال أبي طاهر القرمطي وإنما أخذ المال بهذا السبب ويقوى به على قصد حضرة السلطان وإزالة الخلافة عن بن العباس وطول في ذلك وعرض.
وكان لمحمد بن خلف أعداء قد أساء إليهم من أصحاب ابن أبي الساج فسعوا به فأعلموا يوسف بن أبي الساج ذلك وأروه كتبا جاءته من بغداد في المعني من نصر الحاجب وفيها رموز إلى قواعد قد تقدمت وتقررت وفيها الوعد له بالوزارة وعزل علي بن عيسى الوزير فلما علم ذلك ابن أبي الساج قبض عليه فلما أسر ابن أبي الساج تخلص من الحبس وكان ابن أبي الساج يسمى الشيخ الكريم لما جمع الله فيه من خلال الكمال والكرم.
ذكر استيلاء أسفار على جرجان
في هذه السنة استولى أسفار بن شيرويه الديلمي على جرجان وكان ابتداء أمره أنه كان من أصحاب ما كان بن كالي الديلمي وكان سئ الخلق والعشرة فأخرجه ما كان من عسكره فاتصل ببكر بن محمد بن السبع وهو بنيسابور وخدمه فسيره بكر بن محمد إلى جرجان ليفتحها.
وكان ما كان بن كالي ذلك الوقت بطبرستان وأخوه أبو الحسن بن كالي بجرجان وقد اعتقل أبا علي بن الحسين الأطروش العلوي
175

عنده، فشرب أبو الحسن بن كالي ليلة ومعه أصحابه ففرقهم وبقي في بيت هو والعلوي فقام إلى العلوي ليقتله فظفر به العلوي وقتله وخرج من الدار واختفى فلما أصبح أرسل إلى جماعة من القواد يعرفهم الحال ففرحوا بقتل أبي الحسن بن كالي وأخرجوا العلوي وألبسوه القلنسوة وبايعوه فأمسى أسيرا وأصبح أميرا وجعل مقدم جيشه علي بن خرشيد ورضى به الجيش وكاتبوا أسفار بن شيرويه وعرفوه الحال واستقدموه إليهم فاستأذن بكر بن محمد وسار إلى جرجان واتفق مع علي بن خرشيد وضبطوا تلك الناحية فسار إليهم ما كان بن كالي من طبرستان في جيشه فحاربوه وهزموه وأخرجوه عن طبرستان وأقاموا بها ومعهم العلوي فلعب يوما بالكرة فسقط عن دابته فمات.
ثم مات علي بن خريشد صاحب الجيش وعاد ما كان بن كالي إلى أسفار فحاربه فانهزم أسفار منه ورجع إلى بكر بن محمد بن اليسع وهو بجرجان وأقام بها إلى أن توفي بكر بها فولاها الأمير السعيد نصر بن أحمد أسفار بن شيرويه وذلك سنة خمس عشرة وثلاثمائة وأرسل إلى مرداويج بن زيار الجيلي يستدعيه فحضر عنده وجعله أمير الجيش وأحسن إليه وقصدوا طبرستان واستولوا عليها.
ونحن نذكر حال ابتداء مرداويج وكيف تقلبت به الأحوال.
176

ذكر الحرب بين المسلمين والروم
في هذه السنة خرجت سرية من طرسوس إلى بلاد الروم فوقع عليها العدو فاقتتلوا فاستظهر الروم وأسروا من المسلمين أربعمائة رجل فقتلوا صبرا.
وفيها سار الدمستق في جيش عظيم من الروم إلى مدينة دبيل وفيها نصر السبكي في عسكر يحميها وكان مع الدمستق دبابات ومناجيق ومعه مزارق تزرق بالنار عدة اثني عشر رجلا فلا يقوم بين يديه أحد من شدة ناره واتصاله فكان من أشد شيء على المسلمين.
وكان الرامي به مباشر القتال من أشجعهم فرماه رجل من المسلمين بسهم فقتله وأراح الله المسلمين من شره.
وكان الدمستق يجلس على كرسي عال يشرف على البلد وعلى عسكره فأمرهم بالقتال على ما يراه فصبر له أهل البلد، وهو ملازم القتال، حتى
177

وصلوا إلى سور المدينة فنقبوا فيها نقوبا كثيرة ودخلوا المدينة فقاتلهم أهلها ومن فيها من العسكر قتالا شديدا فانتصر المسلمون وأخرجوا الروم منها وقتلوا منهم نحو عشرة آلاف رجل.
وفيها في ذي القعدة عاد ثمال إلى طرسوس من الغزاة الصائفة سالما هو ومن معه فلقوا جمعا كثيرا من الروم فاقتتلوا فانتصر المسلمون عليهم وقتلوا من الروم كثيرا وغنموا ما لا يحصى.
وكان من جملة ما غنموا أنهم ذبحوا من الغنم في بلاد الروم ثلاثمائة ألف رأس سوى ما سلم معهم ولقيهم رجل يعرف بابن الضحاك وهو من رؤساء الأكراد وكان له حصن يعرف بالجعفري فارتد عن الإسلام وصار إلى ملك الروم فأجزل له العطية وأمره بالعود إلى حصنه فلقيه المسلمون فقاتلوه فأسروه وقتلوا كل من معه.
178

ذكر مسير جيش المهدي إلى المغرب
في هذه السنة سير المهدي العلوي صاحب إفريقية ابنه أبا القاسم من المهدية إلى المغرب في جيش كثير في صفر لسبب محمد بن خرز الزناتي وذلك أنه ظفر بعسكر من كتامة فقتل منهم خلقا كثيرا فعظم ذلك على المهدي فسير ولده فلما خرج تفرق الأعداء وسار حتى وصل إلى ما وراء تاهرت فلما عاد من سفرته هذه خط برمحه في الأرض صفة مدينة وسماها المحمدية وهي المسيلة.
وكانت خطته لبني كملان فأخرجهم منها ونقلهم إلى فحص القيروان كالمتوقع منهم أمرا فلذلك أحب أن يكونوا قريبا منه وهم كانوا أصحاب أبي يزيد الخارجي وانتقل خلق كثير إلى المحمدية وأمر عاملها إن يكثر من الطعام ويخزنه ويحتفظ به ففعل ذلك فلم يزل مخزونا إلى إن خرج أبو يزيد ولقيه المنصور ومن المحمدية كان يمتاز ما يريد إذ ليس بالموضع مدينة سواها.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة مات إبراهيم بن المسعي من حمى حادة وكان موته بالنوبندجان فاستعمل المقتدر مكانه على فارس ياقوتا واستعمل عوضه
179

على كرمان أبا طاهر محمد بن عبد الصمد وخلع عليهما.
وعقد لهما لواءين وفيها شغب الفرسان ببغداد وخرجوا إلى المصلى ونهبوا القصر المعروف بالثريا وذبحوا ما كان فيه من الوحش فخرج إليهم مؤنس وضمن لهم أرزاقهم فرجعوا إلى منازلهم.
وفيها ظفر عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله الناصر لدين الله الأموي صاحب الأندلس بأهل طليطلة وكان قد حصرها مدة لخلاف كان عليه فيها فلما ظفر بهم أخرب كثيرا من عماراتها وشعثها وكانت حينئذ دار إسلام.
وفيها قصد الأعراب سواد الكوفة فنهبوه وخربوه ودخلوا الحيرة فنهبوها فسير إليهم الخليفة جيشا فدفعوهم عن البلاد.
وفيها في ربيع الأول انقض كوكب عظيم وصار له صوت شديد على ساعتين بقيتا من النهار.
وفيها في جمادى الآخرة احترق كثير من الرصافة ووصيف الجوهري ومربعة الخرسي ببغداد.
وفيها توفي أبو بكر محمد بن السري المعروف بابن السراج النحوي صاحب كتاب الأصول في النحو وقيل توفي سنة ست عشرة [وثلاثمائة]. وفيها في شعبان توفي أبو الحسن علي بن سليمان الأخفش فجأة.
180

316
ثم دخلت سنة ست عشرة وثلاثمائة
ذكر أخبار القرامطة
لما سار القرامطة من الأنبار عاد مؤنس الخادم إلى بغداد فدخلها ثالث المحرم وسار أبو طاهر القرمطي إلى الدالية من طريق الفرات فلم يجد فيها شيئا فقتل من أهلها جماعة ثم سار إلى الرحبة فدخلها ثامن المحرم بعد أن حاربه أهلها فوضع فيهم السيف بعد أن ظفر بهم فأمر مؤنس المظفر بالمسير إلى الرقة فسار إليها في صفر وجعل طريقه على الموصل فوصل إليها في ربيع الأول ونزل بها وأرسل أهل قرقيسيا يطلبون من أبي طاهر الأمان فأمنهم وأمرهم أن لا يظهر أحد منهم بالنهار فأجابوه إلى ذلك.
وسير أبو طاهر سرية إلى الأعراب بالجزيرة فنهبوهم وأخذوا أموالهم فخافه الأعراب خوفا شديدا وهربوا من بين يديه وقرر عليهم عليهم أتاوة على كل رأس دينار يحملونه إلى هجر ثم أصعد أبو طاهر من الرحبة إلى الرقة فدخل أصحابه الربض وقتلوا منهم ثلاثين رجلا وأعان أهل الرقة أهل الربض وقتلوا من القرامطة جماعة فقاتلهم ثلاثة أيام ثم انصرفوا آخر ربيع الآخر.
181

وبثت القرامطة سرية إلى رأس عين وكفرتوثا فطلب أهلها الأمان فأمنوهم، وساروا أيضا إلى سنجار فنهبوا الجبال ونازلوا سنجار فطلب أهلها الأمان فأمنوهم.
وكان مؤنس قد وصل إلى الموصل فبلغه قصد القرامطة إلى الرقة فجد السير إليها فسار أبو طاهر عنها وعاد إلى الرحبة ووصل مؤنس إلى الرقة بعد انصراف القرامطة عنها ثم إن القرامطة ساروا إلى هيت وكان أهلها قد أحكموا سورها فقاتلوهم فعادوا عنهم إلى الكوفة؛ فبلغ الخبر إلى بغداد فأخرج هارون بن غريب وبني بن نفيس ونصر الحاجب إليها ووصلت خيل القرمطي إلى قصر ابن هبيرة فقتلوا منه جماعة.
ثم إن نصرا الحاجب حم في طريقه حمى حادة فتجلد وسار فلما قاربهم القرمطي لم يكن في نصر قوة على النهوض والمحاربة فاستخلف أحمد بن كيغلغ واشتد مرض نصر وأمسك لسانه لشدة مرضه فردوه إلى بغداد فمات في الطريق أواخر شهر رمضان فجعل مكانه على الجيش هارون بن غريب ورتب ابنه أحمد بن نصر في الحجبة للمقتدر مكان أبيه فانصرف القرامطة إلى البرية وعاد هارون إلى بغداد في الجيش فدخلها لثمان بقين من شوال.
182

ذكر عزل علي بن عيسى ووزارة أبي علي بن مقلة
في هذه السنة عزل علي بن عيسى عن وزارة الخليفة ورتب فيها أبو علي بن مقلة.
وكان سبب ذلك أن عليا لما رأى نقص الارتفاع وإختلال الأعمال بوزارة الخاقاني والخصيبي وزيادة النفقات وأن الجند لما عادوا من الأنبار زادهم المقتدر في أرزاقهم مائتي ألف وأربعين دينار في السنة ورأى أيضا كثرة النفقات للخدم والحرم لا سيما والدة المقتدر هاله ذلك وعظم عليه.
ثم أنه رأى نصرا الحاجب يقصده وينحرف عنه لميل مؤنس إليه فإن نصرا كان يخالف مؤنسا في جميع ما يشير به فلما تبين له ذلك استعفى من الوزارة واحتج بالشيخوخة وقلة النهضة فأمره المقتدر بالصبر وقال له أنت عندي بمنزلة والدي المعتضد فألح عليه في الاستعفاء فشاور مؤنسا في ذلك وأعلمه أن قد سمى للوزارة ثلاثة نفر الفضل بن جعفر بن الفرات الذي أمه حيرانة وأخته زوجة المحسن بن الفرات وأبو علي بن مقلة ومحمد بن خلف النيرماني الذي كان وزير ابن أبي الساج فقال مؤنس أما الفضل فقد قتلنا عمه الوزير أبا الحسن وابن عمه زوج أخته المحسن ابن الوزير وصادرنا أخته فلا نأمنه وأما ابن مقله فحدث غر لا تجربة له بالوزارة ولا يصلح لها وأما محمد بن خلف فجاهل متهور لا يحسن شيئا والصواب مداراة علي بن عيسى.
ثم لقي مؤنس علي بن عيسى وسكنه فقال علي ولو كنت مقيما
183

لاستعنت بك، ولكنك سائر إلى الرقة ثم إلى الشام.
وبلغ الخبر أبا علي بن مقلة فجد في السعي وضمن على نفسه الضمانات وشاور المقتدر نصرا الحاجب في هؤلاء الثلاثة فقال أما الفضل بن الفرات فلا يدفع عن صناعة
الكتابة والمعرفة والكفاية ولكنك بالأمس قتلت عمه وابن عمه وصهره وصادرت أخته وأمه ثم ان بني الفرات يدينون بالرفض ويعرفون بولاء آل علي وأما أبو علي بن مقلة فلا هيبة له في قلوب الناس ولا يرجع إلى كفاية ولا تجربة وأشار بمحمد بن خلف لمودة كانت بينهما فنفر المقتدر من محمد بن خلف لما علمه من جهله وتهوره وواصل ابن مقلة بالهدية إلى نصر الحاجب فأشار على المقتدر به فاستوزره.
وكان ابن مقلة لما قرب الهجري من الأنبار قد أنفذ صاحبا له معه خمسون طائرا وأمره بالمقام بالأنبار وارسال الأخبار إليه وقتا بوقت ففعل ذلك فكانت الأخبار ترد من جهته إلى الخليفة على يد نصر الحاجب فقال نصر هذا فعله فيما لا يلزمه فكيف يكون إذا اصطنعته فكان ذلك من أقوى الأسباب في وزارته.
وتقدم المقتدر في منتصف ربيع الأول بالقبض على الوزير علي بن عيسى وأخيه عبد الرحمن وخلع على أبي علي بن مقلة وتولى الوزارة وأعانه عليها أبو عبد الله البريدي لمودة كانت بينهما.
184

ذكر ابتداء حال أبي عبد الله البريدي واخوته
لما ولي علي بن عيسى الوزارة كان أبو عبد الله بن البريدي قد ضمن الخاصة وكان أخوه أبو يوسف علي سرق فلما استعمل علي بن عيسى العمال ورتبهم في الأعمال قال أبو عبد الله تقلد مثل هؤلاء على هذه الأعمال الجليلة وتقتصر بي على ضمان الخاصة بالأهواز وبأخي يوسف علي سرق لعن الله من يقنع بهذا منك فإن لطلبي صوتا سوف يسمع بعد أيام.
فلما بلغه اضطراب أمر علي بن عيسى ارسل أخاه أبا الحسين إلى بغداد وأمره أن يخطب له أعمال الأهواز وما يجرى معها إذا تجددت وزارة لمن يأخذ الرشا ويرتفق فلما وزر أبو علي بن مقلة بذل له عشرين ألف دينار على ذلك فقلد أبا عبد الله الأهواز جميعها سوى السوس وجند يسابور وقلد أخاه أبا الحسين الفراتية وقلد أخاهما أبا يوسف الخاصة والأسافل على أن يكون المال في ذمة أبي أيوب السمسار إلى أن يتصرفوا في الأعمال.
وكتب أبو علي بن مقلة إلى أبي عبد الله في القبض على ابن أبي السلاسل فسار بنفسه فقبض عليه بتستر واخذ منه عشرة آلاف دينار ولم يوصلها وكان متهورا لا يفكر في عاقبة أمر وسيرد من أخباره ما يعلم به دهاؤه،
185

ومكره وقلة دينه وتهوره.
ثم إن أبا علي بن مقلة جعل أبا محمد الحسين بن أحمد الماذرائي مشرفا على أبي عبد الله فلم يلتفت إليه.
(البريدي بالباء الموحدة والراء المهملة منسوب إلى البريد هكذا ذكره الأمير ابن ماكولا وقد ذكره ابن مسكويه بالباء المعجمة باثنتين من تحت والزاي وقال كان جده يخدم يزيد بن منصور الحميري فنسب إليه والأول أصح وما ذكرنا قول ابن مسكويه إلا حتى لا يظن ظان أننا لم نقف عليه وأخطأنا الصواب).
ذكر من ظهر بسواد العراق من القرامطة
لما كان من أمر أبي طاهر القرمطي ما ذكرناه واجتمع من كان بالسواد ممن يعتقد مذهب القرامطة فيكتم اعتقاده خوفا فأظهروا اعتقادهم فاجتمع منهم بسواد واسط أكثر من عشرة آلاف رجل وولوا أمرهم رجلا يعرف بحريث بن مسعود واجتمع طائفة أخرى بعين التمر ونواحيها في جمع كثير وولوا أمرهم إنسانا يسمى عيسى بن موسى وكانوا يدعون إلى المهدي.
وسار عيسى إلى الكوفة ونزل بظاهرها وجبى الخراج وصرف العمال عن السواد.
186

وسار حريث بن مسعود إلى أعمال الموفقي وبنى بها دارا سماها دار الهجرة واستولى على تلك الناحية فكانوا ينهبون ويسبون ويقتلون وكان يتقلد الحرب بواسط بني بن نفيس فقاتلهم فهزموه فسير المقتدر بالله إلى حريث بن مسعود ومن معه هارون بن غريب وإلى عيسى بن موسى ومن معه بالكوفة صافيا البصري فأوقع بهم هارون وأوقع صافي بمن سار إليهم فانهزمت القرامطة وأسر منهم كثير وقتل أكثر ممن أسر واخذت أعلامهم وكانت بيضاء وعليها مكتوب: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين) فأدخلت بغداد منكوسة واضمحل أمر من بالسواد منهم وكفى الله الناس شرهم.
ذكر الحرب بين نازوك وهارون بن غريب
وفيها وقعت الفتنة بين نازوك صاحب الشرطة وهارون بن غريب.
وسبب ذلك أن ساسة دواب هارون بن غريب وساسة نازوك تغايروا على غلام أمرد وتضاربوا بالعصي فحبس نازوك ساسة دواب
187

هارون، بعد أن ضربهم، فسار أصحاب هارون إلى محبس الشرطة ووثبوا على نائب نازوك به وانتزعوا أصحابه من الحبس فركب نازوك وشكى إلى المقتدر فقال كلاكما عزيز علي ولست أدخل بينكما فعاد وجمع رجاله وجمع هارون رجاله وزحف أصحاب نازوك إلى دار هارون فأغلق بابه وبقي بعض أصحابه خارج الدار فقتل منهم أصحاب نازوك وجرحوا ففتح هارون الباب وخرج أصحابه فوضعوا السلاح في أصحاب نازوك فقتلوا منهم وجرحوا واشتبكت الحرب بينهم فكف نازوك أصحابه.
وأرسل الخليفة إليهما ينكر عليهما ذلك فكفا وسكنت الفتنة واستوحش نازوك واستدل بذلك على تغير المقتدر ثم ركب إليه هارون وصالحه وخرج هارون بأصحابه ونزل بالبستان النجمي ليبعد عن نازوك فأكثر الناس الأراجيف وقالوا: قد صار هارون أمير الأمراء فعظم ذلك على أصحاب مؤنس وكتبوا إليه بذلك وهو بالرقة فاسرع العود إلى بغداد فنزل بالشماسية في أعلى بغداد ولم يلق المقتدر فصعد إليه الأمير أبو العباس بن المقتدر والوزير ابن مقلة فأبلغاه سلام المقتدر واستيحاشه له وعادا واستشعر كل واحد من المقتدر ومؤنس من صاحبه وأحضر المقتدر هارون بن غريب وهو ابن خاله فجعله معه في داره فلما علم مؤنس بذلك ازداد نفورا واستيحاشا وأقبل أبو الهيجاء
بن حمدان من بلاد الجبل فنزل عند مؤنس ومعه عسكر كبير وصارت المراسلات بين الخليفة ومؤنس تتردد والأمراء يخرجون إلى مؤنس وانقضت السنة وهم على ذلك.
188

ذكر قتل الحسن بن القاسم الداعي
في هذه السنة قتل الحسن بن القاسم الداعي العلوي وقد ذكرنا استيلاء أسفار شيرويه الديلمي على طبرستان ومعه مرداويج فلما استولوا عليها كان الحسن بن القاسم بالري واستولى عليها وأخرج منها أصحاب السعيد نصر بن أحمد واستولى على قزوين وزنجان وأبهر وقم وكان معه ما كان بن كالي الديلمي فسار نحو طبرستان والتقوا هم وأسفار عند سارية فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزم الحسن وما كان بن كالي فلحق الحسن فقتل وكان انهزام معظم أصحاب الحسن على تعمد منهم للهزيمة.
وسبب ذلك انه كان يأمر أصحابه الإستقامة ومنعهم عن ظلم الرعية وشرب الخمور وكانوا يبغضونه لذلك ثم اتفقوا على أن يستقدموا هروسندان وهو أحد رؤساء الجبل وكان خال مرداويج ووشمكير ليقدموه عليهم ويقبضوا الحسن الداعي وينصبوا أبا الحسين بن الأطروش ويخطبوا له.
وكان هروسندان مع أحمد الطويل بالدامغان بعد موت صعلوك فوقف أحمد على ذلك فكتب إلى الحسن الداعي يعلمه فأخذ حذره فلما قدم هروسندان لقيه مع القواد وأخذهم إلى قصره بجرجان ليأكلوا طعاما ولم يعلموا أنه قد اطلع على ما عزموا عليه وكان قد وافق خواص أصحابه على
189

قتلهم، وأمرهم بمنع أصحاب أولئك القواد من الدخول فلما دخلوا داره قابلهم على ما يريدون [أن] يفعلوه، وما أقدموا عليه من المنكرات التي أحلت له دماءهم ثم أمر بقتلهم عن آخرهم وأخبر أصحابه الذين ببابه بقتلهم وأمرهم بنهب أموالهم فاشتغلوا بالنهب وتركوا أصحابهم وعظم قتلهم على أقربائهم ونفروا عنه فلما كانت هذه الحادثة تخلوا عنه حتى قتل.
ولما قتل استولى أسفار على بلاد طبرستان والري وجرجان وقزوين وزنجان وأبهر وقم والكرخ ودعا لصاحب خراسان وهو السعيد نصر بن أحمد وأقام بسارية واستعمل على آمل هارون بن بهرام وكان هارون يحتاج [أن] يخطب فيها لأبي جعفر العلوي وخاف أسفار ناحية أبي جعفر أن يجدد له فتنة وحربا فاستدعى هارون إليه وأمره أن يتزوج إلى أحد أعيان آمل ويحضر عرسه أبا جعفر وغيره من رؤساء العلويين ففعل ذلك في يوم ذكره أسفار، ثم سار أسفار من سارية مجدا فوافى آمل وقت الموعد، وهجم [على] دار هارون على حين غفلة وقبض على أبي جعفر وغيره من أعيان العلويين وحملهم إلى بخارى فاعتقلوا بها إلى أن خلصوا أيام فتنة أبي زكريا على ما نذكره.
ولما فرغ أسفار من أمر طبرستان سار إلى الري وبها ما كان بن كالي فأخذها منه واستولى عليها وسار ما كان إلى طبرستان فأقام هناك.
وأحب أسفار أن يستولي على قلعة الموت وهي قلعة على جبل شاهق من
190

حدود الديلم وكانت لسياه جشم بن مالك الديلمي ومعناه الأسود العين لأنه كان على إحدى عينيه شامة سوداء فراسله أسفار وهنأه فقدم عليه فسأله أن يجعل عياله في قلعة الموت وولاه قزوين فأجابه إلى ذلمك فنقلهم إليها ثم كان يرسل إليهم من يثق به من أصحابه فلما حصل فيها مائة رجل استدعاه من قزوين فلما حضر عنده قبض عليه وقتله بعد أيام.
وكان أسفار لما اجتاز بسمنان استأمن إليه ابن أمير كان صاحب جبل دنباوند وامتنع محمد بن جعفر السمناني من النزول إليه وامتنع بحصن بقرية رأس الكلب فحقدها عليه أسفار فلما استولى على الري أنفذ عليه جيشا يحصرونه وعليهم إنسان يقال له عبد الملك الديلمي فحصروه ولم يمكنهم الوصول إليه فوضع عليه عبد الملك من يشير عليه بمصالحته ففعل وأجابه عبد الملك إلى المسالة ثم وضع عليه من يحسن له أن يضيف عبد الملك فأضافه فحضر في جماعة من شجعان أصحابه فتركهم تحت الحصن وصعد وحده إلى محمد بن جعفر فتحادثا ساعة ثم استخلاه عبد الملك ليشير إليه شيئا ففعل ذلك ولم يبق عندهما أحد غير غلام صغير فوثب عليه عبد الملك فقتله وكان محمد منقرسا زمنا وأخرج حبل إبريسم كان قد أعده فشده في نافذة في تلك الغرفة ونزل وتخلص.
191

واستغاث ذلك الغلام فجاء أصحاب محمد بن جعفر وكسروا الباب وكان عبد الملك قد أغلقه فلما دخلوا رأوه مقتولا فقتلوا به كل من عندهم من الديلم وحفظوا نفوسهم.
وعظمت جيوش أسفار وجل قدره فتجبر وعصا على الأمير السعيد صاحب خراسان وأراد ان يجعل على رأسه تاجا وينصب بالري سرير ذهب للسلطة ويحارب الخليفة وصاحب خراسان فسير المقتدر إليه هارون بن غريب في عسكر نحو قزوين فحاربه أصحاب أسفار بها فانهزم هارون وقتل من أصحابه جمع كثير بباب قزوين وكان أهل قزوين قد ساعدوا أصحاب هارون فحقدها عليهم أسفار.
ثم إن الأمير السعيد صاحب خراسان سار من بخارى قاصدا نحو أسفار ليأخذ بلاده فبلغ نيسابور فجمع أسفار عسكره وأشار على أسفار وزيره مطرف بن محمد الجرجاني بمراسلة صاحب خراسان والدخول في طاعته وبذل المال له فإن أجاب وإلا فالحرب بين يديه.
وكان في عسكره جماعة من أتراك صاحب خراسان قد ساروا معه فخوفه وزير منهم فرجع إلى رأيه وراسله فأبى أن يجيبه إلى ذلك وعزم على المسير اليه فأشار عليه أصحابه أن يقبل الأموال وإقامة الخطبة له وخوفوه الحرب وأنه لا يدري لمن النصر فرجع إلى قولهم وأجاب أسفار إلى ما طلب وشرط عليه شروطا من حمل الأموال وغير ذلك واتفقا فشرع أسفار بعد اتمام الصلح وقسط على الري وأعمالها على كل رجل دينارا سواء كان من أهل البلاد أم من المجتازين فحصل له مال عظيم ارضى صاحب خراسان ببعضه ورجع عنه.
192

فعظم أمر أسفار خلاف ما كان وزاد تجبره وقصد قزوين لما في نفسه على أهلها فأوقع بهم وقعة عظيمة أخذ فيها أموالهم وعذبهم وقتل كثيرا منهم وعسفهم عسفا شديدا
وسلط الديلم عليهم فضاقت الأرض عليهم وبلغت القلوب الحناجر وسمع مؤذن الجامع يؤذن فأمر به فألقي من المنارة إلى الأرض فاستغاث الناس من شره وظلمه وخرج أهل قزوين إلى الصحراء الرجال والنساء والولدان يتضرعون ويدعون عليه ويسألون الله كشف ما هم فيه فبلغه ذلك فضحك منهم وشتمهم استهزاء بالدعاء فلما كان الغد انهزم على ما نذكره.
ذكر قتل أسفار
كان في أصحاب أسفار قائد من أكبر قواده يقال له مرداويج بن زيار الديلمي فأرسله إلى سلار صاحب شميران الطرم يدعوه إلى طاعته وهذا سلار هو الذي صار ولده فيما بعد صاحب آذربيجان وغيرها فلما وصل مرداويج إليه تشاكيا ما كان الناس فيه من الجهد والبلاء فتحالفا وتعاقدا على قصده والتساعد على حربه.
وكان أسفار قد وصل إلى قزوين وهو ينتظر وصول مرداويج بجوابه فكتب مرداويج إلى جماعة من القواد يثق بهم ويعرفهم ما اتفق هو وسلار عليه فأجابوه إلى ذلك وكان الجند قد سئموا أسفار لسوء سيرته وظلمه وجوره وكان في جملة من أجاب إلى مساعدة مرداويج مطرف بن محمد،
193

وزير أسفار وسار مرداويج وسلار وأسفار وبلغه الخبر وأن أصحابه قد بايعوا مرداويج فأحس بالشر وكان ذلك عقيب حادثته مع أهل قزوين ودعائهم وثار الجند بأسفار فهرب منهم في جماعة من غلمانه وورد الري فأراد أن يأخذ من مال كان عند نائبه بها شيئا فلم يعطه غير خمسة آلاف دينار وقال له أنت أمير ولا يعوزك مال فتركه وانصرف إلى خراسان فأقام بناحية بيهق.
واما مرداويج فإنه عاد من قزوين نحو الري وكتب إلى ما كان بن كالي وهو بطبرستان يستدعيه ليتساعدا ويتعاضدا فسرى ما كان بن كالي إلى أسفار وكان قد عسف أهل الناحية التي هو بها فلما أحس بما كان سار إلى بست وركب المفازة نحو الري ليقصد قلعة الموت التي بها أهله وأمواله فانقطع عنه بعض أصحابه وقصد مرداوج فأعمله خبره فخرج مرداويج من ساعته في أثره وقدم بعض قواده بين يديه فلحقه ذلك القائد وقد نزل يستريح فسلم عليه بالأمرة فقال له أسفار لعلكم اتصل بكم خبري وبعثت في طلبي قال نعم فبكى أصحابه فأنكر عليهم أسفار ذلك وقال بمثل هذه القلوب تتجندون أما علمتم أن الولايات مقرونة بالبليات؟
ثم أقبل على ذلك القائد وهو يضحك وسأله عن قواده الذي أسلموا
194

وخذلوه فأخبره أن مرداويج قتلهم فتهلل وجهه وقال كانت حياة هؤلاء غصة في حلقي وقد طابت الآن نفسي فامض فيما أمرت به وظن أنه أمر بقتله فقال ما أمرت فيك بسوء وحمله إلى مرداويج فسلمه إلى جماعة أصحابه ليحمله إلى الري فقال له بعض أصحابه ان أكثر من معك كانوا أصحاب هذا فانحرفوا عنه إليك وقد أوحشت أكثرهم بقتل قوادهم فما يؤمنك أن يرجعوا إليه غدا ويقبضوا عليك فحينئذ أمر بقتله وانصرف إلى الري.
وقيل في قتله: أنه لما عاد نحو قلعة الموت نزل في واد هناك يستريح فاتفق أن مرداويج خرج يتصيد ويسأل عن أخباره فرأى خيلا يسيرة في واد هناك فأرسل بعض أصحابه ليأخذ خبرها فرأوا أسفار بن شيرويه في عدة يسيرة من أصحابه يريد الحصن ليأخذ ماله فيه ويستعين به على جمع الجيوش ويعود إلى محاربة مرداويج فأخذوه ومن معه وحملوه إلى مرداويج فلما رآه نزل إليه فذبحه.
واستقر أمر مرداويج في البلاد وعاد إلى قزوين بعد قتل أسفار فأحسن إلى أهلها ووعدهم الجميل.
وقيل بل دخل أسفار إلى رحا وقد نال منه الجوع فطلب من الطحان شيئا يأكله فقدم له خبزا ولبنا فأكل منه هو وغلام له ليس معه غيره،
195

فأقبل مرداويج إلى تلك الناحية فأشرف على الرحا فرأى اثر حوافر الدواب فسأل عنها فقيل له قد دخل فارسان إلى هذه الرحا فكبس مرداويج الرحا فرآه وقتله.
ذكر ملك مرداويج
ولما انهزم أسفار من مرداويج ابتدأ في ملك البلاد ثم إنه ظفر بأسفار فقتله فتمكن ملكه وثبت وتنقل في البلاد يملكها مدينة مدينة وولاية ولاية فملك قزوين ووعدهم الجميل فأحبوه ثم سار إلى الري فملكها وملك همذان وكنكور والدينور ويزدجرد وقم وقاشان وأصبهان وجرباذقان وغيرها.
ثم إنه أساء السيرة في أهل أصبهان خاصة وأخذ الأموال وهتك المحارم وطغى وعمل له سريرا من ذهب يجلس عليه وسريرا من فضة يجلس عليه أكابر قواده وإذا جلس على السرير يقف عسكره صفوفا بالبعد منه ولا يخاطبه أحد إلا الحجاب الذين رتبهم لذلك وخافه الناس خوفا شديدا.
196

ذكر ملك مرداويج طبرستان
قد ذكرنا اتفاق ما كان بن كالي مع مرداويج ومساعدته على أسفار فلما استقر ملك مرداويج وقوي أمره وكثرت أمواله وعساكره وطمع في جرجان وطبرستان وكانتا مع ما كان بن كالي فجمع عساكره وسار إلى طبرستان فثبت له ما كان فاستظهر عليه مرداويج واستولى على طبرستان ورتب فيها بلقاسم بن بانجين وهو اسفهسلار عسكره وكان حازما شجاعا جيد الرأي.
ثم سار مرداويج نحو جرجان وكان بها من قبل ما كان شيرزيل بن سلار وأبو علي بن تركي فهربا من مرداويج وملكها مرداويج ورتب سرخاب بن باوس خال ولد بلقاسم بن بانجين خليفة عن بلقاسم فجمع لبلقسم جرجان وطبرستان وعاد مرداويج إلى أصبهان ظافرا غانما.
وسار ما كان إلى الديلم واستنجد أبا الفضل الثائر بها فأكرمه وسار معه إلى طبرستان فلقيهما بلقسم وتحاربوا فانهزم ما كان والثائر فأما
197

الثائر فقصد الديلم وأما ما كان فسار إلى نيسابور فدخل في طاعة السعيد نصر واستنجده فأمده بأكثر جيشه وبالغ في تقويته ووصل إليه ما كان وأبو علي فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزم أبو علي وما كان وعادا إلى نيسابور ثم عاد ما كان بن كالي إلى الدامغان ليتملكها فسار نحوه بلقسم فصده عنها فعاد إلى خراسان وسنذكر باقي أخبار ما كان
فيما بعد.
ذكر عدة حوادث
فيها كان ابتداء أمر أبي يزيد الخارجي بالمغرب وسنذكر أمره سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة مستقصى.
وفيها ظهر بسجستان خارجي وسار في جمع إلى بلاد فارس يريد التغلب عليها فقتله أصحابه قبل الوصول إليها وتفرقوا.
وفيها صرف أحمد بن نصر العشوري عن حجبة الخليفة وقلدها ياقوت وكان يتولى الحرب بفارس وهو بها فاستخلف على الحجبة ابنه أبا الفتح المظفر.
وفيها وصل الدمستق في جيش كثير من الروم إلى أرمينية فحصروا خلاط فصالحه أهلها ورحل عنهم بعد أن أخرج المنبر من الجامع وجعل مكانه صليبا وفعل ببدليس كذلك وخافه أهل أرزن
198

وغيرهم ففارقوا بلادهم وانحدر أعيانهم إلى بغداد واستغاثوا إلى الخليفة فلم يغاثوا.
وفيها وصل سبعمائة رجل من الروم والأرمن إلى ملطية ومعهم الفؤوس والمعاول وأظهروا أنهم يتكسبون بالعمل ثم ظهر أن مليحا الأرمني صاحب الدروب وضعهم ليكونوا بها فإذا حصرها سلموها إليه فعلم بهم أهل ملطية فقتلوهم وأخذوا ما معهم.
وفيها في منتصف ربيع الأول قلد مؤنس المؤنسي الموصل وأعمالها.
وفيها مات أبو بكر بن أبي داود السجستاني وأبو عوانة يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الأسفرايني وله مسند مخرج على صحيح مسلم.
وفيها أبو بكر محمد بن السري النحوي المعروف بابن السراج صاحب كتاب الأصول في النحو.
199

317
ثم دخلت سنة سبع عشرة وثلاثمائة
ذكر خلع المقتدر
في هذه السنة خلع المقتدر بالله من الخلافة وبويع أخوه القاهر بالله محمد بن المعتضد فبقي يومين ثم أعيد المقتدر.
وكان سبب ذلك ما ذكرنا في السنة التي قبلها من استيحاش مؤنس ونزوله بالشماسية وخرج إليه نازوك صاحب الشرطة في عسكره وحضر عنده أبو الهيجاء بن حمدان في عسكره من بلد الجبل وبني بن نفيس وكان المقتدر قد أخذ منه الدينور فأعادها إليه مؤنس عند مجيئه إليه.
وجمع المقتدر عنده في داره هارون بن غريب وأحمد بن كيغلغ والغلمان الحجرية والرجلة المصافية وغيرهم فلما كان آخر النهار ذلك اليوم انفض أكثر من عند المقتدر وخرجوا إلى مؤنس وكان ذلك أوائل المحرم.
ثم كتب مؤنس إلى المقتدر رقعة يذكر فيها أن الجيش عاتب منكر للسرف فيما يطلق باسم الخدم والحرم من الأموال والضياع ولدخولهم في الرأي وتدبير المملكة ويطالبون بإخراجهم من الدار وأخذ ما في أيديهم من الأموال والأملاك وإخراج هارون بن غريب من الدار.
200

فأجابه المقتدر أنه يفعل من ذلك ما يمكنه فعله ويقتصر على ما لا بد له منه واستعطفهم وذكرهم بيعته في أعناقهم مرة بعد أخرى وخوفهم عاقبة النكث وأمر هارون بالخروج من بغداد وأقطعه الثغور الشامية والجزرية وخرج من بغداد تاسع المحرم من هذه السنة وراسلهم المقتدر وذكرهم نعمه عليهم وإحسانه إليهم وحذرهم كفر إحسانه والسعي في الشر والفتنة.
فلما أجابهم إلى ذلك دخل مؤنس وابن حمدان ونازوك إلى بغداد وأرجف الناس بأن مؤنسا ومن معه قد عزموا على خلع المقتدر وتولية غيره فلما كان الثاني عشر من المحرم خرج مؤنس والجيش إلى باب الشماسية فتشاوروا ساعة ثم رجعوا إلى دار الخليفة بأسرهم فلما زحفوا إليها وقربوا منها هرب المظفر بن ياقوت وسائر الحجاب والخدم وغيرهم والفراشون وكل من في الدار؛ وكان الوزير أبو علي بن مقلة حاضرا فهرب ودخل مؤنس والجيش دار الخليفة وأخرج المقتدر ووالدته وخالته وخواص جواريه وأولاده من دار الخلافة وحملوا إلى دار مؤنس فاعتقلوا بها.
وبلغ الخبر هارون بن غريب وهو بقطربل فدخل بغداد واستتر ومضى ابن حمدان إلى دار ابن طاهر فأحضر محمد بن المعتضد وبايعوه بالخلافة ولقبوه القامر بالله وأحضروا القاضي أبا عمر عند المقتدر ليشهد عليه بالخلع وعنده مؤنس ونازوك وابن حمدان وبني بن نفيس
201

فقال مؤنس للمقتدر ليخلع نفسه من الخلافة فأشهد عليه القاضي بالخلع فقام ابن حمدان وقال للمقتدر يا سيدي يعز علي أن أراك على هذه الحال وقد كنت أخافها عليك وأحذرها وانصح لك وأحذرك عاقبة القبول من الخدم والنساء فتؤثر أقوالهم على قولي وكأني كنت أرى هذا وبعد فنحن عبيدك وخدمك.
ودمعت عيناه وعينا المقتدر وشهد الجماعة على المقتدر بالخلع وأودعوا الكتاب بذلك عند القاضي أبي عمر فكتمه ولم يظهر عليه أحدا فلما عاد المقتدر إلى الخلافة سلمه إليه وأعلمه أنه لم يطلع عليه غيره فاستحسن ذلك منه وولاه قضاء القضاة.
ولما استقر الأمر للقاهر أخرج مؤنس المظفر علي بن عيسى من الحبس ورتب أبا علي ابن ملقة في الوازرة وأضاف إلى نازوك مع الشرطة حجبة الخليفة وكتب إلى البلاد بذلك وأقطع ابن حمدان مضافا إلى ما بيده من أعمال طريق خراسان وحلوان والدينور وهمذان وكنكور وكرمان وشاهان والراذنات ودقوقا وخانيجار ونهاوند والصميرة والسيروان وماسبذان وغيرها ونهبت دار الخليفة ومضى بني بن نفيس إلى تربة لوالدة المقتدر فأخرج من قبر فيها ستمائة ألف دينار وحملها إلى دار الخليفة.
وكان خلع المقتدر للنصف من المحرم ثم سكن النهب وانقطعت الفتنة ولما تقلد نازوك حجبة الخليفة أمر الرجالة المصافية بقلع خيامهم من دار الخليفة وأمر رجاله وأصحابه أن يقيموا بمكان المصافية فعظم ذلك عليهم وتقدم
202

إلى خلفاء الحجاب ألا يمكن أحدا يدخل إلى دار الخليفة إلا من له مرتبة فاضطربت الحجبة من ذلك.
ذكر عود المقتدر إلى الخلافة
لما كان يوم الاثنين سابع عشر المحرم بكر الناس إلى دار الخليفة لأنه يوم موكب دولة جديدة فامتلأت الممرات والمراحات والرحاب وشاطئ دجلة من الناس وحضر الرجالة المصافية في السلاح الشاك يطالبون بحق البيعة ورزق سنة وهم حنقون بما فعل بهم نازوك ولم يحضر مؤنس المظفر ذلك اليوم.
وارتفعت زعقات الرجالة فسمع بها نازوك فاشفق أن يجري بينهم وبين أصحابه فتنة وقتال وتقدم إلى أصحابه وأمرهم أن لا يعرضوا لهم ولا يقاتلوهم وزاد شغب الرجالة وهجموا يريدون الصحن التسعيني فلم يمنعهم أصحاب نازوك ودخل من كان على الشط بالسلاح وقربت زعقاتهم من مجلس القاهر بالله وعنده أبو علي بن مقلة الوزير ونازوك وأبو الهيجاء بن حمدان فقال القاهر لنازوك أخرج إليهم فسكنهم،
203

وطيب قلوبهم! فخرج إليهم نازوك وهو مخمور قد شرب طول ليلته فلما رآه الرجالة تقدموا إليه ليشكوا حالهم إليه في معنى أرزاقهم فلما رآهم بأيديهم السيوف يقصدونه خافهم على نفسه فهرب فطمعوا فيه فتبعوه فانتهى به الهرب إلى باب كان هو سده أمس فأدركوه عنده فقتلوه عند ذلك الباب وقتلوا قبله خادما عجيبا وصاحوا يا مقتدر يا منصور فهرب كل من كان في الدار من الوزير والحجاب وسائر الطبقات وبقيت الدار فارغة وصلبوا نازوك وعجيبا بحيث يراهما من على شاطئ دجلة.
ثم صار الرجالة إلى دار مؤنس يصيحون ويطالبونه بالمقتدر وبادر الخدم فأغلقوا أبواب دار الخليفة وكانوا جميعهم خدم المقتدر ومماليكه وصنائعه وأراد أبو الهيجاء بن حمدان أن يخرج من الدار فتعلق به القاهر وقال انا في ذمامك فقال والله لا أسلمك أبدا وأخذ بيد القاهر وقال قم بنا نخرج جميعا وأدعو أصحابي وعشيرتي فيقاتلون معك ودونك.
فقاما ليخرجا، فوجدا الأبواب مغلقة فتبعهما فائق وجه القصعة يمشي معهما فأشرف القاهر من سطح فرأى كثرة الجمع فنزل هو وابن حمدان وفائق فقال ابن حمدان للقاهر قف حتى أعود إليك ونزع سواده وثيابه واخذ جبة صوف لغلام هناك فلبسها ومشى نحو باب النوبي فرآه مغلقا والناس من ورائه فعاد إلى القاهر وتأخر عنهما وجه القصعة ومن معه من الخدم فأمرهم وجه القصعة بقتلهما أخذا بثار المقتدر وما صنعاه به فعاد إليهما عشرة من الخدم بالسلاح فعاد إليهم أبو الهيجاء وسيفه بيده ونزع الجبة الصوف وأخذها بيده الأخرى وحمل عليهم
204

فانجفلوا بين يديه وغشيهم فرموه بالنشاب ضرورة فعاد عنهم وانفرد عنه القاهر ومشى إلى آخر البستان فاختفى فيه.
ودخل أبو الهيجاء إلى بيت من ساج وتقدم الخدم إلى ذلك البيت فخرج إليهم أبو الهيجاء فولوا هاربين ودخل إليهم بعض أكابر الغلمان الحجرية ومعه سودان بسلاح فقصدوا أبا الهيجاء فخرج إليهم فرمي بالسهام فسقط فقصده بعضهم فضربه بالسيف فقطع يده اليمنى وأخذ رأسه فحمله بعضهم ومشى وهو معه.
وأما الرجالة فإنهم لما انتهوا إلى دار مؤنس وسمع زعقاتهم قال ما الذي تريدون فقيل له نريد المقتدر فامر بتسليمه إليهم فلما قيل للمقتدر ليخرج خاف على نفسه أن تكون حيلة عليه فامتنع وحمل واخرج إليهم فحمله الرجالة على رقابهم حتى أدخلوه دار الخلافة فلما حصل في الصحن التسعيني اطمأن وقعد فسأل عن أخيه القاهر وعن ابن حمدان فقيل هما أحياء فكتب لهما أمانا بخطه وأمر خادما بالسرعة بكتاب الأمان لئلا يحدث على أبي الهيجاء حادث فمضى بالخط إليه فلقيه الخادم الآخر ومعه رأسه فعاد معه فلما رآه المقتدر وأخبره بقتله قال إنا لله وإنا إليه راجعون من قتله فقال الخدم ما نعرف قاتله وعظم عليه قتله وقال ما كان يدخل علي ويسليني ويظهر لي الغم هذه الأيام غيره.
205

ثم أخذ القاهر وأحضر عند المقتدر فاستدناه فأجلسه عنده وقبل جبينه وقال له يا أخي قد علمت أنه لا ذنب لك وأنك قهرت ولو لقبوك بالمقهور لكان أولى من القاهر والقاهر يبكي ويقول يا أمير المؤمنين نفسي نفسي أذكر الرحم التي بيني وبينك فقال له المقتدر وحق رسول الله لا جرى عليك سوء مني أبدا ولا وصل أحد إلى مكروهك وأنا حي فشكر وأخرج رأس نازوك ورأس أبي الهيجاء وشهرا ونودي عليهما هذا جزاء من عصي مولاه.
وأما بني بن نفيس فإنه كان من أشد القوم على المقتدر فأتاه الخبر برجوعه إلى الخلافة فركب جوادا وهرب عن بغداد وغير زيه وسار حتى بلغ الموصل وسار منها إلى أرمينية وسار حتى دخل القسطنطينية وتنصر.
وهرب أبو السرايا نصر بن حمدان أخو أبي الهيجاء إلى الموصل وسكنت الفتنة وأحضر المقتدر أبا علي بن مقلة وأعاده إلى وزارته وكتب إلى البلاد بما تجدد له وأطلق للجند أرزاقهم وزادهم وباع ما في الخزائن من الأمتعة والجواهر وأذن في بيع الأملاك من الناس فبيع ذلك بأرخص الأثمان ليتم أعطيات الجند.
وقد قيل إن مؤنسا المظفر لم يكن مؤثرا لما جرى على المقتدر من الخلع وإنما وافق الجماعة مغلوبا على رأيه ولعلمه أنه إن خالفهم لم ينتفع به المقتدر،
206

ووافقهم ليؤمنوه وسعى مع الغلمان المصافية والحجرية ووضع قوادهم على أن عملوا ما عملوا وأعادوا المقتدر إلى الخلافة وكان هو قد قال للمقتدر لما كان في داره ما تريدون أن نصنع فلهذا أمنه المقتدر ولما حملوه إلى دار الخلافة من دار مؤنس ورأى فيها كثرة الخلق والاختلاف عاد إلى دار مؤنس لثقته به واعتماده عليه ولولا هوى مؤنس مع المقتدر لكان حضر عند القاهر مع الجماعة فإنه لم يكن معهم كما ذكرناه ولكان أيضا قتل المقتدر لما طلب من داره ليعاد إلى الخلافة.
وأما القاهر فإن المقتدر حبسه عند والدته فأحسنت إليه وأكرمته ووسعت عليه النفقة واشترت له السراري والجواري للخدمة وبالغت في إكرامه والإحسان إليه بكل طريق
.
ذكر مسير القرامطة إلى مكة وما فعلوه بأهلها
وبالحجاج وأخذهم الحجر الأسود
حج بالناس في هذه السنة منصور الديلمي وسار بهم من بغداد إلى مكة فسلموا في الطريق فوافاهم أبو طاهر القرمطي بمكة يوم التروية فنهب هو وأصحابه أموال الحجاج وقتلوهم حتى في المسجد الحرام وفي البيت نفسه وقلع الحجر الأسود ونفذه إلى هجر فخرج إليه ابن محلب أمير مكة في جماعة من الأشراف فسألوه في أموالهم فلم يشفعهم فقاتلوه،
207

فقتلهم أجمعين وقلع باب البيت وأصعد رجلا ليقلع الميزاب فسقط فمات وطرح القتلى في بئر زمزم ودفن الباقين في المسجد الحرام حيث قتلوا بغير كفن ولا غسل ولا صلي على أحد منهم وأخذ كسوة البيت فقسمها بين أصحابه ونهب دور أهل مكة فلما بلغ ذلك المهدي أبا محمد عبيد الله العلوي بأفريقية كتب إليه ينكر عليه ذلك ويلومه ويلعنه ويقيم عليه القيامة ويقول قد حققت على شيعتنا ودعاة دولتنا اسم الكفر والإلحاد بما فعلت وان لم ترد على أهل مكة.
وعلى الحجاج وغيرهم ما أخذت منهم وترد الحجر الأسود إلى مكانه وترد كسوة الكعبة فأنا برئ منك في الدنيا والآخرة فلما وصله هذا الكتاب أعاد الحجر الأسود على ما نذكره واستعاد ما أمكنه من الأموال من أهل مكة فرده وقال إن الناس اقتسموا كسوة الكعبة وأموال الحجاج ولا أقدر على منعهم.
ذكر خروج أبى زكريا واخوته بخراسان
في هذه السنة خرج أبو زكريا يحيى وأبو صالح منصور وأبو إسحاق إبراهيم أولاد أحمد بن إسماعيل الساماني على أخيهم السعيد نصر بن أحمد وقيل كان ذلك سنة ثمان عشرة [وثلاثمائة] وهو الصحيح.
208

وكان سبب ذلك أن أخاهم نصرا كان قد حبسهم في القهندز ببخارى ووكل بهم من يحفظهم فتخلصوا منه وكان سبب خلاصهم ان رجلا يعرف بابي بكر الخباز الأصبهاني كان يقول إذا جرى ذكر السعيد نصر بن أحمد إن له مني يوما طويل البلاء والعناء فكان الناس يضحكون منه، فخرج السعيد إلى نيسابور واستخلف ببخارى أبا العباس الكوسج وكانت وظيفة اخوته تحمل إليهم من عند هذا أبي بكر الخباز وهم في السجن فسعى لهم أبو بكر مع جماعة من أهل العسكر ليخرجوهم فأجابوه إلى ذلك وأعلمهم ما سعى لهم فيه.
فلما سار السعيد عن بخارى تواعد هؤلاء للاجتماع بباب القهندز يوم جمعة وكان الرسم أن لا يفتح باب القهندز أيام الجمع إلا بعد العصر فلما كان الخميس دخل أبو بكر الخباز إلى القهندز قبل الجمعة التي اتعدوا الاجتماع فيها بيوم فبات فيه فلما كان الغد وهو الجمعة جاء الخباز إلى باب القهندز وأظهر للبواب زهدا ودينا وأعطاه خمسة دنانير ليفتح له الباب ليخرجه لئلا تفوته الصلاة ففتح له الباب فصاح أبو بكر الخباز ممن وافقه على إخراجهم وكانوا على الباب فأجابوه وقبضوا على البواب ودخلوا وأخرجوا يحيى ومنصورا وإبراهيم بني أحمد بن إسماعيل من الحبس مع جميع من فيه من الديلم والعلويين والعيارين فاجتمعوا واجتمع إليهم من وافقهم من العسكر ورأسهم شروين الجيلي وغيره من
209

القواد ثم إنهم عظمت شوكتهم ونهبوا خزائن السعيد نصر بن أحمد ودوره وقصوره واختص يحيى بن أحمد أبا بكر الخباز وقدمه وقواده وكان السعيد إذ ذاك بنيسابور وكان أبو بكر محمد بن المظفر صاحب جيش خراسان بجرجان فلما خرج يحيى وبلغ خبره السعيد عاد من نيسابور إلى بخارى، وبلغ الخبر إلى محمد بن المظفر فراسل ما كان بن كالي وصاهره وولاه نيسابور وأمره بمنعها ممن يقصدها فسار ما كان إليها وكان السعيد قد سار من نيسابور إلى بخارى وكان يحيى وكل بالنهر أبا بكر الخباز فأخذه السعيد أسيرا وعبر النهر إلى بخارى فبالغ في تعذيب الخباز ثم ألقاه في التنور الذي كان يخبز فيه فاحترق.
وسار يحيى من بخارى إلى سمرقند ثم خرج منها واجتاز بنواحي الصغانيان وبها أبو علي بن أبي بكر محمد بن المظفر وسار يحيى إلى ترمذ فعبر النهر إلى بلخ وبها قراتكين فوافقه قراتكين وخرجا إلى مرو ولما ورد محمد بن المظفر بنيسابور كاتبه يحيى واستماله فأظهر له محمد الميل إليه ووعده المسير نحوه، ثم سار عن نيسابور واستخلف بها ما كان بن كالي وأظهر أنه يريد مرو ثم عدل عن الطريق نحو بوشنج وهراة مسرعا في سيره واستولى عليهما.
وسار محمد عن هراة نحو الصغانيان على طريق غرشتان فبلغ خبره يحيى فسير إلى طريقه عسكرا فلقيهم محمد فهزمهم وسار عن غرشتان واستمد ابنه أبا علي من الصغانيان فأمده بجيش، وسار محمد بن المظفر إلى بلخ وبها منصور بن قراتكين فالتقيا واقتتلا قتالا شديدا،
210

فانهزم منصور إلى الجوزجان، وسار محمد إلى الصغانيان فاجتمع بولده وكتب إلى السعيد بخبره فسره ذلك وولاه بلخ وطخارستان واستقدمه فولاها محمد ابنه على أحمد وأنفذه إليها ولحق محمد بالسعيد فاجتمع به ببلخ رستاق وهو في أثر يحيى وهو بهراة.
وكان يحيى قد سار إلى نيسابور وبها ما ما كان بن كالي فمنعه عنها ونزلوا عليها فلم يظفروا بها وكان مع يحيى محمد بن إلياس فاستأمن إلى ما كان واستأمن منصور وإبراهيم أخو يحيى إلى السعيد نصر فلما قارب السعيد هراة وبها يحيى وقراتكين سارا عن هراة إلى بلخ فاحتال قراتكين ليصرف السعيد عن نفسه فأنفذ يحيى من بلخ إلى بخارى، وأقام هو ببلخ فعطف السعيد إلى بخارى قلما عبر النهر هرب يحيى من بخارى إلى سمرقند ثم عاد من سمرقند ثانيا فلم يعاونه قراتكين فسار إلى نيسابور وبها محمد بن إلياس قد قوى أمره وسار عنها ما كان إلى جرجان ووافقه محمد بن إلياس وخطب له وأقاموا بنيسابور.
وكان السعيد في أثر يحيى لا يمكنه من الاستقرار فلما بلغهم خبر مجيء السعيد إلى نيسابور تفرقوا فخرج ابن إلياس إلى كرمان وأقام بها وخرج قراتكين ومعه يحيى إلى
بست والرخج فأقاما بها ووصل نصر بن أحمد نيسابور في سنة عشرين وثلاثمائة فأنفذ إلى قراتكين
211

وولاه بلخ وبذل الأمان ليحيى فجاء إليه وزالت الفتنة وانقطع الشر وكان قد دام هذه المدة كلها.
وأقام السعيد بنيسابور إلى أن حضر عنده يحيى فأكرمه وأحسن إليه ثم مضى بها لسبيله هو وأخوه أبو صالح منصور فلما رأى أخوهما إبراهيم ذلك هرب من عند السعيد إلى بغداد ثم منها إلى الموصل وسيأتي خبره إن شاء الله تعالى.
وأما قراتكين فإنه مات ببست ونقل إلى اسبيجاب فدفن بها في رباطه المعروف برباط قراتكين، ولم يملك ضيعة قط وكان يقول ينبغي للجندي أن يصحبه كل ما ملك أين سار حتى لا يعتقله شيء.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة منتصف المحرم وقعت فتنة بالموصل بين أصحاب الطعام وبين أهل المربعة والبزازين فظهر أصحاب الطعام عليهم أول النهار فانضم الأساكفة إلى أهل المربعة والبزازين فاستظهروا بهم وقهروا أصحاب الطعام وهزموهم وأحرقوا أسواقهم
وتابعت الفتنة بعد هذه الحادثة واجترأ أهل الشر وتعاقد أصحاب الخلقان والأساكفة على أصحاب الطعام واقتتلوا قتالا شديدا دام بينهم،
212

ثم ظفر أصحاب الطعام فهزموا الأساكفة ومن معهم وأحرقوا سوقهم وقتلوا منهم وركب أمير الموصل وهو الحسن بن عبد الله بن حمدان الذي لقب بعد بناصر الدولة ليسكن الناس فلم يسكنوا ولا كفوا ثم دخل بينهم ناس من العلماء وأهل الدين فأصلحوا بينهم.
وفيها وقعت فتنة عظيمة ببغداد بين أصحاب أبي بكر المروزي الحنبلي وبين غيرهم من العامة ودخل كثير من الجند فيها وسبب ذلك أن أصحاب المروزي قالوا في تفسير قوله تعالى: (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) هو أن الله سبحانه يقعد النبي صلى الله عليه وسلم معه على العرش وقالت الطائفة الأخرى إنما هو الشفاعة فوقعت الفتنة واقتتلوا فقتل بينهم قتلى كثيرة.
وفيها ضعفت الثغور الجزرية عن دفع الروم عنهم منها ملطية وميافارقين وآمد وأرزن وغيرها وعزموا على طاعة ملك الروم والتسليم إليه لعجز الخليفة المقتدر بالله عن نصرهم وأرسلوا إلى بغداد يستأذنون في التسليم ويذكرون عجزهم ويستمدون العساكر لتمنع عنهم فلم يحصلوا على فائدة فعادوا.
وفيها قلد القاضي أبو عمر محمد بن يوسف بن إسحاق بن حماد بن زيد قضاء القضاة.
وفيها قلد ابنا رائق شرطة بغداد مكان نازوك.
213

وفيها مات أحمد بن منيع وكان مولده سنة أربع عشرة ومائتين.
وفيها أقر المقتدر بالله ناصر الدولة الحسن بن أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان على ما بيديه من أعمال قردى وبازبدي وعلى أقطاع أبيه وضياعه.
وفيها قلد نحرير الصغير أعمال الموصل فسار إليها فمات بها في هذه السنة ووليها بعده ناصر الدولة الحسن بن عبد الله بن حمدان في المحرم من سنة ثمان عشرة وثلاثمائة.
وفيها سار حاج العراق إلى مكة على طريق الشام فوصلوا إلى الموصل أول شهر رمضان ثم منها إلى الشام لانقطاع الطريق بسبب القرمطي معه كسوة الكعبة مع ابن عبدوس الجهشياري لأنه كان من أصحاب الوزير.
وفيها في شعبان ظهر بالموصل خارجي يعرف بابن مطر وقصد نصيبين فسار إليه ناصر الدولة بن حمدان فقاتله فأسره وظهره فيه أيضا خارجي اسمه محمد بن صالح بالبوازيج فسار إليه أبو السرايا نصر بن حمدان فأخذه أيضا.
وفيها التقى مفلح الساجي والدمستق فاقتتلوا فانهزم الدمستق ودخل مفلح وراءه إلى بلاد الروم.
وفيها آخر ذي القعدة انقض كوكب عظيم وصار له ضوء عظيم جدا.
وفيها هبت ريح شديدة وحملت رملا أحمر شديد الحمرة، فعم
214

جانبي بغداد وامتلأت منه البيوت والدروب يشبه رمل طريق مكة.
وفيها توفي أبو بكر أحمد بن الحسن بن الفرج بن سقير النحوي وكان عالما بمذهب الكوفيين وله فيها تصانيف.
215

318
ثم دخلت سنة ثمان عشرة وثلاثمائة
ذكر هلاك الرجالة المصافية
في هذه السنة في المحرم هلك الرجالة المصافية وأخرجوا من بغداد بعد ما عظم شرهم وقوي أمرهم وكان سبب ذلك أنهم لما أعادوا المقتدر إلى الخلافة على ما ذكرنا زاد إذلالهم واستطالتهم وصاروا يقولون أشياء لا يحتملها الخلفاء منها أنهم يقولون من أعان ظالم سلطه الله عليه ومن يصعد الحمار إلى السطح يقدر أن يحطه وان لم يفعل المقتدر معنا ما نستحقه قاتلناه بما يستحق إلى غير ذلك.
وكثر شغبهم ومطالبتهم وادخلوا في الأرزاق أولادهم وأهليهم ومعارفهم وأثبتوا أسماءهم فصار لهم في الشهر مائة ألف وثلاثون ألف دينار.
واتفق أن شغب الفرسان في طلب أرزاقهم فقيل لهم إن بيت المال فارغ وقد انصرفت الأموال إلى الرجالة فثار بهم الفرسان فاقتتلوا فقتل من الفرسان جماعة واحتج المقتدر بقتلهم على الرجالة وأمر محمد بن ياقوت فركب وكان قد استعمل على الشرطة فطرد الرجالة عن دار المقتدر ونودي فيهم بخروجهم عن بغداد ومن أقام قبض عليه وحبس وهدمت دور غرمائهم وقبضت أملاكهم وظفر بعد النداء بجماعة منهم
216

فضربهم وحلق لحاهم وشهر بهم.
وهاج السوادن تعصبا للرجالة فركب محمد أيضا في الحجرية وأوقع بهم وأحرق منازلهم فاحترق فيها جماعة كثيرة منهم ومن أولادهم ومن نسائهم فخرجوا إلى واسط واجتمع بها منهم جمع كثير وتغلبوا عليها وطرحوا عامل الخليفة فسار إليهم مؤنس فأوقع بهم وأكثر القتل فيهم فلم تقم لهم بعدها راية.
ذكر عزل ناصر الدولة ابن حمدان عن الوصل وولاية عميه سعيد ونصر
في هذه السنة في ربيع الأول عزل ناصر الدولة الحسن بن عبد الله بن حمدان عن الموصل ووليها عماه سعيد ونصر ابنا حمدان وولي ناصر الدولة ديار ربيعة ونصيبين وسنجار والخابور ورأس عين ومعها من ديار بكر ميافارقين وأرزن ضمن ذلك بمال مبلغه معلوم فسار إليها ووصل سعيد إلى الموصل في ربيع الآخر.
217

ذكر عزل ابن مقلة ووزارة سليمان بن الحسن
وفي هذه السنة عزل الوزير أبو علي محمد بن مقلة من وزارة الخليفة وكان سبب عزله أن المقتدر كان يتهمه بالميل إلى مؤنس المظفر وكان المقتدر مستوحشا من مؤنس ويظهر له الجميل فأتفق أن مؤنسا خرج إلى أوانا وعكبرا فركب ابن مقلة إلى دار المقتدر آخر جمادى الأولى فقبض عليه.
وكان بين محمد بن ياقوت وبين ابن مقلة عدواة فأنفذ إلى داره بعد أن قبض عليه وأحرقها ليلا.
وأراد المقتدر أن يستوزر الحسين بن القاسم بن عبد الله وكان مؤنس قد عاد فأنفذ إلى المقتدر مع علي بن عيسى يسأل أن يعاد ابن مقلة فلم يجبه المقتدر إلى ذلك وأراد قتل ابن مقلة فرده عن ذلك فسأل مؤنس أن لا يستوزر الحسين فتركه واستوزر سليمان بن الحسن منتصف جمادى الأولى وأمر المقتدر بالله علي بن عيسى بالاطلاع على الدواوين وأن لا ينفرد سليمان عنه بشيء وصودر أبو علي بن مقلة بمائتي ألف دينار وكان مدة وزارته سنتين وأربعة أشهر وثلاثة أيام.
218

ذكر القبض على أولاد البريدي
كان أولاد البريدي وهم أبو عبد الله بن يوسف وأبو الحسين قد ضمنوا الأهواز كما تقدم فلما عزل الوزير ابن مقلة كتب المقتدر بخط يده إلى أحمد بن نصر القشوري الحاجب يأمره بالقبض عليهم ففعل وأودعهم عنده في داره ففي بعض الأيام سمع ضجة عظيمة وأصواتا ماثلة فسأل ما الخبر فقيل إن الوزير قد كتب بإطلاق بني البريدي وأنفذ إليه أبو عبد الله كتابا موزا يأمر فيه باطلاقهم وإعادتهم إلى أعمالهم فقال لهم أحمد هذا الكتاب الخليفة بخطه يقول فيه لا تطلقهم حتى يأتيك كتاب آخر بخطي.
ثم ظهر أن الكتاب مزور ثم أنفذ المقتدر فاستحضرهم إلى بغداد وصودروا على أربعمائة ألف دينار وكان لا يطمع فيها منهم وإنما طلب منهم هذا القدر ليجيبوا إلى بعضه فأجابوا إليه جميعه ليتخلصوا ويعودوا إلى عملهم.
219

ذكر خروج صالح والأغر
وفي هذه السنة في جمادى الأولى خرج خارجي من بجيلة من أهل البوازيج اسمه صالح بن محمود وعبر إلى البرية واجتمع إليه جماعة من بني مالك وسار إلى سنجار فأخذ من أهلها مالا فلقيه قوافل فأخذ عشرها وخطب بسنجار فذكر بأمر الله وحذر وأطال في هذا ثم قال نتولى الشيخين ونبرأ من الخبيثين ولا نرى المسح على الخفين.
وسار منها إلى الشجاجية من أرض الموصل فطالب أهلها وأهل أعمال الفرج بالعشر وأقام أياما وانحدر إلى الحديثة تحت الموصل فطالب المسلمين بزكاة أموالهم والنصارى بجزية رؤوسهم فجرى بينهما حرب فقتل من أصحابه جماعة ومنعوه من دخولها فأحرق لهم ست عروب وعبر إلى الجانب الغربي، وأسر أهل الحديثة ابنا لصالح اسمه محمد فأخذه نصر بن حمدان بن حمدون وهو الأمير بالموصل فأدخله إليها ثم سار صالح إلى السن فصالحه أهلها على مال أخذه منهم وانصرف إلى البوازيج وسار منها إلى تل خوسا قرية من أعمال الموصل عند
220

الزاب الأعلى وكاتب أهل الموصل في أمر ولده وتهددهم إن لم يردوه إليه ثم رحل إلى السلامية فصار إليه نصر بن حمدان لخمس خلون من شعبان من هذه السنة ففارقها صالح إلى البوازيج فطلبه نصر فأدركه بها فحاربه حربا شديدة قتل فيها من رجال صالح نحو مائة رجل وقتل من أصحاب نصر جماعة وأسر صالح ومعه ابنان له وأدخلوا غلى الموصل وحملوا إلى بغداد فأدخلوا مشهورين.
وفيها في شعبان خرج بأرض الموصل خارجي اسمه الأغر بن مطر التغلبي وكان يذكر أنه من ولد عتاب بن كلثوم التغلبي أخي عمرو بن كلثوم الشاعر وكان خروجه بنواحي رأس العين وقصد كفر توثا وقد اجتمع معه نحو ألفي رجل فدخلها ونهبها وقتل من فيها.
وسار إلى نصيبين فنزل بالقرب منها فخرج إليه ومعه جمع من الجند ومن العامة فقاتلوه فقتل الشاري منه مائة رجل وأسر ألف رجل فباعهم نفوسهم وصالحه أهل نصيبين على أربعمائة ألف درهم.
وبلغ خبره ناصر الدولة ابن حمدان وهو أمير ديار ربيعة فسير إليه جيشا فقاتلوه فظفروا به وأسروه وسيره ناصر الدولة إلى بغداد.
221

ذكر مخالفة جعفر بن أبي جعفر وعوده
كان جعفر بن أبي جعفر بن أبي داود مقيما بالختل واليا عليها للسامانية فبدت منه أمور نسب بسببها إلى الاستعصاء فكوتب أبو علي أحمد بن محمد بن المظفر بقصده فسار
إليه وحاربه فقبض عليه وحمله إلى بخارى وذلك قبل مخالفة أبي زكريا يحيى فلما حمل إلى بخارى حبس فيها فلما خالف أبو زكريا يحيى أخرجه من الحبس وصحبه ثم استأذنه في العود إلى ولاية الختل وجمع الجيوش له بها فأذن له فسار إليها وأقام بها وتمسك بطاعة السعيد نصر بن أحمد فصلح حاله وذلك سنة ثمان عشرة وثلاثمائة.
(الختل بالخاء المعجمة والتاء فوقها نقطتان والخاء مضمومة والتاء مشددة مفتوحة).
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة شغب الفرسان وتهددوا بخلع الطاعة فأحضر المقتدر قوادهم بين يديه ووعدهم الجميل وان يطلق أرزاقهم في الشهر المقبل،
222

فسكنوا ثم شغب الرجالة فأطلقت أرزاقهم.
وفيها خلع المقتدر على ابنه هارون وركب معه الوزير والجيش وأعطاه ولاية فارس وكرمان وسجستان ومكران.
وفيها أيضا خلع على ابنه أبي العباس وأقطعه بلاد الغرب ومصر والشام وجعل مؤنسا المظفر يخلفه فيها.
وفيها صرف ابنا رائق عن الشرطة وقلدها أبو بكر محمد بن ياقوت وفيها وقعت فتنة بنصيبين بين أهل باب الروم والباب الشرقي واقتتلوا قتالا شديدا وأدخلوا إليهم قوما من العرب والسواد فقتل بينهم جماعة وأحرقت المنازل والحوانيت ونهبت الأموال ونزل بهم قافلة عظيمة تريد الشام فنهبوها.
وفيها توفي يحيى بن محمد بن صاعد البغدادي وكان عمره تسعين سنة وهو من فضلاء المحدثين والقاضي أبو جعفر أحمد بن إسحاق بن البهلول التنوخي الفقيه الحنفي وكان عالما بالأدب ونحو الكوفيين وله شعر حسن.
223

319
ثم دخلت سنة تسع عشرة وثلاثمائة
ذكر تجدد الوحشة بين مؤنس والمقتدر
في هذه السنة تجددت الوحشة بين مؤنس المظفر وبين المقتدر بالله وكان سببها أن محمد بن ياقوت كان منحرفا على الوزير سليمان ومائلا إلى الحسين بن القاسم وكان مؤنس يميل إلى سليمان بسبب علي بن عيسى وثقتهم به وقوي أمر محمد بن ياقوت وقلد مع الشرطة الحسبة وضم إليه رجالا فقوي بهم فعظم ذلك على مؤنس وسأل المقتدر صرف محمد عن الحسبة وقال هذا شغل لا يجوز أن يتولاه غير القضاة والعدول فأجابه المقتدر.
وجمع مؤنس إليه أصحابه فلما فغل ذلك جمع ياقوت وابنه الرجال في دار السلطان وفي دار محمد بن ياقوت وقيل لمؤنس إن محمد بن ياقوت قد عزم على كبس دارك ليلا ولم يزل به أصحابه حتى أخرجوه إلى باب الشماسية فضربوا مضاربهم هناك وطالب المقتدر بصرف ياقوت عن الحجبة وصرف ابنه عن الشرطة وإبعادهما عن الحضرة فأخرجا إلى المدائن.
224

وقلد المقتدر ياقوتا أعمال ففارس وكرمان وقلد ابنه المظفر بن ياقوت أصبهان وقلد أبا بكر محمد بن ياقوت سجستان وتقلد ابنا رائق إبراهيم ومحمد مكان ياقوت وولده الحجبة والشرطة وأقام ياقوت بشيراز مدة وكان علي بن خلف بن طياب ضامنا أموال الضياع والخراج بها فتظاهرا وتعاقدا وقطعا الحمل عن المقتدر إلى أن ملك علي بن بويه الديلمي بلاد فارس سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة.
ذكر قبض الوزير سليمان ووزارة أبي القاسم الكلوذاني
وفي هذه السنة قبض المقتدر على وزيره سليمان الحسن.
وكان سبب ذلك أن سليمان ضاقت الأموال عليه إضاقة شديدة وكثرت عليه المطالبات ووقفت وظائف السلطان واتصلت رقاع من يرشح نفسه للوزارة بالسعاية به والضمان بالقيام بالوظائف وأرزاق الجند وغير ذلك فقبض عليه ونقله إلى داره.
وكان المقتدر كثير الشهوة لتقليد الحسين بن القاسم الوزارة فامتنع مؤنس من ذلك وأشار بوزارة أبي القاسم الكلوذاني فاضطر المقتدر إلى ذلك فاستوزره لثلاث بقين من رجب فكانت وزارة سليمان سنة واحدة وشهرين،
225

وكانت وزارته غيره متمكنة أيضا فإنه كان علي بن عيسى معه على الدواوين وسائر الأمور وأفرد علي بن عيسى عنه بالنظر عنه في المظالم واستعمل على ديوان السواد غيره فانقطعت مواد الوزير فإنه كان يقيم من قبله من يشتري توقيعات أرزاق جماعة لا يمكنهم مفارقة ما هم عليه بصدده من الخدمة فكان يعطيهم نصف المبلغ وكذلك إدرارات الفقهاء وأرباب البيوت إلى غير ذلك.
وكان أبو بكر بن قرابة منتميا إلى مفلح الخادم فأوصله إلى المقتدر فذكر له أنه يعرف وجوه مرافق الوزراء فاستعمله عليها ليصلحها للخليفة فسعى في تحصيل ذلك من العمال والضمان والتناء وغيرهم فأخلق بذلك الخلافة وفضح الديوان ووقفت أحوال الناس فان الوزراء وأرباب الولايات لا يقومون بأشغال الرعايا والتعب معهم إلا لرفق يحصل لهم وليس لهم من الدين ما يحملهم على النظر في أحوالهم فإنه بعيد منهم فإذا منعوا المرافق تركوا الناس يضطربون ولا يجدون من يأخذ بأيديهم ولا يقي حوائجهم فإني قد رأيت هذا عيانا في زماننا هذا وفات به من المصالح العامة والخاصة مالا يحصى.
226

ذكر الحرب بين هارون وعسكر مرداويج
قد ذكرنا فيما تقدم قتل أسفار وملك مرداويج وأنه استولى على بلد الجبل والري وغيرهما وأقبلت الديلم إليه من كل ناحية لبذله وإحسانه إلى جنده فعظمت جيوشه وكثرت
عساكره وكثر الخرج عليه فلم يكفه ما في يده ففرق نوابه في النواحي المجاورة له.
فكان ممن سيره إلى همذان ابن أخت له في جيش كثير وكان بها أبو عبد الله محمد بن خلف في عسكر الخليفة فتحاربوا حروبا كثيرة وأعان أهل همذان عسكر الخليفة فظفروا بالديلم وقتل ابن أخت مرداويج فسار مرداويج من الري إلى همذان فلما سمع أصحاب الخليفة بمسيره انهزموا من همذان فجاء همذان ونزل على باب الأسد فتحصن منه أهلها فقاتلهم فظفر منهم خلقا كثيرا وأحرق وسبى ثم رفع السيف عنهم وأمن بقيتهم.
فأنفذ المقتدر هارون بن غريب الخال في عساكر كثيرة إلى محاربته فالتقوا بنواحي همذان فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزم هارون وعسكر الخليفة واستولى مرداويج على بلاد الجبل جميعها وما وراء همذان فسير قائدا كبيرا من أصحابه يعرف بابن علان القزويني إلى الدينور ففتحها بالسيف وقتل كثيرا من أهلها وبلغت عساكره إلى نواحي حلوان فغنمت ونهبت وقتلت وسبت الأولاد والنساء وعادوا إليه.
227

ذكر ما فعله لشكري من المخالفة
كان لشكري الديلمي من أصحاب أسفار واستأمن إلى الخليفة فلما انهزم هارون بن غريب من مرداويج سار معه إلى قرميسين وأقام هارون بها واستمد المقتدر ليعاود محاربة مرداويج وسير هارون لشكري هذا إلى نهاوند لحمل مال بها إليه فلما صار لشكري بنهاوند ورأى غنى أهلها طمع فيهم وصادرهم على ثلاثة آلاف ألف درهم واستخرجها في مدة أسبوع وجند بها جندا ثم مضى إلى أصبهان هاربا من هارون في الجند الذين انضموا إليها في جمادى الآخرة.
وكان الوالي على أصبهان حينئذ أحمد بن كيغلغ وذلك قبل استيلاء مرداويج عليها فخرج إليه أحمد فحاربه فانهزم أحمد هزيمة قبيحة وملك لشكري أصبهان ودخل أصحابه إليها فنزلوا في الدور والخانات وغيرها ولم يدخل لشكري معهم، ولما انهزم أحمد نجا إلى بعض قرى أصبهان في ثلاثين فارسا وركب لشكري يطوف بسور أصبهان من ظاهره فنظر إلى أحمد في جماعته فسأل عنه فقيل لا شك أنه من أصحاب أحمد بن كيغلغ فسار فيمن معه من أصحابه نحوهم وكانوا عدة يسيرة، فلما
228

قرب منهم تعارفوا فاقتتلوا فقتل لشكري قتله أحمد بن كيغلغ ضربه بالسيف على رأسه فقد المغفر والخوذة ونزل السيف حتى خالط دماغه فسقط ميتا.
وكان عمر أحمد إذ ذاك قد جاوز السبعين فلما قتل لشكري انهزم من معه فدخلوا أصبهان واعلموا أصحابهم فهربوا على وجوهم وتركوا أثقالهم وأكثر رحالهم ودخل أحمد إلى أصبهان وكان هذا قبل استيلاء مرداويج على أصبهان وكان هذا من الفتح الظريف وكان جزاؤه أن صرف عن أصبهان وولى عليها المظفر بن ياقوت.
ذكر ملك مرداويج أصبهان
ثم أنفذ مرداويج طائفة أخرى إلى أصبهان فملكوها واستولوا عليها وبنوا له فيها مساكن أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف العجلي والبساتين فسار مرداويج إليها فنزلها وهو في أربعين إليه وقيل خمسين إليه وأرسل جمعا آخر إلى الأهواز فاستولوا عليها وعلى خوزستان وجبوا أموال هذه البلاد والنواحي وقسمها في أصحابه وجمع منها الكثير فادخره.
ثم إنه أرسل إلى المقتدر رسولا يقرر على نفسه مالا على هذه البلاد كلها ونزل المقتدر عن همذان وماه الكوفة فأجابه المقتدر إلى ذلك وقوطع على مائتي ألف دينار كل سنة.
229

ذكر عزل الكلوذاني ووزارة الحسين بن القاسم
في هذه السنة عزل أبو القاسم الكلوذاني عن وزارة الخليفة ووزر الحسين بن القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب.
وكان سبب ذلك أنه كان ببغداد إنسان يعرف بالدانيالي وكان زراقا ذكيا محتالا وكان يعتق الكاغد ويكتب فيه بخطه ما يشبه الخط العتيق ويذكر فيه إشارات ورموزا يودعها أسماء أقوام من أرباب الدولة فيحصل له بذلك رفق كثير.
فمن جملة ما فعله أنه وضع في جملة كتاب ميم ميم ميم يكون منه كذا وكذا وأحضره عند مفلح وقال هذا كناية عنك فإنك مفلح مولى المقتدر وذكر له علامات تدل عليه فأغناه فتوصل الحسين بن القاسم معه حتى جعل اسمه في كتاب وضعه وعتقه وذكر فيه علامة وجهه وما فيه من الآثار ويقول إنه يزر للخليفة الثامن عشر من خلفاء بني العباس وتستقيم الأمور على يديه ويقهر الأعادي وتتعمر الدنيا في أيامه وجعل هذا كله في جملة كتاب ذكر فيه حوادث قد وقعت وأشياء لم تقع بعد ونسب ذلك إلى دانيال وعتق الكتاب وأخذه وقرأه على مفلح فلما رأى ذلك أخذ الكتاب وأحضره عند المقتدر وقال له أتعرف في الكتاب
230

من هو بهذه الصفة؟ فقال ما أعرفه إلا الحسين بن القاسم فقال صدقت وإن قلبي ليميل إليه فإن جاءك منه رسول برقعة فاعرضها علي وأكتم حاله ولا تطلع على أمره أحدا.
وخرج مفلح إلى الدانيالي فسأله هل تعرف أحدا من الكتاب بهذه الصفة فقال لا أعرف أحدا قال فمن أين وصل إليك هذا الكتاب فقال من أبي وهو ورثه من آبائه وهو من ملاحم دانيال عليه السلام فأعاد ذلك على المقتدر فقبله فعرف الدانيالي ذلك الحسين بن القاسم فلما أعلمه كتب رقعة إلى مفلح فأوصلها إلى المقتدر ووعده الجميل وأمره بطلب الوزارة وإصلاح مؤنس الخادم فكان ذلك من أعظم الأسباب في وزارته مع كثرة الكارهين له.
ثم اتفق أن الكلوذاني عمل حسبة بما يحتاج إليه من النفقات وعليها خط أصحاب الديوان فبقي يحتاج إلى سبعمائة ألف دينار وعرضها على المقتدر وقال ليس لهذه جهة إلا ما يطلقه أمير المؤمنين لأنفقه فعظم ذلك على المقتدر.
وكتب الحسين بن القاسم لما بلغه ذلك يضمن جميع النفقات ولا يطالبه بشيء من بيت المال وضمن أنه يستخرج سوى ذلك ألف ألف دينار يكون في بيت المال فعرضت
رقعته على الكلوذاني فاستقال وأذن له في وزارة
231

الحسين ومضى الحسين إلى يلبق وضمن له مالا ليصلح له قلب مؤنس ففعل فعزل الكلوذاني في رمضان وتولى الحسين الوزارة لليلتين بقيتا من رمضان أيضا وكانت ولاية الكلوذاني شهرين وثلاثة أيام واختص بالحسين بنو البريدي وابن قرابة وشرط أن لا يطلع معه علي بن عيسى فأجيب ذلك وشرع في إخراجه من بغداد فأجيب إلى ذلك فأخرج إلى الصافية.
ذكر تأكد الوحشة بين مؤنس والمقتدر
في هذه السنة في ذي الحجة تجددت الوحشة بين مؤنس والمقتدر حتى آل ذلك إلى قتل المقتدر.
وكان سببها ما ذكرنا أولا في غير موضع فلما كان الآن بلغ مؤنسا أن الوزير الحسين بن القاسم قد وافق جماعة من القواد في التدبير عليه فتنكر له مؤنس وبلغ الحسين أن مؤنسا قد تنكر له وأنه يريد أن يكبس داره ليلا ويقبض عليه فتنقل في عدة مواضع وكان لا يحضر داره إلا بكرة ثم إنه انتقل إلى دار الخلافة فطلب مؤنس من المقتدر عزل الحسين ومصادرته فأجاب إلى عزله ولم يصادره وأمر الحسين بلزوم بيته فلم يقنع مؤنس بذلك فبقي في وزارته.
وأوقع الحسين عند المقتدر أن مؤنسا يريد أخذ ولده أبي العباس وهو
232

الراضي من داره بالمحرم والمسير به إلى الشام والبيعة له فرده المقتدر إلى دار الخلافة فعلم ذلك أبو العباس فلما أفضت الخلافة إليه فعل بالحسين ما نذكر.
وكتب الحسين إلى هارون وهو بدير العاقول بعد انهزامه من مرداويج ليستقدمه إلى بغداد وكتب إلى محمد بن ياقوت وهو بالأهواز يأمره بالإسراع إلى بغداد فزاد استشعار مؤنس وصح عنده أن الحسين يسعى في التدبير عليه وسنذكر تمام أمره سنة عشرين وثلاثمائة.
ذكر الحروب بين المسلمين والروم
في هذه السنة في ربيع الأول غزا ثمال والي طرسوس بلاد الروم فعبر نهرا ونزل عليهم ثلج إلى صدور الخيل وأتاهم جمع كثير من الروم فواقعوهم فنصر الله المسلمين فقتلوا من الروم ستمائة وأسروا نحوا من ثلاثة آلاف وغنموا من الذهب والفضة والديباج وغيره شيئا كثيرا.
وفيها في رجب عاد ثمال إلى طرسوس ودخل بلاد الروم صائفة في جمع كثير من الفارس والراجل فبلغوا عمورية وكان قد تجمع إليها
233

كثير من الروم ففارقوها لما سمعوا خبر ثمال ودخلها المسلمون فوجودا فيها من الأمتعة والطعام شيئا كثيرا فأخذوه وأحرقوا ما كانوا عمروه منها، وأوغلوا في بلاد الروم ينهبون ويقتلون ويخربون حتى بلغوا أنقرة وهي التي تسمى الآن انكورية وعادوا سالمين لم يلقوا كيدا فبلغت قيمة السبي مائة ألف دينار وستة وثلاثين ألف دينار وكان وصولهم إلى طرسوس آخر رمضان.
وفيها كاتب ابن الديراني وغيره من الأرمن وهم بأطراف أرمينية الروم وحثوهم على قصد بلاد الاسلام ووعدوهم النصرة فسارت الروم في خلق كثير فخربوا بزكرى وبلاد خلاط وما جاورها وقتل من المسلمين خلق كثير وأسروا كثير منهم فبلغ خبرهم مفلحا غلام يوسف ابن أبي الساج وهو والي آذربيجان فسار في عسكر كبير وتبعه كثير من المتطوعة إلى أرمينية فوصلها في رمضان وقصد بلد ابن الديراني ومن وافقه لحربه وقتل أهله ونهب أموالهم وتحصن ابن الديراني بقلعة له وبالغ الناس كثرة القتلى من الأرمن حتى قيل إنهم كانوا مائة ألف قتيل والله أعلم.
وسارت عساكر الروم إلى سميساط فحصروها فاستصرخ أهلها
234

بسعيد بن حمدان وكان المقتدر قد ولاه الموصل وديار ربيعة وشرط عليه غزو الروم وأن يستنقذ ملطية منهم وكان أهلها قد ضعفوا فصالحوا الروم وسلموا مفاتيح البلد إليهم فحكموا على المسلمين فلما جاء رسول أهل سميساط إلى سعيد بن حمدان تجهز وسار إليهم مسرعا فوصل وقد كاد الروم يفتحونها فلما قاربهم هربوا منه وسار منها إلى ملطية وبها جمع من الروم ومن عسكر مليح الأرمني ومعهم بني بن نفيس صاحب المقتدر وكان قد تنصر وهو مع الروم فلما أحسوا بإقبال سعيد خرجوا منها وخافوا أن يأتيهم سعيد في عسكره من خارج المدينة ويثور أهلها بهم فيهلكوا ففارقوها.
ودخلها سعيد ثم استخلف عليها أميرا وعاد عنها فدخل بلد الروم غازيا في شوال وقدم بين يديه سريتين فقتلا من الروم خلقا كثيرا قبل دخوله إليها.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة في شوال جاء إلى تكريت سيل كبير من المطر نزل في البر فغرق منها أربعمائة دار ودكان وارتفع الماء في أسواقها أربعة
235

عشرا شبرا وغرق خلق كثير من الناس ودفن المسلمون والنصارى مجتمعين لا يعرف بعضهم من بعض.
وفيها هاجت بالموصل ريح شديد فيها حمرة شديدة ثم اسودت حتى لا يعرف الإنسان صاحبه وظن الناس أن القيامة قد قامت ثم جاء الله تعالى بمطر فكشف ذلك.
وفيها توفي أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود البلخي في شعبان وهو من متكلمي المعتزلة البغداديين.
236

320
ثم دخلت سنة عشرين وثلاثمائة
ذكر مسير مؤنس إلى الموصل
في هذه السنة في المحرم سار مؤنس المظفر إلى الموصل مغاضبا للمقتدر.
وسبب مسيره أنه لما صح عنده إرسال الوزير الحسين بن القاسم إلى هارون بن غريب ومحمد ابن ياقوت يستحضرهما زاد استيحاشه ثم سمع بأن الحسين قد جمع الرجال والغلمان الحجرية في دار الخليفة وقد اتفق فيهم وأن هارون بن غريب قد قرب من بغداد أظهر الغضب وسار نحو الموصل ووجه خادمه بشري برسالة إلى المقتدر فسأله الحسين عن الرسالة فقال لا أذكرها غلا لأمير المؤمنين فأنفذ إليه المقتدر يأمره بذكر ما معه من الرسالة للوزير فامتنع وقال ما أمرني صاحبي بهذا فسبه الوزير وشتم صاحبه وأمر بضربه وصادره بثلاثمائة ألف دينار وأخذ خطه بها وحبسه ونهب داره.
فلما بلغ مؤنسا ما جرى على خادمه وهو ينتظر أن يطيب المقتدر قلبه،
237

ويعيده فلما علم ذلك سار نحو الموصل ومعه جميع قواده فكتب الحسين إلى القواد والغلمان يأمرهم بالرجوع إلى بغداد فعاد جماعة وسار مؤنس نحو الموصل في أصحابه ومماليكه ومعه من الساجية ثمانمائة رجل وتقدم الوزير بقبض أقطاع مؤنس وأملاك من معه فحصل من ذلك مال عظيم وزاد ذلك في محل الوزير عند المقتدر فلقبه عميد الدولة وضرب اسمه على الدينار والدرهم وتمكن من الوزارة وولى وعزل.
وكان فيمن تولى أبو يوسف يعقوب بن محمد البريدي ولاه الوزير البصرة وجميع أعمالها بمبلغ لا يفي بالنفقات على البصرة وما يتعلق بها بل فضل لأبي يوسف مقدار ثلاثين ألف دينار أحاله الوزير بها فلما علم ذلك الفضل بن جعفر بن محمد بن الفرات استدرك على أبي يوسف وأظهر له الغلط في الضمان وأنه لا يمضيه فأجاب إلى أن يقوم بنفقات البصرة ويحمل إلى بيت المال كل سنة ثمانين ألف دينار وانتهى ذلك إلى المقتدر فحسن موقعه عنده فقصده الوزير فاستتر وسعى بالوزير إلى المقتدر إلى أن أفسد حاله.
ذكر عزل الحسين عن الوزارة
وفيها عزل الحسين بن القاسم عن الوزارة وسبب ذلك أنه ضاقت عليه الأموال وكثرت الإخراجات فاستسلف في هذه السنة جملة وافرة أخرجها في سنة تسع عشرة [وثلاثمائة]، فأنهى هارون بن غريب ذلك إلى المقتدر،
238

فرتب معه الخصيبي فلما تولى معه نظر في أعماله فرآه قد عمل حسبة إلى المقتدر ليس فيها عليه وجه وموه وأظهر ذلك للمقتدر فأمر بجمع الكتاب وكشف الحال فحضروا واعترفوا بصدق الخصيبي بذلك وقابلوا الوزير بذلك فقبض عليه في شهر ربيع الآخر وكانت وزارته سبعة أشهر واستوزر المقتدر أبا الفتح الفضل بن جعفر وسلم إليه الحسين فلم يؤاخذه بإساءته.
ذكر استيلاء مؤنس على الموصل
قد ذكرنا مسير مؤنس إلى الموصل فلما سمع الحسين الوزير بمسيره كتب إلى سعيد وداود ابني حمدان وإلى ابن أخيهما ناصر الدولة الحسن بن عبد الله بن حمدان يأمرهم بمحاربة مؤنس وصده عن الموصل.
وكان مؤنس كتب في طريقه إلى رؤساء العرب يستدعيهم ويبذل لهم الأموال والخلع ويقول لهم إن الخليفة قد ولاه الموصل وديار ربيعة.
واجتمع بنو حمدان على محاربة مؤنس إلا داود بن حمدان فإنه امتنع من ذلك لإحسان مؤنس إليه فإنه كان قد أخذه بعد أبيه ورباه في حجره وأحسن إليه إحسانا عظيما فلما امتنع من محاربته لم يزل به إخوته حتى وافقهم على ذلك وذكروا له إساءة الحسين وأبي الهيجاء ابني حمدان
239

إلى المقتدر مرة بعد مرة وأنهم يريدون أن يغسلوا تلك السيئة ولما أجابهم قال لهم والله إنكم لتحملونني على البغي وكفران الإحسان وما آمن أن يجيئني سهم عائر فيقع في نحري فيقتلني فلما التقوا أتاه سهم كما وصف فقتله.
وكان مؤنس إذا قيل له إن داود عازم على قتالك ينكره ويقول كيف يقاتلني وقد أخذته طفلا وربيته في حجري ولما قرب مؤنس من الموصل كان في ثمانمائة فارس واجتمع بنو حمدان في ثلاثين ألفا والتقوا واقتتلوا فانهزم بنو حمدان ولم يقتل منهم غير داود وكان يلقب بالمجفجف وفيه يقول بعض الشعراء وقد هجا أميرا:
(لو كنت في ألف ألف كلهم بطل * مثل المجفجف داود بن حمدان)
(وتحتك الريح تجري حيث تأمرها * وفي يمينك سيف غير خوان)
(لكنت أول فرار إلى عدن * إذا تحرك سيف من خراسان)
وكان داود هذا من أشجع الناس ودخل مؤنس الموصل ثالث صفر واستولى على أموال بني حمدان وديارهم فخرج إليه كثير من العساكر من بغداد والشام ومصر من أصناف الناس لإحسانه [الذي] كان إليهم وعاد إليه ناصر الدولة بن حمدان فصار معه وأقام بالموصل تسعة أشهر وعزم على الإنحدار إلى بغداد.
240

ذكر قتل المقتدر
لما اجتمعت العساكر على مؤنس بالموصل قالوا له اذهب بنا إلى الخليفة فان أنصفنا وأجرى أرزاقنا وإلا قاتلناه فانحدر مؤنس من الموصل في شوال وبلغ خبره جند بغداد فشغبوا وطلبوا أرزاقهم ففرق المقتدر فيهم أموالا كثيرة إلا أنه لم يشبعهم وأنفذ أبا العلاء سعيد بن حمدان وصافيا البصري في خيل عظيمة إلى سر من رأى وأنفذ أبا بكر محمد بن ياقوت في ألفي فارس ومعه الغلمان الحجرية إلى المعشوق.
فلما وصل مؤنس إلى تكريت أنفذ طلائعه فلما قربوا من المعشوق جعل العسكر الذين مع ابن ياقوت يتسللون ويهربون إلى بغداد فلما رأى ذلك رجع إلى عكبرا وسار مؤنس فتأخر ابن ياقوت وعسكره وعادوا إلى بغداد فنزل مؤنس بباب الشماسية ونزل ابن ياقوت وغيره مقابلهم واجتهد المقتدر بابن خاله هارون بن غريب ليخرج فلم يفعل
وقال أخاف من عسكري فإن بعضهم أصحاب مؤنس وبعضهم قد انهزم أمس من مرداويج فأخاف أن يسلموني وينهزموا عني فأنفذ إليه الوزير فلم يزل به حتى أخرجه وأشاروا على المقتدر بإخراج المال منه ومن والدته ليرضى الجند ومتى سمع أصحاب مؤنس بتفريق الأموال تفرقوا عنه واضطر إلى الهرب فقال لم يبق لي ولا لوالدتي جهة شيء.
وأراد المقتدر أن ينحدر إلى واسط ويكاتب العساكر من جهة البصرة،
241

والأهواز وفارس وكرمان وغيرها ويترك بغداد لمؤنس إلى أن يجتمع عليه العساكر ويعود إلى قتاله فرده ابن ياقوت عن ذلك وزين له اللقاء وقوى نفسه بأن القوم متى رأوه عادوا بأجمعهم إليه فرجع إلى قوله وهو كاره.
ثم أشار عليه بحضور الحرب فخرج وهو كاره وبين يديه الفقهاء والقراء معهم والمصاحف مشهورة وعليه البردة والناس حوله فوقف على تل عال بعيد عن المعركة فأرسل قواد أصحابه يسألونه التقدم مرة بعد أخرى وهو واقف فلما ألحوا عليه تقدم من موضعه فانهزم أصحابه قبل وصوله إليهم وكان قد أمر فنودي من جاء بأسير فله عشرة دنانير ومن جاء برأس فله خمسة دنانير فلما انهزم أصحابه لقيه علي بن يلبق وهو من أصحاب مؤنس فترجل وقبل الأرض وقال له إلى أين تمضي إرجع فلعن الله من أشار عليك بالحضور فأراد الرجوع فلقيه قوم من المغاربة والبربر فتركه علي معهم وسار عنه فشهروا عليه سيوفهم فقال ويحكم أنا الخليفة فقالوا: قد عرفناك يا سفلة أنت خليفة إبليس تبذل في كل رأس خمسة دنانير وفي كل أسير عشرة دنانير وضربه أحدهم بسيفه على عاتقه فسقط إلى الأرض وذبحه بعضهم فقيل إن علي بن يلبق غمز بعضهم فقتله.
وكان المقتدر ثقيل البدن عظيم الجثة فلما قتلوه رفعوا رأسه على خشبة وهم يكبرون ويلعنونه وأخذوا جميع ما عليه حتى سراويله وتركوه مكشوف العورة إلى أن مر به رجل من الأكرة فستره بحشيش ثم حفر
242

له موضعه ودفن وعفي قبره.
وكان مؤنس في الراشدية لم يشهد الحرب فلم حمل رأس المقتدر إليه بكى ولطم وجهه ورأسه وقال يا مفسدون ما هكذا أوصيتكم وقال قتلتموه وكان هذا آخر أمره والله لنقتلن كلنا وأقل ما في الأمر أنكم تظهرون انكم قتلتموه خطأ ولم تعرفوه.
وتقدم مؤنس إلى الشماسية وأنفذ إلى دار الخليفة من يمنعها من النهب ومضى عبد الواحد بن المقتدر وهارون بن غريب ومحمد بن ياقوت وابنا رائق إلى المدائن وكان ما فعله مؤنس سببا لجرأة أصحاب الأطراف على الخلفاء وطمعهم فيما لم يكن يخطر لهم على بال وانخرقت الهيبة وضعف أمر الخلافة حتى صار الأمر إلى ما نحكيه.
على أن المقتدر أهمل من أحوال الخلافة كثيرا وحكم فيها النساء والخدم وفرط في الأموال وعزل من الوزراء وولى ما أوجب طمع أصحاب الأطراف والنواب وخروجهم عن الطاعة.
وكان جملة ما أخرجه من الأموال تبذيرا وتضييعا في غير وجه نيفا وسبعين ألف ألف دينار سوى ما أنفقه في الوجوه الواجب وإذا اعتبرت أحوال الخلافة في أيامه وأيام أخيه المكتفي ووالده المعتضد رأيت بينهم تفاوتا بعيدا وكانت مدة خلافته أربعا وعشرين سنة وأحد عشر شهرا
243

وستة عشر يوما وكان عمره ثمانيا وثلاثين سنة ونحوا من شهرين.
ذكر خلافة القاهر بالله
لما قتل المقتدر بالله عظم قتله على مؤنس وقال الرأي أن ننصب ولده أبا العباس أحمد في الخلافة فإنه تربيتي وهو صبي عاقل وفيه ديم كريم ووفاء بما يقول فإذا جلس في الخلافة سمحت نفس جدته والدة المقتدر وإخوته وغلمان أبيه ببذل الأموال ولم ينتطح في قتل المقتدر عنزان فاعترض عليه أبو يعقوب إسحاق بن إسماعيل النوبختي وقال بعد الكد والتعب استرحنا من خليفة له أم وخالة وخدم يدبرونه فنعود إلى تلك الحال والله لا نرضى إلا برجل كامل يدبر نفسه ويدبرنا وما زال حتى رد مؤنسا عن رأيه وذكر له أبا منصور محمد بن المعتضد فأجابه مؤنس إلى ذلك وكان النوبختي في ذلك كالباحث عن حتفه بظلفه فإن القاهر قتله كما نذكره (وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم).
وأمر مؤنس بإحضار محمد بن المعتضد فبايعوه بالخلافة لليلتين بقيتا من شوال ولقبه القاهر بالله وكان مؤنس كارها لخلافته والبيعة له،
244

ويقول إنني عارف بشره وسوء نيته ولكن لا حيلة.
ولما بويع استحلفه مؤنس لنفسه ولحاجبه يلبق ولعلي بن يلبق وأخذوا خطه بذلك واستقرت الخلافة له وبايعه الناس واستوزر أبا علي بن مقلة وكان بفارس فاستقدمه ووزر له واستحجب القاهر علي بن يلبق، وتشاغل القاهر بالبحث عمن استتر من أولاد المقتدر وحرمه وبمناظرة والدة المقتدر وكانت مريضة قد ابتدأ بها الاستسقاء وقد زاد مرضها بقتل ابنها ولما سمعت أنه بقي مكشوف العورة جزعت جزعا شديدا وامتنعت من المأكول والمشروب حتى كادت تهلك فوعظها النساء حتى أكلت شيئا يسيرا من الخبز والملح.
ثم أحضرها القاهر عنده وسألها عن مالها فاعترفت له بما عندها من المصوغ والثياب ولم تعترف بشيء من المال والجوهر فضربها أشد ما يكون من الضرب وعلقها برجلها وضرب المواضع الغامضة من بدنها فحلفت أنها لا تملك غير ما أطلعته عليه وقالت لو كان عندي مالا لما أسلمت ولدي للقتل ولم تعترف بشيء.
وصادر جميع حاشية المقتدر وأصحابه وأخرج القاهر والدة المقتدر لتشهد على نفسها القضاة والعدول بأنها قد حلت أوقافها ووكلت في بيعها فامتنعت من ذلك وقالت قد
أوقفتها على أبواب البر والقرب بمكة والمدينة والثغور وعلى الضعفى والمساكين ولا استحل حلها ولا بيعها وإنما أوكل على بيع أملاكي.
245

فلما علم القاهر بذلك أحضر القاضي والعدول وأشهدهم على نفسه أنه قد حل وقوفها جميعها ووكل في بيعها فبيع ذلك جميعه مع غيره واشتراه الجند من أرزاقهم وتقدم القاهر بكبس الدور التي سعى إليه أنه اختفى فيها ولد المقتدر فلم يزل كذلك إلى أن وجدوا منهم أبا العباس الراضي وهارون وعليا والعباس وإبراهيم والفضل فحملوا إلى دار الخليفة فصودروا على مال كثير وسلمهم علي بن يلبق إلى كاتبه الحسن بن هارون فأحسن صحبتهم.
واستقر أبو علي بن مقلة في الوزارة وعزل وولي وقبض على جماعة من العمال وقبض على بني البريدي وعزلهم عن أعمالهم وصادرهم.
ذكر وصول وشكمير إلى أخيه مرداويج
وفيها أرسل مرداويج إلى أخيه وشكمير وهو ببلاد جيلان يستدعيه إليه وكان الرسول ابن الجعد قال أرسلني مرداويج وأمرني بالتلطف لإخراج أخيه وشكمير إليه فلما وصلت سألت عنه فدللت عليه فإذا هو مع جماعة يزرعون الأرز فلما رأوني قصدوني وهم حفاة عراة عليهم سراويلات ملونة الخرق وأكسية ممزقة فسلمت عليه وأبلغته رسالة أخيه وأعلمته بما ملك من البلاد والأموال وغيرها فضرب بفمه في لحية أخيه وقال إنه لبس السواد وخدم المسودة يعني الخلفاء من بني العباس.
فلم أزل أمنيه وأطمعه حتى خرج معي فلما بلغنا قزوين اجتهدت به
246

ليلبس السواد فامتنع ثم لبس بعد الجهد قال فرأيت من جهله أشياء استحي من ذكرها ثم أعطته السعادة ما كان له في الغيب فصار من أعرف الملوك بتدبير الممالك وسياسة الرعايا.
ذكر عدة حوادث
فيها توفي القاضي أبو عمر محمد بن يوسف بن يعقوب بن إسماعيل بن حماد بن زيد وكان عالما فاضلا حليما وأبو علي الحسين بن صالح بن خيران الفقيه الشافعي وكان عابدا ورعا أريد على القضاء فلم يفعل.
وفيها توفي أبو نعيم عبد الملك بن محمد بن عدي الفقيه الشافعي الجرجاني المعروف بالأستراباذي.
247

321
ثم دخلت سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة
ذكر حال عبد الواحد بن المقتدر ومن معه
قد ذكرنا هرب عبد الواحد بن المقتدر وهارون بن غريب ومفلح ومحمد بن ياقوت وابنا رائق بعد قتل المقتدر إلى المدائن ثم انهم انحدروا منها إلى واسط وأقاموا بها وخافهم الناس فابتدأ هارون بن غريب وكتب إلى بغداد يطلب الأمان ويبذل مصادرة ثلاثمائة ألف دينار على أن يطلق له أملاكه وينزل عن الأملاك التي استأجرها ويؤدي من أملاكه حقوق بيت المال القديمة فأجابه القاهر ومؤنس إلى ذلك وكتبوا له كتاب أمان وقلد أعمال ماه الكوفة وماسبذان ومهرجان قذف وسار إلى بغداد.
وخرج عبد الواحد بن المقتدر من واسط فيمن بقي معه ومضوا إلى السوس وسوق الأهواز وجبوا المال وطردوا العمال وأقاموا بالأهواز فجهز مؤنس إليهم جيشا كثيفا وجعل عليهم بليقا.
وكان الذي حرضهم على إنفاذ الجيش أبو عبد الله البريدي، فإنه كان قد
248

خرج من الحبس فخوفهم عاقبة إهمال عبد الواحد ومن معه وبذل مساعدة معجلة خمسين ألف دينار على أن يتولى الأهواز وعند استقراره بتلك البلاد يعجل باقي المال وأمر مؤنس بالتجهيز وأنفق ذلك المال وسار العسكر وفيهم عبد الله.
وكان محمد بن ياقوت قد استبد بالأموال والأمر فنفرت لذلك قلوب من معه من القواد والجند فلما قرب العسكر من واسط أظهر من معه من القواد ما في نفوسهم وفارقوه، ولما وصل يلبق إلى السوس فارق عبد الواحد ومحمد بن ياقوت الأهواز وسارا إلى تستر فعلم القراريطي وكان مع العسكر بأهل الأهواز ما لم يفعله أحد نهب أموالهم وصادرهم جميعهم ولم يسلم منهم أحد.
ونزل عبد الواحد وابن ياقوت بتستر وفارقهما من معهما من القواد إلى يلبق بأمان وبقي مفلح ومسرور الخادم مع عبد الواحد فقالا لمحمد بن ياقوت أنت معتصم بهذه المدينة وبمالك ورجالك وأما نحن فلا مال معنا ولا رجال ومقامنا معك يضرك ولا ينفعك وقد عزمنا على أخذ الأمان لنا ولعبد الواحد بن المقتدر فأذن لهما في ذلك فكتب إلى يلبق فأمنهم فعبروا إليه وبقي محمد بن ياقوت منفردا فضعفت نفسه وتحير فتراسل هو ويلبق واستقر بينهما إنه يخرج إلى يلبق على شرط إنه يؤمنه ويضمن له أمان مؤنس والقاهر ففعل ذلك وحلف له، وخرج محمد بن ياقوت معه إلى بغداد واستولى أبو عبد الله البريدي على البلاد، وعسف أهلها،
249

وأخذ أموال التجار وعمل بأهل البلاد ما لا يعمله الفرنج ولم يمنعه أحد عما يريد ولم يكن عنده من الدين ما يزعه عن ذلك وعاد اخوته إلى أعمالهم ولما عاد عبد الواحد ومحمد بن ياقوت وفى لهم القاهر وأطلق لعبد الواحد أملاكه وترك لوالدته المصادرة التي صادرها بها.
ذكر استيحاش مؤنس وأصحابه من القاهر
في هذه السنة استوحش مؤنس المظفر ويلبق الحاجب وولده علي والوزير أبو علي بن مقلة من القاهر وضيقوا عليه وعلى أسبابه.
وكان سبب ذلك أن محمد بن ياقوت تقدم عند القاهر وعلت منزلته وصار يخلو به ويشاوره فغلظ ذلك على ابن مقلة لعداوة كانت بينه وبين محمد فألقى إلى مؤنس أن
محمدا يسعى به عند القاهر وأن عيسى الطبيب يسفر بينهما في التدبير عليه فوجه مؤنس علي بن يلبق لإحضار عيسى الطبيب فوجده بين يدي القاهر فأخذه وأحضره عند مؤنس فسيره من ساعته إلى الموصل واجتمعوا على الإيقاع بمحمد بن ياقوت.
250

ووكل علي بن يلبق على دار الخليفة أحمد بن زيرك وأمره بالتضييق على القاهر وتفتيش كل من يدخل من الدار ويخرج منها وأن يكشف وجوه النساء المنقبات وإن وجد مع أحد رقعة دفعها إلى مؤنس ففعل ذلك وزاد عليه حتى أنه حمل إلى دار الخليفة لبن فأدخل يده فيه لئلا يكون رقعة ونقل يلبق من كان بدار القاهر محبوسا إلى داره كوالدة المقتدر وغيرها وقطع أرزاق حاشيته.
فأما والدة المقتدر فإنها كانت قد اشتدت علتها لشدة الضرب الذي ضربها القاهر فأكرمها علي بن يلبق وتركها عند والديه فماتت في جمادى الآخرة وكانت مكرمة مرفهة ودفنت بتربتها بالرصافة.
وضيق علي بن يلبق على القاهر فعلم القاهر أن العتاب لا يفيد وأن ذلك برأي مؤنس وابن مقلة فأخذ في الحيلة والتدبير على جماعتهم.
وكان قد عرف فساد قلب طريف السبكري وبشري خادم مؤنس لبليق وولده علي وحسدهما على مراتبهما فشرع في إغرائهما ببليق وابنه.
وعلم أيضا أن مؤنسا ويلبق أكثر اعتمادهما على الساجية أصحاب يوسف بن أبي الساج وغلمانه المنتقلين إليهما بعده وكانا قد وعدا الساجية بالموصل مواعيد أخلفاها فأرسل القاهر إليهم يغريهم بمؤنس ويلبق ويحلف لهم على الوفاء بما أخلفاهم فتغيرت قلوب الساجية ثم إنه راسل أبا جعفر
251

محمد بن القاسم بن عبيد الله وكان من أصحاب ابن مقلة وصاحب مشورته، ووعده الوزارة فكان يطالعه بالأخبار، وبلغ ابن مقلة أن القاهر قد تغير عليه وأنه مجتهد في التدبير عليه وعلى مؤنس ويلبق وابنه علي والحسن بن هارون فأخبرهم ابن مقلة بذلك.
ذكر القبض على مؤنس ويلبق
في هذه السنة أول شعبان قبض القاهر بالله على يلبق وابنه ومؤنس المظفر.
وسبب ذلك أنه لما ذكر ابن مقلة لمؤنس ويلبق ما هو عليه القاهر من التدبير في استئصالهم خافوه وحملهم الخوف على الجد في خلعه واتفق رأيهم على استخلاف أبي أحمد بن المكتفي وعقدوا له الأمر سرا وحلف له يلبق وابنه علي والوزير أبو علي بن مقلة والحسن بن هارون وبايعوه ثم كشفوا الأمر لمؤنس فقال لهم لست أشك في شر القاهر وخبثه ولقد كنت كارها لخلافته وأشرت بابن المقتدر فخالفتم وقد بلغتم الآن في الاستهانة به وما صبر على الهوان إلا من خبث طوبته ليدبر عليكم فلا تعجلوا على أمر حتى تؤنسوه وينبسط إليكم ثم فتشوا لتعرفوا من واطأه من القواد ومن الساجية والحجرية ثم اعملوا على ذلك فقال علي بن يلبق والحسن بن
252

هارون ما يحتاج إلى هذا التطويل فان الحجبة لنا والدار في أيدينا وما يحتاج ان نستعين في القبض عليه بأحد لأنه بمنزلة طائر في قفص.
وعملوا على معاجلته فاتفق أن سقط يلبق عن الدابة فاعتل ولزم منزله واتفق ابنه علي وأبو علي بن مقلة وزينا لمؤنس خلع القاهر وهونا عليه الأمر فأذن لهما فاتفق رأيهما على ان يظهروا أن أبا الطاهر القرمطي قد ورد الكوفة في خلق كثير وأن علي بن يلبق سائر إليه في الجيش ليمنعه عن بغداد فإذا دخل على القاهر ليودعه ويأخذ أمره فيما يفعل قبض عليه.
فلما اتفقا على ذلك جلس ابن مقلة وعنده الناس فقال لأبي بكر بن قرابة أعلمت أن القرمطي قد دخل الكوفة في ستة آلاف مقاتل بالسلاح التام؟ قال: لا! قال: ابن مقلة قد وصلنا كتب النواب بها بذلك فقال ابن قرابة هذا كذب ومحال فإن في جوارنا إنسانا من الكوفة وقد أتاه اليوم كتاب على جناح طائر تاريخه اليوم يخبر فيه بسلامه فقال له ابن مقلة سبحان الله أنتم أعرف منا بالأخبار فسكت ابن قرابة وكتب ابن مقلة إلى الخليفة يعرفه ذلك ويقول له إني قد جهزت جيشا مع علي بن يلبق ليسير يومنا هذا والعصر يحضر إلى الخدمة ليأمره مولانا بما يراه فكتب القاهر في جوابه يشكره ويأذن له في حضور ابن يلبق فجاءت رقعة القاهر وابن مقلة نائم فتركوها ولم يوصلوها إليه فلما استيقظ عاد وكتب
253

رقعة أخرى في المعنى فأنكر القاهر الحال حيث قد كتب جوابه وخاف ان يكون هناك مكر.
وبينا هو في هذا إذا وصلت رقعة طريف السبكري يذكر أن عنده نصيحة وأنه قد حضر في زي امرأة لينهيها إليه فاجتمع به القاهر فذكر له جميع ما قد عزموا عليه وما فعلوه من التدبير ليقبض ابن يلبق عليه إذا اجتمع به وأنهم قد بايعوا أبا أحمد بن المكتفي فلما سمع القاهر ذلك أخذ حذره وأنفذ إلى الساجية أحضرهم متفرقين وكمنهم في الدهاليز والممرات والرواقات وحضر علي بن يلبق بعد العصر وفي رأسه نبيذ معه عدد يسير من غلمانه بسلاح خفيف في طيارة وأمر جماعة من عسكره بالركوب إلى أبواب دار الخليفة وصعد من الطيارة وطلب الإذن فلم يأذن له القاهر فغضب وأساء أدبه وقال لا بد من لقائه شاء أو أبى.
وكان القاهر قد أحضر الساجية كما ذكرنا وهم عنده في الدار فأمرهم القاهر برده فخرجوا إليه وشتموه وشتموا أباه وشهروا سلاحهم وتقدموا إليه جميعهم ففر أصحابه عنه وألقى نفسه في الطيارة وعبر إلى الجانب الغربي واختفى من ساعته.
فبلغ ابن مقلة الخبر فاستتروا واستتر الحسن بن هارون أيضا.
فلما سمع طريف الخبر ركب في أصحابه وعليهم السلاح وحضروا
254

دار الخليفة ووقف القاهر فعظم الأمر حينئذ على ابن يلبق وجماعتهم وانكر يلبق ما جرى على ابنه وسب الساجية وقال لا بد من المضي إلى دار الخليفة فإن كان الساجية فعلوا هذا بغير تقدم قابلتهم بما يستحقونه وإن كان بتقدم سألته عن سبب ذلك.
فحضر دار الخليفة ومعه جميع القواد الذين بدار مؤنس فلم يوصله القاهر إليه وأمر بالقبض عليه وحبسه وأمر بالقبض على أحمد بن زيرك صاحب الشرطة وحصل الجيش كلهم في الدار فانفذ القاهر وطيب نفوسهم ووعدهم الزيادة وأنه يوقف هؤلاء على ذنوبهم ثم يطلقهم ويحسن إليهم فعادوا، وراسل القاهر مؤنسا يسأله الحضور عنده ليعرض عليه ما رفع عليهم ليفعل ما يراه وقال أنه عندي بمنزلة الوالد وما أحب أن أعمل شيئا إلا عن رأيه؛ فاعتذر مؤنس عن الحركة ونهاه أصحابه عن الحضور عنده.
فلما كان الغد أحضر القاهر طريفا السبكري وناوله خاتمه وقال له قد فوضت إلى ولدي عبد الصمد ما كان المقتدر فوضه إلى ابنه محمد وقلدتك خلافته ورياسة الجيش وإمارة الأمراء وبيوت الأموال كما كان ذلك إلى مؤنس ويجب أن تمضي إليه وتحمله إلى الدار فإنه ما دام في منزله يجتمع إليه من يريد الشر ولا يأمن [أن] تولد شغل فيكون ههنا مرفها ومعه من أصحابه من يخدمه على عادته.
فمضى إلى دار مؤنس وعنده أصحابه في السلاح وهو قد استولى عليه الكبر والضعف فسأله أصحاب مؤنس عن الحال فذكر سوء صنيع يلبق وابنه فكلهم سبهما وعرفهم ما أخذ لهم من الأمان والعهود فسكتوا،
255

ودخل إلى مؤنس وأشار عليه بالحضور عند القاهر وحمله عليه وقال له إن تأخرت طمع ولو رآك نائما ما تجاسر أن يوقظك وكان موافقا مؤنس وأصحابه لما نذكره، فسار مؤنس إليه فلما دخل الدار قبض القاهر عليه وحبسه ولم يره.
قال طريف: لما أعلمت القاهر بمجيء مؤنس ارتعد وتغيرت أحواله وزحف من صدر فراشه فخفته أن أكلمه في معناه وعلمت أنني قد أخطات وندمت وتيقنت انني لاحق بالقوم عن قريب وذكرت قول مؤنس فيه إنه يعرفه بالهوج والشر والأقدام والجهل وكان أمر الله قدرا مقدورا؛ وكانت وزارة ابن مقلة هذه تسعة أشهر وثلاثة أيام.
واستوزر القاهر أبا جعفر محمد بن القاسم بن عبيد الله مستهل شعبان، وخلع عليه، وأنفذ القاهر وختم على دور مؤنس ويلبق وابنه علي وابن مقلة وأحمد بن زيرك والحسن بن هارون ونقل دوابهم ووكل بحرمهم وأنفذ استقدم عيسى المتطبب من الموصل وأمر بنقل ما في دار ابن مقلة وإحراقها فنهب وأحرقت ونهبت دور المعتقلين بهم وظهر محمد بن ياقوت وقام بالحجبة ثم رأى كراهية طريف السبكري والساجية له فاختفى وهرب إلى أبيه بفارس، فكاتبه القاهر يلومه على عجلته بالهرب وقلده كور الأهواز.
وكان السبب في ميل طريف السبكري والساجية والحجرية إلى القاهر ومواطأتهم على مؤنس ويلبق وابنه ما نذكره وهو أن طريفا كان قد أخذ قواد مؤنس وأعلاهم منزلة وكان يلبق وابنه ممن يقبل يده ويخدمه،
256

فلما استخلف القاهر بالله تقدم يلبق وابنه وحكما في الدولة كما ذكرناه وأهمل ابن يلبق جانب طريف وقصده وعطله من أكثر أعمالها فلما طالت عطلته استحيا منه يلبق وخاف جانبه فعزم على استعماله على ديار مصر ليقضي حقه ويبعده ومعه أعيان رفقائه ليأمنهم وقال ذلك للوزير أبي علي بن مقلة فرآه صوابا فاعتذر يلبق إلى طريف لسبب عطلته وأعلمه بحديث مصر فشكره وشكر الوزير أيضا فمنع علي بن يلبق من إتمامه وتولى هو العمل وأرسل إليه من يخلفه فيه فصار طريف عدوا يتربص بهم الدوائر.
وأما الساجية فإنهم كانوا عدة مؤنس وعضده وساروا معه إلى الموصل وعادوا معه إلى قتال المقتدر ووعدهم مؤنس المظفر بالزيادة فلما قتل المقتدر لم يروا لميعاده وفاء ثناه عنه ابن يلبق واطرحهم ابن يلبق أيضا وأعرض عنهم.
وكان من جملتهم خادم أسود اسمه صندل وكان من أعيانهم وكان له خادم اسمه مؤتمن فباعه فاتصل بالقاهر قبل خلافته فلما استخلف قدمه وجعله لرسائله فلما بلي القاهر بابن يلبق وسوء معاملته كان كالغريق يتمسك بكل شيء وكان خبيرا بالدهاء والمكر فأمر مؤتمنا أن يقصد صندلا الساجي الذي باعه ويشكو من القاهر فإن رأى منه ردا لما يقوله أعلمه بحال القاهر وما يقاسي من ابن يلبق وابنه وإن رأى منه خلاف ذلك سكت فجاء إليه وفعل ما أمره.
فلما شكا قال له صندل وفي أي شيء هو الخليفة حتى يعطيك ويوسع
257

عليك؟ إن فرج الله عنه من هذا المفسد احتجت أنا وغيري إليك والله على صوم وصدقة إن ملك الخليفة أمره واستراح وارحنا من هذا الملعون فأعاد مؤتمن الحديث على القاهر فأرسل على يده هدية جميلة من طيب وغيره إلى زوجة صندل وقال له تحمله إليها وزوجها غائب عنها وتقول لها إن الخليفة قسم فينا شيئا وهذا من نصيبي أهديته عليكم ففعل هذا فقبلته ثم عاد إليها من الغد وقال أي شيء قال صندل لما رأى انبساطي عليكم فقالت اجتمع هو وفلان وفلان وذكرت ستة نفر من أعيانهم ورأوا ما أهديت إلينا فاستعملوا منه ودعوا للخليفة.
فبينما هو عندها إذ حضر زوجها فشكر مؤتمنا وسأله عن أحوال الخليفة فأثنى عليه ووصفه بالكرم وحسن الأخلاق وصلابته في الدين فقال صندل غن ابن يلبق نسبه إلى قلة الدين ويرميه بأشياء قبيحة فحلف مؤتمن على بطلان ذلك وأن جميعه كذب.
ثم أمر القاهر مؤتمنا أن يقصد زوجة صندل ويستدعيها إلى قهرمانة القاهر فتحضر متنكرة على انها قابلة يأنس بها من القاهر لما كانوا بدار ابن طاهر وقد حضرت لحاجة بعض أهل الدار إليها ففعلت ذلك ودخلت الدار وأتت عندهم فحملها القاهر رسالة إلى زوجها ورفقائه وكتب إليهم رقعة بخطه ويعدهم بالزيادة في الأقطاع والجاري وأعطاها لنفسها مالا فعادت إلى زوجها وأخبرته بما كان جميعه فوصل الخبر إلى ابن يلبق أن امرأة من دار ابن طاهر دخلت إلى دار الخليفة فلهذا منع ابن يلبق من دخول امرأة
258

حتى تبصر وتعرف.
وكان للساجية قائد كبير اسمه سيما وكلهم يرجعون إلى قوله فاتفق صندل ومن معه على إعلام سيما بذلك إذ لا بد لهم منه وأعلموه برسالة القاهر إليهم فقال صواب والعاقبة فيه جميلة ولكن لا بد أن يدخلوا في الأمر بعض هؤلاء القوم يعني أصحاب يلبق ومؤنس وليكن من أكابرهم فاتفقوا على طريف السبكري وقالوا: هو أيضا متسخط فحضروا عنده وشكوا إليه ما هم فيه وقالوا: لو كان الأستاذ يعنون مؤنسا يملك أمره لبلغنا مرادنا ولكن قد عجز وضعف واستبد عليه ابن يلبق بالأمور فوجدوا عنده من كراهتهم أضعاف ما أرادوا فأعملوه حينئذ حالهم فأجابهم إلى موافقتهم واستحلفهم أنه لا يلحق مؤنسا ويلبق وابنه مكروه وأذى في أنفسهم وأبدانهم وأموالهم وإنما يلزم يلبق وابنه بيوتهم ويكون مؤنس على مرتبته لا يتغير فحلفوا على ذلك وحلف لهم على الموافقة وطلب خط القاهر بما طلب فأرسلوا إلى القاهر بما كان فكتب إليهم بما أرادوا وزاد بأن قال أنه يصلي بالناس ويخطب أيام الجمع ويحج بهم ويغزو معهم ويقعد للناس ويكشف مظالمهم إلى غير ذلك من حسن السيرة.
ثم إن طريفا اجتمع بجماعة من رؤساء الحجرية وكان ابن يلبق قد أبعدهم عن الدار وأقام بها أصحابه فهم حنقون عليه فلما أعلمهم طريف الأمر أجابوه إليه فظهر شيء من هذا الحديث إلى ابن مقلة وابن يلبق ولم يعلموا تفصيله فاتفقوا على أن يقبضوا على جماعة من قواد الساجية
259

والحجرية فلم يقدموا عليهم خوف الفتنة.
وكان القاهر قد أظهر مرضا من دماميل وغيرها فاحتجب عن الناس خوفا منهم قلم يكن يراه أحد إلا خواص خدمه في الأوقات النادرة فتعذر على ابن مقلة وابن يلبق الاجتماع به ليبلغوا منه ما يريدون فوضعا ما ذكرناه من أخبار القرامطة ليظهر لهم ويفعلوا به ما أرادوا ولما قبض القاهر على مؤنس وجماعته استعمل القاهر على الحجبة سلامة الطولوني وعلى الشرطة أبا العباس أحمد بن خاقان واستوزر أبا جعفر محمد بن القاسم بن عبيد الله وأمر بالنداء على المستترين وإباحة مال من أخفاهم وهدم داره وجد في طلب أحمد بن المكتفي فظفر به فبنى عليه حائطا وهو حي فمات وظفر بعلي ابن يلبق فقتله.
ذكر قتل مؤنس ويلبق وولده علي والنوبختي
وفيها في شعبان قتل القاهر مؤنسا المظفر ويلبق وعلي بن يلبق وكان سبب قتلهم أن أصحاب مؤنس شغبوا وثاروا وتبعهم سائر الجند وأحرقوا روشن دار الوزير أبي جعفر ونادوا بشعار مؤنس وقالوا: لا نرضى إلا بإطلاق مؤنس.
وكان القاهر قد ظفر بعلي بن يلبق وأفرد كل واحد منهم في منزل فلما شغب الجند دخل القاهر إلى علي بن يلبق فأمر به فذبح واحتز
260

رأسه، فوضعوه في طشت ثم مضى القاهر والطشت يحمل بين يديه حتى دخل على يلبق فوضع الطشت بين يديه وفيه رأس ابنه فلما رآه بكى وأخذ يقبله ويترشفه فأمر به القاهر فذبح أيضا وجعل رأسه في طشت وحمل بين يدي القاهر ومضى حتى دخل على مؤنس فوضعهما بين يديه فلما رأى الرأسين تشهد واسترجع ولعن قاتلهما فقال القاهر جروا برجل الكلب الملعون فجروه وجعلوا رأسه في طشت وأمر بالرؤوس فطيف بها في جانبي بغداد ونودي عليها هذا جزاء من يخون الإمام ويسعى في فساد دولته ثم أعيدت ونظفت وجعلت في خزانة الرؤوس كما جرت العادة.
وقيل إنه قتل يلبق وابنه مستخف ثم ظفر بابنه بعد ذلك فأمر به فضرب فأقبل ابن يلبق على القاهر وسبه أقبح سب وأعظم شتم فأمر به القاهر فقتل وطيف برأسه في جانبي بغداد ثم أرسل إلى ابن يعقوب النوبختي وهو في مجلس وزيره محمد بن القاسم فأخذه وحبسه ورأى الناس من شدة القاهر ما علموا معه أنهم لا يسلمون من يده وندم كل من أعانه من سبك والساجية والحجرية حيث لم ينفعهم الندم.
261

ذكر وزارة أبي جعفر محمد بن القاسم للخليفة
وعزله ووزارة الخصيبي
لما قبض القاهر بالله على مؤنس ويلبق وابنه سأل عمن يصلح للوزارة فدل على أبي جعفر محمد بن القاسم بن عبيد الله فاستوزره فبقي وزيرا إلى يوم الثلاثاء ثالث عشر ذي القعدة من السنة فأرسل القاهر فقبض عليه وعلى أولاده وعلى أخيه عبيد الله وحرمه وكان مريضا بقولنج فبقي محبوسا ثمانية عشر يوما ومات فحمل إلى منزله وأطلق أولاده واستوزر أبا العباس أحمد بن عبيد الله بن سليمان الخصيبي وكانت وزارة أبي جعفر ثلاثة أشهر واثني عشر يوما.
ذكر القبض على طريف السبكري
لما تمكن القاهر وقبض على مؤنس وأصحابه وقتلهم ولم يقف على اليمين والأمان اللذين كتبهما لطريف وكان القاهر يسمع طريفا ما يكره ويستخف به ويعرض له بالأذى فلما رأى ذلك خافه وتيقن القبض عليه والقتل فوصى وفرغ من جميع ما يريده.
262

واشتغل القاهر عنه بقبض من قبض عليه من وزير وغيره ثم أحضره بعد أن قبض على وزيره أبي جعفر فقبض عليه فتيقن القتل إسوة بمن قتل من أصحابه ورفقائه فبقي محبوسا يتوقع القتل صباحا ومساء إلى أن خلع القاهر.
ذكر أخبار خراسان
في هذه السنة سار مرداويج من الري إلى جرجان وبها أبو بكر محمد بن المظفر مريضا فلما قصده مرداويج عاد إلى نيسابور وكان السعيد نصر بن أحمد بنيسابور فلما بلغها محمد بن المظفر سار السعيد نحو جرجان وكاتب محمد بن عبيد الله البلغمي مطرف بن محمد وزير مرداويج واستماله فمال إليه فانتهى الخبر بذلك إلى مرداويج فقبض عليه مطرف وقتله.
وأرسل محمد بن عبيد الله البلغمي إلى مرداويج يقول له أنا أعلم أنك لا تستحسن كفر ما يفعله معك الأمير السعيد وإنك إنما حملك على قصد جرجان وزيرك مطرف ليرى أهلها محله منك كما فعله أحمد بن أبي ربيعة كاتب عمرو بن الليث حمل عمرا على قصد بلخ ليشاهد أهلها منزلته من عمرو فكان منه ما بلغك وأنا لا أرى لك مناصبة ملك يطيف به مائة الف رجل من غلمانه ومواليه وموالي أبيه والصواب أنك تترك جرجان له وتبذل عن الري مالا تصالحه عليه ففعل مرداويج ذلك وعاد عن جرجان وبذل عن الري مالا وعاد إليها وصالحه السعيد عليها.
263

ذكر ولاية محمد بن المظفر على خراسان
ولما فرغ السعيد من أمر جرجان وأحكمه استعمل أبا بكر محمد بن المظفر بن محتاج على جيوش خراسان ورد إليه تدبير الأمور بنواحي خراسان جميعها وعاد إلى بخارى مقر عزه وكرسي ملكه.
وكان سبب تقدم محمد المظفر أنه كان يوما عند السعيد وهو يحادثه في بعض مهماته خاليا فلسعته عقرب في إحدى رجليه عدة لسعات فلم يتحرك ولم يظهر عليه أثر ذلك فلما فرغ من حديثه وعاد محمد إلى منزله نزع خفه فرأى العقرب فأخذها.
فانتهى خبر ذلك إلى السعيد فأعجب به وقال ما عجبت إلا من فراغ بالك لتدبير ما قلته لك فهلا قمت وأزلتها فقال ما كنت لأقطع حديث الأمير بسبب عقرب وإذا لم أصبر بين يديك على لسعة عقرب فكيف أصبر وأنا بعيد منك على حد سيوف أعداء دولتك إذا دفعتهم عن مملكتك فعظم محله عنده وأعطاه مائتي ألف درهم.
ذكر ابتداء دولة بني بويه
وهم عماد الدولة أبو الحسن علي وركن الدولة أبو علي الحسن، ومعز الدولة أبو الحسن أحمد، أولاد أبي شجاع بويه بن فناخسرو بن تمام بن
264

كوهي بن شيرزيل الأصغر ابن شير كنده بن شيرزيل الأكبر ابن شيران شاه بن شيرويه بن سشتان شاه بن سيس فيروز بن شيروزيل بن سنباد بن بهرام جور الملك ابن يزدجرد الملك ابن هرمز الملك ابن شابور الملك ابن شابور ذي الأكتاف وباقي النسب قد تقدم في أول الكتاب عند ذكر ملوك الفرس هكذا ساق نسبهم الأمير أبو نصر بن ماكولا رحمه الله.
وأما ابن مسكويه فإنه قال انهم يزعمون انهم من ولد يزدجرد بن شهريار آخر ملوك الفرس إلا أن النفس أكثر ثقة بنقل ابن ماكولا لأنه الامام العالم بهذه الأمور وهذا نسب عريق في الفرس ولا شك أنهم نسبوا إلى الديلم حيث طال مقامهم ببلادهم.
وأما ابتداء أمرهم فإن والدهم أبا شجاع بويه كان متوسط الحال فماتت زوجته وخلقت له ثلاثة بنين وقد تقدم ذكرهم فلما ماتت اشتد خزنه عليها فحكى شهريار بن رستم الديلمي قال كنت صديقا لأبي شجاع بويه فدخلت إليه يوما فعذلته على كثرة حزنه وقلت له أنت رجل تحتمل الحزن وهؤلاء المساكين أولادك يهلكهم الحزن وربما مات أحدهم فيجدد ذلك من الأحزان ما ينسيك المرأة وسليته بجهدي وأخذته
265

ففرجته وأدخلته ومعه أولاده إلى منزلي ليأكلوا طعاما وشغلته عن حزنه.
فبينما هم كذلك اجتاز بنا رجل يقول عن نفسه انه منجم ومعزم ومعبر للمنامات ويكتب الرقي والطلسمات وغير ذلك فأحضره أبو شجاع وقال له رأيت في منامي كأنني أبول فخرج من ذكري نار عظيمة استطالت وعلت حتى كادت تبلغ السماء ثم انفجرت فصارت ثلاث شعب وتولد من تلك الشعب عدة شعب فأضاءت الدنيا بتلك النيران ورأيت البلاد والعباد خاضعين لتلك النيران.
فقال المنجم: هذا منام عظيم لا أفسره إلا بخلعة وفرس ومركب فقال أبو شجاع والله ما أملك إلا الثياب التي على جسدي فإن أخذتها بقيت عريانا قال المنجم فعشرة دنانير قال والله ما أملك دينارا فكيف عشرة فأعطاه شيئا فقال المنجم أعلم أنه يكون لك ثلاثة أولاد يملكون الأرض ومن عليها ويعلو ذكرهم في الآفاق كما علت تلك النار ويولد لهم جماعة ملوك بقدر ما رأيت من تلك الشعب.
فقال أبو شجاع: أما تستحي تسخر منا؟ أنا رجل فقير وأولادي هؤلاء فقراء مساكين كيف يصيرون ملوكا؟
فقال المنجم: أخبرني بوقت ميلادهم فأخبره فجعل يحسب ثم قبض على يد أبي الحسن علي فقبلها وقال هذا والله يملك البلاد،
266

ثم هذا من بعده وقبض على يد أخيه أبي علي الحسن فاغتاظ منه أبو شجاع وقال لأولاده اصفعوا هذا الحكيم فقد أفرط في السخرية بنا فصفعوه وهو يستغيث ونحن نضحك منه ثم أمسكوا فقال لهم اذكروا لي هذا إذا قصدتكم وأنتم ملوك فضحكنا منه وأعطاه أبو شجاع عشرة دراهم.
ثم خرج من بلاد الديلم جماعة تقدم ذكرهم لتملك البلاد منهم ما كان بن كالي وليلى بن النعمان وأسفار بن شيرويه ومرداويج بن زيار وخرج مع كل واحد منهم خلق كثير من الديلم وخرج أولاد أبي شجاع في جملة من خرج وكانوا من جملة قواد ما كان بن كالي فلما كان من أمر ما كان ما ذكرناه من الاتفاق ثم الاختلاف بعد قتل أسفار واستيلاء مرداويج على ما كان بيد ما كان من طبرستان وجرجان وعود ما كان مرة أخرى إلى جرجان والدامغان وعوده إلى نيسابور مهزوما.
فلما رأى أولاد بويه ضعفه وعجزه قال له عماد الدولة وركن الدولة نحن في جماعة وقد صرنا ثقلا عليك وعيالا وأنت مضيق والأصلح لك ان نفارقك لنخفف عنك مؤنتنا فإذا صلح أمرنا عدنا إليك فأذن لهما فسارا إلى مرداويج واقتدى بهما جماعة من قواد ما كان وتبعوهما فلما صاروا إليه قبلهم أحسن قبول وخلع على بني بويه وأكرمهما وقلد كل واحد من قواد ما كان الواصلين إليه ناحية من نواحي الجبل فأما علي بن بويه فإنه قلده كرج.
267

ذكر سبب تقدم علي بن بويه
كان السبب في ارتفاع علي بن بويه من بينهم بعد الأقدار أنه كان سمحا حليما شجاعا فلم قلده مرداويج كرج وقلد جماعة القواد المستأمنة معه الأعمال وكتب لهم العهود ساروا إلى الري وبها وشمكير بن زيار أخو مرداويج ومعه الحسين بن محمد الملقب العميد وهو والد أبي الفضل الذي وزر لركن الدولة بن بويه وكان العميد يومئذ وزير مرداويج.
وكان مع عماد الدولة بغلة شهباء من أحسن ما يكون فعرضها للبيع فبلغ ثمنها مائتي دينار فعرضت على العميد فأخذها وأنفذ ثمنها فلما حمل الثمن إلى عماد الدولة أخذ منه عشرة دنانير ورد الباقي وجعل معه هدية جميلة.
ثم إن مرداويج ندم على ما فعل من توليه أولئك القواد البلاد فكتب إلى أخيه وشمكير والي العميد يأمرهما بمنعهم من المسير إلى أعمالهم وإن كان بعضهم قد خرج فيرد.
وكانت الكتب تصل إلى العميد قبل وشمكير فيقرؤها ثم يعرضها على وشمكير فلما وقف العميد على هذا الكتاب أنفذ إلى عماد الدولة يأمره بالمسير من ساعته إلى عمله ويطوي المنازل فسار من وقته وكان المغرب وأما العميد فلما أصبح عرض الكتاب على وشمكير فمنع سائر القواد من
268

الخروج من الري واستعاد التوقيعات التي معهم بالبلاد وأراد وشمكير أن ينفذ خلف عماد الدولة من يرده فقال العميد إنه لا يرجع طوعا وربما قاتل من يقصده ويخرج عن طاعتنا فتركه.
وسار عماد الدولة إلى كرج وأحسن إلى الناس ولطف بعمال البلاد فكتبوا إلى مرداويج يشكرونه ويصفون ضبطه البلد وسياسته وافتتح قلاعا كانت للخرمية وظفر منها بذخائر كثيرة صرفها جميعها إلى استمالة الرجال والصلات والهبات فشاع ذكره وقصده الناس وأحبوه.
وكان مردايج ذلك الوقت بطبرستان فلما عاد إلى الري أطلق مالا لجماعة من قواده على كرج فاستمالهم عماد الدولة ووصلهم وأحسن إليهم حتى مالوا إليه وأحبوا طاعته.
وبلغ ذلك مرداويج فاستوحش وندم على انفاذ أولئك القواد إلى الكرج فكتب إلى عماد الدولة وأولئك يستدعيهم إليه وتلطف بهم فدافعه عماد الدولة واشتغل بأخذ العهود عليهم وخوفهم من سطوة مرداويج فأجابوه جميعهم فجبى مال كرج واستأمن إليه شيرزاد وهو من أعيان قواد الديلم فقويت نفسه بذلك وسار بهم عن كرج إلى أصبهان وبها المظفر بن ياقوت في نحو من عشرة آلاف مقاتل وعلى خراجها أبو علي بن رستم فأرسل عماد الدولة إليهما يستعطفهما ويستأذنهما في الانحياز إليهما والدخول في طاعة الخليفة ليمضي إلى الحضرة ببغداد فلم يجيباه إلى ذلك وكان أبو علي أشدهما كراهة فاتفق للسعادة أن أبا علي مات في تلك الأيام وبرز
269

ابن ياقوت عن أصبهان ثلاثة فراسخ وكان في أصحابه جيل وديلم مقدار ستمائة رجل فاستأمنوا إلى عماد الدولة لما بلغهم من كرمه فضعف قلب ابن ياقوت وقوي جنان عماد الدولة فواقعه واقتتلوا قتالا شديدا فانهزم ابن ياقوت واستولى عماد الدولة على أصبهان وعظم في عيون الناس لأنه كان في تسعمائة رجل هزم بهم ما يقارب عشرة آلاف رجل وبلغ ذلك الخليفة فاستعظمه وبلغ خبر هذه الوقعة مرداويج فأقلقه وخاف على ما بيده من البلاد واغتم غما شديدا.
ذكر استيلاء ابن بويه
على أرجان وغيرها وملك مرداويج أصبهان
لما بلغ الوقعة إلى مرداويج خاف عماد الدولة بن بويه فشرع في أعمال الحيلة فراسله يعاتبه ويستميله ويطلب منه أن يظهر طاعته حتى يمده بالعساكر الكثيرة ليفتح بها البلاد ولا يكلفه سوى الخطبة له في البلاد التي يستولي عليها.
فلما سار الرسول جهز مرداويج أخاه وشمكير في جيش كثيف ليكبس ابن بويه وهو مطمئن إلى الرسالة التي تقدمت فعلم ابن بويه بذلك فرحل عن أصبهان بعد أن جباها شهرين وتوجه إلى أرجان وبها أبو بكر بن ياقوت فانهزم أبو بكر من غير قتال وقصد رامهرمز واستولى ابن بويه على أرجان في ذي الحجة ولما سار عن أصبهان دخلها وشمكير وعسكر
270

أخيه مرداويج وملكوها فلما سمع القاهر أرسل إلى مرداويج قبل خلعه ليمنع أخاه عن أصبهان ويسلمها إلى محمد بن ياقوت ففعل ذلك ووليها محمد.
وأما ابن بويه فإنه ملك أرجان استخرج منها أموالا فقوي بها ووردت عليه كتب أبي طالب زيد بن علي النوبندجاني يستدعيه ويشير إليه بالمسير إلى شيراز ويهون عليه أمر ياقوت وأصحابه ويعرفه تهوره واشتغاله بجباية الأموال وكثرة مؤنته ومؤنة أصحابه وثقل وطأتهم على الناس مع فشلهم وجبنهم فخاف ابن بويه أن يقصد ياقوتا مع كثرة عساكره وأمواله ويحصل بين ياقوت وولده فلم يقبل مشورته فلم يبرح من مكانه فعاد أبو طالب وكتب إليه يشجعه ويعلمه أن مرداويج قد كتب إلى ياقوت يطلب مصالحته فإن تم ذلك اجتمعا على محاربته ولم يكن له بهما طاقة ويقول له إن الرأي لمن كان في مثل حاله أن يعاجل من بين يديه ولا ينتظر بهم الاجتماع والكثرة أن يحدقوا به من كل جانب فإنه إذا هزم من بين يديه خافه الباقون ولم يقدموا عليه.
ولم يزل أبو طالب يراسله إلى ان سار نحو النوبندنجان في ربيع الآخر سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة وقد سبقه إليهما مقدم ياقوت في نحو ألفي فارس من شجعان أصحابه فلما وافاهم ابن بويه لم يثبتوا له لما لقيهم وانهزموا إلى كركان وجاءهم ياقوت في جميع أصحابه إلى هذا الموضع وتقدم أبو طالب إلى وكلائه بالنوبندنجان بخدمة ابن بويه والقيام بما يحتاج إليه،
271

وتنحى هو عن البلد إلى بعض القرى حتى لا يعتقد فيه المواطأة له فكان مبلغ ما خسر عليه في أربعين يوما مقدار مائتي ألف دينار.
وأنفذ عماد الدولة أخاه ركن الدولة الحسين إلى كازرون وغيرها من أعمال فارس فاستخرج منها أموالا جليلة فأنفذ ياقوت عسكرا إلى كازرون فواقعهم ركن الدولة فهزمهم وهو في نفر يسير وعاد غانما سالما إلى أخيه.
ثم إن عماد الدولة انتهى إلى مراسلة مرداويج وأخيه وشمكير إلى ياقوت ومراسلته إليهما فخاف اجتماعهم فسار من النوبندجان إلى إصطخر ثم إلى البيضاء وياقوت يتبعه وانتهى إلى قنطرة على طريق كرمان فسبقه ياقوت إليها ومنعه من عبورها واضطر إلى الحرب وذلك في آخر سنة إحدى وعشرين [وثلاثمائة]، ودخلت سنة اثنتين وعشرين [وثلاثمائة].
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة اجتمعت بنو ثعلبة إلى بني أسد القاصدين إلى أرض الموصل ومن معهم من طيء فصاروا يدا واحدة على بني مالك ومن معهم من تغلب وقرب بعضهم من بعض للحرب فركب ناصر الدولة الحسن بن عبد الله بن حمدان في أهله ورجاله ومعه أبو الأغر بن سعيد بن حمدان للصلح بينهم فتكلم أبو الأغر فطعنه رجل من حزب بني ثعلبة فقتله فحمل عليهم ناصر الدولة ومن معه فانهزموا وقتل منهم وملك بيوتهم وأخذ حريمهم وأموالهم ونجوا على ظهور خيولهم وتبعهم ناصر الدولة إلى الحديثة فلما وصلوا إليها لقيهم يأنس غلام مؤنس وقد ولي الموصل وهو مصعد إليها
272

فانضم إليه بنو ثعلبة وبنوا أسد وعادوا إلى ديار ربيعة.
وفيها ورد الخبر إلى بغداد بوفاة تكين الخاصة بمصر وكان أميرا عليها فولي مكانه ابنه محمد وأرسل له القاهر بالله الخلع وثار الجند بمصر فقاتلهم محمد وظفر بهم.
وفيها أمر علي بن يلبق قبل قبضه وكاتبه الحسن بن هارون بلعن معاوية بن أبي سفيان وابنه يزيد على المنابر ببغداد فاضطربت العامة فأراد علي بن يلبق أن يقبض على البربهاري رئيس الحنابلة وكان يثير الفتن هو وأصحابه فعلم بذلك فهرب فأخذ جماعة من أعيان أصحابه حبسوا وجعلوا في زورق وأحدروا إلى عمان.
وفيها أمر القاهر بتحريم الخمر والغناء وسائر الأنبذة ونفى بعض من كان يعرف بذلك إلى البصرة والكوفة وأما الجواري المغنيات فأمر ببيعهن على أنهن سواذج لا يعرفن الغناء ثم وضع من يشتري له كل حاذقة في صنعة الغناء فاشترى منها ما أراد بأرخص الأثمان وكان القاهر مشتهرا بالغناء والسماع فجعل ذلك طريقا إلى تحصيل غرضه رخيصا نعوذ بالله من هذه الأخلاق التي لا يرضاها عامة الناس.
وفيها توفي أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد اللغوي في شعبان وأبو
273

هاشم بن أبي علي الجبائي المتكلم المعتزلي في يوم واحد ودفنا بمقابر الخيزران.
وفيها توفي محمد بن يوسف بن مطر الفربري وكان مولده سنة إحدى وثلاثين ومائتين وهو الذي روى صحيح البخاري عنه وكان قد سمعه عشرات ألوف من البخاري فلم ينتشر إلا عنه وهو منسوب إلى فربر بالفاء والراءين المهملتين وبينهما باء معجمة موحدة وهي من قرى بخارى.
274

322
ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة
ذكر استيلاء ابن بويه على شيراز
في هذه السنة ظفر عماد الدولة بن بويه بياقوت وملك شيراز وقد ذكرنا مسير عماد الدولة ابن بويه إلى القنطرة وسبق ياقوت إليها فلما وصلها ابن بويه وصده ياقوت عن عبورها اضطر إلى محاربته فتحاربا في جمادى الآخرة وأحضر علي بن بويه أصحابه ووعدهم أنه يترجل معهم عند الحرب [ويقاتل كأحدهم]، ومناهم ووعدهم الإحسان.
وكان من سعادته أن جماعة من أصحابه استأمنوا إلى ياقوت فحين رآهم ياقوت أمر بضرب رقابهم فأيقن من مع ابن بويه أنهم لا أمان لهم عنده فقاتلوا قتال مستقتل.
ثم إن ياقوتا قدم أمام أصحابه رجالة كثيرة يقاتلون بقوارير النفط فانقلبت الريح في وجهوهم واشتدت فلما ألقوا النار عادت النار عليهم فعلقت بوجوههم وثيابهم فاختلطوا وأكب عليهم أصحاب ابن بويه فقتلوا أكثر الرجالة وخالطوا الفرسان فانهزموا فكانت الدائرة على ياقوت وأصحابه.
فلما انهزم صعد على نشز مرتفع ونادى في أصحابه الرجعة فاجتمع
275

إليه نحو أربعة آلاف فارس فقال لهم أثبتوا فإن الديلم يشتغلون بالنهب ويتفرقون فنأخذهم فثبتوا معه فلما رأى ابن بويه ثباتهم نهى أصحابه عن النهب وقال إن عدوكم يرصدكم لتشتغلوا بالنهب فيعطف عليكم ويكون هلاككم فاتركوا هذا وأفرغوا من المنهزمين ثم عودوا إليه ففعلوا ذلك فلما رأى ياقوت أنهم على قصده ولى منهزما واتبعه أصحاب ابن بويه يقتلون ويأسرون ويغنمون الخيل والسلاح.
وكان معز الدولة أبو الحسن أحمد بن بويه في ذلك اليوم من أحسن الناس أثرا، وكان صبيا لم تنبت لحيته وكان عمره تسع عشرة سنة ثم رجعوا إلى السواد فغنموا ووجدوا في سواده برانس لبود عليها أذناب الثعالب ووجدوا قيودا وأغلالا فسألوا عنها فقال أصحاب ياقوت إن هذه أعدت لكم لتجعل عليكم ويطاف بكم في البلاد فأشار أصحاب ابن بويه أن يفعل بهم مثل ذلك فامتنع وقال إنه بغي ولؤم ظفر ولقد لقي ياقوت بغيه.
ثم أحسن إلى الأسارى وأطلقهم وقال هذه نعمة والشكر عليها واجب يقتضي المزيد وخير الأسارى بين المقام عنده واللحوق بياقوت فاختاروا المقام عنده فخلع عليهم وأحسن إليهم.
وسار من موضع الوقعة حتى نزل بشيراز ونادى في الناس بالأمان وبث العدل وأقام لهم شحنة يمنع من ظلمهم واستولى على تلك البلاد وطلب الجند أرزاقهم فلم يكن عنده ما يعطيهم فكاد ينحل أمره فقعد في غرفة في دار الإمارة بشيراز يفكر في أمره فرأى حية خرجت من موضع في سقف تلك الغرفة ودخلت في ثقب هناك فخاف أن
تسقط عليه فدعا
276

الفراشين ففتحوا الموضع فرأوا وراءه بابا فدخلوه إلى غرفة أخرى وفيها عشرة صناديق مملؤة مالا ومصوغا وكان ما فيها ما قيمته خمسمائة ألف دينار فأنفقها وثبت ملكه بعد أن كان قد أشرف على الزوال.
وحكي أنه أراد أن يفصل ثيابا فدلوه على خياط كان لياقوت فأحضره فحضر خائفا وكان أصم فقال له عماد الدولة لا تخف فإنما أحضرناك لتفصل ثيابا فلم يعلم ما قال فابتدأ وحلف بالطلاق والبراءة من دين الإسلام أن الصناديق التي عنده لياقوت ما فتحها فتعجب الأمير من هذا الاتفاق فأمره بإحضارها فأحضر ثمانية صناديق فيها مال وثياب قيمته ثلاثمائة ألف دينار ثم ظهر له من ودائع ياقوت وذخائر يعقوب وعمرو بني الليث جملة كثيرة فامتلأت خزائنه وثبت ملكه.
فلما تمكن من شيراز وفارس كتب إلى الراضي بالله وكانت قد أفضت إليه الخلافة على ما نذكره وإلى وزيره أبي علي بن مقلة يعرفهما أنه على الطاعة ويطلب منه أن يقاطع على ما بيده من البلاد وبذل ألف ألف درهم فأجيب إلى ذلك فأنفذوا له الخلع وشرطوا على الرسول أن لا يسلم إليه الخلع إلا بعد قبض المال.
فلما وصل الرسول خرج عماد الدولة إلى لقائه وطلب منه الخلع واللواء فذكر له الشرط فأخذهما منه قهرا ولبس الخلع ونشر اللواء بين يديه ودخل البلد وغالط الرسول بالمال فمات الرسول عنده سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة وعظم شأنه وقصده الرجال من الأطراف.
ولما سمع مرداويج بما ناله من ابن بويه قام لذلك وقعد وسار إلى أصبهان
277

للتدبير عليه وكان بها أخوه وشمكير لأنه لما خلع القاهر وتأخر محمد بن ياقوت عنها عاد إليها وشمكير بعد أن بقيت تسعة عشر يوما خالية من أمير فلما وصلها مرداويج رد أخاه وشمكير إلى الري.
ذكر استيلاء نصر بن أحمد على كرمان
في هذه السنة خرج أبو علي محمد بن إلياس من ناحية كرمان إلى بلاد فارس وبلغ إصطخر فأظهر لياقوت أنه يريد [أن] يستأمن إليه حيلة ومكرا فعلم ياقوت مكره فعاد إلى كرمان فسير إليه السعيد نصر بن أحمد صاحب خراسان ما كان بن كالي في جيش كثيف فقاتله فانهزم ابن إلياس واستولى ما كان على كرمان نيابة من صاحب خراسان.
وكان هذا محمد بن إلياس من أصحاب نصر بن أحمد فغضب عليه وحبسه ثم شفع فيه محمد بن عبيد الله البلغمي فأخرجه وسيره مع محمد بن المظفر إلى جرجان فلما خرج يحيى بن أحمد واخوته ببخارى على ما ذكرناه سار محمد بن إلياس إليه فصار معه فلما دبر أمره سار محمد من نيسابور إلى كرمان فاستولى عليها إلى هذه الغاية فأزاله ما كان
278

عنها، فسار إلى الدينور وأقام ما كان بكرمان فلما عاد عنها على ما نذكره رجع إليها محمد بن إلياس.
ذكر خلع القاهر بالله
وفيها خلع القاهر بالله في جمادى الأولى.
وكان سبب ذلك ان أبا علي بن مقلة كان مستترا من القاهر والقاهر يتطلبه وكذلك الحسن بن هارون فكانا يراسلان قواد الساجية والحجرية ويخوفانهم من شره ويذكران لهم غدره ونكثه مرة بعد أخرى كقتل مؤنس ويلبق وابنه علي بعد الإيمان لهم وكقبضه على طريف السبكري بعد اليمين له مع نصح طريف له إلى غير ذلك.
وكان ابن مقلة يجتمع بالقواد ليلا تارة في زي أعمى وتارة في زي مكد وتارة في زي امرأة ويغريهم به.
ثم إنه أعطى منجما كان لسيما مائتي دينار وأعطاه الحسن مائة دينار وكان يذكر لسيما أن طالعه يقتضي ان ينكبه القاهر ويقتله وأعطى ابن مقلة أيضا لمعبر كان لسيما يعبر له المنامات فكان يحذره أيضا من القاهر ويعبر له على ما يريد فازداد نفورا من القاهر.
ثم إن القاهر شرع في عمل مطامير في الدار فقيل لسيما ولجماعة قواد الساجية والحجرية إنما عملها لأجلكم فازداد نفورا ونقل إلى سيما أن القاهر يريد قتله، فجمع الساجية، وكان هو رئيسهم المقدم عليهم، وأعطاهم
279

السلاح، وأنفذوا إلى الحجرية إن كنتم موافقين لنا فجيؤا إلينا حتى يحلف بعضنا لبعض وتكون كلمتنا واحدة فاجتمعوا جميعهم وتحالفوا على اجتماع الكلمة وقتل من خالف منهم.
فاتصل ذلك بالقاهر ووزيره الخصيبي فأرسل إليهم الوزير ما الذي حملكم على هذا فقالوا: قد صح عندنا أن القاهر يريد القبض على سيما وقد عمل مطامير ليحبس فيها قوادنا ورؤساءنا فلما كان يوم الأربعاء لست خلون من جمادى الأولى اجتمع الساجية والحجرية عند سيما وتحالفوا على الاجتماع على القبض على القاهر فقال لهم سيما قوموا بنا الساعة حتى نمضي هذا العزم فإنه إن تأخر علم به واحترز وأهلكنا.
وبلغ ذلك الوزير فأرسل الحاجب سلامة وعيسى الطبيب ليعلماه بذلك فوجداه نائما قد شرب أكثر ليلته فلم يقدرا على إعلامه بذلك.
وزحف الحجرية والساجية إلى الدار ووكل سيما بأبوابها من يحفظها وبقي هو على باب العامة وهجموا على الدار من سائر الأبواب فلما سمع القاهر الأصوات والغلبة استيقظ مخمورا وطلب بابا يهرب منه فقيل له إن الأبواب جميعها مشحونة بالرجال فهرب إلى سطح حمام فلما دخل القوم لم يجدوه فأخذوا الخدم وسألوهم عنه فدلهم عليه خادم صغير فقصدوه فرأوه وبيده السيف فاجتهدوا به فلم ينزل لهم فألانوا له القول وقالوا: نحو عبيدك وإنما نريد أن نأخذ عليك العهود فلم يقبل منهم وقال من صعد إلي
قتلته فأخذ بعضهم سهما وقال إن نزلت وإلا وضعته
280

في نحرك! فنزل حينئذ إليهم فأخذوه وساروا به إلى الموضع الذي فيه طريف السبكري ففتحوه وأخرجوه منه وحبسوا القاهر مكانه ثم سملوه وهرب وزيره الخصيبي وسلامة حاجبه.
وقيل في سبب خلعه وقيام الساجية والحجرية غير ما تقدم وهو أن القاهر لما تمكن من الخلافة أقبل ينقص الساجية والحجرية على ممر الأيام ولا يقضي لأكابرهم حاجة ويلزمهم النوبة في داره ويؤخر أعطياتهم ويغلط لمن يخاطبه منهم في أمر ويحرمه فأقبل بعضهم ينظر بعضا ويتشاكون بينهم ثم إنه كان يقول لسلامة حاجيه يا سلامة أنت بين يدي كنز مال يمشي فأي شيء يبين في مالك لو أعطيتني ألف ألف دينار فيحمل ذلك منه على الهزل.
وكان وزيره الخصيبي أيضا خائفا لما يرى منه، ثم إنه حفر في الدار نحو خمسين مطمورة تحت الأرض وأحكم أبوابها فكان يقال إنه عملها لمقدمي الساجية والحجرية فازداد نفورهم منه وخوفهم ثم إن جماعة من القرامطة أخذوا بفارس وأرسلوا إلى بغداد كما تقدم فحبسوا في تلك المطامير ثم تقدم سرا بفتح الأبواب عليهم والإحسان إليهم وعزم على أن يقوى بهم على القبض على مقدمي الحجرية والساجية وبمن معه من غلمانه.
وأنكر الحجرية والساجية حال القرامطة وكونهم معه في داره محسنا إليهم وقالوا لوزيره الخصيبي وحاجبه سلامة في ذلك فقالا له فأخرجهم من الدار فسلمهم إلى محمد بن ياقوت وهو على شرطة بغداد فأنزلهم في دار،
281

وأحسن إليهم وكان يدخل إليهم من يريد فعظم استيحاشهم.
ثم صار يذمهم في مجلسه ويظهر كراهتهم حتى تبينوا ذلك في وجهه وحركاته معهم فأظهروا أن لبعض قوادهم عرسا فاجتمعوا بحجته وقرروا بينهم ما أرادوا وافترقوا وأرسلوا إلى سابور خادم والدة المقتدر فقالوا له قد علمت ما فعله بمولاتك وقد ركبت في موافقته كل عظيم فإن وافقتنا على ما نحن عليه وتقدمت إلى الخدم بحفظه فعفا الله عما سلف منك وإلا فنحن نبدأ بك فأعلمهم ما عنده من الخوف والكراهة للقاهر وأنه موافقهم وكان ابن مقلة مع هذا يصنع عليه ويسعى فيه إلى أن خلع كما ذكرنا وكانت خلافته سنة واحدة وستة أشهر وثمانية أيام.
ذكر خلافة الراضي بالله
هو ابن العباس أحمد بن المقتدر بالله ولما قبض القاهر سألوا الخدم عن المكان الذي فيه أبو العباس ابن المقتدر فدلوهم عليه وكان هو ووالدته محبوسين فقصدوه وفتحوا عليه ودخلوا فسلموا عليه بالخلافة وأخرجوه وأجلسوه على سرير القاهر يوم الأربعاء لست خلون من جمادى الأولى ولقبوه بالراضي بالله وبايعه القواد والناس وأمر بإحضار علي بن عيسى وأخيه عبد الرحمن وصدر عن رأيهما فيما يفعله واستشارهما وأراد علي بن عيسى على الوزارة فامتنع لكبره وعجزه وضعفه
282

وأشار بابن مقلة.
ثم أن سيما قال للراضي إن الوقت لا يحتمل أخلاق علي وابن مقلة أليق بالوقت فكتب له أمانا وأحضره واستوزره فلما وزر أحسن إلى كل من أساء إليه وأحسن سيرته وقال عاهدت الله عند استتاري بذلك فوفى به وأحضر الشهود والقضاة وأرسلهم إلى القاهر ليشهدوا عليه بالخلع فلم يفعل فسمل من ليلته فبقي أعمى لا يبصر.
وأرسل ابن مقلة إلى الخصيبي وعيسى المتطبب بالأمان فظهرا وأحسن إليهما واستعمل الخصيبي وولاه واستعمل الراضي بالله على الشرطة بدرا الخرشني واستعمل ابن مقلة أبا الفضل بن جعفر بن الفرات في جمادى الأولى نائبا عنه على سائر العمال بالموصل وقردى وبازبدى وماردين وطور عبدين وديار الجزيرة وديار بكر وطريق الفرات والثغور الجزرية والشامية وأجناد الشام وديار مضر يصرف من يرى ويستعمل من يرى في الخراج والمعاون والنفقات والبريد وغير ذلك.
وأرسل إلى محمد بن رائق يستدعيه ليوليه الحجبة وكان قد استولى على الأهواز وأعمالها ودفع عنها ابن ياقوت ولم يبق بيد ابن ياقوت من تلك الولاية إلا السوس وجند يسابور وهو يريد المسير إلى أصبهان أميرا عليها على ما ذكرناه وكان ذلك آخر أيام القاهر فلما ولي الراضي واستحضره سار إلى واسط وأرسل محمد بن ياقوت يخطب الحجبة فأجيب إليها فسار
283

في إثر ابن رائق وبلغ ابن رائق الخبر فلم يقف وسار من واسط مصعدا إلى بغداد يسابق ابن ياقوت فلما وصل إلى المدائن لقيه توقيع الراضي يأمره بترك دخول بغداد وتقليده الحرب والمعاون بواسط مضافا إلى ما بيده من البصرة وغيرها فعاد منحدرا في دجلة ولقيه ابن ياقوت مصعدا فيها أيضا فسلم بعضهم على بعض وأصعد ابن ياقوت إلى بغداد فتولى الحجبة على ما نذكره.
ذكر وفاة المهدي صاحب إفريقية وولاية ولده القائم
في هذه السنة في شهر ربيع الأول توفي المهدي أبو محمد عبيد الله العلوي بالمهدية وأخفى ولده أبو القاسم موته سنة لتدبير كان له وكان يخاف أن يختلف الناس عليه إذا علموا بموته وكان عمر المهدي لما توفي ثلاثا وستين سنة وكانت ولايته منذ دخل رقادة له بالأمان إلى أن توفي أربعا وعشرين سنة وشهرا وعشرين يوما.
ولما توفي ملك بعده ابنه أبو القاسم محمد وكان أبوه قد عهد إليه ولما أظهر وفاة والده كان قد تمكن وفرغ من جميع ما أراده واتبع سنة أبيه وثار عليه جماعة فتمكن منهم وكان من أشدهم رجل يقال له ابن طالوت القرشي في ناحية طرابلس ويزعم أنه ولد المهدي فقاموا معه وزحف إلى مدينة طرابلس فقاتله أهلها ثم تبين للبربر كذبه فقتلوه وحملوا رأسه إلى القائم.
وجهز القائم أيضا جيشا كثيفا مع ميسور الفتى إلى المغرب فانتهى إلى
284

فاس، وإلى تكرور وهزم خارجيا هناك وأخذ ولده أسيرا وسير أيضا جيشا في البحر وقدم عليهم رجلا اسمه يعقوب ابن إسحاق إلى بلد الدوم فسبى وغنم في بلد جنوه وسير جيشا آخر مع خادمه زيدان وبالغ في النفقة عليهم وتجهيزهم إلى مصر فدخلوا الإسكندرية فأخرج إليهم محمد الإخشيد عسكرا كثيفا فقاتلهم وهزموا المغاربة وقتلوا فيهم وأسروا وعاد المغاربة مفلولين.
ذكر استيلاء مرداويج على الأهواز
لما بلغ مرداويج استيلاء علي بن بويه على فارس اشتد ذلك عليه فسار إلى أصبهان للتدبير على ابن بويه فرأى أن ينفذ عسكرا إلى الأهواز ليستولي عليها ويسد الطريق على عماد الدولة بن بويه إذا قصده فلا يبقى له طريق إلى الخليفة ويقصده هو من ناحية أصبهان ويقصده عسكره من ناحية الأهواز فلا يثبت لهم.
فسارت عساكر مرداويج في شهر رمضان حتى بلغت إيذج فخاف ياقوت أن يحصل بينهم وبين ابن بويه فسار إلى الأهواز ومعه ابنه المظفر وكتب إلى الراضي ليقلده أعمال الأهواز فقلده ذلك وصار أبو عبد الله
285

ابن البريدي كاتبه مضافا إلى ما بيده من أعمال الخراج بالأهواز وصار أخوه أبو الحسين يخلف ياقوتا ببغداد.
ثم استولى عسكر مرداويج على رامهرمز أول شوال من هذه السنة وساروا نحو الأهواز فوقف لهم ياقوت على قنطرة أربق، فلم يمكنهم من العبور لشدة جرية الماء فأقاموا بإزائه أربعين يوما ثم رحلوا فعبروا على الأطراف نهر المسرقان فبلغ الخبر إلى ياقوت وقد أتاه مدد من بغداد قبل ذلك بيومين فسار بهم إلى قرية الريخ وسار منها إلى واسط وبها حينئذ محمد بن رائق فأخلى له غربي واسط فنزل فيه ياقوت.
ولما بلغ عماد الدولة استيلاء مرداويج على الأهواز كاتب نائب مرداويج يستميله ويطلب منه أن يتوسط الحال بينه وبين مرداويج ففعل ذلك وسعى فيه فأجابه مرداويج إلى ذلك على ان يطيعه ويخطب له فاستقر الحال بينهما وأهدى له ابن بويه هدية جليلة وأنفذ أخاه ركن الدولة رهينة وخطب لمرداويج في بلاده فرضي مرداويج منه واتفق أنه قتل على ما نذكره فقوي أمر ابن بويه.
ذكر عود ياقوت إلى الأهواز
ولما وصل ياقوت إلى واسط أقام بها إلى أن قتل مرداويج ومعه أبو عبد الله البريدي يكتب له فلما قتل مرداويج عاد ياقوت إلى الأهواز واستولى على تلك الولاية ولما وصل ياقوت إلى عسكر مكرم، بعد قتل مرداويج،
286

كانت عساكر ابن بويه قد سبقته فالتقوا بنواحي أرجان وكان ابن بويه قد لحق بأصحابه واشتد قتالهم بين يديه فانهزم ياقوت ولم يفلح بعدها.
وراسل أبو عبد الله البريدي ابن بويه في الصلح فأجاب إلى ذلك وكتب به إلى الراضي فأجاب إلى ذلك وقرر بلاد فارس علي ابن بويه واستقر بشيراز واستقر ياقوت بالأهواز ومعه ابن البريدي.
وكان محمد بن ياقوت قد سار إلى بغداد وتولى الحجبة وخلع الراضي عليه وتولى مع الحجبة رياسة الجيش وأدخل يده في أمر الدواوين وتقدم إليهم بأن لا يقبلوا توقيعا بولاية ولا عزل واطلاق إلا إذا كان خطه عليه وأمرهم بحضور مجلسه فصبر أبو علي بن مقلة على ذلك وألزم نفسه بالمصير إلى دار ابن ياقوت في بعض الأوقات وبقي كالمتعطل.
ولقد كان في هذه الأيام القليلة حوادث عظيمة منها انصراف وشمكير أخي مرداويج عن أصبهان بكتاب القاهر بعد أن ملكها واستعمال الطاهر بن ياقوت عليها وخلع القاهر وخلافة الراضي وأمر الحجبة لمحمد ابن رائق ثم انفساخه ومسير محمد بن ياقوت من رامهرمز إلى بغداد وولايته الحجبة بعد أن كان سائرا إلى أصبهان ليتولاها وإعادة مرداويج أخاه وشمكير إليها وملك علي بن بويه أرجان هذا جميعه في هذه اللحظة القريبة في سبعين يوما فتبارك الله الذي بيده الملك والملكوت يصرف الأمور كيف يشاء لا إله إلا هو.
287

ذكر قتل هارون بن غريب
في هذه السنة قتل هارون بن غريب وكان سبب قتله أنه كان كما ذكرنا قد استعمله القاهر على ماه الكوفة وقصبتها الدينور وعلى ماسبذان وغيرها فلما خلع القاهر واستخلف الراضي رأى هارون انه أحق بالدولة من غيره لقرابته من الراضي حيث هو ابن خال المقتدر فكاتب القواد ببغداد يعدهم الإحسان والزيادة في الأرزاق، ثم سار من الدينور إلى خانقين فعظم ذلك على ابن مقلة وابن ياقوت والحجرية والساجية والمؤنسية واجتمعوا وشكوه إلى الراضي فأعلمهم انه كاره له وأذن لهم في منعه فراسلوه أولا وبذلوا له طريق خراسان زيادة على ما في يده فلم يقنع به، وتقدم إلى النهروان وشرع في جباية الأموال وظلم الناس وعسفهم وقويت شوكته.
فخرج إليه محمد بن ياقوت في سائر جيوش بغداد ونزل قريبا منه ووقعت الطلائع بعضها على بعض وهرب بعض أصحاب محمد بن ياقوت إلى هارون وراسله محمد يستميله ويبذل له فلم يجب إلى ذلك وقال لا بد من دخول بغداد.
فلما كان يوم الثلاثاء لست بقين من جمادى الآخرة تزاحف العسكران واشتد القتال واستظهر أصحاب هارون لكثرتهم فانهزم أكثر أصحاب ابن ياقوت ونهب أكثر سوادهم وكثر فيهم الجراح والقتل فسار محمد بن ياقوت حتى قطع قنطرة نهر بين فبلغ ذلك هارون فسار
288

نحو القنطرة منفردا عن أصحابه طمعا في قتل محمد بن ياقوت أو اسره فتقنطر به فرسه فسقط عنه في ساقية فلحقه غلام له اسمه يمن فضربه بالطبرزين حتى أثخنه وكسر عظامه ثم نزل إليه فذبحه ثم رفع رأسه وكبر فانهزم أصحابه وتفرقوا ودخل بعضهم بغداد سرا ونهب سواد هارون وقتل جماعة من قواده وأسر جماعة.
وسار محمد إلى موضع جثة هارون فأمر بحملها إلى مضربه فحملت وأمر بغسله وتكفينه ثم صلى عليه ودفنه وأنفذ إلى داره من يحفظها من النهب ودخل بغداد ورأس هارون بين يديه ورؤوس جماعة من قواده فنصب ببغداد.
ذكر ظهور إنسان ادعى النبوة
في هذه السنة ظهر بباسبند من أعمال الصغانيان رجل ادعى النبوة فقصده فوج بعد فوج واتبعه خلق كثير وحارب من خالفه فقتل خلقا كثيرا ممن كذبه فكثر اتباعه من أهل الشاش خصوصا.
وكان صاحب حيل ومخاريق وكان يدخل يده في حوض ملآن ماء فيخرجها مملوءة دنانير إلى غير ذلك من المخاريق فكثر جمعه فأنفذ إليه أبو علي بن محمد بن المظفر جيشا فحاربوه وضيقوا عليه وهو فوق جبل عال حتى قبضوا عليه وقتلوه وحملوا رأسه إلى أبي علي، وقتلوا
289

خلقا كثيرا ممن اتبعه وآمن به؛ وكان يدعي أنه متى مات عاد إلى الدنيا فبقي بتلك الناحية جماعة كثيرة على ما دعاهم إليه مدة طويلة ثم اضمحلوا وفنوا.
ذكر قتل الشلمغاني وحكاية مذهبه
وفي هذه السنة قتل أبو جعفر محمد بن علي الشلمغاني المعروف بابن أبي القراقر، وشلمغان التي ينسب إليها قرية بنواحي واسط.
وسبب ذلك أنه قد أحدث مذهبا غاليا في التشييع والتناسخ وحلول الإلهية فيه إلى غير ذلك مما يحكيه وأظهر ذلك من فعله أبو القاسم الحسين بن روح الذي تسميه الإمامية الباب متداول وزارة حامد بن العباس ثم اتصل أبو جعفر الشلمغاني بالمحسن بن أبي الحسن بن الفرات في وزارة أبيه الثالثة، ثم أنه طلب في وزارة الخاقاني فاستتر وهرب إلى الموصل فبقي سنين عند ناصر الدولة الحسن بن عبد الله بن حمدان في حياة أبيه عبد الله بن حمدان ثم انحدر إلى بغداد واستتر وظهر عنده ببغداد أنه يدعي لنفسه الربوبية وقيل إنه اتبعه على ذلك الحسين بن القاسم بن عبد الله بن سليمان بن وهب الذي وزر للمقتدر بالله وأبو جعفر وأبو علي ابنا بسطام وإبراهيم بن محمد بن أبي عون وابن شبيب الزيات وأحمد بن محمد بن عبدوس
290

كانوا يعتقدون ذلك فيه، وظهر ذلك عنهم وطلبوا أيام وزارة ابن مقلة للمقتدر بالله فلم يوجدوا.
فلما كان في شوال سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة ظهر الشلمغاني فقبض عليه الوزير ابن مقلة وسجنه وكبس داره فوجد فيها رقاعا وكتبا ممن يدعي عليه أنه على مذهبه يخاطبونه بما لا يخاطب به البشر بعضهم بعضا وفيها خط الحسين بن القاسم فعرضت الخطوط فعرفها الناس وعرضت على الشلمغاني فاقر أنها خطوطهم وأنكر مذهبه وأظهر الإسلام وتبرأ مما يقال فيه وأخذ ابن أبي عون وابن عبدوس معه وأحضرا معه عند الخليفة وأمر بصفعه فامتنعا فلما أكرها مد ابن عبدوس يده وصفعه وأما ابن أبي عون فإنه مد يده إلى لحيته ورأسه فارتعدت يده فقبل لحية الشلمغاني ورأسه ثم قال إلهي وسيدي ورازقي فقال له الراضي قد زعمت أنك لا تدعي الإلهية فما هذا فقال وما علي من قول ابن أبي عون والله يعلم إنني لا قلت له إنني إله قط!
فقال ابن عبدوس: إنه لم يدعي الإلهية وإنما ادعى أنه الباب إلى الإمام المنتظر مكان ابن روح وكنت أظن أنه يقول ذلك تقية ثم احضروا عدة مرات ومعهم الفقهاء والقضاة والكتاب والقواد، وفي آخر الأيام أفتى الفقهاء بإباحة دمه فصلب ابن الشلمغاني وابن أبي عون في
291

ذي القعدة وأحرقا بالنار.
وكان من مذهبه أنه إله الآلهة يحق الحق وأنه الأول القديم الظاهر الباطن الرازق التام المومأ إليه بكل معنى وكان يقول أن الله سبحانه وتعالى يحل في كل شيء على قدر ما يحتمل وأنه خلق الضد ليدل على المضدود فمن ذلك أنه حل في آدم لما خلقه في إبليسه أيضا وكلاهما ضد لصحابه لمضادته إياه في معناه وأن الدليل على الحق أفضل من الحق وأن الضد أقرب إلى الشيء من شبهه وأن الله عز وجل إذا حل في جسد ناسوتي ظهر من القدرة والمعجزة ما يدل على أنه هو وأنه لما غاب آدم ظهر اللاهوت في خمسة ناسوتية كلما غاب منهم واحد ظهر مكانه آخر وفي خمسة أبالسة أضداد لتلك الخمسة ثم اجتمعت اللاهوتية في إدريس وإبليسه وتفرقت بعدهما كما تفرقت بعد آدم واجتمعت في نوح عليه السلام وإبليسه وتفرقت عند غيبتهما واجتمعت في هود وإبليسه وتفرقت بعدهما واجتمعت في صالح عليه السلام وإبليسه عاقر الناقة وتفرقت بعدهما واجتمعت في إبراهيم عليه السلام وإبليسه نمروذ وتفرقت لما غابا واجتمعت في هارون وإبليسه فرعون وتفرقت بعدهما واجتمعت في سليمان وإبليسه وتفرقت بعدهما واجتمعت في عيسى وإبليسه فلما غابا تفرقت في تلامذة عيسى وأبالستهم ثم اجتمعت في علي بن أبي طالب وإبليسه.
292

ثم إن الله يظهر في كل شيء وكل معنى وإنه في كل أحد بالخاطر الذي يخطر بقبله فيتصور له ما يغيب عنه حتى كأنه يشاهده وأن الله اسم لمعنى وان من احتاج الناس إليه فهو إله ولهذا المعنى يستوجب كل أحد أن يسمى إلها وأن كل أحد من أشياعه يقول إنه رب لمن هو في دون درجته وأن الرجل منهم يقول أنا رب لفلان وفلان رب لفلان وفلان رب ربي حتى يقع الانتهاء إلى ابن أبي القراقر فيقول أنا رب الأرباب لا ربوبية بعده.
ولا ينسبون الحسن والحسين رضي الله عنهما إلى علي كرم الله وجهه لأن من اجتمعت له الربوبية لا يكون له ولد ولا والد وكانوا يسمون موسى ومحمدا صلى الله عليه وسلم الخائنين لأنهم يدعون أن هارون أرسل موسى وعليا أرسل محمدا فخاناهما ويزعمون أن عليا أمهل محمدا عدة سنين أصحاب الكهف فإذا انقضت هذه العدة وهي ثلاثمائة وخمسون سنة انتقلت الشريعة ويقولون إن الملائكة كل من ملك نفسه وعرف الحق وأن الجنة معرفتهم وانتحال مذهبهم والنار الجهل بهم والعدول عن مذهبهم.
ويعتقدون ترك الصلاة والصيام وغيرهما من العبادات ولا يتناكحون بعقد ويبيحون الفروج ويقولون أن محمد بعث إلى
293

كبراء قريش وجبابرة العرب ونفوسهم أبية فأمرهم بالسجود وان الحكمة الآن أن يمتحن الناس بإباحة فروج نسائهم وأنه يجوز أن يجامع الإنسان من شاء من ذوي رحمه
وحرم صديقه وابنه بعد أن يكون على مذهبه وأنه لا بد للفاضل منهم أن ينكح المفضول ليولج النور فيه ومن امتنع من ذلك قلب في الدور الذي يأتي بعد هذا العالم امرأة إذ كان مذهبهم التناسخ وكانوا يعتقدون اهلاك الطالبيين والعباسيين تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا.
وما أشبه هذه المقالة بمقالة النصرية ولعلها هي هي فإن النصيرية يعتقدون في ابن الفرات ويجعلونه رأسا في مذهبهم.
وكان الحسين بن القاسم بالرقة فأرسل الراضي بالله إليه فقتل آخر ذي القعدة وحمل رأسه إلى بغداد.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة أرسل محمد بن ياقوت حاجب الخليفة رسولا إلى أبي الطاهر القرمطي يدعوه إلى طاعة الخليفة ليقره على ما بيده من البلاد ويقلده بعد ذلك ما شاء من البلدان ويحسن إليه ويلتمس منه أن يكف عن الحاج جميعهم وأن يرد الحجر الأسود إلى موضعه بمكة فأجاب أبو الطاهر إلى
294

أنه لا يعترض للحاج ولا يصيبهم بمكروه ولم يجب إلى رد الحجر الأسود إلى مكة وسال ان يطلق له الميرة من البصرة لخطب للخليفة في اعمال هجر فسار الحاج إلى مكة وعاد ولم يعترض لهم القرامطة.
وفيها في ذي القعدة عزم محمد بن ياقوت على المسير إلى الأهواز لمحاربة عسكر مرداويج فتقدم إلى الجند الحجرية والساجية بالتجهز للمسير معه وبذل مالا يتجهزون به فامتنعوا وتجمعوا وقصدوا دار محمد بن ياقوت فأغلظ لهم في الخطاب فسبوا ورموا داره بالحجارة ولما كان الغد قصدوا داره أيضا وأغلظوا له في الخطاب وقاتلوا من بداره من أصحابه فرماهم أصحابه وغلمانه بالنشاب فانصرفوا وبطلت الحركة إلى الأهواز.
وفيها سار جماعة من أصحاب أبي طاهر القرمطي إلى نواحي توج في مراكب وخرجوا منها إلى تلك الأعمال فلما بعدوا عن المراكب أرسل الوالي في البلاد إلى المراكب وأحرقها وجمع الناس وحارب القرامطة فقتل بعضا وأسر بعضا فيهم ابن الغمر وهو من أكابر دعاتهم وسيرهم إلى بغداد أيام القاهر فدخلوها مشهورين وسجنوا وكان من أمرهم ما ذكرناه في خلع القاهر.
وفيها قتل القاهر بالله إسحاق بن إسماعيل النوبختي وهو الذي أشار باستخلافه فكان كالباحث عن حتفه بظلفه وقتل أيضا أبا السرايا بن حمدان وهو أصغر ولد أبيه وسبب قتلهما أنه أراد أن يشتري مغنيتين قبل أن
295

يلي الخلافة فزادا عليه في ثمنها فحقد ذلك عليهما فلما أراد قتلهما استدعاهما للمنادمة فتزينا وتطيبا وحضرا عنده فأمر بإلقائهما إلى بئر في الدار وهو حاضر فتضرعا وبكيا فلم يتلفت إليهما وألقاهما فيها وطمها عليهما.
وفيها أحضر أبو بكر بن مقسم ببغداد في دار سلامة الحاجب وقيل له إنه قد ابتدع قراءة لم تعرف وأحضر ابن مجاهد والقضاة والقراء وناظروه فأعترف بالخطأ وتاب منه وأحرقت كتبه.
وفيها سار الدمستق قرقاش في خمسين ألفا من الروم فنازل ملطية وحضرها مدة طويلة هلك أكثر أهلها بالجوع وضرب خيمتين على إحداهما صليب وقال من أراد النصرانية انحاز إلى خيمة الصليب ليرد عليه أهله وماله ومن أراد الإسلام انحاز إلى الخيمة الأخرى وله الأمان على نفسه ونبلغه مأمنه فانحاز أكثر المسلمين إلى الخيمة التي عليها الصليب طمعا في أهليهم وأموالهم وسير مع الباقين بطريقا يبلغهم مأمنهم وفتحها بالأمان مستهل جمادى الآخرة يوم الأحد وملكوا سميساط وخربوا الأعمال وأكثروا القتل وفعلوا الأفاعيل الشنيعة وصار أكثر البلاد في أيديهم.
وفيها توفي عبد الملك بن محمد بن عدي أبو نعيم الفقيه الجرجاني الأسترأباذي وأبو علي الروذباري الصوفي واسمه محمد بن أحمد بن القاسم وقيل توفي سنة ثلاث وعشرين [وثلاثمائة].
296

وفيها توفي خير بن عبد الله النساج الصوفي من أهل سامراء وكان من الإبدال ومحمد بن علي بن جعفر أبو بكر الكناني الصوفي المشهور وهو من أصحاب الجنيد وأبي سعيد الخراز الخراز بالخاء المعجمة والراء والزاي).
297

323
ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة
ذكر قتل مرداويج
في هذه السنة قتل مرداويج الديلمي صاحب بلاد الجبل وغيرها.
وكان سبب قتله أنه كان كثير الإساءة للأتراك وكان يقول إن روح سليمان بن داود عليه السلام حلت فيه وأن الأتراك هم الشياطين والمردة فإن قهرهم وإلا أفسدوا فثقلت وطأته عليهم وتمنوا هلاكه.
فلما كان ليلة الميلاد من هذه السنة وهي ليلة الوقود أمر بأن يجمع الحطب من الجبال والنواحي وأن يجعل على جانبي الوادي المعروف بزندروذ كالمنابر والقباب العظيمة ويعمل مثل ذلك على الجبل المعروف بكريم كوه المشرف على أصبهان من أسلفه إلى أعلاه بحيث إذا اشتعلت تلك الأحطاب يصير الجبل كله نارا وعمل مثل ذلك بجميع الجبال والتلال التي هناك وأمر فجمع له النفط ومن يلعب به وعمل من الشموع ما لا يحصى وصيد له من الغربان والحدإ زيادة على ألفي طائر ليجعل في أرجلها النفط وترسل لتطير بالنار في الهواء وأمر بعمل سماط عظيم كان من جملة ما فيه مائة فرس ومائتان من البقر مشوية صحاحا سوى ما شوي
298

من الغنم فإنها كانت ثلاثة آلاف رأس سوى المطبوخ وكان فيه من الدجاج وغيره من أنواع الطير زيادة على عشرة آلاف عدد وعمل من ألوان الحلواء ما لا يحد وعزم على أن يجمع الناس على ذلك السماط فإذا فرغوا قام إلى مجلس الشراب ويشعل النيران فيتفرج.
فلما كان آخر النهار ركب وحده وغلمانه رجالة وطاف بالسماط ونظر إليه وإلى تلك الأحطاب فاستحقر الجميع لسعة الصحراء وتضجر وغضب ولعن من صنعه ودبره فخافه من حضر فعاد ونزل ودخل خركاة له فنام فلم يجسر أحد [أن] يكلمه.
واجتمع الأمراء والقواد وغيرهم وأرجفوا عليه فمن قائل إنه غضب لكثرته لأنه كان بخيلا ومن قائل إنه قد اعتراه جنون وقيل بل أوجعه فؤاده وقيل غير ذلك وكادت الفتنة تثور.
وعرف العميد وزيره صورة الحال فأتاه ولم يزل حتى استيقظ وعرفه ما الناس فيه فخرج وجلس على الطعام وأكل ثلاث لقم ثم قام ونهب الناس الباقي ولم يجلس للشراب وعاد إلى مكانه وبقي في معسكره بظاهر أصبهان ثلاثة أيام لا يظهر.
فلما كان اليوم الرابع تقدم بإسراج الدواب ليعود من منزلته إلى دار بأصبهان فاجتمع ببابه خلق كثير وبقيت الدواب مع الغلمان وكثر صهيلها ولعبها والغلمان يصيحون بها لتسكن من الشغب وكانت مزدحمة فارتفع من الجميع أصوات هائلة.
299

وكان مرداويج نائما فاستيقظ فصعد فنظر فرأى ذلك فسأل فعرف الحال فازداد غضبا وقال أما كفى من إخراق الحرمة ما فعلوه في ذلك الطعام وما أرجفوا به حتى انتهى أمري إلى هؤلاء الكلاب ثم سأل عن أصحاب الدواب فقيل أنها للغلمان الأتراك وقد نزلوا إلى خدمتك فأمر أن تحط السروج عن الدواب وتجعل على ظهور أصحابها الأتراك ويأخذون بارسان الدواب إلى الإسطبلات ومن امتنع من ذلك ضربه الديلم بالمقارع حتى يطيع ففعلوا ذلك بهم وكانت صورة قبيحة يأنف منها أحقر الناس.
ثم ركب هو بنفسه مع خاصته وهو يتوعد الأتراك حتى صار إلى داره قرب العشاء وكان قد ضرب قبل ذلك جماعة من أكابر الغلمان الأتراك فحقدوا عليه وأرادوا قتله فلم يجدوا أعوانا فلما جرت هذه الحادثة انتهزوا الفرصة وقال بعضهم ما وجه صبرنا على هذا الشيطان فاتفقوا وتحالفوا على الفتك به فدخل الحمام وكان كورتكين يحرسه في خلواته وحمامه فأمر ذلك اليوم أن لا يتبعه فتأخر عنه مغضبا وكان هو الذي يجمع الحرس فلشدة غضبه لم يأمر أحدا أن يحضر حراسته وإذا أراد الله أمرا هيأ أسبابه.
وكان له أيضا خادم أسود يتولى خدمته بالحمام فاستمالوه فمال إليهم فقالوا للخادم لا تحمل معه سلاحا وكانت العادة أن يحمل معه خنجرا طوله
300

نحو ذراع ملفوفا في منديل فلما قالوا ذلك للخادم قال ما أجسر فاتفقوا على أن كسروا حديد الخنجر وتركوا النصاب في الغلاف بغير حديد ولفوه في المنديل كما جرت العادة لئلا ينكر الحال.
فلما دخل مرداويج الحمام فعل الخادم ما قيل له وجاء خادم آخر وهو أستاذ داره فجلس على باب الحمام فهجم الأتراك إلى الحمام فقام أستاذ داره ليمنعهم وصاح بهم فضربه بعضهم بالسيف فقطع يده فصاح الأسود وسقط وسمع مرداويج الضجة فبادر إلى الخنجر ليدفع به عن نفسه فوجده مكسورا فأخذ سريرا من خشب كان يجلس عليه إذا اغتسل فترس به باب الحمام من داخل ودفع الأتراك الباب فلم يقدروا على فتحه فصعد بعضهم إلى السطح وكسروا الجامات ورموه بالنشاب فدخل البيت الحار وجعل يتلطفهم ويحلف لهم على الإحسان فلم يلتفتوا إليه وكسروا باب الحمام ودخلوا عليه فقتلوه.
وكان الذين ألبوا الناس عليه وشرعوا في قتله توزون وهو الذي صار أمير العساكر ببغداد وياروق وابن بغرا ومحمد بن ينال الترجمان ووافقهم بحكم وهو الذي ولي أمر العراق قبل توزون سيرد ذلك إن شاء الله تعالى، فلما قتلوه بادروا فأعلموا أصحابهم فركبوا ونهبوا قصره وهربوا ولم يعلم بهم الديلم لأن أكثرهم كانوا قد دخلوا المدينة ليلحق بهم وتخلف الأتراك معه لهذا السبب.
فلما علم الديلم والجيل ركبوا في أثرهم فلم يلحقوا منهم إلا نفرا يسيرا وقفت دوابهم فقتلوهم وعادوا لينهبوا الخزائن فرأوا العميد
301

قد ألقى النار فيها فلم يصلوا إليها فبقيت بحالها.
ومن عجيب ما يحكى أن العساكر في ذلك اليوم لما رأوا غضب مرداويج قعدوا يتذاكرون ما هم فيه معه من الجور وشدة عتوه وتمرده عليهم ودخل بينهم رجل شيخ لا يعرفه منهم أحد وهو راكب فقال قد زاد أمر هذا الكافر واليوم تكفونه ويأخذه الله ثم سار فلحقت الجماعة دهشة ونظر بعضهم في وجوه بعض ومر الشيخ فقالوا: المصلحة أننا نتبعه ونأخذه ونستعيده الحديث لئلا يسمع مرداويج ما جرى فلا نلقى منه خيرا فتبعوه فلم يروا أحدا.
وكان مرداويج قد تجبر قبل أن يقتل وعتا وعمل له كرسيا من ذهب يجلس عليه وعمل كراسي من فضة يجلس عليها أكابر قواده وكان قد عمل تاجا مرصعا على صفة تاج كسرى وقد عزم على قصد العراق والاستيلاء عليه وبناء المدائن ودور كسرى ومساكنه وأن يخاطب إذا فعل ذلك بشاهنشاه فأتاه أمر الله وهو غافل عنه واستراح الناس من شره ونسأل الله تعالى أن يريح الناس من كل ظالم سريعا.
ولما قتل مرداويج اجتمع أصحابه الديلم والجيل وتشاوروا وقالوا: إن بقينا بغير رأس هلكنا فاجتمعوا على طاعة أخيه وشمكير بن زيار وهو والد قابوس وكان بالري فحملوا تابوت مرداويج وساروا نحو الري فخرج من بها من أصحابه مع أخيه وشمكير فالتقوه على أربعة فراسخ مشاة وكان يوما مشهودا.
وأما أصحابه الذين كانوا بالأهواز وأعمالها فإنهم لما بلغهم الخبر كتموه،
302

وساروا نحو الري فأطاعوا وشمكير أيضا واجتمعوا عليه.
ولما قتل مرداويج كان ركن الدولة بن بويه رهينة عنده كما ذكرناه فبذل للموكلين مالا فأطلقوه فخرج إلى الصحراء ليفك قيوده فأقبلت بغال عليها تبن وعليها أصحابه وغلمانه فألقى التبن وكسر أصحابه قيوده وركبوا الدواب ونجوا إلى أخيه عماد الدولة بفارس.
ذكر ما فعله الأتراك بعد قتله
لما قتل الأتراك مرداويج هربوا وافترقوا فرقتين ففرقة سارت إلى عماد الدولة بن بويه مع خجخج الذي سلمه توزون فيما بعد وسنذكره وفرقة سارت نحو الجبل مع بجكم وهي أكثرها فجبوا خراج الدينور وغيرها وساروا إلى النهروان فكاتبوا الراضي في المسير إلى بغداد فأذن لهم فدخلوا بغداد فظن الحجرية أنها حيلة عليهم فطلبوا ردة الأتراك إلى بلد الجبل فأمرهم ابن مقلة بذلك وأطلق لهم مالا فلم يرضوا به وغضبوا فكاتبهم ابن رائق وهو بواسط وله البصرة أيضا فاستدعاهم فمضوا إليه وقدم عليهم بحكم وأمره بمكاتبة الأتراك والديلم من أصحاب مرداويج فكاتبهم فأتاه منهم عدة وافرة فأحسن إليهم وخلع عليهم وإلى بجكم خاصة وأمره أن يكتب إلى الناس بجكم الرائقي فأقام عنده وكان من أمرهما ما نذكره.
303

ذكر حال وشمكير بعد قتل أخيه
وأما وشمكير فإنه لما قتل أخوه وقصدته العساكر التي كانت لأخيه وأطاعته وأقام بالري فكتب الأمير نصر بن أحمد الساماني إلى أمير جيشه بخراسان محمد بن المظفر بن محتاج بالمسير إلى قومس وكتب إلى ما كان بن كالي وهو بكرمان بالمسير عنها إلى محمد بن المظفر ليقصدوا جرجان والري.
فسار ما كان إلى الدامغان على المفازة فتوجه إليه بانجين الديلمي من أصحاب وشمكير في جيش كثيف واستمد ما كان محمد بن المظفر وهو ببسطام فأمده بجمع كثير أمرهم بترك المحاربة إلى أن يصل إليهم فخالفوه وحاربوا بانجين فلم يتعاونوا وتخاذلوا فهزمهم بانجين فرجعوا إلى محمد بن المظفر وخرجوا إلى جرجان فسار إليهم بانجين ليصدهم عنها فانصرفوا إلى نيسابور وأقاموا بها وجعلت ولايتها لما كان بن كالي وأقام بها وكان ذلك آخر سنة ثلاث وعشرين وأول سنة أربع وعشرين وثلاثمائة.
ولما سار ما كان عن كرمان عاد إليها أبو علي محمد بن إلياس فاستولى عليها وصفت له بعد حروب له مع جنود نصر بكرمان وكان الظفر له أخيرا وسنذكر باقي خبرهم سنة أربع وعشرين وثلاثمائة.
304

ذكر القبض على ابني ياقوت
في هذه السنة في جمادى الأولى قبض الراضي بالله على محمد والمظفر ابني ياقوت.
وكان سبب ذلك أن الوزير أبا علي بن مقلة كان قد قلق لتحكم محمد بن ياقوت في المملكة بأسرها وأنه هو ليس حكم في شيء فسعى به إلى الراضي وأدام السعاية فبلغ ما أراد.
فلما كان خامس جمادى الأولى ركب جميع القواد إلى دار الخليفة على عادتهم وحضر الوزير وأظهر الراضي أنه يريد [أن] يقلد جماعة من القواد أعمالا وحضر محمد بن ياقوت للحجبة ومعه كاتبه أبو إسحاق القراريطي فخرج الخدم إلى محمد بن ياقوت فاستدعوه إلى الخليفة فدخل مبادرا فعدلوا به إلى حجرة هناك فحبسوه فيها ثم استدعوا القراريطي فدخل فعدلوا به إلى حجرة أخرى ثم استدعوا المظفر بن ياقوت من بيته وكان مخمورا فحضر فحبسوه أيضا.
وأنفذ الوزير أبو علي بن مقلة إلى دار محمد يحفظها من النهب وكان ياقوت حينئذ مقيما بواسط فلما بلغه القبض على ابنيه الحدر يطلب فارس ليحارب ابن بويه وكتب إلى الراضي يستعطفه ويسأله انفاذ ابنيه ليساعداه على حروبه فاستبد ابن مقلة بالأمر.
305

ذكر حال البريدي
وفيها قوي أمر عبد الله البريدي وعظم شأنه.
وسبب ذلك أنه كان ضامنا أعمال الأهواز فلما استولى عليها عسكر مرداويج وانهزم ياقوت كما ذكرنا عاد البريدي إلى البصرة وصار يتصرف في أسافل أعمال الأهواز مضافا إلى كتابة ياقوت وسار إلى ياقوت فأقام معه بواسط.
فلما قبض على ابني ياقوت كتب ابن مقلة إلى ابن البريدي يأمره أن يسكن ياقوتا ويعرفه أن الجند اجتمعوا وطلبوا القبض على ولديه فقبضا تسكينا للجند وانهما يسيران إلى أبيهما عن قريب وان الرأي أن يسير هو لفتح فارس فسار ياقوت من واسط على طريق السوس وسار البريدي على طريق الماء إلى الأهواز وكان إلى أخويه أبي الحسين وأبي يوسف ضمان السوس وجند يسابور وادعيا أن دخل البلاد لسنة اثنتين وعشرين [وثلاثمائة] أخذه عسكر مرداويج وان دخل سنة ثلاث وعشرين [وثلاثمائة] لا يحصل منه شيء لأن نواب مرداويج ظلموا الناس فلم يبق لهم ما يزرعونه.
وكان الأمر بضد ذلك في السنتين فبلغ ذلك الوزير ابن مقلة فأنفذ نائبا له ليحقق الحال فواطأ ابني البريدي وكتب بصدقهم فحصل لهم
306

بذلك مال عظيم وقويت حالهم وكان مبلغ ما أخذوه أربعة آلاف ألف دينار.
وأشار ابن البريدي على ياقوت بالمسير إلى أرجان لفتح فارس وأقام هو بجباية الأموال من البلاد فحصل منها ما أراد،
فلما سار ياقوت إلى فارس في جموعه لقيه ابن بويه بباب أرجان فانهزم أصحاب ياقوت وبقي إلى آخرهم ثم انهزم وسار ابن بويه خلفه إلى رامهرمز وسار ياقوت إلى عسكر مكرم وأقام ابن بويه برامهرمز إلى أن وقع الصلح بينهما.
ذكر فتنة الحنابلة ببغداد
وفيها عظم أمر الحنابلة وقويت شوكتهم وصاروا يكبسون من دور القواد والعامة وإن وجدوا نبيذا أراقوه وإن وجدوا مغنية ضربوها وكسروا آلة الغناء واعترضوا في البيع والشراء ومشى الرجال مع النساء والصبيان فإذا رأوا ذلك سألوه عن الذي معه من هو فإن أخبرهم وإلا ضربوه وحملوه إلى صاحب الشرطة وشهدوا عليه بالفاحشة فأرهجوا بغداد.
فركب بدر الخرشني وهو صاحب الشرطة عاشر جمادى الآخرة في جانبي بغداد في أصحاب أبي محمد البربهاري الحنابلة ألا يجتمع
307

منهم اثنان ولا يناظرون في مذهبهم ولا يصلي منهم أمام إلا إذا جهر ببسم الله الرحمن الرحيم في صلاة الصبح والعشاءين فلم يفد فيهم وزاد شرهم وفتنتهم واستظهروا بالعميان الذين كان يأوون المساجد وكانوا إذا مر بهم شافعي المذهب أغروا به العميان فيضربونه بعصيهم حتى يكاد يموت.
فخرج توقيع الراضي بما يقرأ على الحنابلة ينكر عليهم فعلهم ويوبخهم باعتقاد التشبيه وغيره فمنه تارة إنكم تزعمون أن صورة وجوهكم القبيحة السمجة على مثال رب العالمين وهيئتكم الرذلة على هيئته وتذكرون الكف والأصابع والرجلين والنعلين المذهبين واشعر القطط والصعود إلى السماء والنزول إلى الدنيا تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا ثم طعنكم على خيار الأئمة ونسبتكم شيعة آل محمد إلى الكفر والضلال ثم استدعاؤكم المسلمين إلى الدين بالبدع الظاهرة والمذاهب الفاجرة التي لا يشهد بها القرآن وإنكاركم زيارة قبور الأئمة وتشنيعكم على زوارها بالابتداع وأنتم مع ذلك تجتمعون على زيارة قبر رجل من العوام ليس بذي شرف ولا بسب ولا سبب برسول الله صلى الله عليه وسلم وتأمرون بزيارته وتدعون له معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء فلعن الله شيطانا زين لكم هذه المنكرات وما أغواه.
308

وأمير المؤمنين يقسم بالله قسما جهدا إليه يلزم الوفاء به لئن لم تنتهوا عن مذموم مذهبكم ومعوج طريقتكم ليوسعنكم ضربا وتشريدا وقتلا وتبديدا وليستعملن السيف في رقابكم والنار في منازلكم ومحالكم.
ذكر قتل أبي العلاء بن حمدان
وفيها قتل ناصر الدولة أبو محمد الحسن بن عبد الله بن حمدان عمه أبا العلاء بن حمدان.
وسبب ذلك أن أبا العلاء سعيد بن حمدان ضمن الموصل وديار ربيعة سرا وكان بها ناصر الدولة ابن أخيه أميرا فسار عن بغداد في خمسين رجلا وأظهر أنه متوجه ليطلب مال الخليفة من ابن أخيه فلما وصل إلى الموصل خرج ابن أخيه إلى تلقيه وقصد مخالفة طريقه فوصل أبو العلاء ودخل دار ابن أخيه وسأل عنه فقيل إنه خرج إلى لقائك فقعد ينتظره فلما علم ناصر الدولة بمقامه في الدار انفذ جماعة من غلمانه فقبضوا عليه ثم أنفذ جماعة غيرهم فقتلوه.
ذكر مسير ابن مقلة إلى الموصل وما كان بينه وبين ناصر الدولة
لما قتل ناصر الدولة عمه أبا العلاء واتصل خبره بالراضي عظم ذلك عليه وأنكره وأمر ابن مقلة بالمسير إلى الموصل، فسار إليها في العساكر،
309

في شعبان فلما قاربها رحل عنها ناصر الدولة بن حمدان ودخل الزوزان وتبعه الوزير إلى جبل التنين ثم عاد عنه وأقام بالموصل يجبي مالها.
ولما طال مقامه بالموصل احتال بعض أصحاب ابن حمدان على ولد الوزير وكان ينوب عنه في الوزارة ببغداد فبذل له عشرة آلاف دينار ليكتب إلى أبيه يستدعيه فكتب إليه يقول إن الأمور بالحضرة قد اختلت وإن تأخرت لم نأمن حدوث ما يبطل الأمر فانزعج الوزير لذلك واستعمل على الموصل علي بن خلف بن طباب وماكرد الديلمي وهو من الساجية وانحدر إلى بغداد منتصف شوال.
فلما فارق الموصل عاد ناصر الدولة بن حمدان فاقتتل وهو وماكرد الديلمي فانهزم ابن حمدان ثم عاد وجمع عسكرا آخر فالتقوا على نصيبين في ذي الحجة فانهزم ماكرد إلى الرقة وانحدر منها إلى بغداد وانحدر أيضا ابن طباب واستولى ابن حمدان على الموصل والبلاد وكتب إلى الخليفة يسأله الصفح وأن يضمن البلاد فأجيب إلى ذلك واستقرت البلاد عليه.
ذكر فتح جنوة وغيرها
في هذه السنة سير القائم العلوي جيشا من أفريقية في البحر إلى ناحية الفرنج ففتحوا مدينة جنوة ومروا بسردانية فأوقعوا بأهلها وأحرقوا مراكب كثيرة ومروا بقرقيسيا فأحرقوا مراكبها وعادوا سالمين.
310

ذكر القرامطة
في هذه السنة خرج الناس إلى الحج فلما بلغوا القادسية اعترضهم أبو طاهر القرمطي ثاني عشر ذي القعدة فلم يعرفوه فقاتله أصحاب الخليفة وأعانهم الحجاج ثم التجؤا إلى القادسية فخرج جماعة من العلويين بالكوفة إلى أبي طاهر فسألوه أن يكف عن الحجاج فكف عنهم وشرط عليهم أن يرجعوا إلى بغداد فرجعوا ولم يحج بهذه السنة من العراق أحد وسار أبو طاهر إلى الكوفة فأقام بها عدة أيام ورحل عنها.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة، في المحرم قلد الراضي بالله ولديه أبا جعفر وأبا الفضل ناحيتي المشرق والمغرب مما بيده وكتب بذلك إلى البلاد.
وفيها في الليلة الثانية عشرة من ذي القعدة وهي الليلة التي أوقع القرمطي بالحجاج انقضت الكواكب من أول الليل إلى آخره انقضاضا دائما مسرفا جدا لم يعهد مثله.
وفيها مات أبو بكر محمد ياقوت في الحبس في دار السلطان بنفث الدم فأحضر القاضي والشهود وعرض عليهم فلم يروا به أثر ضرب ولا خنق،
311

وجذبوا شعره فلم يكن مسموما فسلم إلى أهله وأخذوا ماله وأملاكه ومعامليه ووكلاءه وكل من يخالطه.
وفيها كان بخراسان غلاء شديد ومات من أهلها خلق كثير من الجوع فعجز الناس عن دفنهم.
فكانوا يجمعون الغرباء والفقراء في دار إلى أن يتهيأ لهم دفنهم وتكفينهم وفيها جهز عماد الدولة ابن بويه أخاه ركن الدولة الحسن إلى بلاد الجبل وسير معه العساكر بعد عوده لما قتل مرداويج فسار إلى أصبهان فاستولى عليها وأزال عنها وعن عدة من بلاد الجبل نواب وشمكير وأقبل وشمكير وجهز العساكر نحوه وبقي هو وشمكير يتنازعان تلك البلاد وهي أصبهان وهمذان وقم وقاشان وكرج والري وكنكور وقزوين وغيرها.
وفيها في آخر جمادى الآخرة شغب الجند ببغداد وقصدوا دار الوزير أبي علي بن مقلة وابنه وزاد شغبهم فمنعهم أصحاب ابن مقلة فاحتال الجند ونقبوا دار الوزير من ظهرها ودخلوها وملكوها وهرب الوزير وابنه إلى الجانب الغربي فلما سمع الساجية بذلك ركبوا إلى دار الوزير ورفقوا بالجند فردوهم وعاد الوزير وابنه إلى منازلهما.
واتهم الوزير بإثارة هذه الفتنة بعض أصحاب ابن ياقوت فأمر فنودي أن لا يقيم أحد منهم بمدينة السلام ثم عاود الجند الشغب حادي عشر ذي الحجة ونقبوا دار الوزير عدة نقوب فقاتلهم غلمانه ومنعوهم فركب صاحب الشرطة وحفظ السجون حتى لا تفتح ثم سكنوا من الشغب.
وفي هذه السنة أطلق المظفر بن ياقوت من حبس الراضي بالله بشفاعة الوزير
312

ابن مقلة وحلف للوزير أنه يواليه ولا ينحرف عنه ولا يسعى له ولا لولده بمكروه فلم يف له ولا لولده ووافق الحجرية عليه فجرى في حقه ما يكره.
وكان المظفر حقد على الوزير حين قتل أخيه لأنه اتهمه أنه سمه.
وفيها أرسل ابن مقلة رسولا إلى محمد بن رائق بواسط وكان قد قطع الحمل عن الخليفة فطالبه بارتفاع البلاد واسط والبصرة وما بينهما فأحسن إلى الرسل وردهم برسالة ظاهرة إلى ابن مقلة مغالطة وأخرى باطنة إلى الخليفة الراضي بالله وحده مضمونها أنه إن استدعي إلى الحضرة وفوضت إليه الأمور وتدبير الدولة قام بكل ما يحتاج إليه من نفقات الخليفة وأرزاق الجند فلما سمع الخليفة الرسالة لم يعد إليه جوابها.
وفيها توفي أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن عبدويه بن سدوس الهذلي من ولد عتبة بن مسعود بالكوفة وهو من نيسابور وإبراهيم بن محمد بن عرفة المعروف بنفطويه النحوي وله مصنفات وهو من ولد المهلب بن أبي صفرة.
313

324
ثم دخلت سنة أربع وعشرين وثلاثمائة
ذكر القبض على مقلة ووزارة عبد الرحمن بن عيسى
لما عاد الرسل من عند ابن رائق بغير مال رأى الوزير أن يسير ابنه فتجهز وأظهر أنه يريد الأهواز فلما كان منتصف جمادى الأولى حضر الوزير دار الراضي لينفذ رسولا إلى ابن رائق يعرفه عزمه على قصد الأهواز لئلا يستوحش لحركته فيحتاط فلما دخل الدار قبض عليه المظفر بن ياقوت والحجرية وكان المظفر قد أطلق من محبسه على ما نذكره ووجهوا إلى الراضي يعرفونه ذلك فاستحسن فعلهم واختفى أبو الحسين بن أبي علي بن مقلة وسائر أولاده وأصحابه وطلب الحجرية والساجية من الراضي أن يستوزر وزيرا فرد الاختيار إليهم فأشاروا بوزارة علي بن عيسى فأحضره الراضي للوزارة فامتنع وأشار بأخيه عبد الرحمن فاستوزره وسلم إليه ابن مقلة فصادره وصرف بدرا الخرشني عن الشرطة ثم عجز عبد الرحمن عن تمشية الأمور وضاق عليه فاستعفى [من] الوزارة.
314

ذكر القبض على عبد الرحمن ووزارة أبي جعفر الكرخي
لما ظهر عجز عبد الرحمن إلى الراضي ووقوف الأمور قبض عليه وعلى أخيه علي بن عيسى فصادره على مائة ألف دينار وصادر أخاه بعد الرحمن بسبعين ألف دينار.
ذكر قتل ياقوت
وفي هذه السنة قتل ياقوت بعسكر مكرم.
وكان سبب قتله ثقته بأبي عبد الله البريدي فخانه وقابل إحسانه بالإساءة على ما نذكره.
وقد ذكرنا أن أبا عبد الله ارتسم بكتابة ياقوت مع ضمان الأهواز فلما كتب إليه وثق إليه وعول على ما يقول وكان إذا قيل له شيء في أمره وخوف من شره يقول إن أبا عبد الله ليس كما تظنون لأنه لا يحدث نفسه بالإمرة وقود العساكر وإنما غايته الكتابة فاغتر بهذا منه.
وكان رحمه الله سليم القلب حسن الاعتقاد فهذا لم يخرج عن طاعة الخليفة حين قبض على ولديه بل دام على الوفاء.
315

فأما حاله مع البريدي فإنه لما عاد مهزوما من عماد الدولة بن بويه إلى عسكر مكرم كتب إليه أبو عبد الله أن يقيم بعسكر مكرم ليستريح ويقع التدبير بعد ذلك وكان بالأهواز وهو يكره الاجتماع معه في بلد واحد فسمع ياقوت قوله وأقام فأرسل إليه أخاه أبا يوسف البريدي يتوجع له ويهنيه بالسلامة وقرر القاعدة على أن يحمل له أخوه من المال الأهواز خمسين ألف دينار واحتج بأن عنده من الجند خلقا كثيرا منهم البربر والشفيعية والنازوكية واليلبقية والهارونية كان ابن مقلة قد ميز هذه الأصناف من عسكر بغداد وسيرهم إلى الأهواز لتخف عليه مؤنتهم فذكر أبو يوسف أن هؤلاء متى رأوا المال يخرج عنهم إليك شغبوا ويحتاج أبو عبد الله إلى مفارقة الأهواز ثم يصير أمرهم إلى أنهم يقصدونك ولا نعلم كيف يكون الحال ثم قال له إن رجالك مع سوء أثرهم يقنعون بالقليل.
فصدقه ياقوت فيما قال وأخذ ذلك المال وفرقه وبقي عدة شهور لم يصله منه شيء إلى أن دخلت سنة أربع وعشرين [وثلاثمائة] فضاق الرزق على أصحاب ياقوت واستغاثوا وذكروا ما فيه أصحاب البريدي بالأهواز من السعة وما هم فيه من الضيق.
وكان قد اتصل بياقوت طاهر الجيلي وهو من كبار أصحاب ابن بويه في ثمانمائة رجل وهو من أرباب المراتب العالية وممن يسمو إلى معالي الأمور.
وسبب اتصاله به خوفه من ابن بويه أن يقبض عليه خوفا منه فلما رأى حال ياقوت انصرف عنه إلى غربي تستر وأراد أن يتغلب على ماه البصرة وكان معه أبو جعفر الصيمري وهو كاتبه فسمع به عماد الدولة بن بويه فكبسه فانهزم هو وأصحابه، واستولى ابن بويه على عسكره وغنمه وأسر
316

الصيمري فأطلقه الخياط وزير عماد الدولة بن بويه فمضى إلى كرمان واتصل بالأمير معز الدولة أبي الحسن بن بويه وكان ذلك سبب اقباله.
فلما سار طاهر من عند ياقوت ضعفت نفسه واستطال عليه أصحابه فخافهم وراسل البريدي وعرفه ما هو فيه وأعمله أن معوله على ما يدبره به فأنفذ إليه البريدي يقول إن عسكرك قد فسدوا وفيهم من ينبغي أن يخرج والرأي أن ينفذهم إليه ليستصلحهم فإنه له أشغال تمنعه أن يحضر عنده ولو حضر عنده الجند مجتمعين لم يتمكن من الانتصاف منهم لأنهم يظاهر بعضهم بعضا وإذا حضروا عنده بالأهواز متفرقين فعل بهم ما أراد ولا يمكنهم خلافة.
ففعل ذلك ياقوت وأنفذ أصحابه إليه فاختار منهم من أراد لنفسه ورد من لا خير فيه إلى ياقوت بعد أن كسرهم وأسقط من أرزاقهم فقيل ذلك لياقوت فأشير عليه بمعاجلة البريدي قبل أن يستفحل أمره فلم يلتفت وقال إنما جعلتهم عنده عدة لي.
وأحسن البريدي إلى من عنده من الجند فقال أصحاب ياقوت في ذلك وطلبوا أرزاقهم التي قررها البريدي فكتب إليه فلم ينفذ شيئا فراجعه فلم ينفذ شيئا فسار ياقوت إليه جريدة لئلا يستوحش منه فلما بلغه ذلك خرج إلى لقائه وقبل يده وقدمه وأنزله داره وقام بين يديه وقدم
317

بنفسه الطعام ليأكل.
وكان قد وضع الجند على إثارة الفتنة فحضروا الباب وشغبوا واستغاثوا فسأل ياقوت عن الخبر فقيل له إن الجند بالأبواب قد شغبوا ويقولون قد اصطلح ياقوت والبريدي ولا بد لنا من قتل ياقوت فقال له البريدي قد ترى ما دفعنا إليه فانج بنفسك وإلا قتلنا جمعيا! فخرج من باب آخر خائفا يترقب ولم يفاتح البريدي بكلمة واحدة وعاد إلى عسكر مكرم فكتب إليه البريدي يقول له إن العسكر الذي شغبوا قد اجتهدت في اصلاحهم وعجزت عن ذلك ولست آمنهم أن يقصدوك وبين عسكر مكرم والأهواز ثمانية فراسخ والرأي أن تتأخر إلى تستر لتبعد عنهم وهي حصينة وكتب له على عامل تستر بخمسين ألف دينار.
فسار ياقوت إليها وكان له خادم اسمه مؤنس فقال أيها الأمير إن البريدي [يحز مفاصلنا] ويفعل بنا ما ترى وأنت مغتر به وهو الذي وضع الجند بالأهواز حتى فعلوا ذلك وقد شرع في إبعادك بعد أن أخذ وجوه أصحابك وقد أطلق لك ما لا يقوم بأود أصحابك الذين عندك وما أعطاك ذلك أيضا إلا حتى تتبلغ به وتضيق الأرزاق علينا ويفنى ما لنا من دابة وعدة فننصرف عنك على أقبح حال فحينئذ يبلغ منك ما يريده فاحفظ نفسك منه ولا تأمنه ولم يثق للجند الحجرية ببغداد شيخ غيرك وقد كاتبوك فسر إليهم فكل من ببغداد يسلم إليك الرياسة
318

فان فعلت وإلا فسر بنا إلى الأهواز لنطرد البريدي عنها وأن أكثر منا فأنت أمير وهو كاتب.
فقال لا تقل في أبي عبد الله هذا فلو كان لي أخ ما زال على محبته.
ثم إن ياقوتا ظهر منه ما يدل على ضعفه وعجزه عن البريدي فضعفت نفوس أصحابه وصار كل ليلة يمضي منهم طائفة إلى البريدي فإذا قيل لياقوت يقول إلى كاتبي يمضون فلم يزل كذلك حتى بقي في ثمانمائة رجل.
ثم إن الراضي قبض على المظفر بن ياقوت في جمادى الأولى وسجنه أسبوعا ثم أطلقه وسيره إلى أبيه فلما اجتمع به بتستر أشار عليه بالمسير إلى بغداد فأن دخلها فقد حصل له ما يريد وإلا سار إلى الموصل وديار ربيعة فاستولى عليها فلم يسمع منه ففارقه ولده إلى البريدي فأكرمه وجعل موكلين يحفظونه.
ثم إن البريدي خاف من عنده من أصحاب ياقوت أن يعاودوا الميل والعصبية له وينادوا بشعاره فيهلك فأرسل إلى ياقوت يقول له ان كتاب الخليفة ورد علي يأمرني أن لا أتركك تقيم بهذه البلاد وما يمكنني مخالفة السلطان وقد أمرني أن أخيرك إما أن تمضي إلى حضرته في خمسة عشر غلاما وإما إلى بلاد الجبل ليوليك بعض الاعمال فإن خرجت طائعا وإلا أخرجتك قهرا.
فلما وصلت الرسالة إلى ياقوت تحير في أمره واستشار مؤنسا غلامه فقال قد نهيتك عن البريدي وما سمعت وما بقي للرأي وجه فكتب ياقوت يستمهله شهرا ليتأهب وعلم حينئذ خبث البريدي حيث لا ينفعه علمه،
319

فلما وصل كتاب ياقوت بطلب المهلة أجابه أنه لا سبيل إلى المهلة وسير العساكر من الأهواز إليه فأرسل ياقوت الجواسيس ليأتوه بالأخبار فظفر البريدي بجاسوس فأعطاه مالا على أن يعود إلى ياقوت ويخبره أن البريدي وأصحابه قد وافوا عسكر مكرم ونزلوا في الدور متفرقين مطمئنين فمضى الجاسوس وأخبر ياقوتا بذلك فأحضر مؤنسا وقال قد ظفرنا بعدونا وكافر نعمتنا وأخبره بما قال الجاسوس وقال نسير من تستر العتمة ونصبح عسكر مكرم وهم غارون فنكبسهم في الدور فإن وقع البريدي فالله مشكور وإن هرب اتبعناه.
فقال مؤنس: ما أحسن هذا إن صح وان كان الجاسوس صادقا فقال ياقوت إنه يحبني ويتولاني وهو صادق فسار ياقوت فوصل إلى عسكر مكرم طلوع الشمس فلم ير للعسكر اثرا فعبر البلد إلى نهر جارود وخيم هناك وبقي يومه ولا يرى لعسكر البريدي اثرا فقال له مؤنس إن الجاسوس كذبنا وأنت تسمع كلام الكاذبين وإنني خائف عليك.
فلما كان بعد العصر أقبلت عساكر البريدي فنزلوا على فرسخ من ياقوت وحجز بينهم الليل وأصبحوا الغد فكانت بينه مناوشة واتعدوا للحرب الغد.
وكان البريدي قد سير عسكرا من طريق أخرى ليصيروا وراء ياقوت من حيث لا يشعر فيكون كمينا يظهر عند القتال فهم ينتظرونه فلما كان الموعد باكروا القتال فاقتتلوا من بكرة إلى الظهر وكان عسكر البريدي قد أشرف على الهزيمة مع كثرتهم وكان مقدمهم أبا جعفر الحمال فلما جاء الظهر ظهر الكمين من وراء عسكر ياقوت فرد إليهم مؤنسا في ثلاثمائة
320

رجل فقاتلهم وهم في ثلاثة آلاف رجل فعاد مؤنس منهزما فحينئذ انهزم أصحاب ياقوت وكانوا سوى الثلاثمائة خمسمائة فلما رأى ياقوت ذلك نزل عن دابته وألقى سلاحه وجلس بقميص إلى جانب جدار رباط ولو دخل الرباط واستتر فيه لخفي أمره وكان أدركه الليل فربما سلم ولكن الله إذا أراد أمرا هيأ أسبابه وكان أمر الله قدرا مقدورا.
فلما جلس مع الحائط غطى وجهه بكمه ومد يده كأنه يتصدق ويستحي [أن] يكشف وجهه فمر به قوم من البربر من أصحاب البريدي فأنكروه فأمروه بكشف وجهه فامتنع فنخسه أحدهم بمزراق معه فكشف وجهه وقال أنا ياقوت فما تريدون مني احملوني إلى البريدي فاجتمعوا عليه فقتلوه وحملوا رأسه إلى العسكر وكتب أبو جعفر الحمال كتابا إلى البريدي على جناح طائر يستأذنه في حمل رأسه إلى العسكر فأعاد الجواب بإعادة الرأس إلى الجثة وتكفينه ودفنه وأسر غلامه مؤنس وغيره من قواده فقتلوا وأرسل البريدي إلى تستر فحمل ما فيها لياقوت من جوار ومال وغير ذلك فلم يظهر لياقوت غير اثني [عشر] ألف دينار فحمل الجميع إليه وقبض على المظفر بن ياقوت فبقي في حبس البريدي مدة ثم نفذه إلى بغداد.
وتجبر البريدي بعد قتل ياقوت وعصى وقد أطلنا في ذكر هذه الحادثة وإنما ذكرناها على طولها لما فيها من الأسباب المحرضة على الاحتياط والاحتراز فإنها أولها إلى آخرها فيها تجارب وأمور يكثر وقوع مثلها.
321

ذكر عزل أبي جعفر وزارة سليمان بن الحسن
لما تولى الوزير أبو جعفر الكرخي على ما تقدم رأى قلة الأموال وانقطاع المواد فازداد عجزا إلى عجزه وضاق عليه الأمر.
وما زالت الإضافة تزيد وطمع من بين يديه من المعاملين فيما عنده من الأموال وقطع ابن رائق حمل واسط والبصرة وقطع البريدي حمل الأهواز وأعمالها وكان ابن بويه قد تغلب على فارس فتحير أبو جعفر وكثرت المطالبات عليه ونقصت هيبته واستتر بعد ثلاثة أشهر ونصف من وزارته فلما استتر استوزر الراضي أبا القاسم سليمان بن الحسن فكان في الوزارة كأبي جعفر في وقوف الحال وقلة المال.
ذكر استيلاء ابن رائق على أمر العراق وتفرق البلاد
لما رأى الراضي وقوف الحال عنده ألجأته الضرورة إلى أن راسل أبا بكر محمد بن رائق وهو بواسط يعرض عليه إجابته إلى ما كان بذله من القيام بالنفقات وأرزاق الجند ببغداد فلما أتاه الرسول بذلك فرح به وشرع يتجهز للمسير إلى بغداد فأنفذ إليه الراضي الساجية وقلده إمارة الجيش، وجعله
322

أمير الأمراء وولاه الخراج والمعاون في جميع البلاد والدواوين وأمر بأن يخطب له على جميع المنابر وأنفذ إليه الخلع.
وانحدر إليه أصحاب الدواوين والكتاب والحجاب وتأخر الحجرية عن الإنحدار فلما استقر الذين انحدروا إلى واسط قبض ابن رائق على الساجية سابع ذي الحجة ونهب رحلهم ومالهم ودوابهم وأظهر أنه إنما فعل ذلك لتتوفر أرزاقهم على الحجرية فاستوحش الحجرية من ذلك وقالوا: اليوم لهؤلاء وغدا لنا وخيموا بدار الخليفة فأصعد ابن رائق إلى بغداد ومعه بجكم وخلع الخليفة عليه أواخر ذي الحجة وأتاه الحجرية يسلمون عليه فأمرهم بقلع خيامهم فقلعوها وعادوا إلى منازلهم.
وبطلت الدواوين من ذلك الوقت وبطلت الوزارة فلم يكن الوزير ينظر في شيء من الأمور إنما كان ابن رائق وكاتبه ينظران في الأمور جميعها وكذلك كل من تولى إمرة الأمراء بعده وصارت الأموال تحمل إلى خزائنهم فيتصرفون فيها كما يريدون ويطلقون للخليفة ما يريدون وبطلت بيوت الأموال وتغلب أصحاب الأطراف وزالت عنهم الطاعة ولم يبق للخليفة غير بغداد وأعمالها والحكم في جميعها لابن رائق ليس للخليفة حكم.
وأما باقي الأطراف فكانت البصرة في يد ابن رائق وخوزستان في يد البريدي وفارس في يد عماد الدولة بن بويه وكرمان في يد أبي علي محمد بن إلياس والري وأصبهان والجبل في يد ركن الدولة بن بويه ويد وشمكير أخي مرداويج يتنازعان عليها والموصل وديار بكر ومضر وربيعة في يد بني حمدان ومصر والشام في يد محمد بن طغج والمغرب وإفريقية في يد أبي القاسم القائم بأمر الله بن المهدي العلوي وهو الثاني منهم ويلقب بأمير
323

المؤمنين والأندلس في يد عبد الرحمن بن محمد الملقب بالناصر الأموي وخراسان وما وراء النهر في يد نصر بن أحمد الساماني وطبرستان وجرجان في يد الديلم والبحرين واليمامة في يد أبي طاهر القرمطي.
ذكر مسير معز الدولة بن بويه إلى كرمان وما جرى عليه بها
في هذه السنة سار أبو الحسين أحمد بن بويه الملقب بمعز الدولة إلى كرمان.
وسبب ذلك أن عماد الدولة ابن بويه وأخاه ركن الدولة لما تمكنا من بلاد فارس وبلاد الجبل وبقي أخوهما الأصغر أبو الحسين أحمد بغير ولاية يستبد بها رأيا أن يسيراه إلى كرمان ففعلا ذلك وسار إلى كرمان في عسكر ضخم شجعان فلما بلغ السيرجان استولى عليها وجبى أموالها وأنفقها في عسكره.
وكان إبراهيم بن سيمجور الدواتي يحاصر محمد بن إلياس بن اليسع بقلعة هناك بعساكر نصر بن أحمد صاحب خراسان فلما بلغه إقبال معز الدولة سار عن كرمان إلى خراسان ونفس عن محمد بن إلياس فتخلص من القلعة وسار إلى مدينة بم وهي على طرف المفازة بين كرمان وسجستان فسار إليه أحمد بن بويه فرحل من مكانه إلى سجستان بغير قتال فسار أحمد إلى جيرفت وهي قصبة كرمان واستخلف على بم بعض أصحابه.
فلما قارب جيرفت أتاه رسول علي بن الزنجي المعروف بعلي
324

كلويه، وهو رئيس القفص والبلوص وكان هو وأسلافه متغلبين على تلك الناحية إلا أنهم يجاملون كل سلطان يرد البلاط ويطيعونه ويحملون إليه مالا معلوما ولا يطؤون بساطه فبذل لابن بويه ذلك المال فامتنع أحمد من قبوله إلا بعد دخول جيرفت فتأخر علي بن كلويه نحو عشرة فراسخ ونزل بمكان صعب المسلك ودخل أحمد بن بويه جيرفت واصطلح وخطب هو وعلي وأخذ رهائنه وخطب له.
فلما استقر الصلح وانفصل الأمر أشار بعض أصحاب ابن بويه عليه بأن يقصد عليا ويغدر به ويسري إليه سرا على غفلة وأطمعه في أمواله وهون عليه أمره بسكونه إلى الصلح فأصغى الأمير أبو الحسين أحمد إلى ذلك لحداثة سنه وجمع أصحابه وأسرى نحوهم جريدة.
وكان علي محترزا ومن معه قد وضعوا العيون على ابن بويه فساعة تحرك بلغته الأخبار فجمع أصحابه ورتبهم بمضيق على الطريق فلما اجتاز ابن بويه ثاروا به ليلا من جوانبه فقتلوا في أصحابه وأسروا ولم يفلت منهم إلا اليسير، ووقعت بالأمير أبي الحسين ضربات كثيرة ووقعت ضربة منها في يده اليسرى فقطعتها من نصف الذارع وأصاب يده اليمنى ضربة أخرى سقط منها بعض أصابعه وسقط مثخنا بالجراح بين القتلى وبلغ الخبر بذلك إلى جيرفت فهرب كل من كان بها من أصحابه.
ولما أصبح علي كلويه تتبع القتلى فرأى الأمير أبا الحسين قد اشرف على التلف فحمله إلى جيرفت وأحضر له الأطباء، وبالغ في علاجه، واعتذر
325

إليه وأنفذ رسله يعتذر إلى أخيه عماد الدولة بين بويه ويعرفه أخيه ويبذل من نفسه الطاعة فأجابه عماد الدولة إلى ما بذله واستقر بينهما الصلح وأطلق على كل من عنده من الأسرى وأحسن إليهم.
ووصل الخبر إلى محمد بن إلياس بما جرى على أحمد بن بويه فسار من سجستان إلى البلد المعروف بجنابة فتوجه إليه ابن بويه وواقعه ودامت الحرب بينهما عدة أيام فانهزم ابن إلياس وعاد أحمد بن بويه ظافرا وسار نحو علي كلويه لينتقم منه فلما قاربه أسرى إليه في أصحابه الرجالة فكبسوا عسكره ليلا في ليلة شديدة المطر فأثروا منهم وقتل ونهبوا وعادوا وبقي ابن بويه باقي ليلته فلما أصبح سار نحوهم فقتل منهم عددا كثيرا وانهزم علي كلويه.
وكتب ابن بويه إلى أخيه عماد الدولة بما جرى له معه ومع ابن إلياس وهزيمته فأجابه أخوه يأمره بالوقوف بمكانه ولا يتجاوزه وأنفذ إليه قائدا من قواده يأمره بالعود إليه إلى فارس ويلزمه بذلك فعاد إلى أخيه واقام عنده بإصطخر إلى أن قصدهم أبو عبد الله البريدي منهزما من ابن رائق وبجكم فأطمع عماد الدولة في العراق وسهل عليه ملكه فسير معه أخاه معز الدولة أبا الحسين على ما نذكره سنة ست وعشرين وثلاثمائة.
ذكر استيلاء ما كان على جرجان
وفي هذه السنة استولى ما كان بن كالي على جرجان.
وسبب ذلك أننا ذكرنا أولا أن ما كان لما عاد من جرجان أقام بنيسابور،
326

وأقام بانجين بجرجان فلما كان بعد ذلك خرج بانجين يلعب بالكرة فسقط عن دابته فوقع ميتا.
وبلغ خبره ما كان بن كالي وهو بنيسابور وكان قد استوحش من عارض جيش خراسان فاحتج على [بن] محمد بن المظفر صاحب الجيش بخراسان بأن بعض أصحابه قد هرب منه وأنه يريد أن يخرج في طلبه فأذن له في ذلك وسار عن نيسابور إلى أسفرايين فأنفذ جماعة من عسكره إلى جرجان واستولوا عليها فأظهر العصيان على محمد بن المظفر وسار من أسفرايين إلى نيسابور مغافصة وبها محمد بن المظفر فخذل محمدا أصحابه ولم يعاونوه وكان في قلة من العسكر غير مستعد له فسار نحو سرخس وعاد ما كان من نيسابور خوفا من اجتماع العساكر عليه وكان ذلك في شهر رمضان سنة أربع وعشرين وثلاثمائة.
ذكر وزارة الفضل بن جعفر للخليفة
وفيها كتب ابن رائق كتابا عن الراضي إلى أبي الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات يستدعيه ليجعله وزيرا وكان يتولى الخراج بمصر والشام وظن ابن رائق أنه إذا استوزره جبى له أموال الشام ومصر فقدم إلى بغداد ونفذت له الخلع قبل وصوله فلقيته بهيت فلبسها ودخل بغداد وتولى وزراة الخليفة ووزارة ابن رائق جميعا.
327

ذكر عدة حوادث
في هذه السنة قلد الراضي محمد بن طغج أعمال مصر مضافا إلى ما بيده من الشام وعزل أحمد بن كيغلغ عن مصر.
وفيها انخسف القمر جميعه ليلة الجمعة لأربع عشرة خلت من ربيع الأول وانكسف جميعه أيضا لأربع عشرة خلت من شوال.
وفيها قبض على أبي عبد الله بن عبدوس الجهشياري وصودر على مائتي ألف دينار.
وفيها ولد عضد الدولة أبو شجاع فناخسرو بن ركن الدولة أبي علي الحسن بن بويه بأصبهان.
وفيها توفي أحمد بن جعفر بن موسى بن يحيى بن خالد بن برمك المعروف بجحظة وله شعر مطبوع وكان عارفا بفنون شتى من العلوم.
وفيها توفي أبو بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد في شعبان وكان إماما في معرفة القراءات وعبد الله بن أحمد بن محمد بن المغلس أبو الحسن الفقيه الظاهري صاحب التصانيف المشهورة.
وفيها توفي عبد الله بن محمد بن زياد بن واصل أبو بكر النيسابوري الفقيه الشافعي في ربيع الأول وكان مولده سنة ثمان وثلاثين ومائتين وكان قد جالس الربيع بن سليمان والمزني ويونس بن عبد الأعلى أصحاب الشافعي وكان إماما.
328

325
ثم دخلت سنة خمس وعشرين ثلاثمائة
ذكر مسير الراضي بالله إلى الحرب
قي هذه السنة أشار محمد بن رائق على الراضي بالله بالانحدار معه إلى واسط ليقرب من الأهواز ويراسل أبا عبد الله بن البريدي فإن أجاب إلى ما يطلب منه والأقرب قصده عليه فأجاب الراضي إلى ذلك وانحدر أول المحرم فخالف الحجرية وقالوا: هذه حيلة علينا ليعمل بنا مثل ما عمل بالساجية فلم يلتفت ابن رائق إليهم وانحدر وتبعه بعضهم ثم انحدروا بعده فلما صاروا بواسط اعترضهم ابن رائق فأسقط أكثرهم فاضطربوا وثاروا فقاتلهم قتالا شديدا فانهزم الحجرية وقتل منهم جماعة.
ولما وصل المنهزمون إلى بغداد ركب لؤلؤ صاحب الشرطة ببغداد ولقيهم فأوقع بهم فاستتروا فنهبت دورهم وقبضت أموالهم وأملاكهم وقطعت أرزاقهم.
فلما فرغ منهم ابن رائق قتل من كان اعتقله من الساجية سوى صافي الخازن وهارون بن موسى فلما فرغ أخرج مضاربه ومضارب الراضي نحو الأهواز لإجلاء ابن البريدي عنها فأرسل إليه في معنى تأخير الأموال وما قد ارتكبه من الاستبداد بها وإفساد الجيوش وتزيين العصيان لهم إلى غير
329

ذلك من ذكر معايبه ثم يقول بعد ذلك وإنه إن حمل الواجب عليه وسلم الجند الذين أفسدهم أقر على عمله وإن أبي قوبل بما استحقه.
فلما سمع الرسالة جدد ضمان الأهواز كل سنة بثلاثمائة وستين ألف دينار يحمل كل شهر قسطه وأجاب إلى تسليم الجيش إلى من يؤمر بتسليمه إليه ممن يسير بهم إلى قتال ابن بويه إذ كانوا كارهين للعود إلى بغداد لضيق الأموال بها واختلاف الكلمة فكتب الرسل ذلك إلى ابن رائق فعرضه على الراضي وشاور فيه أصحابه فأشار الحسين بن علي النوبختي بأن لا يقبل منه ذلك فإنه خداع ومكر للقرب منه ومتى عدتم عنه لم يف بما بذله.
وأشار أبو بكر بن مقاتل بإجابته إلى ما التمس من الضمان وقال إنه لا يقوم غيره مقامه وكان يتعصب للبريدي فسمع قوله وعقد الضمان على البريدي وعاد وهو والراضي إلى بغداد فدخلاها ثامن صفر.
فأما المال فما حمل منه دينارا واحدا وأما الجيش فإن ابن رائق أنفذ جعفر بن ورقاء ليتسلمه منه وليسير بهم إلى فارس فلما وصل إلى الأهواز لقيه ابن البريدي في الجيش جميعه ولما عاد سار الجيش مع البريدي إلى داره واستصحب معه جعفرا وقدم لهم طعاما كثيرا فأكلوا وانصرفوا وأقام جعفر عدة أيام.
ثم إن جعفرا أمر الجيش فطالبوه بمال يفرقه فيهم ليتجهزوا به إلى فارس فلم يكن معه شيء فشتموه وتهددوه بالقتل فاستتر منهم ولجأ
330

إلى البريدي فقال له البريدي ليس العجب ممن أرسلك وإنما العجب منك كيف جئت بغير شيء فلو أن الجيش مماليك لما ساروا إلا بمال ترضيهم به ثم أخرجه ليلا وقال أنج بنفسك فسار إلى بغداد خائبا.
ثم إن ابن مقاتل شرع مع ابن رائق في عزل الحسين بن علي النوبختي وزيره وأشار عليه بالاعتضاد بالبريدي وأن يجعله وزيرا له عوض النوبختي وبذل له ثلاثين ألف دينار فلم يجبه إلى ذلك فلم يزل ابن مقاتل يسعى ويجتهد إلى أن أجابه إليه فكان من أعظم الأسباب في بلوغ ابن مقاتل غرضه أن النوبختي كان مريضا فلما تحدث ابن مقاتل مع ابن رائق في عزله امتنع من ذلك وقال له على حق كثير هو الذي يسعى لي حتى بلغت هذه الرتبة فلا أبتغي به بديلا.
فقال ابن مقاتل فان النوبختي مريض لا مطمع في عافيته.
قال له ابن رائق فإن الطبيب قد أعلمني أنه قد صلح وأكل الدراج فقال إن الطبيب يعلم منزلته منك وأنه وزير الدولة فلا يلقاك في أمره بما تكره ولكن أحضر ابن أخي النوبختي وصهره علي بن أحمد وأسأله عنه سرا فهو يخبرك بحاله.
فقال افعل.
وكان النوبختي قد استناب ابن أخيه عند ابن رائق ليقوم بخدمته في مرضه، ثم إن ابن مقاتل فارق ابن رائق على هذا واجتمع بعلي بن أحمد وقال له قد قررت لك مع الأمير ابن رائق الوزارة فإذا سألك عن عمك فأعلمه أنه على الموت ولا يجئ منه شيء لتتم لك الوزارة.
فلما اجتمع ابن رائق بعلي بن أحمد سأله عن عمه فغشي عليه ثم لطم
331

برأسه ووجهه وقال: يبقي الله الأمير ويعظم أجره فيه فلا يعده الأمير إلا في الأموات فاسترجع وحوقل وقال لو فدي بجميع ما أملكه لفعلت.
فلما حضر عنده ابن مقاتل قال له ابن رائق قد كان الحق معك وقد يئسنا من النوبختي فأكتب إلى البريدي ليرسل من ينوب عنه في وزارتي ففعل وكتب إلى البريدي بإنفاذ أحمد بن علي الكوفي لينوب عنه في وزارة ابن رائق فأنفذه فاستولى على الأمور وتمشي حال البريدي بذلك فإن النوبختي كان عارفا به لا يتمشى معه محاله.
فلما استولى الكوفي وابن مقاتل شرعا في تضمين البصرة من أبي يوسف بن البريدي أخي أبي عبد الله فامتنع ابن رائق من ذلك فخدعاه إلى أن أجاب إليه وكان نائب ابن رائق بالبصرة محمد بن يزداد وقد أساء السيرة وظلم أهلها فلما ضمنها البريدي حضر عنده بالأهواز جماعة من أعيان أهلها فوعدهم ومناهم وذم ابن رائق عندهم بما كان يفعله ابن يزداد فدعوا له.
ثم أنفذ البريدي غلامه إقبالا في ألفي رجل وأمرهم بالمقام بحصن مهدي إلى أن يأمرهم بما يفعلون فلما علم ابن يزداد بهم قامت قيامته من ذلك وعلم أن البريدي يريد التغلب على البصرة وإلا لو كان يريد التصرف في ضمانه لكان يكفيه عامل في جماعته.
وأمر البريدي بإسقاط بعض ما كان ابن يزداد يأخذه من أهل البصرة حتى
332

اطمأنوا وقاتلوا معه عسكر ابن رائق ثم عطف عليهم فعمل بهم أعمالا تمنوا [معها] أيام ابن رائق وعدوها أعيادا.
ذكر ظهور الوحشة بين ابن رائق والبريدي والحرب بينهما
في هذه السنة أيضا ظهرت الوحشة بين ابن رائق والبريدي وكان لذلك عدة أسباب منها أن ابن رائق لما عاد من واسط إلى بغداد أمر بظهور من اختفى من الحجريين فظهروا فاستخدم منهم نحو الفي رجل وأمر الباقين بطلب الرزق أين أرادوا فخرجوا من بغداد واجتمعوا بطريق خراسان ثم ساروا إلى أبي عبد الله البريدي فأكرمهم وأحسن إليهم وذم ابن رائق وعابه وكتب إلى بغداد يعتذر عن قبولهم ويقول إنني خفتهم فلهذا قبلتهم وجعلهم طريقا إلى قطع ما استقر عليه من المال وذكر أنهم اتفقوا مع الجيش الذي عنده ومنعوه من حمل المال الذي استقر عليه فأنفذ إليه ابن رائق يلزمه بإبعاد الحجرية فاعتذر ولم يفعل.
ومنها أن ابن رائق بلغه ما ذمه به ابن البريدي عند أهل البصرة فساءه ذلك وبلغه مقام إقبال في جيشه بحصن مهدي فعظم عليه واتهم الكوفي بمحاباة البريدي وأراد عزله فمنعه عنه أبو بكر محمد بن مقاتل وكان مقبول القول عند ابن رائق فأمر الكوفي أن يكتب إلى البريدي يعاتبه على الأشياء ويأمره بإعادة عسكره من حصن مهدي فكتب إليه في ذلك فأجاب بأن
333

أهل البصرة يخفون القرامطة وابن يزداد عاجز عن حمايتهم وقد تمسكوا بأصحابي لخوفهم.
وكان أبو طاهر الهجري قد وصل إلى الكوفة في الثالث والعشرين من ربيع الآخر فخرج ابن رائق في عساكره إلى قصر ابن هبيرة وأرسل إلى القرمطي فلم يستقر بينهم أمر فعاد القرمطي إلى بلده فعاد حينئذ ابن رائق وسار إلى واسط فبلغ ذلك البريدي فكتب إلى عسكره بحصن مهدي يأمرهم بدخول البصرة وقتال من منعهم وأنفذ إليهم جماعة من الحجرية معونة لهم فأنفذ ابن يزداد جماعة من عنده ليمنعهم من دخول البصرة فاقتتلوا بنهر الأمير فانهزم أصحاب ابن يزداد فأعادهم وزاد في عدتهم كل متجند في البصرة واقتتلوا ثانيا فانهزموا أيضا.
ودخل إقبال وأصحاب البريدي البصرة وانهزم ابن يزداد إلى الكوفة وقامت القيامة على ابن رائق وكتب إلى أبي عبد الله البريدي يتهدده ويأمره بإعادة أصحابه من البصرة فاعتذر ولم يفعل وكان أهل البصرة في أول الأمر يريدون البريدي لسوء سيرة ابن يزداد.
ذكر استيلاء بجكم على الأهواز
لما وصل جواب الرسالة من البريدي إلى ابن رائق بالمغالطة عن إعادة جنده من البصرة استدعى بدرا الخرشنني وخلع عليه وأحضر بجكم أيضا وخلع عليه وسيرهما في جيش وأمرهم أن يقيموا بالجامدة فبادر بجكم ولم يتوقف على بدر ومن معه وسار إلى السوس.
334

فبلغ ذلك البريدي فأخرج إليه جيشا كثيفا في ثلاثة آلاف مقاتل ومقدمهم غلامه محمد المعروف بالحمال فاقتتلوا بظاهر السوس وكان مع بجكم مائتان وسبعون رجلا من الأتراك فانهزم أصحاب البريدي وعادوا إليه فضرب البريدي محمد الحمال وقال انهزمت بثلاثة آلاف من ثلاثمائة فقال له أنت ظننت أنك تحارب ياقوتا المدبر قد جاءك خلاف ما عهدت فقام إليه وجعل يلكمه بيديه.
ثم جمع عسكره وأضاف إليهم من لم يشهد الوقعة فبلغوا ستة آلاف رجل وسيرهم مع الحمال أيضا فالتقوا عند نهر تستر فبادر بجكم فعبر النهر هو وأصحابه فلما رآه أصحاب البريدي انهزموا من غير حرب فلما رآهم أبو عبد الله البريدي ركب هو وأخوته ومن يلزمه في السفن فأخذ معه ما بقي عنده من المال وهو ثلاثمائة ألف دينار فغرقت السفينة بهم فأخرجهم الغواصون وقد كادوا يغرقون وأخرج بعض المال وأخرج باقي المال لبجكم ووصلوا إلى البصرة فأقاموا بالأبلة وأعدوا المراكب للهرب إن انهزم اقبال.
وسير أبو عبد الله البريدي غلامه إقبالا إلى مطارا وسير معه جمعا من فتيان البصرة فالتقوا بمطارا مع أصحاب ابن رائق فانهزمت الرائقية وأسر منهم جماعة فأطلقهم البريدي وكتب إلى ابن رائق يستعطفه وارسل إليه جماعة من أعيان أهل البصرة فلم يجبهم وطلبوا منه أن يحلف لأهل البصرة
335

ليكونوا معه ويساعدوه فامتنع وحلف لئن ظفر بها ليحرقنها ويقتل كل من فيها فازدادوا بصيرة في قتاله.
واطمأن البريديون بعد انهزام عسكر ابن رائق وأقاموا حينئذ بالبصرة واستولى بجكم على الأهواز، فلما بلغ ابن رائق هزيمة أصحابه جهز جيشا آخر وسيره إلى البر والماء فالتقى عسكره الذي على الظهر مع عسكر البريدي فانهزم الرائقية وأما عسكره الذي في الماء فإنهم استولوا على الكلإ فلما رأى ذلك أبو عبد الله البريدي ركب في السفن وهرب إلى جزيرة أوال وترك أخاه أبا الحسين بالبصرة في عسكر يحميها فخرج أهل البصرة مع أبي الحسين لدفع عسكر ابن رائق عن الكلاء فقاتلوهم حتى أجلوهم عنه.
فلما اتصل ذلك ابن رائق سار بنفسه من واسط إلى البصرة على الظهر وكتب إلى بجكم ليلحق به فأتاه فيمن عنده من الجند فتقدموا وقاتلوا أهل البصرة فاشتد القتال وحامى أهل البصرة وشتموا ابن رائق فلما رأى بجكم ذلك هاله وقال لابن رائق ما الذي عملت بهؤلاء القوم حتى أحوجتهم إلى هذا فقال والله لا أدري وعاد ابن رائق وجكم إلى معسكرهما.
وأما أبو عبد الله البريدي فإنه سار من جزيرة أوال إلى عماد الدولة بن بويه واستجار به وأطعمه في العراق وهون عليه أمر الخليفة وابن رائق فنفذ معه أخاه معز الدولة على ما نذكره فلما سمع ابن رائق بإقبالهم من فارس إلى الأهواز سير بجكم إليها،
336

فامتنع من المسير إلا أن يكون إليه الحرب والخراج فأجابه إلى ذلك وسيره إليها.
ثم أن جماعة من أصحاب البريدي قصدوا عسكر ابن رائق ليلا فصاحوا في جوانبه فانهزموا فلما رأى ابن رائق ذلك أمر بإحراق سواده وآلاته لئلا يغنمه البريدي وسار إلى الأهواز جريدة فأشار جماعة على بجكم بالقبض عليه فلم يفعل وأقام رائق أياما وعاد إلى واسط وكان باقي عسكره قد سبقوه إليها.
ذكر الفتنة بين أهل صقلية وأمرائهم
في هذه السنة خالف أهل جرجنت وهي بلاد صقلية على أميرهم سالم بن راشد وكان استعمله عليهم القائم العلوي صاحب أفريقية وكان سيئ السيرة في الناس فأخرجوا عامله عليهم فسير إليهم سالم جيشا كثيرا من أهل صقلية وإفريقية فاقتتلوا أشد قتال فهزموا أهل جرجنت وتبعهم فخرج إليهم سالم ولقيهم واشتد القتال بينهم وعظم الخطب فانهزم أهل جرجنت في شعبان.
فلما رأى أهل المدينة خلاف أهل جرجنت خرجوا أيضا على سالم وخالفوه وعظم شغبهم عليه وقاتلوه في ذي القعدة من هذه السنة فهزمهم،
337

وحصرهم بالمدينة، فأرسل إلى القائم بالمهدية يعرفه أن أهل صقلية قد خرجوا عن طاعته وخالفوا عليه ويستمده فأمده القائم بجيش واستعمل عليهم خليل بن إسحاق فساروا حتى وصلوا إلى صقلية فرأى خليل من طاعة أهلها ماسره وشكوا إليه من ظلم سالم وجوره وخرج إليه النساء والصبيان يبكون ويشكون فرق الناس لهم وبكوا لبكائهم.
وجاء أهل البلاد إلى خليل وأهل جرجنت فلما وصلوا اجتمع بهم سالم وأعلمهم أن القائم قد أرسل خليلا لينتقم منهم بمن قتلوا من عسكره فعاودوا الخلاف فشرع خليل في بناء مدينة على مرسى المدينة وحصنها ونقض كثيرا من المدينة وأخذ أبوابها وسماها الخالصة.
ونال الناس شدة في بناء المدينة فبلغ ذلك أهل جرجنت فخافوا وتحقق عندهم ما قال لهم سالم وحصنوا مدينتهم واستعدوا للحرب، فسار إليهم خليل في جمادى الأولى سنة ست وعشرين وثلاثمائة وحصرهم فخرجوا إليه والتحم والقتال واشتد الأمر وبقي محاصرا لهم ثمانية أشهر لا يخلو يوم من قتال وجاء الشتاء فرحل عنهم في ذي الحجة إلى الخالصة فنزلها.
ولما دخلت سنة سبع وعشرين [ثلاثمائة] خالف على خليل جميع القلاع وأهل مازر كل ذلك بسعي أهل جرجنت وبثوا سراياهم واستفحل أمرهم وكاتبوا ملك القسطنطينية يستنجدونه فأمدهم بالمراكب فيها الرجال والطعام فكتب خليل إلى القائم يستنجده فبعث إليه جيشا كثيرا فخرج خليل بمن معه من أهل صقلية فحصروا قلعة أبي ثور فملكوها
338

وكذلك أيضا البلوط ملكوها، وحصروا قلعة ابلاطنو وأقاموا عليها حتى انقضت سنة سبع وعشرين وثلاثمائة.
فلما دخلت سنة ثمان وعشرين رحل خليل عن ابلاطنو وحصر جرجنت وأطال الحصار ثم رحل عنها وترك عليها عسكرا يحاصرها مقدمهم أبو خلف بن هارون فدام الحصار إلى سنة تسع وعشرين وثلاثمائة فسار كثير من أهلها إلى بلاد الروم وطلب الباقون الأمان فأمنهم على أن ينزلوا من القلعة فلما نزلوا غدر بهم وحملهم إلى المدينة.
فلما رأى أهل سائر القلاع ذلك أطاعوا فلما عادت البلاد الاسلامية إلى طاعته رحل إلى أفريقية في ذي الحجة سنة تسع وعشرين وثلاثمائة وأخذ معه وجوه أهل جرجنت وجعلهم في مركب وأمر بنقبه وهو في لجة البحر فغرقوا.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة خرجت الفرنج إلى بلاد الأندلس التي للمسلمين فنهبوا وقتلوا وسبوا وممن قتل من المشهورين حجاف بن يمن قاضي بلنسية وفيها توفي عبد الله بن محمد بن سفيان أبو الحسين الخزاز النحوي في ربيع الأول وكان صحب ثعلبا والمبرد وله تصانيف في علوم القرآن.
339

326
ثم دخلت سنة ست وعشرين وثلاثمائة
ذكر استيلاء معز الدولة على الأهواز
في هذه السنة سار معز الدولة أبو الحسين أحمد بن بويه إلى الأهواز وتلك البلاد فملكها واستولى عليها.
وكان سبب ذلك ما ذكرناه من مسير أبي عبد الله البريدي إلى عماد الدولة كما سبق فلما وصل إليه أطمعه في العراق والاستيلاء عليه فسير معه أخاه معز الدولة إلى الأهواز وترك أبو عبد الله البريدي ولديه أبا الحسن محمدا وأبا جعفر الفياض عند عماد الدولة بن بويه رهينة وساروا فبلغ الخبر إلى بجكم بنزولهم أرجان فسار لحربهم فانهزم من بين أيديهم.
وكان سبب الهزيمة أن المطر اتصل أياما كثيرة فعطلت أوتار قسي الأتراك فلم يقدروا على رمي النشاب فعاد بجكم وأقام بالأهواز وجعل بعض عسكره بعسكر مكرم فقاتلوا معز الدولة بها ثلاثة عشر يوم ثم انهزموا إلى تستر فاستولى معز الدولة على عسكر مكرم؛ وسار بجكم إلى تستر من الأهواز وأخذ معه جماعة من أعيان الأهواز وسار هو وعسكره إلى واسط وأرسل من الطريق إلى ابن رائق يعلمه الخبر ويقول له أن العسكر محتاج إلى المال فإن كان معك مائتا ألف دينار فتقيم بواسط
340

حتى نصل إليك، وتنفق فيهم المال وان كان المال قليلا فالرأي أنك تعود إلى بغداد لئلا يجري من العسكر شغب.
فلما بلغ الخبر إلى ابن رائق عاد من واسط إلى بغداد ووصل بجكم إلى واسط فأقام بها واعتقل من معه من الأهوازيين وطالبهم بخمسين ألف دينار وكان فيهم أبو زكريا
يحيى بن سعيد السوسي.
قال أبو زكريا: أردت أن اعلم ما في نفس بجكم فأنفذت إليه أقول عندي نصيحة فأحضرني عنده فقلت أيها الأمير أنت تحدث نفسك بمملكة الدنيا وخدمة الخلافة وتدبير الممالك كيف يجوز أن تعتقل قوما منكوبين قد سلبوا نعمتهم وتطالبهم بمال وهم في بلد غربة وتأمر بتعذيبهم حين جعل أمس طشت فيه نار على بطن بعضهم أما تعلم أن هذا إذا سمع عنك استوحش منك الناس وعاداك من لا يعرفك وقد أنكرت على ابن رائق إيحاشه لأهل البصرة أتراه أساء إلى جميعهم لا والله بل أساء إلى بعضهم فأبغضوه كلهم وعوام بغداد لا تحتمل أمثال هذا وذكرت له فعل مرداويج فلما سمع ذلك قال صدقتني ونصحتني ثم أمر بإطلاقهم.
ولما استولى ابن بويه والبريدي على عسكر مكرم سار أهل الأهواز إلى البريدي يهنئونه وفيهم طبيب حاذق وكان البريدي يحم بحمى الربع فقال لذلك الطبيب أما ترى يا أبا زكريا حالي وهذه الحمى فقال له خلط يعني في المأكول فقال له أكثر من هذا التخليط قد رهجت الدنيا ثم ساروا إلى الأهواز فأقاموا بها خمسة وثلاثين يوما ثم هرب البريدي من ابن بويه في الماء إلى الباسيان فكاتبه بعتب كثير ويذكر غدره في هربه.
341

وكان سبب هربه أن ابن بويه طلب عسكره الذين بالبصرة ليسيروا إلى أخيه ركن الدولة بأصبهان معونة له على حرب وشمكير فأحضر منهم أربعة آلاف فلما حضروا قال لمعز الدولة أن أقاموا وقع بينهم وبين الديلم فتنة والرأي أن يسيروا إلى السوس ثم يسيروا إلى أصبهان فأذن له في ذلك ثم طالبهم بأن يحضر عسكره الذين بحصن مهدي ليسيرهم في الماء إلى واسط فخاف البريدي أن يعمل به مثل ما عمل هو بياقوت.
وكان الديلم يهنئونه ولا يلتفتون إليه فهرب وأمر جيشه الذين بالسوس فساروا إلى البصرة وكاتب معز الدولة بالافراج لهم عن الأهواز حتى يتمكن من ضمانه فإنه كان قد ضمن الأهواز والبصرة من عماد الدولة بن بويه كل سنة بثمانية عشر الف الف درهم فرحل عنها إلى عسكر مكرم خوفا من أخيه عماد الدولة لئلا يقول له كسرت المال فانتقل البريدي إلى بناباذ وأنفذ خليفته إلى الأهواز وأنفذ إلى معز الدولة يذكر له حاله وخوفه منه ويطلب أن ينتقل إلى السوس من عسكر مكرم ليبعد عنه ويأمن بالأهواز.
فقال له أبو جعفر الصيمري وغيره أن البريدي يريد أن يفعل بك كما فعل بياقوت ويفرق أصحابك عنك ثم يأخذك فيتقرب بك إلى بجكم وابن رائق ويستعيد أخاك لأجلك فامتنع معز الدولة من ذلك.
وعلم بجكم بالحال فأنفذ جماعة من أصحابه فاستولوا على السوس وجنديسابور وبقيت الأهواز بيد البريدي ولم يبق بيد معز الدولة من كور الأهواز إلا عسكر مكرم فاشتد الحال عليه وفارقه بعض جنده وأرادوا الرجوع إلى فارس فمنعهم أصفهدوست وموسى قياذه، وهما
342

من أكابر القواد، وضمنا لهم أرزاقهم ليقيموا شهرا، فأقاموا وكتب إلى أخيه عماد الدولة يعرفه حاله فأنفد له جيشا فقوي بهم وعاد واستولى على الأهواز وهرب البريدي إلى البصرة واستقر فيها فاستقر ابن بويه بالأهواز.
وأقام بجكم بواسط طامعا بالاستيلاء على بغداد ومكان ابن رائق ولا يظهر له شيئا من ذلك وأنفذ ابن رائق علي بن خلف بن طياب إلى بجكم ليسير معه إلى الأهواز ويخرج منها ابن بويه فإذا فعل ذلك كانت ولايتها لبجكم والخراج إلى علي بن خلف فلما وصل علي إلى بجكم بواسط استوزره بجكم وأقام معه وأخذ بجكم جميع مال واسط.
ولما رأى أبو الفتح الوزير ببغداد أدبار الأمور أطمع ابن رائق في مصر والشام وصاهره وعقد بينه وبين ابن طغج عهدا وصهرا وقال لابن رائق أنا أجبي لك مال مصر والشام أن سيرتني إليهما فأمره بالتجهز للحركة ففعل وسار أبو الفتح إلى الشام في ربيع الآخر.
ذكر الحرب بين بجكم والبريدي والصلح بعد ذلك
لما أقام بجكم بواسط وعظم شأنه خافه ابن رائق لأنه ظن ما فعله بجكم من التغلب على العراق فراسل أبا عبد الله البريدي وطلب منه الصلح على بجكم فإذا انهزم تسلم البريدي واسطا وضمنها بستمائة ألف دينار في السنة
343

على أن ينفذ أبو عبد الله عسكرا.
فسمع بجكم بذلك فخاف واستشار أصحابه في الذي يفعله فأشاروا عليه بأن يبتدئ بأبي عبد الله البريدي وان لا يهجم إلى حضرة الخلافة ولا يكاشف ابن رائق إلا بعد الفراغ من البريدي فجمع عسكره وسار إلى البصرة يريد البريدي فسير أبو عبد الله جيشا بلغت عدتهم عشرة آلاف رجل عليهم غلامه أبو جعفر محمد الحمال فالتقوا واقتتلوا فانهزم عسكر البريدي ولم يتبعهم بجكم بل كف عنهم.
وكان البريديون بمطارا ينتظرون ما ينكشف من الحال فلما انهزم عسكرهم خافوا وضعفت نفوسهم إلا أنه لما رأى عسكره سالما لم يقتل منهم أحد ولا غرق طاب قلبه.
وكانت نية بجكم إذلال البريدي وقطعه عن ابن رائق ونفسه معلقه بالحضرة فأرسل ثاني يوم الهزيمة إلى البريدي يعتذر إليه مما جرى ويقول له أنت بدأت وتعرضت بي وقد عفوت عنك وعن أصحابك ولو تبعتهم لغرق وقتل أكثرهم وأنا أصالحك على أن أقلدك واسط إذ ملكت الحضرة وأصاهرك فسجد البريدي شكرا لله وحلف لبجكم وتصالحا وعاد إلى واسط وأخذ في التدبير على ابن رائق والاستيلاء على الحضرة ببغداد.
344

ذكر قطع يد ابن مقلة ولسانه
في هذه السنة في منتصف شوال قطعت يد الوزير أبي علي بن مقلة.
وكان سبب قطعها أن الوزير أبا الفتح بن جعفر بن الفرات لما عجز عن الوزارة وسار إلى الشام استوزر الخليفة الراضي بالله أبا علي بن مقلة وليس له من الأمر شئ
انما الأمر جميعه إلى ابن رائق وكان ابن رائق قبض أموال ابن مقلة وأملاكه وأملاك أبنه فخاطبه فلم يردها فاستمال أصحابه وسألهم مخاطبته في ردها فوعدوه فلم يقضوا حاجته فلما رأى ذلك سعى بابن رائق فكاتب بجكم يطمعه في موضع ابن رائق وكتب إلى وشمكير بمثل ذلك وهو بالري وكتب إلى الراضي يشير عليه بالقبض على ابن رائق وأصحابه ويضمن أنه يستخرج منهم ثلاثة آلاف دينار وأشار عليه باستدعاء بجكم وإقامته مقام ابن رائق فأطمعه الراضي وهو كاره لما قاله فعجل ابن مقلة وكتب إلى بجكم يعرفه إجابة الراضي ويستحثه على الحركة والمجئ إلى بغداد.
وطلب ابن مقلة من الراضي أن ينتقل ويقيم عنده بدار الخلافة إلى أن يتم على ابن رائق ما اتفقا عليه فأذن له في ذلك فحضر متنكر آخر ليلة من رمضان وقال أن القمر تحت الشعاع وهو يصلح للأسرار فكانت عقوبته حيث نظر إلى غير الله أن ذاع سره وشهر أمره فلما حصل بدار الخليفة لم يوصله الراضي إليه واعتقله في حجرة فلما كان الغد أنفذ إلى ابن رائق يعرفه الحال ويعرض عليه خط ابن مقلة فشكر الراضي وما زالت الرسل تتردد بينهما في معنى ابن مقلة إلى منتصف شوال فأخرج ابن مقلة من محبسه، وقطعت
345

يده ثم عولج فبرأ، فعاد يكاتب الراضي ويخطب الوزارة ويذكر [أن] قطع يده لم يمنعه من عمله وكان يشد القلم على يده المقطوعة ويكتب.
فلما قرب بجكم من بغداد سمع الخدم يتحدثون بذلك فقال إن وصل بجكم فهو يستخلصني وأكافئ ابن رائق وصار يدعو على من ظلمه وقطع يده فوصل خبره إلى الراضي والى ابن رائق فأمر بقطع لسانه ثم نقل إلى محبس ضيق ثم لحقه ذرب فيه الحبس ولم يكن عنده من يخدمه فآل به الحال إلى أن كان يستقي الماء من البئر بيده اليسرى ويمسك الحل بفيه ولحقه شقاء شديد إلى أن مات ودفن بدار الخليفة ثم أن أهله سألوا فيه فنبش وسلم إليهم فدفنوه في داره ثم نبش فنقل إلى دار أخرى.
ومن العجب أنه ولي الوزارة ثلاثة دفعات ووزر لثلاث خلفاء وسافر ثلاث سفرات اثنتين منفيا إلى شيراز وواحدة في وزارته إلى الموصل ودفن بعد موته ثلاث مرات وخص به من خدمه ثلاثة.
ذكر استيلاء بجكم على بغداد
وفي هذه السنة دخل بجكم بغداد ولقي الراضي وقلده امرة الأمراء مكان ابن رائق ونحن نذكر ابتداء أمر بجكم وكيف بلغ إلى هذه الحال فإن بعض أمره قد تقدم وإذا تفرق لم يحصل الغرض منه.
346

كان هذا بجكم من غلمان أبي غلي العارض وكان وزيرا لما كان بن كالي الديلمي فطلبه ما كان فوهبه له ثم إنه فارق ما كان مع من فارقه من أصحابه والتحق بمرداويج وكان في جملة من قتله وسار إلى العراق واتصل بابن رائق وسيره إلى الأهواز فاستولى عليها وطرد البريدي عنها.
ثم خرج البريدي مع معز الدولة بن بويه من فارس إلى الأهواز فأخذوها من بجكم وانتقل بجكم من الأهواز إلى واسط وقد تقدم ذكر ذلك مفصلا، فلما استقر بواسط تعلقت همته بالاستيلاء على حضرة الخليفة وهو مع ذلك يظهر التبعية لابن رائق وكان على أعلامه وتراسه بجكم الرائقي فلما وصلته كتب ابن مقلة يعرفه أنه قد استقر مع الراضي أن يقلده أمرة الأمراء فطمع في ذلك وكاشف ابن رائق ومحا نسبته إليه من أعلامه وسار من واسط نحو بغداد غرة ذي القعدة.
واستعد ابن رائق له، وسأل الراضي أن يكتب إلى بجكم يأمره بالعود إلى واسط فكتب الراضي إليه وسير الكتاب فلما قرأه ألقاه عن يده ورمى به وسار حتى نزل شرقي نهر ديالى وكان أصحاب ابن رائق على غربيه فألقى أصحاب بجكم نفوسهم في الماء فانهزم أصحاب ابن رائق وعبر أصحاب بجكم وساروا إلى بغداد وخرج ابن رائق عنها إلى عكبرا ودخل بجكم بغداد ثالث عشر ذي القعدة ولقي الراضي من الغد وخلع عليه وجعله أمير الأمراء وكتب كتبا عن الراضي إلى القواد الذي مع ابن رائق يأمرهم
347

بالرجوع إلى بغداد ففارقوه جميعهم وعادوا.
فلما رأى ابن رائق ذلك عاد إلى بغداد واستتر ونزل بجكم بدار مؤنس واستقر أمره ببغداد فكانت مدة إمارة أبي بكر بن رائق سنة واحدة وعشرة أشهر وستة عشر يوما ومن مكر بجكم أنه كان يراسل ابن رائق على لسان أبي زكريا يحيى بن سعيد السوسي، قال أبو زكريا أشرت على بجكم أنه لا يكاشف ابن رائق فقال لما أشرت بهذا فقلت له إنه قد كان له عليك رياسة وأمرة وهو أقوى منك وأكثر عددا والخليفة معه والمال عنده كثير فقال أما كثرة رجاله فهم جوز فارغ وقد بلوتهم فما أبالي بهم قلوا أم كثروا وأما كون الخليفة معه فهذا لا يضرني عند أصحابي وأما ما توهمته من قلة المال معي فليس الأمر كذلك وقد وفيت أصحابي مستحقهم ومعي ما يستظهر به فكم تظن مبلغه فقلت لا أدري فقال على كل حال فقلت مائة ألف درهم فقال غفر الله لك معي خمسون ألف دينار لا احتاج إليها.
فلما استولى على بغداد قال لي يوما أتذكر إذ قلت لك معي خمسون ألف دينار والله لم يكن معي غير خمسة آلاف درهم فقلت هذا يدل على قلة ثقتك بي قال لا ولكنك كنت رسولي إلى ابن رائق فإذا علمت قلة المال معي ضعفت نفسك فطمع العدو فينا فأردت أن تمضي إليه بقلب قوي فتكلمه بما تخلع [به] قلبه ويضعف نفسه قال فعجبت من مكره وعقله.
348

ذكر استيلاء لشكري على أذربيجان وقتله
وفيها تغلب لشكري بن مردي علي آذربيجان وهذا لشكري أعظم من الذي تقدم ذكره فإن هذا كان خليفة وشمكير على أعمال الجبل فجمع مالا ورجالا وسار إلى أذربيجان وبها يومئذ ديسم بن إبراهيم الكردي وهو من أصحاب ابن أبي الساج فجمع عسكرا وتحارب هو ولشكري فانهزم ديسم ثم عاد وجمع وتصافا مرة ثانية فانهزم أيضا واستولى لشكري على بلاده إلا أردبيل فإن أهلها امتنعوا بها لحصانتها ولهم بأس ونجدة وهي دار دار المملكة بأذربيجان فراسلهم لشكري ووعدهم الإحسان لما كان يبلغهم
من سوء سيرة الديلم مع بلاد الجبل همذان وغيرها فحصرهم وطال الحصار ثم صعد أصحابه السور ونقبوه أيضا في عدة مواضع ودخلوا البلد.
وكان لشكري يدخله نهارا ويخرج منه ليلا إلى عسكره فبادر أهل البلد وأصلحوا ثلم السور وأظهروا العصيان وعاودوا الحرب فندم على التفريط وإضاعة الحزم؛ فأرسل أهل أردبيل إلى ديسم يعرفونه الحال ويواعدونه يوما يجيء فيه ليخرجوا فيه إلى قتال لشكري ويأتي هو من ورائه ففعل وسار نحوهم وظهروا يوم الموعد في عدد كثير وقاتلوا لشكري وأتاه ديسم من خلف ظهره فانهزم أقبح هزيمة وقتل من أصحابه خلق كثيرا وانحاز إلى موقان فأكرمه اصبهبذها ويعرف بابن دولة وأحسن ضيافته.
وجمع لشكري وسار نحو ديسم وساعده ابن دولة فهرب ديسم
349

وعبر نهر أرس وعبر بعض أصحاب لشكري إليهم فانهزم ديسم وقصد وشمكير وهو بالري وخوفه من لشكري وبذل له مالا كل سنة ليسير معه عسكرا فأجابه إلى ذلك وسير معه عسكرا وكاتب عسكر لشكري وشمكير يعلمونه بما هم عليه من طاعته وأنهم متى رأوا عسكره صاروا معه على لشكري فظفر لشكري بالكتب فكتم ذلك عنهم فلما قرب منه عسكر وشمكير جمع أصحابه وأعلمهم ذلك وأنه لا يقوى بهم وأنه يسير بهم نحو الزوزان وينهب من على طريقه من الأرمن ويسير نحو الموصل ويستولي عليها وعلى غيرها فأجابوه إلى ذلك فسار بهم إلى أرمينية وأهلها غافلون فنهب وغنم وسبى وانتهى إلى الزوزان ومعهم الغنائم فنزل بولاية إنسان أرمني وبذل له مالا ليكف عنه وعن بلاده فأجابوه إلى ذلك.
ثم أن الأرمني كمن كمينا في مضيق هناك وأمر بعض الأرمن أن ينهب شيئا من أموال لشكري ويسلك ذلك المضيق ففعلوا وبلغ الخبر إلى لشكري فركب في خمسة أنفس فسار وراءهم فخرج عليه الكمين فقتلوه ومن معه ولحقه عسكره فرأوه قتيلا ومن معه فعادوا وولوا عليهم ابنه لشكرستان واتفقوا على أن يسيروا على عقبة التنين وهي تجاوز الجودي ويحرزوا سوادهم ويرجعوا إلى بلد طرم الأرمني فيدركوا آثارهم فبلغ ذلك طرم فرتب الرجال على تلك المضايق يرمونهم بالحجارة ويمنعونهم العبور فقتلوا منهم خلقا كثيرا وسلم القليل منهم وفيمن سلم لشكرستان وسار فيمن معه إلى ناصر الدولة بن حمدان بالموصل فأقام بعضهم عنده وانحدر بعضهم إلى بغداد.
فأما أقاموا بالموصل فسيرهم مع ابن عم أبي عبد الله الحسين بن
350

سعيد بن حمدان إلى ما بيده إلى أذربيجان لما أقبل نحوه ديسم ليستولي عليه وكان أبو عبد الله من قبل ابن عمه ناصر الدولة على معاون أذربيجان فقصده ديسم وقاتله فلم يكن لابن حمدان به طاقة ففارق أذربيجان واستولى عليها ديسم.
ذكر اختلال أمور القرامطة
في هذه السنة فسد حال القرامطة وقتل بعضهم بعضا.
وسبب ذلك إنه كان رجل منهم يقال له ابن سنبر وهو من خواص أبي سعيد القرمطي والمطلعين على سره وكان له عدو من القرمطة اسمه أبو حفص الشريك فعمد ابن سنبر إلى رجل من أصبهان وقال له إذا ملكتك أمر القرامطة أريد منك أن تقتل عدوي أبا حفص فأجابه إلى ذلك وعاهده عليه فأطلعه على أسرار أبي سعيد وعلامات كان يذكر أنها في صاحبهم الذي يدعون إليه فحضر عند أولاد أبي سعيد وذكر لهم ذلك فقال أبو طاهر هذا هو الذي يدعو إليه فأطاعوه ودانوا له حتى كان يأمر الرجل بقتل أخيه فيقتله وكان إذا كره رجلا يقول له أنه مريض يعني أنه قد شك في دينه ويأمر بقتله.
وبلغ أبا طاهر إن الأصبهاني يريد قتله ليتفرد بالملك قال لإخوته لقد أخطأنا في هذا الرجل وسأكشف حاله فقال له إن لنا مريضا فانظر إليه
351

ليبرأ، فحضروا وأضجعوا والدته وغطوها بازار فلما رآها قال إن هذا المريض لا يبرأ فاقتلوه فقالوا له كذبت هذه والدته ثم قتلوه بعد ان قتل منهم خلق كثير من عظمائهم وشجعانهم هذا سبب تمسكهم بهجر وترك قصد البلاد والإفساد فيها.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة كان الفداء بين المسلمين والروم في ذي القعدة وكان القيم به ابن ورقاء الشيباني وكان عدة من فودي من المسلمين ستة آلاف وثلاثمائة من بين ذكر وأنثى وكان الفداء على نهر البدندون.
وفيها ولد الصاحب أبو القاسم إسماعيل بن عباد.
352

327
ثم دخلت سنة سبع وعشرين وثلاثمائة
ذكر مسير الراضي وبجكم إلى الموصل وظهور
ابن راتق ومسيره إلى الشام
في هذه السنة في المحرم سار الراضي بالله وبجكم إلى الموصل وديار ربيعة وسبب ذلك أن ناصر الدولة ابن حمدان أخر المال الذي عليه من ضمان البلاد التي بيده فاغتاظ الراضي منه بسبب ذلك فسار هو وبجكم إلى الموصل ومعهما قاضي القضاة أبو الحسين عمر بن محمد فلما بلغوا تكريت أقام الراضي بها وسار بجكم فلقيه ناصر الدولة بالكحيل على ستة فراسخ من الموصل فاقتتلوا واشتد القتال فانهزم أصحاب ناصر الدولة وساروا إلى نصيبين وتبعهم بجكم ولم ينزل بالموصل.
فلما بلغ نصيبين سار ابن حمدان إلى آمد وكتب بجكم إلى الراضي بالفتح فسار من تكريت في الماء يريد الموصل وكان مع الراضي جماعة القرامطة فانصرفوا عنه إلى بغداد قبل وصول كتاب بجكم وكان ابن رائق يكاتبهم فلما بلغوا بغداد ظهر ابن رائق من استتاره واستولى على بغداد ولم يعرض لدار الخليفة.
353

وبلغ الخبر إلى الراضي فأصعد من الماء إلى البر وسار إلى الموصل وكتب إلى بجكم بذلك فعاد عن نصيبين فلما بلغ خبر عوده إلى ناصر الدولة سار من آمد إلى نصيبين فاستولى عليها وعلى ديار ربيعة فقلق بجكم لذلك وتسلل أصحابه إلى بغداد فاحتاج أن يحفظ أصحابه وقال قد حصل الخليفة وأمير الأمراء على قصبة الموصل حسب.
وأنفذ ابن حمدان قبل أن يتصل به خبر ابن رائق بطلب الصلح ويعجل خمسمائة ألف درهم ففرح بجكم بذلك وأنهاه إلى الراضي فأجاب إليه واستقر الصلح بينهم وانحدر الراضي وبجكم إلى بغداد وكان قد راسلهم ابن رائق مع أبي جعفر بن محمد بن يحيى بن شيرزاد يلتمس الصلح فسار إليهم إلى الموصل وأدى الرسالة إلى بجكم فأكرمه بجكم وأنزله معه وأحسن إليه وقدمه إلى الراضي فأبلغه الرسالة أيضا فأجابه الراضي وبجكم إلى ما طلب وأرسل في جواب رسالته قاضي القضاة أبا الحسين عمر بن محمد وقلد طريق الفرات وديار مضر حران والرها وما جاورها وجند قنسرين والعواصم فأجاب ابن رائق أيضا إلى هذه القاعدة وسار عن بغداد إلى ولايته ودخل الراضي وبجكم بغداد تاسع ربيع الآخر.
ذكر وزارة البريدي للخليفة
في هذه السنة مات الوزير أبو الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات بالرملة وقد ذكرنا سبب مسيره إلى الشام فكانت وزارته سنة وثمانية أشهر وخمسة
354

وعشرين يوما ولما سار إلى الشام استناب بالحضرة عبد الله بن علي النقري.
وكان بجكم قد قبض على وزيره علي بن خلف بن طباب فاستوزر أبا جعفر محمد بن يحيى بن شيرزاد فسعى أبو جعفر في الصلح بين بجكم والبريدي فتم ذلك ثم ضمن البريدي أعمال واسط بستمائة ألف دينار كل سنة ثم شرع ابن شيرزاد أيضا بعد موت أبي الفتح الوزير بالرملة في تقليد أبي عبد الله البريدي الوزارة فأرسل إليه الراضي في ذلك فأجاب إليه في رجب واستناب بالحضرة عبد الله بن علي النقري أيضا كما كان يخلف أبا الفتح.
ذكر مخالفة بالبا على الخليفة
كان بجكم قد استناب بعض قواده الأتراك يعرف ببالبا على الأنبار فكاتبه يطلب أن يقلد أعمال طريق الفرات بأسرها ليكون في وجه ابن رائق وهو بالشام فقلده بجكم ذلك فسار إلى الرحبة وكاتب ابن رائق وخالف على بجكم والراضي وأقام الدعوة لابن رائق وعظم أمره.
فبلغ الخبر إلى بجكم فسير طائفة من عسكره وأمرهم بالجد وأن يطووا المنازل ويسبقوا خبرهم ويكسبوا بالرحبة ففعلوا ذلك فوصلوا إلى الرحبة في خمسة أيام ودخلوها على حين غفلة من بالبا وهو يأكل الطعام فلما بلغه الخبر اختفى عند انسان حائك ثم ظفروا به فأخذوه وأدخلوه بغداد على جمل ثم حبس فكان آخر العهد به.
355

ذكر ولاية أبي علي بن محتاج خراسان
في هذه السنة استعمل الأمير السعيد نصر بن أحمد على خراسان وجيوشها أبا علي أحمد بن أبي بكر محمد بن المظفر بن محتاج وعزل أباه واستقدمه إلى بخارى.
وسبب ذلك أن أبا بكر مرض مرضا شديدا أطال به فأنفذ السعيد أحضر ابنه أبا علي من الصغانيان واستعمله مكان أبيه وسيره إلى نيسابور وكتب إلى أبيه يستدعيه إليه فسار عن نيسابور فلقيه ولده على ثلاثة مراحل من نيسابور فعرفه ما يحتاج إلى معرفته وسار أبو بكر إلى بخارى مريضا ودخل ولده أبو علي نيسابور أميرا في شهر رمضان من هذه السنة.
وكان أبو علي عاقلا شجاعا حازما فأقام بها ثلاثة أشهر يستعد للمسير إلى جرجان وطبرستان وسنذكر ذلك سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة.
ذكر غلبة وشمكير على أصبهان والموت
وفيها أرسل وشمكير بن زيار أخو مرداويج جيشا كثيفا من الري إلى أصبهان وبها أبو علي الحسن بن بويه وهو ركن الدولة فأزالوه عنها،
356

واستولوا عليها وخطبوا فيها لوشمكير ثم سار ركن الدولة إلى بلاد فارس فنزل بظاهر إصطخر وسار وشمكير إلى قلعة الموت فملكها وعاد عنها وسيرد من أخبارهما سنة ثمان وعشرين [ثلاثمائة] ما تقف عليه.
ذكر الفتنة بالأندلس
وفي هذه السنة عصي أمية بن إسحاق بمدينة شنترين على عبد الرحمن الأموي صاحب الأندلس.
وسبب ذلك أنه كان له أخ اسمه أحمد وكان وزيرا لعبد الرحمن فقتله عبد الرحمن وكان أمية بشنترين فلما بلغه ذلك عصي فيها والتجأ إلى ردمير ملك الجلالقة ودله على عورات المسلمين ثم خرج أمية في بعض الأيام يتصيد فمنعه أصحابه من دخول البلد فسار إلى ردمير فاستوزره.
وغزا عبد الرحمن بلاد الجلالقة فالتقى هو وردمير هذه السنة فانهزمت الجلالقة وقتل منهم خلق كثير وحصرهم عبد الرحمن.
ثم أن الجلالقة خرجوا عليه وظفروا به وبالمسلمين وقتلوا منهم مقتلة عظيمة وأراد اتباعهم فمنعه أمية وخوفه المسلمين ورغبه في الخزائن والغنيمة.
357

وعاد عبد الرحمن بعد هذه الوقعة جهز الجيوش إلى بلاد الجلالقة فألحقوا عليهم بالغارات وقتلوا منهم أضعاف ما قتلوا من المسلمين ثم أن أمية استأمن إلى عبد الرحمن فأكرمه.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة انكشف القمر جميعه في صفر.
وفيها مات عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي صاحب الجرح والتعديل وعثمان بن الخطاب بن عبد الله أبو الدنيا المعروف بالأشج الذي يقال إنه لقي علي بن أبي طالب عليه السلام وقيل إنهم كانوا يسمونه ويكنونه أبا الحسن آخر أيامه وله صحيفة تروى عنه ولا تصح وقد رواها كثير من المحدثين مع علم منهم بضعفها.
وفيها توفي محمد بن جعفر بن محمد بن سهل أبو بكر الخرائطي صاحب التصانيف المشهورة كاعتلال القلوب وغيره بمدينة يافا.
358

328
ثم دخلت سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة
ذكر استيلاء أبي علي على جرجان
في السنة في المحرم سار أبو علي بن محتاج في جيش خراسان من نيسابور إلى جرجان وكان بجرجان ما كان بن كالي قد خلع قد طاعة الأمير نصر بن أحمد فوجدهم أبو علي قد غوروا المياه فعدل عن الطريق إلى غيره فلم يشعروا به حتى نزل على فرسخ من جرجان فحصر ما كان بها وضيق عليه وقطع الميرة عن البلد فاستأمن إليه كثير من أصحاب ما كان وضاق حال من بقي بجرجان حتى صار الرجل يقتصر كل يوم على حفنة سمسم أو كيلة من كسب أو باقة بقل.
واستمد ما كان من وشمكير وهو بالري فأمده بقائد من قواده يقال له شيرح بن النعمان فلما وصل إلى جرجان ورأى الحال شرع في الصلح بين أبي علي وما كان بن كالي ليجعل له طريقا ينجو فيه ففعل أبو علي ذلك وهرب ما كان إلى طبرستان واستولى أبو علي على جرجان في أواخر سنة ثمان وعشرين واستخلف عليها إبراهيم بن سيمجور الدواتي بعد أن أصلح حالها وأقام بها إلى المحرم سنة تسع وعشرين وثلاثمائة فسار إلى الري على ما نذكره.
359

ذكر مسير ركن الدولة إلى واسط
في هذه السنة سار ركن الدولة أبو علي الحسن بن بويه إلى واسط.
وكان سبب ذلك أن أبا عبد الله البريدي أنفذ جيشا إلى السوس وقتل قائدا من الديلم فتحصن أبو جعفر الصيمري بقلعة السوس وكان على خراجها وكان معز الدولة أبو الحسين أحمد بن بويه بالأهواز فخاف أن يسير إليه البريدي من البصرة فكتب إلى أخيه ركن الدولة وهو بباب إصطخر قد عاد من أصبهان على ما ذكرناه فلما أتاه كتاب أخيه سار إليه مجدا يطوي المنازل حتى وصل إلى السوس ثم سار إلى واسط ليستولي عليها إذ كان قد خرج عن أصبهان وليس له ملك ليستقل به فنزل بالجانب الشرقي وكان البريديون بالجانب الغربي فاضطرب رجال ابن بويه فاستأمن منهم مائة رجل إلى البريدي.
ثم سار الراضي وبحكم من بغداد نحو واسط لحربه فخاف أن يكثر الجمع عليه ويستأمن رجاله فيهلك لأنه كان له سنة لم ينفق فيهم مالا فعاد من واسط إلى الأهواز ثم إلى رامهرمز.
ذكر ملك ركن الدولة أصبهان
وفيها عاد ركن الدولة واستولى على أصبهان سار من رامهرمز فاستولى عليها وأخرج عنها أصحاب وشمكير وقتل منهم واستأسر بضعة عشر قائدا.
360

وكان سبب ذلك أن وشمكير كان قد أنفذ عسكره إلى ما كان نجدة له على ما ذكرناه فخلت بلاد وشمكير من العساكر وسار ركن الدولة إلى أصبهان وبها نفر يسير من العساكر فهزمهم واستولى عليها وكاتب هو وأخوه عماد الدولة أبا علي بن محتاج يحرضانه على ما كان ووشمكير ويعدانه المساعدة عليهما فصار بينهم بذلك مودة.
ذكر مسير بجكم نحو بلاد الجبل وعوده
في هذه السنة سار بجكم من بغداد نحو بلاد الجبل ثم عاد عنها.
وكان سبب ذلك أنه صالح هذه السنة أبا عبد الله البريدي وصاهره وتزوج ابنته فأرسل البريدي يشير عليه بأن يسير إلى بلاد الجبل لفتحها والاستيلاء عليها ويعرفه أنه إذا سار إلى الجبل سار هو إلى الأهواز واستنقذها من يد ابن بويه فاتفقا على ذلك وأنفذ إليه بجكم خمسمائة رجل من أصحابه معونة له وأنفذ إليه صاحبه أبا زكريا السوسي يحثه على الحركة ويكون عنده إلى أن يرحل عن واسط إلى الأهواز.
وسار بجكم إلى حلوان وصار أبو زكريا السوسي يحث ابن البريدي على المسير إلى السوس والأهواز وهو يدافع الأوقات وكان عازما على قصد بغداد إذا أبعد عنها بجكم ليستولي عليها وهو يقدم رجلا ويؤخر أخرى وينتظر به الدوائر من هزيمة أو قتل وأقام أبو زكريا عنده نحو شهر يحثه على المسير،
361

وهو يغالطه فعلم أبو زكريا مقصوده فكتب إلى بجكم بذلك فلحقه الخبر وهو سائر فركب الجمازات وعاد إلى بغداد وخلف عسكره وراءه.
ووصل الخبر إلى البريدي بدخول بجكم إلى بغداد فسقط في يده ثم أتته الأخبار بأن بجكم قد سار نحوه.
ذكر استيلاء بجكم على واسط
لما عاد بجكم إلى بغداد تجهز للانحدار إلى واسط وحفظ الطرق لئلا يصل خبره إلى البريدي فيتحرز وانحدر هو في الماء في العشرين من ذي القعدة وسير عسكره في البر وأسقط اسم البريدي من الوزارة وجعل مكانه أبا القاسم سليمان بن الحسن بن مخلد وكانت وزارة البريدي سنة واحدة وأربعة أشهر وأربعة عشر يوما وقبض على ابن شيرزاد لأنه هو كان سبب وصلته بالبريدي وأخذ منه مائة وخمسين ألف دينار.
فمن عجيب الاتفاق أن بجكم كان له كاتب على أمر داره وحاشيته وهو معه في السفينة عند انحداره إلى واسط فجاء طائر فسقط على صدر السفينة فأخذ وأحضر عند بجكم فوجد على ذنبه كتابا ففتحه فإذا هو من هذا الكاتب إلى أخ له مع البريدي يخبره بجكم وما هو عازم عليه فألقى الكتاب إليه فاعترف به إذ لم يمكنه جحده لأنه بخطه
فأمر بقتله فقتل وألقاه في الماء.
362

ولما بلغ خبر بجكم إلى البريدي سار عن واسط إلى البصرة ولم يقم بها فلما وصل إليها بجكم لم يجد بها أحدا فاستولى عليها وكان بجكم قد خلف عسكرا ببلد الجبل فقصدهم الديلم والجبل فانهزموا وعادوا إلى بغداد.
ذكر استيلاء ابن رائق على الشام
في هذه السنة استولى ابن رائق على الشام وقد ذكرنا مسيره فيما تقدم فلما دخل الشام قصد مدينة حمص فملكها ثم سار منها إلى دمشق وبها بدر بن عبد الله الإخشيدي المعروف ببدير واليا عليها للإخشيد فأخرجه ابن رائق منها وملكها.
وسار منها إلى الرملة فملكها وسار إلى عريش مصر يريد يريد الديار المصرية فلقيه الإخشيد محمد ين طغج وحاربه فانهزم الإخشيد فاشتغل أصحاب ابن رائق بالنهب ونزلوا في خيم أصحاب الإخشيد فخرج عليهم كمين للإخشيد فأوقع بهم وهزمهم وفرقهم ونجا ابن رائق في سبعين رجلا ووصل إلى دمشق على أقبح صورة.
فسير إليه الإخشيد أخاه أبا نصر بن طغج في جيش كثيف فلما سمع بهم ابن رائق سار إليهم من دمشق فالتقوا باللجون رابع ذي الحجة فانهزم عسكر أبي نصر وقتل هو فأخذه ابن رائق وكفنه وحمله إلى أخيه الإخشيد وهو بمصر وأنفذ معه ابنه مزاحم بن محمد بن رائق وكتب إلى الإخشيد كتابا يعزيه عن أخيه ويعتذر مما جرى
363

ويحلف أنه ما أراد قتله وانه قد أنفذ ابنه ليفديه به أن أحب ذلك فتلقى الإخشيد مزاحما بالجميل وخلع عليه ورده إلى أبيه واصطلحا على أن تكون الرملة وما وراءها إلى مصر للإخشيد وباقي الشام لمحمد بن رائق ويحمل إليه الإخشيد عن الرملة كل سنة مائة ألف وأربعين ألف دينار.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة قتل طريف السبكري.
وفيها عزل بجكم وزيره أبا جعفر بن شيرزاد لما ذكرناه وصادره على مائة وخمسين ألف دينار واستوزر بعده أبا عبد الله الكوفي.
وفيها توفي محمد بن يعقوب وقتل محمد بن علي أبو جعفر الكليني وهو من أئمة الإمامية وعلمائهم.
(الكليني بالياء المعجمة باثنتين من تحت النون وهو ممال).
وفيها توفي أبو الحسن محمد بن أحمد بن أيوب المقري البغدادي المعروف بابن شنبوذ في صفر.
وفيها توفي أبو محمد جعفر المرتعش وهو من أعيان مشايخ الصوفية وهو نيسابوري سكن بغداد وقاضي القضاة عمر بن أبي عمر محمد بن يوسف وكان قد ولي القضاء بعد أبيه.
364

وفيها توفي أبو بكر محمد بن القاسم بن محمد بن محمد بن بشار المعروف بابن الأنباري وهو مصنف كتاب الوقف والابتداء.
وفيها في حادي عشر شوال مات الوزير أبو علي بن مقلة في الحبس.
وفيها لليلتين بقيتا من شوال توفي الوزير أبو العباس الخصيبي بسكتة لحقته بينه وبين ابن مقلة سبعة عشر يوما.
وفيها مات أبو عبد الله القمي وزير ركن الدولة بن بويه فاستوزر بعده أبا الفضل بن العميد فتمكن منه فنال ما لم ينله أحد من وزراء بني بويه وسيرد من أخباره ما يعلم به محله.
365

329
ثم دخلت سنة تسع وعشرين وثلاثمائة
ذكر موت الراضي بالله
في هذه السنة مات الراضي بالله أبو العباس أحمد بن المقتدر منتصف ربيع الأول وكانت خلافته ست سنين وعشرة أشهر وعشرة أيام وكان عمره اثنتين وثلاثين سنة وشهورا وكانت علته الاستسقاء وكان أديبا شاعرا فمن شعره:
(يصفر وجهي إذا ما تأمله * طرفي ويحمر وجهه خجلا)
(حتى كأن الذي بوجنته * من دم جسمي إليه قد نقلا)
وله أيضا يرثي أباه المقتدر:
(ولو أن حيا كان قبرا لميت * لصيرت أحشائي لأعظمه قبرا)
(ولو أن عمري كان طوع مشيئتي * وساعدني التقدير قاسمته العمرا)
(بنفسي ثري ضاجعت في تربة البلا * لقد ضم منك الغيث والليث والبدرا)
366

ومن شعره أيضا:
(كل صفو إلى كذر كل أمن إلى حذر * ومصير الشباب للموت فيه أو الكبر)
(در در المشيب من واعظ ينذر البشر * أيها الآمل الذي تاه في لجه الغرر)
(أين من كان قبلنا درس العين والأثر * سيرد المعاد من عمره كله خطر)
(رب إني ذخرت عندك أرجوك مدخر * إنني مؤمن بما بين الوحي في السور)
(واعترافي بترك نفعي وإيثاري الضرر * رب فاغفر لي الخطيئة يا خير من غفر)
وكان الراضي أيضا سمحا سخيا يحب محادثة الأدباء والفضلاء والجلوس معهم.
ولما مات أحضر بجكم ندماءه وجلساءه وطمع أن ينتفع بهم فلم يفهم منهم ما ينتفع به وكان منهم سنان بن ثابت الصابي الطبيب فأحضره وشكا إليه غلبة القوة الغضبية عليه وهو كاره لها فما زال معه في تقبيح ذلك عنده وتحسين ضده من الحام والعفو والعدل وتوصل معه حتى زال أكثر
367

ما كان يجده وكف عن القتل والعقوبات.
وكان الراضي أسمر أعين خفيف العارضين وأمه أم ولد اسمها ظلوم وختم الخلفاء في أمور عدة فمنها أنه آخر حليفة له شعر يدون وآخر خليفة خطب كثيرا على منبر وإن كان غيره قد خطب نادرا لا اعتبار به وكان آخر خليفة جالس الجلساء ووصل إليه الندماء وآخر خليفة كانت له نفقته وجوائزه وعطاياه وجراياته وخزائنه ومطابخه ومجالسه وخدمه وحجابه وأمور على تريب الخلفاء المتقدمين.
ذكر خلافة المتقي لله
لما مات الراضي بالله بقي الأمر في الخلافة موقوفا انتظارا لقدوم أبي عبد الله الكوفي كاتب بجكم من واسط وكان بجكم بها.
واحتيط على دار الخلافة فورد كتاب بجكم مع الكوفي يأمر فيه بان يجتمع مع أبي القاسم سليمان بن الحسن وزير الرضي كل من تقلد الوزارة وأصحاب الدواوين والعلويون والقضاة والعباسيون ووجوه البلد ويشاورهم الكوفي فيمن ينصب للخلافة ممن يرتضي مذهبه وطريقته فجمعهم الكوفي واستشارهم فذكر بعضهم إبراهيم بن المقتدر وتفرقوا على هذا فلما كان الغد اتفق الناس عليه فأحضر في دار الخلافة وبويع له في العشرين من ربيع الأول وعرضت عليه ألقاب فاختار المتقي لله وبايعه الناس كافة وسير
368

الخلع واللواء إلى بجكم بواسط.
وكان بجكم بعد موت الراضي وقبل استخلاف المتقي قد أرسل إلى دار الخلافة أخذ فرشا وآلات كان يستحسنها وجعل سلامة الطولوني حاجبه وأقر سليمان على وزارته وليس له من الوزارة إلا اسمها وإنما التدبير كله إلى الكوفي كاتب بجكم.
ذكر قتل ما كان بن كالي واستيلاء أبي علي بن محتاج على الري
قد ذكرنا مسير أبي علي بن محمد بن المظفر بن محتاج إلى جرجان وإخراج ما كان عنها فلما سار عنها ما كان قصد طبرستان وأقام بها وأقام أبو علي بجرجان يصلح أمرها ثم استخلف عليها إبراهيم بن سيمجور الدواتي وسار نحو الري في المحرم من هذه السنة فوصلها في ربيع الأول وبها وشمكير بن زيار أخو مرداويج.
وكان عماد الدولة وركن الدولة ابنا بويه يكاتبان أبا علي ويحثانه على قصد وشمكير ويعدانه المساعدة وكان قصدهما أن تؤخذ الري من وشمكير فإذا أخذها أبو علي لا يمكنه المقام بها لسعة ولايته بخراسان فيغلبان عليها.
وبلغ أمر اتفاقهم إلى وشمكير وكاتب ما كان بن كالي يستخدمه ويعرفه الحال فسار ما كان بن كالي من طبرستان إلى الري وسار أبو علي وأتاه عسكر
369

ركن الدولة بن بويه فاجتمعوا معه بإسحاقاباذ والتقوا هم ووشمكير ووقف ما كان بن كالي في القلب وباشر الحرب بنفسه وعى أبو علي أصحابه كراديس وأمر من بإزاء القلب أن يلحوا عليهم في القتال ثم يتطاردوا لهم ويستجروهم ثم وصى من بإزاء الميمنة والميسرة أن يناوشوهم مناوشة بمقدار ما يشغلونهم عن مساعدة من في القلب ولا يناجزوهم ففعلوا ذلك.
وألح أصحابه على قلب وشمكير بالحرب ثم تطاردوا لهم فطمع فيهم ما كان ومن معه فتبعوهم وفارقوا مواقفهم فحينئذ أمر أبو علي الكراديس التي بإزاء الميمنة والميسرة أن يتقدم بعضهم ويأتي من في قلب وشمكير من ورائهم ففعلوا ذلك فلما رأى أبو علي أصحابه قد أقبلوا من وراء ما كان ومن معه من أصحابه أمر المتطاردين بالعود والحملة على ما كان وأصحابه وكانت نفوسهم قد قويت بأصحابهم فرجعوا وحملوا على أولئك وأخذهم السيف من بين أيدهم ومن خلفهم فولوا منهزمين.
فلما رأى ما كان ذلك ترجل وأبلى بلاء حسنا وظهرت منه شجاعة لم ير الناس مثلها فأتاه سهم غرب فوقع في جبينه فنفذ في الخودة والرأس حتى طلع من قفاه وسقط ميتا وهرب وشمكير ومن سلم معه إلى طبرستان فأقام بها واستولى أبو علي على الري وأنفذ رأس ما كان إلى بخارى والسهم فيه ولم يحمل إلى بغداد حتى قتل بجكم لأن بجكم كان من أصحابه وجلس للعزاء لما قتل فلما قتل بجكم حمل الرأس من بخارى إلى بغداد والسهم فيه وفي الخودة وأنفذ أبو علي الأسرى إلى بخارى أيضا وكانوا بها حتى
370

دخل وشمكير في طاعة آل سامان وسار إلى خراسان فاستوهبهم فأطلقوا له على ما نذكره سنة ثلاثين [وثلاثمائة].
ذكر قتل بجكم
وفي هذه السنة قتل بجكم.
وكان سبب قتله أن أبا عبد الله البريدي أنفذ جيشا من البصرة إلى مذار فأنفذ بجكم جيشا إليهم عليهم توزون فاقتتلوا قتالا شديدا كانت أولا على توزون فكتب إلى بجكم
يطلب أن يلحق به فسار بجكم إليهم من واسط منتصف رجب فلقيه كتاب توزون بأنه ظفر بهم وهزمهم فأراد الرجوع إلى واسط فأشار عليه بعض أصحابه بان يتصيد فقبل منه وتصيد حتى بلغ نهر جور فسمع أن هناك أكرادا لهم مال وثروة فشرهت نفسه إلى أخذه فقصدهم في قلة من أصحابه بغير جنة تقيه فهرب الأكراد من بين يديه ورمى هو أحدهم فلم يصبه فرمى آخر فأخطاه أيضا وكان لا يخب سهمه فأتاه غلام من الأكراد من خلفه وطعنه بالرمح في خاصرته وهو لا يعرفه فقتله بين الطيب والمذار وذلك لأربع بقين من رجب واختلف عسكره فمضى الديلم خاصة نحو البريدي وكان ألفا وخمسمائة فأحسن إليهم وأضعف أرزاقهم وأوصلها إليهم دفعة واحدة.
وكان البريدي قد عزم على الهرب من البصرة هو واخوته وكان بجكم قد راسل أهل البصرة وطيب قلوبهم فمالوا إليه فأتى البريديين الفرج من حيث لم يحتسبوا، وعاد أتراك بجكم إلى واسط وكان تكينك محبوسا بها،
371

حبسه بجكم وأخرجوه من محبسه فسار بهم إلى بغداد وأظهروا طاعة المتقي لله.
وصار أبو الحسين أحمد بن ميمون يدبر الأمور واستولى المتقي على دار بجكم فأخذ ماله منها وكان قد دفن فيها مالا كثيرا وكذلك أيضا في الصحراء لأنه خاف أن ينكب فلا يصل إلى ماله في داره.
وكان مبلغ ما أخذ من ماله ودفائنه ألف ألف دينار ومائتي ألف دينار وكانت مدة أمارة بجكم سنتين وثمانية أشهر وتسعة أيام.
ذكر إصعاد البريديين إلى بغداد
لما قتل بجكم اجتمعت الديلم على بلسواز بن مالك بن مسافر فقتله الأتراك فانحدر الديلم إلى أبي عبد الله البريدي وكانوا منتخبين ليس فيهم حشو فقوي بهم وعظمت شوكته فأصعدوا من البصرة إلى واسط في شعبان فأرسل المتقي لله إليهم يأمرهم أن لا يصعدوا فقالوا: نحن محتاجون إلى مال فان أنفذ لنا منه شيء لم نصعد فأنفذ إليهم مائة ألف وخمسين ألف دينار فقال الأتراك للمتقي نحن نقاتل بني البريدي فأطلق لنا مالا وأنصب لنا مقدما فأنفق فيهم مالا وفي أجناد بغداد القدماء أربعمائة ألف دينار من المال الذي أخذ لبجكم وجعل عليهم سلامة الطولوني وبرزوا مع المتقي لله
372

إلى نهر ديالي يوم الجمعة لثمان بقين من شعبان.
وسار البريدي من واسط إلى بغداد ولم يقف على ما استقر معه فلما قرب من بغداد اختلف الأتراك البجكمية واستأمن بعضهم إلى البريدي وبعضهم سار إلى الموصل واستتر سلامة الطولوني وأبو عبد الله الكوفي ولم يحصل الخليفة إلا على إخراج المال وهم أرباب النعم ولا أموال بالانتقال من بغداد خوفا من البريدي وظلمه وتهوره.
ودخل أبو عبد الله البريدي بغداد ثاني عشر رمضان ونزل بالشفيعي ولقيه الوزير أبو الحسن والقضاة والكتاب وأعيان الناس وكان معه من أنواع السفن مالا يحصى كثيرة فأنفذ إليه المتقي يهنئه بسلامته وأنفذ إليه طعاما وغيره عدة ليال وكان يخاطب بالوزير، وكذلك أبو الحسين بن ميمون وزير الخليفة أيضا ثم عزل أبو الحسين وكانت مدة وزارة أبي الحسين ثلاثة وثلاثين يوما، ثم قبض أبو عبد الله البريدي على أبي الحسين وسيره إلى البصرة وحبسه بها إلى أن مات في صفر سنة ثلاثين وثلاثمائة من حمى حادة.
ثم أنفذ البريدي إلى المتقي يطلب خمسمائة ألف دينار ليفرقها في الجند فامتنع عليه فأرسل إليه يتهدده ويذكره ما جرى على المعتز والمستعين والمهتدي وترددت الرسل فأنفذ إليه تمام خمسمائة ألف دينار ولم يلق البريدي المتقي بالله مدة مقامه ببغداد.
373

ذكر عود البريدي إلى واسط
كان البريدي يأمر الجند بطلب الأموال من الخليفة فلما أنفذ الخليفة إليه المال المذكور انصرفت أطماع الجند عن الخليفة إلى البريدي وعادت مكيدته عليه فشغب الجند عليه وكان الديلم قد قدموا على أنفسهم كورتكين الديلمي وقد الأتراك على أنفسهم تكينك غلام بجكم وثار الديلم إلى دار البريدي فأحرقوا دار أخيه أبي الحسين التي كان ينزلها ونفروا عن البريدي وانضاف تكينك إليهم وصارت أيديهم واحدة واتفقوا على قصد البريدي ونهب ما عنده من الأموال فساروا إلى النجمي ووافقهم العامة فقطع البريدي الجسر ووقعت الحرب في الماء ووثب العامة بالجانب الغربي على أصحاب البريدي فهرب هو وأخوه وابنه أبو القاسم وأصحابه وانحدروا في الماء إلى واسط ونهبت داره في النجمي ودوره قواده وكان هربه سلخ رمضان وكانت مدة مقامه أربعة وعشرين يوما
ذكر أمارة كورتكين الديلمي
لما هرب البريدي استولى كورتكين على الأمور ببغداد ودخل إلى المتقي لله فقلده أمارة الأمراء وخلع عليه واستدعى المتقي علي بن عيسى وأخاه عبد الرحمن بن عيسى فأمر عبد الرحمن فدبر الأمر من غير تسمية بوزارة،
374

ثم إن كورتكين قبض تكينك التركي خامس شوال وغرقه ليلا وتفرد بالأمر، ثم إن العامة اجتمعوا يوم الجمعة سادس شوال وتظلموا من الديلم ونزولهم في دورهم بغير أجرة وتعديهم عليهم في معاملاتهم فلم ينكر ذلك فمنعت العامة الخطيب من الصلاة واقتتلوا هم والديلم فقتل من الفريقين جماعة.
ذكر عود ابن رائق إلى بغداد
في هذه السنة عاد أبو بكر محمد بن رائق من الشام إلى بغداد وصار أمير الأمراء وكان سبب ذلك أن الأتراك البجكمية لما ساروا إلى الموصل لم يروا عند ابن حمدان ما يريدون فساروا نحو الشام إلى ابن رائق وكان فيهم من القواد توزون وخجخج ونوشتكين وصيغون فلما وصلوا إليه أطمعوه في العود إلى العراق ثم وصلت إليه كتب المتقي يستدعيه فسار من دمشق في العشرين من رمضان واستخلف على الشام أبا الحسن أحمد بن علي بن مقاتل فلما وصل إلى الموصل تنحى عن طريقه ناصر الدولة
بن حمدان فتراسلا واتفقا على أن يتصالحا وحمل ابن حمدان إليه مائة ألف دينار وسار ابن رائق إلى بغداد فقبض كورتكين على القراريطي الوزير واستوزر أبا جعفر محمد بن القاسم الكرخي في ذي القعدة وكانت وزارة القراريطي ثلاثة وأربعين يوما.
وبلغ خبر ابن رائق إلى أبي عبد الله البريدي فسير إخوته إلى واسط
375

فدخلوها وأخرجوا الديلم عنها وخطبوا له بواسط وخرج كورتكين عن بغداد إلى عكبرا ووصل إليه ابن رائق فوقعت الحرب بينهم واتصلت عدة أيام.
فلما كان ليلة الخميس لتسع بقين من ذي الحجة سار ابن رائق ليلا من عكبرا هو وجيشه فأصبح ببغداد فدخلها من الجانب الغربي هو وجميع جيشه ونزل في النجمي وعبر من الغد إلى الخليفة فلقيه وركب المتقي لله معه في الدجلة ثم عاد ووصل هذا اليوم بعد الظهر كورتكين مع جميع جيشه من الجانب الشرقي، وكانوا يستهزئون بأصحاب ابن رائق ويقولون أين نزلت هذه القافلة الواصلة من الشام ونزلوا بالجانب الشرقي؟
ولما دخل كورتكين بغداد أيس ابن رائق من ولايتها فأمر بحمل أثقاله والعود إلى الشام فرفع الناس أثقالهم ثم إنه عزم أن يناوشهم شيئا من قتال قبل مسيره فأمر طائفة من عسكره أن يعبروا دجلة ويأتوا الأتراك من ورائهم ثم إنه ركب في سميرية وركب معه عدة من أصحابه في عشرين سميرية ووقفوا يرمون الأتراك بالنشاب ووصل أصحابه وصاحوا من خلفهم واجتمعت العامة مع أصحاب ابن رائق يضجون فظن كورتكين أن العسكر قد جاءه من خلفه ومن بين يديه فانهزم هو وأصحابه واختفى هو ورجمهم العامة بالآجر وغيره.
وقوي أمر ابن رائق وأخذ من استأمن إليه من الديلم فقتلهم عن آخرهم وكانوا نحو أربعمائة فلم يسلم منهم غير رجل واحد اختفى بين القتلى وحمل معهم في الجواليق وألقي في دجلة فسلم وعاش بعد ذلك دهرا وقتل الأسرى من قواد الديلم وكانوا بضعة عشر رجلا، وخلع المتقي على
376

ابن رائق، وجعله أمير الأمراء، وأمر أبا جعفر الكرخي بلزوم بيته وكانت وزراته ثلاثة وثلاثين يوما واستولى أحمد الكوفي على الأمر فدبره ثم ظفر ابن رائق بكورتكين فحبس بدار الخليفة.
ذكر عدة حوادث
في السنة كان بالعراق غلاء شديد فاستسقى الناس في ربيع الأول فسقوا مطرا قليلا لم يجر منه ميزاب ثم اشتد الغلاء والوباء وكثر الموت حتى كان يدفن الجماعة في القبر الواحد ولا يغسلون ولا يصلى عليهم ورخص العقار ببغداد والأثاث حتى بيع ما ثمنه دينار بدرهم وانقضى تشرين الأول وتشرين الثاني والكانونان وشباط ولم يجيء مطر غير المطرة التي عند الاستسقاء ثم جاء المطر في آذار ونيسان.
وفيها، في شوال، استوزر المتقي لله أبا إسحاق محمد بن أحمد الإسكافي المعروف بالقراريطي بعد عود بني البريدي من بغداد وجعل بدرا الخرشني حاجبه فبقي وزيرا إلى الخامس والعشرين من ذي القعدة فقبض عليه كورتكين وزارته ثلاثة وأربعين يوما واستوزر بعده أبا جعفر محمد بن القاسم الكرخي فبقي وزيرا إلى الثامن والعشرين من ذي الحجة من هذه السنة فعزله ابن رائق لما استولى على الأمور ببغداد فكانت وزارته اثنتين وثلاثين يوما،
377

ودبر الأمور أبو عبد الله الكوفي كاتب ابن رائق من غير تسمية بوزارة.
وفيها عاد الحجاج إلى العراق لم يصلوا إلى المدينة بل سلكوا الجادة بسبب طالبي ظهر بتلك الناحية وقوي أمره.
وفيها كثرت الحميات ووجع المفاصل في الناس ومن عجل الفصاد برأ وإلا طال مرضه.
وفي أيام الراضي توفي أبو بشر أخو متى بن يونس الحكيم الفيلسوف وله تصانيف في شرح كتاب أرسطاطاليس.
وفيها في ذي الحجة مات بختيشوع ين يحيى الطبيب.
وفيها مات محمد بن عبد الله البلغمي وزير السعيد نصر بن أحمد صاحب خراسان وكان من عقلاء الرجال وكان نصر قد صرفه عن وزارته سنة ست وعشرين وثلاثمائة وجعل مكانه محمد بن محمد الجيهاني.
وفيها توفي أبو بكر محمد بن المظفر بن محتاج ودفن بالصغانيان وأبو محمد الحسن بن علي بن خلف البربهاري رئيس الحنابلة توفي مستترا ودفن في تربة نصر القشوري وكان عمره ستا وسبعين سنة.
378

330
ثم دخلت سنة ثلاثين وثلاثمائة
ذكر وزارة البريدي
في هذه السنة وزر أبو عبد الله البريدي للمتقي لله.
وكان سبب ذلك أن ابن رائق استوحش من البريدي لأنه أخر حمل المال وانحدر إلى واسط عاشر المحرم فهرب بنو البريدي إلى البصرة وسعى لهم أبو عبد الله الكوفي حتى عادوا وضمنوا بقايا واسط بمائة وتسعين ألف دينار وضمنوها كل سنة بستمائة ألف دينار.
وعاد ابن رائق إلى بغداد فشغب الجند عليه ثاني ربيع الآخر وفيهم توزون وغيره من القواد ورحلوا في العشر الآخر إلى أبي عبد الله البريدي بواسط فلما وصلوا إليه قوى بهم جانبه فاحتاج ابن رائق إلى مداراته فكاتب أبا عبد الله البريدي بالوزارة وأنفذ له الخلع واستخلف أبا عبد الله بن شيرزاد ثم وردت الأخبار إلى بغداد بعزم البريدي
على الإصعاد إلى بغداد فأزال ابن رائق اسم الوزارة عنه وأعاد أبا إسحاق القراريطي ولعن بني البريدي على المنابر بجانبي بغداد.
379

ذكر استيلاء البريدي على بغداد وإصعاد المتقي إلى الموصل
وسير أبو عبد الله البريدي أخاه أبا الحسين إلى بغداد في جميع الجيش من الأتراك والديلم وعزم ابن رائق على أن يتحصن بدار الخليفة فأصلح سورها ونصب عليه العرادات والمنجنيقات وعلى دجلة وأنهض العامة وجند بعضهم فثاروا في بغداد وأحرقوا ونهبوا وأخذوا الناس ليلا ونهارا.
وخرج المتقي لله وابن رائق إلى نهر ديالي منتصف جمادى الآخرة ووافاهم أبو الحسين عنده في الماء والبر واقتتل الناس وكانت العامة على شاطئ دجلة في الجانبين يقاتلون من في الماء من أصحاب البريدي وانهزم أهل بغداد واستولى أصحاب البريدي على دار الخليفة ودخلوا إليها في الماء وذلك لتسع بقين من جمادى الآخرة وهرب المتقي وابنه الأمير أبو منصور في نحو عشرين فارسا ولحق بهما ابن رائق في جيشه فساروا جمعيا نحو الموصل واستتر الوزير القراريطي وكانت مدة وزارته الثانية أربعين يوما وإمارة ابن رائق ستة أشهر وقتل أصحاب البريدي من وجدوا في دار الخليفة من الحاشية ونهبوها ونهبوا دور الحرم.
وكثر النهب في بغداد ليلا ونهارا وأخذوا كورتكين من حبسه وأنفذه أبو الحسين إلى أخيه بواسط فكان آخر العهد به ولم يتعرضوا للقاهر بالله ونزل أبو الحسين بدار مؤنس التي يسكنها ابن رائق وعظم النهب فأقام أبو الحسين توزون على الشرطة بشرقي بغداد وجعل نوشتكين على شرطة الجانب الغربي،
380

فسكن الناس شيئا يسيرا وأخذ أبو الحسين البريدي رهائن القواد الذين مع توزون وغيره أخذ نساءهم وأولادهم فسيرهم إلى أخيه أبي عبد الله بواسط.
ذكر ما فعله البريدي ببغداد
لما استولى على بغداد أخذ أصحابه في التهب والسلب وأخذ الدواب وجعلوا طلبها طريقا إلى غيرها من الأثاث وكبست الدور وأخرج أهلها منها ونزلت وعظم الأمر وجعل على كر من الحنطة والشعير وأصناف الحبوب خمسة دنانير وغلت الأسعار فبيع الكر الحنطة بثلاثمائة وستة عشر دينارا والخبز الخشكوار رطلين بقيراطين صحيح أميري وحبط أهل الذمة وأخذ القوي بالضعيف وورد من الكوفة وسوادها خمسمائة كر من الحنطة والشعير فأخذه جميعه وادعى أنه للعامل بتلك الناحية.
ووقعت الفتن بين الناس فمن ذلك أنه كان معه طائفة من القرامطة فجرى بينهم وبين الأتراك حرب قتل فيها جماعة وانهزم القرامطة وفارقوا بغداد ووقعت حرب بين الديلم والعامة قتل فيها جماعة من حد نهر طابق إلى القنطرة الجديدة.
وفي آخر شعبان زاد البلاء على الناس فكبسوا منازلهم ليلا ونهارا واستتر أكثر العمال لعظيم ما طولبوا به مما ليس في السواد، وافترق الناس،
381

فخرج الناس وأصحاب السلطان إلى أقرب من بغداد فحصدوا ما استحصدوا من الحنطة والشعير وحملوه بسنبله إلى منازلهم وكان مع ذلك ينهب ويعسف أهل العراق ويظلمهم ظلما لم يسمع بمثله قط والله المستعان.
وإنما ذكرنا هذا الفضل ليعلم الظلمة أن أخبارهم تنقل وتبقى على وجه الدهر فربما تركوا الظلم لهذا إن لم يتركوه لله سبحانه وتعالى.
ذكر قتل ابن رائق وولاية ابن حمدان أمرة الأمراء
وكان المتقي لله قد أنفذ إلى ناصر الدولة بن حمدان يستمده على البريديين فأرسل أخاه سيف الدولة علي بن عبد الله بن حمدان نجدة له في جيش كثيف فلقي المتقي وابن رائق بتكريت قد انهزما فخدم سيف الدولة للمتقي لله خدمة عظيمة وسار معه إلى الموصل ففارقها ناصر الدولة إلى الجانب الشرقي وتوجه نحو معلثايا وترددت الرسل بينه وبين ابن رائق حتى تعاهدا واتفقا فحضر ناصر الدولة ونزل على دجلة بالجانب الشرقي فعبر إليه الأمير أبو منصور بن المتقي وابن رائق يسلمان عليه فنثر الدنانير والدراهم على ولد المتقي فلما أرادوا الانصراف من عنده ركب ابن المتقي وأراد ابن رائق الركوب فقال له ناصر الدولة تقيم اليوم عندي لنتحدث فيما نفعله فاعتذر ابن رائق بابن المتقي فألح عليه ابن حمدان فاستراب به وجذب كمه من يده فقطعه وأراد الركوب فشب به الفرس فسقط فصاح ابن حمدان بأصحابه اقتلوه فقتلوه وألقوه في دجلة.
وأرسل ابن حمدان إلى المتقي يقول إنه علم أن ابن رائق أراد أن يغتاله،
382

ففعل به ما فعل فرد عليه المتقي ردا جميلا وأمره بالمسير إليه فسار ابن حمدان إلى المتقي لله فخلع عليه ولقبه ناصر الدولة وجعله أمير الأمراء وذلك مستهل شعبان وخلع على أخيه أبي الحسين علي ولقبه سيف الدولة.
وكان قتل ابن رائق يوم الاثنين لتسع بقين من رجب ولما قتل ابن رائق سار الإخشيد من مصر إلى دمشق وكان بها محمد بن يزداد خليفة ابن رائق فاستأمن إلى الأخشيد وسلم إليه دمشق فأقره عليها ثم نقله عنها إلى مصر وجعله على شرطتها يقال أن لابن رائق شعرا منه:
(يصفر وجهي إذا ما تأمله * طرفي ويحمر وجهه خجلا)
(حتى كأن الذي بوجنته * من دم قلبي إليه قد نقلا)
وقد قيل أنه للراضي بالله وقد تقدم.
ذكر عود المتقي إلى بغداد وهرب البريدي عنها
لما استولى أبو الحسين البريدي على بغداد وأساء السيرة كما ذكرناه نفرت عنه قلوب الناس العامة والأجناد فلما قتل ابن رائق سارع الجند إلى الهرب من البريدي فهرب خجخج إلى المتقي وكان قد استعمله البريدي على الراذانات وما يليها ثم تحالف توزون ونوشتكين والأتراك على كبس أبي الحسين البريدي فغدر نوشتكين فأعلم البريدي
الخبر فاحتاط وأحضر الديلم عنده وقصده توزون فحاربه الديلم وعلم توزون غدر نوشتكين
383

به فعاد ومعه جملة وافرة من الأتراك وسار نحو الموصل خامس رمضان فقوي بهم ابن حمدان وعزم على الانحدار إلى بغداد وتجهز وانحدر هو والمتقي واستعمل على أعمال الخراج والضياع بديار مضر وهي الرها وحران والرقة أبا الحسن علي بن طياب وسيره من الموصل.
وكان على ديار مضر أبو الحسين أحمد بن علي بن مقاتل خليفة لابن رائق فاقتتلوا فقتل أبو الحسين بن مقاتل واستولى ابن طياب عليها فلما قارب المتقي لله وناصر الدولة بن حمدان بغداد هرب أبو الحسين منها إلى واسط واضطربت العامة ببغداد ونهب الناس بعضهم بعضا وكان مقام أبي الحسين ببغداد ثلاثة أشهر وعشرين يوما ودخل المتقي لله إلى بغداد ومعه بنو حمدان في جيوش كثيرة واستوزر المتقي أبا إسحاق القراريطي وقلد توزون شرطة جانبي بغداد وذلك في شوال.
ذكر الحرب بين ابن حمدان والبريدي
لما هرب أبو الحسين البريدي إلى واسط ووصل بنحو حمدان والمتقي إلى بغداد خرج بنو حمدان عن بغداد نحو واسط وكان أبو الحسين قد سار من واسط إليهم ببغداد فأقام ناصر الدولة بالمدائن وسير أخاه سيف الدولة وابن عمه أبا عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان في الجيش إلى قتال أبي الحسين فالتقوا تحت المدائن بفرسخين واقتتلوا عدة أيام آخرها رابع ذي الحجة وكان توزون وخجخج والأتراك مع ابن حمدان فانهزم سيف الدولة ومن معه إلى المدائن وبها ناصر الدولة فردهم وأضاف إليهم من كان عنده
384

من الجيش فعاودوا القتال فانهزم أبو الحسين البريدي وأسر جماعة من أعيان أصحابه وقتل جماعة وعاد أبو الحسين البريدي منهزما إلى واسط ولم يقدر سيف الدولة على اتباعه إليها لما في أصحابه من الوهن والجراح.
وكان المتقي قد سير أهله من بغداد إلى سر من رأى فأعادهم وكان أعيان الناس قد هربوا من بغداد فلما انهزم البريدي عادوا إليها وعاد ناصر الدولة بن حمدان إلى بغداد فدخلها ثالث عشر ذي الحجة وبين يديه الأسرى على الجمال ولما استراح سيف الدولة وأصحابه انحدروا من موضع المعركة إلى واسط فرأوا البريديين قد انحدروا إلى البصرة فأقام بواسط ومعه الجيش وسنذكر من اخباره سنة إحدى وثلاثين [وثلاثمائة].
ولما عاد ناصر الدولة إلى بغداد نظر في العيار فرآه ناقصا فأمر بإصلاح الدنانير فضرب دنانير سماها الإبريزية عيارها خير من غيرها فكان الدينار بعشرة دراهم فبيع هذا الدينار بثلاثة عشر درهما.
ذكر استيلاء الديلم على آذربيجان
كانت آذربيجان بيد ديسم بن إبراهيم الكردي وكان قد صحب يوسف بن أبي الساج وخدم وتقدم حتى استولى على آذربيجان وكان يقول بمذهب الشراة هو وأبوه وكان أبوه من أصحاب هارون الشاري فلما قتل هارون هرب إلى أذربيجان وتزوج ابنة رئيس من أكرادها فولدت له ديسم،
385

فانضم إلى أبي الساج فارتفع وكبر شأنه وتقدم إلى أن ملك آذربيجان بعد يوسف بن أبي الساج وكان معظم جيوشه الأكراد إلا نفرا يسيرا من الديلم من عسكر وشمكير أقاموا عنده حين صحبوه إلى أذربيجان.
ثم أن الأكراد تقووا وتحكموا عليه وتغلبوا على بعض قلاعه وأطراف بلاده فرأى بأن يستظهر عليهم بالديلم فاستكثر ذلك منهم وكان فيهم صعلوك بن محمد بن مسافر وعلي بن الفضل وغيرهما فأكرمهم ديسم وأحسن إليهم وانتزع من الأكراد ما تغلبوا عليه من بلاده وقبض على جماعة من رؤسائهم.
وكان وزيره أبا القاسم علي بن جعفر وهو من أهل أذربيجان فسعى به أعداؤه فأخافه ديسم فهرب إلى الطرم إلى محمد بن مسافر فلما وصل إليه رأى ابنيه وهسوذان والمرزبان قد استوحشا منه واستوليا على بعض قلاعه وكان سبب وحشتهما سوء معاملته معهما ومع غيرهما ثم إنهما قبضا على أبيهما محمد بن مسافر وأخذا أمواله وذخائره وبقي في حصن آخر وحيدا فريدا بغير مال ولا عدة فرأى علي بن جعفر الحال فتقرب إلى المرزبان وخدمه وأطعمه في أذربيجان وضمن له تحصيل أموال كثيرة يعرف هو وجوهها فقلده وزارته.
وكان يجمعهما مع الذي ذكرنا أنهما كانا من الشيعة فإن علي بن جعفر كان من دعاة الباطنية والمرزبان مشهور بذلك وكان ديسم كما ذكرنا
386

يذهب إلى مذهب الخوارج في بغض علي عليه السلام فنفر منه من عنده من الديلم وابتدأ علي بن جعفر فكاتب من يعلم أنه يستوحش من ديسم ويستميله إلى أن أجابه أكثر أصحابه وفسدت قلوبهم على ديسم وخاصة الديلم وسار المرزبان إلى أذربيجان وسار ديسم إليه فلما التقيا للحرب عاد الديلم إلى المرزبان وتبعهم كثير من الأكراد مستأمنين فحمل المرزبان على ديسم فهرب في طائفة يسيرة من أصحابه إلى أرمينية واعتصم بحاجيق بن الديراني لمودة بينهما فأكرمه واستأنف ديسم يؤلف الأكراد وكان أصحابه يشيرون عليه بإبعاد الديلم لمخالفتهم إياه في الجنس والمذهب فعصاهم وملك المرزبان أذربيجان واستقام أمره إلى أن فسد ما بينه وبين وزيره علي ابن جعفر.
وكان سبب الوحشة بينهما أن عليا أساء السيرة مع أصحاب المرزبان فتضافروا عليه فأحس بذلك فاحتال على المرزبان فأطعمه في أموال كثيرة يأخذها له من بلد تبريز فضم إليه جندا من الديلم وسيرهم إليها فاستحال على أهل البلد فعرفهم أن المرزبان إنما سيره إليهم ليأخذ أموالهم وحسن لهم قتل من عندهم من الديلم ومكاتبه ديسم ليقدم عليهم فأجابوه إلى ذلك.
وكاتب ديسم، ووثب أهل البلد بالديلم فقتلوهم وسار ديسم فيمن اجتمع إليه من العسكر إلى تبريز وكان المرزبان قد أساء إلى من استأمن إليه من الأكراد فلما سمعوا بديسم أنه يريد تبريز ساروا إليه فلما اتصل
387

ذلك بالمرزبان ندم على إيحاش علي بن جعفر واستماع أعدائه فيه ثم جمع عسكره وسار إلى تبريز فتحارب وهو وديسم بظاهر تبريز فانهزم ديسم والأكراد وعادوا فتحصنوا بتبريز وحصرهم المرزبان وأخذ في اصلاح علي بن جعفر ومراسلته وبذل له الايمان على ما يريده فأجابه علي أنني لا أريد من جميع ما بذلته إلا السلامة وترك العمل فأجابه إلى ذلك وحلف له.
واشتد الحصار على ديسم فسار من تبريز إلى أردبيل وخرج علي بن جعفر إلى المرزبان فساروا إلى أردبيل وترك المرزبان على تبريز من يحصرها وحصر هو ديسم بأردبيل فلما طال الحصار عليه طلب الصلح وراسل المرزبان في ذلك فأجابه إليه فاصطلحا وتسلم المرزبان أردبيل فأكرم ديسم وعظمه ووفى له بما حلف له عليه ثم إن ديسم خاف على نفسه من المرزبان فطلب منه أن يسيره إلى قلعته بالطرم فيكون فيها هو وأهله ويقنع بما يتحصل له منها ولا يكلفه شيئا آخر ففعل المرزبان ذلك وأقام ديسم بقلعته هو وأهله.
ذكر استيلاء أبي علي بن محتاج على بلد الجبل
وطاعة وشمكير للسامانية
قد ذكرنا سنة تسع وعشرين [ثلاثمائة] مسير أبي علي بن محتاج جيوش خراسان للسامانية إلى الري وأخذها من وشمكير ومسير وشمكير
388

إلى طبرستان وأقام أبو علي بالري بعد ملكها تلك الشتوة وسير العساكر إلى بلد الجبل فافتتحها واستولى على زنكان وأبهر وقزوين وقم وكرج وهمذان ونهاوند والدينور إلى حدود حلوان ورتب فيها العمال وجبى أموالها.
وكان الحسن بن الفيرزان بسارية فقصده وشمكير وحصره فسار إلى ابن أبي علي واستنجده وأقام وشمكير متحصنا بسارية فسار إليه أبو علي ومعه الحسن وحصره بها سنة ثلاثين [ثلاثمائة] وضيق عليه وألح عليه بالقتال كل يوم وهم في شتاء شات كثير المطر فسأل وشمكير الموادعة فصالحه أبو علي وأخذ رهائنه على لزوم طاعة الأمير نصر بن أحمد الساماني ورحل عنه إلى جرجان في جمادى الآخرة سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة فأتاه موت الأمير نصر بن أحمد فسار عنها إلى خراسان.
ذكر استيلاء الحسن بن الفيرزان على جرجان
كان الحسن بن الفيرزان عم ما كان بن كالي وكان قريبا منه في الشجاعة فلما قتل ما كان راسله وشمكير ليدخل في طاعته فلم يفعل وكان بمدينة سارية وصار يسب وشمكير وينسبه إلى المواطأة على قتل ما كان فقصده وشمكير فسار الحسن من سارية إلى أبي علي صاحب جيوش خراسان واستنجده فسار معه أبو علي من الري فحصر وشمكير بسارية وأقام يحاصره إلى سنة إحدى وثلاثين [ثلاثمائة]، واصطلحا.
389

وعاد أبو علي إلى خراسان وأخذ ابنا لوشمكير اسمه سالار رهينة وصحبه الحسن بن الفيرزان وهو كاره للصلح فبلغه وفاة السعيد نصر بن أحمد صاحب خراسان فلما سمع الحسن ذلك عزم على الفتك بابي علي فثار به وبعسكره فسلم أبو علي ونهب الحسن سواده وأخذ ابن وشمكير وعاد إلى جرجان فملكها وملك الدامغان وسمنان ولما وصل أبو علي إلى نيسابور رأى إبراهيم بن سيمجور الدواتي قد امتنع عليه بها وخالفه فترددت الرسل بينهم فاصطلحوا.
ذكر ملك وشمكير الري
لما انصرف أبو علي إلى خراسان وجرى عليه من الحسن ما ذكرناه وعاد إلى جرجان سار وشمكير من طبرستان إلى الري فملكها واستولى عليها وراسله الحسن بن الفيرزان يستميله ورد عليه ابنه سالار الذي كان عند أبي علي رهينة وقصد أن يتقوى به على الخراسانية إن عادوا إليه فألان له وشمكير الجواب ولم يصرح بما يخالف قاعدته مع أبي علي.
ذكر استيلاء ركن الدولة على الري
لما سمع ركن الدولة وأخوه عماد الدولة ابنا بويه بملك وشمكير طمعا فيه لأن وشمكير كان قد ضعف وقلت رجاله وماله بتلك الحادثة مع أبي
390

علي فسار ركن الدولة الحسن بن بويه إلى الري واقتتل هو ووشمكير فانهزم وشمكير واستأمن كثير من رجاله إلى ركن الدولة فسار وشمكير إلى طبرستان فقصده الحسن بن الفيرزان فاستأمن إليه كثير من عسكره أيضا فانهزم وشمكير إلى خراسان.
ثم إن الحسن بن الفيرزان راسل ركن الدولة وواصله فتزوج ركن الدولة بنتا للحسن فولدت له ولده فخر الدولة عليا.
وكان ينبغي أن نذكر هذه الحوادث بعد وفاة السعيد نصر بن أحمد وإنما ذكرناها هنا ليتلو بعضهما بعضا.
ذكر عدة حوادث
في السنة صرف بدار الخرشني عن حجبة الخليفة وجعل مكانه سلامة الطولوني.
وفيها ظهر كوكب في المحرم بذنب عظيم في أول برج القوس وآخر برج العقرب بين الغرب والشمال وكان رأسه في المغرب وذنبه في المشرق وكان عظيما منتشر الذنب وبقي ظاهرا ثلاثة عشر يوما وسار في القوس والجدي ثم اضمحل.
وفيها اشتد الغلاء لا سيما بالعراق وبيع الخبز أربعة أرطال بقيراطين صحيح أميري وأكل الضعفاء الميتة وكثر الوباء والموت جدا.
391

وفيها في ربيع الآخر وصل الروم إلى قريب حلب ونهبوا وخربوا البلاد وسبوا نحو خمسة عشر ألف إنسان.
وفيها دخل الثملي من ناحية طرسوس إلى بلاد الروم فقتل وسبى وغنم وعاد سالما وقد أسر عدة من بطارقتهم المشهورين.
وفيها في ذي القعدة قلد المتقي لله بدرا الخرشني طريق الفرات فسار إلى الإخشيد مستأمنا فقلده بلدة دمشق فلما كان بعد مدة حم ومات بها.
وفيها في جمادى الآخرة ولد أبو منصور بويه بن ركن الدولة بن بويه وهو مؤيد الدولة.
وفيها توفي أبو بكر محمد عبد الله المعروف بالصيرفي الفقيه الشافعي وله تصانيف في أصول الفقه.
وفيها توفي القاضي أبو عبد الله بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل المحاملي الفقيه الشافعي وهو من المكثرين في الحديث وكان مولده سنة خمس وثلاثين ومائتين وكان على قضاء الكوفة وفارس فاستعفى من القضاء وألح في ذلك فأجيب إليه.
وفيها توفي أبو الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري المتكلم صاحب المذهب المشهور، وكان مولده سنة ستين ومائتين وهو من ولد أبي موسى الأشعري.
392

وفيها مات محمد بن محمد الجيهاني وزير السعيد نصر بن أحمد تحت الهدم.
وفيها توفي محمد بن يوسف بن النضر الهروي الفقيه الشافعي وكان مولده سنة تسع وعشرين ومائتين وأخذ عن الربيع بن سليمان صاحب الشافعي وتعلم منه.
393

331
ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة
ذكر ظفر ناصر الدولة بعدل البجكمي
في هذه السنة ظفر أبو عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان بعدل حاجب بجكم وسمله وسيره إلى بغداد.
وسبب ذلك أن عدلا صار بعد قتل بجكم مع ابن رائق وسار معه إلى بغداد وصعد معه إلى الموصل فلما قتل ناصر الدولة أبا بكر بن رائق كما ذكرناه صار عدل في جملة ناصر الدولة فسيره ناصر الدولة مع علي بن خلف بن طياب إلى ديار مضر والشام الذي كانت بيد ابن رائق وكان بالرحبة من جهة ابن رائق رجل يقال له مسافر بن الحسن فلما قتل ابن رائق استولى مسافر هذا على الناحية ومنع منها وجبى خراجها فأرسل إليه ابن طياب عدلا في جيش ليخرجه عن الرحبة فلما سار إليها فارقها مسافر من غير قتال وملك عدل الحاجب البلد وكاتب من بغداد من البجكمية فقصدوه مستخفين فقوي أمره بهم واستولى على طريق الفرات وبعض الخابور.
ثم ان مسافرا جمع جمعا من بني نمير وسار إلى قرقيسيا فأخرج منها
394

أصحاب عدل وملكها فسار عدل إليها واستتر عنها وعزم عدل على قصد الخابور وملكه فاحتاط أهله منه واستنصروا ببني نمير فلما علم ذلك ترك قصدهم.
ثم صار يركب كل يوم قبل العصر بساعة في جميع عسكره ويطوف صحاري قرقيسيا إلى آخر النهار وعيونه تأتيه من أهل الخابور بأنهم يحذرون كلما سمعوا بحركته ففعل ذلك أربعين يوما، فلما رأى أهل الخابور اتصال ركوبه وإنه لا يقصدهم فرقوا جمعهم وأمنوه فأتته عيونه بذلك على رسمه فلما تكامل رجاله أمرهم بالمسير وان يرسلوا غلمانهم في حمل أثقالهم وسار لوقته فصبح الشمسانية وهي من أعظم قرى الخابور وأحصنها فتحصن أهلها منه فقاتلهم ونقب السور وملكها وقتل فيها وأخذ من أهلها مالا كثيرا، وأقام بها أياما ثم سار إلى غيرها فبقي في الخابور ستة أشهر فجبى الخراج والأموال العظيمة واستظهر بها وقوى أصحابه بما وصل إليهم أيضا وعاد إلى الرحبة واتسعت حاله واشتد أمره وقصده العساكر من بغداد فعظم حاله.
ثم أنه سار يريد نصيبين لعلمه ببعد ناصر الدولة عن الموصل والبلاد الجزيرية ولم يمكنه قصد الرقة وحران لأنها كان بها يأنس المؤنسي في عسكره ومعه جمع من بني نمير فتركها وسار إلى رأس العين ومنها إلى نصيبين فاتصل خبره بالحسين بن حمدان فجمع الجيش وسار إليه إلى نصيبين فلما قرب منه لقيه عدل في جيشه فلما التقى العسكران استأمن أصحابه من عدل إلى ابن حمدان وبقي معه منهم نفر يسير من خاصته، فأسره
395

ابن حمدان وأسر معه ابنه فسمل عدلا وسيرهما إلى بغداد فوصلها في العشرين من شعبان فشهر هو وابنه فيها.
ذكر حال سيف الدولة بواسط
لقد ذكرنا مقام سيف الدولة علي بن حمدان بواسط بعد انحدار البريديين عنها وكان يريد الإنحدار إلى البصرة لأخذها من البريدي ولا يمكنه لقلة المال عنده ويكتب إلى أخيه في ذلك فلا ينفذ إليه شيئا وكان توزون وخجخج يسيئان الأدب ويتحكمان عليه.
ثم إن ناصر الدولة أنفذ إلى أخيه مالا مع أبي عبد الله الكوفي ليفرقه في الأتراك فأسمعه توزون وخجخج المكره وثارا به فأخذه سيف الدولة وغيبه عنهما وسيره إلى بغداد وأمر توزون أن يسير إلى الجامدة ويأخذها وينفرد بحاصلها وأمر خجخج أن يسير إلى مذار ويحفظها ويأخذ حاصلها.
وكان سيف الدولة يزهد الأتراك في العراق ويحسن لهم قصد الشام معه والاستيلاء عليها وعلى مصر ويقع في أخيه عنهم فكانوا يصدقونه في أخيه ولا يجيبونه إلى المسير إلى الشام معه ويتسحبون عليه وهو يجيبهم إلى الذي يريدونه.
فلما كان سلخ شعبان ثار الأتراك بسيف الدولة فكبسوه ليلا فهرب من معسكره إلى بغداد وتهب سواده وقتل جماعة من أصحابه.
396

وأما ناصر الدولة فإنه لما وصل إليه أبو عبد الله الكوفي وأخبره الخبر برز ليسير إلى الموصل فركب المتقي إليه وسأله التوقف عن المسير فأظهر له الإجابة إلى أن عاد ثم سار إلى الموصل ونهبت داره وثار الديلم والأتراك ودبر الأمر أبو إسحاق القراريطي من غير تسمية بوزارة.
وكانت أمارة ناصر الدولة أبي محمد الحسين بن عبد الله بن حمدان ببغداد ثلاثة عشر شهرا وخمسة أيام ووزارة أبي العباس الأصبهاني أحدا وخمسين يوما ووصل سيف الدولة إلى بغداد.
ذكر حال الأتراك بعد إصعاد سيف الدولة
لما هرب سيف الدولة من واسط عاد الأتراك إلى معسكرهم فوقع الخلاف بين توزون وخجخج وتنازعا الأمارة ثم استقر الحال على أن يكون توزون أميرا وخجخج صاحب الجيش وتصاهرا.
وطمع البريدي في واسط فأصعد إليها فأمر توزون خجخج بالمسير إلى نهر أبان وارسل البريدي إلى توزون يطلب أن يضمنه واسط فرده ردا جميلا ولم يفعل ولما عاد الرسول اتبعه توزون بجاسوس يأتيه بخبره مع خجخج فعاد الجاسوس فأخبر توزون بأن الرسول اجتمع هو وخجخج وطال الحديث بينهما وأن خجخج يريد أن ينتقل إلى البريدي فسار توزون
397

إليه جريدة في مائتي غلام يثق بهم وكبسه في فراشه ليلة الثاني عشر من رمضان فلما أحس به ركب دابته بقميص وفي يده لت ودفع عن نفسه قليلا ثم أخذ وحمل إلى توزون فحمله إلى واسط فسلمه وأعماه ثاني يوم وصوله إليها.
ذكر عود سيف الدولة إلى بغداد وهربه عنها
لما هرب سيف الدولة على ما ذكرناه لحق بأخيه فبلغه خلاف توزون وخجخج فطمع في بغداد فعاد ونزل بباب حرب وأرسل إلى المتقي لله يطلب منه مالا ليقاتل توزون أن قصد بغداد فأنفذ إليه أربعمائة ألف درهم ففرقها في أصحابه وظهر من كان مستخفيا ببغداد وخرجوا إليه وكان وصوله ثالث عشر رمضان.
ولما بلغ توزون وصول سيف الدولة إلى بغداد خلف بواسط كيغلغ في ثلاثمائة رجل وأصعد إلى بغداد فلما سمع سيف الدولة بإصعاده رحل من باب حرب فيمن انضم إليه من أجناد بغداد وفيهم الحسن بن هارون.
398

ذكر أمارة توزون
فد ذكرنا مسير سيف الدولة من بغداد فلما فارقها دخلها توزون وكان دخوله بغداد في الخامس والعشرين من رمضان فخلع عليه المتقي لله وجعله أمير الأمراء وصار أبو جعفر الكرخي كاتب توزون ينظر في الأمور كما كان الكوفي ينظر فيها.
ولما سار توزون عن واسط أصعد إليها البريدي فهرب من بها من أصحاب توزون إلى بغداد ولم يمكن توزون المبادرة إلى واسط إلى أن تستقر الأمور ببغداد فأقام إلى أن مضى بعض ذي القعدة.
وكان توزون قد أسر غلاما عزيزا على سيف الدولة قريبا منه يقال له ثمال فأطلقه وأكرمه وأنفذ إليه فحسن موقع ذلك من بني حمدان ثن أن توزون انحدر إلى واسط لقصد البريدي فأتاه أبو جعفر بن شيرزاد هاربا من البريدي فقبله وفرح به وقلده أموره كلها.
ذكر مسير صاحب عمان إلى البصرة
في هذه السنة في ذي الحجة سار يوسف بن وجيه صاحب عمان في مراكب كثيرة يريد البصرة وحارب البريدي فملك الأبلة وقوي قوة عظيمة وقارب أن يملك البصرة فأشرف اليريدي وإخوته على الهلاك.
399

وكان له ملاح يعرف بالرنادي فضمن للبريدي هزيمة يوسف فوعده الإحسان العظيم وأخذ الملاح زورقين فملأهما سعفا يابسا ولم يعلم به أحد وأحدرهما في الليل حتى قارب الأبلة.
وكانت مراكب ابن وجيه تشد بعضهما إلى بعض في الليل فتصير كالجسر فلما انتصف الليل أشعل ذلك الملاح النار في السعف الذي في الزورقين وأرسلهما مع الجزر والنار فيهما فأقبلا أسرع من الريح فوقعا في تلك السفن والمراكب فاشتعلت واحترقت قلوعها واحترق من فيها ونهب الناس منها مالا عظيما ومضى يوسف بن وجيه هاربا في المحرم سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة وأحسن البريدي إلى ذلك الملاح وفي هذه الفتنة هرب ابن شيرزاد من البريدي وأصعد إلى توزون.
ذكر الوحشة بين المتقي لله وتوزون
كان محمد بن ينال الترجمان من أكبر قواد توزون وهو خليفته ببغداد فلما انحدر توزون إلى واسط سعى بمحمد إليه وقبح ذكره عنده فبلغ ذلك محمدا فنفر منه.
وكان الوزير أبو الحسين بن مقلة قد ضمن القرى المختصة بتوزون ببغداد
400

فخسر فيها جملة، فخاف أن يطالب بها وانضاف إلى ذلك اتصال ابن شيرزاد بتوزون فخافه الوزير وغيره وظنوا أن مسيره إلى توزون باتفاق من البريدي فانفق الترجمان وابن مقلة وكتبوا إلى ابن حمدان لينفذ عسكرا يسيرا صحبه المتقي لله إليه وقالوا للمتقي قد رأيت ما فعل معك البريدي بالأمس أخذ منك خمسمائة ألف دينار وأخرجت على الأجناد مثلها وقد ضمنك البريدي من توزون بخمسمائة ألف دينار أخرى زعم أنها في يديك من تركة بجكم وابن شيرزاد واصل ليتسلمك ويخلعك ويسلمك إلى البريدي فانزعج لذلك وعزم على الإصعاد إلى ابن حمدان وورد ابن شيرزاد في ثلاثمائة رجل جريدة.
ذكر موت السعيد نصر بن أحمد بن إسماعيل
في هذه السنة توفي السعيد نصر بن أحمد بن إسماعيل صاحب خراسان وما وراء النهر في رجب وكان مرضه السل فبقي ثلاثة عشر شهرا ولم يكن بقي من مشايخ دولتهم أحد فإنهم كانوا قد سعى بعضهم ببعض فهلك بعضهم ومات بعضهم وكانت ولايته ثلاثين سنة وثلاثين يوما وكان عمره ثمانيا وثلاثين سنة.
401

وكان حليما كريما عاقلا فمن حلمه أن بعض الخدم سرق جوهرا نفيسا وباعه على بعض التجار بثلاثة عشر ألف درهم فحضر التاجر عند السعيد وأعلمه أنه قد اشترى
جوهرا نفسيا لا يصلح إلا للسلطان وأحضر الجوهر عنده فحين رآه عرفه أنه كان له وقد سرق فسأله عن ثمنه ومن أين اشتراه فذكر له الخادم والثمن فأمر فأحضر ثمنه في الحال وأربحه ألفي درهم زيادة.
ثم أن التاجر سأله في دم الخادم فقال لا بد من تأديبه وأما دمه فهو لك فأحضره وأدبه ثم أنفذه إلى التاجر وقال كنا وهبنا لك دمه فقد أنفذناه إليك فلو أن صاحب الجوهر بعض الرعايا لقال هذا مالي قد عاد إلي وخذ أنت مالك ممن سلمته إليه.
وحكي أنه استعرض جنده وفيهم إنسان اسمه نصر بن أحمد فلما بلغه العرض سأله عن اسمه فسكت فأعاد السؤال فلم يجبه فقال بعض من حضر اسمه نصر بن أحمد وإنما سكت إجلالا للأمير فقال السعيد إذا نوجب حقه ونزيد في رزقه ثم قربه وزاد في أرزاقه.
وحكي أنه لما خرج عليه أخوه أبو زكريا نهب خزائنه وأمواله فلما عاد السعد إلى ملكه قيل له عن جماعة انتهبوا ماله فلم يعرض إليهم وأخبروه أن بعض السوقة اشترى منها سكينا نفيسا بمائتي درهم فأرسل إليه وأعطاه مائتي درهم وطلب السكين فأبى أن يبيعه إلا بألف درهم فقال ألا تعجبون من هذا؟ أرى عنده مالي فلم أعاقبه وأعطيته حقه فاشتط في الطلب ثم أمر برضائه.
وحكي أنه طال مرضه فبقي به ثلاثة عشر شهرا فأقبل على الصلاة
402

والعبادة وبنى له في قصره بيتا وسماه بيت العبادة فكان يلبس ثيابا نظافا ويمشي إليه حافيا ويصلي فيه ويدعو ويتضرع ويجتنب المنكرات والآثام إلى أن مات ودفن عند والده.
ذكر ولاية ابنه الأمير نوح بن نصر
ولما مات نصر بن أحمد تولى بعده خراسان وما وراء النهر ابنه نوح واستقر في شعبان من هذه السنة وبايعه الناس وحلفوا له ولقب بالأمير الحميد وفوض أمره وتدبير مملكته إلى أبي الفضل محمد بن أحمد الحاكم وصدر عن رأيه.
ولما ولي نوح هب منه أبو الفضل بن أحمد بن حمويه وهو من أكابر أصحاب أبيه وكان سبب ذلك أن السعيد نصرا قد ولى ابنه إسماعيل بخارى وكان أبو الفضل يتولى أمره وخلافته فأساء السيرة مع نوح وأصحابه فحقد ذلك عليه ثم توفي إسماعيل في حياة أبيه.
وكان نصر يميل إلى أبي الفضل ويؤثره فقال له إذا حدث علي حادث الموت فانج بنفسك فإني لا آمن نوحا فلما مات الأمير نصر سار أبو الفضل من بخارى وعبر جيحون وورد آمل وكاتب أبا علي بن محتاج وهو بنيسابور يعرفه الحال وكان بينهما مصاهرة فكتب إليه أبو علي ينهاه عن الإلمام بناحيته لمصلحة.
ثم إن الأمير نوحا أرسل إلى أبي الفضل كتاب أمان بخطه فعاد إليه
403

فأحسن الفعل معه وولاه سمرقند وكان أبو الفضل معرضا عن محمد بن أحمد الحاكم ولا يلتفت إليه ويسميه الخياط فأضمر الحاكم بغضه والإعراض عنه.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة في المحرم وصل معز الدولة بن بويه إلى البصرة فحارب البريديين وأقام عليهم مدة ثم استأمن جماعة من قواده إلى البريديين فاستوحش من الباقين فانصرف عنهم.
وفيها تزوج الأمير أبو منصور بن المتقي لله بابنة ناصر الدولة بن حمدان وكان الصداق ألف ألف درهم والحمل مائة ألف دينار.
وفيها قبض ناصر الدولة على الوزير أبي إسحاق القراريطي ورتب مكانه أبا العباس أحمد بن عبد الله الأصبهاني في رجب وكان أبو عبد الله الكوفي هو الذي يدبر الأمور وكانت وزارة القراريطي ثمانية أشهر وستة عشر يوما وكان ناصر الدولة ينظر في قصص الناس وتقام الحدود بين يديه ويفعل ما يفعل صاحب الشرطة.
وفيها كانت الزلزلة المشهورة بناحية نسا من خراسان فخربت قرى كثيرة ومات تحت الهدم عالم عظيم وكانت عظيمة جدا.
وفيها استقدم الأمير نوح بن محمد بن أحمد النسفي البردهي وكان قد طعن فيه عنده فقتله وصلبه فسرق من الجذع ولم يعلم من سرقه.
404

وفيها استوزر المتقي لله أبا الحسين بن مقلة ثامن شهر رمضان بعد إصعاد ناصر الدولة من بغداد إلى الموصل وقبل إصعاد أخيه سيف الدولة من واسط إلى بغداد.
وفيها أرسل ملك الروم إلى المتقي لله يطلب منديلا زعم أن المسيح مسح به وجهه فصارت صورة وجهه فيه وأنه في بيعة الرها وذكر أنه إن أرسل المنديل أطلق عددا كثيرا من أسارى المسلمين فأحضر المتقي لله القضاة والفقهاء واستفتاهم فاختلفوا فبعض رأى تسليمه إلى الملك واطلاق الأسرى وبعض قال ان هذا المنديل لم يزل من قديم الدهر في بلاد الإسلام لم يطلبه ملك من ملوك الروم وفي دفعه إليهم غضاضة.
وكان في الجماعة علي بن عيسى الوزير فقال إن خلاص المسلمين من الأسر ومن الضر والضنك الذي هم فيه أولى من حفظ هذا المنديل فأمر الخليفة بتسليمه إليهم وإطلاق الأسرى ففعل ذلك وأرسل إلى الملك من يتسلم الأسرى من بلاد الروم فأطلقوا.
وفيها توفي أبو بكر محمد بن إسماعيل الفرغاني الصوفي أستاذ أبي بكر الدقاق وهو مشهور بين المشايخ.
وفيها توفي محمد بن يزداد الشهرزوري وكان يلي امرة دمشق لمحمد بن رائق ثم اتصل بالإخشيد فجعله على شرطته بمصر.
وفيها توفي سنان بن ثابت بن قرة مستهل ذي القعدة بعلة الذرب وكان حاذقا في الطب فلم يغن عنه عند دنو الأجل شيئا.
وفيها أيضا مات أبو عبد الله محمد بن عبدوس الجهشياري.
405

332
ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة
ذكر مسير المتقي إلى الموصل
في هذه السنة أصعد المتقي لله إلى الموصل.
وسبب ذلك ما ذكرناه أولا من سعاية ابن مقلة والترجمان مع المتقي بتوزون وابن شيرزاد ثم إن ابن شيرزاد وصل خامس المحرم إلى بغداد في ثلاثمائة غلام جريدة فازداد خوف المتقي وأقام ببغداد يأمر وينهي ولا يراجع المتقي في شيء.
وكان المتقي قد أنفذ إليه يطلب من ناصر الدولة بن حمدان انفاذ جيش إليه ليصحبوه إلى الموصل فأنفذهم مع ابن عمه أبي عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان فلما وصلوا إلى بغداد نزلوا بباب حرب واستتر ابن شيرزاد وخرج المتقي إليهم في حرمه وأهله ووزيره وأعيان بغداد مثل سلامة الطولوني وأبي زكريا يحيى بن سعيد السوسي وأبي محمد المارداني وأبي إسحاق القراريطي وأبي عبد الله الموسوي وثابت بن سنان بن ثابت بن قرة الطبيب وأبي نصر محمد بن ينال الترجمان وغيرهم.
ولما سار المتقي من بغداد ظلم ابن شيرزاد الناس وعسفهم وصادرهم وأرسل إلى توزون وهو بواسط يخبره بذلك فلما بلغ توزون الخبر عقد ضمان
406

واسط على البريدي وزوجه ابنته وسار إلى بغداد وانحدر سيف الدولة وحده إلى المتقي لله بتكريت فأرسل المتقي إلى ناصر الدولة يستدعيه ويقول له لم يكن الشرط معك إلا أن تنحدر إلينا فانحدر فوصل إلى تكريت في الحادي والعشرين من ربيع الآخر وركب المتقي إليه فلقيه بنفسه وأكرمه.
وأصعد الخليفة إلى الموصل وأقام ناصر الدولة بتكريت وسار توزون نحو تكريت فالتقى هو وسيف الدولة بن حمدان تحت تكريت بفرسخين فاقتتلوا ثلاثة أيام ثم انهزم سيف الدولة يوم الأربعاء لثلاث بقين من ربيع الآخر وغنم توزون والأعراب سواده وسواد أخيه ناصر الدولة وعادا من تكريت إلى الموصل ومعهما المتقي لله.
وشغب أصحاب توزون فعاد إلى بغداد وعاد سيف الدولة انحدر فالتقى هو وتوزون بحربي في شعبان فانهزم سيف الدولة مرة ثانية وتبعه توزون.
ولما بلغ سيف الدولة إلى الموصل سار عنها هو وأخوه ناصر الدولة والمتقي لله ومن معهم إلى نصيبين ودخل توزون إلى الموصل فسار المتقي إلى الرقة ولحقه سيف الدولة وأرسل المتقي إلى توزون يذكر إنه استوحش منه لاتصاله بالبريدي وأنهما صارا يدا واحدة فإن آثر رضاه يصالح سيف الدولة وناصر الدولة ليعود إلى بغداد وتردد أبو عبد الله محمد بن أبي موسى الهاشمي من الموصل إلى توزون في ذلك فتم الصلح وعقد الضمان على ناصر الدولة لما بيده من البلاد ثلاث سنين كل سنة بثلاثة آلاف ألف وستمائة ألف درهم،
407

وعاد توزون إلى بغداد وأقام المتقي عند بني حمدان بالموصل ثم ساروا عنها إلى الرقة فأقاموا بها.
ذكر وصول معز الدولة إلى واسط وديالي وعوده
وفي هذه السنة بلغ معز الدولة أبا الحسين بن بويه إصعاد توزون إلى الموصل فسار هو إلى واسط لميعاد من البريديين وكانوا قد وعدوه أن يمدوه بعسكر في الماء فأخلفوه.
وعاد توزون من الموصل إلى بغداد وانحدر منها إلى لقاء معز الدولة والتقوا سابع عشر ذي القعدة بقباب حميد وطالت الحرب بينهما بضعة عشر يوما إلا أن أصحاب توزون يتأخرون والديلم يتقدمون إلى أن عبر توزون نهر ديالي ووقف عليه ومنع الديلم من العبور.
وكان مع توزون مقابله في الماء في دجلة فكانوا يودون أن الديلم يستولون على أطرافهم فرأى ابن بويه أن يصعد على ديالي ليبعد عن دجلة وقتال من بها ويتمكن من الماء فعلم توزون بذلك فسير بعض أصحابه وعبروا ديالي وكمنوا فلما سار معز الدولة مصعدا وسار سواده في أثره خرج الكمين عليه فحالوا بينهما ووقعوا في العسكر وهو على غير تعبية.
وسمع توزون الصياح فتعجل وعبر أكثر أصحابه سباحة فوقعوا في عسكر ابن بويه يقتلون ويأسرون حتى ملوا وانهزم ابن بويه ووزيره الصيمري إلى السوس رابع ذي الحجة ولحق به من سلم من عسكره وكان قد أسر منهم أربعة عشر قائدا منهم ابن الداعي العلوي واستأمن كثير من
408

الديلم إلى توزون ثم أن توزون عاوده ما كان يأخذه من الصرع فشغل بنفسه عن معز الدولة وعاد إلى بغداد.
ذكر قتل أبي يوسف البريدي
في هذه السنة قتل أبو عبد الله البريدي أخاه أبا يوسف.
وكان سبب قتله أن عبد الله البريدي كان قد نفذ ما عنده من المال في محاربة بني حمدان ومقامهم بواسط وفي محاربة توزون فلما رأى جنده قلة ماله مالوا إلى أخيه أبي يوسف لكثرة ماله فاستقرض أبو عبد الله من أخيه أبي يوسف مرة بعد مرة وكان يعطيه القليل من المال ويعيبه ويذكر تضييعه وسوء تدبيره وجنونه وتهوره فصح ذلك عند أبي عبد الله ثم صح عنده أنه يريد القبض عليه أيضا والاستبداد بالأمر وحده فاستوحش كل واحد منهما من صاحبه.
ثم أن أبا عبد الله أنفذ إلى أخيه جوهرا نفيسا كان بجكم قد وهبه لبنته لما تزوجها البريدي وكان قد أخذه من دار الخلافة فأخذه أبو عبد الله منها حين تزوجها فلما جاءه الرسول وأبلغه ذلك وعرض عليه الجوهر أحضر الجوهريين ليثمنوه فلما أخذوا في وصفه أنكر عليهم ذلك وحرد ونزل في ثمنه إلى خمسين ألف درهم وأخذ في الوقيعة في أخيه أبي عبد الله وذكر
409

معايبه وما وصل إليه من المال وأنفذ مع الرسول خمسين ألف درهم فلما عاد الرسول إلى أبي عبد الله أبلغه ذلك فدمعت عيناه وقال ألا قلت له جنوني وقلة تحصيلي أقعدك هذا المقعد وصيرك كقارون! ثم عدد ما عمله معه من الإحسان.
فلما كان بعد أيام أقام غلمانه في طريق مسقف بين داره والشط وأقبل أخوه أبو يوسف من الشط فدخل في ذلك الطريق فثاروا به فقتلوه وهو يصيح يا أخي يا أخي قتلوني وأخوه يسمعه ويقول إلى لعنة الله! فخرج أخوهما أبو الحسين من داره وكان بحنب دار أخيه أبي عبد الله وهو يستغيث يا أخي قتلته فسبه وهدده فسكت فلما قتل دفنه وبلغ ذلك الخبر الجند فثاروا وشغبوا ظنا منهم أنه حي فأمر به وألقاه على الطريق فلما رأوه سكنوا فأمر به فدفن وانتقل أبو عبد الله إلى دار أخيه أبي يوسف فأخذ ما فيها والجوهر في جملته ولم يحصل من مال أخيه على طائل فإن أكثره انكسر على الناس وذهبت نفس أخيه.
ذكر وفاة أبي عبد البريدي
وفيها في شوال مات أبو عبد الله البريدي بعد أن قتل أخاه بثمانية أشهر بحمى حادة مكث فيها سبعة أيام واستقر في الأمر بعده أخوه أبو الحسين فأساء السيرة إلى الأجناد فثاروا به ليقتلوه ويجعلوا أبا القاسم ابن أخيه أبي عبد الله مكانه فهرب منهم إلى هجر واستجار بالقرامطة فأعانوه وسار معه أخوان لأبي طاهر القرمطي في جيش إلى البصرة فرأوا أبا القاسم قد حفظها فردهم عنها فحصروه مدة
410

ثم ضجروا وأصلحوا بينه وبين عمه وعادوا ودخل أبو الحسين البصرة فتجهز منها فسار إلى بغداد فدخل على توزون.
ثم طمع يأنس مولى أبي عبد الله البريدي في التقدم فواطأ قائدا من قواد الديلم على أن تكون الرياسة بينهما ويزيلا أبا القاسم مولاه فاجتمعت الديلم عند ذلك القائد فأرسل أبو القاسم إليهم يأنس وهو لا يشعر بالأمر فلما اتاهم يأنس أشار عليهم بالتوقف فطمع فيه ذلك القائد الديلمي وأحب التفرد بالرياسة فأمر به فضرب بزوجين في ظهره فجرح وهرب يأنس واختفى.
ثم إن الديلم اختلفت كلمتهم فتفرقوا واختفى ذلك القائد فأخذ ونفي وأمر أبو القاسم البريدي بمعالجة يأنس وقد ظهر له حاله فعولج حتى برأ ثم قبض عليه أبو القاسم بعد نيف وأربعين يوما وصادره على مائة ألف دينار وقتله واستقام أمر أبي القاسم إلى أن اتاه أمر الله على ما نذكره.
ذكر مراسلة المتقي توزون في العود
وفيها ارسل المتقي لله إلى توزون يطلب [منه] العود إلى بغداد.
وسبب ذلك أنه رأى من بني حمدان تضجرا به وايثارا المفارقة، فاضطر إلى مراسلة توزون فأرسل الحسن بن هارون وأبا عبد الله بن أبي موسى
411

الهاشمي إليه في الصلح فلقيهما توزون وابن شيرزاد بنهاية الرغبة فيه والحرص عليه فاستوثقا من توزون وحلفاه للمتقي لله وأحضر لليمين خلقا كثيرا من القضاة والعدول والعباسيين والعلويين وغيرهم من أصناف الناس وحلفت توزون للمتقي والوزير وكتبوا خطوطهم بذلك وكان من أمر المتقي لله ما نذكره سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة.
ذكر ملك الروس مدينة بردعة
في هذه السنة خرجت طائفة من الروسية في البحر إلى نواحي أذربيجان وركبوا في البحر في نهر الكر وهو نهر كبير فانتهوا إلى بردعة فخرج إليهم نائب المرزبان ببردعة في جمع من الديلم والمطوعة يزيدون على خمسة آلاف رجل فلقوا الروس فلم يكن إلا ساعة حتى انهزم المسلمون منهم وقتل الديلم عن آخرهم وتبهم الروس إلى البلد فهرب من كان له مركوب وترك البلد فنزله الروس ونادوا فبه بالأمان فأحسنوا السيرة.
وأقبلت العساكر الإسلامية من كل ناحية فكانت الروس تقاتلهم فلا يثبت المسلمون لهم وكان عامة البلد يخرجون ويرجمون الروس بالحجارة ويصيحون بهم فينهاهم الروس عن ذلك فلم ينتهوا سوى العقلاء فإنهم كفوا أنفسهم وسائر العامة والرعاع لا يضبطون أنفسهم فلما طال ذلك عليهم نادى مناديهم بخروج أهل البلد منه وأن لا يقيموا بعد ثلاثة أيام فخرج من كان له ظهر يحمله وبقي أكثرهم بعد الأجل فوضع الروسية فيهم السلاح
412

فقتلوا منهم خلقا كثيرا وأسروا بعد القتل بضعة عشر ألف نفس وجمعوا من بقي بالجامع وقالوا: اشتروا أنفسكم وإلا قتلناكم وسعى لهم انسان نصراني فقرر عن كل رجل عشرين درهما فلم يقبل منهم إلا عقلاؤهم فلما رأى الروسية أنه لا يحصل منهم شيء قتلوهم عن آخرهم ولم ينج منهم إلا الشريد وغنموا أموال أهلها واستعبدوا السبي واختاروا من النساء من استحسنوها.
ذكر مسير المرزبان إليهم والظفر بهم
لما فعل الروس بأهل بردعة ما ذكرناه استعظمه المسلمون وتنادوا بالنفير وجمع المرزبان بن محمد الناس واستنفرهم فبلغ عدة من معه ثلاثين ألفا وسار بهم فلم يقاوم الروسية وكان يغاديهم القتال ويراوحهم فلا يعود إلا مفلولا فبقوا كذلك أياما كثيرة وكان الروسية قد توجهوا نحو مراغة فأكثروا من أكل الفواكه فأصابهم الوباء وكثرت الأمراض والموت فيهم.
ولما طال الأمر على المرزبان أعمل الحيلة فرأى أن يكمن كمينا ثم يلقاهم في عسكره ويتطارد لهم فإذا خرج الكمين عاد عليهم فتقدم إلى أصحابه بذلك ورتب الكمين ثم لقيهم واقتتلوا فتطارد لهم المرزبان
413

وأصحابه وتبعهم الروسية حتى جازوا موضع الكمين فاستمر الناس على هزيمتهم لا يلوي أحد على أحد.
فحكى المرزبان قال صحت بالناس ليرجعوا فلم يفعلوا لما تقدم في قلوبهم من هيبة الروسية فعلمت أنه إن استمر الناس على الهزيمة قتل الروس أكثرهم ثم عادوا إلى
الكمين ففطنوا بهم فقتلوهم عن آخرهم.
قال: فرجعت وحدي وتبعني أخي وصاحبي ووطنت نفسي على الشهادة فحينئذ عاد أكثر الديلم استحياء فرجعوا وقاتلناهم ونادينا بالكمين بالعلامة بيننا فخرجوا من ورائهم وصدقناهم القتال فقتلنا منهم خلقا كثيرا منهم أميرهم والتجأ الباقون إلى حصن البلد وتسمى شهرستان وكانوا قد نقلوا إليه ميرة كثيرة وجعلوا معهم السبي والأموال فحاصرهم المرزبان وصابرهم، فأتاه الخبر بأن أبا عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان قد سار إلى أذربيجان وأنه واصل إلى سلماس وكان ابن عمه ناصر الدولة قد سيره ليستولي على أذربيجان فلما بلغ الخبر إلى المرزبان ترك على الروسية من يحاصرهم وسار إلى ابن حمدان فاقتتلوا ثم نزل الثلج فتفرق أصحاب ابن حمدان لأن أكثرهم أعراب ثم أتاه كتاب ناصر الدولة يخبره بموت توزون وأنه يريد الانحدار إلى بغداد ويأمره بالعود إليه، فرجع.
وأما أصحاب المرزبان فإنهم أقاموا يقاتلون الروسية وزاد الوباء على الروسية فكانوا إذا دفنوا الرجل دفنوا معه سلاحه فاستخرج المسلمون من ذلك شيئا كثيرا بعد انصراف الروس وثم أنهم خرجوا من الحصن ليلا وقد حملوا على ظهورهم ما أرادوا من الأموال وغيرها ومضوا إلى الكر،
414

وركبوا في سفنهم ومضوا وعجز أصحاب المرزبان عن اتباعهم وأخذ ما معهم فتركوهم وطهر الله البلاد منهم.
ذكر خروج ابن أشكام على نوح
وفي هذه السنة خالف عبد الله بن أشكام على الأمير نوح وامتنع بخوارزم فسار نوح من بخاري إلى مرو بسببه وسير إليه جيشا وجعل إبراهيم بن بارس وساروا نحوه فمات إبراهيم في الطريق وكاتب ابن أشكام ملك الترك وراسله واحتمى به.
وكان لملك الترك ولد في يد نوح وهو محبوس ببخارى فراسل نوح أباه في إطلاقه ليقبض على ابن أشكام فأجابه ملك الترك إلى ذلك فلما علم ابن أشكام الحال عاد إلى طاعة نوح وفارق خوارزم فأحسن إليه نوح وأكرمه وعفا عنه.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة في رمضان مات أبو طاهر الهجري رئيس القرامطة أصابه جدري فمات وكان له ثلاثة أخوة منهم أبو القاسم سعيد بن الحسن،
415

وهو الأكبر وأبو العباس الفضل بن الحسن وهذان كانا يتفقان مع أبي طاهر على الرأي والتدبير وكان لهم أخ ثالث لا يجتمع بهما وهو مشغول بالشرب واللهو.
وفيها، في جمادى الأولى غلت الأسعار ببغداد حتى بيع القفيز الواحد من الدقيق الخشكار بنيف وستين درهما والخبز الخشكار ثلاثة أرطال بدرهم.
وكانت الأمطار كثيرة مسرفة جدا حتى خربت المنازل ومات خلق كثير تحت الهدم ونقصت قيمة العقار حتى صار ما كان يساوي دينارا يباع بأقل من درهم حقيقة وما يسقط من الأبنية لا يعاد وتعطل كثير من الحمامات والمساجد والأسواق لقلة الناس وتعطل كثير من أتاتين الآجر لقلة البناء ومن يضطر إليه اجتزى بالأنقاض وكثرت الكبسات من اللصوص بالليل والنهار من أصحاب ابن حمدي وتحارس الناس بالبوقات وعظم أمر ابن حمدي فأعجز الناس وأمنه ابن شيرزاد وخلع عليه وشرط معه أن يوصله كل شهر خمسة عشر ألف دينار مما يسرقه هو وأصحابه كان يستوفيها من ابن حمدي بالروزات فعظم شره حينئذ وهذا ما لم يسمع بمثله.
ثم إن أبا العباس الديلمي صاحب الشرطة ببغداد ظفر بابن حمدي فقتله في جمادى الآخرة فخف عن الناس بعض ما هم فيه.
وفيها في شعبان وهو الواقع في نيسان ظهر في الجو شيء كثير ستر
416

عين الشمس ببغداد فتوهمه الناس جرادا لكثرته ولم يشكوا في ذلك إلى أن سقط منه شيء على الأرض فإذا هو حيوان يطير في البساتين وله جناحان قائمان منقوشان فإذا أخذ الإنسان جناحه بيده بقي أثر ألوان الجناح في يده ويعدم الجناح ويسميه الصبيان طحان الذريرة.
وفيها استولى معز الدولة على واسط وانحدر من كان من أصحاب البريدي فيها إلى البصرة.
وفيها قبض سيف الدولة بن حمدان على محمد بن ينال الترجمان بالرقة وقتله وسبب ذلك أنه قد واطأ المتقي على الإيقاع بسيف الدولة.
وفيها عرض لتوزون صرع وهو جالس للسلام والناس بين يديه وقوف فقام ابن شيرزاد ومد في وجهه ما ستره عن الناس فصرفهم وقال أنه قد ثار المرار به من خمار لحقه.
وفيها ثار نافع غلام يوسف بن وجيه صاحب عمان على مولاه يوسف وملك البلد بعده.
وفيها دخل الروم رأس عين في ربيع الأول فأقاموا بها ثلاثة أيام ونهبوها وسبوا من أهلها وقصدهم الأعراب فقاتلوهم ففارقها الروم وكان الروم في ثمانين ألفا مع الدمستق.
وفيها في ربيع الأول استعمل ناصر الدولة بن حمدان أبا بكر محمد بن علي ين مقاتل على طريق الفرات وديار مضر وجند قنسرين والعواصم وحمص وأنفذه إليها من الموصل ومعه جماعة من القواد ثم استعمل بعده في رجب من السنة ابن عمه أبا عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان على ذلك فلما وصل إلى الرقة منعه أهلها فقاتلهم فظفر بهم وأحرق من البلد قطعة وأخذ رؤساء أهلها وسار إلى حلب.
417

333
ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة
ذكر مسير المتقي إلى بغداد وخلعه
كان المتقي لله قد كتب إلى الإخشيد محمد بن طغج متولي مصر يشكو حاله ويستقدمه إليه فأتاه من مصر فلما وصل إلى حلب صار عنها أبو عبد الله بن سعيد بن حمدان وكان ابن مقاتل بها معه فلما علم برحيله عنها اختفى فلما قدم الإخشيد إليها ظهر إليه ابن مقاتل فأكرمه الإخشيد واستعمله على خراج مصر وانكسر عليه ما بقي من المصادرة التي صادره بها ناصر الدولة بن حمدان ومبلغه خمسون ألف دينار.
وسار الإخشيد من حلب فوصل إلى المتقي منتصف محرم وهو بالرقة فأكرمه المتقي واحترمه ووقف الإخشيد وقوف الغلمان ومشى بين يديه فأمره المتقي بالركوب فلم يفعل إلى أن نزل المتقي وحمل إلى المتقي هدايا عظيمة وإلى الوزير أبي الحسين بن مقلة وسائر الأصحاب واجتهد بالمتقي ليسير معه إلى مصر والشام ويكون بين يديه فلم يقبل وأشار عليه بالمقام مكانه ولا يرجع إلى بغداد وخوفه من توزون فلم يفعل وأشار علي بن مقلة أن يسير معه إلى مصر ليحكمه في جميع بلاده فلم يجبه إلى ذلك فخوفه
418

أيضا من توزون فكان ابن مقلة يقول بعد ذلك نصحني الاخشيد فلم أقبل نصيحته.
وكان قد أنفذ رسلا إلى توزون في الصلح على ما ذكرناه فحلفوا توزون للخليفة والوزير فلما حلف كتب الرسل إلى المتقي بذلك فكتب إليه الناس أيضا بما شاهدوا من تأكيد اليمين فانحدر المتقي من الرقة في الفرات إلى بغداد لأربع بقين من المحرم وعاد الإخشيد إلى مصر فلما وصل المتقي إلى هيت أقام بها وأنفذ من يجدد اليمين على توزون فعاد وحلف وسار عن بغداد لعشر بقين من صفر ليلتقي مع المتقي فالقى معه بالسندية فنزل توزون وقبل الأرض وقال ها أنا قد وفيت بيميني والطاعة لك ثم وكل به وبالوزير وبالجماعة وأنزلهم في مضرب نفسه مع حرم المتقي ثم كحله فأذهب عينيه فلما سلمه صاح وصاح من عنده من الحرم والخدم وارتجت الدنيا فأمر توزون بضرب الدبادب لئلا تظهر أصواتهم فخفيت أصواتهم وعمي المتقي لله وانحدر توزون من الغد إلى بغداد والجماعة في قبضته.
وكانت خلافة المتقي لله ثلاث سنين وخمسة أشهر وثمانية عشر يوما وكان أبيض أشهل العينين وأمه أم ولد اسمها خلوب وكانت وزرارة ابن مقلة سنة واحدة وخمسة أشهر واثني عشر يوما.
419

ذكر خلافة المستكفي بالله
هو المستكفي بالله أبو القاسم عبد الله علي بن المكتفي بالله علي بن المعتضد بالله أبي العباس أحمد بن أبي أحمد الموفق بن المتوكل على الله يجتمع هو والمتقي لله في المعتضد لما قبض توزون على المتقي لله أحضر المستكفي إليه إلى السندية وبايعه هو وعامة الناس.
وكان سبب البيعة له ما حكاه أبو العباس التميمي الرازي وكان من خواص توزون قال كنت أنا السبب في البيعة للمستكفي وذلك أنني دعاني إبراهيم بن الزوبيندار الديلمي فمضيت إليه فذكر لي أنه تزوج إلى قوم وان امرأة منهم قالت له إن هذا المتقي قد عاداكم وعاديتموه وكاشفكم ولا يصفو قلبه لكم وههنا رجل من أولاد الخلفاء من ولد المكتفي وذكرت عقله وأدبه ودينه تنصبونه للخلافة فيكون صنيعتكم وغرسكم ويدلكم على أموال جليلة لا يعرفها غيره وتستريحون من الخوف والحراسة.
قال: فعلمت أن هذا أمر لا يتم إلا بك فدعوتك له فقلت أريد [أن] أسمع كلام المرأة، فجاءني بها فرأيت امرأة عاقلة جزلة فذكرت لي نحوا من ذلك فقلت لا بد أن ألقى الرجل فقالت تعود غدا إلى ههنا حتى أجمع بينكما فعدت إليها من الغد فوجدته قد أخرج من دار ابن طاهر في زي امرأة فعرفني نفسه وضمن إظهار ثمانمائة ألف دينار منها مائة ألف لتوزون وذكر وجوهها وخاطبني خطاب رجل فهم
420

عاقل ورأيته يتشيع قال فأتيت توزون فأخبرته فوقع كلامي بقلبه وقال أريد أن أبصر الرجل فقلت لك ذلك ولكن أكتم أمرنا من ابن شيرزاد فقال أفعل وعدت إليهم وأخبرتهم الذي ذكر ووعدتهم حضور توزون من الغد.
فلما كان ليلة الأحد لأربع عشرة خلت من صفر مشيت مع توزون مستخفيين فاجتمعنا به وخاطبه توزون وبايعه تلك الليلة وكتم الأمر فلما وصل المتقي قلت لتوزون لما لقيه أنت على ذلك العزم قال نعم قلت فأفعله الساعة فإنه أن دخل الدار بعد عليك مرامه فوكل به وسمله وجرى ما جرى.
وبويع المستكفي بالخلافة يوم خلع المتقي. وأحضر المتقي فبايعه وأخذ منه البردة والقضيب وصارت تلك المرأة قهرمانة المستكفي وسمت نفسها علما وغلبت على أمره كله واستوزر المستكفي بالله أبا الفرج محمد بن علي الساري يوم الأربعاء لست بقين من صفر ولم يكن له إلا اسم الوزارة والذي تولى الأمور ابن شيرزاد وحبس المتقي وخلع المستكفي بالله على توزون خلعه وتاجا وطلب المستكفي بالله أبا القاسم الفضل بن المقتدر بالله وهو الذي ولي الخلافة ولقب المطيع
421

لله لأنه كان يعرفه يطلب الخلافة فاستتر مدة خلافة المستكفي فهدمت داره التي على دجلة عند دار ابن طاهر حتى لم يبق منها شيء.
ذكر خروج أبي يزيد الخارجي بأفريقية
في هذه السنة اشتدت شوكة أبي يزيد بأفريقية وكثر أتباعه وهزم الجيوش وكان ابتداء أمره أنه من زناتة واسم والده كنداد من مدينة توزر من قسطيلية وكان يختلف إلى بلاد السودان لتجارة فولد له بها أبو يزيد من جارية هوارية فأتى بها إلى توزر فنشأ بها وتعلم القرآن وخالط جماعة من النكارية فمالت نفسه إلى مذهبهم ثم سافر إلى تاهرت فأقام بها يعلم الصبيان إلى أن خرج أبو عبد الله الشيعي إلى سجلماسة في طلب المهدي فانتقل إلى تقيوس واشترى ضيعة وأقام يعلم فيها.
وكان مذهبه تكفير أهل الملة واستباحة الأموال والدماء والخروج على السلطان فابتدأ يحتسب على الناس في أفعالهم ومذاهبهم فصار له جماعة يعظمونه وذلك أيام المهدي سنة ست عشرة وثلاثمائة ولم يزل على ذلك إلى أن اشتدت شوكته وكثر أتباعه في أيام القائم ولد المهدي فصار يغير ويحرق ويفسد وزحف إلى بلاد القائم وحاصر باغاية وهزم الجيوش الكثيرة عليها ثم حاصر قسطيلية سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة، وفتح تبسة
422

ومجانة وهدم سورها، وآمن أهلها، ودخل مرمجنة فلقيه رجل من أهلها وأهدى له حمارا أشهب مليح الصورة فركبه أبو يزيد من ذلك اليوم وكان قصيرا أعرج يلبس جبة صوف قصيرة قبيح الصورة ثم إنه هزم كتامة وأنفذ طائفة من عسكره إلى سبيبة ففتحها وصلب عاملها وسار إلى الأربس ففتحها وأحرقها ونهبها وجاء الناس إلى الجامع فقتلهم فيه فلما اتصل ذلك بأهل المهدية استعظموه وقالوا للقائم الأربس باب أفريقية ولو أخذت زالت دولة بني الأغلب فقال لا بد أن يبلغ أبو يزيد المصلى وهو أقصى غايته.
ثم إن القائم أخرج الجيوش لضبط البلاد فأخرج جيشا إلى رقادة وجيشا إلى القيروان وجمع العساكر فخاف أبو يزيد وعول على أخذ بلاد أفريقية وإخرابها وقتل أهلها وسير القائم الجيش الذي اجتمع له مع فتاه ميسور وسير بعضه مع فتاه بشرى إلى باجة فلما بلغ أبا يزيد خبر بشرى ترك أثقاله وسار جريدة إليه فالتقوا بباجة فانهزم عسكر أبي يزيد وبقي في نحو أربعمائة مقاتل فقال لهم ميلوا بنا نخالفهم إلى خيامهم ففعلوا ذلك فانهزم بشرى إلى تونس وقتل من عسكره كثير من وجوه كتامة وغيرهم ودخل أبو يزيد باجة فأحرقها ونهبها وقتلوا الأطفال وأخذوا النساء، وكتب إلى القبائل يدعوهم إلى نفسه فأتوه وعمل الأخبية والبنود وآلات الحرب.
ولما وصل بشرى إلى تونس جمع الناس وأعطاهم الأموال فاجتمع إليه خلق كثير فجهزهم وسيرهم إلى أبي يزيد وسير إليهم أبو يزيد جيشا فالتقوا واقتتلوا فانهزم أصحاب أبي يزيد ورجع أصحاب بشرى إلى تونس
423

غانمين ووقعت فتنة في تونس ونهب أهلها دار عاملها فهرب وكاتبوا أبا يزيد فأعطاهم الأمان وولى عليهم رجلا منهم يقال له رحمون وانتقل إلى فحص أبي صالح وخافه الناس فانتقلوا إلى القيروان وأتاه كثير منهم خوفا ورعبا.
وأمر القائم بشرى أن يتجسس اخبار أبي يزيد فمضى نحوه وبلغ الخبر إلى أبي يزيد فسير إليهم طائفة من عسكره وأمر مقدمهم أن يقتل ويمثل وينهب ليرعب قلوب الناس ففعل ذلك والتقى هو وبشرى فاقتتلوا وانهزم عسكر أبي يزيد وقتل منهم أربعة آلاف وأسر خمسمائة فسيرهم بشرى إلى المهدية في السلاسل فقتلهم العامة.
ذكر استيلاء أبي يزيد على القيروان ورقادة
لما انهزم أصحاب أبي يزيد غاظه ذلك، وجمع الجموع، ورحل وسار إلى قتال الكتاميين فوصل إلى الجزيرة وتلاقت الطلائع وجرى بينهم قتال فانهزمت طلائع الكتاميين وتبعهم البربر إلى رقادة ونزل أبو يزيد بالغرب من القيروان في مائة ألف مقاتل ونزل من الغد شرقي رقادة وعاملها خليل لا يلتفت إلى أبي يزيد ولا يبالي به والناس يأتونه ويخبرونه بقربهم فأمر أن لا يخرج أحد لقتال وكان ينتظر وصول ميسور في الجيش الذي معه.
فلما علم أبو يزيد ذلك زحف إلى البلد بعض عسكره فأنشبوا القتال فجرى بينهم قتال عظيم قتل فيه من أهل القيروان خلق كثير فانهزموا وخليل لم يخرج معهم فصاح به الناس فخرج متكارها من باب تونس، وأقبل
424

أبو يزيد فانهزم خليل بغير قتال ودخل القيروان ونزل بداره وأغلق بابها ينتظر وصول ميسور وفعل كذلك أصحابه ودخل البربر المدينة فقتلوا وأفسدوا وقاتل بعض الناس في أطراف البلد.
وبعث أبو يزيد رجلا من أصحابه اسمه أيوب الزويلي إلى القيروان بعسكر فدخلها أواخر صفر فنهب البلد وقتل وعمل أعمالا عظيمة وحصر خليلا في داره فنزل هو ومن معه بالأمان فحمل خليل إلى أبي يزيد فقتله وخرج شيوخ أهل القيروان إلى أبي يزيد وهو برقادة فسلموا عليه وطلبوا الأمان فماطلهم وأصحابه وينهبون فعادوا الشكوى وقالوا: خربت المدينة فقال وما يكون خربت مكة والبيت المقدس ثم أمر بالأمان وبقي طائفة من البربر ينهبون فأتاهم الخبر بوصول ميسور في عساكر عظيمة فخرج عند ذلك البربر من المدينة خوفا منه.
وقارب ميسور مدينة القيروان واتصل الخبر بالقائم أن بني كملان قد كاتب بعضهم أبا يزيد على أن يمكنوه من ميسور، فكتب إلى ميسور يعرفه ويحذره ويأمره بطردهم فرجعوا إلى أبي يزيد وقالوا له إن عجلت ظفرت به فسار من يومه فالتقوا واشتد القتال بينهم وانهزمت ميسرة أبي يزيد فلما رأى أبو يزيد ذلك حمل على ميسور فانهزم أصحاب ميسور فعطف مسور فرسه فكبا به فسقط عنه وقاتل أصحابه عليه ليمنعوه فقصده بنو كملان الذين طردهم فاشتد القتال حينئذ فقتل ميسور وحمل رأسه إلى أبي يزيد وانهزم عامة عسكره، وسير الكتب إلى عامة البلاد يخبر بهذا الظفر وطيف برأس ميسور بالقيروان.
واتصل خبر الهزيمة بالقائم فخاف هو ومن معه بالمهدية وانتقل أهلها
425

من أرباضها إلى البلد فاجتمعوا واحتموا بسوره فمنعهم القائم ووعدهم الظفر فعادوا إلى زويلة واستعدوا للحصار وأقام أبو يزيد شهرين وثمانية أيام في خيم ميسور وهو يبعث السرايا إلى كل ناحية فيغنمون ويعودون.
وأرسل سرية إلى سوسة ففتحوها بالسيف وقتلوا الرجال وسبوا النساء وأحرقوها وشقوا فروج النساء وبقروا البطون حتى لم بيق موضع في أفريقية معمور ولا سقف مرفوع ومضى جميع من بقي إلى القيروان حفاة عراة ومن تخلص من السبي مات جوعا وعطشا.
وفي آخر ربيع الآخر من سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة أمر القائم بحفر الخنادق حول أرباض المهدية وكتب زيري بن مناد سيد صنهاجة وإلى سادات كتامة والقبائل يحثهم على الاجتماع بالمهدية وقتال النكار فتأهبوا للمسير إلى القائم.
ذكر حصار أبي يزيد المهدية
لما سمع أبو يزيد بتأهب صنهاجة وكتامة وغيرهم لنصرة القائم خاف ورحل من ساعته نحو المهدية فنزل على خمسة عشر ميلا منها وبث سراياه إلى ناحية المهدية
فانتهبت ما وجدت وقتلت من أصابت فاجتمع الناس إلى المهدية واتفقت كتامة وأصحاب القائم على أن يخرجوا إلى أبي يزيد
426

ليضربوا عليه في معسكره لما سمعوا أن عسكره قد تفرق في الغارة فخرجوا يوم الخميس لثمان بقين من جمادى الأولى من السنة.
وبلغ ذلك أبا يزيد وقد أتاه ولده فضل بعسكر من القيروان فوجههم إلى قتال كتامة وقدم عليهم ابنه فالتقوا على ستة أميال من المهدية واقتتلوا وبلغ الخبر أبا يزيد فركب بجميع من بقي معه فلقي أصحابه منهزمين وقد قتل كثير منهم فلما رآه الكتاميون انهزموا من غير قتال وأبو يزيد في أثرهم إلى باب الفتح واقتحم قوم من البربر فدخلوا باب الفتح فأشرف أبو يزيد على المهدية ثم رجع إلى منزله ثم تقدم إلى المهدية في جمادى الآخرة فأتى باب الفتح ووجه زويلة إلى باب بكر ثم وقف هو على الخندق المحدث وبه جماعة من العبيد فناشبهم أبو يزيد القتال على الخندق ثم اقتحم أبو يزيد ومن معه البحر فبلغ الماء صدور الدواب حتى جاوزوا السور المحدث فانهزم العبيد وأبو يزيد في طلبهم.
ووصل أبو يزيد إلى باب المهدية عند المصلى الذي للعيد وبينه وبين المهدية رمية سهم وتفرق أصحابه في زويلة ينهبون ويقتلون وأهلها يطلبون الأمان والقتال عند باب الفتح بين كتامة والبربر وهم لا يعلمون ما صنع أبو يزيد في ذلك الجانب فحمل الكتاميون على البربر فهزموهم وقتلوا فيهم، وسمع أبو يزيد بذلك ووصول زيري بن مناد في صنهاجة فخاف المقام فقصد باب الفتح ليأتي زيري وكتامة من ورائهم بطبوله وبنوده فلما رأى أهل الأرباض ذلك ظنوا أن القائم قد خرج بنفسه من المهدية فكبروا وقويت نفوسهم واشتد قتالهم فتحير أبو يزيد وعرفه أهل تلك الناحية فمالوا عليه ليقتلوه فاشتد القتال عنده فهدم بعض أصحابه حائطا وخرج منه فتخلص ووصل إلى منزله بعد المغرب وهم يقاتلون العبيد فلما
427

رأوه قويت قلوبهم وانهزم العبيد وافترقوا.
ثم رحل أبو يزيد إلى ثرنوطة وحفر على عسكره خندقا واجتمع إليه خلق عظيم من إفريقية والبربر ونفوسة والزاب وأقاصي المغرب فحصر المهدية حصارا شديدا ومنع الناس من الدخول إليها والخروج منها ثم زحف إليها لسبع بقين من جمادى الآخرة من السنة فجرى قتال عظيم قتل جماعة من وجوه عسكر القائم واقتحم أبو يزيد بنفسه حتى وصل إلى قرب الباب فعرفه بعض العبيد فقبض على لجامه وصاح هذا أبو يزيد فاقتلوه فأتاه رجل من أصحاب أبي يزيد فقطع يده وخلص أبو يزيد.
فلما رأى شدة القتال أصحاب القائم كتب إلى عامل القيروان يأمره بإرسال مقاتله أهلها إليه ففعل ذلك فوصلوا إليه فزحف بهم آخر رجب فجرى قتال شديد انهزم فيه أبو يزيد هزيمة منكرة وقتل فيها جماعة من أصحابه وأكثر أهل القيروان ثم زحف الزحفة الرابعة في العشر الآخر من شوال فجرى قتال عظيم وانصرف إلى منزله وكثر خروج الناس من الجوع والغلاء ففتح عند ذلك القائم الأهراء التي عملها المهدي وملأها طعاما وفرق ما فيها على رجاله وعظم البلاء على الرعية حتى أكلوا الدواب والميتة وخرج من المهدية أكثر السوقة سوى الجند فكان البربر يأخذون من خرج ويقتلونهم ويشقون بطونهم طلبا للذهب.
ثم وصلت كتامة فنزلت بقسنطينة فخاف أبو يزيد فسار رجل
428

من عسكره في جمع عظيم من ورفجومة وغيرهم إلى كتامة فقاتلهم فهزمهم فترقوا وكان البربر يأتون إلى أبي يزيد من كل ناحية وينهبون ويقتلون ويرجعون إلى منازلهم حتى أفنوا ما كان في أفريقية فلما لم يبق ما نهب توقفوا عن المجيء إليه فلم يبق سوى أهل أوراس وبني كملان.
فلما علم القائم تفرق عساكره أخرج عسكره إليه وكان بينهم قتال شديد لست خلون من ذي القعدة من سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة ثم صبحوهم من الغد فلم يخرج إليهم أحد، وكان أبو يزيد قد بعث في طلب الرجال من أوراس ثم زحفت عساكر القائم إليه فخرج من خندقه واقتتلوا واشتد بينهم القتال فقتل من أصحاب أبي يزيد جماعة منهم رجل من وجوه أصحابه فعظم قتله عليه ودخل خندقه ثم عاود القتال فهبت ريح شديدة مظلمة فكان الرجل لا يبصر صاحبه فانهزم عسكر القائم وقتل منهم جماعة وعاد الحصار على ما كان عليه وهرب كثير من أهل المهدية إلى جزيرة صقلية وطرابلس ومصر وبلد الروم.
وفي آخر ذي القعدة اجتمع عند أبي يزيد جموع عظيم وتقدم إلى المهدية فقاتل عليها فتخير الكتاميون منهم مائتي فارس فحملوا حملة رجل واحد فقتلوا في أصحابه كثيرا وأسروا مثلهم وكادوا يصلون إليه فقاتل أصحابه دونه وخلصوه، وفرح أهل المهدية وأخذوا الأسرى في الحبال إلى المهدية ودخلت سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة وهو مقيم على
429

المهدية وفي المحرم منها ظهر بأفريقية رجل يدعو الناس إلى نفسه فأجابه خلق كثير وأطاعوه وأدعى أنه عباسي ورد من بغداد ومعه أعلام سود فظفر به بعض أصحاب أبي يزيد وقبض عليه وسيره إلى أبي يزيد فقتله ثم ان بعض أصحاب أبي يزيد هرب إلى المهدية بسبب عداوة كانت بينهم وبين أقوام سعوا بهم إليه فخرجوا من المهدية مع أصحاب القائم فقاتلوا أصحاب أبي يزيد فظفروا فتفرق عند ذلك أصحاب أبي يزيد ولم يبق معه غير هوارة وأوراس وبني كملان وكان اعتماده عليهم.
ذكر رحيل أبي يزيد عن المهدية
لما تفرق أصحابه عنه كما ذكرنا اجتمع رؤساء من بقي معه وتشاوروا وقالوا: نمضي إلى القيروان ونجمع البربر من كل ناحية ونرجع إلى أبي يزيد فإننا لا نأمن أن يعرف القائم خبرنا فيقصدنا فركبوا ومضوا ولم يشاوروا أبا يزيد ومعهم أكثر العسكر فبعث إليهم أبو يزيد ليردهم فلم يقبلوا منه فرحل مسرعا في ثلاثين رجلا وترك جميع أثقاله فوصل إلى القيروان سادس صفر فنزل المصلى ولم يخرج إليه أحد من أهل القيروان سوى عامله وخرج الصبيان يلعبون حوله ويضحكون منه.
وبلغ القائم رجوعه فخرج الناس إلى أثقاله فوجدوا الطعام والخيام وغير ذلك على حاله فأخذوه وحسنت أحوالهم واستراحوا من شدة الحصار ورخصت الأسعار وأنفذ القائم إلى البلاد عمالا يطردون عمال أبي يزيد عنها فلما رأى أهل القيروان قلة عسكر
430

أبي يزيد خافوا القائم فأرادوا أن يقبضوا أبا يزيد ثم هابوه فكاتبوا القائم يسألونه الأمان فلم يجبهم.
وبلغ أبا يزيد الخبر فأنكر على عامله بالقيروان اشتغاله بالأكل والشرب وغير ذلك وأمره أن يخرج العساكر من القيروان للجهاد ففعل ذلك وألان لهم القول وخوفهم القائم فخرجوا إليه.
وتسامع الناس في البلاد بذلك فأتاه العساكر من كل ناحية وكان أهل المدائن والقرى لما سمعوا تفرق عساكره عنه أخذوا عماله فمنهم من قتل ومنهم من أرسل إلى المهدية.
وثار أهل سوسة فقبضوا على جماعة من أصحابه فأرسلوهم إلى القائم فشكر لهم ذلك وأرسل إليهم سبع مراكب من الطعام فلما اجتمعت عساكر أبي يزيد أرسل الجيوش إلى البلاد وأمرهم بالقتل والسبس والنهب والخراب واحراق المنازل فوصل عسكره إلى تونس فدخلوها بالسيف في العشرين من صفر سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة فنهبوا جميع ما فيها وسبوا النساء والأطفال وقتلوا الرجال وهدموا المساجد ولجأ كثير من الناس إلى البحر فغرق.
فسير إليهم القائم عسكرا إلى تونس فخرج إليهم أصحاب أبي يزيد واقتتلوا قتالا شديدا فانهزم عسكر القائم هزيمة قبيحة وحال بينهم الليل والتجؤوا إلى جبل الرصاص ثم إلى اصطفورة فتبعهم عسكر أبي يزيد فلحقوهم واقتتلوا وصبر عسكر القائم فانهزم عسكر أبي يزيد وقتل منهم خلق كثير، وقتلوا، حتى دخلوا تونس خامس ربيع الأول
431

وأخرجوا من فيها من أصحاب أبي يزيد بعد أن قتلوا أكثرهم وأخذ لهم من الطعام شيء كثير.
وكان لأبي يزيد ولد اسمه أيوب فلما بلغه الخبر أخرج معه عسكرا كثيرا فاجتمع مع من سلم من ذلك الجيش ورجعوا إلى تونس فقتلوا من عاد إليها وأحرقوا ما بقي فيها وتوجه إلى باجة فقتل من بها من أصحاب القائم ودخلها بالسيف وأحرقها وكان في هذه المدة من القتل والسبي والتخريب ما لا يوصف.
واتفق جماعة على قتل أبي يزيد وأرسلوا إلى القائم فرغبهم فوعدهم فاتصل الخبر بأبي يزيد فقتلهم وهجم رجال من البربر في الليل على رجل من أهل القيروان وأخذوا مال وثلاث بنات أبكار فلما أصبح واجتمع الناس لصلاة الصبح قام الرجل في الجامع وصاح وذكر ما حل به فقام الناس معه وصاحوا فاجتمع الخلق العظيم ووصلوا إلى أبي يزيد فأسمعوه كلاما غليظا فأعتذر إليهم ولطف بهم وأمر برد البنات.
فلما انصرفوا وجدوا في طريقهم رجلا مقتولا فسألوا عنه فقيل إن فضل بن أبي يزيد قتله وأخذ امرأته وكانت جميلة فحمل الناس المقتول إلى الجامع وقالوا: لا طاعة إلا للقائم وأرادوا الوثوب بأبي يزيد فاجتمع أصحاب أبي يزيد عنده ولاموه وقالوا: فتحت على نفسك ما لا طاقة لك به لا سيما والقائم قريب منا فجمع أهل القيروان واعتذر إليهم وأعطاهم العهود أنه لا يقتل ولا ينهب ولا يأخذ الحريم فأتاه سبي أهل تونس وهم عنده فوثبوا إليهم وخلصوهم.
وكان القائم قد أرسل إلى مقدم من أصحابه يسمى علي بن حمدون يأمره
432

بجمع العساكر ومن قدر عليه من المسيلة فجمع منها ومن سطيف وغيرها فاجتمع له خلق كثير وتبعه بعض بني هراس فقصد المهدية به أيوب بن أبي يزيد وهو بمدينة باجة ولم يعلم به علي بن حمدون فسار إليه أيوب وكبسه واستباح عسكره وقتل فيهم وغنم أثقالهم وهرب على المذكور، ثم سير أيوب جردية خيل إلى طائفة من عسكر المهدي خرجوا إلى تونس فساروا واجتمعوا ووقع بعضهم على بعض فكان بين الفريقين قتال عظيم قتل فبه جمع كثير وانهزم عسكر القائم ثم عادوا ثانية وثالثة وعزموا على الموت وحملوا حملة رجل وأحد فانهزم أصحاب أبي يزيد وقتلوا قتالا ذريعا وأخذت أثقالهم وعددهم وانهزم أيوب وأصحابه إلى القيروان فس شهر ربيع الأول سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة.
فعظم ذلك على أبي يزيد وأراد أن يهرب عن القيروان فأشار عليه أصحابه بالتوقف وترك العجلة ثم جمع عسكرا عظيما وأخرج ابنه أيوب ثانية لقتال علي ين حمدون بمكان يقال له بلطة وكانوا يقتتلون فمرة يظفر أيوب ومرة يظفر علي وكان علي قد وكل بحراسة المدينة من يثق به وكان يحرس بابا منه رجل اسمه أحمد فراسل أيوب في التسليم إليه على مال يأخذه فأجابه أيوب إلى ما طلب وقاتل على ذلك الباب ففتحه أحمد ودخله أصحاب أبي يزيد فقتلوا من كان بها وهرب علي إلى بلاد كتامة في ثلاثمائة فارس وأربعمائة راجل، وكتب إلى قبائل كتامة ونفزة ومزاتة وغيرهم فاجتمعوا وعسكروا على مدينة القسنطينة.
433

ووجه عسكرا إلى هوارة فقتلوا هوارة وغنموا أموالهم وكان اعتماد أبي يزيد عليهم فاتصل الخبر بأبي يزيد فسير إليهم عساكر عظيمة يتبع بعضها بعضا وكان بينهم حروب كثيرة والفتح والظفر في كلها لعلي وعسكر القائم وملك مدينة تيجس ومدينة باغاية وأخذهما من أبي يزيد.
ذكر محاصرة أبي يزيد سوسة وانهزامه منها
لما رأى أبو يزيد ما جرى على عسكره من الهزيمة جد في أمره فجمع العساكر وسار إلى سوسة سادس جمادى الآخرة من السنة وبها جيش للقائم فحصرها حصرا شديدا فكان يقاتلها كل يوم فمرة له ومرة عليه وعمل الدبابات والمنجنيقات فقتل من أهل سوسة خلق كثير وحاصرها إلى أن فوض القائم العهد إلى ولده إسماعيل المنصور في شهر رمضان، وتوفي القائم وملك الملك ابنه المنصور على ما نذكره وكتم موت أبيه خوفا من أبي يزيد لقربه وهو على مدينة سوسة.
فلما ولي عمل المراكب وشحنها بالرجال وسيرها إلى سوسة واستعمل عليها رشيقا الكاتب ويعقوب بن إسحاق ووصاهما أن لا يقاتلا حتى يأمرهما ثم سار من الغد يريد سوسة ولم يعلم أصحابه ذلك فلما انتصف الطريق علموا فتضرعوا إليه وسألوه أن يعود ولا يخاطر بنفسه فعاد، وأرسل إلى رشيق ويعقوب بالجد في القتال فوصلوا إلى سوسة وقد أعد أبو يزيد الحطب لإحراق السور وعمل دبابة عظيمة فوصل أسطول المنصور
434

إلى سوسة واجتمعوا بمن فيها وخرجوا إلى قتال أبي يزيد فركب بنفسه واقتتلوا واشتدت الحرب وانهزم بعض أصحاب المنصور حتى دخلوا المدينة فألقى رشيق النار في
الحطب الذي جمعه أبو يزيد وفي الدبابة فأظلم الجو بالدخان واشتعلت النار.
فلما رأى ذلك أبو يزيد وأصحابه خافوا وظنوا أن أصحابه في تلك الناحية قد هلكوا فلهذا تمكن أصحاب المنصور من إحراق الحطب إذ لم بعضهم بعضا فانهزم أبو يزيد وأصحابه وخرجت عساكر المنصور فوضعوا السيف فيمن تخلف من البربر وأحرقوا خيامه.
وجد أبو يزيد هاربا حتى دخل القيروان من يومه وهرب البربر على وجوههم فمن سلم من السيف مات جوعا وعطشا.
ولما وصل أبو يزيد إلى القيروان أراد الدخول إليها فمنعه أهلها ورجعوا إلى دار عامله فحصروه وأرادوا كسر الباب فنثر الدنانير على رؤوس الناس فاشتغلوا عنه فخرج إلى أبي يزيد وأخذ أبو يزيد امرأته أم أيوب وتبعه أصحابه بعيالاتهم ورحلوا إلى ناحية سبيبة وهي على مسافة يومين من القيروان فنزلوها.
ذكر ملك المنصور مدينة القيروان وانهزام أبي يزيد
لما بلغ المنصور الخبر سار إلى مدينة سوسة لسبع بقين من شوال فنزل خارجا منها وسر بما فعله أهل القيروان فكتب إليهم كتابا يؤمنهم فيه،
435

لأنه كان واجدا عليهم لطاعتهم أبا يزيد وأرسل من ينادي في الناس بالأمان وطابت نفوسهم ورحل إليهم فوصلها يو الخميس لست بقين من شوال وخرج إليه أهلها فأمنهم ووعدهم خيرا.
ووجد في القيروان من حرم أبي يزيد وأولاده جماعة فحملهم إلى المهدية وأجرى عليهم الأرزاق.
ثم ان أبا يزيد جمع عساكره وأرسل سرية إلى القيروان يتخبرون له فاتصل خبرهم بالمنصور فسير إليهم سرية فالتقوا واقتتلوا وكان أصحاب أبي يزيد قد جعلوا كمينا فانهزموا وتبعهم أصحاب المنصور فخرج الكمين عليهم فأكثر فيهم القتل والجراح.
فلما سمع الناس ذلك سارعوا إلى أبي يزيد فكثر جمعه فعاد ونازل القيروان وكان المنصور قد جعل خندقا على عسكر ففرق أبو يزيد عسكره ثلاث فرق وقصد هو بشجعان أصحابه إلى خندق المنصور فاقتتلوا وعظم الأمر وكان الظفر للمنصور ثم عاودوا القتال فباشر المنصور القتال بنفسه وجعل يحمل يمينا وشمالا والمظلة على رأسه كالعلم ومعه خمسمائة فارس وأبو يزيد في مقدار ثلاثين ألفا فانهزم أصحاب المنصور هزيمة عظيمة حتى دخلوا الخندق ونهبوا وبقي المنصور في نحو عشرين فارسا.
وأقبل أبو يزيد قاصدا إلى المنصور فلما رآهم شهر سيفه وثبت مكانه وحمل بنفسه على أبي يزيد حتى كاد يقتله فولى أبو يزيد هاربا وقتل المنصور من أدرك منهم وأرسل من يرد عسكره فعادوا وكانوا قد سلكوا طريق المهدية وسوسة وتمادى القتال إلى الظهر فقتل منهم خلق كثير وكان يوما من الأيام المشهورة لم يكن في ماضي الأيام مثله.
436

ورأى الناس من شجاعة المنصور ما لم يظنوه فزادت هيبته في قلوبهم ورحل أبو يزيد عن القيروان أواخر ذي القعدة سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة ثم عاد إليها فلم يخرج إليه أحد ففعل ذلك غير مرة ونادى المنصور من أتى برأس أبي يزيد فله عشرة آلاف دينار وأذن الناس في القتال فجرى قتال شديد فانهزم أصحاب المنصور حتى دخلوا الخندق ثم رجعت الهزيمة على أبي يزيد فافترقوا وقد انتصف بعضهم من بعض وقتل بينهم جمع عظيم وعادت الحرب مرة لهذا ومرة لهذا وصار أبو يزيد يرسل السرايا فيقطع الطريق بين المهدية والقيروان وسوسة.
ثم إنه أرسل إلى المنصور يسأل أن يسلم إليه حرمه وعياله الذين خلفهم بالقيروان وأخذهم المنصور فإن فعل ذلك دخل في طاعته على أن يؤمنه وأصحابه وحلف له بأغلظ الإيمان على ذلك فأجابه المنصور إلى ما طلب وأحضر عياله وسيرهم إليه مكرمين بعد أن وصلهم وأحسن كسوتهم وأكرمهم فلما وصلوا إليه نكث جميع ما عقده وقال إنما وجههم خوفا مني فانقضت سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة ودخلت سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة وهم على حالهم في القتال.
ففي خامس المحرم منها زحف أبو يزيد وركب المنصور وكان بين الفريقين قتال ما سمع بمثله وحملت البربر على المنصور وحمل عليها وجعل يضرب فيهم فانهزموا منه بعد أن قتل خلق كثير فلما انتصف المحرم عبأ المنصور عسكره فجعل في الميمنة أهل أفريقية وكتامة في الميسرة وهو في عبيده وخاصته في القلب فوقع بينهم قتال شديد فحمل أبو يزيد على الميمنة فهزمها ثم حمل على القلب فبادر إليه المنصور وقال: هذا يوم الفتح
437

إن شاء الله تعالى وحمل هو ومن معه حملة رجل واحد فانهزم يزيد وأخذت السيوف أصحابه فولوا منهزمين وأسلموا أثقالهم وهرب أبو يزيد على وجهه فقتل من أصحابه ما لا يحصى فكان ما أخذه أطفال أهل القيروان من رؤوس القتلى عشرة آلاف رأس وسار أبو يزيد إلى تاه مديت.
ذكر قتل أبي يزيد
لما تمت الهزيمة على أبي يزيد أقام المنصور يتجهز للمسير في أثره ثم رحل أواخر شهر ربيع الأول من السنة واستخلف على البلد مذاما الصقلي فأدرك أبا يزيد وهو محاصر مدينة باغاية لأنه أراد دخولها لما انهزم فمنع من ذلك فحصرها فأدركه المنصور وقد كاد يفتحها فلما قرب منه أبو يزيد وجعل كلما قصد موضعا يتحصن فبه سبقه المنصور حتى وصل طينة فوصلت رسل محمد بن خزر الزناتي وهو من أعيان أصحاب أبي يزيد يطلب الأمان فأمنه المنصور وأمره أن يرصد أبا يزيد واستمر الهرب بأبي يزيد حتى وصل إلى جبل البربر يسمى برزال وأهله على مذهبه وسلك الرمال ليختفي أثره فاجتمع معه خلق كثير فعاد إلى نواحي مقبرة والمنصور بها فكمن أبو يزيد وأصحابه فلما وصل عسكر المنصور رآهم فحذروا منهم فعبأ حينئذ أبو يزيد وأصحابه واقتتلوا فانهزمت ميمنة
438

المنصور وحمل هو بنفسه ومن معه فانهزم أبو يزيد إلى جبل سالات ورحل المنصور في أثره فدخل مدينة المسيلة ورحل في أثر أبي يزيد في جبال وعرة وأودية عميقة
خشنة الأرض فأراد الدخول وراءه فعرفه الإدلاء أن هذه الأرض لم يسلكها جيش قط واشتد الأمر على العسكر فبلغ عليق كل دابة دينارا ونصفا وبلغت قربة الماء دينارا وأن ما وراء ذلك رمال وقفار بلاد السودان ليس فيها عمارة وأن أبا يزيد اختار الموت جوعا وعطشا على القتل بالسيف.
فلما سمع ذلك رجع إلى بلاد صنهاجة فوصل إلى موضع يسمى قرية دمره فاتصل به الأمير زيري بن مناد الصنهاجي الحميري بعساكر صنهاجة وهذا زيري هو جد بني باديس ملوك أفريقية كما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى فأكرمه المنصور وأحسن إليه، ووصل كتاب محمد بن خذر يذكر الموضع الذي فيه أبو يزيد من الرمال.
ومرض المنصور مرضا شديدا أشفي منه فلما أفاق من مرضه رحل إلى المسيلة ثاني رجب وكان أبو يزيد قد سبقه إليها لما بلغه مرض المنصور وحصرها فلما قصده المنصور هرب منه يريد بلاد السودان فأبى ذلك بنو كملان وهوارة وخدعوه وصعد إلى جبال كتامة وعجيسة وغيرهم فتحصن بها واجتمع إليه أهلها وصاروا ينزلون يتخطفون الناس فسار المنصور عاشر شعبان إليه فلم ينزل أبو يزيد فلما عاد نزل إلى ساقة
439

العسكر، فرجع المنصور، ووقعت الحرب فانهزم أبو يزيد وأسلم أولاده وأصحابه ولحقه فارسان فعقر فرسه فسقط عنه فأركبه بعض أصحابه ولحقه زيري بن مناد فطعنه فألقاه وكثر القتال عليه فخلصه أصحابه وخلصوا من معه وتبعهم أصحاب المنصور فقتلوا منهم ما يزيد على عشر آلاف.
ثم سار المنصور في أثره أول شهر رمضان فاقتتلوا أيضا أشد قتال ولم يقدر أحد الفريقين على الهزيمة لضيق المكان وخشونته ثم انهزم أبو يزيد أيضا واحترقت أثقاله وما فيها وطلع أصحابه على رؤوس الجبال يرمون بالصخر وأحاط القتال بالمنصور وتواخذوا بالأيدي وكثر القتل حتى ظنوا أنه الفناء وافترقوا على السوء والتجأ أبو يزيد إلى قلعة كتامة وهي منيعة فاحتمى بها.
في ذلك اليوم أتى إلى المنصور جند له من كتامة برجل ظهر في أرضهم ادعى الربوبية فأمر المنصور بقتله وأقبلت هوارة وأكثر من مع أبي يزيد يطلبون الأمان فأمنهم المنصور، وسار إلى قلعة كتامة فحصرها أبا يزيد فيها وفرق جنده حولها فناشبه أصحاب أبي يزيد القتال وزحف إليها المنصور غير مرة ففي آخرها ملك أصحابه بعض القلعة وألقوا فيها النيران وانهزم أصحاب أبي يزيد وقتلوا قتلا ذريعا ودخل أبو يزيد وأولاده وأعيان أصحابه إلى قصر في القلعة فاجتمعوا فيه فاحترقت أبوابه وأدركهم القتل فأمر المنصور بإشعال النار في شعاري الجبل وبين يديه لئلا يهرب أبو يزيد،
440

فصار الليل كالنهار.
فلما كان آخر الليل خرج أصحابه وهم يحملونه على أيديهم وحملوا على الناس حملة منكرة فأفرجوا لهم فنجوا به ونزل من القلعة خلق كثير فأخذوا فأخبروا بخروج أبي يزيد فأمر المنصور بطلبه وقال ما أظنه إلا قريبا منا فبينما هم كذلك إذ أتي بأبي يزيد وذلك أن ثلاثة من أصحابه حملوه من المعركة ثم ولوا عنه وإنما حملوه لقبح عرجه فذهب لينزل من الوعر فسقط في مكان صعب فأدرك فأخذ وحمل إلى المنصور فسجد شكرا لله تعالى والناس يكبرون حوله وبقي عنده إلى سلخ المحرم من سنة ست وثلاثين وثلاثمائة فمات من الجراح التي به فأمر بإدخاله في قفص عمل له وجعل معه قردين يلعبان عليه وأمر بسلخ جلده وحشاه تبنا وأمر بالكتب إلى سائر البلاد بالبشارة.
ثم خرج عليه عدة خوارج منهم محمد بن خزر فظفر به المنصور سنة ست وثلاثين وثلاثمائة وكان يريد نصرة أبي يزيد وخرج أيضا فضل بن أبي يزيد وأفسد وقطع الطريق فغدر به بعض أصحابه وقتله وحمل رأسه إلى المنصور سنة ست وثلاثين [وثلاثمائة] أيضا وعاد المنصور إلى المهدية فدخلها في شهر رمضان من السنة.
441

ذكر قتل أبي الحسين البريدي وإحراقه
في هذه السنة في ربيع الأول قدم أبو الحسين البريدي إلى بغداد مستأمنا إلى توزون فأمنه وأنزله أبو جعفر بن شيرزاد إلى جانب داره وأكرمه وطلب أن يقوي يده على ابن أخيه وضمن أنه إذا أخذ البصرة يوصل له مالا كثيرا فوعدوه النجدة والمساعدة فأنفذ ابن أخيه من البصرة مالا كثيرا خدم به توزون وابن شيرزاد فأنفذوا له الخلع وأقروه على عمله.
فلما علم أبو الحسين بذلك سعى في أن يكتب لتوزون ويقبض على ابن شيرزاد فعلم ابن شيرزاد بذلك فسعى به إلى أن قبض عليه وقيد وضرب ضربا عنيفا وكان أبو عبد الله بن أبي موسى الهاشمي قد أخذ أيام ناصر الدولة فتوى الفقهاء والقضاة بإحلال دمه فأحضرها وأحضر القضاة والفقهاء في دار الخليفة وأخرج أبو الحسين وسأل الفقهاء عن الفتاوى فاعترفوا أنهم أفتوا بذلك فأمر بضرب رقبته فقتل وصلب ثم أنزل وأحرق ونهبت داره وكان هذا آخر أمر البريديين وكان قتله منتصف ذي الحجة.
وفيها نقل المستكفي بالله القاهر بالله من دار الخلافة إلى دار ابن طاهر وكان قد بلغ به الضر والفقر إلى أن كان ملتفا بقطن جبة وفي رجله قبقاب خشب.
442

ذكر مسير أبي علي إلى الري وعوده قبل ملكها
لما استقر الأمير نوح في ولايته بما وراء النهر وخراسان أمر أبا علي بن محتاج أن يسير في عساكر خراسان إلى الري ويستنقذها من يد ركن الدولة بن بويه فسار في جمع كثير فلقيه وشمكير بخراسان وهو يقصد الأمير نوحا فسيره إليه وكان نوح حينئذ بمرو فلما قدم عليه أكرمه وأنزله وبالغ في إكرامه والإحسان إليه.
وأما أبو علي فإنه سار نحو الري فلما نزل ببسطام خالف عليه بعض من معه وعادوا عنه مع منصور بن قرانكين وهو من أكابر أصحاب نوح وخواصه فساروا نحو جرجان وبها الحسن بن الفيرزان فصدهم الحسن عنها فانصرفوا إلى نيسابور وسار أبو علي نحو الري فيمن بقي معه فخرج إليه ركن الدولة محاربا فالقوا على ثلاث فراسخ من الري وكان مع أبي علي جماعة كثيرة من الأكراد فغدروا منه واستأمنوا إلى ركن الدولة فانهزم أبو علي وعاد نحو نيسابور وغنموا بعض أثقاله.
ذكر استيلاء وشمكير على جرجان
لما عاد أبو علي إلى نيسابور لقيه وشمكير وقد سيره الأمير نوح ومعه جيش فيهم مالك بن شكرتكين وأرسل إلى أبي علي يأمره بمساعدة وشمكير،
443

فوجه فيمن معه إلى جرجان وبها الحسن بن الفيرزان فالتقوا واقتتلوا فانهزم الحسن واستولى وشمكير على جرجان في صفر سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة.
ذكر استيلاء أبي علي على الري
في هذه السنة سار أبو علي من نيسابور إلى نوح وهو بمرو فاجتمع به فأعاده إلى نيسابور وأمره بقصد الري وأمده بجيش كثير فعاد إلى نيسابور وسار منها إلى الري في جمادى الآخرة وبها ركن الدولة فلما علم ركن الدولة بكثرة جموعه سار عن الري واستولى أبو علي عليها وعلى سائر أعمال الجبال وأنفذ نوابه إلى الأعمال وذلك في شهر رمضان من هذه السنة.
ثم إن الأمير نوحا سار من مرو إلى نيسابور فوصل إليها في رجب وأقام بها خمسين يوما فوضع أعداء أبي علي جماعة من الغوغاء والعامة فاجتمعوا واستغاثوا عليه وشكوا سوء سيرته سيرة نوابه فاستعمل الأمير نوح على نيسابور إبراهيم بن سيمجور وعاد عنها إلى بخارى في رمضان وكان مرادهم بذلك أن يقطعوا طمع أبي علي عن خراسان ليقيم بالري وبلاد الجبل فاستوحش أبو علي لذلك فإنه كان يعتقد أنه يحسن إليه بسبب فتح الري وتلك الأعمال فلما عزل شق ذلك عليه ووجه أخاه أبا العباس الفضل بن محمد إلى كور الجبال وولاه همذان وجعله خليفة على من معه من العساكر فقصد الفضل نهاوند والدينور وغيرهما واستولى عليها واستأمن إليه رؤساء الأكراد من تلك الناحية وأنفذوا إليه رهائنهم.
444

ذكر وصول معز الدولة إلى واسط وعوده عنها
في هذه السنة آخر رجب وصل معز الدولة أبو الحسين أحمد بن بويه إلى مدينة واسط فسمع توزون به فسار هو والمستكفي بالله من بغداد إلى واسط فلما سمع معز الدولة بمسيرهم إليه فارقها سادس رمضان ووصل الخليفة وتوزون إلى واسط فأرسل أبو القاسم البريدي يضمن البصرة فأجابه توزون إلى ذلك وضمنه وسلمها إليه وعاد الخليفة وتوزون إلى بغداد فدخلاها ثامن شوال من السنة.
ذكر ملك سيف الدولة مدينة حلب وحمص
في هذه السنة سار سيف الدولة علي بن أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان إلى حلب فملكها واستولى عليها وكان مع المتقي لله بالرقة فلما عاد المتقي إلى بغداد وانصرف الإخشيد إلى الشام بقي يأنس المؤنسي بحلب فقصده سيف الدولة فلما نازلها فارقها يأنس وسار الإخشيد فملكها سيف الدولة ثم سار منها إلى حمص فلقيه بها عسكر الإخشيد محمد بن طغج صاحب الشام ومصر مع مولاه كافور واقتتلوا فانهزم عسكر الإخشيد وكافور وملك سيف الدولة مدينة حمص وسار إلى دمشق فحصرها فلم يفتحها أهلها له فرجع.
وكان الإخشيد قد خرج من مصر إلى الشام وسار خلف سيف الدولة،
445

فالتقيا بقنسرين فلم يظفر أحد العسكرين بالآخر ورجع سيف الدولة إلى الجزيرة فلما عاد الإخشيد إلى دمشق رجع سيف الدولة إلى حلب ولما ملك سيف الدولة حلب سارت الروم إليها فخرج إليهم فقاتلهم بالقرب منها فظفر بهم وقتل منهم.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة ثامن جمادى الأولى قبض المستكفي بالله على كاتبه أبي عبد الله بن أبي سليمان وعلى أخيه واستكتب أبا أحمد الفضل بن عبد الرحمن الشيرازي على خاص أمره وكان أبو أحمد لما تقلد المستكفي الخلافة بالموصل يكتب لناصر الدولة فلما بلغه خبر تقلده الخلافة انحدر إلى بغداد لأنه كان يخدم المستكفي بالله ويكتب له وهو في دار ابن طاهر.
وفيها في رجب سار توزون ومعه المستكفي بالله من بغداد يريدان الموصل وقصدا ناصر الدولة لأنه كان قد أخر حمل المال الذي عليه من ضمان البلاد واستخدم غلمانا هربوا من توزون وكان الشرط بينهم أنه لا يقبل أحدا من عسكر توزون.
فلما خرج الخليفة وتوزون من بغداد ترددت الرسل في الصلح وتوسط أبو جعفر بن شيرزاد الأمر وانقاد ناصر الدولة لحمل المال وكان أبو القاسم بن مكرم كاتب الدولة هو الرسول في ذلك ولما تقرر الصلح عاد
446

المستكفي وتوزون فدخلا بغداد.
وفيها في سابع ربيع الآخر قبض المستكفي على وزيره أبي الفرج السرمرائي وصودر على ثلاثمائة ألف درهم وكانت مدة وزارته اثنين وأربعين يوما.
447

334
ثم دخلت سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة
ذكر موت توزون وإمارة ابن شيرزاد
في هذه السنة في المحرم مات توزون في داره ببغداد وكانت مدة إمارته سنتين وأربعة أشهر وتسعة عشر يوما وكتب له ابن شيرزاد مدة إمارته غير ثلاثة أيام.
ولما مات توزون كان ابن شيرزاد بهيت لتخليص أموالها فلما بلغه الخبر عزم على عقد الإمارة لناصرة الدولة بن حمدان فاضطربت الأجناد وعقدوا الرياسة عليهم لابن شيرزاد فحضر ونزل بباب حرب مستهل صفر وخرج عليه الأجناد جميعهم واجتمعوا عليه وحلفوا له ووجه إلى المستكفي بالله ليحلف له فأجابه إلى ذلك وحلف له
بحضرة القضاة والعدول ودخل إليه ابن شيرزاد وعاد مكرما يخاطب بأمير الأمراء وزاد الأجناد زيادة كثيرة فضاقت الأموال عليه فأرسل إلى ناصر الدولة مع أبي عبد الله محمد بن أبي موسى الهاشمي وهو بالموصل يطالبه بحمل المال ويعده برد الرياسة إليه وأنفذ له خمسمائة ألف درهم وطعاما كثيرا ففرقها في عسكره فلم يؤثر فقسط الأموال على العمال والكتاب والتجار وغيرهم لأرزاق
448

الجند وظلم الناس ببغداد.
وظهر اللصوص وأخذوا الأموال وجلا التجار واستعمل على واسط ينال كوشة وعلى تكريت الشكري فأما ينال فإنه كاتب معز الدولة بن بويه واستقدمه وصار معه وأما الفتح الشكري فإنه سار إلى ناصر الدولة بالموصل وصار معه فأقره على تكريت.
ذكر استيلاء معز الدولة على بغداد
لما كاتب ينال كوشة معز الدولة بن بويه وهو بالأهواز ودخل في طاعته سار معز الدولة نحوه فأضطرب الناس ببغداد فلما وصل إلى باجسرى اختفى المستكفي بالله وابن شيرزاد وكانت إمارته ثلاثة أشهر وعشرين يوما فلما استتر سار الأتراك إلى الموصل فلما أبعدوا ظهر المستكفي وعاد إلى بغداد إلى دار الخلافة وقدم أبو محمد الحسن بن محمد المهلبي صاحب معز الدولة إلى بغداد فاجتمع بابن شيرزاد بالمكان الذي استتر فيه، ثم اجتمع بالمستكفي فأظهر المستكفي السرور بقدوم معز الدولة وأعلمه أنه إنما استتر من الأتراك ليتفرقوا فيحصل الأمر لمعز الدولة بلا قتال.
ووصل معز الدولة إلى بغداد حادي عشر جمادى الأولى فنزل بباب
449

الشماسية ودخل من الغد إلى الخليفة المستكفي وبايعه وحلف له المستكفي وسأله معز الدولة أن يأذن لابن شيرزاد بالظهور وأن يأذن أن يستكتبه فأجابه إلى ذلك فظهر ابن شيرزاد ولقي معز الدولة فولاه الخراج وجباية الأموال وخلع الخليفة على معز الدولة ولقبه ذلك اليوم معز الدولة ولقب أخاه عليا عماد الدولة ولقب أخاه الحسن ركن الدولة وأمر أن تضرب ألقابهم وكناهم على الدنانير والدراهم.
ونزل معز الدولة بدار مؤنس ونزل أصحابه في دور الناس فلحق الناس من ذلك شدة عظيمة وصار رسما عليهم بعد ذلك وهو أول من فعله ببغداد ولم يعرف بها قبله وأقيم المستكفي بالله كل يوم خمسة آلاف درهم لنفقاته وكانت ربما تأخرت عنه فأقرت له مع ذلك ضياع سلمت إليه تولاها أبو أحمد الشيرازي كاتبه.
ذكر خلع المستكفي بالله
وفي هذه السنة خلع المستكفي بالله لثمان بقين من جمادى الآخرة.
وكان سبب ذلك أن علما القهرمانة صنعت دعوة عظيمة حضرها جماعة من قواد الديلم والأتراك فاتهمها معز الدولة أنها فعلت ذلك لتأخذ عليهم البيعة للمستكفي ويزيلوا معز الدولة فساء ظنه لذلك لما رأى من أقدام علم وحضر اصفهدوست عند معز الدولة وقال قد راسلني الخليفة في أن ألقاه متنكرا.
فلما مضى اثنان وعشرون يوما من جمادى الآخرة حضر معز الدولة
450

والناس عند الخليفة وحضر رسول صاحب خراسان ومعز الدولة جالس ثم حضر رجلان من نقباء الديلم يصيحان فتناولا يد المستكفي بالله فظن أنهما يريدان تقبيلها فمدها إليهما فجذباه عن سريره وجعلا عمامته في حلقه ونهض معز الدولة واضطرب الناس ونهبت الأموال وساق الديلمان المستكفي بالله ماشيا إلى دار معز الدولة فاعتقل بها ونهبت دار الخلافة حتى لم يبق بها شيء وقبض على أبي أحمد الشيرازي كاتب المستكفي وأخذت علم القهرمانة فقطع لسانها.
وكانت مدة خلافة المستكفي سنة وأحدة وأربعة أشهر وما زال مغلوبا على أمره مع توزون وابن شيرزاد ولما بويع المطيع لله سلم إليه المستكفي فسمله وأعماه ويقي محبوسا إلى أن مات في ربيع الأول سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة وكان مولده ثالث عشر صفر سنة ست وتسعين ومائتين وأمه أم ولد اسمها غصن وكان أبيض حسن الوجه قد وخطه الشيب.
ذكر خلافة المطيع لله
لما ولي المستكفي بالله الخلافة خافه المطيع وهو أبو القاسم الفضل بن المقتدر لأنه كان بينهما منازعة وكان كل منهما يطلب الخلافة وهو يسعى فيها فلما ولي المستكفي خافه واستتر منه فطلبه المستكفي أشد الطلب فلم يظفر به فلما قدم معز الدولة بغداد قيل أن المطيع انتقل إليه،
451

واستتر عنده وأغراه بالمستكفي حتى قبض عليه وسمله فلما قبض المستكفي بويع للمطيع لله بالخلافة يوم الخميس ثاني عشر جمادى الآخرة ولقب المطيع لله، وأحضر المستكفي عنده فسلم عليه بالخلافة وأشهد على نفسه بالخلع.
وازداد أمر الخلافة إدبارهم ولم يبق لهم من الأمر شيء البتة وقد كانوا يراجعون ويؤخذ أمرهم فيما يفعل والحرمة قائمة بعض الشيء قلما كان أيام معز الدولة زال ذلك جميعه بحيث أن الخليفة لم يبق له وزير وإنما كان له كاتب يدبر أقطاعه وإخراجاته لا غير وصارت الوزارة لمعز الدولة يستوزر لنفسه من يريد.
وكان من أعظم الأسباب في ذلك أن الديلم يتشيعون ويغالون في التشيع ويعتقدون أن العباسيين قد غصبوا الخلافة وأخذوها من مستحقيها فلم يكن عندهم باعث ديني يحثهم على الطاعة حتى لقد بلغني أن معز الدولة استشار جماعة من خواص أصحابه في إخراج الخلافة من العباسيين والبيعة للمعز لدين الله العلوي أو لغيره من العلويين فكلهم أشار عليه بذلك ما عدا بعض خواصه فإنه قال ليس هذا برأي فإنك اليوم مع خليفة تعتقد أنت وأصحابك أنك ليس من أهل الخلافة ولو أمرتهم بقتله لقتلوه مستحلين دمه ومتى أجلست بعض العلويين خليفة كان معك من تعتقد أنت وأصحابك صحة خلافته فلوا أمرهم بقتلك لفعلوه فأعرض عن ذلك فهذا كان من
452

أعظم الأسباب في زوال أمرهم ونهبهم مع حب الدنيا وطلب التفرد بها.
وتسلم معز الدولة العراق بأسره ولم يبق بيد الخليفة منه شيء البتة إلا ما أقطعه معز الدولة مما يقوم ببعض حاجته.
ذكر الحرب بين ناصر الدولة ومعز الدولة
وفيها في رجب سير معز الدولة عسكرا فيهم موسى فيادة وينال كوشة إلى الموصل في مقدمته فلما نزلوا عكبراء أوقع ينال كوشة بموسى فيادة ونهب سواده ومضى هو ومن معه إلى ناصر الدولة وكان قد خرج من الموصل نحو العراق ووصل ناصر الدولة إلى سامراء فس شعبان ووقعت الحرب بينه وبين أصحاب معز الدولة بعكبرا.
وفي رمضان سار معز الدولة مع المطيع لله إلى عكبرا فلما سار عن بغداد لحق ابن شيرزاد بناصر الدولة وعاد إلى بغداد مع عسكر لناصر الدولة فاستولوا عليها ودبر ابن شيرزاد الأمور بها نيابة عن ناصر الدولة وناصر الدولة يحارب معز الدولة فلما كان عاشر رمضان سار ناصر الدولة من سامراء إلى بغداد فأقام بها فلما سمع معز الدولة الخبر سار إلى تكريت فنهبها لأنها كانت لناصر الدولة وعاد الخليفة معه إلى بغداد فنزلوا بالجانب الغربي ونزل ناصر الدولة بالجانب الغربي ونزل ناصر الدولة بالجانب الشرقي ولم يخطب للمطيع ببغداد.
ثم وقعت الحرب بينهم ببغداد، وانتشرت أعراب ناصر الدولة بالجانب
453

الغربي فمنعوا أصحاب معز الدولة من الميرة والعلف فغلت الأسعار على الديلم حتى بلغ الخبز عندهم كل رطل بدرهم وربع وكان السعر عند ناصر الدولة رخيصا كانت تأتيه الميرة في دجلة من الموصل فكان الخبز عنده كل خمسة أرطال بدرهم.
ومنع ناصر الدولة من المعاملة بالدنانير التي عليها اسم المطيع وضرب دنانير ودراهم على سكة سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة وعليها اسم المتقي لله واستعان ابن شيرزاد بالعيارين والعامة على حرب معز الدولة فكان يركب في الماء وهم معه، ويقاتل الديلم.
وفي بعض الليالي عبر ناصر الدولة في ألف فارس لكبس معز الدولة فلقيهم اسفهدوست فهزمهم وكان من أعظم الناس شجاعة وضاق الأمر بالديلم حتى عزم معز الدولة على العود إلى الأهواز وقال نعمل معهم حيلة هذه المرة فإن أفادت وإلا عدنا فرتب ما معه من المعابر بناحية الثمارين وأمر وزيره أبا جعفر الصيمري واسفهدوست بالعبور ثم أخذ معه باقي العسكر وأظهر أنه يعبر في قطربل وسار ليلا ومعه المشاعل على شاطئ دجلة فسار أكثر عسكر ناصر الدولة بإزائه ليمنعوه من العبور فتمكن الصيمري واسفهدوست من العبور فعبروا وتبعهم أصحابهم.
فلما علم معز الدولة بعبور أصحابه عاد إلى مكانه فعلموا بحيلته فلقيهم ينال كوشة في جماعة أصحابه ناصر الدولة فهزموه واضطرب عسكر ناصر
454

الدولة وملك الديلم الجانب الشرقي وأعيد الخليفة إلى داره في المحرم سنة خمس وثلاثين [وثلاثمائة] وغنم الديلم ونهبوا أموال الناس ببغداد فكان مقدار ما غنموه ونهبوه من أموال المعروفين دون غيرهم عشرة آلاف ألف دينار وأمرهم معز الدولة برفع السف والكف عن النهب وأمن الناس فلم ينتهوا فأمر وزيره أبا جعفر الصيمري فركب وقتل وصلب جماعة وطاف بنفسه فامتنعوا.
واستقر معز الدولة ببغداد وأقام ناصر الدولة بعكبرا وأرسل في الصلح بغير مشورة من الأتراك التوزونية فهموا بقتله فسار عنهم مجدا نحو الموصل ثم استقر الصلح بينه وبين معز الدولة في المحرم سنة خمس وثلاثين [وثلاثمائة].
ذكر وفاة القائم وولاية المنصور
في هذه السنة توفي القائم بأمر الله أبو القاسم محمد بن عبد الله المهدي العلوي صاحب أفريقية لثلاث عشرة مضت من شوال وقام بالأمر بعده ابنه إسماعيل وتلقب بالمنصور بالله وكتم موته خوفا أن يعلم بذلك أبو يزيد وهو بالقرب منه على سوسة وأبقى الأمور على حالها ولم يتسم بالخليفة ولم يغير السكة ولا الخطبة ولا البنود وبقي على ذلك إلى أن فرغ من أمر أبي يزيد فلما فرغ منه أظهر موته وتسمى بالخلافة وعمل آلات الحرب والمراكب وكان شهما شجاعا وضبط الملك والبلاد.
455

ذكر أقطاع البلاد وتخريبها
فيها شغب الجند على معز الدولة بن بويه وأسمعوه المكروه فضمن لهم إيصال أرزاقهم في مدة ذكرها لهم فأضطر إلى خبط الناس وأخذ الأموال من غير وجهوها وأقطع قواده وأصحابه القرى جميعها التي للسلطان وأصحاب الأملاك فبطل لذلك أكثر الدواوين وزالت أيدي العمال وكانت البلاد قد خربت من الاختلاف والغلاء والنهب فأخذ القواد القرى العامرة وزادت عمارتها معهم وتوفر دخلها بسبب الجاه فلم يمكن معز الدولة العود عليها بذلك.
وأما الأتباع فإن الذي أخذوه ازداد خرابا فردوه وطلبوا العوض عنه فعوضوا وترك الأجناد الاهتمام بمشارب القرى وتسوية طرقها فهلكت وبطل الكثير منها.
وأخذ غلمان المقطعين في ظلم وتحصيل العاجل فكان أحدهم إذا عجز الحاصل تممه بمصادراتها.
ثم إن معز الدولة فرض حماية كل موضع إلى بعض أكابر أصحابه فأتخذه مسكنا وأطعمه فاجتمع إليهم الأخوة وصار القواد يدعون الخسارة في الحاصل فلا يقدر وزيره ولا غيره على تحقيق ذلك فإن اعترضهم معترض صاروا أعداء له فتركوا وما يريدون فازداد طمعهم ولم يقفوا عند غاية فتعذر على معز الدولة جمع ذخيرة تكون للنوائب والحوادث،
456

وأكثر من إعطاء غلمانه الأتراك والزيادة لهم في الإقطاع فحسدهم الديلم وتولد من ذلك الوحشة والمنافرة فكان من ذلك ما نذكره.
ذكر موت الإخشيد وملك سيف الدولة دمشق
في هذه السنة في ذي الحجة مات الإخشيد أبو بكر محمد بن طغج صاحب ديار مصر وكان مولده سنة ثمان وستين ومائتين ببغداد وكان موته بدمشق وقيل مات سنة خمس وثلاثين [وثلاثمائة]، وولى الأمر بعده ابنه أبو القاسم أنوجور فاستولى على الأمر كافور الخادم الأسود وهو من خدم الاخشيد وغلب أبا القاسم واستضعفه وتفرد بالولاية وهذا كافور هو الذي مدحه المتنبي ثم هجاه.
وكان أبو القاسم صغيرا وكان كافور أتابكه، فلهذا استضعفه وحكم عليه، فسار كافور إلى مصر فقصد سيف الدولة دمشق فملكها وأقام بها فاتفق أنه كان يسير هو والشريف العقيلي بنواحي دمشق فقال سيف الدولة ما تصلح هذه الغوطة إلا لرجل واحد فقال له العقيلي هي لأقوام كثيرة فقال سيف الدولة لئن أخذتها القوانين السلطانية لينبرون منها فاعلم العقيلي أهل دمشق بذلك فكاتبوا كافورا يستدعونه فجاءهم فأخرجوا سيف الدولة
457

عنهم سنة ست وثلاثين وثلاثمائة وكان أنوجور مع كافور فتبعوا سيف الدولة إلى حلب فخافهم سيف الدولة فعبر إلى الجزيرة وأقام أنوجور على حلب ثم استقر الأمر بينهما وعاد أنوجور إلى مصر وعاد سيف الدولة إلى حلب وأقام كافور بدمشق يسيرا وولى عليها بدر الإخشيدي ويعرف ببدير وعاد إلى مصر فبقي بدير على دمشق سنة ثم وليها أبو المظفر بن طغج وقبض على بدير.
ذكر مخالفة أبي علي على الأمير نوح
وفي هذه السنة خالف أبو علي بن محتاج على الأمير نوح صاحب خراسان وما وراء النهر.
وسبب ذلك أن أبا علي لما عاد من مرو إلى نيسابور وتجهز للمسير إلى الري أنفذ إليه الأمير نوح عارضا يستعرض العسكر فأساء العارض السيرة معهم وأسقط منهم ونقص فنفرت قلوبهم فساروا وهم على ذلك وانضاف إلى ذلك أن نوحا أنفذ معهم من يتولى أعمال الديوان وجعل إليه الحل والعقد والإطلاق بعد أن كان جميعه أيام السعيد نصر بن أحمد إلى أبي علي فنفر قلبه لذلك ثم أنه عزل عن خراسان واستعمل عليها إبراهيم بن سيمجور كما ذكرناه.
ثم أن المتولي أساء إلى الجند في معاملاتهم وحوائجهم وأرزاقهم فازدادوا نفورا فشكا بعضهم إلى بعض وهم إذ ذاك بهمذان واتفق رأيهم
458

على مكاتبة إبراهيم بن أحمد بن إسماعيل عم نوح واستقدامه إليهم ومبايعته وتمليكه البلاد وكان إبراهيم حينئذ بالموصل في خدمة ناصر الدولة وكان سبب مسيره إليها ما ذكرناه قبل، فلما اتفقوا على ذلك أظهروا عليه أبا علي فنهاهم عنه فتوعدوه بالقبض عليه أن خالفهم فأجابهم إلى ما طلبوا فكاتبوا إبراهيم وعرفوه حالهم فسار إليهم في تسعين فارسا فقدم عليهم في رمضان من هذه السنة ولقيه أبو علي بهمذان وسار معه إلى الري في شوال فلما وصلوا إليها اطلع أبو علي من أخيه الفضل على كتاب كتبه إلى الأمير نوح يطلعه على حالهم فقبض عليه وعلى ذلك المتولي الذي أساء إلى الجند وسار إلى نيسابور واستخلف على الري والجبل نوابه.
وبلغ الخبر إلى الأمير نوح فتجهز وسار إلى مرو من بخارى وكان الأجناد قد ملوا من محمد بن أحمد الحاكم المتولي للأمور لسوء سيرته فقالوا لنوح أن الحاكم أفسد عليك الأمور بخراسان وأحوج أبا علي إلى العصيان وأوحش الجنود وطلبوا تسليمه إليهم وإلا ساروا إلى عمه إبراهيم وأبي علي فسلمه إليهم فقتلوه في جمادى الأولى سنة خمس وثلاثين [وثلاثمائة].
ولما وصل أبو علي إلى نيسابور كان بها إبراهيم بن سيمجور ومنصور بن قراتكين وغيرهما من القواد فاستمالهما أبو علي فمالا إليه وصارا معه ودخلها في المحرم سنة خمس وثلاثين [وثلاثمائة] ثم ظهر له من منصور ما يكره فقبض عليه.
ثم سار أبو علي وإبراهيم من نيسابور في ربيع الأول سنة خمس وثلاثين [وثلاثمائة] إلى مرو وبها الأمير نوح فهرب الفضل أخو أبي علي من محبسه احتال على الموكلين به وهرب إلى قهستان فأقام بها وسار أبو علي إلى مرو،
459

فلما قاربها أتاه كثير من عسكر نوح وسار نوح عنها إلى بخارى واستولى أبو علي على مرو في جمادى الأولى من سنة خمس وثلاثين [وثلاثمائة] وأقام بها أياما وأتاه أكثر أجناد نوح وسار نحو بخارى وعبر النهر إليها ففارقها نوح وسار إلى سمرقند ودخل أبو علي بخارى في جمادى الآخرة سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة وخطب فيها لإبراهيم العمر وبايع له الناس.
ثم أن أبا علي اطلع من إبراهيم على سوء قد أضمره له ففارقه وسار إلى تركستان وبقي إبراهيم في بخارى، وفي خلال ذلك أطلق أبو علي منصور بن قراتكين فسار إلى الأمير نوح.
ثم إن إبراهيم وافق جماعة في السر على أن يخلع نفسه من الأمر ويرده إلى ولد أخيه الأمير نوح ويكون هو صاحب جيشه ويتفق معه على قصد أبي علي ودعا أهل بخارى إلى ذلك فأجابوه واجتمعوا وخرجوا إلى أبي علي وقد تفرق عنه أصحابه وركب إليهم في خيل فردهم إلى البلد أقبح رد وأراد إحراق البلد فشفع إليه مشايخ بخارى فعفا عنهم وعاد إلى مكانه واستحضر أبا جعفر محمد بن نصر بن أحمد وهو أخو الأمير نوح وعقد له الإمارة وبايع له وخطب له في النواحي كلها.
ثم طهر لأبي علي فساد نيات جماعة من البلد فرتب أبا جعفر في البلد ورتب ما يجب ترتيبه وخرج عن البلد يظهر المسير إلى سمرقند ويضمر العود إلى الصغانيان ومنها إلى نسف، فلما خرج من البلد رد جماعة من الجند والحشم إلى بخارى وكاتب نوحا بإفراجه عنها.
ثم سار إلى الصغانيان في شعبان ولما فارق أبو علي بخارى خرج إبراهيم
460

وأبو جعفر محمد بن نصر إلى سمرقند مستأمنين إلى نوح مظهرين الندم على ما كان منهم فقربهم وقبلهم ووعدهم وعاد إلى بخارى في رمضان وقتل نوح في تلك الأيام طغان الحاجب وسمل عمه إبراهيم وأخويه أبا جعفر محمدا وأحمد وعادت الجيوش فاجتمعت عليه والأجناد وأصلح الفساد.
وأما الفضل بن محمد أخو أبي علي فإنه لما هرب من أخيه كما ذكرناه ولحق بقهستان جمع جمعا كثيرا وسار نحو نيسابور وبها محمد بن عبد الرزاق من قبل أبي علي فخرج منها إلى الفضل فالتقيا وتحاربا فانهزم الفضل ومعه فارس واحد فلحق ببخارى فأكرمه الأمير نوح وأحسن إليه وأقام في خدمته.
ذكر استعمال منصور بن قراتكين على خراسان
لما عاد الأمير نوح إلى بخارى وأصلح البلاد وكان أبو علي بالصغانيان وبمرو أبو أحمد محمد بن علي القزويني فرأى نوح أن يجعل منصور بن قراتكين على جيوش خراسان فولاه ذلك وسيره إلى مرو وبها أبو أحمد وقد غور المناهل ما بين آمل ومرو ووافق أبا علي ثم تخلى عنه.
وسار إلى منصور جريدة في ألفي فارس فلم يشعر القزويني إلا بنزول منصور بكشماهن على خمسة فراسخ من مرو واستولى منصور على مرو،
461

واستقبله أبو أحمد القزويني فأكرمه وسيره إلى بخارى مع ماله وأصحابه فلما بلغ أكرمه الأمير نوح وأحسن إليه إلا أنه وكل به فظفر بعض الأيام برقعة قد كتبها القزويني بما أنكره فأحضره وبكته بذنوبه ثم قتله.
ذكر مصالحة أبي علي مع نوح
ثم أن أبا علي أقام بالصغانيان فبلغه أن الأمير نوحا قد عزم على تسيير عسكر إليه فجمع أبو علي الجيوش وخرج إلى بلخ وأقام بها وأتاه رسول الأمير نوح في الصلح فأجاب إليه فأبى عليه جماعة ممن معه من قواد نوح الذين انتقلوا إليه وقالوا: نحب أن تردنا إلى منازلنا ثم صالح فخرج أبو علي نحو بخارى فخرج إليه الأمير نوح في عساكره وجعل الفضل بن محمد أخا أبي علي صاحب جيشه فالتقوا بحرجيك في جمادى الأولى سنة ست وثلاثين وثلاثمائة وتحاربوا قبيل العصر فاستأمن إسماعيل بن الحسن الداعي إلى نوح وتفرق العسكر عن أبي علي فانهزم ورجع إلى الصغانيان.
ثم بلغه أن الأمير نوحا قد أمر العساكر بالمسير إليه من بخارى وبلخ وغيرهما وان صاحب الختل قد تجهز لمساعدة أصحاب أبي علي، فسار
462

أبو علي في جيشه إلى ترمذ وعبر جيحون وسار إلى بلخ فنازلها واستولى عليها وعلى طخارستان وجبى مال تلك الناحية.
وسار من بخارى عسكر جرار إلى الصغانيان فأقاموا بنسف ومعهم الفضل بن محمد أخو أبي علي، فكتب جماعة من قواد العسكر إلى الأمير نوح بان الفضل قد اتهموه بالميل إلى أخيه فأمرهم بالقبض عليه فقبضوا عليه وسيروه إلى بخارى.
وبلغ خبر العسكر إلى أبي علي وهو بطخارستان فعاد إلى الصغانيان ووقعت بينهم حروب وضيق عليهم أبو علي في العلوفة فانتقلوا إلى قرية أخرى على فرسخين من الصغانيان فقاتلهم أبو علي في ربيع الأول سنة سبع وثلاثين [وثلاثمائة] قتالا شديدا فقهروه، وسار إلى شومان وهي على ستة عشر فرسخا من الصغانيان ودخل عسكر نوح إلى الصغانيان فأخربوا قصور أبي علي ومساكنه وتبعوا أبا علي فعاد إليهم واجتمع إليه الكتيبة وضيق على عسكر نوح وأخذ عليهم المسالك فانقطعت عنهم أخبار بخارى وأخبارهم عن بخارى نحو عشرين يوما فأرسلوا إلى أبي علي يطلبون الصلح فأجابهم إليه واتفقوا على انفاذ ابنه أبي المظفر عبد الله رهينة إلى الأمير نوح واستقر الصلح بينهما في جمادى الآخرة سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة.
وسير ابنه إلى بخارى فأمر نوح باستقباله فأكرمه وأحسن إليه وكان قد دخل إليه بعمامة فخلع عليه القلنسوة وجعله من ندمائه وزال الخلف.
وكان ينبغي أن نذكر هذه الحوادث في السنين التي هي فيها كانت وإنما أوردناها متتابعة في هذه السنة لئلا يتفرق ذكرها.
هذا الذي ذكره أصحاب التواريخ من الخراسانيين وقد ذكر العراقيون
463

هذه الحوادث على غير هذه السياقة وأهل كل بلد أعلم بأحوالهم، ونحن نذكر ما ذكره العراقيون مختصرا قالوا: أن أبا علي لما سار نحو الري في عساكر خراسان كتب ركن الدولة إلى أخيه عماد الدولة يستمده فأرسل إليه يأمره بمفارقة الري والوصول إليه لتدبير له في ذلك.
ففعل ركن الدولة ذلك ودخل أبو علي الري، فكتب عماد الدولة إلى نوح سرا يبذل له في الري في كل سنة زيادة على ما بذله أبو علي مائة ألف دينار ويعجل ضمان سنة ويبذل من نفسه مساعدته على أبي علي يظفر به وخوفه منه فاستشار نوح أصحابه وكانوا يحسدون أبا علي ويعادونه فأشاروا عليه بإجابته فأرسل نوح إلى ابن بويه من يقرر القاعدة ويقبض المال فأكرم الرسول ووصله بمال جزيل وأرسل إلى أبي علي يعلمه خبر هذه الرسالة وأنه مقيم على عهده ووده وحذره من غدر الأمير نوح فأنفذ أبو علي رسوله إلى إبراهيم وهو بالموصل يستدعيه ليملكه البلاد فسار إبراهيم فلقيه أبو علي بهمذان وساروا إلى خراسان.
وكتب عماد الدولة إلى أخيه ركن الدولة يأمره بالمبادرة إلى الري فعاد إليه واضطربت خراسان ورد عماد الدولة رسول نوح بغير مال وقال أخاف أن أنفذ المال فيأخذه أبو علي وأرسل إلى نوح يحذره من أبي علي ويعده المساعدة عليه وأرسل إلى أبي علي يعده بإنفاذ العساكر نجدة له ويشير عليه بسرعة اللقاء وان نوحا سار فالتقى هو وأبو علي بنيسابور فانهزم نوح وعاد إلى سمرقند واستولى أبو علي على بخارى وأن أبا علي استوحش من إبراهيم فانقبض عنه.
وجمع نوع العساكر وعاد إلى بخارى وحارب إبراهيم فلما
464

التقى الصفان عاد جماعة من قواد إبراهيم إلى نوح وانهزم الباقون وأخذ إبراهيم أسيرا فسمل هو وجماعة من أهل بيته سملهم نوح.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة اصطلح معز الدولة وأبو القاسم البريدي وضمن أبو القاسم مدينة واسط وأعمالها منه.
وفيها اشتد الغلاء ببغداد حتى أكل الناس الميتة والكلاب والسنانير وأخذ بعضهم ومعه صبي قد شواه ليأكله وأكل الناس خروب الشوك فأكثروا منه وكانوا يسلقون حبه
ويأكلونه فلحق الناس أمراض وأورام في أحشائهم وكثر فيهم الموت حتى عجز الناس عن دفن الموتى فكانت الكلاب تأكل لحومهم وانحدر كثير من أهل بغداد إلى البصرة فمات أكثرهم في الطريق ومن وصل منهم مات بعد مدة يسيرة وبيعت الدور والعقار بالخبز فلما دخلت الغلات انحل السعر.
وفيها توفي علي بن عيسى بن داود بن الجراح الوزير وله تسعون سنة وقد تقدم من أخباره ما يدل على دينه وكفايته.
وفيها توفي أبو القاسم عمر بن الحسين بن عبد الله الخرقي الفقيه الحنبلي ببغداد وأبو بكر الشبلي الصوفي توفي في ذي الحجة ومحمد بن عيسى أبو عبد الله ويعرف بابن أبي موسى الفقيه الحنفي في ربيع الأول.
465

335
ثم دخلت سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة
في هذه السنة في المحرم استقر معز الدولة ببغداد وأعاد المطيع لله إلى دار الخلافة بعد أن استوثق منه وقد تقدم ذلك مفصلا.
وفيها اصطلح معز الدولة وناصر الدولة وكانت الرسل تردد بينهما بغير علم من الأتراك التوزونية وكان ناصر الدولة نازلا شرقي تكريت فلما علم بذلك ثاروا بناصر الدولة فهرب منهم وعبر دجلة إلى الجانب الغربي فننزل على ملهم والقرامطة فأجاروه وسيروه ومعه ابن شيرزاد إلى الموصل.
ذكر حرب تكين وناصر الدولة
لما هرب ناصر الدولة من الأتراك ولم يقدروا عليه اتفقوا على تأمير تكين الشيرازي وقبضوا على ابن قرابة وعلى كتاب ناصر الدولة ومن تخلف من أصحابه وقبض ناصر الدولة على ابن شيرزاد عند وصوله إلى جهينة ولم يلبث ناصر الدولة بالموصل بل سار إلى نصيبين ودخل تكين والأتراك إلى الموصل وساروا في طلبه فمضى إلى سنجار فتبعه تكين إليها فسار ناصر الدولة من سنجار إلى الحديثة فتبعه تكين.
466

وكان ناصر الدولة قد كتب إلى معز الدولة يستصرخه فسير الجيوش إليه فسار ناصر الدولة من الحديثة إلى السن فاجتمع هناك بعسكر معز الدولة وفيهم وزير أبو جعفر الصيمري وساروا بأسرهم إلى الحديثة لقتال تكين فالتقوا بها واقتتلوا قتالا شديدا فانهزم تكين والأتراك بعد أن كادوا يستظهرون فلما انهزموا تبعهم العرب من أصحاب ناصر الدولة فأدركوهم وأكثروا القتل فيهم وأسروا تكين الشيرازي وحملوه إلى ناصر الدولة فسمله في الوقت فأعماه وحمله إلى قلعة من قلاعه فسجنه بها.
وسار ناصر الدولة والصيمري إلى الموصل فنزلوا شرقيها وركب ناصر الدولة إلى خيمة الصيمري فدخل إليه ثم خرج من عنده إلى الموصل ولم يعد إليه، فحكي عن ناصر الدولة أنه قال ندمت حين دخلت خيمته فبادرت وخرجت.
وحكي عن الصيمري أنه قال لما خرج ناصر الدولة من عندي ندمت حيث لم أقبض عليه ثم تسلم الصيمري ابن شيرزاد من ناصر الدولة ألف كر حنطة وشعيرا وغير ذلك.
ذكر استيلاء ركن الدولة على الري
لما كان من عساكر خراسان ما ذكرناه من الاختلاف وعاد أبو علي إلى خراسان رجع ركن الدولة إلى الري واستولى عليها وعلى سائر أعمال الجبل وأزال عنها الخراسانية وأعظم ملك بني بويه فإنهم صار بأيديهم أعمال الري والجبل وفارس والأهواز والعراق ويحمل إليهم ضمان الموصل وديار بكر وديار مضر من الجزيرة.
467

ذكر عدة حوادث
في هذه السنة اختلف معز الدولة بن بويه وأبو القاسم بن البريدي والي البصرة فأرسل معز الدولة جيشا إلى واسط فسير إليهم ابن البريدي جيشا من البصرة في الماء وعلى الظهر فالتقوا واقتتلوا فانهزم أصحاب البريدي وأسر من أعيانهم جماعة كثيرة.
وفيها كان الفداء بالثغور بين المسلمين والروم على يد نصر الثملي أمير الثغور لسيف الدولة بن حمدان وكان عدة الأسرى ألفين وأربعمائة أسير وثمانين أسيرا من ذكر وأنثى وفضل الروم على المسلمين مائتان وثلاثون أسيرا لكثرة من معهم من الأسرى فوافاهم ذلك سيف الدولة.
وفيها في شعبان قبض سيف الدولة بن حمدان على أبي إسحاق محمد القراريطي وكان استكتبه استظهارا على أبي الفرج محمد بن علي السرمري واستكتب أبا عبد الله محمد بن سليمان بن فهد الموصلي وفيها توفي محمد بن إسماعيل بن بحر أبو عبد الله الفارسي الفقيه الشافعي في شوال ومحمد بن يحيى بن عبد الله بن العباس بن محمد بن صول أبو بكر الصولي وكان عالما بفنون الآداب والأخبار.
468

336
ثم دخلت سنة ست وثلاثين وثلاثمائة
ذكر استيلاء معز الدولة على البصرة
في هذه السنة سار معز الدولة ومعه المطيع لله إلى البصرة لاستنقاذها من يد أبي القاسم عبد الله بن أبي عبد الله البريدي وسلكوا البرية إليها فأرسل القرامطة من هجر إلى معز الدولة ينكرون عليه مسيره إلى البرية بغير أمرهم وهي لهم فلم يجبهم عن كتابهم وقال للرسول قل لهم من أنتم حتى تستأمروا وليس قصدي من أخذ البصرة غيركم وستعلمون ما تقولون مني ولما وصل معز الدولة إلى الدرهمية استأمن إليه عساكر أبي القاسم البريدي وهرب أبو القاسم في الرابع والعشرين من ربيع الآخر إلى هجر والتجأ إلى القرامطة وملك معز الدولة البصرة فانحلت الأسعار ببغداد إنحلالا كثيرا.
وسار معز الدولة من البصرة إلى الأهواز ليلقى أخاه عماد الدولة وأقام الخليفة وأبو جعفر الصيمري بالبصرة وخالف كوركير وأخذ وهو من أكابر القواد على معز الدولة فسير إليه الصيمري فقاتله فانهزم كوركير وأخذ أسيرا فحبسه معز الدولة بقلعة رامهرمز ولقي معز الدولة أخاه عماد الدولة بأرجان في شعبان وقبل الأرض بين يديه وكان يقف قائما عنده فيأمره بالجلوس فلا يفعل ثم عاد إلى بغداد وعاد المطيع أيضا إليها،
469

وأظهر معز الدولة أنه يريد [أن] يسير إلى الموصل فتردت الرسل بينه وبين ناصر الدولة واستقر الصلح وحمل المال إلى معز الدولة فسكت عنه.
ذكر مخالفة محمد بن عبد الرزاق بطوس
كان محمد بن عبد الرزاق بطوس وأعمالها وهي في يده ويد نوابه فخالف على الأمير نوح بن نصر الساماني وكان منصور بن قراتكين صاحب جيش خراسان بمرو عند نوح فوصل إليهما وشمكير منهزما من جرجان قد غلبه عليها الحسن بن الفيرزان فأمر نوح منصورا بالمسير إلى نيسابور ومحاربة محمد بن عبد الرزاق وأخذ ما بيده من الأعمال ثم يسير مع وشمكير إلى جرجان فسار منصور ووشمكير إلى نيسابور وكان بها محمد بن عبد الرزاق ففارقها نحو أستوا فاتبعه منصور، فسار محمد إلى جرجان وكاتب ركن الدولة بن بويه واستأمن إليه فأمره بالوصول إلى الري.
وسار منصور من نيسابور إلى طوس وحصروا رافع بن عبد الرزاق بقلعة شميلان فاستأمن بعض أصحاب رافع إليه فهرب رافع من شميلان إلى حصن درك فاستولى منصور على شميلان وأخذ ما فيها من مال وغيره واحتمى رافع بدرك وبها أهله ووالدته وهي على ثلاثة فراسخ من شميلان فأخرب منصور شميلان وسار إلى درك فحاصرها وحاربهم عدة أيام فتغيرت المياه بدرك فاستأمن أحمد بن عبد الرزاق إلى منصور في جماعة من بني عمه وأهله وعمد أخوه رافع إلى الصامت من الأموال والجواهر وألقاها في البسط إلى تحت القلعة ونزل هو وجماعة فأخذوا تلك الأموال
470

وتفرقوا في الجبال.
واحتوى منصور على ما كان في قلعة درك وأنفذ عيال محمد بن عبد الرزاق ووالدته إلى بخارى فاعتقلوا بها وأما محمد بن عبد الرزاق فإنه سار من جرجان إلى الري وبها ركن الدولة بن بويه فأكرمه ركن الدولة وأحسن إليه وحمل شيئا كثيرا من الأموال وغيرها وسرحه إلى محاربة المرزبان على ما نذكره.
ذكر ولاية الحسن بن علي صقلية
في هذه السنة استعمل المنصور الحسن بن علي بن أبي الحسن الكلبي على جزيرة صقلية وكان له محل كبير عند المنصور وله أثر عظيم في قتال أبي يزيد.
وكان سبب ولايته أن المسلمين كانوا قد استضعفهم الكفار بها أيام عطاف لعجزه وضعفه وامتنعوا من اعطاء مال الهدنة وكان بصقلية بنو الطبري من أعيان الجماعة ولهم اتباع كثيرون فوثبوا بعطاف أيضا وأعانهم أهل المدينة عليه يوم عيد الفطر سنة خمس وثلاثين [وثلاثمائة] وقتلوا جماعة من رجاله وأفلت عطاف هاربا بنفسه إلى الحصن فأخذوا أعلامه وطبوله وانصرفوا إلى ديارهم فأرسل أبو عطاف إلى المنصور يعلمه الحال ويطلب المدد.
فلما علم المنصور ذلك استعمل على الولاية الحسن بن علي وأمره بالمسير فسار في المراكب فأرسى بمدينة مازر فلم يلتفت إليه أحد فبقي يومه فأتاه في الليل جماعة من أهل أفريقية وكتامة وغيرهم وذكروا أنهم
471

خافوا الحضور عنده من ابن الطبري ومن اتفق معه من أهل البلاد وان علي بن الطبري ومحمد بن عبدون وغيرهما قد ساروا إلى أفريقية وأوصوا بينهم ليمنعوه من دخول البلد ومفارقة مراكبه إلى أن تصل كتبهم بما يلقون من المنصور وقد مضوا يطلبون أن يولي المنصور غيره.
ثم أتاه نفر من أصحاب ابن الطبري ومن معه ليشاهدوا من معه فرأوه في قلة فطمعوا فيه وخادعوه وخادعهم، ثم عادوا إلى المدينة وقد وعدهم أنه يقيم بمكانه إلى أن يعودوا إليه فلما فارقوه جد السير إلى المدينة قبل أن يجمعوا أصحابهم ويمنعوه فلما انتهى إلى البيضاء أتاه حاكم البلد وأصحاب الدواوين وكل من يريد العافية فلقيهم وأكرمهم وسألهم عن أحوالهم فلما سمع إسماعيل بن الطبري بخروج هذا الجميع إليه اضطر إلى الخروج إليه فلقيه الحسن وأكرمه وعاد إلى داره ودخل الحسن البلد ومال إليه كل منحرف عن بني الطبري ومن معهم.
فلما رأى ابن الطبري ذلك أمر رجلا صقليا فدعا بعض عبيد الحسن وكان موصوفا بالشجاعة فلما دخل بيته خرج الرجل يستغيث ويصيح ويقول هذا فعلهم ولم يتمكنوا من البلد وأمر الناس بالحضور عند الحسن ظنا منه أنه لا يعاقب مملوكه فيثور الناس به فيخرجونه من البلد.
فلما اجتمع الناس وذلك الرجل يصيح ويستغيث أحضره الحسن عنده وسأله عن حاله فحلفه بالله تعالى على ما يقول فحلف فأمر بقتل الغلام،
472

فقتل فسر أهل البلد وقالوا: الآن طابت نفوسنا وعلمنا أن بلدنا يتعمر ويظهر فيه العدل فانعكس الأمر على ابن الطبري وأقام الحسن وهو خائف منهم.
ثم أن المنصور أرسل إلى الحسن يعرفه أنه قبض على علي بن الطبري وعلى محمد بن عبدون ومحمد بن جنا ومن معهم ويأمره بالقبض على إسماعيل بن الطبري ورجاء بن جنا ومحمد ومخلفي الجماعة المقبوضين فاستعظم الأمر ثم أرسل إلى ابن الطبري ويقول له كنت قد وعدتني أن نتفرج في البستان الذي لك فتحضر لنمضي إليه وأرسل إلى الجماعة على لسان ابن الطبري يقول تحضرون لنمضي مع الأمير إلى البستان فحضروا عنده وجعل يحادثهم ويطول إلى أن أمسوا فقال قد فات الليل وتكونون أضيافنا فأرسل إلى أصحابهم يقول إنهم الليلة في ضيافة الأمير فتعودون إلى بيوتهم إلى الغد فمضى أصحابهم فقبض عليهم وأخذ جميع أموالهم وكثر جمعه واتفق الناس عليه وقويت نفوسهم فلما رأى الروم ذلك أحضر الراهب مال الهدنة لثلاث سنين.
ثم إن الروم أرسل بطريقا في البحر في جيش كثير إلى صقلية واجتمع هو والسردغوس فأرسل الحسن بن علي إلى المنصور يعرفه الحال فأرسل إليه أسطولا فيه سبعة
آلاف فارس وثلاثة آلاف وخمسمائة راجل سوى البحرية وجمع الحسن إليهم جمعا كثيرا وسار في البر
473

والبحر. فوصل إلى مسيني وعدت العساكر الاسلامية إلى ريو وبث الحسن السرايا في أرض قلورية ونزل الحسن على جراجة وحاصرها أشد حصار وأشرفوا على الهلاك من شدة العطش فوصله الخبر ان الروم قد زحفوا إليه فصالح أهل جراجة على مال أخذه منهم وسار إلى لقاء الروم ففروا من غير حرب إلى مدينة بارة ونزل الحسن على قلعة قسانة وبث سراياه إلى قلورية وأقام عليها شهرا فسألوه الصلح فصالحهم على مال أخذه منهم.
ودخل الشتاء فرجع إلى مسيني وشتى الأسطول بها فأرسل المنصور يأمره بالرجوع إلى قلورية فسار الحسن وعدي المجاز إلى جراجة فالتقى المسلمون والسردغوس ومعه الروم يوم عرفة سنة أربعين وثلاثمائة فاقتتلوا أشد قتال رآه الناس فانهزمت الروم وركب المسلمون أكتافهم إلى الليل وأكثروا القتل فيهم وغنموا أثقالهم وسلاحهم ودوابهم.
ثم دخلت سنة إحدى وأربعين [وثلاثمائة] فقصد الحسن جراجة فحصرها فأرسل إليه قسطنطين ملك الروم يطلب منه الهدنة فهادنه وعاد الحسن إلى ريو وبنى بها مسجدا كبيرا في وسط المدينة وبنى أحد أركانه مئذنة وشرط على الروم أنهم لا يمنعون المسلمين من عمارته وإقامة الصلاة فيه والأذان وأن لا يدخله نصراني ومن دخله من الأسارى المسلمين فهو آمن سواء كان مرتدا أو مقيما على دينه وإن أخرجوا حجرا منه هدمت كنائسهم كلها بصقلية وأفريقية فوفي الروم بهذه الشروط كلها ذلة وصغارا وبقي الحسن بصقلية إلى أن توفي المنصور وملك المعز فسار إليه وكان ما نذكره.
474

ذكر عصيان جمان بالرحبة وما كان منه
كان هذا جمان من أصحاب توزون وصار في جملة ناصر الدولة بن حمدان فلما كان ناصر الدولة ببغداد في الجانب الشرقي وهو يحارب معز الدولة ضم ناصر الدولة جميع الديلم الذين معه إلى حمدان لقلة ثقته بهم وقلده الرحبة وأخرجه إليها فعظم أمره هناك وقصده الرجال فأظهر العصيان على ناصر الدولة وعزم على التغلب على الرقة وديار مضر فسار إلى الرقة فحصرها سبعة عشر يوما فحاربه أهلها وهزموه ووثب أهل الرحبة بأصحابه وعماله فقتلوهم لشدة ظلمهم وسوء معاملتهم.
فلما عاد من الرقة وضع السيف في أهلها فقتل منهم مقتلة عظيمة فأرسل إليه ناصر الدولة حاجبه ياروخ في جيش فاقتتلوا على شاطئ الفرات فانهزم جمان فوقع في الفرات فغرق واستأمن أصحابه إلى ياروخ وأخرج جمان من الماء فدفن مكانه.
ذكر ملك ركن الدولة طبرستان وجرجان
وفيها في ربيع الأول اجتمع ركن الدولة بن بويه والحسن بن الفيرزان وقصدوا بلاد وشمكير فالتقاهم وشمكير وانهزم منهم وملك ركن الدولة طبرستان وسار منها إلى جرجان فملكها واستأمن من قواد وشمكير مائة
475

وثلاثة عشر قائدا فأقام الحسن بن الفيرزان بجرجان ومضى وشمكير إلى خراسان مستجيرا ومستنجدا لإعادة بلاده فكان ما نذكره.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة في صفر ظهر كوكب له ذنب طوله نحو ذراعين في المشرق وبقي نحو عشرة أيام واضمحل وفيها مات سلامة الطولوني الذي كان حاجب الخلفاء فأخذ ماله وعياله وسار إلى الشام أيام المستكفي فمات هناك ولما سار عن بغداد أخذ ماله في الطريق ومات هو الآن فذهبت نعمته ونفسه حيث ظن السلامة ولقد أحسن القائل حيث يقول:
(وإذا خشيت من الأمور مقدرا * فهربت منه فنحوه تتقدم)
وفيها توفي محمد بن أحمد بن حماد أبو العباس الأثرم المقرى.
476

337
ثم دخلت سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة
ذكر ملك معز الدولة الموصل وعوده عنها
في هذه السنة سار معز الدولة من بغداد إلى الموصل قاصدا لناصر الدولة فلما سمع ناصر الدولة بذلك سار عن الموصل إلى نصيبين ووصل معز الدولة فملك الموصل فس شهر رمضان وظلم أهلها وعسفهم وأخذ أموال الرعايا فكثر الدعاء عليه.
وأراد معز الدولة أن يملك جميع بلاد ناصر الدولة فأتاه الخبر من أخيه ركن الدولة أن عساكر خراسان قد قصدت جرجان والري ويستمده ويطلب منه العساكر فاضطر إلى مصالحة ناصر الدولة فترددت الرسل بينهما في ذلك واستقر الصلح بينهما على أن يؤدي ناصر الدولة عن الموصل وديار الجزيرة كلها والشام كل سنة ثمانية آلاف ألف درهم ويخطب في بلاده لعماد الدولة وركن الدولة ومعز الدولة بني بويه فلما استقر الصلح عاد معز الدولة إلى بغداد فدخلها في ذي الحجة من السنة.
477

ذكر مسير عسكر خراسان إلى جرجان
في هذه السنة سار منصور بن قراتكين في جيوش خراسان إلى جرجان صحبة وشمكير وبها الحسن بن الفيرزان وكان منصور منحرفا عن وشمكير في السير فتساهل لذلك مع الحسن وصالحه وأخذ ابنه رهينة.
ثم بلغ منصور أن الأمير نوحا اتصل بابنة ختكين مولى قراتكين وهو صاحب بست والرخج فساء ذلك منصورا وأقلقه وكان نوح قد زوج قبل ذلك بنتا لمنصور من بعض
مواليه اسمه فتكين فقال منصور يتزوج الأمير بابنة مولاي وتزوج ابنتي من مولاه فحمله ذلك على مصالحة الحسين بن الفيرزان وأعاد عليه ابنه وعاد عنه إلى نيسابور وأقام الحسن بزوزن وبقي وشمكير بجرجان.
ذكر مسير المرزبان إلى الري
في هذه السنة سار المرزبان محمد بن مسافر صاحب أذربيجان إلى الري.
وسبب ذلك أنه بلغه خروج عساكر خراسان إلى الري وان ذلك يشغل ركن الدولة عنه ثم أنه كان أرسل رسولا إلى معز الدولة فحلق معز الدولة لحيته وسبه وسب صاحبه وكان سفيها فعظم ذلك على المرزبان وأخذ في جمع العساكر واستأمن إليه بعض قواد ركن الدولة وأطعمه في الري،
478

وأخبره أن من ورائه من القواد يريدونه فطمع لذلك فراسله ناصر الدولة يعده المساعدة ويشير عليه أن يبتدئ ببغداد فخالفه ثم أحضرا أباه وأخاه وهسوذان واستشارهما في ذلك فنهاه أبوه عن قصد الري فلم يقبل فلما ودعه بكى أبوه وقال يا بني أين أطلبك بعد يومي هذا قال أما في دار الأمارة بالري وأما بين القتلى.
فلما عرف ركن الدولة خبره كتب إلى أخويه عماد الدولة ومعز الدولة يستمدهما فسير عماد الدولة ألفي فارس وسير إليه معز الدولة جيشا مع سبكتكين التركي وأنفذ عهدا من المطيع لله لركن الدولة بخراسان فلما صاروا بالدينور خالف الديلم على سبكتكين وكبسوه ليلا فركب فرس النوبة ونجا واجتمع الأتراك عليه فعلم الديلم إنهم لا قوة لهم به فعادوا إليه وتضرعوا فقبل عذرهم.
وكان ركن الدولة قد شرع مع المرزبان في المخادعة وأعمال الحيلة فكتب إليه يتواضع له ويعظمه ويسأله أن ينصرف عنه على شرط أن يسلم إليه ركن الدولة زنجان وابهر وقزوين وترددت الرسل في ذلك إلى أن وصله المدد من عماد الدولة ومعز الدولة وأحضر معه محمد بن عبد الرزاق وأنفذ له الحسن بن الفيرزان عسكرا مع محمد بن ما كان فلما كثر جمعه قبض على جماعة ممن كان يتهمهم من قواده وسار إلى قزوين فعلم المرزبان عجزه عنه وأنف من الرجوع فالتقيا فانهزم عسكر المرزبان وأخذ أسيرا وحمل إلى سميرم فحبس بها وعاد ركن الدولة، ونزل محمد بن عبد الرزاق بنواحي أذربيجان وأما أصحاب المرزبان فإنهم اجتمعوا على أبيه محمد بن مسافر وولوه
479

أمرهم فهرب منه ابنه وهسوذان إلى حصن له فأساء محمد السيرة مع العسكر فأرادوا قتله فهرب إلى ابنه وهسوذان فقبض عليه وضيق عليه حتى مات ثم تحير وهسوذان في أمره فاستدعى ديسم الكردي لطاعة الأكراد له وقواه وسيره إلى محمد بن عبد الرزاق فالتقيا فانهزم ديسم وقوى ابن عبد الرزاق فأقام بنواحي أذربيجان يجبي أموالها ثم رجع إلى الري سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة وكاتب الأمير نوحا وأهدى له هدية وسأله الصفح فقبل عذره وكاتب وشمكير بمهادنته فهادنه ثم عاد محمد إلى طوس سنة تسع وثلاثين لما خرج منصور إلى الري.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة سار سيف الدولة بن حمدان إلى بلد الروم فلقيه الروم واقتتلوا فانهزم سيف الدولة وأخذ الروم مرعش وأوقعوا بأهل طرسوس وفيها قبض معز الدولة على اسفهدوست وهو خال معز الدولة وكان من أكابر قواده وأقرب الناس إليه.
وكان سبب ذلك أنه كان يكثر الدالة عليه ويعيبه في كثير من أفعاله ونقل عنه أنه كان يراسل المطيع لله في قتل معز الدولة فقبض عليه وسيره إلى رامهرمز فسجنه بها.
وفيها استأمن أبو القاسم البريدي إلى معز الدولة وقدم بغداد فلقي معز الدولة فأحسن إليه وأقطعه.
480

338
ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة
ذكر حال عمران بن شاهين
في هذه السنة استفحل أمر عمران بن شاهين وقوي شأنه وكان ابتداء حاله أنه من أهل الجامدة فجبى جبايات فهرب إلى البطيحة خوفا من السلطان وأقام بين القصب والآجام واقتصر على ما يصيده من السمك وطيور الماء قوتا ثم صار يقطع الطريق على من يسلك البطيحة واجتمع إليه جماعة من الصيادين وجماعة من اللصوص فقوي بهم وحمى جانبه من السلطان فلما خاف أن يقصد استأمن إلى أبي القاسم البريدي فقلده حماية الجامدة ونواحي البطائح وما زال يجمع الرجال إلى أن كثر أصحابه وقوي واستعد بالسلاح واتخذ معاقل على التلول التي بالبطيحة وغلب على تلك النواحي.
فلما اشتد أمره سير معز الدولة إلى محاربته وزيره أبا جعفر الصيمري فسار إليه في الجيوش وحاربه مرة بعد مرة واستأسر أهله وعياله وهرب عمران بن شاهين واستتر وأشرف على الهلاك.
فاتفق أن عماد الدولة بن بويه مات واضطرب جيشه بفارس فكتب معز الدولة إلى الصيمري بالمبادرة إلى شيراز لإصلاح الأمور بها فترك عمران
481

وسار إلى شيراز على ما نذكره في موت عماد الدولة فلما سار الصيمري عن البطائح ظهر عمران بن شاهين من استتاره وعاد إلى أمره وجمع من تفرق من أصحابه وقوى أمره وسنذكر من أخباره فيما بعد ما تدعو الحاجة إليه.
ذكر موت عماد الدولة بن بويه
في هذه السنة مات عماد الدولة أبو الحسن علي بن بويه بمدينة شيراز في جمادى الآخرة وكانت علته التي مات بها قرحة في كلاه طالت به وتوالت عليه الأسقام
والأمراض فلما أحس بالموت أنفذ إلى أخيه ركن الدولة يطلب منه أن ينفذ إليه ابنه عضد الدولة فناخسرو ليجعله ولي عهده ووارث مملكته بفارس لأن عماد الدولة لم يكن له ولد ذكر فأنفذ ركن الدولة ولده عضد الدولة فوصل في حياة عمه قبل موته بسنة وسار في جملة ثقات أصحاب ركن الدولة فخرج عماد الدولة إلى لقائه في جميع عسكره وأجلسه في داره على السرير ووقف هو بين يديه وأمر الناس بالسلام على عضد الدولة والانقياد له وكان يوما عظيما مشهودا.
وكان في قواد عماد الدولة جماعة من الأكابر يخافهم ويعرفهم بطلب الرياسة وكانوا يرون أنفسهم أكبر منه نفسا وبيتا وأحق بالتقدم وكان يداريهم فلما جعل ولد أخيه في الملك خافهم عليه فأفناهم بالقبض وكان منهم قائدا كبير يقال له شيرنجين بن جليس فقبض عليه فشفع فيه أصحابه وقواده،
482

فقال لهم إني أحدثكم عنه بحديث فإن رأيتم بعد استماعه أن أطلقه فعلت فحدثهم أنه كان في خراسان في خدمة نصر بن أحمد ونحن يومئذ شرذمة قليلة من الديلم ومعنا هذا فجلس يوما نصر وفي خدمته من مماليكه ومماليك أبيه بضعة عشر ألفا سوى سائر العسكر فرأيت شيرنجين هذا قد جرد سكينا معه ولفه في كسائه فقلت له ما هذا فقال أريد أن اقتل هذا الصبي يعني نصرا ولا أبالي بالقتل بعده فإني قد أنفت نفسي من القيام في خدمته.
وكان عمر بن نصر بن أحمد يومئذ عشرين سنة وقد خرجت لحيته فعلمت أنه إذا فعل ذلك لم يقتل وحده بل نقتل كلنا فأخذت بيده وقلت له بيني وبينك حديث فمضيت به إلى ناحية وجمعت الديلم وحدثتهم حديثه فأخذوا منه السكين أفتريدون مني بعد أن سمعتم حديثه في معنى نصر أن أمكنه من الوقوف بين يدي هذا الصبي يعني ابن أخي فأمسكوا عنه وبقي محبوسا حتى مات في محبسه.
ومات عماد الدولة وبقي عضد الدولة بفارس فاختلف أصحابه، فكتب معز الدولة إلى وزيره الصيمري بالمسير إلى شيراز وترك محاربة عمران بن شاهين فسار إلى فارس ووصل ركن الدولة أيضا واتفقا على تقرير قاعدة عضد الدولة وكان ركن الدولة قد استخلف على الري علي بن كأمة وهو من أعيان أصحابه، ولما وصل ركن الدولة إلى شيراز ابتداء بزيارة قبر أخيه بإصطخر فمشى حافيا حاسرا ومعه العساكر على حاله ولزم القبر ثلاثة أيام إلى أن سأله القواد الأكابر ليرجع إلى المدينة فرجع إليها وأقام تسعة أشهر وأنفذ إلى أخيه معز الدولة شيئا كثيرا من المال والسلاح وغير ذلك.
وكان عماد الدولة في حياته هو أمير الأمراء فلما مات صار أخوه ركن
483

الدولة أمير الأمراء وكان معز الدولة هو المستولي على العراق والخلافة وهو كالنائب عنهما وكان عماد الدولة كريما حليما عاقلا حسن السياسة للملك والرعية وقد تقدم من أخباره ما يدل على عقله وسياسته.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة في جمادى الآخرة قلد أبو السائب عتبة بن عبد الله قضاء القضاة ببغداد.
وفيها في ربيع الآخر مات المستكفي بالله في دار السلطان وكانت علته نفث الدم.
484

339
ثم دخلت سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة
ذكر موت الصيمري ووزارة المهلبي
في هذه السنة توفي أبو جعفر محمد بن أحمد الصيمري وزير معز الدولة بأعمال الجامدة وكان قد عاد من فارس إليها وأقام يحاصر عمران بن شاهين فأخذته حمى حادة مات منها.
واستوزر معز الدولة أبا محمد الحسن بن محمد المهلبي في جمادى الأولى وكان يخلف الصيمري بحضرة معز الدولة فعرف أحوال الدولة والدواوين فامتحنه معز الدولة فرأى فيه ما يريده من الأمانة والكفاية والمعرفة بمصالح الدولة وحسن السيرة فاستوزره ومكنه من وزراته فأحسن السيرة وأزال كثيرا من المظالم خصوصا بالبصرة فإن البريديين كانوا قد أظهروا فيها كثيرا من المظالم فأزالها وقرب أهل العلم والأدب وأحسن إليهم وتنقل في البلاد لكشف ما فيها من المظالم وتخليص الأموال فحسن أثره رحمة الله تعالى.
ذكر غزو سيف الدولة بلاد الروم
في هذه السنة دخل سيف الدولة بن حمدان إلى بلاد الروم فغزا وأوغل فيها وفتح حصونا كثيرة وسبى وغنم فلما أراد الخروج من بلد الروم
485

أخذوا عليه المضايق فهلك من كان معه من المسلمين أسرا وقتلا واسترد الروم الغنائم والسبي وغنموا أثقال المسلمين وأموالهم ونجا سيف الدولة في عدد يسير.
ذكر إعادة القرامطة الحجر الأسود
في هذه السنة أعاد القرامطة الحجر الأسود إلى مكة وقالوا: أخذناه بأمر وأعدناه بأمر.
وكان بجكم قد بذل لهم في رده خمسين ألف دينار فلم يجيبوه وردوه الآن بغير شيء في ذي القعدة فلما أرادوا رده حملوه إلى الكوفة وعلقوه بجامعها حتى رآه الناس ثم حملوه إلى مكة وكانوا أخذوه من ركن البيت الحرام سنة سبع عشرة وثلاثمائة وكان مكثه اثنتين وعشرين سنة.
ذكر مسير الخراسانيين إلى الري
في السنة سار منصور بن قراتكين من نيسابور إلى الري في صفر أمره الأمير نوح بذلك وكان ركن الدولة ببلاد فارس علة ما ذكرناه فوصل منصور إلى الري وبها علي
بن كتامة خليفة ركن الدولة فسار علي عنها إلى أصبهان ودخل منصور الري واستولى عليها وفرق العساكر في البلاد
486

فملكوا بلاد الجبل إلى قرميسين وأزالوا عنها نواب ركن الدولة واستولوا على همذان وغيرها.
فبلغ الخبر إلى ركن الدولة وهو بفارس فكتب إلى أخيه معز الدولة يأمره بإنفاذ عسكر يدفع تلك العساكر عن النواحي المجاورة للعراق فسير سبكتكين الحاجب في عسكر ضخم من العساكر عن النواحي المجاورة للعراق فسير سبكتكين الحاجب في عسكر ضخم من الأتراك والديلم والعرب فلما سار سبكتكين عن بغداد خلف أثقاله وأسرى جريدة إلى من بقرميسين من الخراسانيين فكبسهم وهم غارون فقتل فيهم وأسر مقدمهم من الحمام واسمه بجكم الخمارتكيني فأنفذه مع الأسرى إلى معز الدولة فحبسه مدة ثم أطلقه.
فلما بلغ الخراسانية ذلك اجتمعوا إلى همذان فسار سبكتكين نحوهم ففارقوا همذان ولم يحاربوه ودخل سبكتكين همذان وأقام بها إلى ورد عليه ركن الدولة في شوال.
وسار منصور من الري في العساكر نحو همذان وبها ركن الدولة فلما بقي بينهما مقدار عشرين فرسخا عدل منصور إلى أصبهان ولو قصد همذان لانحاز ركن الدولة الدولة عنه وكان ملك البلاد بسبب اختلاف كان في عسكر ركن الدولة ولكنه عدل عنه لأمر يريده الله تعالى وتقدم ركن الدولة إلى سبكتكين بالمسير في مقدمته فلما أراد المسير شغب عليه بعض الأتراك مرة أخرى فقال ركن الدولة هؤلاء أعداؤنا ومعنا والرأي أن نبدأ بهم فواقعهم واقتتلوا فانهزم الأتراك.
وبلغ الخبر إلى معز الدولة فكتب إلى ابن أبي الشوك الكردي وغيره
487

يأمرهم بطلبهم والإيقاع بهم فطلبوهم وأسروا منهم وقتلوا ومضى من سلم منهم إلى الموصل وسار ركن الدولة نحو أصبهان ووصل ابن قراتكين إلى أصبهان فانتقل من كان بها من أصحاب ركن الدولة وأهله وأسبابه وركبوا الصعب والذلول حتى البقر والحمير وبلغ كراء الثور والحمار إلى خان لنجان مائة درهم وهي على تسعة فراسخ من أصبهان فلم يمكنهم مجاوزة ذلك الموضع ولو سار إليهم منصور لغنمهم وأخذ ما معهم وملك ما وراءهم إلا أنه دخل أصبهان وأقام بها.
ووصل ركن الدولة فنزل بخان لنجان وجرت بينهما حروب عدة أيام وضاقت الميرة على الطائفتين وبلغ بهم الأمر إلى أن ذبحوا دوابهم ولو أمكن ركن الدولة الانهزام لفعل ولكنه تعذر عليه ذلك واستشار وزيره أبا الفضل بن العميد في بعض الليالي في الهرب فقال له لا ملجأ لك إلا الله تعالى فانو للمسلمين خيرا وصمم العزم على حسن السيرة والإحسان إليهم فان الحيل البشرية كلها تقطعت بنا وان انهزمنا تبعونا وأهلكونا وهم أكثر منا فلا يفلت منا أحد فقال له قد سبقتك إلى هذا.
فلما كان الثلث الأخير من الليل أتاهم الخبر أن منصورا وعسكره قد عادوا إلى الري وتركوا خيامهم وكان سبب ذلك أن الميرة والعلوفة ضاقت عليهم أيضا إلا ان الديلم كانوا يصبرون ويقنعون بالقليل من الطعام وإذا ذبحوا دابة أو جملا اقتسمه الخلق الكثير منهم وكان الخراسانية بالضد منهم لا يصبرون ولا يكفيهم القليل فشغبوا على منصور واختلفوا وعادوا إلى الري فكان عودهم في المحرم سنة أربعين [وثلاثمائة]، فاتى الخبر ركن الدولة فلم يصدقه حتى تواتر عنده فركب هو وعسكره واحتوى
488

على ما خلفه الخراسانية.
حكى أبو الفضل بن العميد قال استدعاني ركن الدولة تلك الليلة الثلث الأخير وقال لي قد رأيت الساعة في منامي كأني على دابتي فيروز وقد انهزم عدونا وأنت تسير إلى جانبي وقد جاءنا الفرج من حيث لا نحتسب فمددت عيني فرأيت على الأرض خاتما فأخذته فإذا فصه من فيروزج فجعلته في إصبعي وتبركت به وانتبهت وقد أيقنت بالظفر فأن الفيروزج معناه الظفر ولذلك لقب الدابة فيروز.
قال ابن العميد: فأتانا الخبر والبشارة بأن العدو قد رحل فما صدقنا حتى تواترت الأخبار فركبنا ولا نعرف سبب هربهم وسرنا حذرين من كمين وسرت إلى جانب ركن الدولة وهو على فرسه فيروز فصاح ركن الدولة بغلام بين يديه ناولني ذلك الخاتم فأخذ خاتما من الأرض فناوله إياه فإذا هو فيروزج فجعله في إصبعه وقال هذا تأويل رؤياي وهذا الخاتم الذي رأيت منذ ساعة وهذا من أحسن ما يحكى وأعجبه.
ذكر أخبار بن شاهين وانهزام عساكر معز الدولة
وقد ذكرنا حال عمران بن شاهين بعد مسير الصيمري عنه وأنه زاد قوة وجراءة فأنفذ معز الدولة إلى قتاله روزبا أن وهو من أعيان عسكره فنازله وقاتله فطاوله عمران وتحصن منه في مضايق البطحية فضجر
489

روزبهان، وأقدم عليه طالبا للمناجزة فاستظهر عليه عمران وهزمه وأصحابه وقتل منهم وغنم جميع ما معهم من السلاح وآلات الحرب فقوي بها وتضاعفت قوته فطمع أصحابه في السلطان فصاروا إذا اجتاز بهم أحد من أصحاب السلطان يطلبون الحرب فقوي بها وتضاعفت قوته فطمع أصحابه في السلطان فصاروا إذا اجتاز بهم أحد من أصحاب السلطان يطلبون منه البذرقة والخفارة فإن أعطاهم وإلا ضربوه واستخفوا به وشتموه.
وكان الجند لا بد لهم من العبور عليهم إلى ضياعهم ومعايشهم بالبصرة وغيرها ثم انقطع الطريق إلى البصرة إلا على الظهر فشكا الناس ذلك إلى معز الدولة، فكتب إلى المهلبي بالمسير إلى واسط لهذا السبب وكان بالبصرة فأصعد إليها وأمده معز الدولة بالقواد والأجناد والسلاح وأطلق يده في الإنفاق فزحف إلى البطيحة وضيق على عمران وسد المذاهب عليه فانتهى إلى المضايق لا يعرفها إلا عمران وأصحابه وأحب روزبهان أن يصيب المهلبي بما أصابه من الهزيمة ولا يستبد بالظفر والفتح وأشار على المهلبي بالهجوم على عمران فلم يقبل منه فكتب إلى معز الدولة يعجز المهلبي ويقول إنه يطاول لينفق الأموال ويفعل ما يريد فكتب معز الدولة بالعتب والاستبطاء فترك المهلبي الحزم وما كان يريد [أن] يفعله ودخل بجميع عسكره وهجم على مكان عمران وكان قد جعل الكمناء في تلك المضايق وتأخر روزبهان ليسلم عند الهزيمة.
فلما تقدم المهلبي خرج عليه وعلى أصحابه الكمناء ووضعوا فيهم السلاح فقتلوا وغرقوا وأسروا وانصرف روزبهان سالما هو وأصحابه وألقى
490

المهلبي نفسه في الماء فنجا سباحة وأسر عمران القواد والأكابر فاضطر معز الدولة إلى مصالحته وإطلاق من عنده من أهل عمران وإخوته فاطلق عمران من في أسره من أصحاب معز الدولة وقلده معز الدولة البطائح فقوي واستفحل أمره.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة ليلة السبت رابع عشر ذي الحجة طلع القمر منكسفا وانكسف جميعه.
وفيها في المحرم توفي أبو بكر محمد بن أحمد بن قرابة بالموصل وحمل تابوته إلى بغداد.
وفيها توفي أبو نصر محمد بن محمد الفارابي الحكيم الفيلسوف صاحب التصانيف فيها وكان موته بدمشق وكان تلميذ يوحنا بن حيلان وكانت وفاة يوحنا أيام المقتدر بالله.
وفيها مات أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي النحوي وقيل سنة أربعين [وثلاثمائة].
491

340
ثم دخلت سنة أربعين وثلاثمائة
ذكر وفاة منصور بن قراتكين وأبي المظفر بن محتاج
في هذه السنة مات منصور بن قراتكين صاحب جيوش الخراسانية في شهر ربيع الأول بعد عوده من أصبهان إلى الري فذكر العراقيون أنه أدمن الشرب عدة أيام بلياليها فمات فجأة وقال الخراسانيون إنه مرض ومات والله أعلم.
ولما مات رجعت العساكر الخراسانية إلى نيسابور وحمل تابوت منصور ودفن إلى جانب والده بأسبيجاب.
ومن عجيب ما يحكى أن منصورا لما سار من نيسابور إلى الري سير غلاما له إلى أسبيجاب ليقيم في رباط والده قراتكين الذي فيه قبره فلما ودعه قال كأنك بي قد حملت في تابوت إلى تلك البرية فكان كما قال بعد قليل مات وحمل تابوته إلى ذلك الرباط ودفن عند قبر والده.
وفيها توفي أبو المظفر بن أبي علي بن محتاج ببخارى كان قد ركب دابة أنفذها إليه أبوه فألقته وسقطت عليه فهشمته ومات من يومه وذلك في ربيع الأول وعظم موته على الناس كافة وشق موته على الأمير نوح وحمل إلى الصغانيان إلى والده أبي علي وكان مقيما بها.
492

ذكر عود أبي علي إلى خراسان
وفي هذه السنة أعيد أبو علي بن محتاج إلى قيادة الجيوش بخراسان وأمر بالعود إلى نيسابور.
وكان سبب ذلك أن منصور بن قراتكين كان قد تأذى بالجند واستعصب إيالتهم وكانوا قد استبدوا بالأمور دونه وعاثوا في نواحي نيسابور فتواترت كتبه إلى الأمير نوح بالاستعفاء من ولايتهم ويطلب أن يقتصر به على هراة وتولى ما بيده من أراد نوح فكان نوح يرسل إلى أبي علي بعده بإعادته إلى مرتبته فلما توفي منصور أرسل الأمير نوح إلى أبي علي الخلع واللواء وأمره بالمسير إلى نيسابور واقطع الري وأمره بالمسير إليها فسار عن الصغانيان في شهر رمضان واستخلف مكانه ابنه أبا منصور ووصل إلى مرو وأقام بها إلى أن أصلح أمر خوارزم وكانت شاغرة وسار إلى نيسابور فوردها في ذي الحجة فأقام بها.
ذكر الحرب بصقلية بين المسلمين والروم
كان المنصور العلوي صاحب أفريقية قد استعمل على صقلية سنة ست وثلاثين وثلاثمائة الحسن بن علي بن أبي الحسين الكلبي فدخلها
493

واستقر بها كما ذكرناه وغزا الروم الذين بها عدة غزوات فاستمدوا بملك القسطنطينية فسير إليهم جيشا كثيرا فنزلوا إذرنت فأرسل الحسن بن علي إلى المنصور يعرفه الحال فسير إليه فهادن أهل جراجة على مال يؤدونه وسار إلى الروم فلما سمعوا بقربه منهم وبث السرايا في أرض قلورية وحاصر الحسن جراجة أشد حصار فأشرف أهلها على الهلاك من شدة العطش ولم يبق إلا أخذها فأتاه الخبر أن عسكر الروم واصل إليه فهادن أهل جراجة على مال يؤدونه وسار إلى الروم فلما سمعوا بقربه منهم انهزموا بغير قتال وتركوا اذرنت.
ونزل الحسن على قلعة قسانة وبث سراياه تنهب فصالحه أهل قسانة على مال ولم يزل كذلك إلى شهر ذي الحجة وكان المصاف بين المسلمين وعسكر قسطنطينية ومن معه من الروم الذين بصقلية ليلة الأضحى واقتتلوا واشتد القتال فانهزم الروم وركبهم المسلمون يقتلون ويأسرون إلى الليل وغنموا جميع أثقالهم وسلاحهم ودوابهم وسير الرؤوس إلى مدائن صقلية وأفريقية وحصر الحسن جراجة فصالحوه على مال يحملونه ورجع عنهم وسير سرية إلى مدينة بطرقوقة ففتحوها وغنموا ما فيها ولم يزل الحسن بجزيرة صقلية إلى سنة إحدى وأربعين [وثلاثمائة] فمات المنصور فسار عنها إلى أفريقية واتصل بالمعز بن المنصور واستخلف على صقلية ابنه أبا الحسين أحمد.
494

ذكر عدة حوادث
في هذه السنة رفع إلى المهلبي أن رجلا يعرف بالبصري مات ببغداد وهو مقدم القراقرية يدعي أن روح أبي جعفر محمد بن علي بن أبي القراقر قد حلت فيه وأنه خلف مالا كثيرا كان يجيبه من هذه الطائفة وأن له أصحابا يعتقدون ربوبيته وأن أرواح الأنبياء والصديقين حلت فيهم فأمر بالختم على التركة والقبض على أصحابه والذي قام بأمرهم بعده فلم يجد إلا مالا يسيرا ورأى دفاتر فيها أشياء من مذاهبهم.
وكان فيهم غلام شاب يدعي أن روح علي بن أبي طالب حلت فيه وامرأة يقال لها فاطمة تدعي أن روح فاطمة حلت فيها وخادم لبني بسطام يدعي أنه ميكائيل فأمرهم بهم
المهلبي فضربوا ونالهم مكروه ثم إنهم توصلوا بمن ألقى إلى معز الدولة من أنهم شيعة علي بن أبي طالب فأمر باطلاقهم وخاف المهلبي أن يقيم على تشدده في أمرهم فينسب إلى ترك التشيع فسكت عنهم.
وفي هذه السنة توفي عبد الله بن الحسين بن لآل أبو الحسن الكرخي الفقيه الحنفي المشهور في شعبان ومولده سنة ستين ومائتين وكان عابدا معتزليا.
وفيها توفي أبو جعفر الفقيه ببخارى.
495

341
ثم دخلت سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة
ذكر حصار البصرة
في هذه السنة سار يوسف بن وجيه صاحب عمان في البحر والبر إلى البصرة فحصرها.
وكان سبب ذلك أن معز الدولة لما سلك البرية إلى البصرة وارسل القرامطة ينكرون عليه ذلك وأجابهم بما ذكرناه علم يوسف بن وجيه استيحاشهم من معز الدولة فكتب إليهم يطمعهم في البصرة وطلب منهم أن يمدوه من ناحية البر فأمدوه بجمع كثير منهم وسار يوسف في البحر فبلغ الخبر الوزير المهلبي وقد فرغ من الأهواز والنظر فيها فسار مجدا في العساكر إلى البصرة فدخلها قبل وصول يوسف إليها وشحنها بالرجال وأمده معز الدولة بالعساكر وما يحتاج إليه ويحارب هو وابن وجيه أياما ثم أنهزم ابن وجيه وظفر المهلبي بمراكبه وما معه من سلاح وغيره.
496

ذكر وفاة المنصور العلوي وملك ولده المعز
في هذه السنة توفي المنصور بالله أبو الطاهر إسماعيل بن القائم أبي القاسم محمد بن عبيد الله المهدي سلخ شوال وكانت خلافته سبع سنين وستة عشر يوما وكان عمره تسعا وثلاثين سنة وكان خطيبا بليغا يخترع الخطبة لوقته وأحواله مع أبي يزيد الخارجي وغيره تدل على شجاعة وعقل.
وكان سبب وفاته أنه خرج إلى سفاقس وتونس ثم إلى قابس وأرسل إلى أهل جزيرة جربة يدعوهم إلى طاعته فأجابوه إلى ذلك وأخذ منهم رجالا معه وعاد وكانت سفرته شهرا وعهد إلى ابنه معد بولاية العهد فلما كان رمضان خرج متنزها أيضا إلى مدينة جلولاء وهو موضع كثير الثمار وفيه من الأترج ما لا يرى مثله في عظمه يكون شيء يحمل الجمل منه أربع أترنجات فحمل منه إلى قصره.
وكان للمنصور جارية حظية عنده فلما رأته استحسنته وسألت المنصور أن تراه في أغصانه فأجابها إلى ذلك ورحل إليها في خاصته وأقام بها أياما ثم عاد إلى المنصورية فأصابه في الطريق ريح شديد وبرد ومطر ودام عليه فصبر وتجلد وكثر الثلج فمات جماعة من الذين معه واعتل
497

المنصور علة شديدة لأنه لما وصل إلى المنصورية أراد دخول الحمام فنهاه طبيبه إسحاق بن سليمان الإسرائيلي عن ذلك قلم يقبل منه ودخل الحمام ففنيت الحرارة الغريزية منه ولازمه السهر فاقبل إسحاق يعالج المرض والسهر باق بحاله فاشتد ذلك على المنصور فقال لبعض الخدم أما في القيروان طبيب غير إسحاق يخلصني من هذا الأمر قال ههنا شاب قد نشأ الآن اسمه إبراهيم فأمر بإحضاره وشكا إليه ما يجده من السهر فجمع له أشياء منومة وجعلت في قنينة على النار وكلفه شمها فلما أدمن شمها نام.
وخرج إبراهيم وهو مسرور بما فعل وبقي المنصور نائما فجاء إسحاق فطلب الدخول عليه فقيل هو نائم فقال ان كان له شيء ينام منه فقد مات فدخلوا عليه فوجدوه ميتا فدفن في قصره وأرادوا قتل إبراهيم فقال إسحاق ما له ذنب إنما داواه بما ذكره الأطباء غير أنه جهل أصل المرض وما عرفتموه وذلك أنني كنت في معالجته أنظر في تقوية الحرارة الغريزة وبها يكون النوم فلما عولج بالأشياء المطفئة لها علمت أنه قد مات.
ولما مات ولي الأمر بعده ابنه معد وهو المعز لدين الله وأقام في تدبير الأمور إلى سابع ذي الحجة فأذن للناس فدخلوا عليه وجلس لهم فسلموا عليه بالخلافة وكان عمره أربعا وعشرين سنة.
فلما دخلت سنة ست وأربعين صعد جبل أوراس وجال فيه عسكره وهو ملجأ كل منافق على الملوك وكان فيه بنو كملان ومليلة وقبيلتان من هوارة لم يدخلوا في طاعة من تقدمه فأطاعوا المعز ودخلوا معه
498

البلاد، وأمر نوابه بالإحسان إلى البربر فلم يبق منهم أحد إلا أتاه وأحسن إليهم المعز وعظم أمره ومن جملة من استأمن إليه محمد بن خزر الزناتي أخو معبد فأمنه المعز وأحسن إليه.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة في ربيع الأول ضرب معز الدولة وزيره أبا محمد المهلبي بالمقارع مائة وخمسين مقرعة ووكل به في داره ولم يعزله من وزارته وكان نقم عليه أمورا ضربه بسببها.
وفيها في ربيع الآخر وقع حريق عظيم ببغداد في سوق الثلاثاء فاحترق فيه الناس ما لا يحصى.
وفي هذه السنة ملك الروم مدينة سروج وسبوا أهلها وغنموا أموالهم وأخربوا المساجد.
وفيها سار ركن الدولة من الري إلى طبرستان وجرجان فسار عنها إلى ناحية نسا وأقام بها واستولى ركن الدولة على تلك البلاد وعاد عنها إلى الري واستخلف بجرجان
الحسن ابن فيرزان وعلي بن كأمة فلما رجع ركن الدولة عنها قصدها وشمكير.
فانهزموا منه واستردها وشمكير وفيها ولد أبو الحسن علي بن ركن الدولة بن بويه وهو فخر الدولة وفيها توفي أبو علي إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الصفار النحوي المحدث وهو من أصحاب المبرد وكان مولده سنة سبع وأربعين ومائتين وكان مكثرا من الحديث.
499

342
ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة
ذكر هرب ديسم عن أذربيجان
في هذه السنة هرب ديسم بن إبراهيم أبو سالم عن أذربيجان وكنا قد ذكرنا استيلاءه عليها.
وأما سبب هربه عنها فإنه كان ركن الدولة بن بويه قد قبض على بعض قواده واسمه علي بن ميسكي فأفلت من الحبس وقصد الجبل وجمع جمعا وسار إلى وهسوذان أخي المرزبان فاتفق معه وتساعدا على ديسم.
ثم إن المرزبان استولى على قلعة سميرم على ما نذكره ووصلت كتبه إلى أخيه وعلي بن ميسكي بخلاصه وكاتب الديلم واستمالهم ولم يعلم ديسم بخلاصه إنما كان يظن أن وهسوذان وعلي بن ميسكي يقاتلانه.
وكان له وزير يعرف بأبي عبد الله النعيمي فشره إلى ماله وقبض عليه واستكتب انسانا كان يكتب للنعيمي فاحتال النعيمي بأن أجابه إلى كل ما التمس منه وضمن منه ذلك الكاتب بمال فأطلقه ديسم وسلم إليه كاتبه وأعاده إلى حاله.
ثم سار ديسم وخلفه بأردبيل ليحصل المال الذي بذله فقتل النعيمي ذلك
500

الكاتب وهرب بما معه من المال إلى علي بن ميسكي فبلغ الخبر ديسم بقرب زنجان فعاد إلى أردبيل فشغب الديلم عليه ففرق فيهم ما كان له من مال وأتاه الخبر بمسير علي بن ميسكي إلى أردبيل في عدة يسيرة فسار نحوه والتقيا واقتتلا فانحاز الديلم إلى علي وانهزم ديسم إلى أرمينية في نفر من الأكراد فحمل إليه ملوكها ما تماسك به.
وورد عليه الخبر بمسير المرزبان عن قلعة سميرم إلى أردبيل واستيلائه على آذربيجان وإنفاذه جيشا نحوه فلم يمكنه المقام فهرب عن أرمينية إلى بغداد فكان وصوله هذه السنة فلقيه معز الدولة وأكرمه وأحسن إليه فأقام عنده في أرغد عيش.
ثم كاتبه أهله وأصحابه بأذربيجان يستدعونه فرحل عن بغداد سنة ثلاث وأربعين [وثلاثمائة] وطلب من معز الدولة أن ينجده بعسكر فلم يفعل لأن المرزبان قد كان صالح ركن الدولة وصاهره فلم يمكن معز الدولة مخالفة ركن الدولة فسار ديسم إلى ناصر الدولة بن حمدان بالموصل يستنجده فلم ينجده فسار إلى سيف الدولة بالشام وأقام عنده إلى سنة أربع وأربعين وثلاثمائة.
واتفق أن المرزبان خرج عليه جمع بباب الأبواب فسار إليهم فأرسل مقدم من أكراد أذربيجان إلى ديسم يستدعيه إلى أذربيجان ليعاضده على ملكها فسار إليها ملك مدينة سلماس فأرسل إليه المرزبان قائدا من قواده فقاتله فاستأمن أصحاب القائد إلى ديسم فعاد القائد منهزما ويقي ديسم بسلماس.
فلما فرغ المرزبان من أمر الخوارج عليه عاد إلى آذربيجان فلما قرب من ديسم فارق سلماس وسار إلى أرمينية وقصد ابن الديراني وابن حاجيق
501

لثقته بهما، فكتب المرزبان إلى ابن الديراني يأمره بالقبض على ديسم فدافعه ثم قبض عليه خوفا من المرزبان فلما قبض عليه أمره المرزبان بأن يحمله إليه فدافعه ثم اضطر إلى تسليمه فلما تسلمه المرزبان سمله وأعماه وثم حبسه فلما توفي المرزبان قتل ديسم بعض أصحاب المرزبان خوفا من غائلته.
ذكر استيلاء المرزبان على سميرم
قد ذكرنا أسر المرزبان وحبسه بسميرم وأما سبب خلاصه فإن والدته وهي ابنة جستان ابن وهسوذان الملك وضعت جماعة للسعي في خلاصه فقصدوا سميرم وأظهروا أنهم تجار وأن المرزبان قد أخذ منهم أمتعة نفيسة ولم يوصل ثمنها إليهم واجتمعوا بمتولي سميرم ويعرف بشير أسفار وعرفوه ما ظلهم به المرزبان وسألوه أن يجمع بينه وبينهم ليحاسبوه وليأخذوا خطه إلى والدته بايصال ما لهم إليهم فرق لهم بشير أسفار وجمع بينه وبينهم فطالبوه بمالهم فأنكر المرزبان ذلك فغمزه أحدهم ففطن لهم واعترف لهم وقال حتى أتذكر ما لكم فإنني لا أعرف مقداره فأقاموا هناك وبذلوا الأموال لبشير أسفار والأجناد وضمنوا لهم الأموال الجليلة إذا خلص ما لهم عند المرزبان فصاروا لذلك يدخلون الحصن بغير إذن وكثر اجتماعهم بالمرزبان وأوصلوا إليه أموالا من عند والدته وأخبارا وأخذوا منه ما عنده من
502

الأموال.
وكان لبشير أسفار غلام أمرد جميل الوجه يحمل ترسه وزوبينه فأظهر المرزبان لذلك الغلام محبة شديدة وعشقا وأعطاه مالا كثيرا مما جاءه من والدته فواطأه على ما يريد وأوصل إليه درعا ومبارد فبردقيده واتفق المرزبان وذلك الغلام والذين جاؤوا لتخليص المرزبان على أن يقتلوا بشير أسفار في يوم ذكروه.
وكان بشير أسفار يقصد المرزبان كل أسبوع ذلك اليوم يفتقده وقيوده ويصبره ويعود فلما كان يوم الموعد دخل أحد أولئك التجار فقعد عند المرزبان وجلس آخر عند البواب وأقام الباقون عند باب الحصن ينتظرون الصوت ودخل بشير أسفار إلى المرزبان فتلطف به المرزبان وسأله أن يطلقه وبذل له أموالا جليلة وأقطاعا كثيرا فامتنع عليه وقال لا أخون ركن الدولة أبدا فنهض المرزبان وقد أخرج رجله من قيده وتقدم إلى الباب فأخذ الترس والزوبين من ذلك الغلام وعاد إلى بشير أسفار فقتله هو وذلك التاجر الذي عنده وثار الرجل الذي عند البواب به فقتله ودخل من كان عند باب الحصن إلى المرزبان.
وكان أجناد القلعة متفرقين فلما وقع الصوت اجتمعوا فرأوا صاحبهم قتيلا فسألوا الأمان فأمنهم المرزبان وأخرجهم من القلعة واجتمع إليه أصحابه وغيرهم وكثر جمعه وخرج فلحق بأمه وأخيه واستولى على البلاد على ما ذكرناه قبل.
503

ذكر مسير أبي علي إلى الري
لما كان من أمر وشمكير وركن الدولة ما ذكرناه كتب وشمكير إلى الأمير نوح يستمده فكتب نوح إلى أبي علي محتاج يأمره بالمسير في جيوش خراسان إلى الري وقتال ركن الدولة فسار أبو علي في جيوش كثيرة واجتمع معه وشمكير فسارا إلى الري في شهر ربيع الأول من هذه السنة.
وبلغ الخبر ركن الدولة فعلم أنه لا طاقة له بمن قصده فرأى أن يحفظ بلده ويقاتل عدوه من وجه واحد فحارب الخراسانيين بطبرك وأقام عليه أبو علي عدة شهور يقاتله فلم يظفر به وهلكت دواب الخراسانية وأتاهم الشتاء وملوا فلم يصبروا فاضطر أبو علي إلى الصلح فتراسلوا في ذلك وكان الرسول أبا جعفر الخازن صاحب كتاب زيج الصفائح وكان عارفا بعلوم الرياضة وكان المشير به محمد بن عبد الرزاق المقدم ذكره فتصالحا وتقرر على ركن الدولة كل سنة مائتا ألف دينار وعاد أبو علي إلى خراسان.
وكتب وشمكير إلى الأمير نوح يعرفه الحال وذكر له أن أبا علي لم يصدق في الحرب وأنه مالأ ركن الدولة فاغتاظ نوح من أبي علي وأما ركن الدولة فإنه لما عاد عنه أبو علي سار نحو وشمكير فانهزم وشمكير من بين يديه إلى أسفراين واستولى ركن الدولة على طبرستان.
504

ذكر عزل أبي علي عن خراسان
لما اتصل خبر عود أبي علي عن الري إلى الأمير نوح ساءه ذلك وكتب وشمكير إلى نوح يلزم الذنب فيه أبا علي فكتب إلى أبي علي بعزله عن خراسان وكتب إلى القواد يعرفهم أنه قد عزله عنهم فاستعمل على الجيوش بعده أبا سعيد بكر بن مالك الفرغاني فأنفذ أبو علي يعتذر وراسل جماعة من أعيان نيسابور يقيمون عذره ويسألون أن لا يعزل عنهم فلم يجابوا إلى ذلك وعزل أبو علي عن خراسان وأظهر الخلاف وخطب لنفسه بنيسابور.
وكتب نوح إلى وشمكير والحسن بن فيرزان يأمرهما بالصلح وأن يتساعدا على من يخالف الدولة ففعلا ذلك فلما علم أبو علي باتفاق الناس مع نوح عليه كاتب ركن الدولة في المصير إليه لأنه علم أنه لا يمكنه المقام بخراسان ولا يقدر على العود إلى الصغانيان فاضطر إلى مكاتبة ركن الدولة في المصير إليه فأذن له في ذلك.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة في الحادي والعشرين من شباط ظهر بسواد العراق جراد كثير أقام أياما واثر في الغلات أثارا قبيحة وكذلك ظهر بالأهواز وديار الموصل والجزيرة والشام وسائر النواحي ففعل مثل ما فعله بالعراق.
وفيها عاد رسل كان الخليفة أرسلهم إلى خراسان للصلح بين ركن الدولة
505

ونوح صاحب خراسان فلما وصلوا إلى حلوان خرج عليهم ابن أبي الشوك في أكراده فنهبهم ونهب القافلة التي كانت معهم وأسر الرسل ثم أطلقهم فسير معز الدولة عسكرا إلى حلوان فأوقعوا بالأكراد وأصلحوا البلاد هناك وعادوا.
وفيها سير الحجاج الشريفان أبو الحسن محمد بن عبد الله وأبو عبد الله أحمد بن عمر بن يحيى العلويان فجرى بينهما وبين عساكر المصريين من أصحاب ابن طغج حرب شديدة وكان الظفر لهما فخطب لمعز الدولة بمكة فلما خرجا من مكة لحقهما عسكر مصر فقاتلهما فظفرا به أيضا.
وفيها توفي علي بن أبي الفهم داود أبو القاسم جد القاضي علي بن الحسن بن علي التنوخي في ربيع الأول وكان عالما بأصول المعتزلة والنجوم وله شعر وفيها في رمضان مات الشريف أبو علي بن عمر بن علي العلوي الكوفي ببغداد بصرع لحقه.
وفيها في شوال مات أبو عبد الله محمد بن سليمان بن فهد الموصلي.
وفيها مات أبو الفضل العباس بن فسانجس بالبصرة من ذرب لحقه وحمل إلى الكوفة فدفن بمشهد أمير المؤمنين علي وتقلد الديوان بعده ابنه أبو الفرج وأجرى على قاعدة أبيه.
وفيها في ذي القعدة ماتت بدعة المغنية المشهورة المعروفة ببدعة الحمدونية عن اثنتين وتسعين سنة.
506

343
ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة
ذكر حال أبي علي بن محتاج
قد ذكرنا من أخبار أبي علي ما تقدم فلما كتب إلى ركن الدولة يستأذنه في المصير إليه أذن له فسار إلى الري فلقيه ركن الدولة وأكرمه وأقام له الإنزال والضيافة ولمن معه وطلب أبو علي أن يكتب له عهدا من جهة الخليفة بولاية خراسان فأرسل ركن الدولة إلى معز الدولة في ذلك فسير له عهدا بما طلب وسير له نجدة من عسكره فسار أبو علي إلى خراسان واستولى على نيسابور وخطب للمطيع بها وبما استولى عليه من خراسان ولم يكن يخطب له بها قبل ذلك.
ثم إن نوحا مات في خلال ذلك وتولى بعده ولده عبد الملك فلما استقر أمره سير بكر بن مالك إلى خراسان من بخارى وجعله مقدما على جيوشها وأمره بإخراج أبي علي من خراسان فسار في العساكر نحو أبي علي فتفرق عن أبي علي أصحابه وعسكره وبقي معه من أصحابه مائتا رجل سوى من كان عنده من الديلم نجدة له فاضطر إلى
الهرب فسار نحو ركن الدولة فأنزله معه في الري واستولى ابن مالك على خراسان فأقام بنيسابور وتتبع أصحاب أبي علي.
507

ذكر موت الأمير نوح بن نصر وولاية ابنه عبد الملك
وفي هذه السنة مات الأمير نوح بن نصر الساماني في ربيع الآخر وكان يلقب بالأمير الحميد وكان حسن السيرة كريم الأخلاق ولما توفي ملك بعده ابنه عبد الملك وكان قد استعمل بكر بن مالك على جيوش خراسان كما ذكرنا فمات قبل أن يسير بكر إلى خراسان فقام بكر بأمر عبد الملك بن نوح وقرر أمره فلما استقر حاله وثبت ملكه أمر بكرا بالمسير إلى خراسان فسار إليها وكان من أمره مع أبي علي ما قدمنا ذكره.
ذكر غزاة لسيف الدولة بن حمدان
في هذه السنة في شهر ربيع الأول غزا سيف الدولة بن حمدان بلاد الروم فقتل وأسر وسبى وغنم وكان فيمن قتل قسطنطين بن الدمستق فعظم الأمر على الروم وعظم الأمر على الدمستق فجمع عساكره من الروم والروس والبلغار وغيرهم وقصد الثغور فسار إليه سيف الدولة بن حمدان فالتقوا عند الحدث في شعبان فاشتد القتال بينهم وصبر الفريقان ثم ان الله تعالى نصر المسلمين فانهزم الروم وقتل منهم وممن معهم خلق عظيم وأسر صهر الدمستق وابن ابنته وكثير من بطارقته وعاد الدمستق مهزوما مسلولا.
508

ذكر عدة حوادث
في هذه السنة كان بخراسان والجبال وباء عظيم هلك فيه خلق كثير لا يحصون كثرة.
وفيها صرف الأبرعاجي عن شرطة بغداد وصودر على ثلاثمائة ألف درهم ورتب مكانه بكبيك نقيب الأتراك.
وفيها سار ركن الدولة إلى جرجان ومعه أبو علي بن محتاج فدخلها بغير حرب وانصرف وشمكير عنها إلى خراسان.
وفيها وقعت الحرب بمكة بين أصحاب معز الدولة وأصحاب طغج من المصريين فكانت الغلبة لأصحاب معز الدولة فخطب بمكة والحجاز لركن الدولة ومعز الدولة وولده عز الدولة بختيار وبعدهم لابن طغج.
وفيها أرسل معز الدولة سبكتكين في جيش إلى شهرزور في رجب ومعه المنجنيقات لفتحها فسار إليها وأقام بتلك الولاية إلى المحرم من سنة أربع وأربعين وثلاثمائة فعاد ولم يمكنه فتحها لأنه اتصل به خروج عساكر خراسان إلى الري على ما نذكره أن شاء الله تعالى فعاد إلى بغداد فدخلها في المحرم.
وفيها في شوال مات أبو الحسين محمد بن العباس بن الوليد المعروف بابن النحوي الفقيه.
وفيها في شوال أيضا مات أبو جعفر محمد بن القاسم الكرخي.
509

344
ثم دخلت سنة أربع وأربعين وثلاثمائة
ذكر مرض معز الدولة وما فعله ابن شاهين
كان قد عرض لمعز الدولة في ذي القعدة سنة ثلاث وأربعين [وثلاثمائة] مرض يسمى فريافسمس وهو دوام الإنعاظ مع وجع شديد في ذكره مع توتر أعصابه وكان معز الدولة خوارا في أمراضه فأرجف الناس به واضطربت بغداد فاضطر إلى الركوب فركب في ذي الحجة على ما به من شدة المرض، فلما كان في المحرم من سنة أربع وأربعين وثلاثمائة أوصى إلى ابنه بختيار وقلده الأمر بعده وجعله أمير الأمراء.
وبلغ عمران بن شاهين أن معز الدولة قد مات واجتاز عليه مال يحمل إلى معز الدولة من الأهواز وفي صحبته خلق كثير من التجار فخرج عليهم فأخذ له الجميع فلما عوفي معز الدولة راسل ابن شاهين في المعنى فرده عليه ما أخذه له وحصل له أموال التجار وانفسخ الصلح بينهما وكان ذلك في المحرم.
510

ذكر خروج الخراسانية إلى الري وأصبهان
في هذه السنة خرج عسكر خراسان إلى الري وبها ركن الدولة كان قد قدمها من جرجان أول المحرم فكتب إلى أخيه معز الدولة يستمده فأمده بعسكر مقدمهم الحاجب سبكتكين وسير من خراسان عسكرا آخر إلى أصبهان على طريق المفازة وبها الأمير أبو منصور بويه بن ركن الدولة.
فلما بلغه خبرهم سار عن أصبهان بالخزائن والحرم التي لأبيه فبلغوا خان لنجان وكان مقدم العسكر الخراساني محمد بن ما كان فوصلوا إلى أصبهان فدخلوها وخرج ابن ما كان منها في طلب بويه فأدرك الخزائن فأخذها وسار في أثره، وكان من لطف من الله به ان الأستاذ أبا الفضل بن العميد وزير ركن الدولة اتصل بهم في تلك الساعة فعارض ابن ما كان وقاتله فانهزم أصحاب ابن العميد عنه واشتغل أصحاب ابن ما كان بالنهب.
قال ابن العميد: فبقيت وحدي وأردت اللحاق بأصحابي ففكرت وقلت: بأي وجه ألقي صاحبي وقد أسلمت أولاده وأهله وأمواله وملكه ونجوت بنفسي فرأيت القتل أيسر علي من ذلك فوقفت وعسكر ابن ما كان ينهب أثقالي وأثقال عسكري فلحق بابن العميد نفر من أصحابه ووقفوا معه وأتاهم غيرهم فاجتمع معهم جماعة فحمل على الخراسانيين وهم مشغولون بالنهب وصاحوا فيهم فانهزم الخراسانيون فأخذوا من بين قتيل وأسير وأسر ابن ما كان وأحضر عند ابن العميد وسار ابن العميد إلى أصبهان فأخرج من كان بها من أصحاب ابن ما كان وأعاد أولاد ركن الدولة وحرمه إلى أصبهان واستنقذ أمواله.
511

ثم أن ركن الدولة راسل بكر بن مالك صاحب جيوش خراسان واستماله فاصطلحا على مال يحمله ركن الدولة إليه ويكون الري وبلد الجبل بأسره مع ركن الدولة وأرسل
ركن الدولة إلى أخيه معز الدولة يطلب خلعا ولواء بولاية خراسان بن مالك فأرسل إليه ذلك.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة وقع بالري وباء كثير مات فيه من الخلق مالا يحصى وكان فيمن مات أبو علي بن محتاج الذي كان صاحب جيوش خراسان ومات معه ولده وحمل أبو علي إلى الصغانيان وعاد من كان معه من القواد إلى خراسان.
وفيها وقع الأكراد بناحية ساوة على قفل من الحجاج فاستباحوه.
وفيها خرج بناحية دينوند رجل ادعى النبوة فقتل وخرج بأذربيجان رجل آخر يدعي أنه يحرم اللحوم وما يخرج من الحيوان وإنه يعلم الغيب فأضافه رجل أطعمه كشكية بشحم فلما أكلها قال له الست تحرم اللحم وما يخرج من الحيوان وإنك تعلم الغيب قال بلى قال فهذه الكشكية بشحم ولو علمت الغيب لما خفي عليك ذلك فاعرض الناس عنه.
وفيها أنشا عبد الرحمن الأموي صاحب الأندلس مركبا كبيرا لم يعمل
512

مثله، وسير فيه أمتعة إلى بلاد الشرق فلقي في البحر مركبا فيه رسول من صقلية إلى المعز فقطع عليه أهل المركب الأندلسي وأخذوا ما فيه وأخذوا الكتب التي إلى المعز فبلغ ذلك المعز فعمر أسطولا واستعمل عليه الحسن بن علي صاحب صقلية وسيره إلى الأندلس فوصلوا إلى المرية فدخلوا المرسي وأحرقوا جميع ما فيه من المراكب وأخذوا ذلك المركب وكان قد عاد من الإسكندرية، وفيه أمتعة لعبد الرحمن وجوار مغنيات وصعد من في الأسطول إلى البر فقتلوا ونهبوا ورجعوا سالمين إلى المهدية.
ولما سمع عبد الرحمن الأموي سير أسطولا إلى بعض بلاد أفريقية فنزلوا ونهبوا فقصدتهم عساكر المعز فعادوا إلى مراكبهم ورجعوا إلى الأندلس وقد قتلوا وقتل منهم خلق كثير.
513

345
ثم دخلت سنة خمس وأربعين وثلاثمائة
ذكر عصيان روزبهان على معز الدولة
في هذه السنة خرج روزبهان بن ونداد خرشيد الديلمي على معز الدولة وعصي عليه وخرج أخوه بلكا بشيراز وخرج أخوهما أسفار بالأهواز ولحق به روزبهان إلى الأهواز وكان يقاتل عمران بالبطيحة فعاد إلى واسط وسار إلى الأهواز في رجب وبها الوزير المهلبي فأراد محاربة روزبهان فاستأمن رجاله إلى روزبهان فانحاز المهلبي عنه.
وورد الخبر بذلك إلى معز الدولة فلم يصدق لإحسانه إليه لأنه رفعه بعد الضعة ونوه بذكره بعد الخمول فتجهز معز الدولة إلى محاربته ومال الديلم بأسرهم إلى روزبهان ولقوا معز الدولة بما يكره واختلفوا عليه وتتابعوا على المسير إلى روزبهان، وسار معز الدولة عن بغداد خامس شعبان وخرج الخليفة المطيع لله منحدرا إلى معز الدولة لأن ناصر الدولة لما بلغه الخبر سير العساكر من الموصل مع ولده أبي المرجى جابر لقصد بغداد والاستيلاء عليها فلما بلغ ذلك الخليفة انحدر من بغداد فأعاد معز الدولة الحاجب سبكتكين وغيره ممن يثق بهم من عسكره إلى بغداد فشغب الديلم الذين ببغداد فوعدوا بأرزاقهم فسكنوا وهم على قنوط من معز الدولة.
514

وأما معز الدولة فإنه سار إلى أن بلغ قنطرة أربق فنزل هناك وجعل على الطرق من يحفظ أصحاب الديلم من الاستئمان إلى روزبهان لأنهم كانوا يأخذون العطاء منه ثم يهربون عنه، وكان اعتماد معز الدولة على أصحابه الأتراك ومماليكه ونفر يسير من الديلم.
فلما كان سلخ رمضان أراد معز الدولة العبور هو وأصحابه الذين يثق بهم إلى محاربة روزبهان فاجتمع الديلم وقالوا لمعز الدولة إن كنا رجالك فأخرجنا معك ونقاتل بين يديك فإنه لا صبر لنا على القعود مع الصبيان والغلمان فان ظفرت كان الاسم لهؤلاء دوننا وأن ظفر عدوك لحقنا العار وإنما قالوا هذا الكلام خديعة ليمكنهم من العبور معه فيتمكنون منه فلما سمع قولهم سألهم التوقف وقال: إنما أريد [أن] أذوق حربهم ثم أعود فإذا كان الغد لقيناهم بأجمعنا وناجزناهم وكان يكثر لهم العطاء فأمسكوا عنه.
وعبر معز الدولة، وعبأ أصحابه كراديس تتناوب الحملات فما زالوا كذلك إلى غروب الشمس ففنى نشاب الأتراك وتعبوا وشكوا إلى معز الدولة ما أصابهم من التعب وقالوا: نستريح الليلة ونعود غدا فعلم معز الدولة إنه إن رجع زحف اليه روزبهان والديلم وثار معهم أصحابه الديلم فيهلك ولا يمكنه الهرب فبكى بين يدي أصحابه وكان سريع الدمعة ثم سألهم أن تجمع الكراديس كلها ويحملوا حملة واحدة وهو في أولهم فأما أن يظفروا وأما أن يقتل أول من يقتل فطالبوه بالنشاب فقال قد بقي مع صغار الغلمان نشاب فخذوه وأقسموه.
515

وكان جماعة صالحة من الغلمان الأصاغر تحتهم الخيل الجياد وعليهم اللبس الجيد وكانوا سألوا معز الدولة أن يأذن لهم في الحرب فلم يفعل وقال إذا جاء وقت يصلح لكم أذنت لكم في القتال فوجه إليهم تلك الساعة من يأخذ منهم النشاب وأومأ معز الدولة إليهم بيده أن اقبلوا منه وسلموا إليه النشاب فظنوا أنه يأمرهم بالحملة فحملوا وهم مستريحون فصدموا صفوف روزبهان فخرقوها وألقوا بعضها فوق بعض فصاروا خلفهم وحمل معز الدولة فيمن معه باللتوت فكانت الهزيمة على روزبهان وأصحابه وأخذ روزبهان أسيرا وجماعة من قواده وقتل من أصحابه خلق كثير وكتب معز الدولة بذلك فلم يصدق الناس لما علموا من قوة روزبهان وضعف معز الدولة وعاد إلى بغداد ومعه روزبهان ليراه الناس وسير سبكتكين إلى أبي المرجى بن ناصر الدولة وكان بعكبرا فلم يلحقه لأنه لما بلغه الخبر عاد إلى الموصل وسجن معز الدولة
روزبهان فبلغه أن الديلم قد عزموا على إخراجه قهرا والمبايعة له فأخرجه ليلا وغرقه.
واما أخو روزبهان الذي خرج بشيراز فان الأستاذ أبا الفضل بن العميد سار إليه في الجيوش فقاتله فظفر به وأعاد عضد الدولة بن ركن الدولة إلى ملكه وانطوى خبر روزبهان وإخوته وكان قد اشتعل اشتعال النار.
فقبض معز الدولة على جماعة من الديلم وترك من سواهم واصطنع الأتراك وقدمهم وأمرهم بتوبيخ الديلم والاستطالة عليهم ثم أطلق للأتراك إطلاقات زائدة على واسط والبصرة فساروا لقبضها مدلين بما صنعوا فأخربوا البلاد ونهبوا الأموال وصار ضررهم أكثر من نفعهم.
516

ذكر غزو سيف الدولة بلاد الروم
في هذه السنة في رجب سار سيف الدولة بن حمدان في جيوش إلى بلاد الروم وغزاها حتى بلغ خرشنة وصارخة وفتح عدة حصون وسبى وأسر وأحرق وخرب وأكثر القتل فيهم ورجع إلى أذنة فأقام بها حتى جاءه رئيس طرسوس فخلع عليه وأعطاه شيئا وكثيرا، وعاد إلى حلب.
فلما سمع الروم بما فعل جمعوا وساروا إلى ميافارقين، وأحرقوا سوادها ونهبوه وخربوا وسبوا أهله، ونهبوا أموالهم وعادوا.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة وقعت الفتنة بأصبهان بين أهلها وبين أهل قم بسبب المذاهب وكان سببها أنه قيل عن رجل قمي أنه سب بعض الصحابة وكان من أصحاب شحنة أصبهان فثار أهلها واستغاثوا بأهل السواد فاجتمعوا في خلق لا يحصون كثرة وحضروا دار الشحنة وقتل بينهم قتلى ونهب أهل أصبهان أموال التجار من أهل قم فبلغ الخبر ركن الدولة فغضب لذلك وأرسل إليها فطرح على أهلها مالا كثيرا.
وفيها توفي محمد بن عبد الواحد بن أبي هاشم أبو عمرو الزاهد غلام ثعلب في ذي القعدة.
517

وفيها كانت الزلزلة بهمذان وأستراباذ ونواحيها وكانت عظيمة أهلكت تحت الهدم خلقا كثيرا وانشقت منها حيطان قصر شيرين من صاعقة.
وفيها في جمادى الآخرة سار الروم في البحر فأوقعوا بأهل طرسوس وقتلوا منهم ألفا وثمانمائة رجل وأحرقوا القرى التي حولها.
وفيها سار الحسن بن علي صاحب صقلية على أسطول كثير إلى بلاد الروم.
518

346
ثم دخلت سنة ست وأربعين وثلاثمائة
ذكر موت المرزبان
في هذه السنة في رمضان توفي السلار المرزبان بأذربيجان وهو صاحبها فلما يئس من نفسه أوصى إلى أخيه وهسوذان بالملك وبعده لابنه جستان بن المرزبان.
وكان المرزبان قد تقدم أولا إلى نوابه بالقلاع أن لا يسلموها بعده إلا إلى ولده جستان فإن مات فإلى ابنه إبراهيم فإن مات فإلى ابنه ناصر فأن لم يبق منهم أحد فإلى أخيه وهسوذان فلما أوصى هذه الوصية إلى أخيه عرفه علامات بينه وبين نوابه في قلاعه ليتسلمها منهم فلما مات المرزبان أنفذ أخوه وهسوذان خاتمه وعلاماته إليهم فأظهروا وصيته الأولى فظن وهسوذان أن أخاه خدعه بذلك فأقام مع أولاد أخيه فاستبدوا بالأمر دونه فخرج من أردبيل كالهارب إلى الطرم فاستبد جستان بالأمر وأطاعه أخوته وقلد وزارته أبا عبد الله النعيمي وأتاه قواد أبيه إلا جستان بن شرمزن فإنه عزم على التغلب على أرمينية وكان واليا عليها.
وشرع وهسوذان في الإفساد بين أولاد أخيه وتفريق كلمتهم وأطماع أعدائهم فيهم حتى بلغ ما أراد وقتل بعضهم.
519

ذكر عدة حوادث
في هذه السنة كثر ببغداد ونواحيها أورام الخلق والماشرا وكثر الموت بهما وموت الفجأة وكل من اقتصد أنصب إلى ذراعيه مادة حادة عظيمة تبعها حمى حادة وما سلم أحد ممن اقتصد وكان المطر معدوما.
وفيها تجهز معز الدولة وسار نحو الموصل لقصد ناصر الدولة بسبب ما فعله فراسله ناصر الدولة وبذل له مالا وضمن البلاد منه كل سنة بألفي درهم وحمل إليه مثلها فعاد معز الدولة بسبب خراب بلاده للفتنة المذكورة ولأنه لم يثق بأصحابه.
ثم إن ناصر الدولة منع حمل المال فسار إليه معز الدولة على ما نذكره.
وفيها تقص البحر ثمانين باعا فظهرت فيه جزائر وجبال لم تعرف قبل ذلك.
وفيها توفي أبو العباس محمد بن يعقوب بن يوسف بن معقل الأموي النيسابوري المعروف بالأصم وكان عالي الإسناد في الحديث وصحب الربيع بن سليمان صاحب الشافعي وروى عنه كتب الشافعي.
وفيها توفي أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن أحمد بن إسحاق الفقيه البخاري الأمين.
520

وفيها كانت بالعراق وبلاد الجبال وقم ونواحيها زلازل كثيرة متتابعة دامت نحو أربعين يوما تسكن وتعود فتهدمت الأبنية وغارت المياه وهلك تحت الهدم من الأمم الكثير وكذلك كانت زلزلة بالري ونواحيها مستهل ذي الحجة أخربت كثيرا من البلد وهلك من أهلها كثير وكذلك أيضا الزلزلة بالطالقان ونواحيها عظيمة جدا أهلكت أمما كثيرة.
521

347
ثم دخلت سنة سبع وأربعين وثلاثمائة
ذكر استيلاء معز الدولة على الموصل وعوده عنها
قد ذكرنا صلخ معز الدولة مع ناصر الدولة على ألفي ألف درهم كل سنة فلما كان هذه السنة أخر ناصر الدولة حمل المال فتجهز معز الدولة إلى الموصل وسار نحوها منتصف جمادى الأولى ومعه وزيره المهلبي ففارقها ناصر الدولة إلى نصيبين واستولى معز الدولة على الموصل.
فكان من عادة ناصر الدولة إذا قصده أحد سار عن الموصل واستحب معه جميع الكتاب والوكلاء، ومن يعرف أبواب المال ومنافع السلطان وربما جعلهم في قلاعه كقلعة كواشي والزعفران وغيرهما وكانت قلعة كواشي تسمى ذلك الوقت قاعة أردمشت، وكان ناصر الدولة يأمر العرب بالإغارة على العلافة ومن يحمل الميرة فكان الذي يقصد بلاد ناصر الدولة يبقى محصورا مضيقا عليه.
فلما قصده معز الدولة هذه المرة فعل ذلك به فضاقت الأقوات على معز الدولة وعسكره وبلغه أن بنصيبين من الغلات السلطانية شيئا كثيرا فسار عن الموصل نحوها واستخلف بالموصل سبكتكين الحاجب الكبير فلما توسط الطريق بلغه أن أولاد ناصر الدولة أبا المرجى وهبة الله بسنجار في
522

عسكر، فسير إليهم عسكرا، فلم يشعر أولاد ناصر الدولة بالعسكر إلا وهم معهم فعجلوا عن أخذ أثقالهم فركبوا دوابهم وانهزموا ونهب عسكر معز الدولة ما تركوه ونزلوا في خيامهم فعاد أولاد ناصر الدولة إليهم وهم غارون فوضعوا السيف فيهم فقتلوا وأسروا وأقاموا بسنجار.
وسار معز الدولة إلى نصيبين ففارقها ناصر الدولة إلى ميافارقين ففارقه أصحابه وعادوا إلى معز الدولة مستأمنين، فلما رأى ناصر الدولة ذلك سار إلى أخيه سيف الدولة بحلب فلما وصل خرج إليه ولقيه وبالغ في أكرامه وخدمه بنفسه حتى إنه نزع خفه بيديه.
وكان أصحاب ناصر الدولة في حصونه ببلد الموصل والجزيرة يغيرون على أصحاب معز الدولة بالبلد فيقتلون فيهم ويأسرون منهم ويقطعون الميرة عنهم.
ثم إن سيف الدولة راسل معز الدولة في الصلح وترددت الرسل في ذلك فامتنع معز الدولة من تضمين ناصر الدولة لخلافة معه مرة بعد أخرى فضمن سيف الدولة البلاد منه بألفي ألف درهم وتسعمائة ألف درهم وإطلاق من أسر من أصحابه بسنجار وغيرها وكان ذلك في المحرم سنة ثمان وأربعين [وثلاثمائة].
وإنما أجاب معز الدولة إلى الصلح بعد تمكنه من البلاد لأنه ضاقت عليه الأموال وتقاعد الناس في حمل الخراج واحتجوا بأنهم لا يصلون إلى غلاتهم وطلبوا الحماية من العرب أصحاب ناصر الدولة فاضطر معز الدولة
523

إلى الانحدار، وأنف من ذلك، فلما وردت عليه رسالة سيف الدولة استراح إليها، وأجابه إلى ما طلبه من الصلح، ثم انحدر إلى بغداد.
ذكر مسير جيوش المعز العلوي إلى أقاصي المغرب
وفيها عظم أمر أبي الحسن جوهر عند المعز بإفريقية وعلا محله وصار في رتبة الوزارة فسيره المعز في صفر في جيش كثيف منهم زيري بن مناد الصنهاجي وغيره وأمره بالمسير إلى أقاصي المغرب فسار إلى تاهرت فحضر عنده يعلى بن محمد الزناتي فأكرمه وأحسن إليه ثم خالف على جوهر فقبض عليه وثار أصحابه فقاتلهم جوهر فانهزموا وتبعهم جوهر إلى مدينة أفكان فدخلها بالسيف ونهبها ونهب قصور يعلى وأخذ ولده وكان صبيا وأمر بهدم أفكان وإحراقها بالنار وكان ذلك في جمادى الآخرة.
ثم سار منها إلى فاس وبها صاحبها أحمد بن بكر فأغلق أبوابها فنازلها جوهر وقاتلها مدة فلم يقدر عليها وأتته هدايا الأمراء الفاطميين بأقاصي السوس وأشاروا على جوهر وأصحابه بالرحيل إلى سجلماسة وكان صاحبها محمد بن واسول قد تلقب بالشاكر لله ويخاطب بأمير المؤمنين وضرب السكة باسمه وهو على ذلك ست عشرة سنة فلما سمع بجوهر هرب ثم أراد الرجوع إلى سجلماسة فلقيه أقوام فأخذوه أسيرا وحملوه إلى جوهر.
524

ومضى جوهر حتى انتهى إلى البحر المحيط فأمر أن يصطاد له من سمكه فاصطادوا له فجعله في قلال الماء وحمله إلى المعز وسلك تلك البلاد جميعها فافتتحها وعاد إلى فاس فقاتلها مدة طويلة فقام زيري بن مناد فاختار من قومه رجالا لهم شجاعة وأمرهم أن يأخذوا السلاليم وقصدوا البلد فصعدوا إلى السور الأدنى في السلاليم وأهل فارس آمنون فلما صعدوا على السور قتلوا من عليه ونزلوا إلى السور الثاني وفتحوا الأبواب وأشعلوا المشاعل وضربوا الطبول وكانت الإمارة بين زيري وجوهر فلما سمعها جوهر ركب في العساكر فدخل فاسا فاستخفى صاحبها وأخذ بعد يومين وجعل مع صاحب سجلماسة وكان فتحها في رمضان سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة فحملهما في قفصين إلى المعز بالمهدية وأعطى تاهرت لزيري بن مناد.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة كان ببلاد الجبل وباء عظيم مات فيه أكثر أهل البلد وكان أكثر من مات فيه النساء والصبيان وتعذر على الناس عيادة المرضى وشهود الجنائز لكثرتها.
وفيها انخسف القمر جميعه.
وفيها توفي أبو الحسن علي بن أحمد البوشنجي الصوفي بنيسابور وهو
525

أحد المشهورين منهم وأبو الحسن محمد بن الحسن بن عبد الله بن أبي الشوارب قاضي بغداد وكان مولده سنة اثنتين وتسعين ومائتين وأبو علي الحسين بن علي ابن يزيد الحافظ النيسابوري في جمادى الأولى.
وفيها توفي عبد الله بن جعفر بن درستويه أبو محمد الفارسي النحوي في صفر وكان مولده سنة ثمان وخمسين ومائتين أخذ النحو عن المبرد.
526

348
ثم دخلت سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة
في هذه السنة في المحرم، تم الصلح بين سيف الدولة ومعز الدولة، وعاد معز الدولة إلى العراق، ورجع ناصر الدولة إلى الموصل.
وفيها أنفذ الخليفة لواء وخلعة لأبي علي بن إلياس صاحب كرمان.
وفيها مات أبو الحسن محمد بن أحمد المافروخي كاتب معز الدولة وكتب بعده أبو بكر بن أبي سعيد.
وفيها كانت حرب شديدة بين علي بن كأمة وهو ابن أخت ركن الدولة وبين بيستون بن وشمكير فانهزم بيستون.
وفيها غرق من حجاج الموصل في الماء بضعة عشر زورقا.
وفيها غزت الروم طرسوس والرها فقتلوا وسبوا وغنموا وعادوا سالمين.
وفيها سار مؤيد الدولة بن ركن الدولة من الري إلى بغداد، فتزوج بابنة عمه معز الدولة ونقلها معه إلى الري ثم عاد إلى أصبهان.
وفيها في جمادى الأولى وقعت حرب شديدة بين عامة بغداد وقتل فيها جماعة واحترق من البلد كثير.
وفيها توفي أبو بكر أحمد بن سليمان بن الحسن الفقيه الحنبلي المعروف
527

بالنجاد وكان عمره خمسا وتسعين سنة وجعفر بن محمد نصر الخلدي الصوفي وهو من أصحاب الجنيد فروى الحديث وأكثر.
وفيها انقطعت الأمطار وغلت الأسعار في كثير من البلاد فخرج الناس يستسقون في كانون الثاني في البلاد ومنها بغداد فما سقوا فلما كان في آذار ظهر جراد عظيم فأكل ما كان قد نبت من الخضراوات وغيرها فاشتد الأمر على الناس.
528

349
ثم دخلت سنة تسع وأربعين وثلاثمائة
ذكر ظهور المستجير بالله
في هذه السنة ظهر بأذربيجان رجل من أولاد عيسى بن المكتفي بالله وتلقب بالمستجير بالله وبايع للرضا من آل محمد ولبس الصوف وأظهر العدل وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر وكثر أتباعه.
وكان السبب في ظهوره أن جستان بن المرزبان صاحب أذربيجان ترك سيرة والده في سياسة الجيش واشتغل باللعب ومشاورة النساء وكان جستان بن شرمزن بأرمينية متحصنا بها وكان وهسوذان بالطرم يصرب بين أولاد أخيه ليختلفوا.
ثم أن جستان بن المرزبان قبض على وزيره النعيمي وكان بينه وبين وزير جستان بن شرمزن مصاهرة وهو أبو الحسن عبيد الله بن محمد بن حمدويه فاستوحش أبو الحسن لقبض النعيمي فحمل صاحبه ابن شرمزن على مكاتبة إبراهيم بن المرزبان وكان بأرمينية فكاتبه وأطمعه في الملك فسار إليه فقصدوا مراغة واستولوا عليها، فلما علم جستان بن المرزبان بذلك راسل ابن شرمزن ووزيره أبا الحسن فأصلحهما وضمن لهما إطلاق النعيمي
529

فعاد عن نصرة إبراهيم وظهر له ولأخيه نفاق ابن شرمزن فتراسلا واتفقا عليه.
ثم إن النعيمي هرب من حبس جستان بن المرزبان وسار إلى موقان وكاتب ابن عيسى ابن المكتفي بالله وأطمعه في الخلافة وأن يجمع له الرجال ويملك له أذربيجان فإذا قوي قصد العراق فسار إليه في نحو ثلاثمائة رجل وأتاه جستان بن شرمزن فقوي به وبايعه الناس واستفحل أمره فسار إليهم جستان وإبراهيم ابنا المرزبان قاصدين قتالهم فلما التقوا انهزم أصحاب المستجير وأخذ أسيرا فعدم فقيل أنه قتل وقيل بل مات.
ذكر استيلاء وهسوذان على بني أخيه وقتلهم
وأما وهسوذان فإنه لما رأى اختلاف أولاد أخيه وأن كل واحد منهم قد انطوى على غش صاحبه راسل إبراهيم بعد وقعة المستجير واستزاره فزاره فأكرمه عمه ووصله بما ملأ عينه وكاتب ناصرا ولد أخيه أيضا واستغواه ففارق أخاه جستان وصار إلى موقان فوجد الجند طريقا إلى تحصيل الأموال ففارق أكثرهم جستان وصاروا إلى أخيه ناصر فقوي بهم على أخيه جستان واستولى على أردبيل.
ثم إن الأجناد طالبوا ناصرا بالأموال فعجز عن ذلك وقعد عمه وهسوذان عن نصرته فعلم أنه كان يغويه فراسل أخاه جستان وتصالحا واجتمعا،
530

وهما في غاية ما يكون من قلة الأموال واضطراب الأمور وتغلب أصحاب الأطراف على ما بأيديهم فاضطر جستان وناصر ابنا المرزبان إلى المسير إلى عمهما وهسوذان مع والدتهما فراسلاه في ذلك وأخذا عليه العهود وساروا إليه فلما حضروا عنده نكث وغدر بهم وقبض عليهم وهم جستان وناصر ووالدتهما واستولى على العسكر وعقد الإمارة لابنه إسماعيل وسلم إليه أكثر قلاعه وأخرج الأموال وأرضى الجند.
وكان إبراهيم بن المرزبان قد سار إلى إرمينية فتأهب لمنازعة إسماعيل واستنقاذ أخويه من حبس عمهما وهسوذان فلما علم وهسوذان ذلك ورأى اجتماع الناس عليه بادر فقتل جستان وناصرا ابني أخيه وأمهما وكاتب جستان بن شرمزن وطلب إليه أن يقصد إبراهيم وأمده بالجند والمال ففعل ذلك واضطر إبراهيم إلى الهرب والعود إلى أرمينية واستولى ابن شرمزن على عسكره وعلى مدينة مراغة مع إرمينية.
ذكر غزو سيف الدولة بلاد الروم
في هذه السنة غزا سيف الدولة بلاد الروم في جمع كثير فآثر فيها آثارا كثيرة وأحرق وفتح عدة حصون وأخذ من السبي والغنائم والأسرى شيئا كثيرا وبلغ إلى خرشنة ثم إن الروم أخذوا عليه المضايق فلما أراد الرجوع قال له من معه من أهل طرسوس إن الروم قد ملكوا خلف
531

ظهرك، فلا تقدر على العود منه والرأي أن ترجع معنا فلم يقبل منهم وكان معجبا برأيه يحب أن يستبد ولا يشاور أحدا لئلا يقال إنه أصاب برأي غيره وعاد في الدرب الذي دخل منه فظهر الروم عليه واستردوا ما كان معه من الغنائم وأخذوا أثقاله ووضعوا السيف في أصحابه فأتوا عليه قتلا وأسرا وتخلص هو في ثلاثمائة رجل بعد جهد ومشقة وهذا من سوء رأي لكل من يجهل آراء الناس العقلاء والله اعلم بالصواب.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة قبض عبد الملك بن نوح صاحب خراسان وما وراء النهر على رجل من أكابر قواده وأمرائه يسمى نجتكين وقتله فاضطربت خراسان.
وفيها استأمن أبو الفتح المعروف بابن العريان أخو عمران بن شاهين صاحب البطيحة إلى معز الدولة بأهله وماله وكان خاف أخاه فأكرمه معز الدولة وأحسن اليه.
وفيها مات أبو القاسم عبد الله بن أبي عبد الله البريدي.
وفيها أسلم من الأتراك نحو مائتي الف خركاه.
532

وفيها انصرف حجاج مصر من الحج فنزلوا واديا وباتوا فيه فأتاهم السيل ليلا فأخذهم جميعهم مع أثقالهم وجمالهم فألقاهم في البحر.
وفيها سار ركن الدولة من الري إلى جرجان فلقيه الحسن بن الفيرزان وابن عبد الرزاق فوصلهما بمال جليل.
وفيها كان بالبلاد غلاء شديد وكان أكثره بالموصل فبلغ الكر من الحنطة ألفا ومائتي درهم والكر من الشعير ثمانمائة درهم وهرب أهلها إلى الشام والعراق.
وفيها خامس شعبان كان ببغداد فتنة عظيمة بين العامة وتعطلت الجمعة من الغد لاتصال الفتنة في الجانبين سوى مسجد براثا فأن الجمعة تمت فيه وقبض على جماعة من بني هاشم اتهموا أنهم سبب الفتنة ثم أطلقوا من الغد.
وفيها توفي أبو الخير الأقطع التيناتي أو قريبا من هذه السنة وكان عمره مائة وعشرين سنة وله كرامات مشهورة مسطورة.
(اليتناتي بالتاء المكسورة المعجمة باثنتين من فوق ثم الياء المعجمة باثنتين من تحت ثم بالنون والألف ثم بالتاء المثناة من فوق أيضا).
وفيها مات أبو إسحاق بن ثوابه كاتب الخليفة ومعز الدولة وقلد ديوان الرسائل بعده إبراهيم بن هلال الصابي.
وفيها في آخرها مات أنوجور بن الإخشيد صاحب مصر وتقلد أخوه على مكانه.
533

350
ثم دخلت سنة خمسين وثلاثمائة
ذكر بناء معز الدولة دوره ببغداد
في هذه السنة في المحرم مرض معز الدولة وامتنع عليه البول ثم كان يبول بعد جهد ومشقة دما وتبعه البول والحصا والرمل فاشتد جزعه وقلقه وأحضر الوزير المهلبي في الليل والحاجب سبكتكين فأصلح بينهما ووصاهما بابنه بختيار وسلم جميع ماله إليه.
ثم إنه عوفي فعزم على المسير إلى الأهواز لأنه اعتقد أن ما اعتاده من الأمراض أنما هو بسبب مقامه ببغداد وظن أنه إن عاد إلى الأهواز عاوده ما كان فيه من الصحة ونسي الكبر والشباب، فلما انحدر إلى كلواذي ليتوجه إلى الأهواز أشار عليه أصحابه بالمقام وأن يفكر في هذه الحركة ولا يعجل فأقام بها ولم يؤثر أحمد من أصحابه انتقاله لمفارقة أوطانهم وأسفا على بغداد كيف تخرب بانتقال دار الملك عنها فأشاروا عليه بالعود إلى بغداد وأن يبني بها له دارا في أعلى بغداد لتكون أرق هواء وأصفى ماء ففعل وشرع في بناء داره في موضع المسناة المعزية فكان مبلغ ما خرج عليها إلى أن مات ثلاثة عشر ألف ألف درهم فاحتاج بسبب ذلك إلى مصادرة جماعة من أصحابه.
534

ذكر موت الأمير عبد الملك بن نوح
في هذه السنة سقط الفرس تحت الأمير عبد الملك بن نوح صاحب خراسان فوقع إلى الأرض فمات من سقطته وافتتنت خراسان بعده وولي بعده أخوه منصور بن نوح وكان موته يوم الخميس حادي عشر شوال.
ذكر وفاة عبد الرحمن الناصر صاحب الأندلس
وولاية ابنه الحاكم
في هذه السنة توفي عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله صاحب الأندلس الملقب بالناصر لدين الله في رمضان فكانت إمارته خمسين سنة وستة أشهر وكان عمره ثلاثا وسبعين سنة وكان أبيض أشهل حسن الوجه عظيم الجسم قصير الساقين وكان ركاب سرجه يقارب الشبر وكان طويل الظهر وهو أول من تلقب من الأمويين بألقاب الخلفاء وتسمى بأمير المؤمنين وخلف أحد عشر ولدا ذكرا وكان من تقدمه من آبائه يخاطبون ويخطب لهم بالأمير وأبناء الخلائف.
وبقي هو كذلك إلى أن مضى من إمارته سبع وعشرون سنة فلما بلغه ضعف الخلفاء بالعراق وظهور العلويين بأفريقية ومخاطبتهم بأمير المؤمنين أمر حينئذ
535

أن يلقب الناصر لدين الله، ويخطب له بأمير المؤمنين ويقول أهل الأندلس إنه أول خليفة ولي بعده جده وكانت أمه أم ولد اسمها مزنة ولم يبلغ أحد ممن تلقب بأمير المؤمنين مدته في الخلافة غير المستنصر العلوي صاحب مصر، فإن خلافته كانت ستين سنة.
ولما مات ولي الأمر بعده ابنه الحاكم بن عبد الرحمن وتلقب بالمستنصر وأمه أم ولد تسمى مرجانة وخلف الناصر عدة أولاد منهم عبد الله وكان شافي المذهب عالما بالشعر والأخبار وغيرهما وكان ناسكا.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة سار قفل عظيم من أنطاكية إلى طرسوس ومعهم صاحب أنطاكية فخرج عليهم كمين للروم فأخذ من كان فيها من المسلمين وقتل كثيرا منهم وأفلت صاحب أنطاكية وبه جراحات.
وفيها في رمضان دخل نجا غلام سيف الدولة بلاد الروم من ناحية ميافارقين غازيا وأنه في رمضان غنم ما قيمته قيمة عظيمة وسبى وأسر وخرج سالما.
وفيها مات القاضي أبو السائب عتبة بن عبيد الله وقبضت أملاكه وتولى قضاء القضاة أبو العباس بن عبد الله بن الحسن بن أبي الشوارب وضمن أن يؤدي كل سنة مائتي ألف درهم وهو أول من ضمن القضاء وكان ذلك أيام معز الدولة ولم يسمع بذلك قبله فلم يأذن له الخليفة المطيع لله
536

بالدخول عليه وأمر بأن لا يحضر الموكب لما ارتكبه من ضمان القضاء ثم ضمنت بعده الحسبة والشرطة ببغداد.
وفيها وصل أبو القاسم أخو عمران بن شاهين إلى معز الدولة مستأمنا.
وفيها توفي القاضي أبو بكر أحمد بن كامل وهو من أصحاب الطبري، وكان يروي تاريخه.
537

351
ثم دخلت سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة
ذكر استيلاء الروم على عين زربى
في هذه السنة في المحرم نزل الروم مع الدمستق على عين زربى وهي في سفح جبل عظيم وهو مشرف عليها وهم في جمع عظيم فأنفذ بعض عسكره فصعدوا الجبل فملكوه فلما رأى ذلك أهلها وأن الدمستق قد ضيق عليهم ومعه الدبابات وقد وصل إلى السور وشرع في النقب طلبوا الأمان فأمنهم الدمستق وفتحوا له باب المدينة فدخلها فرأى أصحابه الذين في الجبل قد نزلوا إلى المدينة فندم على إجابتهم إلى الأمان.
ونادى في البلد أول الليل بأن يخرج جميع أهله إلى المسجد الجامع ومن تأخر في منزله قتل فخرج من أمكنه الخروج فلما أصبح أنفذ رجالته في المدينة وكانوا ستين ألفا وأمرهم بقتل من وجدوه في منزله فقتلوا خلقا كثيرا من الرجال والنساء والصبيان وأمر بجمع ما في البلد من السلاح، فجمع، فكان شيئا كثيرا.
و أمر من في المسجد بأن يخرجوا من البلد حيث شاؤوا يومهم ذلك ومن أمسى قتل فخرجوا مزدحمين فمات بالزحمة جماعة ومروا على وجوههم لا يدرون أين يتوجهون فماتوا في الطرقات وقتل الروم من وجدوه
538

بالمدينة آخر النهار وأخذوا كل ما حلفه الناس من أموالهم وأمتعتهم وهدموا سوري المدينة.
وأقام الدمستق في بدل الإسلام أحدا وعشرين يوما وفتح حول عين زربى أربعة وخمسين حصنا للمسلمين بعضها بالسيف وبعضها بالأمان، وأن حصنا من تلك الحصون التي فتحت بالأمان أمر أهله بالخروج منه فخرجوا فتعرض أحد الأرمن لبعض حرم المسلمين فلحق المسلمين غيرة عظيمة فجردوا سيوفهم فاغتاظ الدمستق لذلك فأمر بقتل جميع المسلمين وكانوا أربعمائة رجل وقتل النساء والصبيان ولم يترك إلا من يصلح أن يسترق.
فلما أدركه الصوم انصرف على أنه يعود بعد العيد وخلف جيشه بقيسارية، وكان ابن الزيات صاحب طرسوس قد خرج في أربعة آلاف رجل من الطرسوسيين فأوقع بهم الدمستق فقتل أكثرهم وقتل أخا لابن الزيات فعاد إلى طرسوس وكان قد قطع الخطبة لسيف الدولة بن حمدان فلما أصابهم هذا الوهن أعاد أهل البلد الخطبة لسيف الدولة وراسلوه بذلك فلما علم ابن الزيات حقيقة الأمر صعد إلى روشن في داره فألقى نفسه منه إلى نهر تحته فغرق وراسل أهل بغراس الدمستق وبذلوا له مائة ألف درهم فأقرهم وترك معارضتهم.
539

ذكر استيلاء الروم على مدينة حلب وعودهم عنها بغير سبب
في هذه السنة استولى الروم على مدينة حلب دون قلعتها.
وكان سبب ذلك أن الدمستق سار إلى حلب ولم يشعر به المسلمون لأنه كان قد خلف عسكره بقيساريه ودخل بلادهم كما ذكرناه فلما قضى صوم النصارى خرج إلى عسكره من البلاد جريدة ولم يعلم به أحد وسار بهم فعند وصوله سبق خبره وكبس مدينة حلب ولم يعلم به سيف الدولة بن حمدان ولا غيره.
فلما بلغها وعلم سيف الدولة الخبر أعجله الأمر عن الجمع والاحتشاد فخرج إليه فيمن معه فقاتله فلم يكن له قوة الصبر لقلة من معه فقتل أكثرهم ولم يبق من أولاد داود بن حمدان أحد قتلوا جميعهم، فانهزم سيف الدولة في نفر يسير وظفر الدمستق بداره وكانت خارج مدينة حلب تسمى الدارين فوجد فيها لسيف الدولة ثلاثمائة بدرة من الدراهم وأخذ له ألفا وأربعمائة بغل ومن خزائن السلاح ما لا يحصى فأخذ الجميع وخرب الدار وملك الحاضر وحصر المدينة فقاتله أهلها.
وهدم الروم في السور ثلمة فقاتلهم أهل حلب عليها فقتل من الروم كثير ودفعوهم عنها فلما جنهم الليل عمروها فلما رأى الروم ذلك تأخروا إلى جبل جوشن.
ثم أن رجالة الشرطة بحلب قصدوا منازل الناس وخانات التجار لينهبوها فلحق الناس أموالهم ليمنعوها فخلا السور منهم فلما رأى الروم السور خاليا
540

من الناس قصدوه وقربوا منه فلم يمنعهم أحد فصعدوا إلى أعلاه فرأوا الفتنة قائمة في البلد بين أهله فنزلوا وفتحوا الأبواب ودخلوا البلد بالسيف يقتلون من وجدوا ولم يرفعوا السيف إلى أن تعبوا وضجروا.
وكان في حلب ألف وأربعمائة من الأسارى فتخلصوا وأخذوا السلاح وقتلوا الناس وسبي من البلد بضعة عشر ألف صبي وصبية وغنموا ما لا يوصف كثرة فلما لم يبق مع الروم ما يحملون عليه الغنيمة أمر الدمستق بإحراق الباقي وأحرق المساجد وكان قد بذل لأهل البلد الأمان على أن يسلموا إليه ثلاثة آلاف صبي وصبية ومالا ذكره وينصرف عنهم فلم يجيبوه إلى ذلك فملكهم كما ذكرنا وكان عدة عسكره مائتي ألف رجل منهم ثلاثون ألف رجل بالجواشن وثلاثون ألفا للهدم وإصلاح الطرق من الثلج وأربعة آلاف بغل يحمل الحسك الحديد.
ولما دخل الروم البلد قصد الناس القلعة فمن دخلها نجا بحشاشه نفسه وأقام الدمستق تسعة أيام وأراد الانصراف عن البلد بما غنم فقال له ابن أخت الملك وكان معه هذا البلد قد حصل في أيدينا وليس من يدفعنا عنه فلأي سبب ننصرف عنه فقال الدمستق قد بلغنا ما لم يكن الملك يؤمله وغنمنا وقتلنا وخربنا وأحرقنا وخلصنا أسرانا وبلغنا ما لم يسمع بمثله فتراجعا الكلام إلى أن قال له الدمستق أنزل على القلعة فحاصرها فإنني مقيم بعسكري على باب المدينة فتقدم ابن أخت الملك إلى القلعة ومعه سيف وترس وتبعه الروم فلما قرب من باب القلعة ألقي عليه حجر فسقط ورمي بخشب
541

فقتل فأخذه أصحابه وعادوا إلى الدمستق فلما رآه قتيلا قتل من معه من أسرى المسلمين وكانوا ألفا ومائتي رجل وعاد إلى بلاده ولم يعرض لسواد حلب وأمر أهله بالزراعة والعمارة ليعود إليهم بزعمه.
ذكر استيلاء ركن الدولة بن بويه على طبرستان وجرجان
في هذه السنة في المحرم سار ركن الدولة إلى طبرستان وبها وشمكير فنزل على مدينة سارية فحصرها وملكها ففارق حينئذ وشمكير طبرستان وقصد جرجان فأقام ركن الدولة بطبرستان إلى أن ملكها كلها وأصلح أمورها وسار في طلب وشمكير إلى جرجان فأزاح وشمكير عنها واستولى عليها واستأمن إليه عسكر وشمكير ثلاثة آلاف رجل فازداد قوة وازداد وشمكير ضعفا ووهنا فدخل بلاد الجبل.
ذكر ما كتب على مساجد بغداد
في هذه السنة في ربيع الآخر كتب عامة الشيعة ببغداد بأمر معز الدولة على المساجد ما هذه صورته لعن الله معاوية بن أبي سفيان ولعن من غضب فاطمة رضي الله عنها فدكا ومن منع من أن يدفن الحسن عند قبر
542

جده عليه السلام ومن نفى أبا ذر الغفاري ومن أخرج العباس من الشورى فاما الخليفة فكان محكوما عليه لا يقدر على المنع وأما معز الدولة فبأمره كان ذلك.
فلما كان الليل حكه بعض الناس فأراد معز الدولة إعادته فأشار عليه الوزير أبو محمد المهلبي بان يكتب مكان ما محيي لعن الله الظالمين لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يذكر أحدا في اللعن إلا معاوية ففعل ذلك.
ذكر فتح طبرمين من صقلية
وفي هذه السنة سارت جيوش المسلمين بصقلية وأميرهم حينئذ أحمد بن الحسن بن علي بن أبي الحسين إلى قلعة طبرمين من صقلية أيضا وهي بيد الروم فحصروها وهي من أمنع الحصون وأشدها على المسلمين فامتنع أهلها ودام الحصار عليهم فلما رأى المسلمون ذلك عمدوا إلى الماء الذي يدخلها فقطعوه عنها وأجروه إلى مكان آخر فعظم الأمر عليهم وطلبوا الأمان فلم يجابوا إليه فعادوا وطلبوا أن يؤمنوا على دمائهم ويكونوا رقيقا للمسلمين وأموالهم فيئا فأجيبوا إلى ذلك وأخرجوا من البلد وملكه المسلمون في ذي القعدة.
وكان مدة الحصار سبعة أشهر ونصفا وأسكن القلعة نفرا من المسلمين وسميت المعزية نسبة إلى المعز العلوي صاحب أفريقية وسار جيش إلى
543

رمطة مع الحسن بن عمار فحصروها وضيقوا عليها فكان ما نذكره سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة في ربيع الأول أرسل الأمير منصور بن نوح صاحب خراسان وما وراء النهر إلى بعض قواده الكبار واسمه الفتكين يستدعيه فامتنع فأنفذ إليه جيشا فلقيهم الفتكين فهزمهم وأسر وجوه القواد منهم وفيهم خال منصور.
وفيها في منتصف ربيع الأول أيضا انخسف القمر جميعه.
وفيها في جمادى الأولى كانت فتنة بالبصرة وبهمذان أيضا بين العامة بسبب المذاهب قتل فيها خلق كثير.
وفيها أيضا فتح الروم حصن دلوك وثلاثة حصون مجاورة له بالسيف.
وفيها لقب الخليفة المطيع لله فناخسرو بن ركن الدولة بعضد الدولة.
وفيها في جمادى الآخرة أعاد سيف الدولة بناء عين زربى وسير حاجبه في جيش مه أهل طرسوس إلى بلاد الروم فغنموا وسبوا وعادوا فقصد الروم حصن سيسية فملكوه.
وفيها سار نجا غلام سيف الدولة في جيش إلى حصن زياد فلقيه جمع من
544

الروم فهزمهم واستأمن إليه من الروم خمسمائة رجل.
وفيها في شوال أسرت الروم أبا فراس بن سعيد بن حمدان من مبنج وكان متقلدا لها وله ديوان شعر جيد.
وفيها سار جيش من الروم في البحر إلى جزيرة أقريطش فأرسل أهلها إلى المعز لدين الله العلوي صاحب أفريقية يستنجدونه فأرسل إليهم نجدة فقاتلوا الروم فانتصر المسلمون وأسر من كان بالجزيرة من الروم.
وفيها توفي أبو بكر محمد بن الحسن بن زياد النقاش المقري صاحب كتاب شفاء الصدور وعبد الباقي بن قانغ مولى بني أمية وكان مولده سنة خمس وتسعين ومائتين ودعلج بن أحمد السجزي المعدل وأبو عبد الله محمد بن أبي موسى الهاشمي.
545

352
ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة
ذكر عصيان أهل حران
في هذه السنة في صفر امتنع أهل حران على صاحبها هبة الله بن ناصر الدولة بن حمدان وعصوا عليه.
وسبب ذلك أنه كان متقلدا لها ولغيرها من ديار مضر من قبل عمه سيف الدولة فعسفهم نوابه وظلموهم وطرحوا الأمتعة على التجار من أهل حران وبالغوا في ظلمهم.
وكان هبة الله عند عمه سيف الدولة بحلب فثار أهلها على نوابه وطردهم فسمع هبة الله بالخبر فسار إليهم وحاربهم وحصرهم فقاتلهم وقاتلوه أكثر من شهرين فقتل منهم خلق كثير فلما رأى سيف الدولة شدة الأمر واتصال الشر قرب منهم وراسلهم وأجابهم إلى ما يريدون فاصطلحوا وفتحوا أبواب البلد وهرب منه العيارون خوفا من هبة الله.
ذكر وفاة الوزير أبي محمد المهلبي
في هذه السنة سار الوزير أبو محمد المهلبي وزير معز الدولة في جمادى الآخرة في جيش كثيف إلى عمان ليفتحها فلما بلغ البحر اعتل،
546

واشتدت علته فأعيد إلى بغداد فمات في الطريق في شعبان وحمل تابوته إلى بغداد فدفن بها وقبض معز الدولة أمواله وذخائره وكل ما كان له وأخذ أهله وأصحابه وحواشيه حتى ملاحه ومن خدمة يوما واحدا فقبض عليهم وحبسهم فاستعظم الناس ذلك واستقبحوه.
وكانت مدة وزارته ثلاث عشرة سنة وثلاثة أشهر وكان كريما فاضلا ذا عقل ومروءة فمات بموته الكرم.
ونظر في الأمور بعده أبو الفضل العباس بن الحسين الشيرازي وأبو الفرج محمد بن العباس بن فسانجس من غير تسمية لأحدهما بوزارة.
ذكر غزوة إلى الروم وعصيان حران
في هذه السنة، في شوال، دخل أهل طرسوس بلاد الروم غازين ودخلها أيضا نجا غلام سيف الدولة بن حمدان من درب آخر ولم يكن سيف الدولة معهم لمرضه فإنه كان قد لحقه قبل ذلك بسنتين فالج على رأس درب من تلك الدروب فأوغل أهل طرسوس في غزوتهم حتى واصلوا إلى قونية وعادوا فرجع سيف الدولة إلى حلب فلحقه في الطريق غشية أرجف عليه الناس بالموت فوثب هبة الله ابن أخيه ناصر الدولة بن حمدان بابن دنجا
547

النصراني فقتله وكان خصيصا بسيف الدولة وإنما قتله لأنه يتعرض لغلام له فغار لذلك.
ثم أفاق سيف الدولة فلما علم هبة الله أن عمه لم يمت هرب إلى حران فلما دخلها أظهر لأهلها أن عمه مات وطلب منهم اليمين على أن يكونوا سلما لمن سالمه وحربا لمن حاربه فحلفوا له واستثنوا عمه في اليمين فأرسل سيف الدولة غلامه نجا إلى حران في طلب هبة الله فلما قاربها هرب هبة الله إلى أبيه بالموصل فنزل نجا على حران في السابع والعشرين من شوال فخرج أهلها إليه من الغد فقبض عليهم وصادرهم على ألف ألف درهم ووكل بهم حتى أدوها في خمسة أيام بعد الضرب الوجيع بحضرة عيالاتهم وأهليهم فأخرجوا أمتعتهم فباعوا كل ما يساوي دينارا بدرهم لأن أهل البلد كلهم كانوا يبيعون ليس فيهم من يشتري لأنهم مصادرون فاشترى ذلك أصحاب نجا بما أرادوا وافتقر أهل البلد وسار نجا إلى ميافارقين وترك حران شاغرة بغير وال فتسلط العيارون على أهلها وكان من أمر نجا ما نذكره سنة ثلاث وخمسين [وثلاثمائة].
548

ذكر عدة حوادث
في هذه السنة عاشر المحرم أمر معز الدولة الناس أن يغلقوا دكاكينهم ويبطلوا الأسواق والبيع والشراء وأن يظهروا النياحة ويلبسوا قبابا عملوها بالمسوح وأن يخرج النساء منشرات الشعور مسودات الوجوه قد شققن ثيابهن يدرن في البلد بالنوائح ويلطمن وجوههن على الحسين بن علي رضي الله عنهما ففعل الناس ذلك ولم يكن للسنية قدرة على المنع منه لكثرة الشيعة ولأن السلطان معهم.
وفيها في ربيع الأول اجتمع من رجالة الأرمن جماعة كثيرة وقصدوا الرها فأغاروا عليها فغنموا وأسروا وعادوا موفورين.
وفيها عزل ابن أبي الشوارب عن قضاء بغداد وتقلد مكانه أبو بشر عمرو بن أكتم وأعفى عما عما كان يحمله ابن أبي الشوارب من الضمان عن القضاء وأمر بإبطال أحكامه وسجلاته.
وفيها في شعبان ثار الروم بملكهم فقتلوه وملكوا غيره وصار ابن شمشقيق دمستقا وهو الذي يقوله العامة ابن الشمشكي.
وفيها في ثامن عشر ذي الحجة أمر معز الدولة بإظهار الزينة في البلد وأشعلت النيران بمجلس الشرطة وأظهر الفرح وفتحت الأسواق بالليل،
549

كما يفعل ليالي الأعياد فعل ذلك فرحا بعيد الغدير يعني غدير خم وضربت الدبادب والبوقات وكان يوما مشهودا.
وفيها في ذي الحجة الواقع في كانون الثاني خرج الناس في العراق للاستسقاء لعدم المطر.
550

353
ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة
ذكر عصيان نجا وقتله وملك سيف الدولة بعض أرمينية
قد ذكرنا سنة اثنتين وخمسين [وثلاثمائة] ما فعله نجا غلام سيف الدولة بن حمدان بأهل حران وما أخذه من أموالهم فلما اجتمعت عنده تلك الأموال قوي بها وبطر ولم يشكر ولي نعمته بل كفره وسار إلى ميافارقين وقصد بلاد أرمينية وكان قد استولى على كثير منها رجل من العرب يعرف بأبي الورد فقاتله نجا فقتل أبو الورد وأخذ نجا قلاعه وبلاده خلاط وملازكرد وموش وغيرها وحصل له من أموال أبي الورد شيء كثير فأظهر العصيان على سيف الدولة.
فأتفق أن معز الدولة بن بويه سار من بغداد إلى الموصل ونصيبين واستولى عليها وطرد عنها ناصر الدولة على ما نذكره آنفا فكاتبه نجا وراسله وهو بنصيبين يعده المعاضدة والمساعدة على مواليه بني حمدان فلما عاد معز الدولة إلى بغداد واصطلح هو وناصر الدولة سار سيف الدولة إلى نجا ليقاتله على عصيانه عليه وخروجه عن طاعته فلما وصل إلى ميافارقين هرب نجا من بين يديه فملك سيف الدولة بلاده وقلاعه التي أخذها من أبي الورد،
551

واستأمن إليه جماعه من أصحاب نجا فقتلهم واستأمن إليه أخو نجا فأحسن إليه وأكرمه وأرسل إلى نجا يرغبه ويرهبه إلى أن حضر عنده فأحسن إليه وأعاده إلى مرتبته.
ثم إن غلمان سيف الدولة وثبوا على نجا في دار سيف الدولة بميافارقين في ربيع الأول سنة أربع وخمسين [وثلاثمائة] فقتلوه بين يديه فغشي على سيف الدولة وأخرج نجا فألقي في مجرى الماء والأقذار وبقي إلى الغد ثم أخرج ودفن.
ذكر حصر الروم المصيصة ووصول الغزاة من خراسان
في هذه السنة حصر الروم مع الدمستق المصيصة وقاتلوا أهلها ونقبوا سورها واشتد قتال أهلها على النقب حتى دفعهم أهلها بعد قتال عظيم وأحرق الروم رستاقها ورستاق أذنة وطرسوس لمساعدتهما أهلها فقتل من المسلمين خمسة عشر ألف رجل وأقام الروم في بلاد الإسلام خمسة عشر يوما لم يقصدهم من يقاتلهم فعادوا لغلاء الأسعار وقلة الأقوات.
ثم إن إنسانا وصل إلى الشام من خراسان يريد الغزاة ومعه نحو خمسة آلاف رجل وكان طريقهم على أرمينية وميافارقين فلما وصلوا إلى سيف الدولة في صفر أخذهم سيف الدولة وسار بهم نحو بلاد الروم لدفعهم عن المسلمين فوجدوا الروم قد عادوا فتفرق الغزاة الخراسانية في الثغور لشدة الغلاء وعاد أكثرهم إلى بغداد ومنها إلى خراسان.
552

ولما أراد الدمستق العود إلى بلاد الروم أرسل إلى أهل المصيصة وأذنة وطرسوس أني منصرف عنكم لا لعجز ولكن لضيق العلوفة وشدة الغلاء وأنا عائد إليكم فمن انتقل منكم فقد نجا ومن وجدته بعد عودتي قتلته.
ذكر ملك معز الدولة الموصل وعوده عنها
في هذه السنة في رجب سار معز الدولة من بغداد إلى الموصل وملكها.
وسبب ذلك أن ناصر الدولة كان قد استقر الصلح بينه وبين معز الدولة على ألف ألف درهم يحملها ناصر الدولة كل سنة فلما حصلت الإجابة من معز الدولة بذل زيادة ليكون اليمين أيضا لولده أبي تغلب فضل الله الغضنفر معه وأن يحلف معز الدولة لهما فلم يجب إلى ذلك وتجهز معز الدولة وسار إلى الموصل في جمادى الآخرة فلما قاربها سار ناصر الدولة إلى نصيبين ووصل معز الدولة إلى الموصل وملكها في رجب وسار يطلب ناصر الدولة حادي عشر شعبان واستخلف على الموصل أبا العلاء صاعد بن ثابت ليحمل الغلات ويجبي الخراج وخلف بكتوزون وسبكتكين العجمي في جيش ليحفظ البلد.
فلما قارب معز الدولة نصيبين فارقها ناصر الدولة وملك معز الدولة نصيبين ولم يعلم أي جهة قصد ناصر الدولة فخاف أن يخالفه إلى الموصل،
553

فعاد عن نصيبين نحو الموصل وتركبها من يحفظها، وكان أبو تغلب بن ناصر الدولة قد قصد الموصل وحارب من بها من أصحاب معز الدولة وكانت الدائرة عليه فانصرف بعد أن أحرق السفن التي لمعز الدولة وأصحابه.
ولما انتهى الخبر إلى معز الدولة بظفر أصحابه سكنت نفسه وأقام ببرقعيد يتوقع أخبار ناصر الدولة فبلغه أنه نزل بجزيرة ابن عمر فرحل عن ببرقعيد إليها فوصلها سادس شهر رمضان فلم يجد بها ناصر الدولة فملكها وسأل عن ناصر الدولة فقيل انه بالحسنية ولم يكن كذلك وانما كان قد اجتمع هو وأولاده وعساكره وسار نحو الموصل فأوقع بمن فيها من أصحاب معز الدولة فقتل كثيرا منهم وأسر كثيرا وفي الأسرى أبو العلاء وسبكتكين وبكتوزون وملك جميع ما خلفه معز الدولة من مال وسلاح وغير ذلك وحمل جميعه مع الأسرى إلى قلعة كواشي.
فلما سمع معز الدولة بما فعله ناصر الدولة سار يقصده فرحل ناصر الدولة إلى سنجار، قلما وصل معز الدولة بلغه مسير ناصر الدولة إلى سنجار فعاد إلى نصيبين فسار أبو تغلب بن ناصر الدولة إلى الموصل فنزل بظاهرها عند الدير الأعلى ولم يتعرض إلى أحد ممن بها من أصحاب معز الدولة فلما سمع معز الدولة بنزول أبي
تغلب بالموصل سار إليها ففارقها أبو تغلب وقصد الزاب فأقام عنده وراسل معز الدولة في الصلح فأجابه لأنه علم أنه متى فارق الموصل عادوا وملكوها ومتى أقام بها لا يزال مترددا وهم يغيرون على النواحي فأجابه إلى ما التمسه وعقد عليه ضمان الموصل وديار ربيعة والرحبة وما كان في يد أبيه بمال قرره وان يطلق من عندهم من الأسرى فاستقرت القواعد على ذلك ورحل معز الدولة إلى بغداد وكان معه في سفرته هذه ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة.
554

ذكر حال الداعي العلوي
كان قد هرب أبو عبد الله محمد بن الحسين المروف بابن الداعي من بغداد وهو حسني من أولاد الحسن بن علي رضي الله عنهما وسار نحو بلاد الديلم وترك أهله وعياله ببغداد فلما وصل إلى بلاد الديلم اجتمع عليه عشرة آلاف رجل فهرب ابن الناصر العلوي من بين يديه وتلقب ابن الداعي بالمهدي لدين الله وعظم شأنه وأوقع بقائد كبير من قواد وشمكير فهزمه.
ذكر حصر الروم طرسوس والمصيصة
وفي هذه السنة أيضا نزل ملك الروم على طرسوس وحصرها وجرى بينهم وبين أهلها حروب كثيرة سقط في بعضها الدمستق بن الشمشقيق إلى الأرض وكاد يؤسر فقاتل الروم وخلصوه وأسر أهل طرسوس بطريقا كبيرا من بطارقة الروم ورحل الروم عنها وتركوا عسكرا على المصيصة مع الدمستق فحصرها ثلاثة أشهر لم يمنعهم منها أحد فاشتد الغلاء على الروم وكان شديدا قبل نزولهم فلها طمعوا في البلاد لعدم الأقوات عندهم فلما نزل الروم زاد شدة وكثر الوباء أيضا فمات من الروم كثير فاضطروا إلى الرحيل.
555

ذكر فتح رمطة والحرب بين المسلمين والروم بصقلية
قد ذكرنا سنة إحدى وخمسين [وثلاثمائة] فتح طبرمين وحصر رمطة والروم فيها فلما رأى الروم ذلك خافوا وأرسلوا إلى ملك القسطنطينية يعلمونه الحال ويطلبون منه أن ينجدهم بالعساكر فجهز إليهم عسكرا عظيما يزيدون على أربعين ألف مقاتل وسيرهم في البحر فوصلت الأخبار إلى الأمير أحمد أمير صقلية فأرسل إلى المعز بأفريقية يعرفه ذلك ويستمده ويسأل إرسال العساكر إليه سريعا وشرع هو في اصلاح الأسطول والزيادة فيه وجمع الرجال المقاتلة في البر والبحر.
وأما المعز فإنه جمع الرجال وحشد وفرق فيهم الأموال الجليلة وسيرهم مع الحسن بن علي والد أحمد فوصلوا إلى صقلية في رمضان وسار بعضهم إلى الذين يحاصرون رمطة فكانوا معهم على حصارها.
فأما الروم فإنهم وصلوا أيضا إلى صقلية ونزلوا عند مدينة مسيني في شوال وزحفوا منها بجموعهم التي لم يدخل صقلية مثلها إلى رمطة فلما سمع الحسن بن عمار مقدم الجيش الذين يحاصرون رمطة ذلك جعل عليها طائفة من عسكره يمنعون من يخرج منها وبرز بالعساكر للقاء الروم وقد عزموا على الموت، ووصل الروم وأحاطوا بالمسلمين.
ونزل أهل رمطة إلى من يليهم ليأتوا المسلمين من ظهورهم فقاتلهم الذين جعلوا هناك لمنعهم وصدوهم عما أرادوا وتقدم الروم إلى القتال وهم
556

مدلون بكثرتهم وبما معهم من العدد وغيرها والتحم القتال وعظم الأمر على المسلمين وألحقهم العدو بخيامهم وأيقن الروم بالظفر فلما رأى المسلمين عظم ما نزل بهم اختاروا الموت ورأوا أنه أسلم لهم وأخذوا بقول الشاعر:
(تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد * لنفسي حياة مثل أن أتقدما)
فحمل بهم الحسن بن عمار أميرهم وحمي الوطيس حينئذ وحرضهم على قتال الكفار وكذلك فعل بطارقة الروم حملوا وحرضوا عساكرهم.
وحمل منويل مقدم الروم فقتل في المسلمين فطعنه المسلمون فلم يؤثر فيه لكثرة ما عليه من اللباس فرمى بعضهم فرسه فقتله واشتد القتال عليه فقتل هو وجماعة من بطارقته فلما قتل انهزم الروم أقبح هزيمة وأكثر المسلمون فيه القتل ووصل المنهزمون إلى جرف خندق عظيم كالحفرة فسقطوا فيها من خوف السيف فقتل بعضهم بعضا حتى امتلأت وكانت الحرب من بكرة إلى العصر وبات المسلمون يقاتلونهم في كل ناحية وغنموا من السلاح والخيل وصنوف الأموال ما لا يحد.
وكان في جملة الغنيمة سيف هندي عليه مكتوب هذا سيف هندي وزنه مائة وسبعون مثقالا طالما ضرب به بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إلى المعز مع الأسرى والرؤوس وسار من سلم من الروم إلى ريو.
وأما أهل رمطة فإنهم ضعفت نفوسهم وكانت الأقوات قد قلت عندهم فأخرجوا من فيها من الضعفاء وبقي المقاتلة فزحف إليهم المسلمون وقاتلوهم
557

إلى الليل ولزموا القتال في الليل أيضا وتقدموا بالسلاليم فملكوها عنوة وقتلوا من فيها وسبوا الحرم والصغار وغنموا ما فيها وكان شيئا كثيرا عظيما ورتب فيها من المسلمين من يعمرها ويقيم فيها.
ثم إن الروم تجمع من سلم منهم وأخذوا معهم من في صقلية وجزيرة ريو منهم وركبوا مراكبهم يحفظون نفوسهم فركب الأمير أحمد في عساكره وأصحابه في المراكب أيضا وزحف إليهم في الماء وقاتلهم واشتد القتال بينهم وألقى جماعة من المسلمين نفوسهم في الماء وخرقوا كثيرا من المراكب التي للروم فغرقت وكثر القتل في الروم فانهزموا لا يلوي أحد على أحد وسارت سرايا المسلمين في مدائن الروم فغنموا منها فبذل أهلها لهم من الأموال وهادنوهم وكان ذلك سنة أربع وخمسين وثلاثمائة وهذه الوقعة الأخيرة هي المعروفة بوقعة المجاز.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة عاشر المحرم أغلقت الأسواق ببغداد يوم عاشوراء وفعل الناس ما تقدم ذكره فثارت فتنة عظيمة بين الشيعة والسنية جرح فيهل كثير ونهبت الأموال.
558

وفيها في ذي الحجة ظهر بالكوفة إنسان ادعى أنه علوي وكان مبرقعا فوقع بينه وبين أبي الحسن محمد بن عمر العلوي وقائع فلما عاد معز الدولة من الموصل هرب المبرقع.
559

354
ثم دخلت سنة أربع وخمسين وثلاثمائة
ذكر استيلاء الروم على المصيصة وطرسوس
في هذه السنة فتح الروم المصيصة وطرسوس.
وكان سبب ذلك أن نقفور ملك الروم بنى بقيسارية مدينة ليقرب من بلاد الإسلام وأقام بها ونقل أهله إليها فأرسل إليه أهل طرسوس والمصيصة يبذلونه له أتاوة ويطلبون منه أن ينفذ إليهم بعض أصحابه يقيم عندهم فعزم على إجابتهم إلى ذلك فأتاه الخبر بأنهم قد ضعفوا وعجزوا وأنهم لا ناصر لهم وأن الغلاء قد اشتد عليهم وقد عجزوا عن القوت وأكلوا الكلاب والميتة وقد كثر فيهم الوباء فيموت منهم في اليوم نحو ثلاثمائة نفس فعاد تفقور عن إجابتهم وأحضر الرسول وأحرق الكتاب على رأسه واحترقت لحيته وقال لهم أنتم كالحية في الشتاء تخدر وتذبل حتى تكاد تموت فإن أخذها انسان وأحسن إليها وأدفأها انتعشت ونهشته وأنتم إنما أطعتم لضعفكم
560

وإن تركتكم حتى تستقيم أحوالكم تأذيت بكم.
وأعاد الرسول وجمع جيوش الروم وسار إلى المصيصة بنفسه فحاصرها وفتحها عنوة بالسيف يوم السبت ثالث عشر رجب ووضع السيف فيهم فقتل منهم مقتلة عظيمة ثم رفع السيف ونقل كل من بها إلى بلد الروم وكانوا نحو مائتي ألف انسان.
ثم سار إلى طرسوس فحصرها فأذعن أهلها بالطاعة وطلبوا الأمان فأجابهم إليه وفتحوا البلد فلقيهم بالجميل وأمرهم أن يحملوا من سلاحهم وأموالهم ما يطيقون ويتركوا الباقي ففعلوا ذلك وساروا برا وبحرا وسير معهم من يحميهم حتى بلغوا أنطاكية.
وجعل الملك المسجد الجامع بطرسوس اصطبلا لدوابه وأحرق المنبر وعمر طرسوس وحصنها وجلب الميرة إليها حتى رخصت الأسعار وتراجع إليها كثير من أهلها ودخلوا في طاعة الملك وتنصر بعضهم.
وأراد المقام بها ليقرب من بلاد المسلمين ثم عاد إلى القسطنطينية وأراد الدمستق وهو ابن الشمشقيق أن يقصد ميافارقين وبها سيف الدولة فأمره الملك باتباعه إلى القسطنطينية فمضى إليه.
ذكر مخالفة أهل أنطاكية على سيف الدولة
وفي هذه السنة عصى أهل أنطاكية على سيف الدولة بن حمدان.
وكان سبب ذلك أن إنسانا من أهل طرسوس كان مقدما فيها،
561

يسمى رشيقا النسيمي، كان في جملة من سلمها إلى الروم وخرج إلى أنطاكية فلما وصلها خدمه إنسان يعرف بابن الأهوازي كان يضمن الأرحاء بأنطاكية، فسلم إليه ما اجتمع عنده من حاصل الأرجاء وحسن له العصيان وأعلمه أن سيف الدولة بميافارقين قد عجز عن العود إلى الشام فعصى واستولى على أنطاكية، وسار إلى حلب وجرى بينه وبين النائب عن سيف الدولة وهو قرعويه حروب كثيرة صعد قرعويه إلى قلعة حلب فتحصن بها وأنفذ سيف الدولة عسكرا مع خادمه بشارة نجدة لقرعويه فلما علم بهم رشيق انهزم عن حلب فسقط عن فرسه فنزل إليه إنسان عربي فقتله وأخذ رأسه وحمله إلى قرعويه وبشارة.
ووصل ابن الأهوازي إلى أنطاكية فأظهر إنسانا من الديلم اسمه دزبر وسماه الأمير وتقوى بإنسان علوي ليقيم له الدعوة وتسمى هو بالأستاذ فظلم الناس وجمع الأموال وقصد قرعويه إلى أنطاكية وجرت بينهما وقعة عظيمة فكانت على ابن الأهوازي أولا ثم عادت على قرعوية فانهزم وعاد إلى حلب.
ثم ان سيف الدولة عاد عن ميافارقين عند فراغه من الغزاة إلى حلب فأقام بها ليلة وخرج من الغد فواقع دزبر وابن الأهوازي فقاتل من بها فانهزموا وأسر دزبر وابن الأهوازي فقتل دزبر وسجن ابن الأهوازي مدة ثم قتله.
562

ذكر عصيان أهل سجستان
وفي هذه السنة عصى أهل سجستان على أميرهم خلف بن أحمد وكان هذا خلف هو صاحب سجستان حينئذ وكان عالما محبا لأهل العلم فاتفق أنه حج سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة واستخلف على أعماله إنسانا من أصحابه يسمى طاهر بن الحسين فطمع في الملك وعصى على خلف لما عاد من الحج فسار خلف إلى بخارى واستنصر بالأمير منصور بن نوح وسأله معونته ورده إلى ملكه فأنجده وجهز معه العساكر فسار بهم نحو سجستان فلما أحس بهم طاهر فارق مدينة خلف وتوجه نحو اسفرار وعاد خلف إلى قراره وملكه وفرق العساكر.
فلما علم طاهر بذلك عاد إليه وغلب على سجستان وفارقها خلف وعاد إلى حضرة الأمير منصور أيضا ببخارى فأكرمه وأحسن إليه وأنجده بالعساكر الكثيرة ورده إلى سجستان فوافق وصوله موت طاهر وانتصاب ابنه الحسين مكانه فحاصره خلف وضايقه وكثر بينهم القتلى واستظهر خلف عليه فلما رأى ذلك كتب إلى بخارى يعتذر ويتنصل ويظهر الطاعة ويسأل الإقالة فأجابه الأمير منصور إلى ما طلبه وكتب في نمكينه من المسير إليه فسار من سجستان إلى بخارى فأحسن الأمير منصور إليه.
واستقر خلف بن أحمد بسجستان ودامت أيامه فيها وكثرت أمواله ورجاله فقطع ما كان يحمله إلى بخارى من الخلع والخدم والأموال التي
563

استقرت عليها فجهزت العساكر إليه وجعل مقدمها الحسين بن طاهر بن الحسين المذكور فساروا إلى سجستان وحصروا خلف بن أحمد بحصن أرك وهو من أمنع الحصون وأعلاها محلا وأعمقها خندقا فدام الحصار عليه سبع سنين.
وكان خلف يقاتلهم بأنواع السلاح ويعمل بهم أنواع الحيل حتى أنه كان يأمر بصيد الحيات ويجعلها في جرب ويقذفها في النجنيق إليهم فكانوا يتنقلون لذلك من مكان إلى مكان.
فلما طال ذلك الحصار وفنيت الأموال والآلات كتب نوح بن منصور إلى أبي الحسن بن سيمجور الذي كان أمير جيوش خراسان وكان حينئذ قد عزل عنها على ما سنذكره يأمره بالمسير إلى خلف ومحاصرته وكان بقهستان فسار منها إلى سجستان وحصر خلفا وكان بينهما مودة فأرسل إليه أبو الحسن يشير عليه بالنزول عن حصن أرك وتسليمه إلى الحسين بن طاهر ليصير لمن قد حصره من العساكر طريق وحجة يعودون بها إلى بخارى فإذا تفرقت العساكر عاود هو محاربة الحسين وبكر ابن الحسين مفردا من العساكر فقبل خلف مشورته وفارق حصن أرك إلى حصن الطارق ودخل أبو الحسين السيمجوري إلى أرك وأقام به الخطبة الأمير نوح وانصرف عنه وقرر الحسين بن طاهر فيه.
وسنورد ما يتجدد فيما بعد وكان أول وهن دخل على دولة السامانية فطمع أصحاب الأطراف فيهم لسوء طاعة أصحابهم لهم وقد كان ينبغي أن
564

نورد كل حادثة من هذه الحوادث في سنتها لكننا جمعناها لقلتها فإنه كان ينسى أوله لبعد ما بينه وبين آخره.
ذكر طاعة أهل عمان معز الدولة وما كان منهم
وفيها سير معز الدولة عسكرا إلى عمان فلقوا أميرها وهو نافع مولى يوسف بن وجيه وكان يوسف قد هلك وملك نافع البلد بعده وكان أسود فدخل نافع في طاعة معز الدولة وخطب له وضرب له اسمه على الدينار والدرهم فلما عاد العساكر عنه وثب به أهل عمان فأخرجوه عنهم وأدخلوا القرامطة الهجريين إليهم وتسلموا البلد فكانوا يقيمون فيه نهارا ويخرجون ليلا إلى معسكرهم وكتبوا إلى أصحابهم بهجر يعرفونهم الخبر ليأمروهم بما يفعلون.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة ليلة السبت رابع عشر صفر انخسف القمر جميعه.
وفيها نزلت طائفة من الترك على بلاد الخزر فانتصر الخزر بأهل خوارزم فلم ينجدوهم وقالوا: أنتم كفار فإن أسلمتم نصرناكم فأسلموا إلا ملكهم فنصرهم أهل خوارزم وأزالوا الترك عنهم ثم أسلم ملكهم بعد ذلك.
وفيها رابع جمادى الآخرة تقلد الشريف أبو أحمد الحسين بن موسى
565

والد الرضي والمرتضى نقابة العلويين وامارة الحاج وكتب له منشور من ديوان الخليفة.
وفيها أنفذ القرامطة سرية إلى عمان والشراة في جبالها كثير فاجتمعوا فأوقعوا بالقرامطة فقتلوا كثيرا منهم وعاد الباقون.
وفيها ثار إنسان من القرامطة الذين استأمنوا إلى سيف الدولة واسمه مروان وكان يتقلد السواحل لسيف الدولة فلما تمكن ثار بحمص فملكها وملك غيرها فخرج إليه غلام لقرعويه حاجب سيف الدولة اسمه بدر وواقع القرمطي عدة وقعات ففي بعضها رمى بدر مروان بنشابة مسمومة واتفق أن أصحاب مروان أسروا بدرا فقتله مروان ثم عاش بعد قتله أياما ومات.
وفيها قتل المتنبي الشاعر واسمه أبو الطيب أحمد بن الحسين الكندي قريبا من النعمانية وقتل معه ابنه وكان قد عاد من عضد الدولة بفارس فقتله الأعراب هناك واخذوا ما معه.
وفيها توفي محمد بن حبان بن أحمد بن حبان أبو حاتم البستي صاحب التصانيف المشهورة وأبو بكر محمد بن الحسن بن يعقوب بن مقسم المفسر النحوي المقري وكان عالما بنحو الكفين وله تفسير كبير حسن ومحمد بن عبد الله بن إبراهيم بن عبدويه أبو بكر الشافعي في ذي الحجة وكان عالما بالحديث عالي الإسناد.
(وحبان بكسر الحاء والباء الموحدة).
566

355
ثم دخلت سنة خمس وخمسين وثلاثمائة
ذكر ما تجدد بعمان واستيلاء معز الدولة عليها
قد ذكرنا في السنة التي قبل هذه خبر عمان ودخول القرامطة إليها وهرب نافع عنها فلما هرب نافع واستولى القرامطة على البلد كان معهم كاتب يعرف بعلي ين أحمد ينظر في أمر البلد وكان بعمان قاض له عشيرة وجاء فاتفق هو وأهل البلد أن ينصبوا في الأمرة رجلا يعرف بابن طغان وكان من صغار القواد بعمان وأدناهم مرتبة فلما استقر في الأمرة خاف ممن فوقه من القواد أن يغلبوه على أمره فقبض على ثمانين قائدا فقتل بعضهم وغرق بعضهم.
وقدم البلد ابنا أخت لرجل ممن قد غرقهم فأقاما مدة ثم إنهما دخلا على طغان يوما من أيام السلام فسلما عليه فلما تقوض المجلس قتلاه فاجتمع رأي الناس على تأمير عبد الوهاب بن أحمد بن مروان وهو من أقارب القاضي فولي الإمارة بعد امتناع منه واستكتب علي بن أحمد الذي كان مع الهجريين فأمر عبد الوهاب كاتبه عليا أن يعطي
الجند أرزاقهم صلة ففعل ذلك فلما انتهى إلى الزنج وكانوا ستة آلاف رجل ولهم بأس
567

وشدة، قال لهم علي إن الأمير عبد الوهاب أمرني أن أعطي البيض من الجند كذا وكذا وأمر لكم بنصف ذلك فاضطربوا وامتنعوا فقال لهم هل لكم أن تبايعوني فأعطيكم مثل سائر الأجناد فأجابوه إلى ذلك وبايعوه وأعطاهم مثل البيض من الجند فامتنع البيض من ذلك ووقع بينهم حرب فظهر الزنج عليهم فسكنوا واتفقوا مع الزنج وأخرجوا عبد الوهاب من البلد فاستقر في الإمارة علي بن أحمد.
ثم أن معز الدولة سار إلى واسط لحرب عمران بن شاهين ولإرسال جيش إلى عمان فلما وصل إلى واسط قدم عليه نافع الأسود الذي كان صاحب عمان فأحسن إليه وأقام للفراغ من أمر عمران بن شاهين على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وانحدر من واسط إلى الأبلة في شهر رمضان فأقام بها يجهز الجيش والمراكب ليسيروا إلى عمان ففرغ منه وساروا منتصف شوال واستعمل عليهم أبا الفرج محمد بن العباس بن فسانجس وكانوا في مائة قطعة فلما كانوا بسيراف انضم إليه الجيش الذي جهزه عضد الدولة من فارس نجدة لعمه معز الدولة فاجتمعوا وساروا إلى عمان ودخلها تاسع ذي الحجة وخطب لمعز الدولة فيها وقتل من أهلها مقتلة عظيمة وأحرقت مراكبهم وهي تسعة وثمانون مركبا.
ذكر هزيمة إبراهيم بن المرزبان
في هذه السنة انهزم إبراهيم بن المرزبان عن أذربيجان إلى الري.
وسبب ذلك أن إبراهيم لما انهزم من جستان بن شرمزن على ما ذكرناه
568

سنة تسع وأربعين وثلاثمائة قصد أرمينية وشرع يستعد ويتجهز للعود إلى أذربيجان وكانت ملوك أرمينية من الأرمن والأكراد وراسل جستان بن شرمزن وأصلحه فأتاه الخلق الكثير.
واتفق أن إسماعيل ابن عمه وهسوذان توفي فسار إبراهيم إلى أردبيل فملكها وانصرف أبو القاسم بن مسكيي إلى وهسوذان وصار معه وسار إبراهيم إلى عمه وهسوذان يطالبه بثأر إخوته فخافه عمه وهسوذان وسار هو وابن مسيكي إلى بلد الديلم واستولى إبراهيم على أعمال عمه وخبط أصحابه وأخذ أمواله التي ظفر بها.
وجمع وهسوذان الرجال وعاد إلى قلعته بالطرم وسير أبا القاسم بن مسيكي في الجيوش إلى إبراهيم فلقيهم إبراهيم فاقتتلوا قتالا شديدا وانهزم إبراهيم وتبعه الطلب فلم يدركوه وسار وحده حتى وصل إلى الري إلى ركن الدولة فأكرمه ركن الدولة وأحسن إليه وكان زوج أخت إبراهيم فبالغ في إكرامه لذلك وأجزل له الهدايا والصلات.
ذكر خبر الغزاة الخراسانية مع ركن الدولة
في هذه السنة في رمضان خرج من خراسان جمع عظيم يبلغون عشرين ألفا إلى الري بنية الغزاة فبلغ خبرهم إلى ركن الدولة وكثرة جمعهم وما فعلوه في أطراف بلاده من الفساد وان رؤساءهم لم يمنعوهم عن ذلك فأشار عليه الأستاذ أبو الفضل بن العميد وهو وزيره بمنعهم من دخول
569

بلاده مجتمعين فقال لا تتحدث الملوك أنني خفت جمعا من الغزاة فأشار عليه بتأخيرهم إلى أن يجمع عسكره وكانوا متفرقين في أعمالهم فلم يقبل منه فقال له أخاف أن يكون لهم مع صاحب خراسان مواطأة على بلادك ودولتك فلم يلتفت إلى قوله.
فلما وردوا الري اجتمع رؤساؤهم وفيهم القفال الفقيه وحضروا مجلس ابن العميد وطلبوا مالا ينفقونه فوعدهم فاشتطوا في الطلب وقالوا: نريد خراج هذه البلد جميعها فإنه لبيت المال وقد فعل الروم بالمسلمين ما بلغكم واستولوا على بلادكم وكذلك الأمن ونحن غزاة وفقراء وأبناء سبيل فنحن أحق بالمال منكم وطلبوا جيشا يخرج معهم واشتطوا في الاقتراح فعلم ابن العميد حينئذ خبث سرائرهم وتيقن ما كان ظنه فيهم فرفق بهم وداراهم فعدلوا عنه إلى مشاتمة الديلم ولعنهم وتكفيرهم ثم قاموا عنه وشرعوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسلبون العامة بحجة ذلك ثم إنهم أثاروا الفتنة وحاربوا جماعة من الديلم إلى أن حجز بينهم الليل ثم باكروا القتال ودخلوا المدينة ونهبوا دار الوزير ابن العميد وجرحوه وسلم من القتل.
وخرج ركن الدولة إليهم في أصحابه وكان في قلة فهزمه الخراسانية فلو تبعوه لأتوا عليه وملكوا البلد منه لكنهم عادوا عنه لأن الليل أدركهم فلما أصبحوا راسلهم ركن الدولة ولطف بهم لعلهم يسيرون من بلدة فلم يفعلوا وكانوا ينتظرون مددا يأتيهم من صاحب خراسان فإنه كان بينهم مواعدة على تلك البلاد.
ثم إنهم اجتمعوا وقصدوا البلد ليملكوه فخرج ركن الدولة إليهم
570

فقاتلهم وأمر نفرا من أصحابه أن يسيروا إلى مكان يراهم ثم يثيروا غبرة شديدة ويرسلوا إليه من يخبره أن الجيوش قد أتته ففعلوا ذلك.
وكان أصحابه قد خافوا لقلتهم وكثرة عدوهم فلما رأوا الغبرة وأتاهم من أخبرهم أن أصحابهم لحقوهم قويت نفوسهم وقال لهم ركن الدولة احملوا على هؤلاء لعلنا نظفر بهم قبل وصول أصحابنا فيكون الظفر والغنيمة لنا فكبروا وحملوا حملة صادقة فكان لهم الظفر وانهزم الخراسانية وقتل منهم خلق كثير وأسر أكثر ممن قتل وتفرق الباقون فطلبوا الأمان فأمنهم ركن الدولة.
وكان قد دخل البلد جماعة منهم يكبرون كأنهم يقاتلون الكفار ويقتلون كل من رأوه بزي الديلم ويقولون هؤلاء رافضة فبلغهم خبر انهزام أصحابهم وقصدهم الديلم ليقتلوهم فمنعهم ركن الدولة وأمنهم وفتح لهم الطريق ليعودوا ووصل بعدهم نحو ألفي رجل بالعدة والسلاح فقاتلهم ركن الدولة فهزمهم وقتل فيهم ثم أطلق الأسارى وأمر لهم بنفقات وردهم إلى بلادهم وكان إبراهيم بن المرزبان عند ركن الدولة فأثر فيهم آثارا حسنة.
ذكر عود إبراهيم بن المرزبان إلى أذربيجان
في هذه السنة عاد إبراهيم بن المرزبان إلى أذربيجان واستولى عليها.
وكان سبب ذلك أنه لما قصد ركن الدولة على ما ذكرناه جهز العساكر
571

معه، وسير معه الأستاذ أبا الفضل بن العميد ليرده إلى ولايته ويصلح له أصحاب الأطراف فسار معه إليها واستولى عليها وأصلح له جستان بن شرمزن وقاده إلى طاعته وغيره من طوائف الأكراد ومكنه من البلاد.
وكان ابن العميد لما وصل إلى تلك البلاد ورأى كثرة دخلها وسعة مياهها ورأى ما يتحصل لإبراهيم منها فوجده قليلا لسوء تدبيره وطمع الناس فيه لاشتغاله بالشرب والنساء فكتب إلى ركن الدولة يعرفه الحال ويشير بأن يعوضه من بعض ولايته بمقدار ما يتحصل له من هذه البلاد ويأخذها منه فإنه لا يستقيم له حال مع الذين بها وأنها تؤخذ منه فامتنع ركن الدولة من قبول ذلك منه وقال لا يتحدث الناس عني أني استجار بي إنسان وطمعت فيه وأمر أبا الفضل بالعود عنه وتسليم البلاد إليه ففعل وعاد وحكى لركن الدولة صورة الحال وحذره خروج البلاد من يد إبراهيم وكان الأمر كما ذكره حتى أخذ إبراهيم وحبس على ما نذكره.
ذكر خروج الروم إلى بلاد الاسلام
وفي هذه السنة في شوال خرجت الروم فقصدوا مدينة آمد ونزلوا عليها وحصروها وقاتلوا أهلها فقتل منهم ثلاثمائة رجل وأسر نحو أربعمائة أسير ولم يمكنهم فتحها فانصرفوا إلى دارا وقربوا من نصيبين ولقيهم قافلة واردة من ميافارقين فأخذوها وهرب الناس من نصيبين
572

خوفا منهم، حتى بلغت أجرة الدابة مائة درهم.
وراسل سيف الدولة الأعراب ليهرب معهم وكان في نصيبين فاتفق أن الروم عادوا قبل هربه فأقام بمكانه وساروا من ديار الجزيرة إلى الشام فنازلوا أنطاكية فأقاموا عليها مدة طويلة يقاتلون أهلها فلم يمكنهم فتحها فخربوا بلدها ونهبوه وعادوا إلى طرسوس.
ذكر ما جرى لمعز الدولة مع عمران بن شاهين
وقد ذكرنا انحدار معز الدولة إلى واسط لأجل قصد ولاية عمران بن شاهين بالبطائح فلما وصل إلى واسط أنفذ الجيش مع أبي الفضل العباس بن الحسن فساروا فنزلوا الجامدة وشرعوا في سد الأنهار التي تصب إلى البطائح.
وسار معز الدولة إلى الأبلة وأرسل الجيش إلى عمان على ما ذكرناه وعاد إلى واسط لاتمام حرب عمران وملك بلده فأقام بها فمرض وأصعد إلى بغداد لليلتين بقيتا من ربيع الأول سنة ست وخمسين [وثلاثمائة] وهو عليل وخلف العسكر بها ووعدهم أنه يعود إليهم فلما وصل إلى بغداد توفي على ما نذكره فدعت الضرورة إلى مصالحة عمران والانصراف عنه.
573

ذكر عدة حوادث
في هذه السنة خرجت بنو سليم على الحجاج السائرين من مصر والشام وكانوا عالما كثيرا ومعهم من الأموال ما لا حد عليه لأن كثيرا من الناس من أهل الثغور والشام هربوا من خوفهم من الروم بأموالهم وأهليهم وقصدوا مكة ليسيروا منها إلى العراق فأخذوا ومات من الناس في البرية ما لا يحصى ولم يسلم إلا القليل.
وفيها عظم أمر أبي عبد الله الداعي بالديلم ولبس الصوف وأظهر النسك والعبادة وحارب ابن وشمكير فهزمه وعزم على المسير إلى طبرستان وكتب إلى العراق كتابا يدعوهم فيه إلى الجهاد.
وفيها تم الفداء بين سيف الدولة والروم وسلم سيف الدولة ابن عمه أبا فراس بن حمدان وأبا الهيثم بن القاضي أبي الحصين.
وفيها انخسف القمر جميعه ليلة السبت ثالث عشر شعبان وغاب منخسفا.
وفيها توفي أبو بكر محمد بن عمر بن محمد بن سالم المعروف بابن الجعابي الحافظ البغدادي بها وكان يتشيع وأبو عبد الله محمد بن الحسين بن علي بن الحسين بن الوضاح الوضاحي الشاعر الأنباري.
574

356
ثم دخلت سنة ست وخمسين وثلاثمائة
ذكر موت معز الدولة وولاية ابنه بختيار
في هذه السنة ثالث عشر ربيع الآخر توفي معز الدولة بعلة الذرب وكان بواسط وقد جهز الجيوش لمحاربة عمران بن شاهين فابتدأ به الإسهال وقوي عليه فسار نحو بغداد وخلف أصحابه ووعدهم أنه يعود إليهم لأنه رجا العافية فلما وصل إلى بغداد اشتد مرضه وصار لا يثبت في معدته شيء فلما أحس بالموت عهد إلى ابنه عز الدولة بختيار وأظهر التوبة وتصدق بأكثر ماله وأعتق مماليكه ورد شيئا كثيرا على أصحابه وتوفي في ربيع الآخر ودفن بباب التبن في مقابر قريش فكانت إمارته إحدى وعشرين سنة واحد عشر شهرا ويومين.
وكان حليما كريما عاقلا ولما مات معز الدولة وجلس ابنه عز الدولة في الإمارة مطر الناس ثلاثة أيام بلياليها مطرا دائما منع الناس من الحركة فأرسل إلى القواد فأرضاهم فانجلت السماء وقد رضوا فسكنوا ولم يتحرك أحد.
وكتب عز الدولة إلى العسكر بمصالحة عمران بن شاهين ففعلوا وعادوا وكانت إحدى يدي معز الدولة مقطوعة واختلف في سبب قطعها فقيل قطعت بكرمان لما سار إلى
قتال من بها وقد ذكرناه وقيل غير ذلك، وهو الذي أحدث أمر السعاة وأعطاهم عليه الجرايات الكثيرة لأنه أراد أن
575

يصل خبره إلى أخيه ركن الدولة سريعا فنشأ في أيامه فضل ومرعوش وفاقا جميع السعاة وكان كل واحد منهم يسير في اليوم نيفا وأربعين فرسخا وتعصب لهما الناس وكان أحدهما ساعي السنة والآخر ساعي الشيعة.
ذكر سوء سيرة بختيار وفساد حاله
لما حضر معز الدولة الوفاة وصى ولده بختيار بطاعة عمه ركن الدولة واستشارته في كل ما يفعله وبطاعة عضد الدولة ابن عمه لأنه أكبر منه سنا وأقوم بالسياسة ووصاه بتقرير كاتبيه أبي الفضل العباس بن الحسين وأبي الفرج محمد بن العباس لكفايتهما وأمانتهما ووصاه بالديلم والأتراك وبالحاجب سبكتكين فخالف هذه الوصايا جميعها واشتغل باللهو واللعب وعشرة النساء والمساخر والمغنين وشرع في إيحاش كاتبيه وسبكتكين فاستوحشوا وانقطع سبكتكين عنه فلم يحضر داره.
ونفى كبار الديلم عن مملكته شرها إلى إقطاعاتهم وأموالهم وأموال المتصلين بهم فاتفق أصاغرهم عليه وطلبوا الزيادات واضطر إلى مرضاتهم واقتدى بهم الأتراك فعملوا مثل ذلك ولم يتم له على سبكتكين ما يريد لاحتياطه واتفق الأتراك معه وخرج الديلم إلى الصحراء وطالبوا بختيار بإعادة من أسقط منهم فاحتاج أن يجيبهم لتغير سبكتكين عليه وفعل الأتراك
576

أيضا مثل فعلهم.
واتصل خبر موت معز الدولة بكاتبه أبي الفرج محمد بن العباس وهو متولي أمر عمان فسلمها إلى نواب عضد الدولة وسار نحو بغداد.
وكان سبب تسليمها إلى عضد الدولة أن بختيار لما ملك بعد موت أبيه تفرد أبو الفضل بالنظر في الأمور فخاف أبو الفرج أن يستمر انفراده عنه فسلم عمان إلى عضد الدولة لئلا يؤمر بالمقام فيها لحفظها وإصلاحها وسار إلى بغداد فلم يتمكن من الذي أراد وتفرد أبو الفضل بالوزارة.
ذكر خروج عساكر خراسان وموت وشمكير
وفي هذه السنة جهز الأمير منصور بن نوح صاحب خراسان وما وراء النهر الجيوش إلى الري.
وكان سبب ذلك أن أبا علي بن الياس سار من كرمان إلى بخارى ملتجئا إلى الأمير منصور على ما نذكره أن شاء الله تعالى فلما ورد عليه أكرمه وعظمه فأطعمه في ممالك بني بويه وحسن له قصدها وعرفه أن نوابه لا يناصحونه وأنهم يأخذون الرشا من الديلم فوافق ذلك ما كان يذكره له وشمكير، فكاتب الأمير منصور وشمكير والحسن بن الفيرزان يعرفهما ما عزم عليه من قصد الري ويأمرهما بالتجهز لذلك ليسيروا مع عسكره.
ثم إنه جهز العساكر وسيرها مع صاحب جيوش خراسان وهو أبو
577

الحسن محمد بن إبراهيم بن سيمجور الدواتي وأمره بطاعة وشمكير والانقياد له والتصرف بأمره وجعله مقدم الجيوش جميعها.
فلما بلغ الخبر إلى ركن الدولة أتاه ما لم يكن في حسابه وأخذه المقيم المقعد وعلم أن الأمر قد بلغ الغاية فسير أولاده وأهله إلى أصبهان وكاتب ولده عضد الدولة يستمده وكاتب ابن أخيه عز الدولة بختيار يستنجده أيضا.
فأما عضد الدولة فإنه جهز العساكر وسيرهم إلى طريق خراسان وأظهر أنه يريد قصد خراسان لخلوها من العساكر فبلغ الخبر أهل خراسان فاحجموا قليلا ثم ساروا حتى بلغوا الدامغان وبرز ركن الدولة في عساكره من الري نحوهم فاتفق موت وشمكير.
فكان سبب موته أنه وصله من صاحب خراسان هدايا من جملتها خيل فاستعرض الخيل واختار أحدها وركبه للصيد فعارضه خنزير قد رمي بحربة وهي ثابتة فيه فحمل الخنزير على وشمكير وهو غافل فضرب الفرس فشب تحته فألقاه إلى الأرض وخرج الدم من أذنيه وأنفه فحمل ميتا وذلك في المحرم من سنة سبع وخمسين [وثلاثمائة]، وانتقض جميع ما كانوا فيه وكفى الله ركن الدولة شرهم.
ولما مات وشمكير قام ابنه بيستون مقامه وراسل ركن الدولة وصالحه فأمده ركن الدولة بالمال والرجال.
ومن أعجب ما يحكى مما يرغب في حسن النية وكرم المقدرة أن وشمكير لما اجتمعت معه عساكر خراسان وسار كتب إلى ركن الدولة يتهدده بضروب من الوعيد والتهديد ويقول والله لئن ظفرت بك لأفعلن بك ولأصنعن بألفاظ قبيحة فلم يتجاسر الكاتب أن يقرأه فأخذه ركن الدولة
578

فقرأه وقال للكاتب أكتب إليه أما جمعك وأحشادك فما كنت قط أهون منك علي الآن وأما تهديدك وإيعادك فوالله لئن ظفرت بك لأعاملنك بضده ولأحسنن إليك ولأكرمنك فلقي وشمكير سوء نيته ولقي ركن الدولة حسن نيته.
وكان بطبرستان عدو لركن الدولة يقال له نوح بن نصر شديد العداوة له لا يزال يجمع له ويقصد أطراف بلاده فمات الآن وعصى عليه بهمذان إنسان يقال له أحمد بن هارون الهمذاني لما رأى خروج عساكر خراسان وأظهر العصيان فلما أتاه خبر موت وشمكير مات لوقته وكفى الله ركن الدولة هم الجميع.
ذكر القبض على ناصر الدولة بن حمدان
في هذه السنة قبض أبو تغلب بن ناصر الدولة على أبيه وحبسه في القلعة ليلة السبت لست بقين من جمادى الأولى.
وكان سبب قبضه أنه كان قد كبر وساءت أخلاقه وضيق على أولاده وأصحابه وخالفهم في أغراضهم للمصلحة فضجروا منه.
وكان فيما خالفهم فيه أنه لما مات معز الدولة عزم أولاده على قصد العراق وأخذه من بختيار فنهاهم وقال لهم ان معز الدولة قد خلف مالا يستظهر به ابنه عليكم فاصبروا
حتى يتفرق ما عنده من المال ثم اقصدوه وفرقوا
579

الأموال فإنكم تظفرون به لا محاله فوثب عليه أبو تغلب فقبضه ورفعه إلى القلعة ووكل به من يخدمه ويقوم بحاجاته وما يحتاج إليه.
فلما فعل ذلك خالفه بعض إخوته وانتشر أمرهم الذي كان يجمعهم وصار قصاراهم حفظ ما في أيديهم واحتاج أبو تغلب إلى مداراة عز الدولة بختيار وتجديد عقد الضمان ليحتج بذلك على إخوته ومن خالفه فضمنه البلاد بألف ألف ومائتي ألف درهم كل سنة.
ذكر من مات هذه السنة من الملوك
مات فيها وشمكير بن زيار كما ذكرناه ومعز الدولة وقد ذكرناه والحسن بن الفيرزان وكافور الإخشيدي وتقفور ملك الروم وأبو علي محمد بن إلياس صاحب كرمان وسيف الدولة بن حمدان.
فأما سيف الدولة أبو الحسن علي بن أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان بن حمدون التغلبي الربعي فإنه مات بحلب في صغر وحمل تابوته إلى ميافارقين فدفن بها وكانت علته الفالج وقيل عسر البول وكان مولده في ذي الحجة سنة ثلاث وثلاثمائة وكان جوادا كريما شجاعا وأخباره مشهورة في ذلك وكان يقول الشعر فمن شعره في أخيه ناصر الدولة:
(وهبت لك العليا وقد كنت أهلها * وقلت لهم بيني وبين أخي فرق)
580

(وما كان بي عنها نكول وإنما * تجاوزت عن حقي قتم لك الحق)
(أما كنت ترضى أن أكون مصليا * إذا كنت أرضى أن يكون لك السبق)
وله أيضا:
(قد جرى في دمعه دمه * فإلى كم أنت تظلمه)
(رد عنه الطرف منك فقد * جرحته منك أسهمه)
(كيف يستطيع التجلد من * خطرات الوهم تؤلمه)
ولما توفي سيف الدولة ملك بلاده بعده ابنه أبو المعالي شريف.
وأما أبو علي بن إلياس فسيرد ذكر موته سنة سبع وخمسين [وثلاثمائة].
وأما كافور فإنه كان صاحب مصر وكان من موالي الإخشيد محمد بن طغج واستولى على مصر ودمشق بعد موت الإخشيد لصغر أولاده وكان خصيا أسود وللمتنبي فيه مدح وهجو وكان قصده إلى مصر وخبره معه مشهور ولما دفن كنب على قبره:
(أنظر إلى غير الأيام ما صنعت * أفنت أناسا بها كانوا وقد فنيت)
(دنياهم ضحكت أيام دولتهم * حتى إذا انقرضوا ناحت لهم وبكت)
وفيها توفي أبو الفرج علي بن الحسين بن محمد بن أحمد الأصبهاني الأموي وهو من ولد محمد بن مروان بن الحكم الأموي وكان شيعيا،
581

وهذا من العجب وهو صاحب الأغاني وغيره.
وفيها توفي يوسف بن عمر بن أبي عمر القاضي وكان مولده سنة خمس وثلاثمائة وولي قضاء بغداد في حياة أبيه وبعده.
وفيها توفي أبو الحسن أحمد بن محمد بن سالم صاحب سهل التستري رضي الله عنه.
582

357
ثم دخلت سنة سبع وخمسين وثلاثمائة
ذكر عصيان حبشي
بن معز الدولة على أخيه بختيار بالبصرة وأخذه قهرا
في هذه السنة عصى حبشي بن معز الدولة على أخيه بختيار وكان بالبصرة لما مات والده فحسن له من عنده من أصحابه الاستبداد بالبصرة وذكروا له أن أخاه بختيار لا يقدر على قصده فشرع في ذلك فانتهى الخبر إلى أخيه فسير وزيره أبا الفضل العباس بن الحسين إليه وأمره بأخذه كيف أمكن فأظهر الوزير أنه يريد الانحدار إلى الأهواز.
ولما بلغ واسط أقام بها ليصلح أمرها وكتب إلى حبشي يعده أنه يسلم إليه البصرة سلما ويصالحه عليها ويقول إنني قد لزمني مال على الوزارة ولا بد من مساعدتي فنفذ إليه حبشي مائتي ألف درهم وتيقن حصول البصرة له وأرسل الوزير إلى عسكر الأهواز يأمرهم بقصد الأبلة في يوم ذكره لهم وسار هو من واسط نحو البصرة فوصلها هو وعسكر
583

الأهواز لميعادهم، فلم يتمكن حبشي من إصلاح شأنه وما يحتاج إليه فظفروا به وأخذوه أسيرا وحبسوه برامهرمر فأرسل عمه ركن الدولة وخلصه فسار إلى عضد الدولة فأقطعه وافرا وأقام عنده إلى أن مات في آخر سنة تسع وستين وثلاثمائة وأخذ الوزير من أمواله بالبصرة شيئا كثيرا ومن جملة ما أخذ له خمسة عشر ألف مجلد سوى
الأجزاء والمسرس وما ليس له جلد.
ذكر البيعة لمحمد بن المستكفي
في هذه السنة ببغداد بين الخاص والعام دعوة إلى رجل من أهل البيت اسمه محمد بن عبد الله وقيل أنه الدجال الذي وعد به رسول وأنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويجدد ما عفا من أمور الدين فمن كان من أهل السنة قيل له أنه عباسي ومن كان من أهل الشيعة فيل له أنه علوي فكثرت الدعاة إليه والبيعة له.
وكان الرجل بمصر وقد أكرمه كافور الإخشيدي وأحسن إليه وكان في جملة من بايع له سبكتكين العجمي وهو من أكابر قواد معز الدولة وكان يتشيع فظنه علويا وكتب إليه يستدعيه من مصر فصار إلى الأنبار وخرج سبكتكين إلى طريق الفرات وكان يتولى حمايته فلقي ابن المستكفي،
584

وترجل له وخدمه وأخذه وعاد إلى بغداد وهو لا يشك في حصول الأمر له.
ثم ظهر لسبكتكين أن الرجل عباسي فعاد عن ذلك الرأي فظن ابن المستكفي وخاف هو وأصحابه فهربوا وتفرقوا فأخذ ابن المستكفي ومعه أخ له وأحضرا عند بختيار فأعطاهما الأمان ثم أن المطيع تسلمه من بختيار فجدع أنفه ثم خفي خبره.
ذكر استيلاء عضد الدولة على كرمان
في هذه السنة ملك عضد الدولة بلاد كرمان.
وكان سبب ذلك أن أبا علي بن الياس كان صاحبها مدة طويلة على ما ذكرناه ثم أن أصابه فالج خاف منه على نفسه فجمع أكابر أولاده وهم ثلاثة اليسع وإلياس وسليمان فاعتذر إلى اليسع من جفوة كانت منه له قديما وولاه الأمر ثم بعده أخاه إلياس وأمر سليمان بالعود إلى بلادهم وهي بلاد الصغد وأمره بأخذ أموال له هناك وقصد إبعاده عن اليسع لعداوة كانت بينهما.
فسار من عند أبيه واستولى على اليرجان، فلما بلغ أباه ذلك أنفذ إليه اليسع في جيش وأمره بمحاربته وإجلائه عن البلاد ولا يمكنه من قصد الصغد إن طلب ذلك فسار إليه وحصره واستظهر عليه فلما رأى سليمان ذلك جمع أمواله وسار نحو خراسان واستقر أمر اليسع بالسيرجان وملكها وأمر بنهبها فنهبت فسأله القاضي وأعيان البلد العفو عنهم فعفا.
585

ثم إن جماعة من أصحاب والده خافوه فسعوا به إلى أبيه فقبض عليه وسجنه في قلعة له فمشت والدته إلى أصحاب والدة أخيه إلياس وقالت لها إن صاحبنا قد فسخ ما كان عقده لولدي وبعده يفعل بولدك مثله ويخرج الملك عن آل إلياس والرأي أن تساعديني على تخليص ولدي ليعود الأمر إلى ما كان عليه.
وكان والده أبو علي تأخذه غشية في بعض الأوقات فيمكث زمانا طويلا لا يعقل فاتفقت المرأتان وجمعتا الجواري في وقت غشيته وأخرجن اليسع من حبسه ودلينه من ظهر القلعة إلى الأرض فكسر قيده وقصد إلى العسكر فاستبشروا به وأطاعوه وهرب منه من كان أفسد حاله مع أبيه وأخذ بعضهم ونجا بعضهم وتقدم إلى القلعة ليحصرها.
فلما أفاق والده وعرف الصورة راسل ولده وسأله أن يكف عنه ويؤمنه على ماله وأهله حتى يسلم إليه القلعة وجميع أعمال كرمان ويرحل إلى خراسان ويكون عونا له هناك فأجابه إلى ذلك وسلم إليه القلعة وكثيرا من المال وأخذ معه ما أراد وسار إلى خراسان وقصد بخارى فأكرمه الأمير منصور بن نوح وأحسن إليه وقربه منه فحمل منصورا على تجهيز العساكر إلى الري وقصد بني بويه على ما ذكرناه وأقام عنده إلى أن توفي في سنة ست وخمسين وثلاثمائة بعلة الفالج على ما ذكرناه.
وكان ابنه سليمان ببخارى أيضا وأما اليسع فإنه صفت له كرمان فحمله ترف الشباب وجهله على مغالبة عضد الدولة على بعض حدود عمله وأتاه جماعة من أصحاب عضد الدولة وأحسن إليهم ثم عاد بعضهم إلى عضد الدولة فاتهم اليسع الباقين فعاقبهم ومثل بهم.
586

ثم إن جماعة من أصحابه استأمنوا إلى عضد الدولة فأحسن إليهم وأكرمهم ووصلهم فلما رأى أصحابه تباعد ما بين الحالين تألبوا عليه وفارقوه متسللين إلى عضد الدولة وأتاه منهم في دفعة واحدة نحو ألف رجل من وجوه أصحابه فبقي في خاصته وفارقه معظم عسكره.
فلما رأى ذلك أخذ أمواله وأهله وسار بهم نحو بخارى لا يلوي على شيء وسار عضد الدولة إلى كرمان فاستولى عليها وملكها وأخذ ما بها من أموال آل الياس وكان ذلك في شهر رمضان وأقطعها ولده أبا الفوارس وهو الذي لقب بعد ذلك شرف الدولة وملك العراق واستخلف عليها كورتكين بن جستان وعاد إلى فارس وراسله صاحب سجستان وخطب له بها وكان هذا أيضا من الوهن على بني سامان ومما طرق الطمع فيهم.
وأما اليسع فإنه لما وصل إلى بخارى أكرمه وأحسن إليه وصار يذم أهل سامان في قعودهم عن نصره وإعادته إلى ملكه فنفي عن بخارى إلى خوارزم.
وبلغ أبا علي بن سيمجور خبره فقصد ماله وأثقاله وكان خلفها ببعض نواحي خراسان فاستولى على ذلك جميعه وأصاب اليسع رمد شديد بخوارزم فأقلقه فحمله الضجر وعدم السعادة إلى أن قلع عينه الرمدة بيده وكان ذلك سبب هلاكه ولم يعد لآل إلياس بكرمان دولة وكان الذي أصابه لشؤم عصيان والده وثمرة عقوقه.
587

ذكر قتل أبي فراس بن حمدان
في هذه السنة في ربيع الآخر قتل أبو فراس بن أبي العلاء سعيد بن حمدان.
وسبب ذلك أنه كان مقيما بحمص فجرى بينه وبين أبي المعالي بن سيف الدولة بن حمدان وحشة فطلبه أبو المعالي فانحاز أبو فراس إلى صدد وهي قرية في طرف البرية عند حمص فجمع أبو المعالي الأعراب من بني كلاب وغيرهم وسيرهم في طلبه مع قرعويه فأدركه بصدد فكبسوه فاستأمن أصحابه واختلط هو بمن استأمن منهم فقال
قرعويه لغلام له اقتله فقتله وأخذ رأسه وتركت جثته في البرية حتى دفنها بعض الأعراب.
وأبو فراس هو خال أبي المعالي بن سيف الدولة ولقد صدق من قال إن الملك عقيم.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة منتصف شعبان مات المتقي لله إبراهيم بن المقتدر في داره ودفن فيها.
588

وفيها في ذي القعدة وصلت سرية كثيرة من الروم إلى أنطاكية فقتلوا في سوادها وغنموا وسبوا اثني عشر ألفا من المسلمين.
وفيها كان بين هبة الرفعاي وبين أسد بن وزير الغبري حرب فاستمد أسد خزر اليشكري الذي مع عمران بن شاهين صاحب البطائح وأوقع بها وقتل من أصحابه مقتلة عظيمة وهزمه واستولى على جنبلاء وقسين من أرض العراق فسار سبكتكين العجمي إلى خزر وضيق عليه فمضى إلى البصرة واستأمن إلى الوزير أبي الفضل.
وفيها عمل أهل بغداد يوم عاشوراء وغدير خم كما جرت به عادتهم من إظهار الحزن يوم عاشوراء والسرور يوم الغدير وتوفي علي بن بندار بن الحسين أبو الحسن الصوفي المعروف بالصيرفي النيسابوري.
589

358
ثم دخلت سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة
ذكر ملك المعز العلوي مصر
في هذه السنة سير المعز لدين الله أبو تميم معد بن إسماعيل المنصور بالله القائد أبا الحسن جوهرا غلام والده المنصور وهو رومي في جيش كثيف إلى الديار المصرية فاستولى عليها.
وكان سبب ذلك أنه لما مات كافور الإخشيدي صاحب مصر اختلفت القلوب فيها ووقع بها غلاء شديد حتى بلغ الخبز كل رطل بدرهمين والحنطة كل ويبة بدينار وسدس مصري، فلما بلغ الخبر بهذه الأحوال إلى المعز وهو بإفريقية سير جوهرا إليها فلما اتصل خبر مسيره إلى العساكر الإخشيدية بمصر هربوا عنها جميعهم قبل وصوله.
ثم إنه قدمها سابع عشر شعبان وأقيمت الدعوة للمعز بمصر في الجامع العتيق في شوال وكان الخطيب أبا محمد عبد الله بن الحسين الشمشاطي.
وفي جمادى الأولى من سنة تسع وخمسين [وثلاثمائة] سار جوهر إلى جامع ابن طولون وأمر المؤدن فأذن بحي على خير العمل وهو أول ما أذن بمصر ثم أذن بعده في الجامع العتيق وجهر في الصلاة: (ببسم الله الرحمن الرحيم) ولما استقر جوهر بمصر شرع في بناء القاهرة.
590

ذكر ملك عسكر المعز دمشق وغيرها من بلاد الشام
لما استقر جوهر بمصر وثبت قدمه سير جعفر بن فلاح الكتامي إلى الشام في جمع كبير فبلغ الرملة وبها أبو محمد الحسن بن عبد الله بن طغج فقاتله في ذي الحجة من السنة وجرت بينهما حروب كان الظفر فيها لجعفر بن فلاح وأسر ابن طغج وغيره من القواد فسيرهم إلى جوهر وسيرهم جوهر إلى المعز بأفريقية ودخل ابن فلاح البلد عنوة فقتل كثيرا من أهله ثم أمن من بقي وجبى الخراج وسار إلى طبرية فرأى ابن ملهم قد أقام الدعوة للمعز لدين الله فسار عنها إلى دمشق فقاتله أهلها فظفر بهم وملك البلد ونهب بعضه وكف عن الباقي وأقام الخطبة للمعز يوم الجمعة لأيام خلت من المحرم سنة تسع وخمسين [وثلاثمائة] وقطعت الخطبة العباسية.
وكان بدمشق الشريف أبو القاسم بن أبي يعلى الهاشمي وكان جليل القدر نافذ الحكم في أهلها فجمع أحداثها ومن يريد الفتنة فثار بهم في الجمعة الثانية وأبطل الخطبة للمعز لدين الله وأعاد خطبة المطيع لله ولبس السواد وعاد إلى داره فقاتله جعفر بن فلاح ومن معه قتالا شديدا وصبر أهل دمشق ثم افترقوا آخر النهار فلما كان الغد تزاحف الفريقان واقتتلوا ونشبت الحرب بينهما وكثر القتلى من الجانبين ودام القتال فعاد عسكر دمشق منهزمين والشريف بن أبي يعلى مقيم على باب البلد يحرض الناس على القتال ويأمرهم بالصبر.
وواصل المغاربة الحملات على الدماشقة حتى ألجأوهم إلى باب البلد ووصل المغاربة إلى قصر حجاج ونهبوا ما وجدوا فلما رأى ابن أبي يعلى
591

الهاشمي والأحداث مل لقي الناس من المغاربة خرجوا من البلد ليلا فأصبح الناس حيارى، فدخل الشريف الجعفري وكان خرج من البلد إلى جعفر بن فلاح في الصلح فأعاده وأمره بتسكين الناس وتطييب قلوبهم ووعدهم بالجميل ففعل ما أمره وتقدم إلى الجند والعامة بلزوم منازلهم وأن لا يخرجوا منها إلى أن يدخل جعفر بن فلاح البلد ويطوف فيه ويعود إلى عسكره ففعلوا ذلك.
فلما دخل المغاربة البلد عاثوا فيه ونهبوا قطرا منه فثار الناس وحملوا عليهم ووضعوا السيف فيهم فقتلوا منهم جماعة وشرعوا في تحصين البلد وحفر الخنادق وعزموا على إصطلاء الحرب وبذل النفوس في الحفظ وأحجمت المغاربة عنهم ومشى الناس إلى الشريف أبي القاسم بن أبي يعلى فطلبوا منه أن يسعى فيما بصلاح الحال ففعل ودبر الحال إلى أن تقرر الصلح يوم الخميس لست عشرة خلت من ذي الحجة سنة تسع وخمسين وثلاثمائة وكان الحريق قد أتى على عدة كثيرة من الدور وقت الحرب.
ودخل صاحب الشرطة جعفر بن فلاح البلد يوم الجمعة فصلى مع الناس وسكنهم وطيب قلوبهم وقبض على جماعة من الأحداث في المحرم سنة ستين وثلاثمائة وقبض على الشريف أبي القاسم بن أبي يعلى الهاشمي المذكور وسيره إلى مصر واستقر أمر دمشق.
وكان ينبغي أن يؤخر ملك ابن فلاح إلى آخر السنة وإنما قدمته ليتصل خبر المغاربة بعض ببعض.
592

ذكر اختلاف أولاد ناصر الدولة وموت أبيهم
كان سبب اختلاف أولاد ناصر الدولة أنه كان قد اقطع ولده حمدان مدينة الرحبة وماردين وغيرهما وكان أبو تغلب وأبو البركات وأختهما جميلة أولاد ناصر الدولة من وزوجته فاطمة بنت أحمد الكردية وكانت مالكة أمر ناصر الدولة فاتفقت مع ابنها أبي تغلب وقبضوا ناصر الدولة على ما ذكرناه فابتدأ ناصر الدولة يدبر في القبض عليهم فكاتب ابنه حمدان يستدعيه ليتقوى به عليهم فظفر أولاده بالكتاب فلم ينفذوه وخافوا أباهم وحذروه فحملهم خوفه على نقله إلى قلعة كواشي.
واتصل ذلك بحمدان فعظم عليه وصار عدوا مباينا وكان أشجعهم وكان قد سار عند وفاة عمه سيف الدولة من الرحبة إلى الرقة فملكها وسار إلى نصيبين وجمع من أطاعه وطالب إخوته بالإفراج عن والده وإعادته إلى منزلته فسار أبو تغلب إليه ليحاربه فانهزم حمدان قبل اللقاء إلى الرقة فنازله أبو تغلب وحصره ثم اصطلحا على دخن وعاد كل واحد منهما إلى موضعه.
وعاش ناصر الدولة الحين بن أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان بن حمدون التغلبي شهورا ومات في ربيع الأول سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة ودفن بتل توبة شرقي الموصل وقبض أبة تغلب أملاك أخيه حمدان وسير أخاه
593

أبا البركات إلى حمدان فلما قرب من الرحبة استأمن إليه كثير من أصحاب حمدان فانهزم حينئذ وقصد العراق مستأمنا إلى بختيار فوصل بغداد في شهر رمضان سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة فأكرمه بختيار وعظمه وحمل إليه هدية كثيرة جليلة المقدار ومعها كل ما يحتاج إليه مثله وارسل إلى أبي تغلب النقيب أبا أحمد الموسوي والد الشريف الرضي في الصلح مع أخيه فاصطلحوا وعاد حمدان إلى الرحبة وكان مسيره من بغداد في جمادى الأولى سنة تسع وخمسين وثلاثمائة.
فلما سمع أبو البركات بمسير أخيه حمدان على هذه الصورة فارق الرحبة ودخلها حمدان وراسله أخوه أبو تغلب في الاجتماع فامتنع من ذلك فعاد أبو تغلب وسير إليه أخاه أبا البركات فلما علم حمدان بذلك فارقها فاستولى أبو البركات عليها واستناب بها من يحفظها في طائفة من الجيش وعاد إلى الرقة ثم منها إلى عربان.
فلما سمع حمدان بعوده عنها وكان ببرية تدمر عاد إليها في شعبان فوافاها ليلا فأصعد جماعة من غلمانه السور وفتحوا له باب البلد فدخله ولا يعلم من به من الجند بذلك فلما صار في البلد وأصبح أمر بضرب البوق فبادر من الرحبة من الجند منقطعين يظنون أن صوت البوق من خارج البلد وكل من وصل إلى حمدان أسره حتى أخذهم جميعهم فقتل بعضا واستبقى بعضا، فلما سمع أبو البركات بذلك عاد إلى قرقيسيا واجتمع هو وأخوه حمدان منفردين فلم يستقر بينهما قاعدة فقال أبو البركات لحمدان أنا أعود إلى عربان وأرسل إلى أبي تغلب لعله يجيب إلى ما تلتمسه منه.
594

فسار عائدا إلى عربان وعبر حمدان الفرات من مخاضة بها وسار في أثر أخيه أبي البركات فأدركه بعربان وهو آمن فلقيهم أبو البركات بغير جنة ولا سلاح فقاتلهم واشتد القتال بينهم وحمل أبو البركات بنفسه في وسطهم فضربه أخوه حمدان فألقاه وأخذه أسيرا فمات من يومه وهو ثالث رمضان فحمل في تابوت إلى الموصل ودفن بتل توبة عند أبيه.
وتجهز أبو تغلب ليسير إلى حمدان وقدم بين يديه أخاه أبا الفوارس محمدا إلى نصيبين فلما وصلها كاتب أخاه حمدان ومالا على أبي تغلب فبلغ الخبر أبا تغلب فأرسل إليه يستدعيه ليزيد في إقطاعه فلما حضر عنده قبض عليه وسيره إلى قلعة كواشي من بلد الموصل وأخذ أمواله وكانت قيمتها خمسمائة ألف دينار.
فلما قبض عليه سار إبراهيم والحسين ابنا ناصر الدولة إلى أخيهما حمدان خوفا من أبي تغلب فاجتمعا معه وساروا إلى سنجار فسار أبو تغلب إليهم من الموصل في شهر رمضان سنة ستين وثلاثمائة ولم يكن لهم بلقائه طاقة فراسله أخواه إبراهيم والحسين يطلبان العود إليه خديعة منهما ليؤمنهما ويفتكا به فأجابهما إلى ذلك فهربا إليه وتبعهما كثير من أصحاب حمدان فعاد حمدان حينئذ من سنجار إلى عربان واستأمن إلى أبي تغلب صاحب حمدان وأطلعه على حيلة أخويه عليه وهما إبراهيم والحسين فأراد القبض عليهما فحذرا وهربا.
ثم إن نما غلام حمدان ونائبه بالرحبة أخذ جميع ماله بها وهرب إلى أصحاب أبي تغلب بحران وكانوا مع صاحبه سلامة البرقعيدي فاضطر حمدان إلى العود إلى الرحبة وسار أبو تغلب إلى قرقيسيا وارسل سرية عبروا الفرات
595

وكبسوا حمدان بالرحبة وهو لا يشعر فنجا هاربا واستولى أبو تغلب عليها وعمر سورها وعاد إلى الموصل ودخلها اخر ذي الحجة سنة ستين وثلاثمائة.
وسار حمدان إلى بغداد فدخلها آخر ذي الحجة سنة ستين ملتجئا إلى بختيار ومعه أخوه إبراهيم وكان أخوهما الحسين قد عاد إلى أخيه أبي تغلب مستأمنا وحمل بختيار إلى حمدان وأخيه إبراهيم هدايا جليلة كثيرة المقدار وأكرمهما واحترمهما.
ذكر ما فعله بالشام والجزيرة
وفي هذه السنة دخل ملك الروم الشام ولم يمنعه أحد ولا قاتله فسار في البلاد إلى طرابلس وأحرق بلدها وحصر قلعة عرقة فملكها ونهبها وسبى من فيها.
وكان صاحب طرابلس قد أخرجه أهلها لشدة ظلمه فقصد عرقة فأخذوه الروم وجميع ماله وكان كثيرا.
وقصد ملك الروم حمص وكان أهلها قد انتقلوا عنها وأخلوها فأحرقها ملك الروم ورجع إلى بلدان الساحل فأتى عليها نهبا وتخريبا وملك ثمانية عشرا منبرا فأما القرى فكثير لا يحصى وأقام في الشام شهرين يقصد أي موضع شاء ويخرب ما شاء ولا يمنعه أحد إلا أن بعض العرب كانوا يغيرون على أطرافهم فأتاه جماعة منهم وتنصروا وكادوا
596

المسلمين من العرب وغيرهم فامتنعت العرب من قصدهم وصار للروم الهيبة العظيمة في قلوب المسلمين فأراد أن يحصر أنطاكية وحلب فبلغه أن أهلها قد أعدوا الذخائر والسلاح وما يحتاجون إليه فامتنع من ذلك وعاد ومعه من السبي نحو مائة ألف رأس ولم يأخذ إلا الصبيان والصبايا والشبان فأما الكهول والشيوخ والعجائز فمنهم من قتله
ومنهم من أطلقه.
وكان بحلب قرعويه غلام سيف الدولة بن حمدان وقد أخرج أبا المعالي بن سيف الدولة منها على ما نذكره فصانع الروم عليها فعادوا إلى بلادهم فقيل كان سبب عودهم كثرة الأمراض والموت وقيل ضجروا من طول السفر والغيبة عن بلادهم فعادوا على عزم العود.
وسير ملك الروم سرية كثيرة إلى الجزيرة فبلغوا كفرتوثا ونهبوا وسبوا وأحرقوا وعادوا ولم يكن من أبي تغلب بن حمدان في ذلك نكير ولا أثر.
ذكر استيلاء قرعويه على حلب وإخراج أبي المعالي بن حمدان منها
في هذه السنة أيضا استولى قرعويه غلام سيف الدولة بن حمدان على حلب وأخرج أبا المعلي شريف ين سيف الدولة بن حمدان فسار أبو
597

المعالي إلى حران فمنعه أهلها من الدخول إليهم فطلب منهم أن يأذنوا لأصحابه أن يدخلوا يتزودوا منها يومين فأذنوا لهم ودخل إلى والدته بميافارقين وهي ابنة سعيد بن حمدان وتفرق عنه أكثر أصحابه ومضوا إلى أبي تغلب بن حمدان.
فلما وصل إلى والدته بلغها أن غلمانه وكتابه قد عملوا على القبض عليها وحبسها كما فعل أبو تغلب بأبيه ناصر الدولة فأغلقت أبواب المدينة ومنعت ابنها من دخولها ثلاثة أيام حتى أبعدت من تحب إبعاده واستوثقت لنفسها وأذنت له ولمن بقي معه في دخول البلد وأطلقت لهم الأرزاق وبقيت حران لا أمير عليها ولكن الخطبة فيها لأبي المعالي بن سيف الدولة وفيها جماعة من مقدمي أهلها يحكمون فيها ويصلحون من أمور الناس.
ثم إن أبا المعالي عبر الفرات إلى الشام وقصد حماة فأقام بها على ما نذكره سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة.
ذكر خروج أبي خزر بأفريقية
في هذه السنة خرج بأفريقية أبو خزر الزناتي واجتمع إليه جموع عظيمة من البربر والنكار فخرج المعز إليه بنفسه يريد قتاله حتى بلغ مدينة باغاية وكان أبو خرز قريبا منها وهو يقاتل نائب المعز عليها فلما سمع أبو خرز بقرب المعز تفرقت عنه جموعه وسار المعز في طلبه فسلك الأوعار فعاد المعز وأمر أبا الفتوح يوسف بلكين بن زيري بالمسير في طلبه
598

أين سلك فسار في أثره حتى خفي عليه خبره ووصل المعز إلى مستقره بالمنصورية.
فلما كان ربيع الآخر من سنة تسع وخمسين [وثلاثمائة] وصل أبو خزر الخارجي إلى المعز مستأمنا ويطلب الدخول في طاعته فقبل منه المعز ذلك وفرح به وأجرى عليه رزقا كثيرا.
ووصله عقيب هذه الحال كتب جوهر بإقامة الدعوة له في مصر والشام ويدعوه إلى المسير إليه ففرح المعز فرحا شديدا أظهره لكافة الناس ومدحه الشعراء فممن ذكر ذلك محمد بن هانئ الأندلسي فقال:
(يقول بنو العباس قد فتحت مصر * فقل لبني العباس قد قضي الأمر)
ذكر قصد أبي البركات بن حمدان ميافارقين وانهزامه
في هذه السنة في ذي القعدة سار أبو البركات بن ناصر الدولة بن حمدان في عسكره إلى ميافارقين فأغلقت زوجة سيف الدولة أبواب البلد في وجهه ومنعته من دخوله فأرسل إليها يقول إنني ما قصدت إلا الغزاة ويطلب منها ما يستعين به فاستقر بينهما أن تحمل إليه مائتي ألف درهم وتسلم إليه قرايا كانت لسيف الدولة بالقرب من نصيبين.
ثم ظهر لها أنه يعمل سرا في دخول البلد فأرسلت إلى من معه من غلمان سيف الدولة تقول لهم ما من حق مولاكم أن تفعلوا بحرمة وأولاده هذا؛
599

فنكلوا عن القتال والقصد لها ثم جمعت رجال وكبست أبا البركات ليلا فانهزم ونهب سواده وعسكره وقتل جماعة من أصحابه وغلمانه فراسلها انني لم اقصد لسوء فردت ردا جميلا وأعادت إليه بعض ما نهب منه وحملت إليه مائة ألف درهم وأطلقت الأسرى فعاد عنها.
وكان ابنها أبو المعالي بن سيف الدولة على حلب يقاتل قرعويه غلام أبيه.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة عاشر المحرم عمل أهل بغداد ما قد صار لهم عادة من إغلاق الأسواق وتعطيل المعايش وإظهار النوح والمأتم بسبب الحسين بن علي رضوان الله عليهما.
وفيها أرسل القرامطة رسلا إلى بني نمير وغيرهم من العرب يدعونهم إلى طاعتهم فأجابوا إلى ذلك وأخذت عليهم الأيمان بالطاعة وأرسل أبو تغلب بن حمدان إلى القرامطة بهجر هدايا جميلة قيمتها خمسون ألف درهم.
وفيها طلب سابور بن أبي طاهر القرمطي من أعمامه أن يسلموا الأمر إليه والجيش وذكر أن أباه عهد إليه بذلك فحبسوه في داره ووكلوا به ثم أخرج ميتا في نصف رمضان فدفن ومنع أهله من البكاء عليه ثم أذن لهم بعد أسبوع أن يعملوا ما يريدون.
600

وفيها ليلة الخميس رابع عشر رجب انخسف القمر جميعه وغاب منخسفا.
وفيها في شعبان وقعت حرب بين أبي عبد الله بن الداعي العلوي وبين علوي آخر يعرف بأميرك وهو أبو جعفر الثائر في الله قتل فيها خلق كثير من الديلم والجيل وأسر أبو عبد الله بن الداعي وسجن في قلعة ثم أطلق في المحرم سنة تسع وخمسين [وثلاثمائة] وعاد إلى رياسته وصار أبو جعفر صاحب الجيش.
وفيها قبض بختيار على وزيره أبي الفضل العباس بن الحسين وعلى جميع أصحابه وقبض أموالهم وأملاكهم واستوزر أبا الفرج محمد بن العباس ثم عزل أبا الفرج وأعاد أبا الفضل.
وفيها اشتد الغلاء بالعراق واضطرب الناس فسعر السلطان الطعام فاشتد البلاء فدعته الضرورة إلى إزالة التسعير فسهل الأمر وخرج الناس من العراق إلى الموصل والشام وخراسان من الغلاء.
وفيها نفي شيرزاد وكان قد غلب على أمر بختيار وصار يحكم على الوزير والجند وغيرهم فأوحش الأجناد وعزم الأتراك على قتله فمنعهم سبكتكين وقال لهم خوفوه ليهرب فهرب من بغداد وعهد إلى بختيار ليحفظ ماله وملكه فلما سار عن بغداد قبض بختيار أمواله وأملاكه ودوره وكان هذا مما يعاب به يختيار.
ثم إن شيرزاد سار إلى ركن الدولة ليصلح أمره مع بختيار فتوفي بالري عند وصوله إليها.
601

وفيها توفي عبيد الله بن أحمد بن محمد أبو الفتح النحوي المعروف بخجخج.
وفيها مات عيسى الطبيب الذي كان طبيب القاهر بالله والحاكم في دولته وكان قد عمي قبل موته بسنتين وكان مولده سنة إحدى وسبعين ومائتين.
602

359
ثم دخلت سنة تسع وخمسين وثلاثمائة
ذكر ملك الروم مدينة أنطاكية
في هذه السنة في المحرم ملك الروم مدينة أنطاكية.
وسبب ذلك أنهم حصروا حصنا بالقرب من أنطاكية يقال له حصن لوقا وانهم وافقوا أهله وهم نصارى على أن يرتحلوا منه إلى أنطاكية أعانوهم على فتحها وانصرف الروم عنهم بعد موافقتهم على ذلك وانتقل أهل الحصن ونزلوا بأنطاكية بالقرب من الجبل الذي بها.
فلما كان بعد انتقالهم بشهرين وافى الروم مع أخي تقفور الملك وكانوا نحوا أربعين ألف رجل فأحاطوا بسور أنطاكية وصعدوا الجبل إلى الناحية التي بها أهل حصن لوقا فلما رآهم أهل البلد قد ملكوا تلك الناحية طرحوا أنفسهم من السور وملك الروم البلد ووضعوا في أهله السيف ثم اخرجوا المشايخ والعجائز والأطفال من البلد وقالوا لهم: اذهبوا حيث شئتم فأخذوا الشباب من الرجال والنساء والصبيان والصبايا فحملوهم إلى بلاد الروم سبيا وكانوا يزيدون على عشرين ألف إنسان وكان حصرهم له في ذي الحجة.
603

ذكر ملك الروم مدينة حلب وعودهم عنها
لما ملك الروم أنطاكية أنفذوا جيشا كثيفا إلى حلب وكان أبو المعالي شريف بن سيف الدولة محاصرا لها وبها قرعويه السيفي متغلبا عليها فلما سمع أبو المعالي خبرهم فارق حلب وقصد البرية ليبعد عنهم وحصروا البلد وفيه قرعويه وأهل البلد قد تحصنوا بالقلعة فملك الروم المدينة وحصروا القلعة فخرج إليهم جماعة من أهل حلب وتوسطوا بينهم وبين قرعويه وترددت الرسل فاستقر الأمر بينهم على هدنة مؤيدة على مال يحمله قرعويه إليهم وأن يكون الروم إذا أرادوا الغزاة لا يمكن قرعويه أهل القرايا من الجلاء عنها ليبتاع الروم ما يحتاجون إليه منها.
وكان مع حلب حماة وحمص وكفرطاب والمعرة وأفامية وشيزر وما بين ذلك من الحصون والقرايا وسلموا الرهائن إلى الروم وعدوا عن حلب وتسلمها المسلمون.
ذكر ملك الروم ملازكرد
وفيها أرسل ملك الروم جيشا إلى ملازكرد من أعمال أرمينية فحصروها وضيقوا على من بها من المسلمين وملكوها عنوة وقهرا وعظمت شوكتهم،
604

وخافهم المسلمون في أقطار البلاد وصارت كلها سائبة لا تمتنع عليهم يقصدون أيها شاؤوا.
ذكر مسير ابن العميد إلى حسنويه
وفي هذه السنة جهز ركن الدولة وزيره أبا الفضل بن العميد في جيش كثيف وسيرهم إلى بلد حسنويه.
وكان سبب ذلك أن حسنويه بن الحسين الكردي كان قد قوي واستفحل أمره لاشتغال ركن الدولة بما هو أهم منه وأنه كان يعين الديلم على جيوش خراسان إذا قصدتهم فكان ركن الدولة يراعيه لذلك ويغضي على ما يبدو منه وكان يتعرض إلى القوافل وغيرها بخفارة فبلغ ذلك ركن الدولة فسكت عنه.
فلما كان الآن وقع بينه وبين سهلان بن مسافر خلاف أدى إلى أن قصده سهلان وحاربه وهزمه حسنويه فانحاز هو وأصحابه إلى مكان اجتمعوا فيه فقصدهم حسنويه وحصرهم فيه ثم إنه جمع من الشوك والنبات وغيره شيئا كثيرا وفرقه في نواحي أصحاب سهلان وألقى فيه النار وكان الزمان صيفا فاشتد عليهم الأمر حتى كادوا يهلكون فلما عاينوا الهلاك طلبوا الأمان فأمنهم فأخذهم عن آخرهم.
وبلغ ذلك ركن الدولة فلم يحتمله له فحينئذ أمر ابن العميد بالمسير إليه فتجهز وسار في المحرم ومعه ولده أبو الفتح وكان شابا مرحا قد أبطره
605

الشباب والأمر والنهي وكان يظهر منه ما يغضب بسببه والده وازدادت علته وكان به نقرس وغيره من الأمراض فلما وصل إلى همذان توفي بها وقام ولده مقامه فصالح حسنويه على مال أخذه منه وعاد إلى الري إلى خدمة ركن الدولة وكان والده يقول عند موته مل قتلني إلا ولدي وما أخاف على بيت العميد أن يخرب ويهلكوا إلا منه فكان على ما ظن.
وكان أبو الفضل بن العميد من محاسن الدنيا قد اجتمع فيه ما لم يجتمع في غيره من حسن التدبير وسياسة الملك والكتابة التي أتي فيها بكل بديع.
وكان عالما في عدة فنون منها الأدب فإنه كان من العلماء به ومنها حفظ أشعار العرب فإنه حفظ منها ما لم يحفظ غيره مثله ومنها علوم الأوائل فإنه كان ماهرا فيها مع سلامة اعتقاد إلى غير ذلك من الفضائل ومع حسن خلق ولين عشرة مع أصحابه وجلسائه وشجاعة تامة ومعرفة بأمور الحرب والمحاضرات وبه تخرج عضد الدولة ومنه تعلم سياسة الملك ومحبة العلم والعلماء وكان عمر ابن العميد قد زاد على ستين سنة يسيرا وكانت وزارته أربعا وعشرين سنة.
ذكر قتل تقفور ملك الروم
في هذه السنة قتل تقفور ملك الروم ولم يكن من أهل بيت المملكة وإنما كان دمستقا والدمستق عندهم الذي كان يلي بلاد الروم التي هي شرقي خليج
606

القسطنطينية وأكثرهم اليوم بيد أولاد قلج أرسلان وكان كل من يليها بلقب بالدمستق وكان هذا تقفور شديدا على المسلمين وهو الذي أخذ حلب أيام سيف الدولة فعظم شأنه عند الروم وهو أيضا الذي فتح طرسوس المصيصة وأذنة وعين زربة وغيرها.
ولم يكن نصراني الأصل وإنما هو من ولد رجل مسلم من طرسوس يعرف بابن الفقاس تنصر وكان ابنه هذا شهما شجاعا حسن التدبير لما يتولاه فلما عظم أمره وقوي شأنه قتل الملك الذي كان قبله وملك الروم بعده وقد ذكرنا هذا جميعه.
فلما ملك تزوج امرأة الملك المقتول على كره منها وكان لها من الملك المقتول ابنان وجعل تقفور همته قصد بلاد الإسلام والاستيلاء عليها وتم له ما أراد باشتغال ملوك الإسلام بعضهم ببعض فدوخ البلاد وكان قد بنى أمره على أن يقصد سواد البلاد فينهبه ويخربه فيضعف البلاد فيملكها وغلب على الثغور الجزرية والشامية وسبا وأسر ما يخرج عن الحصر وهابه المسلمون هيبة عظيمة ولم يشكوا في أنه يملك جميع الشام ومصر والجزيرة وديار بكر لخلو الجميع من مانع.
فلما استفحل أمره أتاه أمر الله من حثث لم يحتسب وذلك أنه عزم على أن يخصي ابني الملك المقتول لينقطع نسلهما ولا يعارض أحد أولاده في الملك فلما علمت أمهما ذلك قلقت منه واحتالت على قتله فأرسلت إلى ابن
607

الشمشقيق وهو الدمستق حينئذ ووافقته على أن يصير إليها في زي النساء ومعه جماعة وقالت لزوجها إن نسوة من أهلها قد زاروها فلما صار إليها وهو من معه جعلتهم في بيعة تتصل بدار الملك وكان ابن الشمشقيق شديد الخوف منه لعظم هيبته فاستجاب للمرأة إلى ما دعته إليه فلما كان ليلة الميلاد من هذه السنة نام تقفور واستثقل في نومه ففتحت امرأته الباب ودخلوا إليه فقتلوه وثار بهم جماعة من أهله وخاصته فقتل منهم نيف وسبعون رجلا وأجلس في الملك الأكبر من ولدي الملك المقتول وصار المدبر له ابن الشمشقيق ويقال إن تقفور ما بات قط إلا بسلاح إلا تلك الليلة لما يريده الله تعالى من قتله وفناء أجله.
ذكر ملك أبي تغلب مدينة حران
في هذه السنة في الثاني والعشرين من جمادى الأولى سار أبو تغلب بن ناصر الدولة بن حمدان إلى حران فرأى أهلها قد أغلقوا أبوابها وامتنعوا منه فنازلهم وحصرهم فرعى أصحابه زروع تلك الأعمال وكان الغلاء في العسكر كثيرا فبقي كذلك إلى ثالث عشر جمادى الآخرة فخرج إليه نفران من أعيان أهلها ليلا وصالحاه وأخذا الأمان لأهل البلد وعادا.
فلما أصبحا أعلما أهل حران ما فعلاه فاضطربوا وحملوا السلاح
608

وأرادوا قتلهما فسكنهم بعض أهلها فسكنوا واتفقوا على إتمام الصلح وخرجوا جميعهم إلى أبي تغلب وفتحوا أبواب البلد ودخله أبو تغلب وإخوته وجماعة من أصحابه وصلوا به الجمعة وخرجوا إلى معسكرهم واستعمل عليهم سلامة البرقعيدي لأنه طلبه أهله لحسن سيرته وكان إليه أيضا عمل الرقة وهو من أكابر أصحاب بني حمدان وعاد أبو تغلب إلى الموصل ومعه جماعة من أحداث حران وسبب سرعة عوده أن بني نمير عاثوا في بلد الموصل وقتلوا العامل ببرقعيد فعاد إليهم ليكفهم.
ذكر قتل سلميان بن أبي علي بن إلياس
في هذه السنة قتل سايمان بن أبي علي بن الياس الذي كان والده صاحب كرمان.
وسبب ذلك أنه ذكر للأمير منصور بن نوح صاحب خراسان أن أهل كرمان من القفص والبلوص معه وفي طاعته وأطعمه في كرمان فسير معه عسكرا إليها فلما وصل إليها وافقه القفص والبلوص وغيرهما من الأمم المفارقة لطاعة عضد الدولة فاستفحل أمره وعظم جمعه فلقيه كوركير بن جستان خليفة عضد الدولة بكرمان وحاربه فقتل سليمان وابنا أخيه اليسع وهمل بكر والحسين وعدد كثير من القواد والخراسانية وحملت رؤوسهم إلى عضد الدولة بشيراز فسيرها إلى أبيه ركن الدولة فأخذ منهم جماعة كثيرة أسرى.
609

ذكر الفتنة بصقلية
وفي هذه السنة استعمل المعز لدين الله الخليفة العلوي على جزيرة يعيش مولى الحسن بن علي بن أبي الحسين فجمع القبائل في دار الصناعة فوقع الشر بين موالي كتامة والقبائل فاقتتلوا فقتل من موالي كتامة كثير وقتل من الموالي بناحية سرقوسة جماعة وازداد الشر بينهم وتمكنت العداوة وسعى يعيش في الصلح فلم يوافقوه وتطاول أهل الشر من كل ناحية ونهبوا وأفسدوا واستطالوا على أهل المراعي واستطالوا على أهل القلاع المستأمنة فبلغ الخبر إلى المعز فعزل يعيش واستعمل أبا القاسم بن الحسن بن علي بن أبي الحسين نيابة عن أخيه أحمد فسار إليها فلما وصل فرح به الناس وزال الشر من بينهم واتفقوا على طاعته
ذكر حصر عمران بن شاهين
في هذه السنة في شوال انحدر بختيار إلى البطيحة لمحاصرة عمران بن شاهين فأقام بواسط يتصيد شهرا ثم أمر وزيره أبا الفضل أن ينحدر إلى الجامدة وطفوف البطيحة وبنى أمره على أن يسد أفواه الأنهار ومجاري المياه إلى البطيحة ويردها إلى دجلة والفاروث وربع طير فبنى المسنيات التي يمكن
610

السلوك عليها إلى العراق فطالت الأيام وزادت دجلة فخربت ما عملوه.
وانتقل عمران إلى معقل آخر من معاقل البطيحة ونقل كل ماله إليه فلما نقصت المياه واستقامت الطرق وجدوا مكان عمران بن شاهين فارغا فطالت الأيام وضجر الناس من المقام وكرهوا تلك الأرض من الحر والبق والضفادع وانقطاع المواد التي ألفوها وشغب الجند على الوزير وشتموه وأبوا أن يقيموا فاضطر بختيار إلى مصالحة عمران على مال يأخذه منه.
وكان عمران قد خافه في الأول وبذل له خمسة آلاف ألف درهم فلما رأى اضطراب أمر بختيار بذل الفي ألف درهم في نجوم ولم يسلم إليهم رهائن ولا حلف لهم على تأدية المال ولما رحل العسكر تخطف عمران أطراف الناس فغنم منهم وفسد عسكر بختيار وزالت عنهم الطاعة والهيبة ووصل بختيار إلى بغداد في رجب سنة إحدى وستين وثلاثمائة.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة في ربيع الآخر اصطلح قرعويه غلام سيف الدولة بن حمدان وأبو المعالي بن سيف الدولة وخطب لأبي المعالي بحلب وكان بحمص وخطب هو وقرعويه في أعمالهما للمعز لدين الله العلوي صاحب المغرب ومصر.
611

وفيها في رمضان وقع حريق عظيم ببغداد في سوق الثلاثاء فاحترق جماعة رجال ونساء وأما الرحال وغيرها فكثير ووقع الحريق أيضا في أربع مواضع من الجانب الغربي فيها أيضا.
وفيها كانت الخطبة بمكة للمطيع لله وللقرامطة الهجريين وخطب بالمدينة للمعز لدين الله العلوي وخطب أبو أحمد الموسوي والد الشريف الرضي خارج المدينة للمطيع لله.
وفيها مات عبيد بن عمر بن أحمد أبو القاسم العبسي المقري الشافعي بقرطبة وله تصانيف كثيرة وكان مولده ببغداد سنة خمس وتسعين ومائتين وأبو بكر محمد بن داود الدنيوي الصوفي المعروف بالرقي وهو من مشاهير مشايخهم وقيل مات سنة اثنتي وستين [وثلاثمائة].
وفيها توفي القاضي أبو العلاء محارب بن محمد بن محارب الفقيه الشافعي في جمادى الآخرة وكان عالما بالفقه والكلام.
612

360
ثم دخلت سنة ستين وثلاثمائة
ذكر عصيان أهل كرمان على عضد الدولة
لما ملك عضد الدولة كرمان كما ذكرناه اجتمع القفص والبلوص وفيهم أبو سعيد البلوصي وأولاده على كلمة واحدة في الخلاف وتحالفوا على الثبات والاجتهاد فضم عضد الدولة إلى كوركير بن جستان عابد بن علي فسارا إلى جيرفت فيمن معهما من العساكر فالتقوا عاشر صفر فاقتتلوا وصبر الفريقان ثم انهزم القفص ومن معهم فقتل منهم خمسة آلاف من شجعانهم ووجوهم وقتل ابنان لأبي سعيد.
ثم سار عابد بن علي يقص آثارهم ليستأصلهم فأوقع بهم عدة وقائع وأثخن فيهم، وانتهى إلى هرموز فملكها واستولى على بلاد التين ومكران وأسر الفي أسير وطلب الباقون الأمان وبذلوا تسليم معاقلهم وجبالهم على أن يدخلوا في السلم وينزعوا شعار الحرب ويقيموا حدود الإسلام من الصلاة والزكاة والصوم.
ثم سار عابد إلى طوائف أخر يعرفون بالحرومية والحاسكية يخيفون السبيل في البحر والبر وكانوا قد أعانوا سليمان بن أبي علي بن إلياس وقد
613

تقدم ذكرهم فأوقع بهم وقتل كثيرا منهم وأنفذهم إلى عضد الدولة فاستقامت تلك الأرض مدة من الزمان.
ثم لم يلبث البلوص أن عادوا إلى ما كانوا عليه من سفك الدم وقطع الطريق فلما فعلوا ذلك تجهز عضد الدولة وسار إلى كرمان في ذي القعدة فلما وصل إلى السيرجان رأى فسادهم وما فعلوه من قطع الطريق بكرمان وسجستان وخراسان فجرد عابد بن علي في عسكر كثيف وأمره باتباعهم فلما أحسوا به أوغلوا في الهرب إلى مضايق ظنوا أن العسكر لا يتوغلها فأقاموا آمنين.
فسار في آثارهم فلم يشعروا إلا وقد أطل عليهم فلم يمكنهم الهرب فصبروا يومهم وهو تاسع ربيع الأول من سنة إحدى وستين وثلاثمائة ثم انهزموا آخر النهار وقتل أكثر رجالهم المقاتلة وسبى الذراري والنساء وبقي القليل وطلبوا الأمان فأجيبوا إليه ونقلوا عن تلك الجبال وأسكن عضد الدولة مكانهم الأكرة والزراعين حتى طبقوا تلك الأرض بالعمل وتتبع عابد تلك الطوائف برا وبحرا حتى أتى عليهم وبدد شملهم.
ذكر ملك القرامطة دمشق
في هذه السنة في ذي القعدة وصل القرامطة إلى دمشق فملكوها وقتلوا جعفر بن فلاح.
وسبب ذلك أنهم لما بلغهم استيلاء جعفر بن فلاح على الشام أهمهم
614

وأزعجهم وقلقوا لأنهم كان قد تقرر بينهم وبين ابن طغج أن يحمل إليهم كل سنة ثلاثمائة ألف دينار فلما ملكها جعفر علموا أن المال بفوتهم فعزموا على قصد الشام وصاحبهم حينئذ الحسين بن أحمد بن بهرام القرمطي فأرسل إلى عز الدولة بختيار يطلب من المساعدة بالسلاح والمال فأجابه إلى ذلك واستقر الحال أنهم إذا وصلوا إلى
الكوفة سائرين إلى الشام حمل الذي استقر فلما وصلوا إلى الكوفة أوصل إليهم ذلك وساروا إلى دمشق.
وبلغ خبرهم إلى جعفر بن فلاح فاستهان بهم ولم يحترز منهم فلم يشعر بهم حتى كبسوه بظاهر دمشق وقتلوه وأخذوا ماله وسلاحه ودوابه وملكوا دمشق وأمنوا أهلها وساروا إلى الرملة واستولوا على جميع ما بينهما.
فلما سمع من بها من المغاربة خبرهم ساروا عنها إلى يافا فتحصنوا بها وملك القرامطة الرملة وساروا إلى مصر وتركوا على يافا من يحصرها فلما وصلوا إلى مصر اجتمع معهم خلق كثير من العرب والجند والإخشيدية والكافورية فاجتمعوا بعين شمس عند مصر واجتمع عساكر جوهر وخرجوا إليهم فاقتتلوا غير مرة الظفر في جميع تلك الأيام للقرامطة وحصروا المغاربة حصرا شديدا ثم إن المغاربة خرجوا في بعض الأيام من مصر وحملوا على ميمنة القرامطة فانهزم من بها من العرب وغيرهم وقصدوا سواد القرامطة فنهبوه فاضطروا إلى الرحيل فعادوا إلى الشام فنزلوا الرملة.
ثم حصروا يافا حصرا شديدا وضيقوا على من بها فسير جوهر من مصر نجدة إلى أصحابه المحصورين بيافا ومعهم ميرة في خمسة عشر مركبا، فأرسل
615

القرامطة مراكبهم إليها فأخذوا مراكب جوهر ولم ينج منها غير مركبين فغنمهما مراكب الروم.
وللحسين بن بهرام مقدم القرامطة شعر فمنه في المغاربة أصحاب المعز لدين الله:
(زعمت رجال الغرب أني هبتها * فدمي إذا ما بينهم مطلول)
(يا مصر إن لم أسق أرضك من دم * يروي ثراك فلا سقاني النيل)
ذكر قتل محمد بن الحسين الزناتي
في هذه السنة قتل يوسف بلكين بن زيري محمد بن الحسين بن خزر الزناتي وجماعة من أهله وبني عمه وكان قد عصى على المعز لدين الله بأفريقية وكثر جمعه من زناتة والبربر فأهم المعز أمره لأنه أراد الخروج إلى مصر فخاف أن يخلف محمدا في البلاد عاصيا وكان جبارا عاتيا طاغيا.
وأما كيفية قتله فإنه كان يشرب هو وجماعة من أهله وأصحابه فعلم يوسف به فسار إليه جريدة متخفيا فلم يشعر به محمد حتى دخل عليه فلما رآه محمد قتل نفسه بسيف وقتل يوسف الباقين وأسر منهم فحل ذلك عند المعز محلا عظيما وقعد للهناء به ثلاثة أيام.
616

ذكر عدة حوادث
في هذه السنة قبض عضد الدولة على كوركير بن جستان قبضا فيه إبقاء وموضع للصلح.
وفيها تزوج أبو تغلب بن حمدان ابنة عز الدولة بختيار وعمرها ثلاث سنين على صداق مائة ألف دينار وكان الوكيل في قبول العقد أبا الحسن علي بن عمرو بن ميمون صاحب أبي تغلب بن حمدان ووقع في صفر.
وفيها قتل رجلان بمسجد دير مار ميخائيل بظاهر الموصل فصادر أبو تغلب جماعة من النصارى.
وفيها استوزر مؤيد الدولة بن ركن الدولة الصاحب أبا القاسم بن عباد وأصلح أموره كلها.
وفيها مات أبو القاسم سليمان بن أيوب الطبراني صاحب المعاجم الثلاثة بأصبهان وكان عمره مائة سنة وأبو بكر محمد بن الحسين الآجري بمكة وهما من حفاظ المحدثين.
وفيها توفي السري بن أحمد أبو الحسن الكندي الرفاء الشاعر الموصلي ببغداد.
617

361
ثم دخلت سنة إحدى وستين وثلاثمائة
ذكر ما فعله الروم بالجزيرة
في هذه السنة في المحرم أغار ملك الروم على الرها ونواحيها وساروا في ديار الجزيرة حتى بلغوا نصيبين فغنموا وسبوا وأحرقوا وخربوا البلاد وفعلوا مثل ذلك بديار بكر ولم يكن من أبي تغلب بن حمدان في ذلك حركة ولا سعى في دفعه لكنه حمل إليه مالا كفه به عن نفسه.
فسار جماعة من من أهل تلك البلاد إلى بغداد مستنفرين وقاموا في الجوامع والمشاهد واستنفروا المسلمين وذكروا ما فعله الروم من النهب والقتل والأسر والسبي فاستعظمه الناس وخوفهم أهل الجزيرة من انفتاح الطريق وطمع الروم وأنهم لا مانع لهم عندهم فاجتمع معهم أهل بغداد وقصدوا دار الخليفة الطائع لله وأرادوا الهجوم عليه فمنعوا من ذلك وأغلقت الأبواب فاسمعوا ما يقبح ذكره.
وكان بختيار حينئذ يتصيد بنواحي الكوفة فخرج إليه وجوه أهل بغداد مستغيثين منكرين عليه اشتغاله بالصيد وقتال عمران بن شاهين وهو مسلم وترك جهاد الروم ومنعهم عن بلاد الإسلام حتى توغلوها فوعدهم
618

التجهز للغزاة وأرسل إلى الحاجب سبكتكين يأمره بالتجهز للغزو وأن يستفز العامة ففعل سبكتكين ذلك فاجتمع من العامة عدد كثير لا يحصون كثرة وكتب بختيار إلى أبي تغلب بن حمدان صاحب الموصل يأمره بإعداد الميرة والعلوفات ويعرفه عزمه على الغزاة فأجابه بإظهار الفرح وإعداد ما طلب منه.
ذكر الفتنة ببغداد
في هذه السنة وقعت فتنة عظيمة وأظهروا العصبية الزائدة وتحزب الناس وظهر العيارون وأظهروا الفساد، وأخذوا أموال الناس.
وكان سبب ذلك ما ذكرناه من استنفار العامة للغزاة فاجتمعوا وكثروا فتولد بينهم من أصناف البنوية والفتيان والسنية والشيعة والعيارين فنهبت الأموال وقتل الرجال وأحرقت الدور وفي جملة ما احترق محلة الكرخ وكانت معدن التجار والشيعة وجرى بسبب ذلك فتنة بين النقيب أبي أحمد الموسوي والوزير أبي الفضل الشيرازي وعداوة.
ثم أن بختيار أنفذ إلى المطيع لله يطلب منه مالا يخرجه في الغزاة فقال المطيع أن الغزاة والنفقة عليها وغيرها من مصالح المسلمين تلزمني إذا كانت الدنيا في يدي وتجبى إلي الأموال وأما إذا كانت حالي هذه فلا يلزمني شيء من ذلك وأنما يلزم من البلاد في يده وليس إلا الخطبة فان شئتم أن اعتزل فعلت.
619

وترددت الرسائل بينهما حتى بلغوا إلى التهديد فبذل المطيع لله أربعمائة ألف درهم فاحتاج إلى بيع ثيابه وأنقاض داره وغير ذلك وشاع بين الناس من العراقيين وحجاج خراسان وغيرهم أن الخليفة قد صودر فلما قبض بختيار المال صرفه في مصالحة وبطل حديث الغزاة.
ذكر مسيرة المعز لدين الله العلوي من الغرب إلى مصر
في هذه السنة سار المعز لدين الله العلوي من أفريقية يريد الديار المصرية وكان أول مسيرة أواخر شوال من سنة إحدى وستين وثلاثمائة وكان أول رحيله من المنصورية فأقام بسردانية وهي قرية من القيروان ولحقه بها رجاله وعماله وأهل بيته وجمع ما كان في فصره من أموال وأمتعة وغير ذلك حتى أن الدنانير سبكت وجعلت كهيئة الطواحين وحمل كل طاحونتين على جمل.
وسار عنها واستعمل على بلاد أفريقية يوسف بلكين بن زيري بن مناد الصنهاجي الحميري إلا أنه لم يجعل له حكما على جزيرة صقلية ولا على مدينة طرابلس الغرب ولا على أجدابية وسرت وجعل على صقلية حسن بن علي بن أبي الحسين على ما قدمنا ذكره وجعل على طرابلس عبد الله بن يخلف الكتامي وكان أسيرا عنده وجعل على جباية أموال
620

أفريقية زيادة الله بن القديم وعلى الخراج عبد الجبار الخراساني وحسين بن خلف الموصدي وأمرهم بالانقياد ليوسف بن زيري.
فأقام بسردانية أربعة أشهر حتى فرغ من جميع ما يريد ثم رحل عنها ومعه يوسف بلكين وهو يوصيه بما يفعله ونحن نذكر آنفا من سلف يوسف بلكين وأهله ما تمس الحاجة إليه ورد يوسف إلى أعماله وسار إلى طرابلس ومعه جيوشه وحواشيه فهرب منه بهما جمع من عسكره إلى جبال نفوسة فطلبهم فلم يقدر عليهم.
ثم سار إلى مصر فلما وصل إلى برقة ومعه محمد بن هانئ الشاعر الأندلسي قتل غيلة فرؤي ملقى على جانب البحر قتيلا لا يدري من قتله وكان قتله أواخر رجب من سنة اثنتين وستين وثلاثمائة وكان من الشعراء المجيدين إلا أنه غالى في مدح المعز حتى كفره العلماء فمن ذلك قوله:
(ما شئت لا ما شاءت الأقدار * فاحكم فأنت الواحد القهار)
وقوله ولطالما زاحمت ركابه جبريلا
ومن ذلك ينسب إليه ولم أجدها في ديوانه قوله:
(حل برقادة المسيح * حل بها آدم ونوح)
(حل بها الله ذو المعالي * فكل شيء سواه ريح)
621

ورقادة اسم مدينة بالقرب من القيروان إلى غير ذلك وقد تأول ذلك من يتعصب له والله أعلم وبالجملة فقد جاوز حد المديح.
ثم سار المعز حتى وصل إلى الإسكندرية أواخر شعبان من السنة وأتاه أهل مصر وأعيانها فلقيهم وأكرمهم وأحسن إليهم وسار فدخل القاهرة خامس شهر رمضان سنة اثنتين وستين وثلاثمائة وأنزل عساكره مصر والقاهرة في الديار وبقي كثير منهم في الخيام.
وأما يوسف بلكين فإنه لما عاد من وداع المعز أقام بالمنصورية يعقد الولايات للعمال على البلاد ثم سار في البلاد وباشر الأعمال وطيب قلوب الناس فوثب أهل باغاية على عامله فقاتلوه فهزموه فسير إليهم يوسف جيشا فقاتلهم فلم يقدر عليهم فأرسل إلى يوسف يعرفه الحال فتأهب يوسف وجمع العساكر ليسير إليهم فبينما هو في التجهز أتاه الخبر عن تاهرت أن أهلها قد عصوا وخالفوا وأخرجوا عامله فرحل إلى تاهرت فقاتلها فظفر باهلها وخربها فأتاه الخبر بها أن زناتة قد نزلوا على تلمسان فرحل إليهم فهربوا منه وأقام على تلمسان فحصرها مدة ثم نزلوا على حكمه فعفا عنهم إلا أنه نقلهم إلى مدينة أشير فبنوا عندها مدينة سموها تلمسان.
ثم إن زيادة الله بن القديم جرى بينه وبين عامل آخر كان معه اسمه عبد الله بن محمد الكاتب منافسة صارت إلى محاربة واجتمع مع كل واحد منهما جماعة وكان بينهما حروب عدة دفعات وكان يوسف بلكين مائلا
622

مع عبد الله لصحبة قديمة بينهما ثم إن أبا عبد الله قبض على ابن القديم وسجنه واستبد الأمور بعده وبقي ابن القديم محبوسا حتى توفي المعز بمصر وقوي أمر يوسف بلكين.
وفي سنة أربع وستين [وثلاثمائة] طلع خلف بن حسين إلى قلعة منيعة فاجتمع إليه خلق كثير من البربر وغيرهم وكان من أصحاب ابن القديم المساعدين له فسمع يوسف بذلك فسار إليه ونازل القلعة وحاربه فقتل بينهما عدة قتلى وافتتحها وهرب خلف بن حسين وقتل ممن كان بها خلق كثير وبعث إلى القيروان من رؤوسهم سبعة آلاف رأس ثم أخذ خلف وأمر به فطيف به على جمل ثم صلب وسير رأسه إلى مصر فلما سمع أهل باغاية بذلك خافوا فصالحوا يوسف ونزلوا على حكمه فأخرجهم من باغاية وخرب سورها.
ذكر خبر يوسف بلكين بن زيري بن مناد وأهل بيته
هو يوسف بلكين بن زيري بن مناد الصنهاجي الحميري اجتمعت صنهاجة ومن والاها بالمغرب على طاعته قبل أن يقدمه المنصور وكان أبوه مناد كبيرا في قومه كثير المال والولد حسن الضيافة لمن يمر به وتقدم ابنه زيري في أيامه وقاد كثيرا من صنهاجة وأغار بهم وسبى فحسدته زناتة وجمعت له لتسير إليه وتحاربه فسار إليهم مجدا فكبسهم ليلا وهم غارون بأرض مغيلة فقتل منهم كثيرا وغنم ما معهم فكثر تبعه فضاقت بهم أرضهم،
623

فقالوا له لو اتخذت لنا بلدا غير هذا فسار بهم إلى موضع مدينة أشير فرأى ما فيه من العيون فاستحسنه وبنى فيه مدينة أشير وسكنها هو وأصحابه وكان ذلك سنة أربع وستين وثلاثمائة.
وكانت زناتة تفسد في البلاد فإذا طلبوا اجتمعوا بالجبال والبراري فلما بنيت أشير صارت صنهاجة بين البلاد وبين زناتة والبربر فسر بذلك القائم.
وسمع زيري بغمارة وفسادهم واستحلالهم المحرمات وإنهم قد ظهر فيهم نبي فسار إليهم وغزاهم وظفر بهم وأخذ الذي كان يدعي النبوة أسيرا وأحضر الفقهاء فقتله.
ثم كان له أثر حسن في حادثة أبي يزيد الخارجي وحمل الميرة إلى القائم بالمهدية فحسن موقعها منه ثم إن زناتة حصرت مدينة أشير فجمع لهم زيري جموعا كثيرة وجرى بينهم عدة وقعات قتل فيها كثير من الفريقين ثم ظفر بهم واستباحهم.
ثم ظهر بجبل أوراس رجل وخالف على المنصور وكثر جمعه يقال له سعيد بن يوسف فسير إليه زيري ولده بلكين في جيش كثيف فلقيه عند باغاية واقتتلوا فقتل الخارجي ومن معه من هوارة وغيرهم فزاد محله عند المنصور وكان له في فتح مدينة فاس أثر عظيم على ما ذكرناه.
ثم أن بلكين بن زيري قصد محمد بن الحسين بن خزر الزناتي وقد خرج عن طاعة المعز وكثر جمعه وعظم شأنه فظفر به يوسف بلكين وأكثر القتل في أصحابه فسر المعز بذلك سرورا عظيما لأنه كان يريد [أن] يستخلف يوسف بلكين على الغرب لقوته وكثرة أتباعه وكان يخاف أن بتغلب على البلاد بعد مسيره عنها إلى مصر فلما استحكمت الوحشة بينه وبين زناتة أمن
624

تغلبة على البلاد.
ثم إن جعفر بن علي صاحب مدينة مسيلة وأعمال الزاب كان بينه وبين زيري محاسدة فلما كثر تقدم زيري عند المعز ساء ذلك جعفرا ففارق بلاده ولحق بزناتة فقبلوه قبولا عظيما وملكوه عليهم عداوة لزيري وعصى على المعز فسار زيري إليه في جمع كثير من صنهاجة وغيرهم فالتقوا في شهر رمضان واشتد القتال بينهم فكبا بزيري فرسه فوقع فقتل ورأى جعفر من زناتة تغيرا عن طاعته وندما على قتل زيري فقال لهم إن ابنه يوسف بلكين لا يترك ثأر أبيه ولا يرضى بمن قتل منكم والرأي [أن] نتحصن بالجبال المنيعة والأوعار فأجابوه إلى ذلك فحمل ماله وأهله في المراكب وبقي هو مع الزناتيين وأمر عبيدة في المراكب أن يعملوا في المراكب فتنة ففعلوا وهو يشاهدهم من البر فقال لزناتة أريد أنظر ما سبب هذا الشر فصعد المركب ونجا معهم وسار إلى الأندلس إلى الحاكم الأموي فأكرمه وأحسن إليه وندمت زناتو كيف لم يقتلوه ويغنموا ما معه.
ثم أن يوسف بلكين جمع فأكثر وقصد زناتة وأكثر القتل فيهم وسبى نساءهم وغنم أولادهم وأمر أن يجعل القدور على رؤوسهم ويطبخ فيها ولما سمع المعز بذلك سره أيضا وزاد في إقطاع بلكين المسيلة وأعمالها وعظم شأنه ونذكر باقي أحواله بعد ملكه أفريقية.
625

ذكر الصلح بين الأمير منصور بن نوح وبين ركن الدولة وعضد الدولة
في هذه السنة تم الصلح بين الأمير منصور بن نوح الساماني صحاب خراسان وما وراء النهر وبين ركن الدولة وابنه عضد الدولة على أن يحمل ركن الدولة وعضد الدولة إليه كل سنة مائة ألف وخمسين ألف دينار وتزوج نوح بابنة عضد الدولة وحمل إليه من الهدايا والتحف ما لم يحمل مثله وكتب بينهم كتاب صلح وشهد فيه أعيان خراسان وفارس والعراق.
وكان الذي سعى في هذا الصلح وقرره محمد بن إبراهيم بن سيمجور صاحب جيوش خراسان من جهة الأير منصور.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة في صفر انقض كوكب عظيم وله نور كثير وسمع له عند انقضاضه صوت كالرعد وبقي ضوؤه.
وفي شوال منها ملك أبو تغلب بن حمدان قلعة ماردين سلمها إليه نائب أخيه حمدان فأخذ أبو تغلب كل ما كان لأخيه فيها من أهل ومال وأثاث وسلاح وحمل الجميع إلى الموصل.
626

362
ثم دخلت سنة اثنتين وستين وثلاثمائة
ذكر انهزام الروم وأسر الدمستق
في هذه السنة كانت وقعة بين هبة الله بن ناصر الدولة بن حمدان وبين الدمستق بناحية ميافارقين.
وكان سببها ما ذكرناه عن غزو الدمستق بلاد الإسلام ونهبه ديار ربيعة وديار بكر فلما رأى الدمستق أنه لا مانع له عن مراده قوي طعمه على أخذ أمد فسار إليها وبها هزار مرد غلام أبي الهيجاء بن حمدان فكتب إلى أبي تغلب يستصرخه ويستنجده ويعلمه الحال فسير إليه أخاه أبا القاسم هبة الله بن ناصر الدولة واجتمعا على حرب
الدمستق وسار إليه فلقياه سلخ رمضان وكان الدمستق في كثرة لكنهما لقياه في مضيق لا تجول فيه الخيل والروم على غير أهبة فانهزموا وأخذ المسلمون الدمستق أسيرا ولم يزل محبوسا إلى أن مرض سنة ثلاث وستين وثلاثمائة فبالغ أبو تغلب في علاجه وجمع الأطباء له فلم ينفعه ذلك ومات.
627

ذكر حريق الكرخ
في هذه السنة في شعبان احترق الكرخ حريقا عظيما وسبب ذلك أن صاحب المعونة قتل عاميا فثار به العامة والأتراك فهرب ودخل دار بعض الأتراك فأخرج منها مسحوبا وقتل وأحرق وفتحت السجون فأخرج من فيها فركب الوزير أبو الفضل لأخذ الجناة وأرسل حاجبا له يسمى صافيا في جمع لقتال العامة بالكرخ وكان شديد العصيبة للسنية فألقى النار في عدة أماكن من الكرخ فأحترق حريقا عظيما وكان عدة من احترق فيه سبعة عشر ألف إنسان وثلاثمائة دكان وكثير من الدور وثلاثة وثلاثين مسجدا ومن الأموال ما لا يحصى.
ذكر عزل أبي الفضل من وزارة عز الدولة ووزارة ابن بقية
وفيها أيضا عزل الوزير أبو الفضل العباس بن الحسين من وزارة عز الدولة بختيار في ذي الحجة، واستوزر محمد بن بقية فعجب الناس لذلك لأنه كان وضيعا في نفسه من أهل أوانا وكان أبوه أحد الزراعين لكنه كان قريبا من بختيار وكان يتولى له المطبخ ويقدم إليه الطعام ومنديل الخوان على كتفه إلى أن استوزر.
وحبس الوزير أبو الفضل فمات عن قريب فقيل أنه مات مسموما،
628

وكان في ولايته مضيعا لجانب الله فمن ذلك أنه أحرق الكرخ ببغداد فهلك فيه من الناس والأموال ما لا يحصى ومن ذلك أنه ظلم الرعية وأخذ الأموال ليفرقها على الجند ليسلم فما سلمه الله تعالى ولا نفعه ذلك وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس.
وكان ما فعله من ذلك أبلغ الطرق التي سلكها أعداؤه من الوقيعة فيه والسعي به وتمشى لهم ما أرادوا لما كان عليه من تفريطه في أمر دينه وظلم رعيته وعقب ذلك أن زوجته ماتت وهو محبوس وحاجبه وكاتبه فخربت داره وعفا أثرها نعوذ بالله من سوء الأقدر ونسأله أن يختم بخير أعمالنا فإن الدنيا إلى زوال ما هي.
وأما ابن بقية فإنه استقامت أموره ومشت الأحوال بين يديه بما أخذه من أموال أبي الفضل وأموال أصحابه فلما فني ذلك عاد إلى ظلم الرعية فانتشرت الأمور على يده وخربت النواحي وظهر العيارون وعملوا ما أرادوا وزاد الاختلاف بين الأتراك وبين بختيار فشرع ابن بقية في اصلاح الحال مع بختيار وسبكتكين فاصطلحوا وكانت هدنة على دخن وركب سبكتكين إلى بختيار ومعه الأتراك فاجتمع به ثم عاد الحال إلى ما كان عليه من الفساد.
وسبب ذلك أن ديلميا اجتاز بدار سبكتكين وهو سكران فرمى الروشن
629

بزوبين في يده فأثبته فيه وأحس به سبكتكين فصاح بغلمانه فأخذوه وظن سبكتكين أنه قد وضع على قتله فقرره فلم يعترف وأنفذه إلى بختيار وعرفه الحال فأمر به فقتل فقوي ظن سبكتكين أنه كان وضعه عليه وإنما قتله لئلا يفشي ذلك وتحرك الديلم لقتله وحملوا السلاح ثم أرضاهم بختيار فرجعوا.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة في ذي الحجة أرسل عز الدولة بختيار الشريف أبا أحمد الموسوي والد الرضي والمرتضى في رسالة إلى أبي تغلب بن حمدان بالموصل فمضى إليه وعاد في المحرم سنة ثلاث وستين وثلاثمائة.
وفيها توفي أبو العباس محمد بن الحسن بن سعيد المخرمي الصوفي صاحب الشبلي بمكة.
630

363
ثم دخلت سنة ثلاث وستين وثلاثمائة
ذكر استيلاء بختيار على الموصل وما كان من ذلك
في هذه السنة في ربيع الأول سار بختيار إلى الموصل ليستولي عليها وعلى أعمالها وما بيد أبي تغلب بن حمدان.
وكان سبب ذلك ما ذكرناه من مسير حمدان بن ناصر الدولة بن حمدان وأخيه إبراهيم إلى بختيار واسجارتهما به وشكواهما إليه من أخيهما أبي تغلب فوعدهما أن ينصرهما ويخلص أعمالها وأموالهما منه وينتقم لهما واشتغل عن ذلك بما كان منه في البطيحة وغيرها فلما فرغ من جميع أشغاله عاود حمدان وإبراهيم الحديث معه وبذل له حمدان مالا جزيلا وصغر عنده أمر أخيه أبي تغلب وطلب أن يضمنه بلاده ليكون في طاعته ويحمل إليه الأموال ويقيم له الخطبة.
ثم إن الوزير أبا الفضل حسن ذلك وأشار به ظنا منه أن الأموال تكثر عليه فتمشي الأمور بين يديه ثم إن إبراهيم بن ناصر الدولة هرب من عند بختيار وعاد إلى أخيه أبي تغلب فقوي عوم بختيار على قصد الموصل أيضا ثم عزل أبا الفضل الوزير واستوزر ابن بقية فكاتبه أبو تغلب فقصر في خطابه فأغرى به بختيار وحمل على قصده فسار عن بغداد ووصل إلى
631

الموصل تاسع عشر ربيع الآخر ونزل بالدير الأعلى.
وكان أبو تغلب بن حمدان قد سار عن الموصل لما قرب منه بختيار وقصد سنجار وكسر العروب وأخلى الموصل من كل ميرة وكاتب الديوان، ثم سار من سنجار يطلب بغداد ولم يعرض إلى أحد من سوادها بل كان هو وأصحابه يشترون الأشياء بأوفى الأثمان فلما سمع بختيار بذلك أعاد وزيره ابن بقية والحاجب سبكتكين إلى بغداد فأما ابن بقية فدخل إلى بغداد وأما سبكتكين فأقام بحربى وكان أبو تغلب قد قارب بغداد فثار العيارون بها وأهل الشر بالجانب الغربي ووقعت فتنة عظيمة بين السنة والشيعة
وحمل أهل سوق الطعام وهم من السنة أمرا على جمل وسموها عائشة وسمى بعضهم نفسه طلحة وبعضهم الزبير وقاتلوا الفرقا الأخرى وجعلوا يقولون نقاتل أصحاب علي بن أبي طالب وأمثال هذا من الشر.
وكان الجانب الشرقي آمنا والجانب الغربي مفتونا فأخذ جماعة من رؤساء العيارين وقتلوا فسكن الناس بعض السكون. وأما أبو تغلب فإنه لما بلغه دخول ابن يقية بغداد ونزول سبكتكين الحاجب بحربى عاد عن بغداد ونزل بالقرب منه وجرى بينهما مطاردة يسيرة ثم اتفقا في السر على أن يظهرا الاختلاف إلى أن يتمكنا من القبض على الخليفة والوزير ووالدة بختيار وأهله فإذا فعلوا ذلك انتقل سبكتكين إلى بغداد وعاد أبو تغلب إلى الموصل ليبلغ من بختيار ما أراد ويملك دولته.
ثم إن سبكتكين خاف سوء الأحدوثة فتوقف وسار الوزير ابن بقية إلى
632

سبكتكين فاجتمع بع وانفسخ ما كان بينهما وتراسلوا في الصلح على أن أبا تغلب يضمن البلاد على ما كانت معه وعلى أن يطلق لبختيار ثلاثة آلاف كر غلة عوضا عن مؤنة سفره وعلى أن يرد على أخيه حمدان أملاكه وأقطاعه إلا ماردين.
ولما اصطلحوا أرسلوا إلى بختيار بذلك ليرحل عن الموصل وعاد أبو تغلب إليها ودخل سبكتكين بغداد وأسلم بختيار، فلما سمع بختيار بقرب أبي تغلب منه خافه لأن عسكره كان قد عاد أكثره مع سبكتكين وطلب الوزير بن بقية من سبكتكين أن يسير نحو بختيار فتثاقل ثم فكر في العواقب فسار على مضض وكان أظهر للناس ما كان هم به.
وأما بختيار فإنه جمع أصحابه وهو بالدير الأعلى ونزل أبو تغلب بالحصباء تحت الموصل وبينهما عرض البلد وتعصب أهل الموصل لأبي تغلب وأظهروا محبته لما نالهم من بختيار من المصادرات وأخذ الأموال ودخل الناس بينهما في الصلح فطلب أبو تغلب من بختيار أن يلقب سلطانيا وأن يسلم إليه زوجته ابنة بختيار وأن يحط عنه من ذلك القرار فأجابه بختيار خوفا منه وتحالفا وسار بختيار عن الموصل عائدا إلى بغداد فأظهر أهل الموصل السرو برحيله لأنه كان قد أساء معهم السيرة وظلمهم.
فلما وصل بختيار إلى الكحيل بلغه أن أبا تغلب قد قتل قوما كانوا من أصحابه وقد استأمنوا إلى بختيار فعادوا إلى الموصل ليأخذوا ما لهم بها من أهل ومال فقتلهم فلما بلغه ذلك اشتد عليه وأقام بمكانه وأرسل إلى الوزير أبي طاهر بن بقية والحاجب سبكتكين يأمرهما بالإصعاد إليه وكان قد أرسل إليهما يأمرهما بالتوقف ويقول لهما إن الصلح قد استقر فلما أرسل
633

إليهما يطلبهما إليه أصعدا إليه في العساكر فعادوا جميعهم إلى الموصل ونزلوا بالدير الأعلى أواخر جمادى الآخرة.
وفارقها أبو تغلب إلى تل يعفر وعزم عز الدولة على قصده وطلبه أين سلك فأرسل أبو تغلب كاتبه وصاحبه أبا الحسن علي بن أبي عمرو إلى عز الدولة فاعتقله واعتقل معه أبا الحسن بن عرس وأبا أحمد بن حوقل.
وما زالت المراسلات بينهما وحلف أبو تغلب أنه لم يعلم بقتل أولئك فعاد الصلح واستقر وحمل إليه ما استقر من المال فأرسل عز الدولة الشريف أبا أحمد الموسوي والقاضي أبا بكر محمد بن عبد الرحمن فحلفا أبا تغلب وتجدد الصلح وانحدر عز الدولة عن الموصل سابع عشر رجب وعاد إلى بلده.
ولما عاد بختيار عن الموصل جهز ابنته وسيرها إلى أبي تغلب وبقيت معه إلى أن أخذت منه ولم يعرف لها بعد ذلك خبر.
ذكر الفتنة بين بختيار وأصحابه
في هذه السنة ابتدأت الفتنة بين الأتراك والديلم بالأهواز فعمت العراق جميعه واشتدت.
وكان سبب ذلك أن عز الدولة بختيار قلت عنده الأموال وكثر إدلال جنده عليه واطراحهم لجانبه وشغبهم عليه فتعذر عليه القرار ولم يجد
634

ديوانه ووزيره جهة يحتال منها بشيء وتوجهوا إلى الموصل لهذا السبب فلم ينفتح عليهم فرأوا أن يتوجهوا إلى الأهواز ويتعرضوا لبختكين آزادرويه وكان متوليها وعملوا له حجة يأخذون منه مالا ومن غيره فسار بختيار وعسكره وتخلف عنه سبكتكين التركي فلما وصلوا إلى الأهواز خدم بختيار وحمل له أموالا جليلة المقدار وبذل له من نفسه الطاعة وبختيار يفكر في طريق يأخذه به.
فاتفق أنه جرى فتنة بين الأتراك والديلم وكان سببها أن بعض الديلم نزل دارا بالأهواز ونزل قريبا بعض الأتراك وكان هناك لبن موضوع فأراد غلام الديلمي [أن] يبني منه معلفا للدواب فمنعه غلام التركي فتضاربا وخرج كل واحد من التركي والديلمي إلى نصرة غلامه فضعف غلام التركي عنه فركب واستنصر بالأتراك فركبوا وركب الديلم وأخذوا السلاح فقتل بينهم بعض قواد الأتراك وطلب الأتراك بثأر صاحبهم وقتلوا به من الديلم قائدا أيضا وخرجوا إلى ظاهر البلد.
واجتهد بختيار في تسكين الفتنة فلم يمكنه ذلك فاستشار الديلم فيما يفعله وكان أذنا يتبع كل قائل فأشاروا عليه بقبض رؤساء الأتراك لتصفو له البلاد فأحضروا آزاذرويه وكاتبه سهل بن بشر وسباشي الخوارزمي بكتيجور وكان حما لسبكتكين فحضروا فاعتقلهم وقيدهم وأطلق الديلم في الأتراك فنهبوا أموالهم ودوابهم وقتا بينهم قتلى وهرب
635

الأتراك واستولى بختيار على أقطاع سبكتكين فأخذه وأمر فنودي بالبصرة بإباحة دم الأتراك.
ذكر حيلة لبختيار عادت عليه
كان بختيار قد واطأ والدته وإخوته أنه إذا كتب إليهم بالقبض على الأتراك يظهرون أن بختيار قد مات ويجلسون للعزاء فإذا حضر سبكتكين عندهم قبضوا عليه فلما قبض بختيار على الأتراك كتب إليهم على أجنحة الطيور يعرفهم ذلك فلما وقفوا على الكتب وقع الصراخ في داره وأشاعوا موته ظنا منهم أن سبكتكين يحضر عندهم ساعة يبلغه الخبر فلما سمع الصراخ أرسل يسأل عن الخبر فأعلموه فأرسل يسال عن الذي أخبرهم وكيف أتاهم الخبر فلم يجد نقلا يثق القلب به فارتاب بذلك.
ثم وصله رسله الأتراك بما جرى فعلم أن ذلك كان مكيدة عليه ودعاه الأتراك إلى أن يتآمر عليهم فتوقف وأرسل إلى أبي إسحاق بن معز الدولة يعلمه أن الحال قد انفسد بينه وبين أخيه فلا يرجى صلاحه وأنه لا يرى العدول عن طاعة مواليه وإن أساؤوا إليه ويدعوه إلى أن يعقد الأمر له فعرض قوله على والدته فمنعته.
فلما رأى سبكتكين ذلك ركب في الأتراك وحصر دار بختيار يومين ثم أحرقها ودخلها وأخذ أبا إسحاق وأبا طاهر ابني معز الدولة ووالدتهما ومن كان معهما فسألوه أن يمكنهم من الإنحدار إلى واسط ففعل وانحدروا،
636

وانحدر معهم المطيع لله في الماء فانفذ سبكتكين فأعاده ورده إلى داره وذلك تاسع ذي القعدة واستولى على ما كان لبختيار جميعه ببغداد ونزل الأتراك في دور الديلم وتتبعوا أموالهم وأخذوها وثارت العامة من أهل السنة ينصرون سبكتكين لأنه كان يتسنن فخلع عليهم وجعل لهم العرفاء والقواد فثاروا بالشيعة وحاربوهم وسفكت بينهم الدماء وأحرقت الكرخ حريقا ثانيا وظهرت السنة عليهم.
ذكر خلع المطيع لله وخلافة الطائع لله
وفي هذه السنة منتصف ذي القعدة خلع المطيع لله وكان به مرض الفالج وقد ثقل لسانه وتعذرت الحركة عليه وهو يستر ذلك فانكشف حاله لسبكتكين هذه الدفعة فدعاه إلى أن يخلع نفسه من الخلافة ويسلمها إلى ولده الطائع لله واسمه أبو الفضل عبد الكريم ففعل ذلك وأشهد على نفسه بالخلع ثالث عشر ذي القعدة وكانت مدة خلافته تسعا وعشرين سنة وخمسة أشهر غير أيام وبويع للطائع لله بالخلافة واستقر أمره.
637

ذكر الحرب بين المعز لدين الله العلوي والقرامطة
في هذه السنة سار القرامطة ومقدمهم الحسن بن أحمد من الإحساء إلى ديار مصر فحصرها ولما سمع المعز لدين الله صاحب مصر بأنه يريد قصد مصر كتب إليه كتابا يذكر فيه فضل نفسه وأهل بيته وأن الدعوة واحدة وان القرامطة إنما كانت دعوتهم إليه وإلى آبائه من قبله ووعظه وبالغ وتهدده وسير الكتاب إليه.
فكتب جوابه وصل كتابك الذي قل تحصيله وكثر تفضليه ونحن سائرون إليك على أثره والسلام وسار حتى وصل إلى مصر فنزل على عين شمس بعسكره وأنشب القتال وبث السرايا في البلاد ينهبونها فكثرت جموعه وأتاه من العرب خلق كثير وكان ممن أتاه حسان بن الجراح الطائي أمير العرب بالشام ومعه جمع عظيم.
فلما رأى المعز كثرة جموعه استعظم ذلك وأهمه وتحير في أمره ولم يقدم على إخراج عسكره لقتاله فاستشار أهل الرأي من نصحائه فقالوا: ليس حيلة غير السعي في تفريق كلمتهم والقاء الخلف بينهم ولا يتم ذلك إلا بابن الجراح فراسله المعز واستماله وبذل له مائة ألف دينار أن هو خالف علي القرمطي فأجابه ابن الجراح إلى ما طلب منه فاستحلفوه،
638

فحلف أنه إذا وصل إليه المال المقرر انهزم بالناس.
فأحضروا فلما رأوه استكثروه فضربوا أكثرها دنانير من صفر وألبسوها الذهب وجعلوها في أسافل الأكياس وجعلوا الذهب الخالص على رؤوسها وحمل إليه، فأرسل إلى المعز أن يخرج في عسكره يوم كذا ويقاتلونه وهو في الجهة الفلانية فإنه ينهزم ففعل المعز ذلك فانهزم وتبعه العرب كافة فلما رآه الحسن القرمطي منهزما تحير في أمره وثبت وقاتل بعسكره إلا أن عسكر المعز طمعوا فيه وتابعوه الحملات عليه من كل جانب فأرهقوه فولى منهزما واتبعوا أثره وظفروا بمعسكره فأخذوا من فيه أسرى وكانوا نحو ألف وخمسمائة أسير فضربت أعناقهم ونهب ما في المعسكر.
وجرد المعز القائد أبا محمد بن إبراهيم بن جعفر في عشرة آلاف رجل وأمره باتباع القرامطة والإيقاع بهم فاتبعهم وتثاقل في سيره خوفا أن ترجع القرامطة إليه وأما هم فإنهم ساروا حتى نزلوا أذرعات وساروا منها إلى بلدهم الإحساء ويظهرون أنهم يعودون.
639

ذكر ملك المعز دمشق وما كان فيها من الفتن
لما بلغ المعز انهزام القرمطي من الشام وعوده إلى بلاده أرسل القائد ظالم بن موهوب العقيلي واليا على دمشق فدخلها وعظم حاله وكثرت جموعه وأمواله وعدته لأن أبا المنجا وابنه صاحبي القرمطي كانا بدمشق ومعهما جماعة من القرامطة فأخذهم ظالم وحبسهم وأخذ أموالهم وجميع ما يملكونه.
ثم إن القائد أبا محمود الذي سيره المعز يتبع القرامطة وصل إلى دمشق بعد وصول ظالم إليها بأيام قليلة فخرج ظالم متلقيا له مسروا بقدومه لأنه كان مستشعرا من عود القرمطي إليه فطلب منه أن ينزل بعسكره بظاهر دمشق ففعل وسلم إليه أبا المنجا وابنه ورجلا آخر يعرف بالنابلسي وكان هرب من الرملة وتقرب إلى القرمطي فأسر بدمشق أيضا فحملهم أبو محمد إلى مصر فسجن أبو المنجا وابنه وقيل للنابلسي أنت الذي قلت لو أن معي عشرة أسهم لرميت تسعة في المغاربة وواحدا في الروم فاعترف فسلخ جلده وحشي تبنا وصلب.
ولما نزل أبو محمود بظاهر دمشق امتدت أيدي أصحابه بالعبث والفساد وقطع الطريق فاضطرب الناس وخافوا ثم إن صاحب الشرطة أخذ إنسانا من أهل البلد فقتله فثار به الغوغاء والأحداث وقتلوا أصحابه وأقام ظالم بين الرعية يداريهم وانتزح أهل القرى منها لشدة نهب المغاربة أموالهم
640

وظلهم لهم ودخلوا البلد، فلما كان نصف شوال من الستة وقعت فتنة بين عسكر أبي محمود وبين العامة وجرى بين طائفتين قتال شديد وظالم مع العامة يظهر أنه يريد الإصلاح ولم يكاشف أبا محمود وانفصلوا.
ثم إن أصحاب أبي محمود أخذوا من الغوطة قفلا من حوران وقتلوا منه ثلاثة نفر فأخذهم أهلوهم وألقوهم في الجامع فأغلقت الأسواق وخاف الناس وأرادوا القتال فسكنهم عقلاؤهم.
ثم إن المغاربة أرادوا نهب قينية واللؤلؤة فوقع الصائح في أهل البلد فنفروا وقاتلوا المغاربة في السابع عشر ذي القعدة وركب أبو محمود في جموعه وزحف الناس بعضهم إلى بعض فقوي المغاربة وانهزم العامة إلى سور البلد فصبروا عنده وخرج إليهم من تخلف وكثر النشاب على المغاربة فأثخن فيهم فعادوا فتبعهم العامة فاضطروهم إلى العود فعادوا وحملوا على العامة فانهزموا وتبعوهم إلى البلد وخرج ظالم من دار الإمارة.
وألقى المغاربة النار في البلد من ناحية باب الفراديس وأحرقوا تلك الناحية فأخذت النار إلى القبلة فاحترقت من البلد كثيرا وهلك فيه جماعة من الناس وما لا يحد من الأثاث والرحال والأموال وبات الناس على أقبح صورة ثم إنهم اصطلحوا هم وأبو محمود ثم انتفضوا ولم يزالوا كذلك إلى ربيع الآخر سنة أربع وستين وثلاثمائة.
641

ذكر ولاية جيش بن الصمصامة دمشق
ثم عادت الفتنة في ربيع الآخر سنة أربع وستين وثلاثمائة وترددوا في الصلح فاستقر الأمر بين القائد أبي محمود والدمشقيين على إخراج ظالم من البلد وان يليه جيش بن الصمصامة وهو ابن أخت أبي محمود واتفقوا على ذلك وخرج ظالم من البلد ووليه جيش ابن الصمصامة وسكنت الفتنة واطمأن الناس.
ثم إن المغاربة بعد أيام عاثوا وأفسدوا باب الفراديس فثار الناس عليهم وقاتلوهم وقتلوا من لحقوه وصاروا إلى القصر الذي فيه جيش فهرب منه هو ومن معه من الجند المغاربة ولحق بالعسكر، فلما كان من الغد وهو أول جمادى الأولى من السنة زحف جيش في العسكر إلى البلد وقاتله أهله فظفر بهم وهزمهم وأحرق البلد ما كان سلم ودام القتال بينهم أياما كثيرة فاضطرب الناس وخافوا وخربت المنازل وانقطعت المواد وانسدت المسالك وبطل البيع والشراء وقطع الماء عن البلد فبطلت القنوات والحمامات ومات كثير من الفقراء على الطرقات من الجوع والبرد فأتاهم الفرج بعزل أبي محمود.
642

ذكر ولاية ريان الخادم دمشق
لما كان بدمشق ما ذكرناه من القتال والتحريق والتخريب وصل الخبر بذلك إلى المعز صاحب مصر فأنكر ذلك واستبشعه واستعظمه فأرسل إلى القائد ريان الخادم والي طرابلس يأمره بالمسير إلى دمشق لمشاهدة حالها وكشف أمور أهلها وتعريفه حقيقة الأمر وأن يصرف القائد أبا محمود عنها فامتثل ريان ذلك وسار إلى دمشق وكشف الأمر فيها وكتب به إلى المعز وتقدم إلى القائد أبي محمود بالانصراف عنها فسار في جماعة قليلة من العسكر إلى الرملة ويقي الأكثر منهم مع ريان وبقي الأمر كذلك إلى أن ولي الفتكين على ما نذكره.
ذكر حال بختيار بعد قبض الأتراك
لما فعل بختيار ما ذكرناه من قبض الأتراك ظفر بذخيرة لآزاذرويه بجند يسابور فأخذها ثم رأى ما فعله الأتراك مع سبكتكين وإن بعضهم بسواد الأهواز قد عصوا عليه واضطرب عليه غلمانه الذين في داره وأتاه مشايخ الأتراك من البصرة فعاتبوه على ما فعل بهم وقال له عقلاء الديلم لا بد لنا في الحرب من الأتراك يدفعون عنا بالنشاب فاضطرب رأي بختيار ثم أطلق آزاذرويه وجعله صاحب الجيش موضع سبكتكين وظن أن الأتراك يأنسون به ويعدلون عن سبكتكين إليه وأطلق المعتقلين وسار إلى والدته وإخوانه بواسط وكتب
643

إلى عمه ركن الدولة وإلى ابن عمه عضد الدولة يسألهما أن ينجداه ويكشفا ما نزل به، وكتب إلى أبي تغلب بن حمدان يطلب منه أن يساعده بنفسه وأنه إذا فعل ذلك أسقط عنه المال الذي عليه وأرسل إلى عمران بن شاهين بالبطيحة خلعا وأسقط عنه باقي المال الذي اصطلحا عليه وخطب إليه إحدى بناته وطلب منه أن يسير إليه عسكرا.
فأما ركن الدولة عمه فإنه جهز عسكرا مع وزيره أبي الفتح بن العميد وكتب إلى ابنه عضد الدولة يأمره بالمسير إلى ابن عمه والاجتماع مع ابن العميد.
فاما عضد الدولة فإنه وعد بالمسير وانتظر ببختيار الدوائر طمعا في ملك العراق.
وأما عمران بن شاهين فإنه قال أما إسقاط المال فنحن نعلم أنه لا أصل له وقد قبلته وأما الوصلة فإنني لا أتزوج أحدا إلا أن يكون الذكر من عندي وقد خطب إلى العلويون وهم موالينا فما أجبتهم إلى ذلك وأما الخلع والفرس فإنني لست ممن يلبس ملبوسكم وقد قبلها ابني وأما انفاذ عسكر فإن رجالي لا يسكنون إليكم لكثرة ما قتلوا منكم ثم ذكر ما عامله به هو وأبوه مرة بعد أخرى وقال ومع هذا فلا بد أن يحتاج إلى أن يدخل بيتي مستجيرا بي والله لا عاملته بضد ما عاملني به هو وأبوه فكان كذلك.
644

وأما أبو تغلب بن حمدان فإنه أجاب إلى المسارعة وأنفذ أخاه أبا عبد الله الحسين بن ناصر الدولة بن حمدان إلى تكريت في عسكر وانتظر انحدار الأتراك عن بغداد فإن ظفروا ببختيار دخل بغداد مالكا لها، فلما انحدر الأتراك عن بغداد سار أبو تغلب إليها ليوجب على بختيار الحجة في إسقاط المال الذي عليه ووصل إلى بغداد والناس في بلاء عظيم مع العيارين فحمى البلد وكف أهل الفساد.
وأما الأتراك فإنهم انحدروا مع سبكتكين إلى واسط وأخذوا معهم الخليفة الطائع لله والمطيع أيضا وهو مخلوع فلما وصلوا إلى دار العاقول توفي بها المطيع لله ومرض سبكتكين فمات بها أيضا فحملا إلى بغداد، وقدم الأتراك عليهم الفتكين وهو من أكابر قوادهم وموالي معز الدولة وفرح بختيار بموت سبكتكين وظن أن أمر الأتراك ينحل وينتشر بموته فلما رأى انتظام أمورهم ساءه ذلك.
ثم أن الأتراك ساروا إليه وهو بواسط فنزلوا قريبا منه وصاروا يقاتلونه نوائب نحو خمسين يوما ولم تزل الحرب بين الأتراك وبختيار متصلة والظفر للأتراك في كل ذلك وحصروا بختيار واشتد عليه الحصار وأحدقوا به وصار خائفا يترقب وتابع انفاذ الرسل إلى عضد الدولة بالحث والإسراع وكتب إليه:
(فإن كنت مأكولا فكن أنت آكلي * وإلا فأدركني ولما أمزق)
فلما رأى عضد الدولة ذلك وأن الأمر قد بلغ ببختيار ما كان يرجوه سار نحو العراق نجدة له في الظاهر وباطنه بضد ذلك.
645

ذكر ملك عضد الدولة عمان
في هذه السنة استولى الوزير أبو القاسم المطهر بن محمد وزير عضد الدولة على جبال عمان ومن بها من الشراة في ربيع الأول.
وسبب ذلك أن معز الدولة لما توفي وبعمان أبو الفرج بن العباس نائب معز الدولة فارقها فتولى أمرها عمر بن نهبان الطائي وأقام الدعوة لعضد الدولة ثم إن الزنج غلبت على البلد ومعهم طوائف من الجند وقتلوا ابن نهبان الطائي وأمروا عليهم إنسانا يعرف بابن حلاج فسير عضد الدولة جيشا من كرمان واستمل عليهم أبا حرب طغان فساروا في البحر إلى عمان فخرج أبو حرب من المراكب إلى البر وسارت المراكب في البحر من ذلك المكان فتوافوا على صحار قصبة عمان فخرج إليهم الجند والزنج واقتتلوا قتالا شديدا في البر والبحر فظفر أبو حرب واستولى على صحار وانهزم أهلها وكان ذلك سنة اثنتين وستين [وثلاثمائة].
ثم إن الزنج اجتمعوا إلى بريم وهو رستاق بينه وبين صحار مرحلتان فسار إليهم أبو حرب فأوقع بهم وقعة أتت عليهم قتلا وأسرا فاطمأنت البلاد.
ثم إن جبال عمان اجتمع بها خلق كثير من الشراة وجعلوا لهم أميرا اسمه ورد بن زياد وجعلوا لهم خليفة اسمه حفص بن راشد فاشتدت شوكتهم فسير عضد الدولة المطهر بن عبد الله في البحر أيضا فبلغ إلى نواحي حرفان من
646

أعمال عمان فأوقع بأهلها وأثخن فيهم وأسر، ثم سار إلى دما وهي على أربعة أيام من صحار فقاتل من بها وأوقع بهم وقعة عظيمة قتل فيها وأسر كثيرا من رؤسائهم وانهزم أميرهم ورد وأمامهم حفص واتبعهم المطهر إلى نزوى وهي قصبة تلك الجبال فانهزموا منه فسير إليهم العساكر فأوقعوا بهم وقعة أتت على باقيهم وقتل ورد وانهزم حفص إلى اليمن فصار معلما وسار المطهر إلى مكان يعرف بالشرف به جمع كثير من العرب نحو عشرة آلاف فأوقع بهم واستقامت البلاد ودانت بالطاعة وأم بيق فيها مخالف.
ذكر عدة حوادث
وفيها خطب للمعز لدين الله العلوي صاحب مصر بمكة والمدينة في الموسم.
وفيها خرج بنو هلال وجمع من العرب على الحاج فقتلوا منهم خلقا كثيرا وضاق الوقت فبطل الحج ولم يسلم إلا من مضى مع الشريف أبي أحمد الموسوي والد الرضي على طريق المدينة فتم حجهم.
وفيها كانت بواسط زلزلة عظيمة في ذي الحجة.
وفيها توفي عبد العزيز بن جعفر بن أحمد بن يزداد الفقيه الحنبلي المعروف بغلام الخلال وعمره ثمان وسبعون سنة.
وإلى آخر هذه السنة انتهى تاريخ ثابت بن سنان بن أبت بن قرة وأوله من خلافة المقتدر بالله سنة خمس وتسعين ومائتين.
647

364
ثم دخلت سنة أربع وستين وثلاثمائة
ذكر استيلاء عضد الدولة على العراق وقبض بختيار
في هذه السنة وصل عضد الدولة واستولى على العراق وقبض بختيار ثم عاد فأخرجه.
وسبب ذلك أن بختيار لما تابع كتبه إلى عضد الدولة يستنجده ويستعين به على الأتراك سار إليه في عساكر فارس واجتمع به أبو الفتح بن العميد وزير أبيه ركن الدولة في عساكر الري بالأهواز وساروا إلى واسط فلما سمع الفتكين بخبر وصولهم رجع إلى بغداد وعزم على أن يجعلها وراء ظهره ويقاتل على ديالى.
ووصل عضد الدولة فاجتمع به بختيار وسار عضد الدولة إلى بغداد في الجانب الشرقي وأمر بختيار أن يسير في الجانب الغربي.
ولما بلغ الخبر إلى أبي تغلب بقرب الفتكين منه عاد عن بغداد إلى الموصل لأن أصحابه شغبوا عليه فلم يمكنه المقام ووصل الفتكين إلى بغداد فحصل محصورا من جميع جهاته وذلك أن بختيار كتب إلى ضبه بن محمد الأسدي،
648

وهو أول من أهل عين التمر وهو الذي هجاه المتنبي فأمره بالإغارة على أطراف بغداد وبقطع الميرة عنها وكتب بمثل ذلك إلى بني شيبان.
وكان أبو تغلب بن حمدان من ناحية الموصل يمنع الميرة وينفذ سراياه فغلا السعر ببغداد وسار العيارون والمفسدون فنهبوا الناس ببغداد وامتنع الناس من المعاش لخوف الفتنة وعدم الطعام والقوت بها وكبس الفتكين المنازل في طلب الطعام.
وسار عضد الدولة نحو بغداد فلقيه الفتكين والأتراك بين ديالى والمدائن فاقتتلوا قتالا شديدا وانهزم الأتراك فقتل منهم خلق كثير ووصلوا إلى ديالى فعبروا على جسور كانوا عملوها عليه فغرق منهم أكثرهم من الزحمة وكذلك قتل وغرق من العيارين الذين أعانوهم من بغداد واستباحوا عسكرهم وكانت الوقعة رابع عشر جمادى الأولى.
وسار الأتراك إلى تكريت وسار عضد الدولة فنزل بظاهر بغداد فلما علم وصول الأتراك إلى تكريت دخل بغداد ونزل بدار المملكة وكان الأتراك قد اخذوا الخليفة معهم كارها فسعى عضد الدولة حتى رده إلى بغداد فوصلها ثامن رجب في الماء، وخرج عضد الدولة فلقيه في الماء وامتلأت دجلة بالسميريات والزبازب ولم يبق ببغداد أحد ولو أراد انسان ان يعبر دجلة على السميريات من واحدة إلى أخرى لأمكنه ذلك لكثرتها وسار عضد الدولة مع الخليفة وانزله بدار الخلافة.
وكان عضد الدولة قد طمع في العراق واستضعف بختيار وانما خاف أباه ركن الدولة فوضع جند بختيار على ان يثوروا به ويشغبوا عليه ويطالبوه
649

بأموالهم والاحسان لأجل صبرهم فقابل الأتراك ففعلوا ذلك وبالغوا وكان بختيار لا يملك قليلا ولا كثيرا وقد نهب البعض واخرج هو الباقي والبلاد خراب فلا تصل يده
إلى اخذ شيء منها.
وأشار عضد الدولة على بختيار بترك الالتفات إليهم والغلظة لهم وعليهم ووعده انه إذا فعل ذلك توسط الحال بينهم على ما يريد فظن بختيار انه ناصح له مشفق عليه ففعل ذلك واستعفى من الامارة وأغلق باب داره وصرف كتابه وحجابه فراسله عضد الدولة ظاهرا بمحضر من مقدمي الجند يشير عليه بمقاربتهم وتطييب قلوبهم وكان أوصاه سرا ان لا يقبل منه ذلك فعمل بختيار بما أوصاه وقال لست أميرا لهم ولا بيني وبينهم معاملة وقد برئت منهم فترددت الرسل بينهم ثلاثة أيام وعضد الدولة يغريهم به الشغب يزيد، وارسل بختيار اليه يطلب نجاز ما وعده به ففرق الجند على عدة جميلة واستدعى بختيار وإخوته اليه فقبض عليهم ووكل بهم وجمع الناس واعلمهم استعفاء بختيار عن الامارة عجزا عنها ووعدهم الاحسان والنظر في أمورهم فسكنوا إلى قوله وكان قبضه على بختيار [في] السادس والعشرين من جمادى الآخرة.
وكان الخليفة الطائع لله نافرا عن بختيار لأنه كان مع الأتراك في حروبهم فلما بلغه قبضه سره ذلك وعاد إلى عضد الدولة فأظهر عضد الدولة من تعظيم الخلافة ما كان قد نسي وترك وامر بعمارة الدار والاكثار من الآلات وعمارة ما يتعلق بالخليفة وحماية أقطاعه ولما دخل الخليفة إلى بغداد
650

ودخل دار الخلافة انفذ اليه عضد الدولة مالا كثيرا وغيره من الأمتعة والفرش وغير ذلك.
ذكر عود بختيار إلى مكة
لما قبض على بختيار كان ولده المرزبان بالبصرة متوليا لها فلما بلغه قبض والده امتنع فيها على عضد الدولة وكتب إلى ركن الدولة يشكو ما جرى على والده وعميه من عضد الدولة ومن أبي الفتح بن العميد ويذكر له الحيلة التي تمت عليه فلما سمع ركن الدولة ذلك القى نفسه عن سريره إلى الأرض وتمرغ عليها وامتنع من الأكل واشرب عدة أيام ومرض مرضا لم يستقل منه باقي حياته.
وكان محمد بن بقية بعد بختيار قد خدم عضد الدولة وضمن منه مدينة واسط وأعمالها فلما صار إليها خلع طاعة عضد الدولة وخالف عليه واظهر الامتعاض لقبض بختيار وكاتب عمران بن شاهين وطلب مساعدته وحذره مكر عضد الدولة فاجابه عمران إلى ما التمس.
وكان عضد الدولة قد ضمن سهل بن بشر وزير الفتكين بلد الأهواز وأخرجه من حبس بختيار فكاتبه محمد بن بقية واستماله فاجابه فلما عصى ابن بقية انفذ اليه عضد الدولة جيشا قويا فخرج إليهم ابن بقية في الماء ومعه عسكر قد سيره اليه عمران فانهزم أصحاب عضد الدول أقبح هزيمة، وكاتب ركن الدولة وحال بختيار فكتب ركن الدولة اليه
651

والى المرزبان وغيرهما ممن احتمى لبختيار يأمرهم بالثبات والصبر ويعرفهم انه على المسير إلى العراق لاخراج عضد الدولة وإعادة بختيار.
فاضطربت النواحي على عضد الدولة وتجاسر عليه الأعداء حيث علموا انكار أبيه عليه وانقطعت عنه مواد فارس والبحر ولم يبق بيده الا قصبة بغداد وطمع فيه العامة وأشرف على ما يكره فرأى انفاذ الفتح بن العميد برسالة إلى أبيه يعرفه ما جرى له وما فرق من الأموال وضعف بختيار عن حفظ البلاد وانه ان أعيد إلى حاله خرجت المملكة والخلافة عنهم وكان بوارهم ويسأله ترك نصرة بختيار وقال لأبي الفتح فان أجاب إلى ما تريد منه والا فقل له انني اضمن منك اعمال العراق واحمل إليك منها كل سنة ثلاثين الف الف درهم وابعث بختيار وإخوته إليك لتجعلهم بالخيار فان اختاروا أقاموا عندك وان اختاروا بعض بلاد فارس سلمته إليهم ووسعت عليهم وان أحببت أنت ان تحضر في العراق لتلي تدبير الخلافة وتنفذ بختيار إلى الري وأعود انا إلى فارس فالامر إليك.
وقال لابن العميد فان أجاب إلى ما ذكرت له والا فقل له أيها السيد الوالد أنت مقبول الحكم والقول ولكن لا سبيل إلى إطلاق هؤلاء القوم بعد مكاشفتهم وإظهار العداوة وسيقاتلونني بغاية ما يقدرون عليه فتنتشر الكلمة ويختلف أهل هذا البيت أبدا فإن قبلت ما ذكرته فأنا العبد الطائع وإن أبيت وحكمت بانصرافي فإني سأقتل بختيار وأخويه وأقبض على كل من أتهمه بالميل إليهم وأخرج عن العراق وأترك البلاد سائبة ليدبرها من اتفقت له.
فخاف ابن العميد أن يسير بهذه الرسالة وأشار أن يسير بها غيره ويسير
652

هو بعد ذلك ويكون كالمشير على ركن الدولة بإجابته إلى ما طلب فأرسل عضد الدولة رسولا بهذه الرسالة وسير بعده ابن العميد عل الجمازات فلما حضر الرسول عند ركن الدولة وذكر بعض الرسالة وثب إليه ليقتله فهرب من بين يديه ثم رده بعد أن سكن غضبه وقال قل لفلان يعني عضد الدولة وسماه بغير اسمه وشتمه خرجت إلى نصرة ابن أخي وللطمع في مملكته أما عرفت أني نصرت الحسن بن الفيرزان وهو غريب مني مرارا كثيرة أخاطر فيها بملكي ونفسي فإذا ظفرت أعدت له بلاده ولم أقبل منه ما قيمته درهم واحد ثم نصرت إبراهيم بن المرزبان وأعدته إلى آذربيجان ونفذت وزيري وعساكري في نصرته ولم آخذ منه درهما واحدا كل ذلك طلبا لحسن الذكر ومحافظة على الفتوة تريد أن تمن أنت علي بدرهمين أنفقتهما أنت علي وعلى أولاد أخي ثم تطمع في ممالكهم وتهددني بقتلهم!
فعاد الرسول ووصل ابن العميد فحجبه عنه ولم يسمع حديثه وتهدده بالهلاك وأنفذ إليه يقول له لأتركنك وذلك الفاعل يعني عضد الدولة تجتهدان جهدكما ثم لا أخرج إليكما إلا في ثلاثمائة جمازة وعليها الرجال ثم أثبتوا إلي إن شئتم فوالله لا قاتلتكما إلا بأقرب الناس إليكما.
وكان ركن الدولة يقول إنني أرى أخي معز الدولة كل ليلة في المنام يعض على أنامله ويقول يا أخي هكذا ضمنت لي أن يخلفني في أهلي وولدي، وكان ركن الدولة يحب أخاه محبة شديدة لأنه رباه فكان عنده بمنزلة الولد.
ثم إن الناس سعوا لابن العميد وتوسطوا الحال بينه وبين ركن الدولة وقالوا: إنما تحمل ابن العميد هذه الرسالة ليجعلها طريقا للخلاص من عضد الدولة والوصول إليك لتأمر بما تراه فأذن له بالحضور عنده فاجتمع به وضمن
653

له إعادة عضد الدولة إلى فارس وتقرير بختيار بالعراق فرده إلى عضد الدولة وعرفه جلية الحال.
فلما رأى عضد الدولة انحراف الأمور عليه من كل ناحية أجاب إلى المسير إلى فارس وإعادة بختيار فأخرجه من محبسه وخلع عليه وشرط عليه أن يكون نائبا عنه بالعراق ويخطب له ويجعل أخاه أبا إسحاق أمير الجيش لضعف بختيار ورد عليهم عضد الدولة جميع ما كان لهم وسار إلى فارس في شوال من هذه السنة وأمر أبا الفتح بن العميد وزير أبيه أن يلحقه بعد ثلاثة أيام.
فلما سار عضد الدولة أقام ابن العميد عند بختيار متشاغلا باللذات وبما بختيار مغرى به من اللعب واتفقا باطنا على أنه إذا مات ركن الدولة سار إليه ووزر له واتصل ذلك بعضد الدولة فكان سبب هلاك ابن العميد على ما نذكره.
واستقر بختيار ببغداد ولم يقف لعضد الدولة على العهود فلما ثبت أمر بختيار أنفذ ابن بقية من خلفه له وحضر عنده وأكد الوحشة بين بختيار وعضد الدولة وثارت الفتنة بعد مسير عضد الدولة واستمال ابن بقية الأجناد وجبى كثيرا من الأموال إلى خزانته وكان إذا طالبه بختيار بالمال وضع الجند على مطالبته فثقل على بختيار فاستشار في مكروه يوقعه به فبلغ ذلك ابن بقية فعاتب بختيار عليه فأنكره وحلف له فاحترز ابن بقية منه.
654

ذكر اضطراب كرمان على عضد الدولة وعودها له
في هذه السنة خالف أهل كرمان على عضد الدولة.
وسبب ذلك أن رجلا من الجرومية وهي البلاد الحارة يقال له طاهر بن الصمة ضمن من عضد الدولة ضمانان فاجتمع عليه أموال كثيرة فطمع فيها وكان عضد الدولة قد سار إلى العراق وسير وزيره المطهر بن عبد الله إلى عمان ليستولي عليها فخلت كرمان من العساكر فجمع طاهر الرجال الجرومية وغيرهم فاجتمع له خلق كثير.
واتفق أن بعض الأتراك السامانية واسمه يوزتمر كان قد استوحش من أبي الحسن محمد بن إبراهيم بن سيمجور صاحب جيش خراسان للسامانية فكاتبه طاهر وأطعمه في أعمال كرمان فسار إليه واتفقا وكان يوزتمر هو الأمير فاتفق أن الرجال الجرومية شغبوا على يوزتمر فظن أن طاهرا وضعهم فاختلفا واقتتلا فظفر يوزتمر بطاهر وأسره وظفر بأصحابه.
وبلغ الخبر إلى الحسين بن أبي علي بن إلياس وهو بخراسان فطمع في البلاد فجمع جمعا وسار إليها فاجتمع عليه بها جموع كثيرة ثم إن المطهر بن عبد الله استولى على عمان وجبالها وأوقع بالشراة فيها وعاد فوصله كتاب عضد الدولة من بغداد يأمره بالمسير إلى كرمان فسار إليها مجدا وأوقع في طريقه بأهل العبث والفساد وقتلهم وصلبهم ومثل بهم ووصل إلى يوزتمر على حين غفلة منه فاقتتلوا بنواحي مدينة بم فانهزم يوزتمر ودخل المدينة وحصره المطهر في حصن في وسط المدينة فطلب
655

الأمان فأمنه إليه ومعه طاهر فأمر المطهر بطاهر فشهر ثم ضرب عنقه.
وأما يوزتمر فإنه رفعه إلى بعض القلاع فكان آخر العهد به وسار المطهر إلى الحسين بن إلياس فرأى كثرة من معه فخاف جانبهم ولم يجد من اللقاء بدا فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزم الحسين على باب جيرفت وانهزم عسكره فمنعهم سور المدينة من الهرب فكثر فيهم القتل وأخذ الحسين أسيرا وأحضر عند المطهر فلم يعرف له بعد خبر وصلحت كرمان لعضد الدولة.
ذكر ولاية الفتكين دمشق وما كان منه إلى أن مات
قد ذكرنا ما كان من انهزام الفتكين التركي مولى معز الدولة بن بويه من مولاه بختيار بن معز الدولة ومن عضد الدولة في فتنة الأتراك بالعراق فلما انهزم منهم سار في طائفة صالحة من الجند الترك فوصل إلى حمص فنزل بالقرب منها فقصده ظالم بن موهوب العقيلي الذي كان أمير دمشق للمعز لدين الله ليأخذه فلم يتمكن من أخذه فعاد عنه، وسار الفتكين إلى دمشق فنزل بظاهرها.
وكان أميرها حينئذ ريان الخادم للمعز وكان الأحداث قد غلبوا عليها وليس للأعيان معهم حكم ولا للسلطنة عليهم طاعة فلما نزل خرج أشرافها وشيوخها إليه وأظهروا له السرور بقدومه وسألوه أن يقيم عندهم ويملك بلدهم ويزيل عنهم سمة المصريين فإنهم يكرهونها لمخالفة الاعتقاد،
656

ولظلم عمالهم ويكف عنهم شر الأحداث فأجابهم إلى ذلك واستحلفهم على الطاعة والمساعدة وحلف لهم على الحماية وكف الأذى عنهم مه ومن غيره ودخل البلد وأخرج عنه ريان الخادم وقطع خطبة المعز وخطب للطائع لله في شعبان وقمع أهل العيث والفساد وهابه كافة الناس وأصلح كثيرا من أمورهم.
فكانت العرب قد استولت على سواد البلد وما يتصل له فقصدهم وأوقع بهم وقتل كثيرا منهم وأبان عن شجاعة وقوة نفس وحسن تدبير فأذعنوا له وأقطع البلاد وكثر جمعه وتوفرت أمواله وثبت قدمه.
وكاتب المعز بمصر يداريه ويظهر له الانقياد فشكره وطلب منه أن يحضر عنده ليخلع عليه ويعيده واليا من جانبه فلم يثق إليه وامتنع من المسير فتجهز المعز وجمع العساكر لقصده فمرض ومات على ما نذكره سنة خمس وستين وثلاثمائة وولي بعده ابنه العزيز بالله فأمن الفتكين بموته جهة مصر فقصد بلاد العزيز التي بساحل الشام فعمد إلى صيدا فحصرها وبها ابن الشيخ ومعه رؤوس المغاربة ومعهم ظالم بن موهوب العقيلي فقاتلهم وكانوا في كثرة فطمعوا فيه وخرجوا إليه فاستجرهم حتى أبعدوا ثم عاد عليهم فقتل منهم نحو أربعة آلاف قتيل.
وطمع في أخذ عكا فتوجه إليها وقصد طبرية ففعل فيها من القتل والنهب مثل صيدا وعاد إلى دمشق.
فلما سمع العزيز بذلك استشار وزيره يعقوب بن كأس فيما يفعل فأشار بإرسال جوهر في العساكر إلى الشام فجهزه وسيره، فلما سمع الفتكين بمسيره جمع أهل الشام
وقال قد علمتم أنني ما وليت أمركم إلا عن رضا منكم،
657

وطلب من كبيركم وصغيركم لي وإنما كنت مجتازا وقد أظلكم هذا الأمر وأنا سائر عنكم لئلا ينالكم أذى بسببي فقالوا: لا نمكنك من فراقنا ونحن نبذل الأنفس والأموال في هواك وننصرك ونقوم معك فاستحلفهم على ذلك فحلفوا له فأقام عندهم فوصل جوهر إلى البلد في ذي القعدة من سنة خمس وستين وثلاثمائة فحصره فرأى من قتال الفتكين ومن معه ما استعظمه ودامت الحرب شهرين قتل فيها عدد كثير من الطائفتين.
فلما رأى أهل دمشق طول مقام المغاربة عليهم أشاروا على الفتكين بمكاتبة الحسن بن أحمد القرمطي واستنجاده ففعل ذلك فسار القرمطي إليه من الأحساء فلما قرب منه رحل جوهر عن دمشق خوفا أن يبقى بين عدوين وكان مقامه عليها سبعة أشهر، ووصل القرمطي واجتمع هو والفتكين وساروا في أثر جوهر فأدركاه وقد نزل بظاهر الرملة وسير أثقاله إلى عسقلان فاقتتلوا فكان جمع الفتكين والقرمطي كثيرا من رجال الشام والعرب وغيرهم فكانوا نحو خمسين ألف فارس وراجل فنزلوا على نهر الطواحين على ثلاثة فراسخ من البلد ومنه ماء أهل البلد فقطعوه عنهم فاحتاج جوهر ومن معه إلى ماء المطر ففي الصهاريج وهو قليل لا يقوم بهم فرحل إلى عسقلان وتبعه الفتكين والقرمطي فحصراه بها وطال الحصار وقلت الميرة وعدمت الأقوات وكان الزمان شتاء فلم يمكن حمل الذخائر في البحر من مصر وغيرها فاضطروا إلى أكل الميتة وبلغ الخبز كل خمسة أرطال بالشامي بدينار مصري.
وكان جوهر يراسل الفتكين ويدعوه إلى المرافقة والطاعة ويبذل له
658

البذول الكثيرة، فيهم أن يفعل فيمنعه القرمطي ويخوفه منه فزادت الشدة على جوهر ومن معه فعاينوا الهلاك فأرسل إلى الفتكين يطلب منه أن يجتمع به فتقدم إليه واجتمعا راكبين فقال جوهر قد عرفت ما يجمعنا من عصمة الإسلام وحرمة الدين وقد طالت هذه الفتنة وأريقت فيها الدماء ونهبت الأول ونحن المؤاخذون بها عند الله تعالى وقد دعوتك إلى الصلح والطاعة والموافقة وبذلت لك الرغائب فأبيت إلا القبول ممن يشب نار الفتنة فراقب الله تعالى وراجع نفسك وغلب رأيك على هوى غيرك.
فقال الفتكين أنا والله واثق بك في صحة الرأي والمشورة منك لكنني غير متمكن مما تدعونني إليه بسبب القرمطي الذي أحوجتني أنت إلى مداراته والقبول منه.
فقال جوهر إذا كان الأمر على ذكرت فإنني أصدقك الحال تعويلا على أمانتك وما أجده من الفتوة عندك وقد ضاق الأمر بنا وأريد أن تمن علي نفسي وبمن معي من المسلمين وتذم لنا وأعود إلى صاحبي شاكرا لك وتكون قد جمعت بين حقن الدماء واصطناع المعروف.
فأجابه إلى ذلك وحلف له على الوفاء به وعاد واجتمع بالقرمطي وعرفه الحال فقال لقد أخطات فإن جوهرا له رأي وحزم ومكيدة وسيرجع إلى صاحبه فيحمله على قصدنا بما لا طاقة لنا به والصواب أن ترجع عن ذلك ليموتوا جوعا ونأخذهم بالسيف فامتنع الفتكين من ذلك وقال لا أغدر به وأذن لجوهر ولمن معه بالمسير إلى مصر فسار إليه واجتمع بالعزيز،
659

وشرح له الحال وقال إن كنت تريدهم فأخرج إليهم بنفسك والا فهم واصلون على أثري فبرز العزيز وفرق الأموال وجمع الرجال وسار وجوهر على مقدمته.
وورد الخبر إلى الفتكين والقرمطي فعادا إلى الرملة وجمعا العرب وغيرها وحشدا، ووصل العزيز فنزل بظاهر الرملة ونزلا بالقرب منه ثم اصطفوا للحرب في المحرم سنة سبع وستين وثلاثمائة فرأى العزيز من شجاعة الفتكين ما أعجبه فأرسل إليه في تلك الحال يدعوه إلى طاعته ويبذل له الرغائب والولايات وأن يجعله مقدم عسكره والمرجوع إليه في دولته ويطلب أن يحضر عنده ويسمع قوله فترجل وقبل الأرض بين الصفين وقال للرسول قل لأمير المؤمنين لو قدم هذا القول لسارعت وأطعت وأما الآن فلا يمكن إلا ما ترى وحمل على الميسرة فهزمها وقتل كثيرا منها فلما رأى العزيز ذلك حمل من القلب وأمر الميمنة فحملت فانهزم القرمطي والفتكين ومن معهما ووضع المغاربة السيف فأكثروا القتل وقتلوا نحو عشرين ألفا.
ونزل العزيز خيامه وجاءه الناس بالأسرى فكل من أتاه بأسير خلع عليه وبذل لمن أتاه الفتكين أسيرا مائة ألف دينار وكان الفتكين قد مضى منهزما فكظه العطش فلقيه المفرج بن دغفل الطائي وكان بينهما أنس قديم فطلب منه الفتكين ماء فسقاه وأخذه معه إلى بيته فأنزله وأكرمه وسار إلى العزيز بالله فأعلمه بأسر الفتكين وطلب منه المال فأعطاه ما ضمنه وسير معه من تسلم الفتكين منه فلما وصل الفتكين وطلب إلى العزيز لم
660

يشك أنه يقتله لوقته فرأى من إكرام العزيز له والإحسان إليه ما أعجزه وأمر له بالخيام فنصبت وأعاد إليه جميع من كان يخدمه فلم بفقد من حاله شيئا وحمل إليه من التحف والأموال ما لم ير مثله وأخذه معه إلى مصر وجعله من أخص خدمه وحجابه.
وأما الحسن القرمطي فإنه وصل منهزما إلى طبرية فأدركه رسول العزيز يدعوه إلى العود إليه ليحسن إليه ويفعل معه أكثر مما فعل مع الفتكين فلم يرجع فأرسل إليه العزيز عشرين ألف دينار وجعلها له كل سنة فكان يرسلها إليه وعاد إلى الإحساء.
ولما عاد العزيز إلى مصر أنزل الفتكين عند قصره وزاد أمره وتحكم فتكبر على وزيره يعقوب بن كلس وترك الركوب إليه فصار بينهما عدواة متأكدة فوضع عليه من سقاه سما فمات فحزن عليه العزيز واتهم الوزير فحبسه نيفا وأربعين يوما وأخذ منه خمسمائة ألف دينار ثم وقفت أمور دولة العزيز باعتزال الوزير فخلع عليه وأعاده إلى وزارته.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة سار الحجاج إلى سميراء فرأوا هلال ذي الحجة بها والعادة جارية بأن يرى الهلال بعده بأربعة أيام وبلغهم أنهم لا يرون الماء إلى غمرة وهو بها أيضا قليل وبينهما نحو عشرة أيام فغدوا إلى المدينة فوقفوا بها وعادوا فكانوا أول المحرم في الكوفة.
661

وفيها ظهر بأفريقية كوكب عظيم من جهة المشرق وله ذؤابة وضوء عظيم فبقي يطلع كذلك نحوا من شهر ثم غاب فلم ير.
وفيها توفي أبو القاسم عبد السلام بن أبي موسى المخرمي الصوفي نزيل مكة وكان قد صحب أبا علي الروذباري وطبقته وغيره.
662

365
ثم دخلت سنة خمس وستين وثلاثمائة
ذكر وفاة المعز لدين الله العلوي وولاية ابنه العزيز بالله
في هذه السنة توفي المعز لدين الله أبو تميم معد بن المنصور بالله إسماعيل بن القائم بأمر الله أبي القاسم محمد بن المهدي أبي محمد عبيد الله العلوي الحسيني بمصر وأمه أم ولد وكان موته سابع عسر ربيع الآخر من هذه السنة وولد بالمهدية من أفريقية حادي عشر شهر رمضان سنة تسع عشرة وثلاثمائة وعمره خمس وأربعون سنة وستة أشهر تقريبا.
وكان سبب موته أن ملك الروم بالقسطنطينية أرسل إليه رسولا كان يتردد إليه بأفريقية فخلا به بعض الأيام فقال له المعز أتذكر إذ أتيتني رسولا وأنا بالمهدية فقلت لك لتدخلن علي وأنا بمصر مالكا لها قال نعم! قال: وأنا أقول لك لتدخلن علي بغداد وأنا خليفة.
فقال له الرسول إن أمنتني على نفسي ولم تغضب قلت لك ما عندي فقال له المعز قل وأنت آمن قال بعثني إليك الملك ذلك العام فرأيت
663

من عظمتك في عيني وكثرة أصحابك ما كدت أموت منه ووصلت إلى قصرك فرأيت عليه نورا عظيما غطى بصري ثم دخلت عليك فرأيتك على سريرك فظنتك خالقا فلو قلت لي أنك تعرج إلى السماء لتحققت ذلك ثم جئت إليك الآن فما رأيت من ذلك شيئا أشرفت على مدينتك فكانت في عيني سوداء مظلمة ثم دخلت عليك فما وجدت من المهابة ما وجدته ذلك العام فقلت إن ذلك كان أمرا مقبلا وإنه الآن بضد ما كان عليه.
فأطرق المعز وخرج الرسول من عنده وأخذت المعز الحمى لشدة ما وجد واتصل مرضه حتى مات.
وكانت ولايته ثلاثا وعشرين سنة وخمسة أشهر وعشرة أيام منها مقامه بمصر سنتان وتسعة أشهر والباقي بأفريقية وهو أول الخلفاء العلويين ملك مصر وخرج إليها وكان مغرى بالنجوم ويعمل بأقوال المنجمين قال له منجمه أن عليه قطعا في وقت كذا وأشار عليه بعمل سرداب يختفي فيه إلى أن يجوز ذلك الوقت ففعل ما أمره وأحضر قواده فقال لهم إن بيني وبين الله عهدا أنا ماض إليه وقد استخلفت عليكم ابني نزارا يعني العزيز فاسمعوا له وأطعيوا.
ونزل السرداب فكان أحد المغاربة إذا رأى سحابا نزل وأومأ بالسلام إليه ظنا منه أن المعز فيه فغاب سنة ثم ظهر وبقي مديدة ومرض وتوفي فستر ابنه العزيز موته إلى عيد النحر من السنة فصلى بالناس وخطبهم ودعا لنفسه وعزى بأبيه.
وكان المعز عالما فاضلا جوادا شجاعا جاريا على منهاج أبيه من
664

حسن السيرة وإنصاف الرعية وستر ما يدعون إليه إلا عن الخاصة ثم أظهره وأمر الدعاة باظهاره إلا أنه لم يخرج فيه إلى حد يذم به.
ولما استقر العزيز في الملك أطاعه العسكر فاجتمعوا عليه وكان هو يدبر الأمور منذ مات أبوه إلى أن أظهره ثم سير إلى الغرب دنانير عليها اسمه فرقت في الناس وأقر يوسف بلكين على ولاية أفريقية وأضاف إليه ما كان أبوه استعمل عليه غير يوسف وهي طرابلس وسرت واجد أبيه فاستعمل عليها يوسف عماله وعظم أمره حينئذ وأمن ناحية العزيز واستبد بالملك وكان يظهر الطاعة مجاملة ومراقبة لا طائل وراءها.
ذكر حرب يوسف بلكين مع زناتة وغيرها بأفريقية
في هذه السنة جمع بن فلفول بن خزر الزناتي جمعا كبيرا وسار إلى سجلماسة فلقيه صاحبها في رمضان فقتله خزرون وملك سجلماسة وأخذ منها من الأموال والعدد شيئا كثيرا وبعث برأس صاحبها إلى الأندلس وعظم شأن زناتة واشتد ملكهم.
وكان بلكين عند سبتة وكان قد رحل إلى فاس وسجلماسة وأرض الهبط وملكه لكله وطرد عنه عمال بني أمية وهربت زناتة منه فلجا كثير منهم إلى سبتة وهي للأموي صاحب الأندلس وكان في طريقه شعاري مشتبكة ولا تسلك فأمر بقطعها وإحراقها فقطعت وأحرقت حتى صارت
665

للعسكر طريقا.
ثم مضى بنفسه حتى أشرف على سبتة من جبل مطل عليها فوقف نصف نهار لينظر من أي جهة يحاصرها ويقاتلها فرأى أنها لا تؤخذ إلا بأسطول فخافه أهلها خوفا عظيما ثم رجع عنها نحو البصرة وهي مدينة حسنة تسمى بصرة في المغرب فلما سمعت به رناتة رحلوا إلى أقاصي الغرب في الرمال والصحاري هاربين منه فدخل يوسف البصرة وكانت قد عمرها صاحب الأندلس عمارة عظيمة فأمر بهدمها ونهبها ورحل إلى بلد برغزاطة.
وكان ملكهم عبس ابن أم الأنصار وكان مشعبذا ساحرا وادعى النبوة فأطاعوه في كل ما أمرهم به وجعل لهم شريعة فغزاة بلكين وكانت بينهم حروب عظيمة لا توصف كان الظفر في آخرها لبلكين، وقتل الله عبس ابن أم الأنصار وهزم عساكره وقتلوا قتالا ذريعا وسبى من نساءهم وأبنائهم ما لا يحصى وسيره إلى أفريقية فقال أهل أفريقية إنه لم يدخل إليهم من السبي مثله قط وأقام يوسف بلكين بتلك الناحية قاهرا لأهلها وأهل سبتة منه خائفون وزناتة هاربون في الرمال إلى سنة ثلاث وثلاثمائة.
ذكر حصر كسنتة وغيرها
في هذه السنة سار أمير صقيلة وهو أبو القاسم بن الحسن بن علي بن أبي الحسين في عساكر المسلمين ومعه جماعة من الصالحين والعلماء فنازل مدينة
666

مسيني في رمضان فهرب العدو عنها وعدى المسلمون إلى كسنته فحصروها أياما فسأل أهلها الأمان فأجابهم إليه وأخذ منهم مالا ورحل عنها إلى قلعة جلوا ففعل كذلك بها وبغيرها وأمر أخاه القاسم أن يذهب بالأسطول إلى ناحية بربولة ويبث السرايا في جميع قلورية ففعل ذلك فغنم غنائم كثيرة وقتل وسبى وعاد هو وأخوه إلى المدينة.
فلما كان سنة ست وستين وثلاثمائة أمر أبو القاسم بعمارة رمطة وكانت قد خربت قبل ذلك وعاود الغزو وجمع الجيوش وسار فنازل قلعة إغاثة فطلب أهلها الأمان وأغلقوا أبوابها فصعد الناس السور وفتحوا الأبواب ودخلها الناس فأمر الأمير بهدمها فهدمت وأحرقت وأرسل السرايا فبلغوا أذرنت وغيرها ونزل هو على مدينة عردلية فقاتلها فبذل أهلها له مالا صالحهم عليه وعاد إلى المدينة.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة خطب للعزيز العلوي بمكة حرسها الله تعالى بعد أن أرسل جيشا إليها فحصروها وضيقوا على أهلها ومنعوهم الميرة فغلت الأسعار بها ولقي أهلها شدة شديدة.
667

وفيها أقام بسيلس بن أرمانوس ملك الروم وردا المعروف بسقلاروس دمستقا فلما استقر في الولاية استوحش من الملك فعصى عليه واستظهر بأبي تغلب بن حمدان وصاهره ولبس التاج وطلب الملك.
وفيها توفي أبو أحمد بن عدي الجرجاني في جمادى الآخرة وهو إمام مشهور ومحمد بن بدر الكبير الحمامي غلام ابن طولون وكان قد ولي فارس بعد أبيه.
وفيها في ذي القعدة توفي ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة الصابي صاحب التاريخ.
668

366
ثم دخلت سنة ست وستين وثلاثمائة
ذكر وفاة ركن الدولة وملك عضد الدولة
في هذه السنة في المحرم توفي ركن الدولة أبو علي الحسن بن بويه واستخلف على ممالكه ابنه عضد الدولة وكان ابتداء مرضه حين سمع بقبض بختيار ابن أخيه معز الدولة ومان ابنه عضد الدولة قد عاد من بغداد بعدا أن اطلق بختيار على الوجه الذي ذكرناه.
وظهر عند الخاص والعام غضب والده عليه فخاف أن يموت أبوه وهو على حال غضبه فيختل ملكه وتزول طاعته فأرسل إلى أبي الفتح بن العميد وزير والده يطلب منه أن يتوصل مع أبيه واحضاره عنده وأن يتعهد إليه بالملك بعده فسعى أبو الفتح في ذلك فأجابه إليه ركن الدولة وكان قد وجد في نفسه خفة فسار من الري إلى أصبهان فوصلها في جمادى الأولى سنة خمس وستين وثلاثمائة واحضر ولده عضد الدولة من فارس وجمع عنده أيضا سائر أولاده بأصبهان فعمل أبو الفتح بن العميد دعوة عظيمة حضرها ركن الدولة وأولاده والقواد والأجناد.
فلما فرغوا من الطعام عهد ركن الدولة إلى ولده عضد الدولة بالملك بعده وجعل لولده فخر الدولة أبي الحسن على همذان وأعمال الجبل ولولده مؤيد
669

الدولة أصبهان وأعمالها وجعلهما في هذه البلاد بحكم أخيهما عضد الدولة.
وخلع عضد الدولة على سائر الناس ذلك اليوم الأقبية والأكسية على زي الديلم وحياة القواد واخوته بالريحان على عادتهم مع ملوكهم وأوصى ركن الدولة أولاده بالاتفاق وترك الاختلاف وخلع عليهم.
ثم سار عن أصبهان في رجب نحو الري فدام مرضه إلى أن توفي فأصيب به الدين والدينا جميعا لاستكمال جميع خلال الخير فيه وكان عمره قد زاد على سبعين سنة وكانت امارته أربعا وأربعين سنة.
ذكر بعض سيرته
كان حليما كريما واسع الكرم كثير البذل حسن الساسة لرعاياه وجنده رؤوفا بهم عادلا في الحكم بينهم وكان بعيد الهمة عظيم الجد واسعادة متحرجا من الظلم مانعا لأصحابه منه عفيفا عن الدماء يرى عليهم الارزاق ويصونهم عن التبذل وكان يقصد المساجد الجامعة في أشهر الصيام للصلاة وينتصب لرد المظالم ويتعهد العلويين بالأموال الكثيرة ويتصدق بالأموال الجليلة على ذوي الحاجات ويلين جانبه للخاص والعام قال له بعض أصحابه في ذلك وذكر له شدة مرداويج على أصحابه فقال انظر كيف اخترم ووثب عليه أخص أصحابه به وأقربهم منه
670

لعنفه وشدته وكيف عمرت وأحبني الناس للين جانبي.
وحكي عنه انه سار في سفر فنزل في خركاة قد ضربت له قبل أصحابه وقدم إليه طعام فقال لبعض أصحابه لأي شيء قيل في المثل خير الأشياء في القرية الامارة فقال صاحبه لقعودك في الخركاة وهذا الطعام بين يديك وأنا لا خركاة ولا طعام فضحك وأعطاه الخركاة والطعام فانظر إلى هذا الخلق ما أحسنه وما أجمله.
وفي فعله في حادثة بختيار ما يدل على كمال مروءته وحسن عهده وصلته لرحمه رضي الله عنه وأرضاه وكان له حسن عهد ومودة واقبال.
ذكر مسير عضد الدولة إلى العراق
في هذه السنة تجهز عضد الدولة وسار إلى العراق لما كان يبلغه عن بختيار وابن بقية من استمالة أصحاب الأطراف كحسنوية الكردي وفخر الدولة بن ركن الدولة وأبي تغلب بن حمدان وعمران بن شاهين وغيرهم والاتفاق على معاداته ولما كان يقولانه من الشتم القبيح له ولما رأى من حسن العراق وعظم مملكته إلى غير ذلك.
وانحدر بختيار إلى واسط على عزم محاربة عضد الدولة وكان حسنويه وعده انه يحضر بنفسه لنصرته وكذلك أبو تغلب بن حمدان فلم يف له وأحد منهما.
671

ثم سار بختيار إلى الأهواز أشار بذلك ابن بقية وسار عضد الدولة من فارس نحوهم فالتقوا في ذي القعدة واقتتلوا فخامر على بختيار بعض عسكره وانتقلوا إلى عضد الدولة فانهزم بختيار واخد ماله ومال ابن بقية ونهبت الأثقال وغيرها ولما وصل بختيار إلى واسط حمل إليه ابن شاهين صاحب البطيحة مالا وسلاحا وغير ذلك من الهدايا النفيسة ودخل بختيار إليه فأكرمه وحمل إليه مالا جليلا وأعلاقا نفيسة وعجب الناس من قول عمران ان بختيار سيدخل منزلي ويستجير بي فكان كما ذكر ثم اصعد بختيار إلى واسط.
واما عضد الدولة فإنه سير إلى البصرة جيشا فملكوها وسبب ذلك ان أهلها اختلفوا وكانت مضر تهوى عضد الدولة وتميل إليه لأسباب قررها معهم وخالفتهم ربيعة ومالت إلى بختيار فلما انهزم ضعفوا وقويت مضر وكاتبوا عضد الدولة وطلبوا منه انفاذ جيش إليهم فسير جيشا تسلم البلد وأقام عندهم.
وأقام بختيار بواسط واحضر ما كان له ببغداد والبصرة من مال وغيره ففرقه في أصحابه ثم إنه قبض على ابن بقية لأنه اطرحه واستبد بالأمور دونه وجبى الأموال إلى نفسه ولم يوصل إلى بختيار منها شيئا وأراد أيضا التقرب إلى عضد الدولة بقبضه لأنه هو الذي كان يفسد الأحوال بينهم.
ولما قبض عليه اخذ أمواله ففرقها وراسل عضد الدولة في الصلح وترددت الرسل بذلك وكان أصحاب بختيار يختلفون عليه فبعضهم يشير به وبعضهم ينهى عنه ثم إنه أتاه عبد الرزاق وبدر ابنا حسنويه في نحو الف فارس معونة فلما وصلا إليه اظهر المقام بواسط ومحاربة عضد الدولة.
672

فاتصل بعضد الدولة انه نقض الشرط ثم بدا لبختيار في المسير فسار إلى بغداد فعاد عنه ابنا حسنويه إلى أبيهما وأقام بختيار ببغداد وانقضت السنة وهو بها وسار عضد الدولة إلى واسط ثم سار منها إلى البصرة فاصلح بين ربيعة ومضر وكانوا في الحروب والاختلاف نحو مائة وعشرين سنة.
ومن عجيب ما جرى لبختيار في هذه الحادثة انه كان له غلام تركي يميل إليه فاخذ في جملة الاسرى وانقطع خبره عن بختيار فحزن لذلك وامتنع من لذاته والاهتمام بما رفع إليه من زوال ملكه وذهاب نفسه حتى قال على رؤوس الاشهاد ان فجيعتي بهذا الغلام أعظم من فجيعتي بذهاب ملكي ثم سمع انه في جملة الاسرى فأرسل إلى عضد الدولة يبذل له ما أحب في رده إليه فأعاده عليه وسارت هذه الحادثة عنه فازداد فضيحة وهوانا عند الملوك وغيرهم.
ذكر وفاة منصور بن نوح وملك ابنه نوح
في هذه السنة مات الأمير منصور بن نوح صاحب خراسان وما وراء النهر منتصف شوال وكان موته ببخارى وكانت ولايته خمس عشرة سنة وولي الأمر بعده ابنه أبو القاسم نوح وكان عمره حين ولي الأمر ثلاث عشرة سنة ولقب بالمنصور.
673

ذكر وفاة القاضي منذر البلوطي
في هذه السنة في ذي القعدة مات القاضي منذر بن سعيد البلوطي أبو الحاكم قاضي قضاة الأندلس وكان اماما فقيها خطيبا شاعرا فصحيا ذا دين متين دخل يوما على عبد الرحمن الناصر صاحب الأندلس بعد ان فرغ من بناء الزهراء وقصورها وقد قعد في قبة مزخرفة بالذهب والبناء البديع الذي لم يسبق إليه ومعه جماعة من الأعيان فقال عبد الرحمن الناصر هل بلغكم ان أحدا بنى مثل هذا البناء فقالت له الجماعة لم نر ولم نسمع بمثله وأثنوا وبالغوا والقاضي مطرق فاستنطقه عبد الرحمن فبكى القاضي وانحدرت دموعه على لحيته وقال والله ما كنت أظن ان الشيطان أخزاه الله تعالى يبلغ منك هذا المبلغ ولا ان تمكنه من قيادك هذا التمكين مع ما اتاك الله وفضلك به حتى أنزلك منازل الكافرين.
فقال له عبد الرحمن انظر ما تقول وكيف أنزلني منزل الكافرين فقال الله تعالى: (ولولا ان يكون الناس أمة وأحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون وزخرفا إلى قوله والآخرة عند ربك للمتقين).
فوجم عبد الرحمن وبكى وقال جزاك الله خيرا وأكثر في المسلمين مثلك.
وأخبار هذا القاضي كثيرة حسنة جدا منها انه قحط الناس وأرادوا
674

الخروج للاستسقاء فأرسل إليه عبد الرحمن يأمره بالخروج فقال القاضي للرسول يا ليت شعري ما الذي يصنعه الأمير يومنا هذا فقال ما رأيته قط أخشع منه الان قد لبس خشن الثياب وافترش التراب وجعله على رأسه ولحيته وبكى واعترف بذنوبه ويقول هذه ناصيتي بيدك أتراك تعذب هذا الخلق لأجلي؟
فقال القاضي يا غلام أحمل المطر معك فقد اذن الله بسقيانا إذا خشع جبار الأرض رحم جبار السماء فخرج واستسقى بالناس فلما صعد المنبر ورأى الناس قد شخصوا إليه بابصارهم قال: (سلام عليك كتب ربكم على نفسه الرحمة انه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح) الآية وكررها، فضج الناس بالبكاء والتوبة وتمم خطبته فسقي الناس.
ذكر القبض على أبي الفتح بن العميد
في هذه السنة قبض عضد الدولة على أبي الفتح بن العميد وزير أبيه وسمل عينه الواحدة وقطع انفه.
وكان سبب ذلك ان أبا الفتح لما كان ببغداد مع عضد الدولة على ما شرحناه وسار عضد الدولة نحو فارس تقدم إلى أبي الفتح بتعجيل المسير عن بغداد إلى الري فخالفه وأقام وأعجبه المقام ببغداد وشرب مع بختيار ومال في هواه واقتنى ببغداد أملاكا ودورا على عزم العود إليها إذا مات ركن الدولة ثم صار يكاتب بختيار بأشياء يكرهها عضد الدولة.
675

وكان له نائب يعرضها على بختيار فكان ذلك النائب يكاتب بها عضد الدولة ساعة فساعة فلما ملك عضد الدولة بعد موت أبيه كتب إلى أخيه فخر الدولة بالري يأمره بالقبض عليه وعلى أهله وأصحابه ففعل ذلك وانقلع بيت العميد على يده كما ظنه أبوه أبو الفضل.
وكان أبو الفتح ليلة قبض وقد امسى مسرورا فاحضر الندماء والمغنين واظهر من الآلات الذهبية والزجاج المليح وأنواع الطيب ما ليس لاحد مثله وشربوا وعمل شعرا وغني له فيه وهو:
(دعوت المنى ودعوت العلا * فلما أجابا دعوت القدح)
(وقلت لأيام شرخ الشباب * إلي فهذا أوان الفرح)
(إذا بلغ المرء وآماله * فليس له بعدها مقترح)
فلما غنى في الشعر استطابه وشرب عليه إلى ان سكر وقام وقال لغلامه اتركوا المجلس على ما هو عليه لنصطبح غدا وقال لندمائه بكروا إلي غدا لنصطبح ولا تتأخروا فانصرف الندماء ودخل هو إلى بيت منامه فلما كان السحر دعاءه مؤيد الدولة فقبض عليه وأرسل إلى داره فاخذ جميع ما في جملته ذلك المجلس بما فيه.
676

ذكر وفاة الحاكم وولاية ابنه هاشم
وفي هذه السنة توفي الحاكم بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن المستنصر لله الأموي صاحب الأندلس وكانت امارته خمس عشرة سنة وخمسة أشهر وعمره ثلاثا وستين سنة وسبعة أشهر وكان أصهب أعين أقنى عظيم الصوت ضخم الجسم أفقم وكان محبا لأهل العلم علما فقيها في المذاهب عالما بالأنساب والتواريخ جماعا للكتب والعلماء مكرما لهم محسنا إليهم أحضرهم من البلدان البعيدة ليستفيد منهم ويحسن إليهم.
ولما توفي ولي بعده ابنه هشام بعهد أبيه وله عشر سنين ولقب المؤيد بالله واختلفت البلاد في أيامه واخذ وحبس ثم عاد إلى الامارة.
وسببه انه لما ولي المؤيد تحجب له المنصور أبو عامر محمد بن أبي عامر المعافري وابناه المظفر والناصر فلما حجب له أبو عامر حجبه عن الناس فلم يكن أحدا يره ولا يصل إليه وقام بأمر دولته القيام المرضي وعدل في الرعية وأقبلت الدنيا إليه واشتغل بالغزو وفتح في بلاد الأعداء كثيرا وامتلأت بلاد الأندلس بالغنائم والرقيق وجعل أكثر جنده منهم كواضح الفتي وغيره من المشهورين وكانوا يعرفون بالعامريين.
وادام الله له الحال ستا وعشرين سنة غزا فيها اثنتين وخمسين غزاة ما بين صائفة وشاتية وتوفي سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة وكان حازما قوي العزم كثير العدل والاحسان حسن السياسة.
677

فمن محاسن أعماله انه دخل بلاد الفرنج غازيا فجاز الدرب إليها وهو مضيق بين جبلين وأوغل في بلاد الفرنج يسبي ويخرب ويغنم فلما أراد الخروج رآهم قد سدوا الدرب وهم عليه يحفظونه من المسلمين فاظهر انه يريد المقام في بلادهم وشرع هو وعسكره في عمارة المساكن وزرع الغلات واحضروا الحطب والتين والميرة وما يحتاجون إليه فلما رأوا عزمه على المقام مالوا إلى السلم فراسلوه في ترك الغنائم والجواز إلى بلاده فقال أنا عازم على المقام فتركوا له الغنائم فلم يجبهم إلى الصلح فبذلوا له مالا ودواب تحمل له ما غنمه من بلادهم فأجابهم إلى الصلح وفتحوا له الدرب فجاز إلى بلاده.
وكان أصله من الجزيرة الخضراء وورد شابا إلى قرطبة طالبا للعلم والأدب وسماع الحديث فبرع فيها وتميز ثم تعلق بخدمة صبح والدة المؤيد وعظم محله عندها فلما مات الحاكم المستنصر كان المؤيد صغيرا فخيف على الملك ان يختل فضمن لصبح سكون البلاد وزوال الخوف وكان قوي النفس وساعدته المقادير وأمدته الأمراء بالأموال فاستمال العساكر وجرت الأمور على أحسن نظام.
وكانت أمه تميمية وأبوه معافري بطن من حمير، فلما توفي بعده ابنه عبد الملك الملقب بالمظفر فسار كسيرة أبيه وتوفي سنة تسع وتسعين وثلاثمائة فكانت ولايته سبع سنين.
وكان سبب موته ان أخاه عبد الرحمن سمه في تفاحة قطعها بسكين كان قد سم أحد جانبيها فناول أخاه ما يلي الجانب المسموم واخذ هو ما يلي الجانب الصحيح فاكله بحضرته فاطمأن المظفر واكل ما بيده منها فمات.
678

فلما توفي ولي بعده اخوه عبد الرحمن الملقب بالناصر فسلك غير طريق أبيه وأخيه واخذ في المجون وشرب الخمر وغير ذلك ثم دس إلى المؤيد من خوفه منه ان لم يجعله ولي عهده ففعل ذلك فحقد الناس وبنو أمية عليه ذلك وأبغضوه وتحركوا في أمره إلى ان قتل.
وغزا شاتية وأوغل في بلاد الجلالقة فلم يقدم ملكها على لقائه وتحصن منه في رؤوس الجبال ولم يقدر عبد الرحمن على اتباعه لزيادة الأنهار وكثرة الثلوج فأثخن في البلاد التي وطئها وخرج موفورا فبلغه في طريقه ظهور محمد بن عبد الجبار بن الناصر لدين الله بقرطبة واستيلاؤه عليها واخذه المؤيد أسيرا فتفرق عنه عسكره ولم يبق معه إلا خاصته فسار إلى قرطبة ليتلافى ذلك الخطب فخرج إليه عسكر محمد بن هشام فقتلوه وحملوا رأسه إلى قرطبة فطافوا به وكان قتله سنة تسع وتسعين وثلاثمائة ثم صلبوه.
ذكر ظهور محمد بن هشام بقرطبة
وفي سنة تسع وتسعين وثلاثمائة ظهر بقرطبة محمد بن هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحم الناصر لدين الله الأموي ومعه اثنا عشر رجلا فبايعه الناس وكان ظهوره سلخ جمادى الآخرة وتلقب بالمهدي بالله وملك قرطبة واخذ المؤيد فحبسه معه في القصر ثم اخرجه وأخفاه واظهر أنه مات.
وكان قد مات انسان نصراني يشبه المؤيد فأبرزه للناس في شعبان من هذه السنة وذكر لهم انه المؤيد فلم يشكوا في موته وصلوا عليه ودفنوه في مقابر المسلمين ثم إنه أظهره على ما نذكره وأكذب نفسه فكانت مدة
679

ولاية المؤيد هذه إلى ان حبس ثلاثا وثلاثين سنة وأربعة أشهر ونقم الناس على ابن عبد الجبار أشياء منها انه كان يعمل النبيذ في قصره فسموه نباذا ومنها فعله بالمؤيد وانه كان كذابا متلونا مبغضا للبربر فانقلب الناس عليه.
ذكر خروج هشام بن سليمان عليه
لما استوحش أهل الأندلس من ابن عبد الجبار وأبغضوه قصدوا هشام بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر لدين الله فأخرجوه من داره وبايعوه فتلقب بالرشيد وذلك لأربع بقين من شوال سنة تسع وتسعين [وثلاثمائة]، واجتمعوا بظاهر قرطبة وحصروا ابن عبد الجبار وترددت الرسل بينهما ليخلع ابن عبد الجبار من الملك على ان يؤمنه وأهله وجميع أصحابه.
ثم إن عبد الجبار جمع أصحابه وخرج إليهم فقاتلهم فانهزم هشام وأصحابه واخذ هشام أسيرا فقتلوه ابن عبد الجبار وقتل معه عدة من قواده واستقر أمر ابن عبد الجبار وكان عم هشام.
ذكر خروج سليمان عليه أيضا
ولما قتل ابن عبد الجبار هشام بن سليمان بن الناصر وانهزم أصحابه انهزم معهم سليمان بن الحاكم بن سليمان بن الناصر وهو ابن أخي هشام المقتول فبايعه أصحاب عمه وأكثرهم البربر بعد الوقعة بيومين ولقبوه
680

المستعين بالله ثم لقب بالظاهر بالله وساروا إلى النصارى فصالحوهم واستنجدوهم فأنجدوهم وساروا معهم إلى قرطبة فاقتتلوا هم وابن عبد الجبار بقنتيج وهي الوقعة المشهورة غزوا فيها وقتل ما لا يحصى فانهزم ابن عبد الجبار وتحصن بقصر قرطبة ودخل سليمان البلد وحصره بالقصر.
فلما رأى ابن عبد الجبار ما نزل به اظهر المؤيد ظنا منه ان ينخلع هو وسليمان ويرجع الأمر إلى المؤيد فلم يوافقه أحد ظنا منهم ان المؤيد قد مات فلما أعياه الأمر احتال في الهرب فهرب سرا واختفى دخل سليمان القصر وبايعه الناس بالخلافة في شوال سنة أربعمائة وبقي بقرطبة أياما وكان عدة القتلى بقنتيج نحو خمسة وثلاثين الف وأغار البربر والروم على قرطبة فنهبوا وسبوا وأسروا عددا عظيما.
ذكر عود ابن عبد الجبار
وقتله وعود المؤيد
لما اختفى ابن عبد الجبار سار سرا إلى طليطلة وأتاه واضح الفتى العامري في أصحابه وجمع له النصارى وسار بهم إلى قرطبة فخرج إليهم سليمان فالتقوا بقرب عقبة البقر واقتتلوا أشد قتال فانهزم سليمان ومن معه منتصف شوال سنة أربعمائة ومضى سليمان إلى شاطبة ودخل ابن عبد الجبار قرطبة وجدد البيعة لنفسه وجعل الحجابة لواضح وتصرف بالاختيار.
ثم إن جماعة من الفتيان العامريين منهم عنبر وخيرون وغيرهما،
681

كانوا مع سليمان فأرسلوا إلى ابن عبد الجبار يطلبون قبول طاعتهم وان يجعلهم في جملة رجاله فأجابهم إلى ذلك وانما فعلوا ذلك مكيدة به ليقتلوه فلما دخلوا قرطبة استمالوا واضحا فأجابهم إلى قتله، فلما كان التاسع ذي الحجة سنة أربعمائة اجتمعوا في القصر فملكوه واخذوا ابن عبد الجبار أسيرا واخرجوا المؤيد بالله فأجلسوه مجلس الخلافة وبايعوه واحضروا ابن عبد الجبار بين يديه فعدد ذنوبه عليه ثم قتل وطيف برأسه في قرطبة وكان عمره ثلاثا وثلاثين سنة وأمه أم ولد.
وكان ينبغي ان نذكر هذه الحوادث متأخرة وانما قدمناها لتعلق بعضها ببعض ولان كل واحدة منهم ليس له من طول المدة ما تؤخر أخباره وتفرق.
ذكر عود أبي المعالي بن سيف الدولة إلى ملك حلب
في هذه السنة عاد أبو المعالي شريف بن سيف الدولة بن حمدان إلى ملك حلب وكان سببه ان قرعويه لما تغلب عليها اخرج منها مولاه أبا المعالي كما ذكرناه سنة سبع وخمسين وثلاثمائة فسار أبو المعالي إلى والدته بميافارقين ثم اتى حماة وهي له فنزل بها وكانت الروم قد خربت حمص وأعمالها وقد ذكر أيضا فنزل إليه يارقتاش مولى أبيه وهو بحصن
682

برزوية وخدمه وعمر له مدينة حمص فكثر أهلها.
وكان قرعويه قد استناب بحلب مولى له اسمه بكجور فقوي بكجور واستفحل أمره وقبض على مولاه قرعويه وحبسه في قلعة حلب وأقام بها نحو ست سنين فكتب من بحلب من أصحاب قرعويه إلى أبي المعالي بن سيف الدولة ليقصد حلب ويملكها.
فسار إليها وحصرها أربعة أشهر وملكها وبقيت القلعة بيد بكجور فترددت الرسل بينهما فأجاب إلى التسليم على ان يؤمنه في نفسه وأهله وماله ويوليه حمص وطلب بكجور ان يحضر هذا الأمان والعهد وجوه بني كلاب ففعل أبو المعالي ذلك واحضرهم الأمان والعهد وسلم قلعة حلب إلى أبي المعالي وسار بكجور إلى حمص فولاها لأبي المعالي وصرف همته إلى عمارتها وحفظ الطرق فازدادت عمارتها وكثر الخير بها ثم انتقل منها إلى ولاية دمشق على ما نذكره سنة ست وستين وسبعين وثلاثمائة.
ذكر ابتداء دولة ال سبكتكين
في هذه السنة ملك سبكتكين مدينة غزنة وأعمالها وكان ابتداء أمره انه كان من غلمان أبي إسحاق بن البتكين صاحب جيش غزنة بالسامانية وكان مقدما عنده وعليه مدار أمره وقدم إلى بخارى أيام الأمير منصور
683

ابن نوح مع أبي إسحاق فعرفه أرباب تلك الدولة بالعقل والعفة وجودة الرأي والصرامة وعاد معه إلى غزنة فلم يلبث أبو إسحاق ان توفي ولم يخلف من أهله وأقاربه من يصلح للتقدم فاجتمع عسكره ونظروا فيمن يلي أمرهم ويجمع كلمتهم فاختلفوا.
ثم اتفقوا على سبكتكين لما عرفوه من عقله ودينه ومروءته وكمال خلال الخير فيه فقدموه عليهم وولوه أمرهم وحلفوا له وأطاعوه فوليهم وأحسن السيرة فيهم وساس أمورهم سياسة حسنة وجعل نفسه كأحدهم في الحال والمال وكان يدخر من أقطاعه ما يعمل منه طعاما لهم في كل أسبوع مرتين.
ثم إنه جمع العساكر وسار نحو الهند مجاهدا وجرى بينه وبين الهنود حرب يشيب لها الوليد وكشف بلادهم وشن الغارات عليها وطمع فيها وخافه الهند ففتح من بلادهم حصونا ومعاقل مقتل منهم ما لا يدخل تحت الاحصاء.
واتفق له في بعض غزواته ان الهنود اجتمعوا في خلق كثير وطاولوه الأيام وماطلوه القتال فعدم الزاد عند المسلمين وعجزوا عن الامتيار فشكوا إليه ما هم فيه فقال لهم أني استصحبت لنفسي شيئا من السويق استظهارا وأنا اقسمه بينهم قسمة عادلة على السواء إلى ان يمن الله بالفرج فكان يعطي كل انسان منهم ملء قدح معه ويأخذ لنفسه مثل أحدهما فيجتزي به يوم وليلة وهم مع ذلك يقاتلون الكفار فرزقهم الله النصر عليهم والظفر بهم فقتلوا منهم وأسروا خلقا كثيرا.
684

ذكر ولاية سبكتكين على قصدار وبست
ثم إن سبكتكين عظم شانه وارتفع قدره وحسن بين الناس ذكره وتعلقت الأطماع بالاستعانة به فأتاه بعض الأمراء الكبار وهو صاحب بست واسمه طغان مستعينا به مستنصرا.
وسبب ذلك انه خرج عليه أمير يعرف بباني تور فملك مدينة بست عليه وأجلاه عنها بعد حرب شديدة فقصد سبكتكين مستنصرا به وضمن له مالا مقررا وطاعة يبذلها له فتجهز وسار معه حتى نزل على بست وخرج إليه بأبي تور فقاتله قتالا شديدا ثم انهزم بأبي تور وتفرق هو وأصحابه وتسلم طغان البلد.
فلما استقر فيه طالبه سبكتكين بما استقر عليه من المال فاخذ في المطل فاغلظ له في القول لكثرة مطله فحمل طغان جهله على ان سل السيف فضرب يد سبكتكين فجرحها فاخذ سبكتكين السيف وضربه أيضا فجرحه وحجز العسكر بينهما وقامت الحرب على ساق فانهزم طغان واستولى سبكتكين على بست.
ثم إنه سار إلى قصدار وكان متوليها قد عصي عليه لصعوبة مسالكها وحصانتها وظن ان ذلك يمنعه فسار إليه جريدة مجدا فلم يشعر إلا والخيل معه فاخذ من داره ثم إنه من عليه ورده إلى ولايته وقرر عليه مالا يحمله إليه كل سنة.
685

ذكر مسير الهند إلى بلاد الاسلام وما كان منهم مع سبكتكين
لما فرغ سبكتكين من بست وقصدار غزا الهند فافتتح قلاعا حصينة على شواهق الجبال وعاد سالما ظافرا.
ولما رأى جيبال ملك الهند ما دهاه وان بلاده تملك من أطرافها اخذه ما قدم وحدث فحشد وجمع واستكثر من الفيول وسار حتى اتصل بولاية سبكتكين وقد باض الشيطان في رأسه وفرخ فسار سبكتكين عن غزنة إليه ومعه عساكره وخلق كثير من المتطوعة فالتقوا واقتتلوا أياما كثيرة وصبر الفريقان.
وكان بالقرب منهم عقبة غورك وفيها عين ماء لا تقبل نجسا ولا قذرا وإذا القى فيها شيء من ذلك اكفهرت السماء وهبت الرياح وكثر الرعد والبرق والأمطار ولا تزال كذلك إلى ان تطهر من الذي القي فيها فأمر سبكتكين بالقاء نجاسة في تلك العين فجاء الغيم والرعد والبرق وقامت القيامة على الهنود لأنهم رأوا ما لم يروا مثله وتوالت عليهم الصواعق والأمطار واشتد البرد حتى هلكوا وعميت عليهم المذاهب واستسلموا لشدة ما عاينوه.
وأرسل ملك الهند إلى سبكتكين يطلب الصلح وترددت الرسل فأجابهم إليه بعد امتناع من ولده محمود على مال يؤدسه وبلاد يسلمها وخمسين فيلا يحملها إليه فاستقر ذلك ورهن عنده جماعة من أهله على تسليم البلاد وسير معه سبكتكين من يتسلمها فإن المال والفيلة كانت
686

معجلة. فلما أبعد جيبال ملك الهند قبض على من معه من المسلمين وجعلهم عنده عوضا عن رهائنه.
فلما سمع سبكتكين بذلك جمع العساكر، وسار نحو الهند فأخرب كل ما مر عليه من بلادهم. وقصد لمغان، وهي من أحصن قلاعهم، فافتتحها عنوة، وهدم بيوت الأصنام، وأقام فيها شعار الإسلام، وسار عنها يفتح البلاد ويقتل أهلها. لخما بلغ ما أراده عاد إلى غزنة.
فلما بلغ الخبر إلى جيبال سقط في يده وجمع العساكر، وسار في مائة ألف مقاتل. فلقيه سبكتكين وأمر أصحابه أن يتناوبوا القتال مع الهنود ففعلوا ذلك. فضجر الهنود من دوام القتال معهم، وحملوا حملة واحدة، فعند ذلك اشتد الأمر وعظم الخطب. وحمل أيضا المسلمون جميعهم واختلط بعضهم ببعض، فانهزم الهنود وأخذهم السيف من كل جانب وأسر منهم ما لا يعد، وغنم أموالهم وأثقالهم ودوابهم الكثيرة.
وذل الهنود بعد هذه الوقعة، ولم يكن لهم بعدها راية ورضوا بان لا يطلبوا في أقاصي بلادهم. ولما قوي سبكتكين بعد هذه الوقعة أطاعه الأفغانية والخلج وصاروا في طاعته.
ذكر ملك قابوس بن وشمكير جرجان
في هذه السنة توفي ظهير الدولة بيستون بن وشمكير بجرجان. وكان قابوس أخوه زائرا خاله رستم بجبل شهريار، وخلف بيستون ابنا صغيرا بطبرستان
687

مع جده لأمه، فطمع جده ان يأخذ الملك. فبادر إلى جرجان، فرأى بها جماعة من القواد قد مالوا إلى قابوس فقبض عليهم. وبلغ الخبر إلى قابوس فسار إلى جرجان فلما قاربها خرج الجيش إليه وأجمعوا عليه وملكوه. وهرب من كان مع ابن بيستون فأخذه عمه قابوس، وكفله وجعله أسوة أولاده، واستولى على جرجان، وطبرستان.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة في جمادى الأولى نقلت ابنة عز الدولة بختيار إلى الطائع لله، وكان تزوجها.
وفيها توفي أبو الحسن محمد بن عبد الله بن زكريا بن حيويه في رجب.
وفي صفر منها توفي أبو الحسن علي بن وصيف الناشئ المعروف بالخلال صاحب المراثي الكثيرة في أهل البيت.
وفيها توفي أبو يعقوب يوسف بن الحسن الجنابي صاحب هجر، وكان مولده سنة ثمانين ومائتين. وتولى أمر القرمطي بعده ستة نفر شركة، وسموا السادة وكانوا متفقين.
688

367
ثم دخلت سنة سبع وستين وثلاثمائة
ذكر استيلاء عضد الدولة على العراق
في هذه السنة سار عضد الدولة إلى بغداد وأرسل إلى بختيار يدعوه إلى طاعته وان يسير عن العراق إلى أي جهة أراد وضمن مساعدته بما يحتاج إليه من مال وسلاح وغير ذلك.
فاختلف أصحاب بختيار عليه في الإجابة إلى ذلك إلا انه أجاب إليه لضعف نفسه فانفذ له عضد الدولة خلعه فلبسها وأرسل إليه يطلب منه ابن بقية فقلع عينيه وأنفذه إليه وتجهز بختيار بما أنفذه إليه.
عضد الدولة وخرج عن بغداد عازما على قصد الشام وسار عضد الدولة فدخل بغداد وخطب له بها ولم يكن قبل ذلك يخطب لاحد ببغداد وضرب على بابه ثلاثة نوب ولم تجر بذلك عادة من تقدمه وأمر بان يلقى ابن بقية بين قوائم الفيلة لتقتله ففعل به ذلك وخبطته الفيلة حتى قتلته وصلب على رأس الجسر في شوال من هذه السنة،
689

فرثاه أبو الحسين الأنباري بأبيات حسنة في معناها وهي:
(علو في الحياة وفي الممات * لحق أنت إحدى المعجزات)
(كان الناس حولك حين قاموا * وفود نداك أيام الصلات)
(كأنك قائم فيهم خطيبا * وكلهم قيام للصلاة)
(مددت يديك نحوهم اقتفاء * كمدهما إليهم في الهبات)
(ولما ضاق بطن الأرض عن ان * يضم علاك من بعد الممات)
(اصاروا الجو قبرك واستنأبوا * عن الأكفان ثوب السافيات)
(لعظمك في النفوس تبيت ترعى * بحراس وحفاظ ثقات)
(وتشعل عندك النيران ليلا * كذلك كنت أيام الحياة)
ركبت مطية من قبل زيد * علاها في السنين الذاهبات)
وهي كثيرة قوله زيد علاها يعني زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم لما قتل وصلب أيام هشام بن عبد الملك وقد ذكر وبقي ابن بقية مصلوبا إلى أيام صمصام الدولة فانزل من جذعه ودفن.
690

ذكر قتل بختيار
لما سار بختيار عن بغداد عزم على قصد الشام ومعه حمدان بن ناصر الدولة بن حمدان فلما صار بختيار بعكبرا حسن له حمدان قصد الموصل وكثرة أموالها وأطمعه فيها وقال انها خير من الشام وأسهل فسار بختيار نحو الموصل وكان عضد الدولة قد حلفه انه لا يقصد ولاية أبي تغلب بن حمدان لمودة ومكاتبة كانت بينهما فنكث وقصدها فلما صار إلى تكريت اتته رسل أبي تغلب تسأله ان يقبض على أخيه حمدان ويسلمه إليه وإذا فعل سار بنفسه وعساكره إليه وقاتل معه عضد الدولة واعاده إلى ملكه بغداد فقبض بختيار على حمدان وسلمه إلى نواب أبي تغلب فحبسه في قلعة له وسار بختيار إلى الحديثة واجتمع مع أبي تغلب وسارا جميعا نحو العراق وكان مع أبي تغلب نحو من عشرين الف مقاتل وبلغ ذلك عضد الدولة فسار عن بغداد نحوهما فالتقوا بقصر الجص بنواحي تكريت ثامن عشر شوال فهزمهما واسر بختيار واحضر عند عضد الدولة فلم يأذن بادخاله إليه وأمر بقتله فقتل وذلك بمشورة أبي الوفاء طاهر بن إبراهيم وقتل من أصحابه خلق كثير واستقر ملك عضد الدولة بعد ذلك وكان عمر بختيار ستا وثلاثين سنة وملك إحدى عشرة سنة وشهورا.
691

ذكر استيلاء عضد الدولة على ملك بني حمدان
لما انهزم أبو تغلب وبختيار سار عضد الدولة نحو الموصل فملكها ثاني عشر ذي القعدة وما يتصل بها وظن أبو تغلب انه يفعل كما كان غيره يفعل يقيم يسيرا ثم يضطر إلى المصالحة ويعود.
وكان عضد الدولة أحزم من ذلك فإنه لما قصد الموصل حمل معه الميرة والعلوفات ومن يعرف ولاية الموصل وأعمالها وأقام بالموصل مطمئنا وبث السرايا في طلب أبي تغلب فأرسل أبو تغلب يطلب ان يضمن البلاد فلم يجبه عضد الدولة إلى ذلك وقال هذه البلاد أحب إلي من العراق.
وكان مع أبي تغلب المرزبان بن بختيار وأبو إسحاق وأبو طاهر ابنا معز الدولة ووالدتهما وهي أم بختيار وأسبابهم فسار أبو تغلب إلى نصيبين فسير عضد الدولة سرية عليها حاجبه أبو حرب طغان إلى جزيرة ابن عمر وسير في طلب أبي تغلب سرية واستعمل عليها أبا الوفاء طاهر بن محمد على طريق سنجار فسار أبو تغلب فبلغ ميافارقين وأقام بها ومعه أهله فلما بلغه مسير أبي الوفاء إليه سار نحو بدليس ومعه النساء وغيرهن من أهله ووصل أبو الوفاء إلى ميافارقين وأقام بها ومعه أهله فلما بلغه مسير أبي الوفاء إليه سار نحو بدليس ومعه النساء وغيرهن من أهله ووصل أبو الوفاء إلى ميافارقين فأغلقت دونه وهي حصينة منيعة من حصون الروم القديمة وتركها وطلب أبا تغلب.
وكان أبو تغلب قد عدل من ارزن الروم إلى الحسنية من أعمال الجزيرة وصعد إلى قلعة كواشي وغيرها من قلاعه واخذ ماله من الأموال وعاد أبو الوفاء إلى ميافارقين وحصرها.
ولما اتصل بعضد الدولة مجيء أبي تغلب إلى قلاعه سار إليه بنفسه فلم
692

يدركه ولكنه استأمن إليه أكثر أصحابه وعاد إلى الموصل وسير في أثر أبي تغلب عسكرا مع قائد من أصحابه يقال له طغان فتعسف أبو تغلب إلى بدليس وظن انه لا يتبعه أحد فتبعه طغان فهرب من بدليس وقصد بلاد الروم ليتصل بملكهم المروف بورد الرومي وليس من بيت الملك وانما تملك عليهم قهرا واختلف الروم عليه ونصبوا غيره من أولاد ملوكهم فطالت الحرب بينهم فصاهر ورد هذا أبا تغلب ليتقوى به فقدر ان أبا تغلب احتاج إلى الاعتضاد به.
ولما سار أبو تغلب من بدليس ادركه عسكر عضد الدولة وهم حريصون على اخذ ما معه من المال فإنهم كانوا قد سمعوا بكثرته فلما وقعوا عليه نادى أميرهم لا تتعرضوا لهذا المال فهو لعضد الدولة ففتروا عن القتال.
فلما رآهم أبو تغلب فاترين حمل عليهم فانهزموا فقتل منهم مقتلة عظيمة ونجا منهم فنزل بحصن زياد ويعرف الان بخرتبرت وأرسل ورد المذكور فعرفه ما هو بصدده من اجتماع الروم عليه واستمده وقال إذا فرغت عدت إليك فسير إليه أبو تغلب طائفة من عسكره فاتفق ان وردا انهزم فلما علم أبو تغلب بذلك يئس من نصره وعاد إلى بلاد الاسلام فنزل بآمد وأقام بها شهرين إلى ان فتحت ميافارقين.
ذكر عدة حوادث
فيها ظهر بأفريقية في السماء حمرة بين المشرق والشمال مثل لهب النار فخرج الناس يدعون الله تعالى ويتضرعون إليه وكان بالمهدية زلازل
693

وأهوال أقامت أربعين يوما حتى فارق أهلها منازلهم واسلموا أمتعتهم.
وفيها سير العزيز بالله العلوي صاحب مصر وأفريقية أميرا على الموسم ليحج بالناس وكانت الخطبة له بمكة وكان الأمير على الموسم باديس بن زيري أخا يوسف بلكين خليفته بأفريقية فلما وصل إلى مكة أتاه اللصوص بها فقالوا له نتقبل منك الموسم بخمسين الف درهم ولا تتعرض لنا فقال لهم افعل ذلك اجمعوا لي أصحابكم حتى يكون العقد مع جميعكم فاجتمعوا فكانوا نيفا وثلاثين رجلا فقال هل بقي منكم أحد فحلفوا انه لم يبق منهم أحد فقطع أيديهم كلهم.
وفيها زادت دجلة زيادة عظيمة وغرقت كثيرا من الجانب الشرقي ببغداد وغرقت أيضا مقابر بباب التبن بالجانب الغربي منها وبلغت السفينة أجرة وافرة وأشرف الناس على الهلاك ثم نقص الماء فامنوا.
وفيها توفي القاضي أبو بكر محمد بن عبد الرحمن المعروف بابن قريعة وله نوادر مجموعة وعمره خمس وستون سنة.
وفيها خلع على القاضي عبد الجبار بن أحمد بالري وولى القضاء بها ربما تحت حكم مؤيد الدولة من البلاد وهو من أئمة المعتزلة ويرد في تراجم تصانيفه قاضي القضاة ويعني به قاضي قضاة أعمال الري وبعض من لا يعلم ذلك يظنه قاضي القضاة مطلقا وليس كذلك.
694

368
ثم دخلت سنة ثمان وستين وثلاثمائة
ذكر فتح ميافارقين وأمد وغيرهما من ديار بكر على يد عضد الدولة
لما عاد أبو الوفاء من طلب أبي تغلب نازل فيارقين وكان الوالي عليها هزامرد فضبط البلد وبالغ في قتال أبي الوفاء ثلاثة أشهر ثم مات هزارمرد فكوتب أبو تغلب بذلك فأمر ان يقام مقامه غلام من الحمدانية اسمه مؤنس فولي البلد ولم يكن لأبي الوفاء فيه حيلة فعدل عنه وراسل رجلا من أعيان البلد اسمه أحمد بن عبيد الله واستماله فأجابه وشرع في استمالة الرعية إلى أبي الوفاء فأجابوه إلى ذلك وعظم أمره وأرسل إلى مؤنس يطلب منه المفاتيح فلم يمكنه لكثرة اتباعه فأنفذها إليه وسأله ان يطلب له الأمان فأرسل أحمد بن عبيد الله إلى أبي الوفاء في ذلك فأمنه وامن سائر أهل البلد ففتح له البلد وسلمه إليه.
وكان أبو الوفاء مدة مقامه على ميافارقين قد بث سراياه في تلك الحصون المجاورة لها فافتتحها جميعها فلما سمع أبو تغلب بذلك سار عن آمد الرحبة هو وأخته جميلة
وأمر بعض أهله بالاستئمان إلى أبي الوفاء ففعلوا ثم إن أبا الوفاء سار إلى آمد فحصرها فلما رأى أهلها ذلك سلكوا مسلك أهل
695

ميافارقين فسلموا البلد بالأمان فاستولى أبو الوفاء على سائر ديار بكر وقصده أصحاب أبي تغلب وأهله مستأمنين إليه فأمنهم وأحسن إليهم وعاد إلى الموصل.
واما أبو تغلب فإنه قصد الرحبة انفذ رسولا إلى عضد الدولة يستعطفه ويسأله الصفح فأحسن جواب الرسول وبذل له إقطاعا يرضيه على ان يطأ بساطه فلم يجبه أبو تغلب إلى ذلك وسار إلى الشام إلى العزيز بالله صاحب مصر.
ذكر فتح ديار مضر على يد عضد الدولة
كان متولي ديار مضر لأبي تغلب بن حمدان سلامة البرقعيدي، فانفذ إليه سعد الدولة بن سيف الدولة من حلب جيشا فجرت بينهم حروب. وكان سعد الدولة قد كاتب عضد الدولة، وعرض نفسه عليه. فانفذ عضد الدولة النقيب أبا أحمد والد الرضي إلى البلاد التي بيد سلامة، فتسلمها بعد حرب شديدة، ودخل أهلها في الطاعة. فاخذ عضد الدولة لنفسه الرقة حسب ورد باقيها، إلى سعد الدولة، فصارت له.
ثم استولى عضد الدولة على الرحبة وتفرغ بعد ذلك لفتح قلاعه وحصونه، وهي قلعة كوشي، وكانت فيها خزائنه وأمواله، وقلعة هرور والملاسي وبرقى والشعباني وغيرها من الحصون، فلما استولى على جميع أعمال أبي
696

تغلب استخلف أبا الوفاء على الموصل، وعاد إلى بغداد في سلخ ذي القعدة، ولقيه الطائع لله، وجمع من الجند وغيرهم.
ذكر ولاية قسام دمشق
لما فارق الفتكين دمشق كما ذكرناه، تقدم على أهلها قسام، وكان سبب تقدم قسام أن الفتكين قربه ووثق إليه وعول في كثير من أموره عليه فعلا ذكره وصيته وكثر أتباعه من الأحداث، فاستولى على البلد وحكم فيه.
وكان القائد أبو محمود قد عاد إلى البلد واليا عليه للعزيز، فلم يتم له مع قسام أمر، وكان لا حكم له. ولم يزل أمر قسام على دمشق، نافذا، وهو يدعو للعزيز بالله العلوي.
ووصل إليه أبو تغلب بن حمدان صاحب الموصل منهزما كما ذكرناه، فمنعه قسام من دخول دمشق، وخافه على البلد أن يتولاه إما غلبة لاما بأمر العزيز، فاستوحش أبو تغلب، وجرى بين أصحابه وأصحاب أبي تغلب شيء من قتال، أبو تغلب إلى طبرية.
وورد من عند العزيز قائد اسمه الفضل في جيش فحصر قساما بدمشق فلم يظفر به فعاد عنه، وبقي قسام كذلك إلى سنة تسع وستين وثلاثمائة فسير من مصر أميرا إلى دمشق اسمه سلمان بن جعفر بن فلاح فوصل إليها،
697

فنزل بظاهرها، ولم يتمكن من دخولها وأقام في غير شيء فنهى الناس عن حمل السلاح فلم يسمعوا منه ووضع قسام أصحابه على سلمان فقاتلوه وأخرجوه من الموضع الذي كان فيه.
وكان قسام بالجامع والناس عنده فكتب محضرا وسيره إلى العزيز يذكر انه كان بالجامع عند هذه الفتنة ولم يشهدها وبذل من نفسه انه ان قصده عضد الدولة بن بويه أو عسكر له قاتله ومنعه من البلد فأغضى العزيز لقسام على هذه الحال لأنه كان يخاف ان يقصد عضد الدولة الشام فلما فارق سلمان دمشق عاد إليها القائد أبو محمود ولا حكم له والحكم جميعه لقسام فداد ذلك.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة كانت زلازل شديدة كثيرة وكان أشدها بالعراق.
وفيها توفي القاضي أبو سعيد الحسن بن عبد الله السيرافي النحوي مصنف شرح كتاب سيبويه وكان فقيها فاضلا مهندسا منطقيا فيه كل فضيلة وعمره أربع وثمانون سنة وولي بعده أبو محمد بن معروف الحاكم بالجانب الشرقي ببغداد.
698

369
ثم دخلت سنة تسع وستين وثلاثمائة
ذكر قتل أبي تغلب بن حمدان
في هذه السنة في صفر قتل أبو تغلب فضل الله بن ناصر الدولة بن حمدان.
وكان سبب قتله انه سار إلى الشام على ما تقدم ذكره ووصل إلى دمشق وبها قسام قد تغلب عليها كما ذكرناه فلم يمكن أبا تغلب من دخولها فنزل بظاهر البلد وأرسل رسولا إلى العزيز بمصر يستنجده ليفتح له دمشق فوقع بين أصحابه وأصحاب قسام فتنة فرحل إلى نوى وهي من أعمال دمشق فأتاه كتاب رسوله من مصر يذكر ان العزيز يريد ان يحضر هو عنده بمصر ليسير معه العساكر فامتنع وترددت الرسل ورحل إلى بحيرة طبرية، وسير العزيز عسكرا إلى دمشق مع قائد اسمه الفضل فاجتمع بأبي تغلب عند طبرية ووعده عن العزيز بكل ما أحب وأراد أبو تغلب المسير معه إلى دمشق فمنعه بسبب الفتنة التي جرت بين أصحابه وأصحاب قسام لئلا يستوحش قسام وأراد اخذ البلد منه سلما ورحل أبو الفضل إلى دمشق فلم يفتحها.
وكان بالرملة دغفل بن المفرج بن الجراح الطائي قد استولى على هذه الناحية،
699

واظهر طاعة العزيز من غير ان يتصرف باحكامه وكثر جمعه وسار إلى احياء عقيل المقمة بالشام ليخرجها من الشام فاجتمعت عقيل إلى أبي تغلب وسألته نصرتها وكتب إليه دغفل يسأله ان لا يفعل فتوسط أبو تغلب الحال فرضوا بما حكم به العزيز.
ورحل أبو تغلب فنول في جوار عقيل فخافه دغفل والفضل وصاحب العزيز وظنا انه يريد اخذ تلك الأعمال. ثم إن أبا تغلب سار إلى الرملة في المحرم سنة تسع وستين فلم يشك ابن الجراح والفضل انه يريد حربهما وكانا بالرملة فجمع الفضل العساكر من السواحل وكذلك جمع دغفل من أمكنه جمعه وتصاف الناس للحرب فلما رأت عقيل كثرة الجمع انهزمت ولم يبق مع أبي تغلب إلا نحو سبعمائة رجل من غلمانه وغلمان أبيه فانهزم ولحقه الطلب فوقف يحمي نفسه وأصحابه فضرب على رأسه فسقط واخذ أسيرا وحمل إلى دغفل فأسره وكتفه.
وأراد الفضل اخذه وحمله إلى العزيز بمصر فخاف دغفل ان يصطنعه العزيز كما فعل بالفتكين ويجعله عنده فقتله فلامه الفضل على قتله واخذ رأسه وحمله إلى مصر وكان معه أخته جميلة بنت ناصر الدولة وزوجته وهي بنت عمه سيف الدولة فلما قتل حملهما بنو عقيل إلى حلب إلى سعد الدولة بن سيف الدولة فاخذ أخته وسير جميلة إلى الموصل فسلمت إلى أبي الوفاء نائب عضد الدولة فأرسلها إلى بغداد فاعتقلت في حجرة في دار عضد الدولة.
700

ذكر محاربة الحسن بن عمران بن شاهين مع جيوش عضد الدولة
في هذه السنة توفي عمران ين شاهين فجأة في المحرم وكانت ولايته بعد ان طلبه الملوك والخلفاء وبذلوا الجهد في اخذه واعملوا الحيل أربعين سنة فلم يقدرهم الله عليه ومات حتف أنفه.
فلما مات ولي مكانه ابنه الحسن فتجدد لعضد الدولة طمع في أعمال البطيحة فجهز العساكر مع وزيره المطهر بن عبد الله فأمدهم بالأموال والسلاح والآلات وسار المطهر في صفر فلما وصل شرع في سد أفواه الأنهار الداخلة في البطائح فضاع فيها الزمان والأموال وجاءت المدود وبثق الحسن بن عمران بعض تلك السدود فاعانه الماء فقلعها.
وكان المطهر إذا سد جانبا انفتحت عدة جوانب ثم جرت بينه وبين الحسن وقعة في الماء استظهر عليه الحسن وكان المطهر سريعا قد الف المناجزة ولم يألف المصابرة فشق ذلك عليه.
وكان معه في عسكره أبو الحسن محمد بن عمر العلوي الكوفي فاتهمه بمراسلة الحسن واطلاعه على اسراره وخاف المطهر أم تنقص منزلته عند عضد الدولة ويشمت به أعداؤه كأبي الوفاء وغيره فعزم على قتل نفسه فاخذ سكينا وقطع شرايين ذراعه فخرج الدم منه فدخل فراش له فرأى الدم فصاح فدخل الناس فرأوه وظنوا ان أحدا فعل به ذلك فتكلم وكان باخر رمق ان محمد بن عمر أحوجني إلى هذا،
701

ثم مات، وحمل إلى بلده كازرون فدفن فيها.
وأرسل عضد الدولة من حفظ لعسكر وصالح الحسن بن عمران على مال يؤديه واخذ رهائنه وانفرد نصر بن هارون بوزارة عضد الدولة وكان مقيما بفارس فاستخلف له عضد الدولة بحضرته أبا الريان أحمد بن محمد.
ذكر حرب بين بني شيبان وعسكر عضد الدولة
في هذه السنة في رجب سير عضد الدولة جيشا إلى بني شيبان وكانوا قد أكثروا الغارات على البلاد والفساد وعجز الملوك عن طلبهم وكانوا قد عقدوا بينهم وبين أكراد شهرزور مصاهرات وكانت شهرزور ممتنعة على الملوك فأمر عضد الدولة عسكره بمنازلة شهرزور لينقطع طمع بني شيبان عن التحصن بها فاستولى أصحابه عليها وملكوها فهرب بنو شيبان وسار العسكر في طلبهم وأوقعوا بهم وقعة عظيمة قتل من بني شيبان فيها خلق كثير ونهبت أموالهم ونساؤهم واسر منهم ثمانمائة أسير وحملوا إلى بغداد.
ذكر وصول ورد الرومي إلى ديار بكر وما كان منه
في هذه السنة وصل ورد الرومي إلى ديار بكر مستجيرا بعضد الدولة وأرسل إليه يستنصره على ملوك الروم ويبذل له الطاعة إذا ملك وحمل الخراج.
702

وكان سبب قدومه ان ارمانوس ملك الروم لما توفي خلف ولدين صغيرين فملكا بعده وكان تقفوز وهو حينئذ الدمستق قد خرج إلى بلاد الاسلام فنكا فيها وعاد فلما قارب القسطنطينية بلغه موت ارمانوس فاجتمع إليه الجند وقالوا له انه لا يصلح للنيابة عن الملكين غيرك فإنهما صغيران فامتنع فألحوا عليه فأجابهم وخدم الملكين وتزوج بوالدتهما ولبس التاج.
ثم إنه جفا والدتهما فراسلت ابن الشمشقيق في قتل تقفور وإقامته مقامه فأجابها إلى ذلك وسار إليها سرا هو وعشرة رجال فاغتالوا الدمستق فقتلوه واستولى ابن الشمشقيق على الأمر وقبض على لاون أخي الدمستق وعلى ورديس بن لاون واعتقله في القلاع وسار إلى أعمال الشام فأوغل فيها ونال من المسلمين ما أراد وبلغ إلى طرابلس فامتنع عليه أهلها فحصرهم.
وكان لوالدة الملكين أخ خصي وهو حينئذ الوزير فوضع على ابن الشمشقيق من سقاه سماه فلما أحس به اسرع العود إلى القسطنطينية فمات في طريقه.
وكان ورد بن منير من أكابر أصحاب الجيوش وعظماء البطارقة فطمع في الأمر وكاتب أبا تغلب بن حمدان وصاهره واستجاش بالمسلمين من الثغور فاجتمعوا عليه فقصد الروم فأخرج إليه الملكان جيشا بعد جيش وهو يهزمهم فقوي جنانه وعظم شانه وقصد القسطنطينية فخافه الملكان فأطلقا ورديس بينهما ثم انهزم ورد إلى بلاد الاسلام
فقصد ديار
703

بكر ونزل بظاهر ميافارقين وراسل عضد الدولة وانفذ إليه أخاه يبذل الطاعة والاستنصار به فأجابه إلى ذلك ووعده به.
ثم إن ملكي الروم راسلا عضد الدولة واستمالاه فقوي في نفسه ترجيح جانب الملكين وعاد عن نصرة ورد وكاتب أبا علي التميمي وهو حينئذ ينوب عنه بديار بكر بالقبض على ورد وأصحابه فشرع يدبر الحيلة عليه واجتمع إلى ورد أصحابه وقالوا له ان ملوك الروم قد كاتبوا عضد الدولة وراسلوه في أمرنا ولا شك انهم يرغبونه في المال وغيره فيسلمنا إليهم والرأي ان نرجع إلى بلاد الروم على صلح ان أمكننا أو على حرب نبذل فيها أنفسنا فاما ظفرنا أو متنا كراما.
فقال ما هذا رأي ولا رأينا من عضد الدولة إلا الجميل ولا يجوز ان ننصرف عنه قبل ان نعلم ما عنده ففارقه كثير من أصحابه فطمع فيه أبو علي التميمي وراسله في الاجتماع فأجابه إلى ذلك فلما اجتمع به قبض عليه وعلى ولده وأخيه وجماعة من أصحابه واعتقلهم بميافارقين ثم حملهم إلى بغداد فبقوا في الحبس إلى ان فرج الله عنهم على ما نذكره وكان قبضه سنة سبعين وثلاثمائة.
ذكر عمارة عضد الدولة بغداد
في هذه السنة شعر عضد الدولة في عمارة بغداد وكانت قد خربت بتوالي الفتن فيها وعمر مساجدها وأسواقها وأدر الأموال على الأئمة والمؤذنين والعلماء والقراء والغرباء والضعفاء الذين يأوون [إلى] المساجد،
704

والزم أصحاب الاملاك الخراب بعمارتها وجدد ما دثر من الأنهار وأعاد حفرها وتسويتها وأطلق مكوس الحجاج وأصلح الطريق من العراق إلى مكة شرفها الله تعالى وأطلق الصلات لأهل البيوتات والشرف والضعفاء المجاورين بمكة والمدينة وفعل مثل ذلك بمشهد علي والحسين عليهما السلام وسكن الناس من الفتن وأجرى الجريات على الفقهاء والمحدثين والمتكلمين والمفسرين والنحاة والشعراء والنسابين والأطباء والحساب والمهندسين وأذن لوزيره نصر بن هارون وكان نصرانيا في عمارة البيع والديرة اطلاق الأموال لفقرائهم.
ذكر وفاة حسنويه الكردي
في هذه السنة توفي حسنويه بن الكردي البرزيكاني بسرماج وكان أميرا على جيش من الرزيكان يسمونه الرزينية وكان خالاه ونداد وغانم ابنا أحمد أميرين على صنف اخر منهم يسمون العيشانية وغلبا على أطراف نواحي الدينور وهمذان ونهاوند والصامغان وبعض أطراف آذربيجان إلى حد شهرزور نحو خمسين سنة.
وكان يقود كل وأحد منهما عدة ألوف فتوفي غانم سنة خمسين وثلاثمائة فكان ابنه أبو سالم ديسم بن غانم مكانه بقلعته قسنان إلى ان ازاله أبو الفتح بن العميد واستصفى قلاعه المسماة قسنان وغانم آباذ وغيرهما.
وتوفي ونداد بن أحمد سنة تسع وأربعين [وثلاثمائة]، فقام مقامه ابنه أبو
705

الغانم عبد الوهاب إلى ان اسره الشاذنجان وسلموه إلى حسنويه فاخذ قلاعه وأملاكه.
وكان حسنويه مجدودا حسن السياسة والسيرة ضابطا لأمره ومنع أصحابه من التلصص وبنى قلعة سرماج بالصخور المهندمة وبنى بالدينور جامعا على هذا البناء وكان كثير الصدقة بالحرمين إلى ان مات في هذه السنة وافترق أولاده من بعده فبعضهم انحاز إلى فخر الدولة وبعضهم إلى عضد الدولة وهم أبو العلاء وعبد الرزاق وأبو النجم بدر وعاصم وأبو عدنان وبختيار وعبد الملك.
وكان بختيار بقلعة سرماج ومعه الأموال والذخائر فكاتب عضد الدولة ورغب في طاعته ثم تلون عنه وتغير فسير عضد الدولة إليه جيشا فحصره واخذ قلعته وكذلك قلاع غيره من اخوته واصطنع من بينهم أبا النجم بدر بن حسنويه وقواه بالرجال فضبط تلك النواحي وكف عادية من بها من الأكراد واستقام أمره وكان عاقلا.
ذكر قصد عضد الدولة وأخاه فخر الدولة واخذ بلاده
في هذه السنة سار عضد الدولة إلى بلاد الجبل فاحتوى عليها.
وكان سبب ذلك ان بختيار بن معز الدولة كان يكاتب ابن عمه فخر الدولة بعد موت ركن الدولة ويدعوه إلى الاتفاق معه على عضد الدولة فأجابه إلى ذلك واتفقا.
706

وعلم عضد الدولة بع فكتم ذلك إلى الان فلما فرغ من أعدائه كأبي تغلب وبختيار وغيرهما ومات حسنويه بن الحسين ظن عضد الدولة ان الأمر ينصلح بينه وبين أخويه فراسل أخويه فخر الدولة ومؤيد الدولة وقابوس بن وشمكير.
فاما رسالته إلى أخيه مؤيد الدولة فيشكره على طاعته وموافقته فإنه كان مطيعا له غير مخالف.
واما إلى فخر الدولة فيعاتبه ويستميله ويذكر له ما يلزمه به الحجة.
واما إلى قابوس فيشير عليه بحفظ العهود التي منهما.
فأجاب فخر الدولة جواب المناظر المناوي ونسي كبر السن وسعة الملك وعهد أبيه.
واما قابوس فأجاب المراقب وكان الرسول خواشاده وهو من أكابر أصحابه فاستمال أصحاب فخر الدولة فضمن لهم الاقطاعات واخذ عليهم العهود فلما عاد الرسول برز عضد الدولة من بغداد على عزم المسير إلى الجبل واصلاح تلك الأعمال وابتدأ فقدم العساكر بين يديه يتلو بعضها بعضا منهم أبو الوفاء على عسكر وخواشاده على عسكر وأبو الفتح المظفر بن محمد في عسكر فسارت هذه العساكر وأقام هو ببغداد.
ثم سار عضد الدولة فلقيه البشائر بدخول جيوشه همذان واستئمان العدد الكثير من قواد فخر الدولة ورجال حسنويه، ووصل إليه أبو الحسن عبيد الله محمد بن حمدويه وزير فخر الدولة ومعه جماهير أصحابه فانحل أمر فخر الدولة وكان بهمذان فخاف من أخيه وتذكر قتل ابن عمه بختيار،
707

فخرج هاربا وقصد بلد الديلم ثم خرج منه إلى جرجان فنزل على شمس المعالي قابوس بن وشمكير والتجأ إليه فأمنه وآواه وحمل إليه فوق ما حدثت به نفسه وشركه فيما تحت يد من ملك وغيره.
وملك عضد الدولة ما كان بيد فخر الدولة همذان والري وما بينهما من البلاد وسلمها إلى أخيه مؤيد الدولة بويه وجعله خليفته ونائبه في تلك البلاد ونزل الري واستولى على تلك النواحي.
ثم عرج عضد الدولة إلى ولاية حسنوية الكردي فقصد نهاوند وكذلك الدينور وقلعة سرماج واخذ ما فيها من ذخائر حسنويه وكانت جليلة المقدار وملك معها عدة من قلاع حسنويه ولحقه في هذه السفرة صرع وكان هذا قد اخذه بالموصل وحدث به فيها فكتمه وصار كثير النسيان لا يذكر الشيء إلا بعد جهد وكتم ذلك أيضا وهذا دأب الدنيا لا تصفو لأحد.
وأتاه أولاد حسنويه فقبض على عبد الرزاق وأبي العلاء وأبي عدنان وأحسن إلى بدر بن حسنويه وخلع عليه وولاه رعاية الأكراد هذا اخر ما في تجارب الأمم تاليف أبي على بن مسكويه.
708

ذكر ملك عضد الدولة بلد الهكارية وما معها
في هذه السنة سير عضد الدولة جيشا إلى الأكراد الهكارية من أعمال الموصل فأوقع بهم وحصر قلاعهم وطال مقام الجند في حصرها.
وكان من بالحصون من الأكراد ينظرون نزول الثلج لترحل العساكر عنهم فقدر الله تعالى ان الثلج تأخر نزوله في تلك السنة فأرسلوا يطلبون الأمان فأجيبوا إلى ذلك وسلموا قلاعهم ونزلوا مع العسكر إلى الموصل فلم يفارقوا أعمالهم غير يوم واحد حتى نزل الثلج.
ثم إن مقدم الجيش غدر بهم وصلبهم على جانبي الطريق من معلثايا إلى الموصل نحو خمسة فراسخ وكف الله شرهم عن الناس.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة ورد رسول العزيز بالله صاحب مصر إلى عضد الدولة برسائل أداها.
وفيها قبض عضد الدولة على محمد بن عمر العلوي وانفذ إلى فارس وكان سبب قبضه ما تكلم به المطهر في حقه عند موته وأرسل إلى الكوفة
709

فقبض أمواله فوجد له من المال والسلاح والذخائر ما لا يحصى واصطنع عضد الدولة أخاه أبا الفتح أحمد وولاه الحج بالناس.
وفيها تجددت وصلة بين الطائع لله وبين عضد الدولة فتزوج الطائع ابنته وكان غرض عضد الدولة ان تلد ابنته ولدا فيجعله ولي عهده فتكون الخلافة في ولد لهم فيه نسب وكان الصداق مائة ألف دينار.
وفيها كانت فتنة عظيمة بين عامة شيراز من المسلمين وبين المجوس نهبت فيها دور المجوس وضربوا وقتل منهم جماعة فسمع عضد الدولة الخبر فسير إليهم من جمع كل من له أثر في ذلك وضربهم وبالغ في تأديبهم وزجرهم.
وفيها أرسل سرية إلى عين التمر وبها ضبة بن محمد الأسدي وكان يسلك سبيل اللصوص وقطاع الطريق فلم يشعر إلا والعساكر معه فترك أهله وماله ونجا بنفسه فريدا واخذ ماله وأهله وملكت عين التمر وكان قبل ذلك قد نهب مشهد الحسين صلوات الله عليه فعوقب بهذا.
وفيها قبض عضد الدولة على النقيب أبي الحسين الموسوي والد الشريف الرضي وعلى أخيه أبي عبد الله وعلى قاضي القضاة أبي محمد وسير إلى فارس واستعمل على قضاء القضاة أبي محمد وسير إلى فارس واستعمل على قضاء القضاة أبا سعد بشر بن الحسين وهو شيخ كبير وكان مقيما بفارس واستناب على القضاء ببغداد.
وفيها توفي أبو عبد الله أحمد بن عطاء بن أحمد بن محمد بن عطاء الروذباري، الصوفي، بنواحي عكا، وكان قد انتقل من بغداد إلى الشام.
710

وفيها في ذي الحجة، توفي محمد بن عيسى بن عمرويه أبو أحمد الجلودي الزاهد، راوي صحيح مسلم عن أبي سفيان ودفن بالحيرة في نيسابور وله ثمانون سنة:
(الجلودي بفتح الجيم وقيل بضمها وهو القليل والحيرة بكسر الحاء المهملة وبالراء المهملة وهي محله بنيسابور)
وفيها توفي أبو الحسين أحمد بن زكريا بن فاس اللغوي صاحب كتاب المجمل وغيره له شعر فمن ذلك قوله قبل وفاته بيومين:
(يا رب لن ذنوبي [قد] أحطت بها * علما وبي وباعلاني وأسراري)
(أنا الموحد لكني المقر بها، * فهب ذنوبي لتوحيدي واقراري)
وفي شوال توفي أبو الحسن ثابت بن إبراهيم الحراني المتطبب الصابي ومولده بالرقة سنة ثلاث وثمانين ومائتين وكان عارفا حاذقا في الطب.
تم المجلد الثامن
711