الكتاب: الكامل في التاريخ
المؤلف: ابن الأثير
الجزء: ٦
الوفاة: ٦٣٠
المجموعة: مصادر التاريخ
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع: ١٣٨٦ - ١٩٦٦م
المطبعة: دار صادر - دار بيروت
الناشر: دار صادر للطباعة والنشر - دار بيروت للطباعة والنشر
ردمك:
ملاحظات:

الكامل في التاريخ
6
1

الكامل في التاريخ
تأليف
الشيخ العلامة عز الدين أبي الحسن علي بن أبي الكرم
محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني المعروف
بابن الأثير
المجلد السادس
دار صادر
للطباعة والنشر
دار بيروت
للطباعة والنشر
بيروت
1385 ه‍ _ 1965 م
3

بسم الله الرحمن الرحيم
155
ثم دخلت سنة خمس وخمسين ومائة
فيها دخل يزيد بن حاتم إفريقية وقتل أبا حاتم وملك القيروان وسائر الغرب وقد تقدم ذكر مسيره وحروبه مستقصى.
وفيها سير المنصور المهدي لبناء مدينة الرافقة فسار إليها فبناها على بناء مدينة بغداد وعمل للكوفة والبصرة سورا وخندقا وجعل ما أنفق فيه من الأموال على أهلهما ولما أراد المنصور معرفة عدهم أمر أن يقسم فيهم خمسة دراهم فلما علم عددهم أمر جبايتهم أربعين درهما لكل واحد فقال الشاعر:
(يا لقوم ما لقينا * من أمير المؤمنينا)
(قسم الخمسة فينا * وجبانا الأربعينا)
وفيها طلب ملك الروم الصلح إلى المنصور على أن يؤدي [إليه] الجزية.
5

وفيها غزا الصائفة يزيد بن أسد السلمي وعزل عبد الملك بن أيوب بن ظبيان عن البصرة واستعمل عليها الهيثم بن معاوية العتكي.
ذكر عزل العباس بن محمد عن الجزيرة
واستعمال موسى بن كعب
فيها عزل المنصور أخاه العباس بن محمد عن الجزيرة وغضب عليه وغرمه مالأ فلم يزل ساخطا عليه حتى غضب على عمه إسماعيل بن علي فشفع فيه عمومة المنصور وضيقوا عليه حتى رضي عنه فقال عيسى بن موسى للمنصور يا أمير المؤمنين أرى آل علي بن عبد الله وإن كانت نعمك عليهم سابغة أنهم يرجعون إلى الحسد لنا من ذلك أنك غضبت على إسماعيل بن علي منذ أيام فضيقوا عليك حتى رضيت عنه وأنت غضبان على أخيك العباس منذ كذا وكذا فلما كلمك فيه أحد منهم فرضي عنه.
وكان المنثور قد استعمل العباس على الجزيرة بعد يزيد بن أسيد فشكا يزيد منه وقال إنه أساء عزلي وشتم عرضي فقال له المنصور اجمع بين إحساني وإساءته يعتدلا فقال له يزيد بن أسيد إذا كان إحسانكم جزاء لإساءتكم كانت طاعتنا تفضلا منا عليكم.
ولما عزل المنصور أخاه عن الجزيرة استعمل عليها موسى بن كعب.
6

ذكر عزل محمد بن سليمان عن الكوفة
واستعمال عمرو بن زهير
وفيها عزل [منصور] محمد بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس عن الكوفة واستعمل عليها عمرو بن زهير الضب أخا المسيب بن زهير وقيل إنما عزل سنة ثلاث وخمسين وكان عزله لأسباب بلغته عنه منها أنه قتل عبد الكريم بن أبي العوجاء وكان قد حبسه على الزندقة وهو خال معن بن زائدة الشيباني فكثر شفعاؤه عند المنصور ولم يتكلم فيه إلا ظنين منهم فكتب إلى محمد بن سليمان بالكف عنه إلى أن يأتيه رأيه.
وكان ابن أبي العوجاء قد أرسل إلى محمد بن سليمان يسأله أن يؤخره ثلاثة أيام ويعطيه مائة ألف فلما ذكر لمحمد أمر بقتله فلما أيقن أنه مقتول قال والله لقد وضعت أربعة آلاف حديث حللت فيها الحرام وحرمت فيها الحلال والله لقد فطرتكم يوم صومكم وصومتكم يوم فطركم؛ فقتل.
وورد كتاب المنصور إلى محمد يأمره بالكف عنه فوصل وقد قتله فلما بلغ قتله المنصور غضب وقال والله لقد هممت أن أقيده ثم أحضر عمه عيسى بن علي وقال له هذا عملك أنت أشرت بتولية هذا الغلام الغر قتل فلنا بغير أمري وقد كتبت بعزله وتهديده فقال له عيسى أن محمدا إنما قتله على الزندقة فإن كان أصاب فهو لك وإن أخطأ
7

فعليه ولئن عزلته على أثر ذلك ليذهبن بالثناء والذكر ولترجعن بالمقالة من العامة عليك فمزق الكتاب.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة أنكرت الخوارج الصفرية المجتمعة بمدينة سجلماسة على أميرهم عيسى بن جرير أشياء فشدوه وثاقا وجعلوه على رأس الجبل فلم يزل كذلك حتى مات وقدموا على أنفسهم أبا القاسم سمكو بن واسول المكناسي جد مدرار.
وفيها ولد أبو سنان الفقيه المالكي بمدينة القيروان من أفريقية.
وفيها عزل الحسن بن زيد بن الحسن بن علي عن المدينة واستعمل عليها عمه عبد الصمد بن علي وكان على مكة والطائف محمد بن إبراهيم وعلى الكوفة عمرو بن زهير وعلى البصرة الهيثم بن معاوية وعلى مصر محمد بن سعيد وعلى أفريقية يزيد بن حاتم وعلى الموصل خالد بن برمك وقيل موسى بن كعب بن سفيان الخثعمي.
وفي هذه السنة مات مسعر بن كدام الكوفي الهلالي.
8

156
ثم دخلت سنة ست وخمسين ومائة
ذكر عصيان أهل إشبيلية على عبد الرحمن الأموي
في هذه السنة سار عبد الرحمن الأموي صاحب الأندلس إلى حرب شقنا وقصد حصن شيطران فحصره وضيق عليه فهرب إلى المفازة كعادته وكان قد استخلف على قرطبة ابنه سليمان فأتاه كتابه يخبره بخروج أهل إشبيلية مع عبد الغفار وحيوة بن ملابس عن طاعته وعصيانهم عليه واتفق من بها من اليمانية معهما فرجع عبد الرحمن ولم يدخل قرطبة وهاله ما سمع من اجتماعهم وكثرتهم فقدم ابن عمه عبد الملك بن عمر، وكان شهاب آل مروان وبقي عبد الرحمن خلفه كالمدد له.
فلما قارب عبد الملك أهل إشبيلية قدم ابنه أمية ليعرف حالهم فرآهم مستيقظين فرجع إلى أبيه فلامه أبوه على إظهار الوهن وضرب عنقه وجمع أهل بيته وخاصته، وقال لهم طردنا من المشرق إلى أقصى هذا الصقع ونحسد على لقمة تبقي الرمق اكسروا جفون السيوف فالموت أولى أو الظفر.
ففعلوا وحمل بين أيديهم فهزم اليمانية وأهل إشبيلية فلم تقم
9

بعدها لليمانية قائمة وجرح عبد الملك.
وبلغ الخبر إلى عبد الرحمن فأتاه وجرحه يجري دما وسيفه يقطر دما وقد لصقت يده بقائم سيفه فقبله بين عينيه وجزاه خيرا وقال يا بن عم قد أنكحت ابني وولي عهدي هشاما ابنتك فلانة وأعطيتها كذا وكذا وأعطيتك كذا وأولادك كذا وأقطعتك وإياهم ووليتكم الوزارة.
وعبد الملك هذا هو الذي ألزم عبد الرحمن بقطع خطبة المنصور وقال له اقطعها والا قتلت نفسي وكان قد خطب له عشرة أشهر فقطعها.
وكان عبد الغفار وحيوة بن ملابس قد سلما من القتل فلما كانت سنة سبع وخمسين ومائة سار عبد الرحمن إلى إشبيلية فقتل خلقا كثيرا ممن كان مع عبد الغفار وحيوة ورجع وبسبب هذه الوقعة وغش العرب مال عبد الرحمن إلى اقتناء العبيد.
ذكر الفتنة بافريقية مع الخوارج
قد ذكرنا هرب عبد الرحمن بن حبيب الذي كان أبوه أمير إفريقية مع الخوارج واتصاله بكتامة وتسيير يزيد بن حاتم أمير أفريقية العسكر في أثره وأنهم قاتلوا كتامة.
فلما كانت هذه السنة سير يزيد عسكرا آخر مددا للذين يقاتلون عبد
10

الرحمن فاشتد الحصار على عبد الرحمن فمضى هاربا وفارق مكانه فعادت العساكر عنه.
ثم ثار في هذه السنة على يزيد بن حاتم أبو يحيى بن فانوس الهواري بناحية طرابلس فاجتمع عليه كثير من البربر وكان بها عسكر ليزيد بن حاتم مع عامل البلد فخرج العامل والجيش معه فالتقوا على شاطيء البحر من أرض هوارة فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزم أبو يحيى بن فانوس وقتل عامة أصحابه وسكن الناس بافريقية وصفت ليزيد بن حاتم.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة ظفر الهيثم بن معاوية عامل البصرة بعمرو بن شداد الذي كان عامل إبراهيم بن عبد الله على فارس وسبب ظفره به أنه ضرب غلاما له فأتى الهيثم فدله عليه فأخذه فقتله وصلبه بالمربد.
وفيها عزل الهيثم عن البصرة واستعمل سوار القاضي على الصلاة مع القضاء واستعمل سعيد بن دعلج على شرط البصرة وأحداثها ولما وصل الهيثم إلى بغداد مات بها وصلى عليه المنصور.
وفيها غزا الصائفة زفر بن عاصم الهلالي؛ وحج بالناس العباس بن محمد بن علي وكان على مكة محمد بن إبراهيم الإمام وعلى الكوفة عمرو بن زهير وعلى الأحداث والجوالي والشرط بالبصرة سعيد بن دعلج وعلى الصلاة والقضاء سوار بن عبد الله وعلى كور دجلة والأهواز وفارس
11

عمارة بن حمزة وعلى كرمان والسند هشام بن عمرو وعلى إفريقيا يزيد بن حاتم وعلى مصر محمد بن سعيد.
وفيها سخط عبد الرحمن الأموي على مولاه بدر لفرط إدلاله عليه ولم يرع حق خدمته وطول صحبته وصدق مناصحته فأخذ ماله وسلبه نعمته ونفاه إلى الثغر فبقي به إلى أن هلك.
وفيها مات عبد الرحمن بن زياد بن أنعم قاضي أفريقيا وقد تكلم الناس في حديثه.
وفيها توفي حمزة بن حبيب الزيات المقرئ أحد القراء السبعة.
12

157
ثم دخلت سنة سبع وخمسين ومائة
في هذه السنة بنى المنصور قصره الذي يدعى الخلد.
وفيها حول المنصور الأسواق إلى الكرخ وغيره، وقد تقدم سبب ذلك واستعمل سعيد بن دعلج على البحرين فأنفذ إليها ابنه تميما وعرض المنصور جنده في السلاح والخيل وجلس لذلك وخرج هو لابسا درعا وبيضة.
وفيها مات عامر بن إسماعيل المسلي وصلى عليه المنصور وتوفي سوار بن عبد الله قاضي البصرة واستعمل مكانه عبد الله بن الحسن بن الحصين العنبري وعزل محمد بن سليمان الكاتب عن مصر واستعمل مولاه مطرا واستعمل معبد بن الخليل على السند وعزل هشام بن عمرو.
وغزا الصائف يزيد بن أسيد السلمي فوجه سنانا مولى البطال إلى حصن فسبى وغنم وقيل إنما غزا الصائف زفر بن عاصم.
وحج بالناس إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس وكان على مكة وقيل كان عليها عبد الصمد بن علي وعلى الأمصار من ذكرنا.
وفيها قتل المنصور يحيى بن زكريا المحتسب وكان يطعن على المنصور ويجمع الجماعات فيما قيل.
وفيها عبد الوهاب بن إبراهيم الإمام وقيل سنة ثمان وخمسين:
13

وفي سنة سبع وخمسين مات الأوزاعي الفقيه واسمه عبد الرحمن بن عمرو وله سبعون سنة ومصعب بن ثابت بن عب الله بن الزبير بن العوام جد الزبير بن بكار.
وفيها أخرج سليمان بن يقظان الكلبي قارله ملك الإفرنج إلى بلاد المسلمين من الأندلس ولقيه بالطريق وسار معه إلى سرقسطة فسبقه إليها الحسين بن يحيى الأنصاري من ولد سعد بن عبادة وامتنع بها فاتهم قارله ملك الإفرنج سليمان فقبض عليه وأخذه معه إلى بلاده فلما أبعد من بلاد المسلمين واطمأن هجم عليه مطروح وعيشون ابنا سليمان في أصحابهما فاستنقذا أباهما ورجعا به إلى سرقسطة ودخلوا مع الحسين ووافقا على خلاف عبد الرحمن.
14

158
ثم دخلت سنة ثمان وخمسين ومائة
ذكر عزل موسى عن الموصل وولاية خالد بن برمك
في هذه السنة عزل المنصور بن موسى بن كعب عن الموصل وكان قد بلغه عنه ما أسخطه عليه فأمر ابنه المهدي أن يسير إلى الرقة وأظهر انه يريد بيت المقدس وأمره أن يجعل طريقه على الموصل فإذا صار ببلد أخذ موسى وقيده واستعمل خالد بن برمك.
وكان المنصور قد ألزم خالد بن برمك ثلاثة آلاف ألف درهم وأجله ثلاثة أيام فإن أحضر المال والا قتله فقال لابنه يحيى يا بني الق اخواننا عمارة بن حمزة ومبارك التركي وصالحا صاحب المصلى وغيرهم وأعلمهم حالنا.
قال يحيى: فأتيتهم فمنهم من منعني من الدخول عليه ووجه المال ومنهم من تجهمني بالرد ووجه المال [سرا إلى]. قال: فأتيت عمارة بن حمزة ووجهه إلى الحائط فما أقبل به عليه فسلمت فرد ردا ضعيفا فقال كيف أبوك فعرفته الحال وطلبت قرض مائة ألف فقال أن أمكنني شيء فسيأتيك فانصرفت وأنا ألعنه من تيهه وحدثت أبي بحديثه وإذ قد أنفذ المال فجمعنا في يومين ألفي ألف وسبعمائة ألف وبقي ثلاثمائة
15

ألف تبطل الجميع بتعذرها.
قال فعبرت على الجسر وأنا مهموم فوثب إلي زاجر فقال فرح الطائر أخبرك فطويته فلحقني وأخذ بلجام دابتي وقال لي أنت مهموم والله لتفرحن ولتمرن غدا في هذه الموضع واللواء بين يديك فعجبت من قوله فقال أن كان في ذلك فلي عليك خمسة آلاف درهم فقلت نعم وأنا استبعد ذلك.
وورد على المنصور انتقاض الموصل والجزيرة وانتشار الأكراد بها فقال من لها؟ فقال المسيب بن زهير عندي يا أمير المؤمنين رأى أعلم أنك لا تقبله مني وأعلم أنك ترده علي ولكني لا أضع نصحك قال قل قلت ما لها من مثل خالد ن برمك قال فكيف لنا بعد ما فعلنا قال إنما قومته بذلك وأنا الضامن له قال فليحضرني غدا فأحضره فصفح له عن الثلاثمائة ألف الباقية وعقد له وعقد لابنه يحيى على أذربيجان فاجتاز يحيى بالزاجر فأخذه معه وأعطاه خمسين ألف درهم وأنفذ خالد إلى عمارة بالمائة ألف التي أخذها منه ابنه يحيى فقال له صيرفيا كنت لأبيك؟ قم عني لأقمت فعاد بالمال وسار مع المهدي فعزل موسى بن كعب وولاهما.
فلم يزل خالد على الموصل وابنه يحيى على أذربيجان إلى أن توفي المنصور فذكر أحمد بن محمد بن سوار الموصلي [قال]: ما هبنا أميرا قط هيبتنا خالدا من غير أن يشتد علينا ولكن هيبتنا كانت له في صدورنا.
16

ذكر موت المنصور ووصيته
وفي هذه السنة توفي المنصور لست خلون من ذي الحجة ببئر ميمون وكان على قيل قد هتف به هاتفا من قصره بالمدينة فسمعه يقول:
(أما ورب السكون والحرك * أن المنايا كثيرة الشرك)
(عليك يا نفس أن أسأت وإن * أحسنت بالقصد كل ذاك لكي)
(ما أختلف الليل والنهار * ولا دارت نجوم السماء في الفلك)
(الا بنقر السلطان عن ملك * إذا انتهى ملكه إلى ملك)
(حتى يصيرانه إلا ملك * ما عز سلطانه بمشترك)
(ذاك بديع السماء والأرض وال‍ * مرسي الجبال المسخر الفلك)
فقال المنصور: هذا أوان أجلي. قال الطبري: وقد حكى عبد العزيز بن مسلم أنه قال دخلت على المنصور يوما أسلم عليه فإذا هو باهت لا يحير جوابا فوثبت لما أرى منه لأنصرف فقال [لي] بعد ساعة: إني رأيت في المنام كأن رجلا ينشدني هذه [الأبيات]:
(أخي خفضا من مناك * فكأن يومك قد أتاك)
(ولقد أراك الدهر من * تصريفه ما قد أراك)
(فإذا أردت الناقص العب‍ * د الذليل، فأنت ذاك)
17

(ملكت ما ملكته * والأمر فيه إلى سواك)
هذه الذي ترى من قلقي وغمي لما سمعت ورأيت فقلت خيرا رأيت يا أمير المؤمنين فلم يلبث أن خرج إلى مكة فلما سار من بغداد ليحج نزل قصر عبدويه فانقض في مقامه هناك كوكب لثالث بقين من شوال بعد إضاءة الفجر فبقي أثره بنا إلى طلوع الشمس فأحضر المهدي وكان قد صحبه ليودعه فوصاه بالمال والسلطان يفعل ذلك كل يوم من أيام مقامه بكره وعشية فلما كان اليوم الذي ارتحل فيه قال له إني لم أده شيئا إلى قد تقدمت إليك فيه وسأوصيك بخصال والله ما أظنك تفعل واحدة منها.
وكان له سفط فيه دفاتر علمه وعليه قفل لا يفتتح غيره فقال للمهدي انظر إلى هذا السفط فاحتفظ به فإن فيه علم آبائك ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة فإن أحزنك فانظر في الدفتر الكبير فإن أصبت فيه ما تريد والا ففي الثاني والثالث حتى بلغ سبعة فإن ثقل عليك فالكراسة الصغيرة فإنك واجد فيها ما تريد وما أظنك تفعل.
وانظر هذه المدينة وإياك أن تستبدل بها غيرها وقد جمعت لك فيها الأموال ما أن كسر عليك الخراج عشر سنين كفاك لأرزاق الجندي والنفقات والذرية ومصلحة البعوث فاحتفظ بها فإنك لا تزال عزيزا ما دام بيت مالك عامرا وما أظنك تفعل.
وأوصيك بأهل بيتك أن تظهر كرامتهم وتحسن إليهم وتقدمهم وتوطئ الناس أعقابهم وتوليهم المنابر فإن عزك عزوهم وذكرهم
18

لك وما أظنك تفعل.
وانظر مواليك وأحسن إليهم وقربهم واستكثر منهم فإنهم مادتك لشدة أن نزلت بهم وما أظنك تفعل.
وأوصيك بخراسان خيرا فإنهم أنصارك وشيعتك الذين بذلوا أموالهم ودمائهم في دولتك ومن لا تخرج محبتك من قلوبهم أن تحسن إليهم وتتجاوز عن مسيئهم وتكافئهم عما كان منهم وتأوى وتخلف من مات منهم في أهله وولده وما أظنك تفعل.
وإياك أن تبني مدينة الشرقية فإنك لا تتم بنائها وأظنك ستفعل.
وإياك أن تستعين برجل من بني سليم وأظن ستفعل.
وإياك أن تدخل النساء في أمرك وأظنك ستفعل.
وقيل قال له ولدت في ذي الحجة ووليت في ذي الحجة وقد هجس في نفسي أني أموت في ذي الحجة في هذه السنة وإنما حداني على الحج ذلك فاتقي الله فيما أعهد إليك من أمور المسلمين بعدي يجعل الله لك فيما كربك وحزنك فرجا ومخرجا ويرزقك السلامة وحسن العاقبة من حيث لا تحتسب.
يا بني احفظ محمدا في أمته يحفظك الله ويحفظ عليك أمورك وإياك والدم الحرام فإنه حوب عند الله عظيم وعار في الدنيا لازم مقيم والزم الحدود فان فيها خلاصك في الأجل وصلاحك في العاجل ولا تعتد فيها فتبور فان الله تعالى لو علم شيئا اصلح منها دينه وازجر عن معاصيه لأمر به في كتابه.
19

واعلم أن من شدة غضب الله لسلطانه [أنه] أمر في كتابه بتضعيف العذاب والعقاب على من سعى في الأرض فسادا مع ما ذخر عنده من العذاب العظيم فقال: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا) الآية. فالسلطان، يا بني، حبل الله المتين وعروته الوثقى ودينه القيم فاحفظه وحصنه وذب عنه وأوقع بالملحدين فيه واقمع الماردين منه واقتل الخالدين عن بالعقاب ولا تجاوز ما أمر الله به في محكم القرآن واحكم بالعدل ولا تشطط فان ذلك اقطع للشغب واحسم للعدو وأنجع في الدواء.
وعف عن الفيء فليس بك إليه حاجة ما مع خله الله لك وافتتح [عملك] بصلة الرحم وبر القرابة وإياك والأثر والتبذير في أموال الرعية واشحن الثغور واضبط الأطراف وأمن السبل وسكن العامة وادخل المرافق عليهم وادفع المكارة عنهم واعد الأموال واخزنها وإياك والتبذير فان النوائب غير مأمونة وهي من شيم الزمان.
واعد الكراع والرجال والجند ما استطعت وإياك وتأخير عمل اليوم إلى الغد فتتدارك عليك الأمور فتضيع جد في أحكام الأمور النازلات في أوقاتها أولا [فأولا] بأول واجتهد وشمر فيها واعد رجالا بالليل لمعرفة ما يكون بالنهار ورجلا بالنهار لمعرفة ما يكون بالليل وباشر الأمور بنفسك ولا تضجر ولا تكسل واستعمل حسن الظن [بربك]، وأسئ الظن بعمالك وكتابك وخذ نفسك بالتيقظ وتفقد من تثبت على بابك وسهل
20

اذنك للناس وانظر في أمر النزاع إليك ووكل بهم عينا غير نائمة ونفسا غير لاهية ولا تنم وإياك فان أباك لم ينم منذ ولي الخلافة ولا دخل عينه الغمض إلا وقلبه مستيقظ هذه وصيتي والله خليفتي عليك.
ثم ودعه وبكى كل واحد منهما إلى صاحبه، ثم سار إلى الكوفة وجمع بين الحج والعمرة وساق الهدي وأشعره وقلده لأيام خلت من ذي القعدة فلما سار منازل من الكوفة عرض له وجعه الذي مات به وهو القيام فلما اشتد وجعه جعل يقول للربيع بادرني حرم ربي هاربا من ذنوبي وكان الربيع عديله ووصاه بما أراد فلما وصل إلى بئر ميمون مات بها مع السحر لست خلون من ذي الحجة ولم يحضره عند وفاته إلا خدمه والربيع مولاه فكتم الربيع موته ومنع من البكاء عليه ثم أصبح فاحضر أهل بيته كما كانوا يحضرون وكان أول من دعا عمه عيسى بن علي فمكث ساعة ثم اذن لابن أخيه عيسى بن موسى وكان فيما خلا يقدم على عيسى بن علي ثم اذن للأكابر وذوي الأسنان منهم ثم لعامتهم فبايعهم الربيع للمهدي ولعيسى بن موسى بعده على يد موسى الهادي بن المهدي.
فلما فرغ من بيعة بني هاشم بايع القواد وبايع عامة الناس، وسار العباس بن محمد ومحمد بن سليمان إلى مكة ليبايع الناس فبايعوا بين الركن والمقام واشتغلوا بتجهيز المنصور ففرغوا منه العصر وكفن وغطي وجهه وبدنه وجعل رأسه مكشوفا لأجل إحرامه وصلى عليه عيسى بن موسى وقيل إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس ودفن في مقبرة المعلاة وحفروا له مائة قبر ليغموا على الناس،
21

ودفن في غيرها، ونزل في قبره عيسى بن علي وعيسى بن محمد والعباس بن محمد والربيع والريان مولياه ويقطين وكان عمره ثلاثا وستين سنة وقيل أربع وستين وقيل ثمانيا وستين سنة، فكانت مدته خلافته اثنتين وعشرين سنة إلا أربعة وعشرين يوما وقيل إلا ثلاثة أيام وقيل إلا ستة وقيل إلا يومين وقيل في موته انه لما نزل آخر منزل بطريق مكة نظر في صدر البيت الذي نزل فيه فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم،
(أبا جعفر حانت وفاتك وانقضت * سنوك وأمر الله لا بد واقع)
(أبا جعفر هل كاهن أم منجم * لك اليوم من حر المنية مانع)
واحضر متولي المنازل وقال له ألم أمرك أن لا يدخل المنازل أحد من الناس قال والله ما دخله أحد منذ فرغ [منها]. فقال اقرا ما في صدر البيت فقال ما أرى شيئا فاحضر غيره فلم ير فأملى البيتين ثم قال لحاجبه اقرا آية، فقرا: (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) فأمر به فضرب ورحل من المنزل تطيرا فسقط عن دابته فاندق ظهره ومات ودفن ببئر ميمون والصحيح ما تقدم.
ذكر صفة المنصور وأولاده
كان أسمر نحيفا خفيف العارضين ولد من حميمة من ارض الشراة وأما أولاده فالمهدي واسمه محمد وجعفر الأكبر وأمهما أروى بنت منصور
22

أخت يزيد بن منصور الحميري وكانت تكنى أم موسى ومات جعفر قبل المنصور ومنهم سليمان وعيسى ويعقوب أمهم فاطمة بنت محمد من ولد طلحة بن عبيد الله وجعفر الأصغر وأم ولد كردية كان يقال له ابن الكردية وصالح المسكين أمه أم ولد رومية والقاسم مات قبل المنصور وله عشر سنين أمه أم ولد تعرف بأم القاسم ولها بلاد الشام بستان يعرف ببستان أم القاسم والعالية أمها امرأة من بني أمية.
ذكر بعض سيرة المنصور
قال سلام الأبرش: كنت أخدم المنصور داخلا [في منزله]، وكان من أحسن الناس خلقا ما لم يخرج إلى الناس وأشد احتمالا بما يكون من عبث الصبيان فإذا لبس ثوبه أربد لونه واحمرت عيناه فيخرج منه ما يكون.
وقال لي يوما يا بني إذا رايتين قد لبست ثيابي أو رجعت من منزلي فلا يدنون مني منكم أحد مخافة أن أغره بشيء.
قال: ولم ير في دار المنصور له ولا شيء يشبه اللهو واللعب، إلا مرة واحدة. روى بعض أولاده وقد ركب راحلة وهو صبي وتنكب قوسا في هيئة الغلام الأعرابي، بين جوالقين فيهما مقل ومساويك وما
23

يهديه الأعراب فعجب الناس من ذلك وأنكروه فعبر إلى المهدي بالرصافة فأهداه له فقبله وملئ الجوالقين دراهم فعاد بينهما فعلم أنه ضرب من بعث الملوك.
قال حماد التركي: كنت واقفا على رأس المنصور فسمع جلبة فقال انظر ما هذا فذهبت فإذا خادم له قد جلس حوله الجواري وهن يضرب لهم بالطنبور وهن يضحكن فأخبرته فقال وأي شيء الطنبور فوصفته له فقال ما يدريك أنت والطنبور قلت رأيته بخراسان فقام ومشى إليهن فلما رأينه تفرغنا فأمر بالخادم فضرب رأسه بالطنبور حتى تكسر الطنبور وأخرج الخادم فباعه.
قال: وكان المنصور قد استعمل معا بن زائدة على اليمن لما بلغه من الاختلاف هناك فسار إليه وقصده الناس من أقطار الأرض لاشتهار جهده ففرق فيهم الأموال فسقط عليه المنصور فأرسل إليه معن بن زائدة وفدا من قومه فيهم مجاعة ابن الأزهر وسيرهم إلى المنصور ليزيلوا غيضه وغضبه فلما دخل على المنصور ابتدأ مجاعة بحمد الله والثناء عليه وذكر النبي فأطنب في ذلك حتى عجب القوم ثم ذكر المنصور وما شرفه الله به وذكر بعد ذلك صاحبه فلما انقضى كلامه قال أما ذكرت من حمد الله فالله
أجل من أن تبلغه الصفات وأما ما ذكرت من النبي فقد فضله الله تعالى بأكثر ما قلت وأما ما وصفت به أمير المؤمنين فإنه فضله الله بذلك وهو معينه على طاعته أن شاء الله تعالى وأما ما ذكرت من صاحبك فكذبت ولئن تخرج فلا يقبل ما ذكرته.
فلما صاروا بآخر الأبواب أمر برده مع أصحابه فقال ما قلت؟
24

فأعاده عليه، فأخرجه، ثم أمر بهم فأوقفوا ثم ألتفت إلى من حضر من مضر فقال هل تعرفون فيكم مثل هذا؟ والله قد تكلم حتى حسدته، وما منعني أن أتم على رده إلا أن يقال حسده لأنه من ربيعة وما رأيت مثله رجلا أربط جأشا ولا أظهر بيانا؛ رده يا غلام.
فلما صار بين يديه قال اقصد لحاجتك! قال يا أمير المؤمنين معن بن زائد عبدك وسيفك وسهمك رميت به عدوك فضرب وطعن ورمى حتى سهل ما حزن وذل ما صعب واستوى ما كان معوجا من اليمن فأصبحوا من خول أمير المؤمنين أطال الله بقاءه فإن كان في نفس أمير المؤمنين هنة من ساع أو واش أو حاسد فأمير المؤمنين أولى بالفضل على عبده ومن أفنى عمره في طاعته.
فقبل عذره وأمر بصرفهم إليه فلما قرأ معن الكتاب بالرضا قبل ما بين عينيه وشكر أصحابه وأجازهم على أقدارهم وأمرهم بالرحيل إلى المنصور فقال جماعة:
(آليت في مجلس من وائل قسما * أن لا أبيعك يا معن بأطماع)
(يا معن إنك قد أوليتني نعما * عمت لحيما وخصت آل مجاع)
(فلا أزال إليك الدهر منقطعا * حتى يشيد بهلكي هتفه الناعي) وكان نعم معن على مجاعة أنه قضى له ثلاث حوائج منها أنه كان يتعشق جارية من أهل بيت معن اسمها زهراء فطلبها فلم يجب لفقرة فطلبها من معن فأحشر أباها فزوجه على عشرة آلاف درهم وأمهرها من عنده.
ومنها أنه طلب حائطا بعينه فاشتراها له.
25

ومنها أنه استوعب منه شيئا فوهب له ثلاثين ألف درهم تمام المائة ألف.
قيل: وكان المنصور يقول ما أحوجني أن يكون على بابي أربعة نف لا على بابي أعف منهم هم أركان الدولة ولا يصلح الملك إلا بهم أما أحدهم فقاض لا تأخذه في الله لومة لائم والأخر صاحب شرطة ينصف الضعيف من القوي والثالث صاحب خراج يستقصي ولا يظلم الرعية.
ثم عض على إصبعيه السبابة ثلاث مرات يقول في كل مرة آه آه قيل ما هو يا أمير المؤمنين قال صاحب بريد يكتب خبر هؤلاء على الصحة.
وقيل: ودعا المنصور بعامل قد كسر خراجه فقال له أد ما عليك فقال والله أملك شيئا وأذن مؤذن أشهد أن لا إله الا الله فقال يا أمير المؤمنين هب لي ما علي لله وشهادة أن لا إله إلا الله فخلي سبيله.
وقيل أتى بعامل فحبسه وطالبه فقال العامل: عبدك يا أمير المؤمنين؛ فقال: بئس العبد أنت! فقال: لكنك نعم المولى. قال: أما لك فلا.
قيل: وأتي بخارجي قد هزم له جيوشا، فأراد ضرب رقبته ثم ازداد فقال يا ابن الفاعلة! مثلك يهزم الجيوش فقال له ويلك وسوأة لك أمس بيني وبينك السيف واليوم القذف والسب وما كان يؤمنك أن أراد عليك وقد يئست من الحياة فلا تستقيلها أبدا فاستحيا منه المنصور وأطلقه.
قيل: وكان شغل المنصور في صدر نهاره بالأمر والنهي والولايات
26

والعزل وشحن الثغور والأطراف وأمن السبل والنظر في الخراج والنفقات ومصلحة معاش الرعية والتلطف بسكونهم وهديهم فإذا صلى العصر جلس لأهل بيته فإذا صلى العشاء الآخرة جلس ينظر فيما ورد من كتب الثغور والأطراف والأفاق وشاور سمارة فإذا مضى ثلث الليل قام إلى فراشه وانصرف سمارة وإذا مضى الثلث الثاني قام فتوضأ وصلى حتى يطلع الفجر ثم يخرج فيصلي بالناس ثم يدخل فيجلس في إيوانه.
قيل وقال المهدي لا تبرم أمرا حتى تفكر فإن فكر العاقل مرآته حينه وسيئة يا بني لا يصلح السلطان إلا بالتقوى ولا تصلح الرعية إلا بالطاعة ولا تعمر البلاد بمثل العدل وأقدر الناس على العفو أقدرهم وأعجز الناس من ظلم من هو دونه واعتبر عمل صاحبك وعلمه باختباره.
يا أبا عبد الله لا تجلس مجلسا إلا ومعك من [أهل] العلم من يحدثك؛ ومن أحب أن يحمد أحسن السيرة ومن أبغض الحمد أساءها وما أبغض الحمد إلا استذم وما استذم إلا كره يا أبا عبد الله ليس العاقل الذي يحتال للأمر الذي غشيه بل العاقل الذي يحتال للأمر حتى لا يقع فيه.
وقال المهدي يوما: كم راية عندك؟ قال: لا أدري. قال أنا لله أنت لأمر الخلافة أشد تضييعا ولكن قد جمعت لك ما لا
27

يضرك معه ما ضيعت فاتق الله فيما خولك.
قيل: وقال لإسحاق بن عيسى: لم يكن أحد من بني العباس يتكلم فيبلغ حاجته على البديهة غير المنصور وأخيه العباس بن محمد وعمهما داود بن علي قيل: وخطب المنصور يوما فقال الحمد لله أحمده وأستعينه وأومن به وأتوكل عليه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له فاعترضه انسان فقال أيها الإنسان أذكرك من ذكرت به فقطع الخطبة ثم قال سمعا سمعا لمن حفظ عن الله وأعوذ بالله أن أكون جبارا عنيدا أو تأخذني العزة بالإثم لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين وأنت أيها القائل فوالله ما أردت بهذا القول الله ولكنك أردت أن يقال قام فقال فعرقب فصبر وأهون بها ويلك لقد ههممت واغتنمها إذا عفوت وإياك وإياكم معاشر المسلمين أختها فإن الحكمة علينا نزلت ومن عندنا فردوا الأمر إلى أهله توردوه موارده وتصدروه مصادره.
ثم عاد إلى خطبته كأنما يقرؤها فقال وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
وقال عبد الله بن صاعد خطب المنصور بمكة بعد بناء بغداد فكان مما قال: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون). أمر مبرم وقول عدل وقضاء فصل والحمد لله الذي أفلج حجته وبعدا للقوم الظالمين الذين اتخذوا الكعبة غرضا والفيء إرثا و (جعلوا القرآن عضين)، لقد (حاق بهم
28

ما كانوا به يستهزئون)، فكم من بئر معطلة، وقصر مشيد، أهملهم الله حين بدلوا السنة واضطهدوا العترة، وعندوا، واعتدوا، واستكبروا وخاب كل جبار عنيد ثم أخذهم ف‍ (‍هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا).
قال وكتب إليه رجل يشكو بعض عماله فوق إلى العامل في الرقعة أن آثرت العدل صحبتك السلامة وان آثرت الجور فما أقربك من الندامة فأنصف هذا المتظلم من الظلامة.
قيل وكتب إلى [المنصور] صاحب أرمينية يخبره أن الجند قد شغبوا عليه ونهبوا ما في بيت المال فوقع في كتابه اعتزل عملنا مذموما مدحورا فلو عقلت لم يشغبوا ولو قويت لم ينهبوا.
وهذا وما تقدم من كلامه ووصاياه يدل على فصاحته وبلاغته وقد تقدم له أيضا من الكتب وغيرها ما يدل على انه كان واحد زمانه إلا انه كان يبخل، وما نقل عنه من ذلك قال الوضين بن عطاء استزارني المنصور وكان بيني وبينه خلة قبل الخلافة فخلونا يوما فقال لي يا أبا عبد الله ما لك قلت الخبر الذي تعرفه قال وما عيالك قلت ثلاث بنات والمرأة وخادم لهن فقال أربع في بيتك قلت نعم فرددها حتى ظننت انه سيعينني ثم قال أنت أيسر العرب أربع مغزل يدرن في بيتك.
29

قيل: رفع غلام لأبي عطاء الخراساني انه له عشرة آلاف درهم فأخذها منه وقال هذا مالي قال من أين يكون مالك ووالله ما وليتك عملا قط ولا بيني وبينك رحم ولا قرابة قال: بلى! [كنت] تزوجت امرأة لعيينة بن موسى بن كعب فورثتك مالأ وكان قد عصى بالسند [وهو وال على السند]، واخذ مالي فهذا المال من ذاك.
وقيل: لجعفر الصادق أن المنصور يكثر من لبس جبة هروية وانه يرقع قميصه فقال جعفر الحمد لله الذي لطف به حتى ابتلاه بفقر نفسه في ملكه قيل.
وكان المنصور إذا عزل عاملا اخذ ماله وتركه في بيت مال مفرد سماه بيت مال المظالم وكتب عليه اسم صاحبه وقال للمهدي قد هيأت لك شيئا فإذا أنا مت فادع من أخذت ماله فاردده عليه فإنك تستحمد بذلك إليهم والى العامة ففعل المهدي ذلك.
وله في ضد ذلك أشياء كثيرة.
قيل: وذكر زيد مولى عيسى بن نهيك قال دعاني المنصور بعد موت مولاي فسألني كم خلف من مال قلت ألف دينار وأنفقته امرأته في مأتمه قال كم خلف من البنات قلت ستا فاطرق مليا ثم رفع رأسه وقال اغد إلى المهدي فغدوت إليه فأعطاني مائة ألف وثمانين ألف دينار لكل واحدة منهن ثلاثون ألفا ثم دعاني المنصور فقال عد علي بأكفائهن حتى أزوجهن ففعلت فزوجهن وأمر أن تحمل إليهن صدقاتهن من ماله لكل واحدة منهن ثلاثون ألف درهم وأمرني أن اشتري بمالهن ضياعا لهن يكون معاشهن منها.
30

قيل: وفرق المنصور على جماعة من أهل بيته في يوم واحد عشرة آلاف ألف درهم وأمر لجماعة من أعمامه منهم سليمان وعيسى وصالح وإسماعيل لكل رجل منهم بألف ألف وهو أول من وصل بها وله في ذلك أخبار كثيرة وأما غير ذلك قال يزيد بن عمر بن هبيرة ما رأيت رجلا قط في حرب ولا سمعت به في سلم أنكر ولا أمكر تيقظا من المنصور لقد حصرني تسعة اشهر ومعي فرسان العرب فجهدنا بكل الجهد أن ننال من عسكره شيئا فما تهيا ولقد حصرني وما في رأسي شعرة بيضاء فخرجت إليه وما في رأسي شعرة سوداء.
قيل: وأرسل ابن هبيرة إلى المنصور وهو محاصره يدعو إلى المبارزة فكتب إليه انك متعد طورك جار في عنان غيك يعدك الله ما هو مصدقه ويمينك الشيطان ما هو مكذبه ويقرب ما الله مباعده فرويدا يتم الكتاب اجله وقد ضربت مثلي ومثلك.
بلغني أن أسدا لقي خنزيرا فقال له الخنزير قاتلني فقال الأسد إنما أنت خنزير ولست بكفء لي ولا نظير ومتى قاتلتك فقتلتك قيل لي قتل خنزيرا فلا اعتقد فخرا ولا ذكرا وان نالني منك شيئا كان سبة علي فقال الخنزير أن لم تفعل أعلمت السباع انك نكلت عني فقال الأسد احتمال عار كذبك علي أيسر من لطخ شرابي بدمك.
قيل: وكان المنصور أول من عمل الخيش فان الأكاسرة كانوا يطينون كل يوم بيتا يسكنونه في الصيف وكذلك بنو أمية.
31

قيل: واتي برجل من بني أمية فقال اني أسألك عن أشياء فأصدقني ولك الأمان قال نعم قال من أين أتى بنو أمية حتى انتشر أمرهم قال من تضييع الأخبار قال فأي الأموال وجدوها انفع قال الجوهر قال فعند من وحدوا الوفاء قال عند مواليهم فأراد المنصور أن يستعين في الأخبار بأهل بيته فقال أضع منهم فاستعان بمواليه.
ذكر خلافة المهدي والبيعة له
ذكر علي بن محمد النوفلي عن أبيه قال: خرجت من البصرة حاجا فاجتمعت بالمنصور بذات عرق فكنت اسلم عليه كلما ركب وقد أشفى على الموت فلما صار ببئر ميمون نزل به ودخلنا مكة فقضيت عمرتي وكنت اختلف إلى المنصور فلما كان في الليلة التي مات فيها ولم نعلم صليت الصبح بمكة وركبت أنا ومحمد بن عون بن عبد الله بن الحرث وكان من مشايخ بني هاشم وسادتهم فلما صرنا بالأبطح لقينا العباس بن محمد ومحمد بن سليمان في خيل إلى مكة فسلمنا عليهما ومضينا فقلت لمحمد أحسب الرجل قد مات فكان كذلك.
ثم أتينا العسكر فإذا موسى بن المهدي قد صدر عند عمود السرداق والقاسم بن المنصور في ناحية من السرداق وقد كان قبل ذلك يسير بين المنصور وبين صاحب الشرطة ورفع الناس إليه القصص فلما رايته علمت أن
32

المنصور قد مات.
واقبل الحسن بن زيد العلوي وجاء الناس حتى ملؤوا السرادق وسمعنا همسا من بكاء وخرج أبو العنبر خادم المنصور مشقق الأقبية وعلى رأسه التراب وصاح: وا أمير المؤمنيناه! فما بقي أحد إلا قام، ثم تقدموا ليدخلوا عله فمنعهم الخدم، وقال ابن عياش المنتوف سبحان الله اما شهدتم موت خليفة قط اجلسوا فجلسوا وقام القاسم فشق ثيابه ووضع التراب على رأسه وموسى جالس على حاله.
ثم خرج الربيع وفي يده قرطاس، ففتحه فقراه فإذا فيه بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله المنصور أمير المؤمنين إلى من خلف بعده من بني هاشم وشيعته من أهل خراسان وعامة المسلمين ثم ألقى القرطاس من يده وبكى وبكى الناس ثم قال قد أمكنكم البكاء فانصتوا رحمكم الله ثم قرا أما بعد فإني كتبت كتابي هذا وأنا حي في آخر يوم من أيام الدنيا وأول يوم من أيام الآخرة اقرأ عليكم السلام وأسأل الله أن لا يفتنكم بعدي ولا يلبسكم شيعا ولا يذيق بعضكم بأس بعض.
ثم اخذ في وصيتهم بالمهدي وأذكارهم البيعة له وحثهم على الوفاء بعهده ثم تناول يد الحسن بن زيد وقال قم فبايع فقام إلى موسى فبايعه ثم بايعه الناس الأول فالأول ثم ادخل بنو هاشم على المنصور وهو في أكفانه مكشوف الرأس فحملناه حتى أتينا به مكة ثلاثة أميال فكأني انظر إليه والريح تحرك شعر صدغيه وذلك انه كان وفر شعره للحلق وقد نصل خضابه حتى أتينا به حفرته.
33

وكان أول شيء ارتفع به علي بن عيسى بن ماهان أن عيسى بن موسى أبي من البيعة فقال علي بن عيسى بن ماهان والله لتبايعن ولأضربن عنقك فبايع ثم وجه موسى بن المهدي والربيع إلى المهدي بخبر وفاة المنصور وبالبيعة له مع منارة مولى المنصور وبعثا أيضا بالقضيب وبردة النبي وبخاتم الخلافة وخرجوا من مكة فقدم الخبر على المهدي مع منارة منتصف ذي الحجة فبايعه أهل بغداد.
وقيل أن الربيع كتم موت المنصور وألبسه وسنده وجعل على وجهه كلة خفيفة يرى شخصه منها ولا يفهم أمره وأدنى أهله منه ثم قرب منه الربيع كأنه يخاطبه ثم رجع إليهم وأمرهم عنه بتجديد البيعة للمهدي فبايعوا ثم أخرجهم وخرج إليهم باكيا مشقق الجيب لاطما رأسه فلما بلغ ذلك المهدي أنكره على الربيع وقال أما منعتك جلالة أمير المؤمنين أن فعلت به ما فعلت وقيل ضربه ولم يصح ضربه.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة عزل المنصور المسيب بن زهير عن شرطته وحبسه مقيدا وسبب ذلك انه ضرب أبان بن بشير الكاتب بالسياط حتى قتله لأنه كان شريك أخيه عمرو بن زهير في ولاية الكوفة واستعمل على شرطته الحكم بن يوسف صاحب الحراب ثم كلم المهدي أباه في المسيب فرضي عنه واعاده إلى شرطته.
وفيها استعمل المنصور نصر بن حرب بن عبد الله على ثغر فارس.
34

وفيها عاد المهدي من الرقة في شهر رمضان.
وفيها غزا الصائفة معيوف بن يحيى من درب الحدث فلقي العدو فاقتتلوا، ثم تحاجزوا.
وفيها حبس محمد بن إبراهيم الإمام وهو أمير مكة جماعة أمر المنصور بحبسهم وهم رجل من آل علي بن أبي طالب كان بمكة وابن جريج وعباد بن كثير وسفيان الثوري ثم أطلقهم من الحبس بغير أمر المنصور فغضب.
وكان سبب إطلاقهم انه أنكر وقال عمدت إلى ذي رحم فحبسته يعني بعض ولد علي والى نفر من أعلام المسلمين فحبستهم وتقدم أمير المؤمنين فلعله قام بقتلهم فيشد سلطانه وأهلك فأطلقهم وتحلل منهم، فلما قارب المنصور مكة أرسل إليه محمد بن إبراهيم بهدايا فردها عليه.
وفيها شخص المنصور من بغداد إلى مكة فمات في الطريق قبل أن يبلغها.
وفي هذه السنة غزا عبد الرحمن صاحب الأندلس مدينة قورية وقصد البربر الذين كانوا أسلموا عامله إلى شقنا فقتل منهم خلفا من أعيانهم واتبع شقنا حتى جاوز القصر الأبيض والدرب ففاته.
وفيها مات أورالي ملك جليقية وكان ملكه ست سنين وملك بعده شيالون.
وفيها توفي مالك بن مغول الفقيه البجلي بالكوفة وحيوة ين شريح
35

ابن مسلم الحضرمي المصري، وكان العامل على مكة والطائف إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي بن عبد الله وعلى المدينة عبد الصمد بن علي وعلى الكوفة عمرو بن زهير الضبي وقيل إسماعيل بن إسماعيل الثقفي وعلى قضائها شريك بن عبد الله النخعي وعلى خراجها ثابت بن موسى وعلى خراسان حميد بن قحطبة وعلى قضاء بغداد عبد الله بن محمد بن صفوان وعلى الشرطة بها عمر بن عبد الرحمن أخو عبد الجبار بن عد الرحمن وقيل موسى بن كعب وعلى خراج البصرة وأرضها عمارة بن حمزة وعلى قضائها والصلاة عبيد الله بن الحسن العنبري.
وأصاب الناس هذه السنة وباء عظيم.
36

159
ثم دخلت سنة تسع وخمسين ومائة
ذكر الحسن بن إبراهيم بن عبد الله
في هذه السنة حول المهدي الحسن بن إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي من محبسه.
وسبب ذلك انه كان محبوسا مع يعقوب بن داود في موضع واحد فلما أطلق يعقوب وبقي هو ساء ظنه فالتمس مخرجا فأرسل إلى بعض من يثق إليه فحفر سربا إلى الموضع الذي هو فيه فبلغ ذلك يعقوب فأتى ابن علاثة القاضي وكان قد اتصل به فقال عندي نصيحة للمهدي وطلب إليه ايصاله إلى أبي عبيد الله وزيره ليرفعها إليه فأحضره عنده فلما سأله عن نصيحته سأله عن إيصاله إلى المهدي ليعلمه بها فأوصله إليه فاستخلاه فاعلمه المهدي ثقته بوزيره وابن علاثة فلم يقل شيئا حتى قاما فأخبره خبر الحسن فانفذ من يثق إليه فاتاه بتحقيق الحال فأمر بتحويل الحسن فحول ثم احتيل له فيما بعد فهرب وطلب فلم يظفر به فاحضر المهدي يعقوب وسأله عنه فأخبره انه لا يعلم مكانه وانه أن أعطاه الأمان أتاه به فأمنه وضمن له الاحسان فقال له اترك طلبه فان ذلك يوحشه فترك طلبه ثم أن يعقوب تقدم عند المهدي فاحضر الحسن بن إبراهيم عنده.
37

ذكر تقدم يعقوب عند المهدي
قد تقدم ذكر وصوله إليه فلما أحضره المهدي عنده في أمر الحسن بن إبراهيم كما تقدم قال له يا أمير المؤمنين انك قد بسطت عدلك لرعيتك وأنصفتهم وأحسنت إليهم فعظم رجائهم وقد بقيت أشياء لو ذكرتها [لك] لم تدع النظر فيها، وأشياء خلف بابك تعمل ولا تعلم بها فان جعلت إلي السبيل إليك رفعتها.
فأمر بذلك فكان يدخل عليه كلما أراد ويرفع إليه النصائح في الأمور الحسنة الجميلة من أمر الثغور وبناء الحصون وتقوية الغزاة وتزويج العزاب وفكاك الأسرى والمحبوسين والقضاء على الغارمين والصدقة على المتعففين، فحظي عنده بذلك وعلت منزلته حتى سقطت منزلة أبي عبيد الله وحبس وكتب المهدي توقيعا بأنهم قد اتخذه أخا في الله ووصله بمائة ألف.
ذكر ظهور المقنع بن خراسان
ففي هذه السنة قبل موت حميد بن قحطبة، ظهر المقنع بخراسان وكان رجلا أعور قصيرا من أهل مرو ويسمى حكيما وكان اتخذ وجها من ذهب فجعله على وجهه لئلا يرى فسمي المقنع وادعى الألوهية ولم يظهر ذلك إلى جميع أصحابه وكان يقول: أن الله خلق
38

آدم فتحول في صورته ثم في صورة نوح وهلم جرا إلى أبي مسلم الخراساني ثم تحول في صورته ثم في صورة نوح وهلم جرا إلى أبي مسلم الخراساني ثم تحول إلى هاشم وهاشم في دعواه هو المقنع ويقول بالتناسخ وتابعه خلق من ضلال الناس وكانوا يسجدون له من أي النواحي كانوا وكانوا يقولون في الحرب يا هاشم أعنا.
واجتمع إليه خلق كثير وتحصنوا في قلعة بسنام وسنجردة وهي من رساتيق كش وظهرت المبيضة ببخارى والصغد معاونين له وأعانه كفار الأتراك وأغاروا على أموال المسلمين.
وكان يعتقد أن أبا مسلم أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم وكان ينكر قتل يحيى بن زيد وادعى أنه يقتل قاتليه.
واجتمعوا بكش وغلبوا على بعض قصورا وعلى قلعة نواكث وحاربهم أبو النعمان والجنيد وليث بن نصر مرة بعد مرة وقتلوا حسان بن تميم بن نصر بن سيار ومحمد بن نصر وغيرهما.
وأنفذ إليهم جبرائيل بن يحيى وأخاه يزيد واشتغلوا بالمبيضة الذين كانوا ببخارى فقاتلوهم أربعة أشهر في مدينة بومجكث ونقبها عليهم فقتل منهم سبعمائة وقتل الحكم ولحق منهزموهم بالمقنع وتبعهم جبرائيل وحاربهم ثم سير المهدي أبا عون لمحاربة المقنع فلم يبالغ في قتالهم واستعمل معاذ بن مسلم.
39

ذكر عدة حوادث
في هذه السنة عزل المهدي إسماعيل عن الكوفة واستعمل عليها إسحاق بن الصباح الكندي ثم الأشعثي وقيل عيسى بن لقمان بن محمد بن حاطب الجمحي.
وفيها عزل سعيد بن دعلج عن أحداث البصرة وعبيد الله بن الحسن عن الصلاة واستعمل مكانهما عبد الملك بن أيوب بن ظبيان النميري وأره بإنصاف من تظلم من سعيد بن دعلج ثم صرفت الأحداث فيها إلى عمارة بن حمزة فولاها المسور بن عبد الله الباهلي.
وفيها عزل قثم بن العباس عن اليمامة عن سخطة فوصل كتاب عزله فقد مات واستعمل مكانه بشر بن المنذر البجلي.
وفيها عزل الهيثم بن سعيد عن الجزيرة واستعمل عليها الفضل بن صالح.
وفيها أعتق المهدي الخيزران أم ولده وتزوجها وهي أم الهادي والرشيد وتزوج أم عبد الله بنت صالح بن علي أخت الفضل وعبد الملك.
وفيها احترقت السفن عند قصر عيسى ببغداد بما فيها واحترق ناس كثير.
وفيها عزل مطر مولى المنصور عن مصر واستعمل عليها أبو ضمرة محمد بن سليمان.
وفيها غزا العباس بن محمد الصائفة الرومية وعلى المقدمة الحسن
40

الوصيف، فبلغوا أنقرة وفتحوا مدينة للروم ومطمورة ولم يصب من المسلمين أحد ورجعوا سالمين.
وفيها ول حمزة بن يحيى سجستان وجبرائيل بن يحيى سمرقند فبنى سورها وحفر خندقها.
وفيها عزل عبد الصمد بن علي عن المدينة واستعمل عليها محمد بن عبد الله الكثيري ثم عزله واستعمل مكانه محمد بن عبيد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن صفوان الجمحي.
وفيها بنى المهدي صور الرصافة ومسجدها وحفر خندقها.
وفيها توفي معبد بن الخليل بالسند وهو عامل المهدي عليها واستعمل مكانه روح بن حاتم أشار به أبو عبيد الله وزير المهدي.
وفيها أطلق المهدي من كان في حبوس المنصور إلا من كان عنده تبعة من دم أو مال أو من يسعى في الأرض بالفساد وكان فيمن أطلق يعقوب بن داود مولى بنى سليم.
وفيها توفي حميد بن قحطبة وهو عامل المهدي على خراسان واستعمل المهدي بعده عليها أبا عون عبد الملك بن يزيد.
وحج بالناس هذه السنة يزيد بن منصور خال المهدي عند قدومه من اليمن وكان المهدي قد كتب إليه بالقدوم عليه وتوليته الموسم.
وكان أمير المدينة عبد الله بن صفوان الجمحي وعلى أحداث الكوفة إسحاق بن الصباح الكندي وعلى خراجها ثابت بن موسى وعلى قضائها شريك وعلى صلاة البصرة عبد الملك بن أيوب وعلى أحداثها عمارة بن حمزة وعلى قضاءها عبيد الله بن الحسن وعلى كور دجلة وكور الأهواز
41

وكور فارس عمارة بن حمزة وعلى السند بسطام بن عمرو وعلى اليمن رجاء بن روح وعلى اليمامة بشر بن المنذر وعلى خراسان أبو عون عبد الملك بن يزيد، وكان حميد بن قحطبة قد مات فيها فولى المهدي أبا عون.
وكان على الجزيرة الفضل بن صالح وعلى إفريقيا يزيد بن حاتم وعلى مصر أبو ضمرة محمد بن سليمان.
وفيها كان شقنا قد انتشر في نواحي شنت برية فسير إليه عبد الرحمن صاحب الأندلس جيشا ففارق مكانه وصعد الجبال كعادته فعاد الجيش عنه.
وفيها مات محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب الفقيه بالكوفة وهو مدني وعمره تسع وسبعون سنة وفيها توفي عبد العزيز بن أبي رواد مولى المغيرة بن المهلب وينس بن أبي إسحاق السبيعي الهمذاني ومخرمة بن بكير بن عبد الله بن الأشج المصري وحسين بن واقد بن عامر وكان على قضاء مرو وكان يشتري الشيء من السوق فيحمله إلى عياله.
42

160
ثم دخلت سنة ستين ومائة
ذكر خروج يوسف البرم
في هذه السنة خرج يوسف بن إبراهيم المعروف بالبرم بخراسان منكرا هو ومن معه على المهدي سيرته التي يسير بها واجتمع معه بشر كثير فتوجه إليه يزيد بن مزيد الشيباني وهو ابن أخي معن بن زائدة فلقيه فاقتتلا حتى صارا إلى المعانقة فأسره يزيد بن مزيد وبعث به إلى المهدي وبعث معه وجوه أصحابه فلما بلغوا النهروان حمل يوسف على بعير قد حوله وجهه إلى ذنبه وأصحابه مثله فأدخلوهم الرصافة على تلك الحال وقطعت يد يوسف ورجاله وقتل هو وأصحابه وصلبوا على الجسر.
وقد قيل إنه كان حروريا وتغلب على بوشنج وعليها مصعب بن زريق جد طاهر بن الحسين فهرب منه وتغلب أيضا على مرو الروض والطالقان والجوزجان وقد كان من جملة أصحابه أبو معاذ الفريابي فقبض معه.
43

ذكر خلع عيسى بن موسى وبيعة موسى الهادي
كان جماعة من بني هاشم وشيعة المهدي قد خاضوا في خلع عيسى بن موسى من ولاية العهد والبيعة لموسى الهادي بن المهدي فلما علم المهدي بذلك سره وكتب إلى عيسى بن موسى بالقدوم عليه وهو بقرية الرحبة من أعمال الكوفة روح بن حاتم للإضراب به فلم يجد روح إلى الأضرار به سبيلا لأنه كان لا يقرب البلد إلا كل جمعة أو يوم عيد.
وألح المهدي عليه وقال له انك أن لم تجبني إلى أن تنخلع من ولاية العهد لموسى وهارون استحللت منك بمعصيتك ما يستحل من أهل المعاصي وان أجبتني عوضتك منها ما هو أجدى عليك واعجل نفعا فلم يقدم عليه وخيف انتقاضه فوجه إليه المهدي عمه العباس بن محمد برسالة وكتاب يستدعيه فلم يحضر معه فلما عاد العباس وجه المهدي إليه أبا هريرة محمد بن فروخ القائد في ألف من صاحبه ذوي البصائر في التشيع للمهدي وجعل مع كل واحد منهم طبلا وأمرهم أن يضربوا طبولهم جميعا عند قدومهم إليه فوصلوا سحرا وضربوا طبولهم فارتاع عيسى روعا شديدا ودخل عليه أبو هريرة وأمره بالشخوص معه فاعتل بالشكوى فلم يقبل منه وأخذه معه.
فلما قدم عيسى بن موسى نزل دار محمد بن سليمان في عسكر المهدي فأقام أياما يختف إلى المهدي ولا يكلم بشيء ولا يرى مكروها فحضر الدار يوما قبل جلوس المهدي فجلس في مقصورة للربيع وقد اجتمع شيعة
44

رؤساء المهدي على خلعه فثاروا به وهو في المقصورة فاغلق الباب دونهم فضربوا الباب بالعمد حتى هشموه وشتموه عيسى أقبح الشتم واظهر المهدي إنكارا لما فعلوه فلم يرجعوا فبقوا في ذلك أياما إلى أن طائفة أكابر أهل بيته وكان أشدهم عليه محمد بن سليمان.
وألح عليه المهدي فأبى وذكر أن عليه ايمانا في أهله وماله فاحضر له من القضاة والفقهاء عدة منهم محمد بن عبد الله بن علاثة ومسلم بن خالد الزنجي فأفتوه بما رأوه فأجاب إلى خلع نفسه فأعطاه المهدي عشرة آلاف ألف درهم وضياعا بالزاب وكسكر وخلع نفسه لأربع بقين من المحرم وبايع للمهدي ولابنه موسى الهادي.
ثم جلس المهدي من الغد واحضر أهل بيته واخذ بيعتهم ثم خرج إلى الجامع وعيسى معه فخطب الناس وأعلمهم بخلع عيسى والبيعة للهادي ودعاهم إلى البيعة فسارع الناس إليها واشهد على عيسى بالخلع فقال بعض الشعراء:
(كره الموت أبو موسى وقد * كان في الموت نجاة وكرم)
(خلع الملك وأضحى ملبسا * ثوب لوم ما ترى منه القدم)
(الرحبة بضم الراء قرية عند الكوفة وصبح بضم الصاد المهملة وكسر الباء الموحدة).
45

ذكر فتح مدينة باربد
كان المهدي قد سير سنة تسع وخمسين ومائة جيشا في البحر وعليهم عبد الملك بن شهاب المسمعي إلى بلاد الهند في جمع كثير من الجند والمتطوعة وفيهم الربيع بن صبيح فساروا حتى نزلوا على باربد فلما نازلوها حصروها من نواحيها وحرض الناس بعضهم بعضا على الجهاد وضايقوا أهلها ففتحها الله عليهم هذه السنة عنوة واحتمى أهلها بالبد الذي لهم فأحرقه المسلمون عليهم فاحترق بعضهم وقتل الباقون واستشهد من المسلمين بضعة وعشرون رجلا وأفاءها الله عليهم فهاج عليهم البحر فأقاموا إلى أن يطيب فأصابهم مرض في أفواههم يقال له حمام قر فمات منهم نحو من ألف رجل فيهم الربيع بن صبيح ثم رجعوا.
فلما بلغوا ساحلا من فارس يقال له بحر حمران عصفت بهم الريح ليلا فانكسر عامة مراكبهم فغرق البعض، ونجا البعض.
* * *
قيل: وفيها جعل أبان بن صدقة كاتبا لهارون الرشيد ووزيرا له.
وفيها عزل أبو عون عن خراسان عن سخطة واستعمل عليها معاذ ابن مسلم.
وفيها غزا ثمامة بن [الوليد] العبسي الصائفة وغزا الغمر بن العباس الخثعمي بحر الشام.
46

ذكر رد نسب آل بكرة وآل زياد
وفيه هذه السنة أمر المهدي برد نسب آل أبي بكرة من ثقيف إلى ولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبب ذلك أن رجلا منهم رفع في ظلامته إلى المهدي وتقرب إليه [فيها] بولاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له المهدي أن هذا نسب ما يقرون به إلا عند الحاجة والاضطرار إلى التقرب إلينا فقال له من جحد ذلك يا أمير المؤمنين فانا سنقر وأنا أسألك أن تردني ومعشر آل أبي بكرة إلى نسبنا من ولاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأمر بآل زياد فيخرجوا من نسبهم الذي الحقوا به ورغبوا عن قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الولد للفراش وللعاهر الحجر ويردوا إلى عبيد في موالي ثقيف.
فأمر المهدي برد آل أبي بكرة إلى ولاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتب فيه إلى محمد بن موسى بذلك وان من أقر منهم بذلك ترك ماله بيده ومن أباه اصطفى ماله.
فعرضهم فأجابوا جميعا إلا ثلاثة نفر وكذلك أيضا أمر برد نسب آل زياد إلى عبيد وأخرجهم قريش.
فكان الذي حمل المهدي على ذلك مع الذي ذكرناه أن رجلا من آل زياد قدم عليه يقال له الصغدي بن سلم بن حرب بن زياد فقال له المهدي من أنت؟ فقال: ابن عمك فقال: أي بني عمي أنت؟ فذكر
47

نسبه؛ فقال المهدي: يا بن سمية الزانية! متى كنت ابن عمي؟ وغضب وأمر به فوجئ في عنقه واخرج وسأل عن استلحاق زياد ثم كتب إلى العامل بالبصرة باخراج آل زياد من ديوان قريش والعرب وردهم إلى ثقيف وكتب في ذلك كتابا بالغا يذكر فيه استلحاق زياد ومخالفة حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه فأسقطوا من ديوان قريش ثم انهم بعد ذلك رشوا العمال حتى ردوهم إلى ما كانوا فقال خالد النجار:
(أن زيادا ونافعا وأبا * بكرة عندي من أعجب العجب)
(ذا قرشي كما يقول وذا * مولى وهذا بزعمه عربي)
ذكر عدة حوادث
وفي هذه السنة توفي عبد الله بن صفوان الجمحي أمير المدينة واستعمل عليها مكانه محمد بن عبد الله الكثيري ثم عزل واستعمل مكانه زفر بن عاصم الهلالي وجعل على القضاء عبد الله بن محمد بن عمران الطلحي.
وفيها خرج عبد السلام الخارجي بنواحي الموصل.
وفيها عزل بسطام بن عمرو عن السند واستعمل عليها روح بن حاتم؛ وحج بالناس هذه السنة المهدي واستخلف على بغداد ابنه موسى وخاله يزيد بن منصور واستصحب معه جماعة من أهل بيته وابنه هارون الرشيد،
48

وكان معه يعقوب بن داود فاتاه بمكة بالحسن بن إبراهيم بن عبد الله العلوي الذي كان استأمن له فوصله المهدي واقطعه.
وفيها نزع المهدي كسوة الكعبة وكساها كسوة جديدة وكان سبب نزعها أن حجبة الكعبة ذكروا له انهم يخافون على الكعبة أن تتهدم لكثرة ما عليها من الكسوة فنزعها وكانت كسوة هشام بن عبد الملك من الديباج الثخين وما قبلها من عمل اليمن وقسم مالأ عظيما وكان معه من العراق ثلاثون ألف ألف درهم ووصل إليه من مصر ثلاثمائة ألف دينار ومن اليمن مائتا ألف دينار ففرق ذلك كله وفرق مائة ألف ثوب وخمسين ألف ثوب ووسع مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم واخذ خمسمائة من الأنصار يكونون حرسا له بالعراق وأقطعهم بالعراق وأجرى عليهم الأرزاق.
وحمل إليه محمد بن سليمان الثلج إلى مكة وكان أول خليفة حمل إليه الثلج إلى مكة ورد المهدي على أهل بيته وغيرهم وظائفهم التي كانت مقبوضة عنهم.
وكان على البصرة وكور دجلة والبحرين وعمان وكور الأهواز وفارس محمد بن سليمان وعلى خراسان معاذ بن مسلم وباقي الأمصار على ما تقدم ذكره.
وفيها أرسل عبد الرحمن الأموي بالأندلس أبا عثمان عبيد الله بن عثمان وتمام بن علقمة إلى شقنا فحاصراه شهورا بحصن شيطران وأعياهما أمره فقفلا عنه ثم أن شقنا بعد عودهما عنه خرج من شيطران إلى قرية من قرى شنت برية راكبا على بغلته التي تسمى الخلاصة فاغتاله
49

أبو معن وأبو خزيم وهما من أصحابه فقتلاه ولحقا بعبد الرحمن ومعهما رأسه فاستراح الناس من شره.
وفيها مات داود بن نصير الطائي الزاهد وكان من أصحاب أبي حنيفة وعبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عد الله بن الزاهد وكان من أصحاب أبي حنيفة وعبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود المسعودي أيضا وشعبة بن الحجاج أبو بسطام وكان عمره سبعا وسبعين سنة وإسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي وقيل توفي سنة أربع وستين.
وفيها توفي الربيع بن مالك بن أبي عامر عم مالك بن انس الفقيه كنيته أبو مالك وكانوا أربعة اخوة أكبرهم انس والد مالك ثم أويس جد إسماعيل بن أويس ثم نافع ثم الربيع.
وفيها توفي خليفة بن خياط العصفري الليثي وهو جد خليفة نبن خياط.
(خياط بالخاء المعجمة وبالياء المثناة من تحت) وفيها توفي الخليل بن احمد البصري الفرهودي النحوي؛ الإمام المشهور في النحو، أستاذ سيبويه.
50

161
ثم دخلت سنة إحدى وستين ومائة
ذكر هلاك المقنع
في هذه السنة سار معاذ بن مسلم وجماعة من القواد والعساكر إلى المقنع وعلى مقدمته سعيد الحرشي واتاه عقبة بن مسلم من زم فاجتمع به بالطواويس وأوقعوا بأصحاب المقنع فهزموهم فقصد المنهزمون إلى المقنع بسنام فعمل خندقها وحصنها واتاهم معاذ فحاربهم فجرى بينه وبين الحرشي نفرة فكتب الحرشي إلى المهدي يقع في معاذ ويضمن له الكفاية أن افرده بحرب المقنع فأجابه المهدي إلى ذلك فانفرد الحرشي بحربه وأمده معاذ بابنه رجاء في جيش وبكل ما التمسه منه وطال الحصار على المقنع فطلب أصحابه الأمان سرا منه فأجابهم الحرشي إلى ذلك فخرج نحو ثلاثين ألفا وبقي معه زهاء ألفين من أرباب البصائر وتحول رجاء بن معاذ وغيره فنزلوا خندق المقنع في أصل القلعة وضايقوه.
فلما أيقن بالهلاك جمع نساؤه وأهله وسقاهم السم فأتى عليهم،
51

وأمر أن يحرق هو بالنار لئلا يقدر على جئته وقيل بل احرق كل ما في قلعته من دابة وثوب وغير ذلك ثم قال من أحب أن يرتفع معي إلى السماء فليلق نفسه معي في هذه النار وألقى بنفسه مع أهله ونسائه مع أهله ونسائه وخواصه فاحترقوا ودخل العسكر القلعة فوجدوها خالية خاوية.
وكان ذلك مما زاد في افتتان من بقي من أصحابه والذين يسمون المبيضة بما وراء النهر من أصحابه إلا انهم يسرون اعتقادهم وقيل بل شرب هو أيضا من السم فمات فانفذ الحرشي رأسه إلى المهدي فوصل إليه وهو بحلب سنة ثلاث وستين ومائة في غزواته.
ذكر تغير حال أبي عبيد الله
في هذه السنة تغيرت حال أبي عبيد الله المهدي وقد ذكرنا فيما تقدم سبب اتصاله به أيام المنصور ومسيره معه إلى خراسان فحكي الفضل بن الريع أن الموالي كانوا يقعون في أبي عبيد الله عند المهدي ويحرضونه عليه؛ وكانت كتب أبي عبيد الله ترد على المنصور بما يفعل ويعرضها على الربيع ويكتب الكتب إلى المهد بالوصاية به وترك القول فيه.
ثم أن الربيع حج مع المنصور حين مات وفعل في بيعة المهدي ما ذكرناه فلما قدم جاء إلى باب أبي عبيد الله قبل المهدي وقبل أن يأتي أهله فقال له ابنه الفضل تترك أمير المؤمنين ومنزلك وتأتيه قال هو صاحب الرجل،
52

وينبغي أن نعامله غير ما كنا نعامله به ونترك ذكر نصرتنا له.
فوقف على بابه من المغرب إلى أن صليت العشاء الآخرة ثم أذن له فدخل فلم يقم له وكان متكئا فلم يجلس ولا اقبل عليه، وأراد الربيع أن يذكر له ما كان منه في أمر البيعة فقال قد بلغنا أمركم فأوغر صدر الربيع فلما خرج من عنده قال به ابنه الفضل لقد بلغ هذا بك ما فعل وكان الرأي أن لا تأتيه وحيث أتيته وحجبك أن تعود وحيث دخلت عليه فلم يقم لك أن تعود.
فقال لابنه: أنت أحمق حيث تقول كان ينبغي أن لا تجيء وحيث جئت وحجبت أن تعود ولما دخلت فلم يقم لك كان ينبغي أن تعود ولم يكن الصواب إلا ما عملته ولكن والله وأكد اليمين لأخلعن جاهي ولأنفقن مالي حتى أبلغ مكروهه.
وسعى في أمره فلم يجد عليه طريقا لاحتياطه في أمر دينه واعماله فاتاه من قبل ابنه محمد فلم يزل يحتال ويدس إلى المهدي ويتهمه ببعض حرمه وبأنه زنديق حتى استحكمت التهمة عند المهدي بابنه فأمر به فاحضر واخرج أبوه ثم قال له يا محمد اقرا فلم يحسن يقرا شيئا فقال لأبيه ألم تعلمني أن ابنك يحفظ القرآن قال بلى ولكنه فارقني منذ سنين وقد نسي قال فقم فتقرب إلى الله بدمه فقام ليقتل ولده فعثر فوقع فقال العباس بن محمد أن رأيت أن تعفي الشيخ فافعل فأمر بابنه فضربت عنقه وقال له الربيع يا أمير المؤمنين تقتل ابنه وتثق اله لا ينبغي ذلك فاستوحش منه وكان من أمره ما نذكره.
53

ذكر عبور الصقلبي إلى الأندلس وقتله
وفي هذه السنة وقيل سنة ستين عبر عبد الرحمن بن حبيب الفهري المعروف بالصقلبي وإنما سمي به لطوله ورزقته وشقرته من إفريقية إلى الأندلس محاربا ليدخلوا في الطاعة للدولة العباسية وكان عبوره في ساحل تدمير، وكاتب سليمان بن يقظان بالدخول في أمره ومحاربة عبد الرحمن الأموي والدعاء إلى طاعة المهدي.
وكان سليمان ببرشلونة فلم يجبه فاغتاظ عليه وقصد بلده فين معه من البربر فهزمه سليمان فعاد الصقلبي إلى تدمير وسار عبد الرحمن الأموي نحوه في العدد والعدة وأحرق السفن تضييقا على الصقلبي في الهرب فقصد الصقلبي جبلا منيعا بناحية بلنسية فبذل الأموي ألف دينار لمن أتاه برأسه فاغتاله رجل من البربر فقتله وحمل رأسه إلى عبد الرحمن فأعطاه ألف دينار وكان قتله سنة اثنتين وستين ومائة.
ذكر عدة حوادث
وفيها ظفر نصر بن محمد بن الأشعث بعبد الله بن مروان بالشام فأخذه وقدم به على المهدي فحبسه في المطبق وجاء عمرو بن سهلة الأشعري فادعي أن عبد الله قتل أباه وحاكمه عند عافية القاضي فتوجه الحكم على
54

عبد الله فجاء عبد العزيز بن مسلم العقيلي إلى القاضي فقال زعم عمرو بن سهلة أن عبد الله قتل أباه وكذب والله ما قتل أباه غيري أنا قتلته بأمر مروان وعبد الله بريء من دمه فترك عبد الله ولم يعرض المهدي لعبد العزيز لأنه قتله بأمر مروان.
وفيها غزا الصائفة ثمامة بن الوليد فنزل بدابق وجاشت الروم مع ميخائيل في ثمانين ألفا فأتى عمق مرعش فقتل وسبى وغنم وأتى مرعش فحاصرها فقاتلهم فقتل من المسلمين عدة كثيرة وكان عيسى بن علي مرابطا بحصن مرعش فانصرف الروم إلى جيحان، وبلغ الخبر المهدي فعظم عليه لغزو الروم على ما سنذكره سنة اثنتين وستين ومائة فلم يكن للمسلمين صائفة من أجل ذلك.
وفيها أمر المهدي ببناء القصور بطريق مكة أوسع من القصور التي بناها السفاح من القادسية إلى زبالة وأمر باتخاذ المصانع في كل منهل منها وبتجديد الأميال والبرك وبحفر الركايا وولى ذلك يقطين بن موسى وأمر بالزيادة في مسجد البصرة وتقصير المنابر في البلاد وجعلها بمقدار منبر النبي إلى اليوم.
وفيها أمر المهدي يعقوب بن داود بتوجيه الأمناء في جميع الأفاق ففعل فكان لا ينفذ المهدي كتابا إلى عامل فيجوز حتى يكتب يعقوب إلى أمينه بانفاذ ذلك.
وفيها غزا الغمر بن العباس في البحر.
وفيها ولى نصر بن محمد بن الأشعث السند ثم عزل بعبد الملك حين شهاب فبقي عبد الملك ثمانية عشر يوما ثم عزل وأعيد نصر من الطريق.
55

وفيها استقضى المهدي عافية القاضي مع ابن علاثة بالرصافة.
وفيها عزل الفضل بن صالح عن الجزيرة واستعمل عليها عبد الصمد بن علي واستعمل عيسى بن لقمان على مصر ويزيد بن منصور على سواد الكوفة وحسان الشروي على الموصل وبسطام بن عمرو التغلبي على أذربيجان.
وفيها توفي نصر بن مالك من فالج أصابه وولى المهدي بعده شرطته حمزة بن مالك وصرف أبان بن صدقة عن هارون الرشيد وجعل مع موسى الهادي وجعل مع هارون يحيى بن خالد بن برمك.
وفيها عزل محمد بن سليمان أبو ضمرة عن مصر في ذي الحجة ووليها سلمة بن رجاء؛ وحج بالناس موسى الهادي وهو ولي عهد وكان عامل مكة والطائف واليمامة جعفر بن سليمان وعامل اليمن علي بن سليمان وكان على سواد الكوفة يزيد بن منصور وعلى أحداثها إسحاق بن منصور.
وفيها توفي سفيان الثوري وكان مولده سنة سبع وتسعين وزائدة بن قدامة أبو الصلت الثقفي الكوفي وإبراهيم بن أدهم بن منصور أبو إسحاق الزاهد وكان مولده ببلخ وانتقل إلى الشام فأقام به مرابطا وهو من بكر بن وائل ذكره أبو حاتم البستي.
56

162
ثم دخلت سنة اثنتين وستين ومائة
ذكر قتل عبد السلام الخارجي
وفي هذه السنة قتل عبد السلام بن هاشم اليشكري بقنسرين وكان قد خرج بالجزيرة فاشتدت شوكته وكثر أتباعه فلقيه عدة من قواد المهدي فيهم عيسى بن موسى القائد فقتله في عدة ممن معه وهزم جماعة من القواد فيهم شبيب بن واج المروروذي فندب المهدي إلى شبيب ألف فارس وأعطى كل رجل منهم ألف درهم معونة فوافوا شبيبا فخرج بهم في طلب عبد السلام فهرب منه فأدركه بقنسرين فقاتله فقتله بها.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة وضع المهدي ديوان الأزمة وولي عليها عمرو بن مربع مولاه وأجرى المهدي على المجذمين وأهل السجون الأرزاق في جميع الأفاق.
57

وفيها خرجت الروم إلى الحدث فهدموا سورها وغزا الصائفة الحسن بن قحطبة في ثمانين ألف مرتزق سوى المتطوعة فبلغ حمة أذرولية وأكثر التحريق والتخريب في بلاد الروم ولم يفتح حصنا ولا لقي جمعا وسمته الروم التنين وقالوا إنما أتى الحمة ليغتسل من مائها للوضح الذي به ورجع الناس سالمين.
وفيها غزا يزيد بن أسيد السلمي من ناحية قاليقلا فغنم وافتتح ثلاثة حصون وسبى.
وفيها عزل علي بن سليمان عن اليمن واستعمل مكانه عبد الله بن سليمان وعزل سلمة بن رجاء من مصر ووليها عيسى بن لقمان في المحرم وعزل عنها في جمادى الآخرة ووليها واضح مولى المهدي ثم عزل في ذي القعدة ووليها يحيى الحرشي.
وفيها خرجت المحمرة بجرجان عليهم رجل اسمه عبد القهار فغلب عليها وقتل بشرا كثيرا فغزاه عمر بن العلاء من طبرستان فقتله عمر وأصحابه وكان العمال من تقدم ذكرهم فكانت الجزيرة مع عبد الصمد بن علي وطبرستان والرويان مع سعيد بن دعلج وجرجان مع مهلهل بن صفوان.
وفيها أرسل عبد الرحمن صاحب الأندلس شهيد بن عيسى إلى دحية الغساني وكان عاصيا في بعض حصون البيرة فقتله وسير بدرا مولاه إلى إبراهيم بن شجرة البرلسي وكان قد عصى فقتله وير أيضا ثمامة بن علقمة إلى العباس البربري وهو في جمع من البربر، وقد أظهر
58

العصيان فقتله أيضا وفرق جموعه.
وفيها سير جيشا مع حبيب بن عبد الملك القرشي إلى القائد السلمي. وكان حسن المنزلة عند عبد الرحمن أمير الأندلس فشرب ليلة وقصد باب القنطرة ليفتحه على سكر منه فمنعه الحرس فعاد فلما صحا خاف فهرب إلى طليطلة فاجتمع إليه كثير ممن يريد الخلاف والشر فعاجله عبد الرحمن بإنفاذ الجيوش إليه فنازله موضع قد تحصن فيه وحصره، ثم أن السلمي طلب البزاز فبرز إليه مملوك أسود فاختلفا ضربتين فوقعا صريعين ثم ماتا جميعا.
وفيها توفي عبد الرحمن بن زياد بن أنعم قاضي إفريقية وق جاوز تسعين سنة وسبب موته أنه أكل عند يزيد بن حاتم سمكا ثم شرب لبنا وكان يحيى بن ماسويه الطبيب حاضرا فقال أن كان الطب صحيحا مات الشيخ الليلة فتوفي من ليلته تلك والله أعلم.
59

163
ثم دخلت سنة ثلاث وستين ومائة
ذكر غزو الروم
في هذه السنة تجهز المهدي لغزو الروم فخرج وعسكر بالبردان وجمع الأجناد من خراسان وغيرها وسار عنها وكان قد توفي عيسى بن علي بن عبد الله بن عباس في جمادى الآخرة وسار المهدي من الغد واستخلف على بغداد ابنه موسى الهادي واستصحب معه ابنه هارون الرشيد وسار على الموصل والجزيرة وعزل عنها عبد الصمد بن علي في مسيره ذلك.
ولما حاذى قصر مسلمة بن عبد الملك قال العباس بن محمد بن علي المهدي أن لمسلمة في أعناقنا منة كان محمد بن علي مر به فأعطاه أربعة آلاف دينار وقال له إذا نفذت فلا تحتشمنا! فأحضر المهدي ولد مسلمة ومواليه وأمر لهم بعشرين ألف دينار وأجرى عليهم الأرزاق وعبر الفرات إلى حلب وأرسل وهو بحلب فجمع من بتلك الناحية من الزنادقة فجمعوا فقتلهم وقطع كتبهم بالسكاكين وسار عنها مشيعا لابنه هارون الرشيد حتى جاز الدرب وبلغ جيحان فسار هارون ومعه عيسى بن موسى وعبد الملك بن صالح والربيع والحسن بن قحطبة والحسن وسليمان بن برمك ويحيى بن خالد بن برمك وكان إليه أمر
60

العسكر والنفقات والكتابة وغير ذلك فساروا فنزلوا على حصن سمالوا فحصره هارون ثمانية وثلاثين يوما ونصب عليه المجانيق ففتحه الله عليهم بالأمان ووفى لهم وفتحوا فتوحا كثيرة.
ولما عاد المهدي من الغزاة زار بيت المقدس ومعه يزيد بن منصور والعباس بن محمد بن علي والفضل بن صالح بن علي وعلي بن سليمان بن علي وقفل المسلمون سالمين إلا من قتل منهم وعزل المهدي إبراهيم بن صالح عن فلسطين ثم رده.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة ولى المهدي ابنه هارون المغرب كله وأذربيجان وأرمينية وجعل كاتبه على الخراج ثابت بن موسى وعلى رسائله يحيى بن خالد بن برمك.
وفيها عزل زفر عاصم عن الجزيرة واستعمل عليها عبد الله بن صالح وفيها عزل المهدي معاذ بن مسلم عن خراسان واستعمل عليها المسيب بن زهير الضبي وعزل يحيى الحرشي عن أصبهان وولى مكانه الحكم بن سعيد وعزل سعيد بن دعلج عن طبرستان والرويان وولاهما عمر بن العلاء، وعزل مهلهل بن صفوان عن جرجان وولاها هشام بن سعيد.
وكان على مكة والمدينة والطائف واليمامة جعفر بن سليمان؛ وكان
61

على الكوفة إسحاق بن الصباح وعلى البصرة وفارس والبحرين والأهواز محمد بن سليمان وعلى السند نصر بن محمد بن الأشعث وعلى الموصل محمد بن الفضل.
وحج بالناس علي بن المهدي.
وفيها أظهر عبد الرحمن الأموي صاحب الأندلس التجهز للخروج إلى الشام بزعمه لمحو الدولة العباسية وأخذ ثأره منهم فعصى عليه سليمان بن يقظان والحسين بن يحيى بن سعيد بن سعد بن عثمان الأنصاري بسرقسطة واشتد أمرهما فترك ما كان عزم عليه.
وفيها مات موسى بن علي بن رباح اللخمي: (بضم العين مصغرا ورباح بالباء الموحدة).
وفيها مات إبراهيم بن طهمان وكان عالما فاضلا وكان مرجئا من أهل نيسابور ومات بمكة.
وفيها توفي أبو الأشهب جعفر بن حيان بالبصرة.
وفيها توفي بكار بن شريح قاضي الموصل بها وكان فاضلا وولي القضاء بها أبو مكرز الفهري واسمه يحيى بن عبد الله بن كرز.
62

164
ثم دخلت سنة أربع وستين ومائة
في هذه السنة غزا عبد الكبير بن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب بن درب الحدث فأتاه ميخائيل البطريق وطاراذ الأرمني البطريق في تسعين ألفا فخاف عبد الكبير ومنع الناس من القتال ورجع بهم فأراد المهدي قتله فشفع فيه فحبسه.
وفيها عزل المهدي محمد بن سليمان عن البصرة وسائر أعماله واستعمل صالح بن داود مكانه.
وفيها سار المهدي ليحج فلما بلغ العقبة ورأى قلة الماء خاف أن الماء لا يحمل الناس وأخذته أيضا حمى فرجع وسير أخاه صالحا ليحج بالناس ولحق الناس عطش شديد حتى كادوا يهلكون وغضب المهدي على يقطين لأنه صاحب المصانع.
وفيها عزل عبد الله بن سليمان عن اليمن عن سخطه ووجه من يستقبله ويفتش متاعه ويحصي ما معه واستعمل على اليمن منصور بن يزيد بن منصور وعلى إفريقية يزيد بن حاتم وكان العمال من تقدم ذكرهم وعلى الموصل محمد ابن الفضل.
وفيها سار عبد الرحمن الأموي إلى سرقسطة بعد أن كان قد سير إليها ثعلبة بن عبيد في عسكر كثيف وكان سليمان بن يقظان والحسين بن يحيى قد اجتمعا على خلع طاعة عبد الرحمن كما ذكرنا وهما بها فقاتلهما ثعلبة قتالا شديدا وفي بعض الأيام عاد إلى مخيمه فاغتم سليمان
63

غرته، فخرج إليه، وقبض عليه وأخذه وتفرق عسكره واستدعى سليمان قار له ملك الأفرنج ووعده بتسليم البلد وثعلبة إليه فلما وصل إليه لم يصح بيده غير ثعلبة فأخذه وعاد إلى بلاده وهو يظن أنه يأخذ به عظيم الفداء فأهمله عبد الرحمن مدة ثم وضع من طلبه من الفرنج فأطلقوه.
فلما كان هذه السنة سار عبد الرحمن إلى سرقسطة وفرق أولاده في الجهات ليدفعوا كل مخالف ثم يجتمعون بسرقسطة فسبقهم عبد الرحمن إليها وكان الحسين بن يحيى قم قتل سليمان بن يقظان وانفرد بسرقسطة فوافاه عبد الرحمن على أثر ذلك فضيق على أهلها تضييقا شديدا.
وأتاه أولاده من النواحي ومعهم كل من كان خالفهم وأخبروه عن طاعة غيرهم فرغب الحسين في الصلح وأذعن للطاعة فأجابه عبد الرحمن وصالحه وأخذ ابنه سعيدا رهينة ورجع عنه وغزا بلاد الفرنج فدوخها ونهب وسبى وبلغ قلهرة وفتح مدينة فكيرة وهدم قلاع تلك الناحية وسار إلى بلاد البشكنس ونزل على حصن مثمين الأقرع فافتتحه ثم تقدم إلى ملدوثون بن الهلال وحصر قلعته وقصد الناس جبلها وقاتلوهم فيها فملكوها عنوة وخربها ثم رجع إلى قرطبة.
وفيها ثارت فتنة بين بربر بلنسية وبربر شنت برية من الأندلس وجرى بينهم حروب كثيرة قتل فيها خلق كثير من الطائفتين وكانت وقائعهم مشهورة.
64

وفيها مات شيبان بن عبد الرحمن أبو معاوية التميمي النحوي البصري وعبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون وعيسى بن علي بن عبد الله بن عباس عم المنصور وقيل مات سنة ثلاث وستين وكان عمره ثمانيا وسبعين سنة وقيل ثمانين سنة وسعيد بن عبد العزيز الدمشقي وسلام بن مسكين النمري الأزدي أبو روح والمبارك بن فضالة بن أبي أمية القرشي مولى عمر بن الخطاب.
65

165
ثم دخلت سنة خمس وستين ومائة
ذكر غزو الروم
في هذه السنة سير المهدي ابنه الرشيد لغزو الروم صائفة في جمادى الآخرة في خمسة وتسعين ألفا وتسعمائة وثلاثة وتسعين رجلا ومعه الربيع فأوغل هارون في بلاد الروم ولقيه عسكر نقيظا قومس القوامسة فبارزه يزيد بن مزيد الشيباني فأثخنه يزيد وانهزمت الروم وغلب يزيد على عسكرهم.
وساروا إلى الدمستق وهو صاحب المسالح فحمل لهم مائة ألف دينار وثلاثة وتسعين ألفا وأربعمائة وخمسين دينارا ومن الورق واحدا وعشرين ألف ألف درهم وأربعة عشر ألف وثمانمائة درهم.
وسار الرشيد حتى بلغ خليج القسطنطينية، وصاحب الروم يومئذ عطسة امرأة أليون وذلك أن ابنها كان صغيرا قد هلك أبوه وهو في حجرها فجرى الصلح بينها وبين الرشيد على الفدية وأن تقيم له الأدلاء والأسواق في الطريق وذلك أنه دخل مدخلا ضيقا مخوفا فأجابته إلى ذلك، ومقدار الفدية سبعون ألف دينار كل سنة، ورجع عنها.
وكانت الهدنة ثلاث سنين، وكان مقدار ما غنم المسلمون إلى أن اصطلحوا
66

خمسة آلاف رأس سبي وستمائة وثلاثة وأربعين رأسا ومن الدواب الذلل بأدواتها عشرين ألف رأس وذبح البقر والغنم مائة ألف رأس، وقتل من الروم في الوقائع أربعة وخمسون ألفا، وقتل من الأسارى صبرا ألفان وتسعون أسيرا.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة عزل خلف بن عبد الله عن الري ووليها عيسى مولى جعفر.
وحج بالناس هذه السنة صالح بن المنصور وكان العمال من تقدم ذكرهم غير أن البصرة كان على أحداثها والصلاة بها روح بن حاتم وكان على كور دجلة والبحرين وعمان وكسكر والأهواز وفارس وكرمان المعلى مولى المهدي وكان على الموصل احمد بن إسماعيل بن علي بن عبد الله بن عباس.
وفيها غدر الحسين بن يحيى بسرقسطة فنكث مع عبد الرحمن فسير إليه عبد الرحمن غالب بن ثمامة بن علقمة في جند كثيف فاقتتلوا فأسر جماعة من أصحاب الحسين فيهم ابنه يحيى فسيرهم إلى الأمير عبد الرحمن فقتلهم وأقام ثمامة بن علقمة على الحسين يحصره ثم أن الأمير عبد الرحمن سار سنة ست وستين ومائة إلى سرقسطة بنفسه فحصرها،
67

وضايقها ونصب عليها المجانيق ستة وثلاثين منجنيقا فملكها عنوة وقتل الحسين أقبح قتلة ونفى أهل سرقسطة منها ليمين تقدمت منه ثم ردهم إليها.
وفيها مات يزيد بن منصور بن عبد الله بن يزيد بن شهر بن مثوب وهو من ولد شهر ذي الجناح الحميري خال المهدي وقد كان ولي اليمن والبصرة والحج.
وفيها توفي فتح بن الوشاح الموصلي الزاهد.
68

166
ثم دخلت سنة ست وستين ومائة
في هذه السنة أخذ المهدي البيعة لولده هارون الرشيد بولاية العهد بعد أخيه موسى الهادي ولقبه الرشيد. وفيها عزل عبيد الله بن الحسن العنبري عن قضاء البصرة واستقضى خالد بن طليق بن عمران بن حصين فاستعفى أهل البصرة منه.
ذكر القبض على يعقوب بن داود
وفي هذه السنة سخط المهدي على وزيره يعقوب بن داود بن طهمان وكان أول أمرهم أن داود بن طهمان وهو أبو يعقوب كان يكتب لنصر بن سيار هو واخوته فلما كان أيام يحيى بن زيد كان داود يعلمه ما يسمعه من نصر فلما طلب أبو مسلم الخراساني بدم يحيى بن زيد أتاه داود لما كان بينه وبين يحيى فأمنه أبو مسلم في نفسه وأخذ ماله الذي استفاد أيام نصر.
فلما مات خرج أولاده أهل أدب وعلم بأيام الناس وسيرهم وأشعارهم ولم يكن لهم عند بني العباس منزلة فلم يطمعوا في خدمتهم لحال أبيهم من كتابة نصر وأظهروا مقالة الزيدية ودنوا من آل الحسين وطمعوا أن تكون لهم دولة، فكان
69

داود يصحب إبراهيم بن عبد الله بن الحسن أحيانا ويخرج معه هو وعدة من إخوته فلما قتل إبراهيم طلبهم المنصور فأخذ يعقوب وعليا وحبسهما، فلما توفي المنصور أطلقهما المهدي من من أطلقه وكان معهما الحسن بن إبراهيم فاصل إلى المهدي بسببه كما تقدم ذكره وقيل اتصل به بالسعاية بآل علي ولم يزل أمره يرتفع حتى استوزره.
وكان المهدي يقول وصف لي يعقوب في منامي فقيل لي استوزره فلما رأيته رأيت الخلقة الت وصفت لي فاتخذته وزيرا فلما ولي الوزارة أرسل إلى الزيدية فجمعهم وولاهم الخلافة في المشرق والمغرب ولذلك قال بشار بن برد:
(بني أمية هبوا طال نومكم * أن الخليفة يعقوب بن داود)
(ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا * خليفة الله بين الناي والعود)
فحسده موالي المهدي وسعوا به وقيل له أن الشرق والغرب في يد يعقوب وأصحابه وإنما يكفيه أن يكتب إليهم فيثوروا في يوم واحد فيأخذوا الدنيا [لإسحاق بن الفضل].
فملأ ذلك قلب المهدي، ولما بنى المهدي عيساباذ أتاه خادم من خدمه فقال له أن أحمد بن إسماعيل علي قال لي أبنى متنزها أنفق عليه خمسين ألف ألف من بيت المال؟ فحفظها المهدي ونسي أحمد بن إسماعيل وظن أن يعقوب قالها، فبينما يعقوب بين يديه إذ لببه فضرب به الأرض وقال ألست القائل كيت رأيت فقال والله ما قتله ولا سمعته قال وكان السعاة يسعون بيعقوب ليلا ويتفرقون وهم يعتقدون أنه يقبضه بكرة فإذا أصبح غدا عليه فإذا نظر إليه تبسم وسأله عن مبيته.
70

وكان المهدي مستهترا بالنساء فيخوض يعقوب به في ذلك فيفترقان عن رضى؛ ثم إنه كان ليعقوب برذون كان يركبه فخرج يوما من عند المهدي وعليه طيلسان يتقعقع من كثرة دقه والبرذون مع الغلام وقد نام الغلام فركب يعقوب وأراد تسوية الطيلسان فنفر من قعقعته فسقط فدنا من دابته فرفسه فانكسر ساقه فانقطع عن الركوب، فعاده المهدي من الغد ثم انقطع عنه فتمكن السعادة منه فاظهر المهدي السخط عليه ثم أمر به فسجن في سجن نصر وأخذ عماله وأصحابه فحبسوا.
وقال يعقوب بن داود بعث إلي المهدي يوما فدخلت عليه وهو في مجلس مفروش بفرش مورد على بستان فيه شجر ورؤوس الشجر مع صحن المجلس وقد اكتسى ذلك الشجر بالأزهار من الخوخ والتفاح فما رأيت شيئا أحسن منه وعنده جارية عليها نحو ذلك الفرش ما رأيت أحسن منها فقال لي يا يعقوب كيف ترى مجلسنا هذا قلت على غاية الحسن فمتع الله أمير المؤمنين به قال هو لك بما فيه وهذه الجارية ليتم سرورك به قال فدعوت له ثم قال لي يا يعقوب ولي إليك حاجة أحب أن تضمن لي قضاءها قلت الأمر لأمير المؤمنين وعلي السمع والطاعة فاستحلفني بالله وبرأسه فحلفت لأعملن بما قال فقال هذا فلان بن فلان من ولد علي بن أبي وأحب أن تكفيني مؤنته وتريحني منه وتعجل ذلك قلت أفعل فأخذته وأخذت الجارية وجميع ما في المجلس وأمر لي بمائة ألف درهم فلشدة سروري بالجارية صيرتها في مجلس بيني وبينها ستر وأدخلت العلوي إلي وسألته عن حاله فأخبرني وإذا هو أعقل الناس وأحسنهم إبانة عن نفسه ثم قال ويحك يا يعقوب تلقى الله بدمي وأنا رجل من ولد فاطمة بنت
71

محمد.
قلت لا والله فهل فيك أنت خير قال كذا وكذا فأرسلت إلى من يثق إليه العلوي فأخذه وأعطيته مالأ وأرسلت الجارية إلى المهدي تعلمه الحال فأرسل إلى الطريق فأخذ العلوي وصاحبه والمال.
فلما كان الغد استحضرني المهدي وسألني عن العلوي فأخبرته أني قتلته فاستحلفني بالله وبرأسه فحلفت له فقال يا غلام اخرج الينا في هذا البيت فأخرج العلوي وصاحبه والمال فبقيت متحيرا وامتنع مني الكلام فما أدري ما أقول فقال المهدي قد حل لي دمك ولكن احبسوه في المطبق ولا أذكر به فحبست في المطبق واتخذ لي فيه بئر فدليت فيها فبقيت مدة لا أعرف عددها وأصبت ببصري وطال شعري حتى استرسل كهيئة البهائم قال فإني لكذلك إذا دعي بي وقيل يلي سلم على أمير المؤمنين فسلمت قال أي أمير المؤمنين أنا قلت المهدي قال رحم الله المهدي قلت فالهادي قال رحم الله الهادي قلت فالرشيد قال نعم سل حاجتك. قلت المقام بمكة فما بقي في مستمتع لشيء ولا بلاغ فاذن لي فسرت إلى مكة قال لم تطل أيامه بها حتى مات.
وكان يعقوب قد ضجر بموضعه قبل حبسه وكان أصحاب المهدي يشربون عنده فكان يعقوب ينهاه عن ذلك ويعظه ويقول ليس على هذا استوزرني ولا عليه صحبتك بعد الصلوات الخمس في المسجد الجامع يشرب عندك النبيذ فضيق على المهدي حتى قيل:
72

(فدع عنك يعقوب بن داود جانبا * وأقبل على صهباء طيبة النشر)
وقال يعقوب يوما للمهدي في أمر أراده هذا والله السرف! فقال المهدي: ويحك يا يعقوب إنما يحسن السرف بأهل الشرف ولولا السرف لم يعرف المكثرون من المقلين.
ذكر عدة حوادث
وفي هذه السنة سار المهدي إلى جرجان وجعل على قضائه أبا يوسف [يعقوب بن إبراهيم].
وفيها أمر المهدي بإقامة البريد بين مكة والمدينة واليمن ببغال وابل ولم يكن هنالك بريد قبل ذلك.
وفيها اضطربت خراسان على المسيب بن زهير، فولاها الفضل بن سليمان الطوسي أبا العباس وأضاف إليه سجستان فاستخلف على سجستان تميم بن سعيد بن دعلج.
وفيها أخذ المهدي داود بن روح بن حاتم وإسماعيل بن مجالد ومحمد بن أبي المكي ومحمد بن طيفور في الزندقة فاستتابهم وخلى سبيلهم وبعث داود إلى أبيه وهو على البصرة وأمره بتأديبه.
وفيها استعمل إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي بن عبد الله على المدينة وكان على مكة والطائف عبيد الله بن قثم وفيها عزل منصور بن يزيد بن منصور عن اليمن واستعمل مكانه
73

عبد الله بن سليمان الربعي.
وفيها أطلق المهدي عبد الصمد بن علي من حبسه؛ وحج بالناس إبراهيم بن يحيى، وكان على الكوفة هاشم بن عيد وعلى البصرة روح بن حاتم وعلى قضائها خالد بن طليق وعلى كور دجلة وكسكر واعمال البصرة والبحرين والأهواز وفارس وكرمان المعلي مولى المهدي وعلى مصر إبراهيم بن صالح وعلى إفريقية يزيد بن حاتم وعلى طبرستان والرويان وجرجان يحيى الحرشي وعلى دنباوند وقومس فراشة مولى المهدي وعلى الري سعد مولاه وعلى الموصل أحمد بن إسماعيل الهاشمي وقيل موسى بن كعب الخثعمي وعلى قضائها علي بن مسهر بن عمير ولم يكن في هذه السنة صائفة للهدنة [التي كانت فيها].
وفيها قتل بشار بن برد الشاعر الأعمى على الزندقة وكان خلق ممسوح العينين.
وفيها توفي الجراح بن مليح الرؤاسي وهو والد وكيع.
وفيها توفي المبارك بن فضالة وحماد بن سلمة البصري.
وفيها قتل عبد الرحمن الأموي صاحب الأندلس ابن أخيه المغيرة بن الوليد بن معاوية بن هشام وهذيل بن الصميل وسمرة بن جبلة لأنهم اجتمعوا على خلعه مع العلاء بن حميد القشيري فتقرب بهم.
74

167
ثم دخلت سنة سبع وستين ومائة
في هذه السنة سار موسى الهادي إلى جرجان في جمع كثيف وجهاز لم يتجهز أحد بمثله لمحاربة ونداد هرمز وشروين صاحبي طبرستان، وجعل المهدي على رسائل موسى أبان بن صدقة ومحمد بن جميل على جنده ونفيعا مولى المنصور على حجابته وعلي بن عيسى بن ماهان على حرسه فسير الهادي الجنود إليهما وأمر عليهم يزيد بن مزيد فحاصرهما.
وفيها توفي عيسى بن موسى بالكوفة فاشهد روح بن حاتم على وفاته القاضي وجماعة من الوجوه ودفن وكان عمره خمسا وستين سنة ومدة ولايته العهد ثلاثا وعشرين سنة وقد تقدم ذكر ولايته وعزله عنه.
وفيها جد المهدي ف طلب الزنادقة والبحث عنهم في الآفاق وقتلهم فأخذ يزيد بن الفيض فأقر فحبس فهرب فلم يقدر عليه وكان المتولي لأمر الزنادقة [عمر] الكلوذاني.
وفيها عزل المهدي أبا عبيد الله معاوية بن عبيد الله عن ديوان الرسائل وولاه الربيع.
وفيها كان الوباء ببغداد والبصرة وفشا في الناس سعال شديد.
وفيها توفي أبان بن صدقة كاتب المهدي فوجه المهدي مكانه أبا
75

خالد الأحول وفيها أمر المهدي بالزيادة في المسجد الحرام ومسجد النبي فدخلت فيه دور كثيرة وكان المتولي لبنائه يقطين بن موسى فبقي البناء فيه إلى أن توفي المهدي
وكذلك أمر بالزيادة في المسجد الجامع بالموصل ورأيت لوحا فيه ذكر ذلك وهو حائط الجامع سنة ثلاث وستمائة وهو باق.
وفيها عزل يحيى الحرشي عن طبرستان والرويان وما كان إليه ووليه عمر بن العلاء وولي جرجان فراشة مولى المهدي.
وفيها أظلمت الدنيا لثلاث مضين من ذي الحجة حتى تعالى النهار ولم يكن صائفة للهدنة التي كانت بين المسلمين والروم.
وحج بالناس إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس وهو على المدينة ثم توفي بعد فراغه من الحج بأيام وتولى مكانه إسحاق بن عيسى بن علي.
وفيها طعن عقبة بن سلم الهنائي اغتاله رجل بخنجر فمات ببغداد.
وكان على اليمن سليمان بن يزيد الحارثي وعلى اليمامة عبد الله بن مصعب الزبيري وكان على الصرة محمد بن سليمان وعلى قضائها عمر بن عثمان التيمي وعلى الموصل أحمد بن إسماعيل الهاشمي وقيل موسى بن كعب وباقي الأمصار كما تقدم.
وفي هذه السنة توفي جعفر الأحمر أبو شيبة والحسن بن صالح بن حبي وكان شيعيا عابدا وسعيد بن عبد الله بن عامر التنوخي وحماد بن سلمة وعبد العزيز بن مسلم.
76

وفيها أفسد العرب في بادية البصرة بين اليمامة والبحرين وقطعوا الطريق وانتهكوا المحارم وتركوا الصلاة فأرسل المهدي إليهم جيشا فقاتلهم واشتد القتال وصبر العرب فظفروا وقتلوا عامة العسكر المنفذ إليهم فقويت شوكتهم وزاد شرهم.
77

168
ثم دخلت سنة ثمان وستين ومائة
في هذه السنة في رمضان نقض الروم الصلح الذي كان بينهم وبين المسلمين وكان من أوله إلى أن نقضوه اثنان وثلاثون شهرا فوجه علي بن سليمان وهو على الجزيرة وقنسرين يزيد بن البدر البطال في خيل فغنموا وظفروا.
ذكر الخوارج بالموصل
وفيها خرج بأرض الموصل خارجي اسمه ياسين من بني تميم فخرج إليه عسكر الموصل فهزمهم وغلب على أكثر ديار ربيعة والجزيرة وكان يميل إلى مقالة صالح بن مسرح الخارجي، فوجه إليه المهدي أبا هريرة محمد بن فروخ القائد وهرثمة بن أعين مولى بني ضبة فحارباه فصبر لهما حتى قتل وعدة من أصحابه وانهزم الباقون.
ذكر مخالفة أبي الأسود بالأندلس
في هذه السنة ثار أبو الأسود محمد بن يوسف بن عبد الرحمن الفهري بالأندلس وكان من حديثه أنه كان في سجن عبد الرحمن بقرطبة من
78

حين هرب أبوه وقتل أخوه عبد الرحمن على ما تقدم وحبس أبو الأسود وتعامى في الحبس فصار يحاكي العميان ولا يطرف عينه لشيء وبقي دهرا طويلا حتى صح عند الأمير عبد الرحمن الأموي ذلك.
وكان في أقصى السجن سرداب يفضي إلى النهر الأعظم يخرج منه المسجونون فيقضون حوائجهم من غسل وغيره وكان الموكلون يهملون أبا الأسود لعماه فإذا رجع من النهر يقول من يدل الأعمى على موضعه؟
وكان مولى له يحادثه على شاطئ النهر ولا ينكر عليه فواعده أن يأتيه بخيل يحمله عليها فخرج يوما ومولاه ينتظره فعبر النهر سباحة وكب الخيل ولحق بطليطلة فاجتمع له خلق كثير فرجع بهم إلى قتال عبد الرحمن الأموي فالتقيا على الوادي الأحمر بقسطلونة واشتد القتال ثم انهزم أبو الأسود وقتل من أصحابه أربعة آلاف سوى من تردى في النهر واتبعه الأموي يقتل من لحق حتى جاوز قلعة الرباح ثم جمع إلى قتال الأموي في سنة تسع وستين فلما أحسن بمقدمة الأموي انهزم أصحابه وهو معهم فأخذ عياله وقتل أكثر رجاله وبقي إلى سنة سبعين فهلك بقرية من أعمال طليطلة.
وقام بعده أخوه قاسم وجمع جمعا فغزاه الأمير فجاء إليه بغير أمان فقتله.
ذكر عدة حوادث
وفيها هلك شيلون ملك جليقية فولوا مكانه اذفونش فوثب عليه مورقاط فقتله فاختل أمرهم، فدخل عليهم نائب عبد الرحمن
79

بطليطلة في عساكره فقتل وغنم وسبى ثم عاد سالما.
وفيها توفي أبو القاسم بن واسول مقدم الخوارج الصفرية بسجلماسة فجأة في صلاة العشاء الآخرة وكانت إمارته اثنتي عشرة سنة وشهرا وولي بعده ابنه إلياس.
وفيها سير المهدي سعيدا الحرشي في أربعين ألفا إلى طبرستان.
وفيها مات عمر الكلوذاني صاحب الزنادقة وولي مكانه محمد بن عيسى بن حمدويه فقتل من الزنادقة خلقا كثيرا.
وحج بالناس علي بن المهدي الذي يقال له ابن ريطة.
وفيها توفي يحيى بن سلمة بن كهيل وعبد الله بن الحسن العنبري قاضي البصرة ومندل بن علي ومحمد بن عبد الله بن علاثة بن علقمة القاضي والحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب وكان قد استعمله المنصور على المدينة خمس سنين ثم عزله وحبسه ببغداد وأخذ ماله فلما ولي المهدي أخرجه ورد عليه ماله وكان جوادا إلا أنه كان منحرفا عن أهل بيته مائلا إلى المنصور.
وفيها توفي بشر بن الربيع وعبثر بن القاسم.
(عبثر بفتح العين المهملة وبالباء الموحدة والثاء المثلثة).
80

169
ثم دخلت سنة تسع وستين ومائة
ذكر موت المهدي
في هذه [السنة] مات المهدي أبو عبد الله محمد بن عبد الله المنصور بماسبذان وسبب خروجه إليها أنه قد عزم على خلع ابنه موسى الهادي والبيعة للرشيد بولاية العهد وتقديمه على الهادي فبعث إليهم وهو بجرجان في المعنى فلم يفعل فبعث إليه في القدوم عليه فضرب الرسول وامتنع من القدوم عليه فسار المهدي يريده فلما بلغ ماسبذان أكل طعاما ثم قال إني داخل إلى البهو أنام فلا توقظوني حتى أكون أنا الذي انتبه فدخله فنام ونام أصحابه فاستيقظوا ببكائه فأتوه مسرعين فقال وقف على الباب رجل فقال:
(كأني بهذا القصر ق باد أهله * وأوحش منه ربعه ومنازله)
(وصار عميد القوم من بعد بهجة * وملك إلى قبر عليه جنادله)
(فلم يبق إلا ذكره وحديثه * تنادي عليه معولات حلائله)
فبقي بعد ذلك عشر أيام ومات.
وقد اختلف في سبب موته فقيل إنه كان يتصيد فطردت الكلاب ظبيا وتبعته فدخل باب خربة ودخلت الكلاب خلفه ثم تبعها فرس المهدي،
81

فدخلها فدق الباب ظهره، فمات من ساعته.
وقيل: بل بعثت جارية من جواريه إلى ضرة لها باناء فيه سم فدعا به المهدي فأكل منه فخافت الجارية أن تقول إنه مسموم فمات من ساعته.
وقيل: بل عمدت حسنة جارية له إلى كمثرى فأهدته إلى جارية أخرى كان المهدي يتخطاها وسمت منه كمثراة هي أحسن الكمثرى فاجتاز بالمهدي فدعا به وكان يحب الكمثرى فاخذ تلك الكمثراة المسمومة فأكلها فلما وصلت إلى جوفه صاح جوفي جوفي فسمعت صوته فجاءت تلطم وجهها وتبكي وتقول أردت أن أنفرد بك فقتلتك فمات من يومه ورجعت حسنة وعلى قبتها المسوح فقال أبو العتاهية في ذلك:
(رحن في الوشى وأقبلن * عليهن المسوح)
(كل نطاح من الدنيا * له يوم نطوح)
(لست بالباقي ولو * عمرت ما عمر نوح)
(فعلى نفسك نح أن * كنت لا بد تنوح)
وكان موته في المحرم لثمان بقين منه وكانت خلافته عشر سنين وشهرا وقيل عشر سنين وتسعا وأربعين يوما وتوفي وهو ابن ثلاث وأربعين سنة ودفن تحت جوزة كان يجلس تحتها وصلى عليه ابنه الرشيد وكان أبيض طويلا وقيل أسمر بإحدى عينيه نكتة بياض.
82

ذكر بعض سيرته
كان المهدي إذا جلس للمظالم قال أدخلوا علي القضاة فلو لم يكن ردي المظالم إلا للحياء منهم [لكفى].
وعتب المهدي على بعض القواد غير مرة وقال له في آخر ذلك إلى متى تذنب [إلى وأعفو]؟ قال: إلى أبد نسيء ويبقيك الله فتعفو عنا فاستحيا منه ورضي عنه.
وقال مسور بن مساور: ظلمني وكيل المهدي وغصبني ضيعة لي فكتبت إلي المهدي أتظلم فوصلت الرقعة وعنده عمه العباس ومحمد بن علاثة وعافية القاضي فاستدناني المهدي وسألني عن حالي فذكرته فقال أترضى بأحد هذين قلت نعم فاستدناني حتى التزمت بالفراش وحاكمني فقال له القاضي أطلقها له يا أمير المؤمنين قال قد فعلت فقال عمه العباس: والله لهذا المجلس أحب إلي من عشرين ألف ألف درهم.
وخرج المهدي متنزها، ومعه عمر بن ربيع مولاه فانقطعا في الصيد من العسكر وأصاب المهدي جوع فقال هل من شيء فقيل له نرى كوخا فقص دونه فإذا فيه نبطي وعنده مبقلة فسلموا عليه فرد السلام فقالوا هل من طعام فقال عندي ربيثاء وهو نوع من الصحناة وعندي خبز شعير فقال المهدي أن كان عندك زيت فقد
83

أكملت. قال: نعم وكراث فأتاهما بذلك فأكلا حتى شبعا فقال المهدي لعمر بن ربيع قل في هذا شعرا؛ فقال:
(أن من يطعم الربيثاء بالزيت * وخبز الشعير بالكراث)
(لحقيق بصفعة أو بثنتين * لسوء الصنيع أو بثلاث)
فقال المهدي بئس ما قلت! إنما هو:
(لحقيق ببدرة أو بثنتين * لحسن الصنيع أو بثلاث)
قال: ووافاهم العسكر، والخزائن والخدم فأمر للنبطي بثلاث بدر وانصرف.
وقال الحسن الوصيف: أصابتنا ريح شديدة أيام المهدي حتى ظننا تسوقنا إلى المحشر فخرجت أطلب المهدي فوجدته واضعا خده على الأرض وهو يقول اللهم احفظ
محمدا في أمته اللهم لا تشمت بنا أعداءنا من الأمم اللهم أن كنت أخذت هذا العالم بذنبي فهذه ناصيتي بين يديك قال فما لبثنا إلا يسيرا حتى انكشفت الريح وزال عنا ما كنا فيه.
ولما حضرت القاسم بن مجاشع التميمي المرزوي الوفاة أوصى إلى المهدي فكتب: (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم) الآية ثم كتب والقاسم يشهد بذلك ويشهد أن محمدا عبده ورسوله وأن علي بن أبي طالب وصى رسول الله ووارث الإمامة من بعده فعرضت الوصية على المهدي بعد موته فلما بلغ إلى هذا الموضع رمى بها ولم ينظر فيها.
84

وقال الربيع: رأيت المهدي يصلي في بهو له في ليلة مقمرة فما أدري أهو أحسن أم البهو أم القمر أم ثيابه فقرأ: (فهل عسيتم أن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم).
قال: فأتم صلاته ثم التفت إلي وقال يا ربيع قلت لبيك! قال: [علي] موسى؛ فقلت في نفسي: من موسى ابنه أم موسى بن جعفر وكان محبوسا عندي فجعلت أفكر فقلت ما هو إلا موسى بن جعفر فأحضرته فقطع صلاته ثم قال يا موسى إني قرأت هذه الآية فخفت أن أكون قد قطعت رحمك فوثق لي أنك لا تخرج [علي]. قال: نعم، فوثق له فخلاه.
وقال محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب: رأيت فيما يرى النائم، في آخر سلطان بني أمية، كأني دخلت مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفعت رأسي فنظرت في الكتاب الذي في المسجد بالفسيفساء فإذا فيه مما أمر به أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك وإذا قائل يقول يمحى هذا الكتاب ويكتب مكانه اسم رجل من بني هاشم يقال له محمد قلت فأنا من بني هاشم واسمي محمد فابن من؟ قال ابن عبد الله قال قتل فأنا ابن عبد الله فابن من؟ قال ابن محمد قلت فأنا ابن محمد فابن من؟ قال ابن علي قلت فأنا ابن علي فابن من؟ قال ابن عبد الله قلت فأنا ابن عبد الله
85

فابن من؟ قال ابن عباس فلو لم يبلغ العباس ما شككت أني صاحب الأمر.
قال فتحدثت بها ذلك الزمان ونحن لا نعرف المهدي حتى ولي المهدي فدخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع رأسه فرأى اسم الوليد فقال أرى اسم الوليد إلى اليوم فدعا بكرسي فألقي في صحن المسجد وقال ما أنا ببارح حتى يمحى ويكتب اسمي مكانه ففعل ذلك وهو جالس.
وخرج المهدي يطوف بالبيت ليلا فسمع أعرابية تقول قومي مقترون نبت عنهم العيون وفدحتهم الديون وعضتهم السنون بادت رجالهم وذهبت أموالهم وكثرت عيالهم أبناء سبيل وأنضاء طريق وصية الله ووصية الرسول فهل من أمر لي بخير كلأه الله في سفره وخلفه في أهله قال فأمر بها بخمسمائة درهم.
وقال المهدي: ما توسل أحد إلي بوسيلة هي أقرب من تذكيري يدا سلفت مني غليه اتبعها أختها وأحسن ربها فإن منع الأواخر يقطع شكر الأوائل.
وكان بشار بن برد قد هجا صالح بن داود أخا يعقوب حين ولي فقال:
(هم حملوا فوق المنابر صالحا * أخاك فضجت من أخيك المنابر)
فبلغ يعقوب هجاؤه فدخل المهدي فقال له أن هذا الأعمى المشرك قد هجا أمير المؤمنين قال وما قال قال يعفيني أمير المؤمنين من إنشاده فأبى أن يعفيه فأنشده:
(خليفة يزني بعماته * يلعب بالدبوق والصولجان)
86

(أبدلنا الله به غيره * ودس موسى في حر الخيزران)
فوجه في حمله فخاف يعقوب أن يقدم على المهدي فيمدحه فيعفو عنه فوجه إليه من يلقيه في البطيحة في الحرارة.
وماتت الياقوتة بنت المهدي وكان معجبا بها لا يطيق الصبر عنها حتى أنه كان يلبسها لبسة الغلمان ويركبها معه فلما ماتت وجد عليها وأمر أن لا يحجب عنه أحد فدخل الناس يعزونه وأجمعوا على أنهم لم يسمعوا تعزية أبلغ ولا أوجز من تعزية شبيب بن شيبة فإنه قال:
يا أمير المؤمنين! ما عند الله مما عندك خير لها منك وثواب الله خير لك منها وأنا أسأل الله أن يحزنك ولا فتنك وأن يعطيك على ما رزئت أجرا ويعقبك صبرا ولا يجهد لك بلاء ولا ينزع منك نعمة وأحق ما صبر عليه ما لا سبيل إلى رده.
ذكر خلافة الهادي
وبويع لابنه موسى الهادي في اليوم الذي مات فيه المهدي وهو مقيم بجرجان يحارب أهل طبرستان؛ ولما توفي المهدي كان الرشيد معه بماسبذان فأتاه الموالي والقواد وقالوا له أن علم الجند بوفاة المهدي لم يؤمن الشغب والرأي أن تنادي فيهم بالرجوع حتى تواريه ببغداد.
87

فقال هارون: ادعوا إلى أبي يحيى بن خالد وكان يحيى يتولى ما كان إلى الرشيد من أعمال المغرب من الأنبار إلى أفريقية فاستدعي بيحيى غلى الرشيد فقال ما تقول فيما رأى هؤلاء وأخبره الخبر قال لا أرى ذلك لأن هذا لا يخفى ولا آمن إذا علم الجند أن يتعلقوا بمحمله ويقولوا لا نخلي حتى يعطي لثلاث سنين وأكثر أو يتحكموا ويشتطوا ولكني أرى أن يوارى رحمه الله ههنا، وتوجه نصيرا إلى أمير المؤمنين الهادي بالخاتم والقضيب والتعزية والتهنئة فإن الناس لا ينكرون خروجه، إذ هو على بريد الناحية وأن تأمر لمن تبعك من الجند بجوائز مائتين وتنادي فيه بالرجوع فلا تكون لهم همة سوى أهلهم.
ففعل ذلك، فلما قبض الجند الدراهم تنادوا بغداد وأسرعوا إليها فلما بلغوها وعلموا خبر المهدي أتوا باب الربيع وأحرقوه وأخرجوا من كان في الحبوس وطالبوا بالأرزاق.
فلما قدم الرشيد بغداد أرسلت الخيزران إلى الربيع وإلى يحيى بن خالد تستدعيهما لتشاورهما في ذلك فأما الربيع فدخل عليها وأما يحيى فامتنع لما يعلم من غيرة الهادي وجمع الأموال حتى أعطى الجند لسنتين فسكتوا.
وكتب الهادي إلى الربيع كتابا يتهدده بالقتل وكتب إلى يحيى يشكره ويأمره بأن يقوم بأمر الرشيد.
88

وكان الربيع يود يحيى ويثق به فاستشاره فيما يفعل خوفا من الهادي فأشار عليه بأن يرسل ولده الفضل إلى طريق الهادي بالهدايا والتحف ويعتذر إليه ففعل ورضي الهادي عنه.
وكان الربيع قد أوصى إلى يحيى بن خالد وأخذت البيعة للهادي ببغداد، وكتب الرشيد إلى الأفاق بوفاة المهدي وأخذ البيعة للهادي، وسار نصير الوصيف إلى الهادي بجرجان فعلك بوفاة المهدي والبيعة له فنادى بالرحيل وركب على البريد مجدا فبلغ بغداد في عشرين يوما ولما قدمها استوزر الربيع.
وفي هذه السنة أيضا هلك الربيع.
وفيها اشتد طلب المهدي للزنادقة فقتل منهم جماعة منهم علي بن يقطين، وقتل أيضا يعقوب بن الفضل بن عبد الرحمن بن عباس بن ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب وكان سبب قتله أنه أتى به إلى المهدي فأقر بالزندقة فقال لو كان ما تقول حقا لكنت حقيقا أن لا تتعصب لمحمد ولولا [من] محمد ما كنت أما والله لولا أني جعلت على نفسي أن لا أقتل هاشميا لقتلتك.
ثم قال للهادي: أقسمت عليك أن وليت هذا الأمر لتقتلنه! ثم حبسه، فلما مات المهدي قتله الهادي وكذلك أيضا كان عهد إليه بقتل ولد لداود بن علي بن عبد الله بن عباس كان زنديقا فمات في الحبس قبل المهدي.
ولما قتل يعقوب أدخل أولاده على الهادي فأقرت ابنته فاطمة أنها حبلى من أبيها فخوفت فماتت من الفزع.
89

ذكر ظهور الحسين بن علي بن الحسن
وفي هذه السنة ظهر الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب بالمدينة وهو المقتول بفخ عند مكة.
وكان سبب ذلك أن الهادي استعمل على المدنية عمر بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، فلما وليها أخذ أبا الزفت الحسن بن محمد بن عبد الله بن الحسن ومسلم بن جندب الشاعر الهذلي وعمر بن سلام مولى آل عمر على نبيذ لهم فأمر بهم فضربوا جميعا وجعل في أعناقهم حبال وطيف بهم في المدينة، فجاء الحسين بن علي العمري وقال له قد ضربتهم ولم يكن لك أن تضربهم لان أهل العراق لا يرون به بأسا فلم تطوف بهم فأمر بهم فردوا وحبسهم.
ثم أن الحسين بن عل ويحيى بن عبد الله بن الحسن كفلا الحسن بن محمد فأخرجه العمري من الحبس وكان قد ضمن بعض آل أبي طالب بعضا وكانوا يعرضون فغاب الحسن بن محمد عن العرض يومين فأحضر الحسين بن علي ويحيى بن عبد الله وسألهما عنه وأغلظ لهما فحلف له يحيى أنه لا ينام يأتيه أو يدق عليه باب داره حتى يعلم أنه جاءه به.
فلما خرجا قال له الحسين سبحان الله ما دعاك إلى هذا ومن أين تجد حسنا حلفت له بشيء لا تقدر عليه فقال والله لا نمت حتى أضرب عليه باب داره بالسيف فقال له الحسين أن هذا ينقض ما كان بيننا وبين أصحابنا من الميعاد.
90

وكانوا قد تواعدوا على أن يظهروا بمنى وبمكة في الموسم، فقال يحيى: قد كان ذلك فانطلقنا وعملا في ذلك من ليلتهم وخرجوا آخر الليل وجاء يحيى حتى ضرب على الغمري باب داره فلم يجده وجاؤوا فاقتحموا المسجد وقت الصبح. فلما صلى الحسين وقت الصبح أتاه الناس، فبايعوه على كتاب الله وسنة نبيه للمرتضى من آل محمد وجاء خالد البربري في مائتين من الجند وجاء العمري ووزير ابن إسحاق الأزرق ومحمد بن واقد الشروي ومعهم ناس كثير فدنا خالد منهم فقام إليه يحيى وإدريس ابنا عبد الله بن الحسن فضربه يحيى على أنفه فقطعه ودار له إدريس من خلفه فضربه فصرعه ثم قتلاه فانهزم أصحابه. ودخل العمري في المسودة فحمل عليهم أصحاب الحسين فهزموهم من المسجد وانتهبوا ببيت المال وكان فيه بضعة عشر ألف دينار وقيل سبعون ألفا وتفرق الناس وأغلق أهل المدينة أبوابهم.
فلما كان الغد اجتمع عليه شيعة من بني العباس فقاتلوهم وفشت الجراحات في الفريقين واقتتلوا إلى الظهر ثم افترقوا.
ثم أن مباركا التركي أتى شيعة بني العباس من الغد وكان قد قدم حاجا فقاتل معهم فاقتتلوا أشد قتال إلى منتصف النهار ثم تفرقوا ورجع أصحاب الحسين إلى المسجد وواعد مبارك الناس في الرواح إلى القتال فلما غفلوا عنه ركب رواحله وانطلق وراح الناس فلم يجدوه فقاتلوا شيئا من قتال إلى المغرب ثم تفرقوا.
وقيل أن مباركا أرسل إلى الحسين يقول له والله لأن أسقط من السماء فتخطفني الطير أيسر علي من أن تشوكك شوكة أو قطع من رأسك شعرة،
91

ولكن لا بد من الأعذار فتبيتني فإني منهزم عنك. فوجه إليه الحسن وخرج إليه في نفر فلما دنوا من عسكره صاحوا وكبروا فانهزم هو وأصحابه.
وأقام الحسين وأصحابه أياما يتجهزون فكان مقامهم بالمدينة أحد عشر يوما ثم خرجوا لست بقين من ذي القعدة فلما خرجوا عاد الناس إلى المسجد فوجدوا فيه العظام التي كانوا يأكلون وآثارهم فدعوا عليهم.
ولما فارق المدينة قال يا أهل المدينة! لا أخلف الله عليكم بخير فقالوا بل أنت لا أخلف الله عليك ولا ردك علينا! وكان أصحابه يحدثون في المسجد فغسله أهل المدينة.
ولما أتى الحسين مكة أمر فنودي أيما عبد أتانا فهو حر فأتاه العبيد فانتهى الخبر إلى الهادي، وكان قد حج تلك السنة رجال من أهل بيته منهم سليمان بن المنصور ومحمد بن سليمان بن علي والعباس بن محمد بن علي وموسى وإسماعيل ابنا عيسى بن موسى، فكتب الهادي إلى محمد بن سليمان بتوليته على الحرب وكان قد سار بجماعة
وسلاح من البصرة لخوف الطريق فاجتمعوا بذي طوى وكانوا قد أحرموا بعمرة فلما قدموا مكة طافوا وسعوا وحلوا من العمرة وعسكروا بذي طوى، وانضم إليه من حج من شيعتهم ومواليهم وقوادهم.
ثم انهم اقتتلوا يوم التروية فانهزم أصحاب الحسين وقتل منهم وجرح وانصرف محمد بن سليمان ومن معه إلى مكة ولا يعلمون ما حال
92

الحسين، فلما بلغوا ذا طوى لحقهم رجل من أهل خراسان يقول البشرى البشرى هذا رأس الحسين! فأخرجه وبجبهته ضربة طولى وعلى قفاه ضربة أخرى، وكانوا قد نادوا الأمان فجاء الحسن بن محمد بن عبد الله أبو الزفت فوقف خلف محمد بن سليمان والعباس بن محمد فأخذه موسى بن عيسى وعبد الله بن العباس بن محمد فقتلاه فغضب محمد بن سليمان غضبا شديدا وأخذ رؤوس القتلى فكانت مائة رأس ونيفا وفيها رأس [الحسن بن محمد] بن عبد الله بن الحسن بن علي وأخذت أخت الحسين فتركت عند زينب بنت سليمان واختلط المنهزمون بالحاج، وأتي الهادي بستة أسرى فقتل بعضهم واستبقى بعضهم وغضب على موسى بن عيسى في قتل الحسن بن محمد وقبض أمواله فلم تزل بيده حتى مات. وغضب على مبارك التركي وأخذ ماله وجعله سائس الدواب فبقي كذلك حتى مات الهادي.
وأفلت من المنهزمين إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي فأتى مصر وعلى بريدها واضح مولى صالح بن المنصور وكان شيعيا لعلي فحمله على البريد إلى أرض المغرب فوق بأرض طنجة بمدينة وليلة فاستجاب له من بها من البربر فضرب الهادي عنق واضح وصابه وقيل أن الرشيد هو الذي قتله وإن الرشيد دس إلى إدريس الشماخ اليمامي مولى المهدي فأتاه وأظهر أنه من شيعتهم وعظمه وآثره على نفسه فمال إليه إدريس وأنزله عنده ثم أن إدريس شكا إليه مرضا في أسنانه فوصف له دواء وجعل فيه سما وأمره أن يستن به عند طلوع الفجر فأخذه منه وهرب الشماخ ثم استعمل إدريس الدواء فمات منه فولى الرشيد الشماخ بريد مصر.
93

ولما مات إدريس بن عبد الله خلف مكانه ابنه إدريس بن إدريس وأعقب بها وملكوها ونازعوا بني أمية في إمارة الأندلس على ما نذكره أن شاء الله تعالى وحملت الرؤوس إلى الهادي فلما وضع رأس الحسين بين يدي الهادي قال كأنكم قد جئتم برأس طاغوت من الطواغيت أن أقل ما أجزيكم به أن أحرمكم جوائزكم فلم يعطهم شيئا.
وكان الحسين شجاعا كريما قدم على المهدي فأعطاه أربعين ألف دينار ففرقها في الناس ببغداد والكوفة وخرج من الكوفة لا يملك ما يلبسه إلا فروا ليس تحته قميص.
ذكر عدة حوادث
وغزا الصائفة هذه السنة معيوف بن يحيى بن درب الراهب وقد كانت الروم قبل ذلك جاؤوا مع بطريقهم إلى الحديثة فهرب الوالي وأهل السوق فدخلها الروم، فقصدهم معيوف فبلغ مدينة أشنة فغنم وسبى.
وحج بالناس هذه السنة سليمان بن منصور وكان على المدينة عمر بن عبد العزيز العمري وعلى مكة والطائف عبيد الله بن قثم وعلى اليمن إبراهيم بن سلم بن قتيبة وعلى اليمامة والبحرين سويد بن أبي سويد القائد الخراساني وعلى عمان الحسن بن نسيم الحواري وعلى الكوفة موسى بن
94

عيسى وعلى البصرة محمد بن سليمان وعلى جرجان الحجاج مولى الهادي وعلى قومس زياد بن حسان وعلى طبرستان والرويان صالح بن شيخ بن عميرة الأسدي وعلى أصبهان طيفور مولى الهادي وعلى الموصل هاشم بن سعيد بن خالد فأساء السيرة في أهلها فعزله الهادي وولاها عبد الملك بن صالح الهاشمي.
وفيها خرج بالجزيرة حمزة بن مالك الخزاعي وعلى خراجها منصور بن زياد فسير جيشا إلى الخارج فالتقوا بباعربايا من بلد الموصل فهزمهم الخارجي وغنم أموالهم وقوي أمره فأتى رجلان وصحباه ثم اغتالاه فقتلاه.
وفيها مات مطيع بن أياس الليثي الكناني الشاعر وأبو عبيد الله معاوية بن عبد الله بن بشار الأشعري مولاهم وكان وزير المهدي، وقيل مات سنة سبعين.
ومائة وفيها توفي نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم المقري صاحب القراءة أحد القراء السبعة والربيع بن يونس حاجب المنصور مولاه.
95

170
ثم دخلت سنة سبعين ومائة
ذكر ما جرى للهادي في خلع الرشيد
كان الهادي قد جد في خلع الرشيد والبيعة لابنه جعفر وكان سبب ذلك أن الهادي لما عزم على خلعه ذكره لقواده فأجابه إليه يزيد بن مزيد الشيباني وعبد الله بن مالك وعلي بن عيسى وغيرهم فخلعوا هارون وبايعوا لجعفر ووضعوا الشيعة فتكلموا في ذلك وتنقصوا الرشيد في مجلس الجماعة وقالوا لا نرضى به وصعب أمرهم وأمر الهادي أن لا يسار بين يدي هارون بالحربة فاجتنبه الناس وتركوا السلام عليه.
وكان يحيى بن خالد بن برمك يتولى أمور الرشيد بأمر الهادي فقيل للهادي ليس عليك من أخيك خلاف إنما يحيى يفسده فبعث إليه وتهدده ورماه بالكفر ثم أن استدعاه ليلة فخاف وأوصى وتحنط وحضر عنده فقال له يا يحيى مالي ولك علي ما يكون من العبد إلى مولاه إلا طاعته فقال لم تدخل بيني وبين أخي وتفسده علي فقال من أنا حتى أدخل بينكما إنما صيرني المهدي معه ثم أمرتني أنت بالقيام بأمره فانتهيت إلى أمرك فسكن غضبه.
وقد كان هارون الرشيد طاب نفسا بالخلع فمنعه يحيى عنه فلما أحضره الهادي وقال له في ذلك قال يحيى يا أمير المؤمنين إنك أن حملت
96

الناس على نكث الأيمان هانت عليهم أيمانهم وإن تركتهم على بيعة أخيك ثم بايعت لجعفر بعده كان ذلك أؤكد للبيعة. قال: صدقت وسكت عنه.
فعاد أولئك الذين بايعوه من القواد والشيعة فحملوه على معاودة الرشيد بالخلع فأحضر يحيى وحبسه فكتب إليه أن عندي نصيحة فأحضره فقال له يا أمير المؤمنين أرأيت أن كان الأمر الذي لا تبلغه ونسأل الله أن يعدمنا قبله يعني موت الهادي أتظن الناس يسلمون الخلافة لجعفر وهو لم يبلغ الحنث أو يرضون به لصلاتهم وحجهم وغزوهم
قال ما أظن ذلك! قال: يا أمير المؤمنين! أفتأمن أن يسمو إليها أكابر أهلك مثل فلان ويطمع فيها غيرهم فتخرج من ولد أبيك والله لو أن هذا الأمر لم يعقده المهدي لأخيك لقد كان ينبغي أن تعقده أنت له فكيف بأن تحله عنه وقد عقده المهدي [له]! ولكني أرى أن تقر الأمر على أخيك فإذا بلغ جعفر أتيت بالرشيد، فخلع نفسه له وبايعه فقبل قوله وقال نبهتني على أمر لم أتنبه له وأطلقه.
ثم أن أولئك القواد عاودوا القول فيه فأرسل الهادي إلى الرشيد في ذلك وضيق عليه فقال له يحيى استأذنه في الصيد فإذا خرجت فابعد ودافع الأيام ففعل ذلك وأذن له فمضى إلى قصر بني مقاتل فقام [به] أربعين يوما، فأنكر الهادي أمره وخافه فكتب إليه بالعود فتعلل عليه فاظهر الهادي شتمه وسط مواليه وقواده فيه ألسنتهم فلما طال الأمر عاد الرشيد، وقد كان الهادي في أول خلافته جلس وعنده نفر من قواده وعنده
97

الرشيد، وهو ينظر إليه ثم قال له يا هارون كأني بك وأنت تحدث نفسك بتمام الرؤيا وجون ذلك خرط القتاد.
فقال له هارون: يا موسى إنك أن تجبرت وضعت وإن تواضعت رفعت وإن ظلمك قتلت وإن أنصفت سلمت وإني لأرجو أن يفضي الأمر إلي فأنصف من ظلمت وأصل من قطعت وأجعل أولادك أعلى من أولادي وأزوجهم بناتي وأبلغ ما تحب من حق الإمام المهدي.
فقال له الهادي: ذلك الظن بك يا أبا جعفر أدن مني فدنا منه فقبل يده ثم أراد العود إلى مكانه فقال لا والشيخ الجليل والملك النبيل أعني المنصور لا جلست إلا معي فأجلسه في صدر مجلسه ثم أمر أن يحمل إليه ألف ألف دينار وأن يحمل نصف الخراج وقال لإبراهيم الحراني اعرض عليه ما في الخزائن من مالنا وما أخذ من أهل بيت اللعنة يعني بني أمية فليأخذ منه ما أراد ففعل ذلك فقام عنه.
وسئل الرشيد عن الرؤيا فقال قال المهدي رأيت في منامي كأني دفعت إلى موسى قضيبا وإلى هارون قضيبا فأورق من قضيب موسى أعلاه وأورق قضيب هارون من أوله إلى آخره فعبرت لهما أنهما يملكان معا فأما موسى فتقل أيامه وأما هارون فيبلغ آخر ما عاش خليفة وتكون أيامه أحسن أيام ودهره أحسن دهر فكان كذلك.
وذكر أن الهادي خرج إلى حديثة الموصل فمرض بها واشتد مرضه فانصرف وكتب إلى جميع عماله شرقا وغربا بالقدوم عليه، فلما ثقل
98

أجمع القواد الذين كانوا بايعوا جعفرا وتأمروا في قتل يحيى بن خالد وقالوا أن صار الأمر إليه قتلنا وعزموا على ذلك ثم قالوا لعل الهادي يفيق فما عذرنا عنده فامسكوا. ولما اشتد مرض الهادي أرسلت الخيزران إلى يحيى تأمره بالاستعداد فأحضر يحيى كتابا فكتبوا الكتب من الرشيد إلى العمال بوفاة الهادي وأنه قد ولاهم ما كان ويكون فلما مات الهادي سيرت الكتب.
وقيل أن يحيى كان محبوسا وكان الهادي قد عزم على قتله تلك الليلة وأن هرثمة بن أعين هو الذي أقعد الرشيد على ما سنذكره.
ولما مات الهادي قالت الخيزران قد كنا نتحدث أنه يموت في هذه الليلة خليفة ويملك خليفة ويولد خليفة فمات الهادي وولي الرشيد وولد المأمون وكانت الخيزران قد أخذت العلم عن الأوزاعي وكان الهادي بعيساباذ.
ذكر وفاة الهادي
وفي هذه السنة توفي الهادي موسى بن المهدي محمد بن المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس في شهر ربيع الأول.
واختلف في سبب وفاته فقيل كان سببها قرحة كانت في جوفه وقيل مرض بحديثة الموصل وعاد مريضا فتوفي على ما نذكره أن شاء الله تعالى وقيل أن وفاته كانت من قبل جوار لأمه الخيزران كانت أمرتهن
99

بقتله، وكان سبب أمرها بذلك أنه لما ولي الخلافة كانت تستبد بالأمور دونه وتسلك به مسلك المهدي حتى مضى أربعة أشهر فانثال الناس إلى بابها وكانت المواكب تغدو وتروح إلى بابها فكلمته يوما في أمر لم يجد إلى أجابتها إليه سبيلا فقالت لا بد من أجابتني إليه فإنني قد ضمنت هذه الحاجة لعبد الله بن مالك. فغضب الهادي وقال ويلي على ابن الفاعلة قد علمت أنه صاحبها والله لا قضيتها لك قالت إذا والله لا أسألك حاجة أبدا قال لا أبالي والله فغضبت وقامت مغضبة فقال مكانك والله والا أنا نفي من قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم لئن بلغني أنه وقف ببابك أحد من قوادي وخاصتي لأضربن عنقه ولأقبضن ماله ما هذه المواكب التي تغدو وتروح غلى بابك؟ أما لك مغزل يشغلك أو مصحف يذكرك أو بيت يصونك؟ إياك! وإياك! لا تفتحي بابك لمسلم ولا ذمي فانصرفت وهي لا تعقل فلم تنطق عنده بعدها.
ثم انه قال لأصحابه أيما خير أنا أم أنتم وأمي أمهاتكم قالوا بل أنت وأمك خير قال فأيكم يجب أن يتحدث الرجال بخبر أمه فيقال فعلت أم فلان وصنعت قالوا لا نحب ذلك قال فما بالكم تأتون أمي فتتحدثون بحديثها فلما سمعوا ذلك انقطعوا عنها.
ثم بعث بأرز وقال قد استطبتها فكلي منها فقيل لها أمسكي حتى تنظري فجاؤوا بكلب فأطعموه فسقط لحمه لوقته فأرسل إليها كيف رأيت الأرز قالت طيبا قال ما أكلت منها ولو أكلت منها لاسترحت منك متى أفلح خليفة له أم.
وقيل كان سبب أمرها بذلك أن الهادي لما جد في خلع الرشيد والبيعة لابنه جعفر خافت الخيزران على الرشيد فوضعت جواريها عليه لما مرض فقتلنه بالغم والجلوس على وجهه فمات فأرسلت إلى يحيى بن خالد تعلمه بموته.
100

ذكر وفاته ومبلغ سنه وصفته وأولاده
كانت وفاته ليلة الجمعة للنصف من ربيع الأول وقيل لأربع عشرة خلت من ربيع الأول وقيل لست عشرة منه قيل وكانت خلافته سنة وثلاثة أشهر وقيل كانت أربعة عشر شهرا وكان عمره ستا وعشرين سنة وقيل ثلاثا وعشرين سنة وصلى عليه الرشيد.
وكانت كنيته أبا محمد وأمه الخيزران أم ولد، ودفن بعيساباذ الكبرى في بستانه.
وكان طويلا، جسيما، أبيض، مشربا حمرة، وكان بشفته العليا نقص وتقلص.
وكان المهدي قد وكل به خادما يقول له: موسى أطبق، فيضم شفته، فلقب: موسى أطبق.
وكان له الأولاد تسعة سبعة ذكور وابنتان فمن الذكور جعفر وهو الذي كان يريد البيعة له والعباس وعبد الله وإسحاق وإسماعيل وسليمان وموسى بن موسى الأعمى كلهم لأمهات أولاد والابنتان أم عيسى كانت عند المأمون وأم العباس وكانت تلقب نوتة.
ذكر بعض سيرته
تأخر الهادي عن المظالم ثلاثة أيام. فقال له الحراني: يا أمير المؤمنين! أن العامة لا تحتمل هذا. فقال لعلي بن صالح ائذن للناس على الجفلى،
101

لا بالنقري، فخرج من عنده ولم يفهم قوله ولم يجسر على مراجعته فاحضر إعرابيا فسأله عن ذلك فقال الجفلي أن تأذن لعامة الناس فأذن لهم فدخل الناس عن آخرهم ونظر في أمورهم إلى الليل فلما تقوض المجلس قال له علي بن صالح ما جرى له وسأله مجازاة الأعرابي فأمر له بمائة ألف درهم فقال علي يا أمير المؤمنين إنه أعرابي ويغنيه عشرة آلاف فقال يا علي أجود أنا وتبخل أنت!
وقيل: خرج يوما إلى عيادة أمه الخيزران وكانت مريضة فقال له عمر بن الربيع يا أيمر المؤمنين إلا أدلك على ما هو أنفع لك من هذا تنظر في المظالم. فرجع إلى دار المظالم وأذن للناس، وأرسل إلى أممه يتعرف أخبارها.
وقيل: كان عبد الله بن مالك يتولى شرطة المهدي قال فكان المهدي يأمرني بضرب ندماء الهادي ومغنيه وحبسهم صيانة له عنهم فكنت أفعل، وكان الهادي يرسل إلي بالتخفيف عنهم ولا أفعل فلما ولي الهادي أيقنت بالتلف فاستحضرني يوما فدخلت إليه متحنطا متكفنا وهو على كرسي والسيف والنطع بين يديه فسلمت فقال لا سلم الله عليك أتذكر يوم بعثت إليك في أمر الحراني وضربه فلم تجبني وفي فلان وفلان فعدد ندماءه فلم تلتفت إلى قولي فقلت نعم أفتأذن في ذكر الحجة قال نعم قلت نشدتك الله أيسرك أنك وليتني ما ولاني المهدي وأمرتني بما أمر فبعث إلى بعض بنيك بما يخالف أمرك فاتبعت أمره وخالفت أمرك قال لا قلت فكذلك أنا لك وكذا كنت لأبيك.
فاستدناني فقبلت يده ثم أمر لي بالخلع وقال وليتك ما كنت تتولاه فامض راشدا فصرت إلى منزلي مفكرا في أمري وأمره وقلت:
102

حدث يشرب، والقوم الذين عصيته في أمرهم ندماؤه ووزراؤه وكتابه فكأني بهم حين يغلب عليه الشراب قد أزالوه عن رأيه قال فإني لجالس وعندي بنية لي والكانون بين يدي ورقاق أشطره بكامخ وأسخنه وأطعم الصبية وآكل وإذا بوقع الحوافر فظننت أن الدنيا قد زلزلت لوقعها ولكثرة الضوضاء فقلت هذا ما كنت أخافه.
وإذا الباب قد فتح وإذا الخدم قد دخلوا وإذا الهادي في وسطهم على دابته فلما رأيته وثبت عن مجلسي فقبلت يده ورجله وحافر دابته فقال لي يا عبد الله اني فكرت في أمرك فقلت يسبق إلي وهمك إنني إذا شربت وحولي أعداؤك أزالوا حسن رأيي فيك فيقلقك ذلك فصرت إلى منزلك لأونسك وأعلمك أن ما كان عندي لك من الحقد قد زال، فهات وأطعمني مما كنت تأكل لتعلم اني قد تحرمت بطعامك فيزول خوفك.
فأدنيت إليه من ذلك الرقاق والكامخ فأكل ثم قال هاتوا الزلة التي أزللتها لعبد الله من مجلسي فأدخلت إلي أربعمائة بغل موقرة دراهم وغيرها فقال هذه لك فاستعن بها على أمرك واحفظ هذه البغال عندك لعلي احتاج إليها لبعض أسفاري ثم انصرف.
قيل: وكان يعقوب بن داود يقول ما لعربي ولا لعجمي عندي ما لعلي بن عيسى بن ماهان فإنه دخل إلى الحبس وقال لي أمرني أمير المؤمنين الهادي أن أضربك مائة سوط فأقبل يضع السوط على يدي ومنكبي يمسني به مسا إلى أن عد مائة سوط ثم خرج فقال له الهادي ما صنعت به قال صنعت الذي أمرتني به، وقد مات الرجل فقال الهادي أنا لله وإنا إليه راجعون فضحتني والله عند الناس يقولون قتل يعقوب بن
103

داود؛ فلما رأى شدة جزعه قال هو والله حي يا أمير المؤمنين قال الحمد لله على ذلك.
وقيل: كان إبراهيم بن مسلم بن قتيبة من الهادي بمنزلة عظيمة، فمات له ولد، فأتاه الهادي يعزيه فقال له يا إبراهيم! سرك وهو عدو وفتنة وحزنك وهو صلاة ورحمة فقال يا أمير المؤمنين! ما بقي مني جزء فيه حزن إلا وقد امتلأ عزاء.
فلما مات إبراهيم صارت منزلته لسعيد بن سلم، قيل: كان علي بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الذي يلقب الجزري قد تزوج رقية بنت عمرو العثمانية وكانت قبله تحت المهدي، فبلغ ذلك الهادي فأرسل إليه فحمل إليه فقال له أعياك النساء إلا امرأة أمير المؤمنين فقال ما حرم الله على خلقه إلا نساء جدي فأما غيرهن فلا فشجه بمخصرة كانت في يده وجلده خمسمائة سوط وأراده أن يطلقها فلم يفعل وكان قد غشي عليه من الضرب وكان في يده خاتم نفيس فاهوى بعض الخدم إلى الخاتم ليأخذه فقبض على يده فدقها وأتى الهادي فأراه ده فغضب وقال تفعل هذا بخادمي مع استخفافك بأبي وقولك لي ما قلت فقال سله واستحلفه أن يصدقك ففعل فأخبره الخادم وصدقه فقال أحسن والله أشهد أنه ابن عمي ولو لم ذلك لانتفيت منه وأمر باطلاقه.
قيل: وكان المهدي قد قال للهادي يوما وقد قدم إليه زنديق فقتله وأمر بصلبه يا بني إذا صار الأمر إليك فتجرد لهذه العصابة يعني أصحاب
104

ماني، فإنها تدعو الناس إلى ظاهر حسن كاجتناب الفواحش والزهد في الدنيا والعمل للآخرة ثم تخرجها من هذا إلى تحريم اللحوم ومس الماء الطهور وترك قتل الهوام تحرجا ثم تخرجها إلى عبادة اثنين أحدهما النور والأخر الظلمة ثم تبيح بعد هذا نكاح الأخوات والبنات والاغتسال بالبول وسرقة الأطفال من الطرق لينقذوهم من ضلال الظلمة إلى هداية النور فارفع فيها الخشب وجرد السيف فيها وتقرب بأمرها إلى الله فإني رأيت جدي العباس رضي الله عنه في المنام قلدني سيفين لقتل أصحاب الاثنين.
فلما ولي الهادي قال لأقتلن هذه الفرقة وأمر أن يهيئ له ألف جذع فمات بعد هذا القول بشهرين.
قيل وكان عيسى بن دأب من أكثر أهل الحجاز أدبا وأعذبهم ألفاظا وكان قد حظي عند الهادي حظوة لم تكن لأحد قبله وكان يدعو له بما يتكيء عليه في مجلسه وما كان يفعل ذلك بغيره وكان يقول ما استطلت بك يوما ولا ليلا ولا غبت عن عيني إلا تمنيت أن لا أرى غريك وأمر له بثلاثين ألف دينار في دفعة واحدة فلما أصبح ابن دأب أرسل قهرمانة إلى الحاجب في قبضها فقال الحاجب هذا ليس إلي فانطلق إلى صاحب التوقيع وإلى الديوان فعاد إلى ابن دأب فأخبره. فقال: اتركها.
فبينما الهادي في مستشرف له ببغداد رأى ابن دأب وليس معه إلا غلام واحد فقال للحراني إلا ترى ابن دأب ما غير حاله وقد وصلناه ليرى
105

أثرنا عليه؟ فقال: إن أمرتني عرضت له بالحال فقال لا هوز أعلم بحاله ودخل ابن دأب وأخذ في حديثه فعرض له الهادي [شيء]. وقال أرى ثوبك غسيلا وهذا شتاء يحتاج فيه إلى الجديد فقال باعي قصير فقال وكيف وقد صرفنا إليك ما فيه صلاح شأنك فقال ما وصل إلي شيء فدعا صاحب بيت مال الخاصة فقال عجل الساعة ثلاثين ألف دينار فأحضرت وحملت بين يديه.
ذكر خلافة الرشيد بن المهدي
وفي هذه السنة بويع للرشيد هارون بم محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بالخلافة في الليلة التي مات فيها الهادي وكان عمره حين ولى اثنتين وعشرين سنة وأمه الخيزران أم ولد يمانية جرشية وكان مولده بالري في آخر ذي الحجة سنة خمس وأربعين ومائة وقيل ولد مستهل محرم سنة تسعه وأربعين. وكان مولد الفضل بن يحيى البرمكي قبله بسبعة أيام وأرضعت أم ابن يحيى الرشيد وأرضعت الخيزران الفضل بلبان الرشيد.
ولما مات الهادي كان يحيى بن خالد البرمكي محبوسا في قول بعضهم وكان الهادي عازما على قتله فجاء هرثمة بن أعين إلى الرشيد فأخرجه وأجلسه للخلافة فأرسل الرشيد إلى يحيى فأخرجه من الحبس واستوزره وأمر بانشاء الكتب إلى الأطراف بجلوسه للخلافة وموت الهادي.
وقيل لما مات الهادي جاء يحيى بن خالد إلى الرشيد وهو نائم في فراشه فقال له قم يا أمير المؤمنين فقال كم تروعني إعجابا منك بخلافتي فكيف يكون حالي مع الهادي أن بلغه هذا فأعلمه بموته وأعطاه خاتمه،
106

فبينما هو يكلمه إذ أتاه رسول آخر يبشره بمولود فسماه عبد الله وهو المأمون ولبس ثيابه وخرج فصلى على الهادي بعيساباذ وقتل أبا عصمة وسار إلى بغداد.
وكان سبب قتل أبي عصمة أن الرشيد كان سائرا هو وجعفر بن الهادي فبلغا قنطرة من قناطر عيساباذ فقال له أبو عصمة مكانك حتى يجوز ولي العهد فقال الرشيد السمع والطاعة للأمير ووقف حتى جاز جعفر فكان هذا سبب قتله.
ولما وصل الرشيد إلى بغداد وبلغ الجسر دعا الغواصين وقال كان لمهدي قد وهب لي خاتما شراؤه بمائة ألف دينار يسمى الجبل فأتاني رسول الهادي يطلب الخاتم وأنا ههنا فألقيته في الماء فغاصوا عليه وأخرجوه فسر به.
ولما مات الهادي هجم حزيمة بن خازم تلك الليلة على جعفر بن الهادي فأخذه من فراشه وقال له لتخلعنها أو لأضربن عنقك فأجاب إلى الخلع وركب من الغد خزيمة وأظهر جعفرا للناس فاشهدهم بالخلع وأقال الناس من بيعتهم فحظي بها خزيمة.
ذكر عدة حوادث
وفيها ولد الأمين واسمه محمد في شوال فكان المأمون أكبر منه.
وفيها استوزر الرشيد يحيى بن خالد، وقال له: قد قلدتك أمر الرعية،
107

فاحكم فيها بما ترى من الصواب واعزل من رأيت، واستعمل من رأيت ودفع إليه خاتمه فقال إبراهيم الموصلي في ذلك:
(ألم تر أن الشمس كانت سقيمة * فلما ولي هارون أشرق نورها)
(بيمن أمين الله هارون ذي الندى * فهارون واليها ويحيى وزيرها)
وكان يحيى يصدر عن رأي الخيزران أم الرشيد.
وفيها توفي يزيد بن حاتم المهلبي والي إفريقية واستخلف عليها ابنه داود وانتقضت جبال باجة وخرج فيها الأباضية.
فسير إليهم داود جيشا فظفر بهم الأباضية وهزموهم فجهز إليهم جيشا آخر فهزمت الأباضية فتبعهم الجيش فقتلوا منهم فأكثروا وبقي داود أميرا إلى أن استعمل الرشيد عمه روح بن حاتم المهلبي أميرا على إفريقية وكانت إمارة داود تسعة أشهر.
وفيها عزل الرشيد عمر بن عبد العزيز العمري عن المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام واستعمل عليها إسحاق بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس.
وفيها ظهر إبراهيم بن عبد الله بن الحسن وبقي نفر من الزنادقة لم يظهروا منهم يونس بن فروة ويزيد بن الفيض.
وفيها عزل الرشيد الثغور كلها عن الجزيرة وقنسرين وجعلها حيزا واحدا وسميت العواصم وأمر بعمارة طرسوس على يدي فرج الحاتم
108

التركي ونزلها الناس.
وحج بالناس الرشيد وقسم بالحرمين عطاء كثيرا وقيل إنه غزا الصائفة بنفسه وغزا الصائفة سليمان بن عبد الله البكائي.
وكان على مكة والطائف عبد الله بن قثم وعلى الكوفة موسى بن عيسى وعلى البصرة والبحرين واليمامة وعمان والأهواز وفارس محمد بن سليمان بن علي وكان على
خراسان الفضل بن سليمان الطوسي وعلى الموصل عبد الملك.
وفيها أوقع عبد الرحمن الأموي صاحب الأندلس ببرابر نفزة فأذلهم وقتل فيهم.
وفيها أمر عبد الرحمن بناء جامع قرطبة وكان موضعه كنيسة وأخرج عليه مائة ألف دينار.
109

171
ثم دخلت سنة احدى وسبعين ومائة
ذكر وفاة عبد الرحمن الأموي صاحب الأندلس
فيها مات عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك صاحب الأندلس في ربيع الأخر وقيل سنة اثنتين وسبعين ومائة وهو أصح وكان مولده بأرض دمشق وقيل بالعلياء من ناحية تدمر سنة ثلاث عشرة ومائة وكان موته بقرطبة وصلى عليه ابنه عبد الله وكان عهد إلى ابنه هشام وكان هشام بمدنية ماردة واليا عليها وكان ابنه سليمان بن عبد الرحمن وهو الأكبر بطليطلة واليا عليها فلم يحضرا موت أبيهما وحضره عبد الله المعروف بالبلنسي وأخذ البيعة لأخيه هشام وكتب إليه بنعي أبيه بالأمارة فسار إلى قرطبة.
وكانت دولة عبد الرحمن ثلاثا وثلاثين سنة وأشهرا وكانت كنيته أبا المطرف وقيل أبا سليمان وقيل أبا زيد وكان له من الولد أحد عشر ذكرا وتسع بنات وكانت أمه بربرية من سبي إفريقية.
وكان أصهب خفيف العارضين طويل القامة نحيف الجسم أعور له ضفيرتان وكان فصيحا لسنا شاعرا حليما عالما حازما سريع النهضة في طلب الخارجين عليه لا يخلد إلى راحة ولا يسكن إلى دعة،
110

ولا يكل الأمور إلى غيره ولا ينفرد في الأمور برأيه شجاعا مقداما بعيد الغور شديد الحذر سخيا جوادا يكثر لبس البياض وكان يقاس بالمنصور في حزمه وشدته وضبط المملكة.
وبنى الرصافة بقرطبة تشبيها بجده هشام حيث بنى الرضافة بالشام ولما سكنها رأى فيها نخلة منفردة، فقال:
(تبدت لنا وسط الرصافة نخلة * تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل)
(فقلت شبيهي في التغرب والنوى * وطول التنائي عن بني وعن أهلي)
(نشأت بأرض أنت فيها غريبة * فمثلك في القصاء والمنتأى مثلي)
(سقتك غوادي المزن من صوبها الذي * يسح ويستمري السماكين بالوبل)
وقصده بنو أمية من المشرق فمن المشهورين عبد الملك بن عمر بن مروان وهو قعدد بني أمية وهو الذي كان سبب قطع الدعوة العباسية بالأندلس على ما تقدم وكان معه أحد عشر ولدا له.
111

ذكر إمارة ابنه هشام
كان عبد الرحمن قد عهد إلى ابنه هشام ولم يكن أكبر ولده فإن سليمان كان أكبر منه وإنما كان يتوسم فيه الشهامة والاضطلاع بهذا الأمر فلهذا عهد إليه.
ولما توفى أبوه كان هو بماردة متوليا لها وناظرا في أمرها وكان أخوه سليمان وهو أكبر منه بمدينة طليطلة وكان يروم الأمر لنفسه ويحسد أخاه هشاما على تقديم والده له عليه وأضمر له الغش والعصيان؛ وكان أخوه عبد الله المعروف بالبلنسي حاضرا بقرطبة عند والده فلما توفي جدد عبد الله البيعة لأخيه هشام بعد أن صلى على والده وكتب إلى أخيه هشام يعرفه موت والده والبيعة له فسار من ساعته إلى قرطبة فدخلها في ستة أيام واستولى على الملك وخرج عبد الله إلى داره مظهرا لطاعته وفي نفسه غير هذا وسنذكر ما كان منه أن شاء الله تعالى.
ذكر الصحصح الخارجي
وفيها خرج الصحصح الخارجي بالجزيرة كان عليها أبو هريرة فوجه عسكرا إلى الصحصح فلقوه فهزمهم وسار الصحصح إلى الموصل فلقيه عسكرها بباجرمى فقتل منهم كثيرا ورجع إلى الجزيرة فغلب على ديار ربيعة فسير الرشيد إليه جيشا فلقوه بدورين فقتلوه وعزل الرشيد أبا هريرة عن الجزيرة.
112

ذكر قتل روح بن صالح
وفيها استعمل الرشيد على صدقات بني تغلب روح بن صالح الهمداني من قواد الموصل فجرى بينه وبين تغلب خلاف فجمع جمعا وقصدهم فبلغهم الخبر فاجتمعوا وساروا إلى روح فبيتوه فقتل هو وجماعة من أصحابه فسمع حاتم بن صالح وهو بالسكير فجمع جمعا كثيرا وسار إلى تغلب فبيتهم وقتل منهم خلقا كثيرا وأسر مثلهم.
وفيها عزل الرشيد عبد الملك بن صالح الهاشمي عن الموصل واستعمل عليها إسحاق بن محمد.
ذكر استعمال روح بن حاتم على إفريقية
وفيها استعمل الرشيد على إفريقية روح بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة لما بلغه وفاة أخيه يزيد بن حاتم بها على ما ذكرناه فقدمها في رجب وكان داود بن يزيد أخيه علي إفريقية فلما وصل عمه روح سار داود إلى الرشيد فاستعمله.
قال روح: كنت عاملا على فلسطين فأحضرني الرشيد فوصلت وقد بلغه موت أخي يزيد فقال أحسن الله عزاءك في أخيك وقد وليتك مكانه لتحفظ صنائعه ومواليه.
فسار إليها ولم تزل البلاد معه آمنة ساكنة من فتنة لأن أخاه يزيد
113

كان قد أكثر القتل في الخوارج بأفريقية فذلوا.
ثم توفي روح بالقيروان ودفن إلى جانب قبر أخيه يزيد وكانت وفاته في رمضان سنة أربع وسبعين ومائة؛ ولما استعمل المنصور يزيد بن حاتم على إفريقية استعمل أخاه روحا على السند فقيل له يا أيمر المؤمنين لقد باعدت ما بين قبريهما فتوفي يزيد بالقيروان ثم وليها روح فتوفي بها ودفن بها إلى جانب أخيه يزيد.
وكان روح أشهر بالشرق من يزيد ويزيد أشهر بالغرب من روح لطول مدة ولايته وكثرة خروجه فيها والخارجين عليه.
ذكر عدة حوادث
فيها قدم أبو العباس الفضل بن سليمان الطوسي من خراسان واستعمل الرشيد عليها جعفر بن محمد بن الأشعث فلما قدم خراسان سير ابنه العباس إلى كابل فقاتل أهلها حتى افتتحها ثم افتتح سانهار وغنم ما كان بها.
وفيها قتل الرشيد أبا هريرة محمد بن فروخ وكان على الجزيرة فوجه إليه الرشيد أبا حنيفة حرب بن قيس فأحذره إلى بغداد وقتله.
وفيها أمر الرشيد باخراج الطالبين من بغداد إلى مدينة النبي خلا العباس بن الحسن بن عبد الله بن عباس [علي بن
114

أبي طالب].
وفيها خرج الفضل بن سعيد الحروري فقتله أبو خالد المروروذي.
وفيها قدم روح بن حاتم إفريقية. وحج بالناس هذه السنة عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن عباس.
115

172
ثم دخلت سنة اثنتين وسبعين ومائة
ذكر خروج سليمان وعبد الله ابني عبد الرحمن
على أخيهما هشام
في هذه السنة وقيل سنة ثلاث وسبعين ومائة وهو الصحيح خرج سليمان وعبد الله ابنا عبد الرحمن بن معاوية بن هشام أمير الأندلس عن طاعة أخيهما هشام بالأندلس، وكان هشام قد ملك بعد أبيه كما ذكرناه فلما استقر له الملك كان معه أخوه عبد الله المعروف بالبلنسي وكان هشام يؤثره ويبره ويقدمه فلم يرض عبد الله إلا بالمشاركة في أمره.
ثم إنه خاف من أخيه هشام، فمضى هاربا إلى أخيه سليمان وهو بطليطلة فلما خرج من قرطبة ارسل هشام جمعا في أثره ليردوه فلم يلحقوه فجمع هشام عساكره وسار إلى طليطلة فحضر أخويه بها وكان سليمان قد جمع وحشد خلقا كثيرا فلما حصرهما هشام سار سليمان من طليطلة وترك ابنه وأخاه عبد الله يحفظان البلد وسار هو غلى قرطبة ليملكها فعلم هشام الحال فلم يتحرك ولا فارق طليطلة بل أقام يحصرها وسار سليمان فوصل إلى شقندة فدخلها وخرج إليه أهل قرطبة
116

مقاتلين ودافعين عن أنفسهم.
ثم أن هشاما سير في أثره ابنه عميد الملك في قطعة من الجيش فلما قاربه مضى سليمان هاربا فقصد مدينة ماردة فخرج إليه الوالي بها لهشام فحاربه فانهزم سليمان وبقي هشام على طليطلة شهرين وأياما محاصرا لها ثم عاد عنها وقد قطع أشجارها وسار إلى قرطبة فأتاه أخوه عبد الله بغير أمان فأكرمه وأحسن إليه.
فلما دخلت سنة أربع وسبعين سير هشام ابنه معاوية في جيش كثيف إلى تدمير وبها سليمان فحاربه وخربوا أعمال تدمير ودوخوا أهلها ومن بها وبلغوا البحر فخرج سليمان من تدمير هاربا فلجأ إلى البرابر بناحية بلنسية فاعتصم بتلك الناحية الوعرة المسلك فعاد معاوية إلى قرطبة ثم أن الحال استقر بين هشام وسليمان أن يأخذ سليمان أهله وأولاده وأمواله ويفارق الأندلس وأعطاه هشام ستين ألف دينار مصالحة عن تركة أبيه عبد الرحمن فسار إلى البلد البرابر فأقام بها.
ذكر خروج جماعة على هشام أيضا
وفيها خرج بالأندلس أيضا سعيد بن الحسين بن يحيى الأنصاري بشاغنت من أقاليم طرطوشة في شرق الأندلس وكان قد التجأ إليها حين قتل أبوه كما تقدم ودعا إلى اليمانية وتعصب لهم فاجتمع له خلق كثير وملك مدينة طرطوشة وأخرج عامله يوسف القيسي فعارضه موسى بن فرتون وقام بدعوة هشام ووافقته مضر، فاقتتلا، فانهزم سعيد
117

وقتل. وسار موسى إلى سرقسطة فملكها فخرج عليه مولى للحسين بن يحيى اسمه جحدر في جمع كثير فقاتله وقتل موسى.
وخرج أيضا مطروح بن سليمان بن يقظان بمدنية برشلونة وخرج معه جمع كثير فملك مدينة سرقسطة ومدينة وشقة وتغلب على تلك الناحية وقوي أمره وكان هشام مشغولا بمحاربة أخويه سليمان وعبد الله.
ذكر عدة حوادث
وفيها عزل الرشيد إسحاق بن محمد عن الموصل واستعمل سعيد بن سلم الباهلي وعزل الرشيد يزيد بن مزيد بن زائدة وهو ابن أخي معن بن زائدة عن أرمينية واستعمل عليها أخاه عبيد الله بن المهدي.
وفيها غزا الصائفة إسحاق بن سليمان بن علي.
وفيها وضع الرشيد على أهل السواد العشر الذي كان يؤخذ منهم بعد النصف.
وحج بالناس يعقوب بن المنصور.
وفيها مات الفضل بن صالح بن علي بن عبد الله بن عباس وهو أخو عبد الملك وتوفي سليمان بن بلال بن أبي عتيق وتوفي أبو يزيد رياح بن يزيد اللخمي الزاهد بمدينة القيروان وكان مجاب الدعوة.
118

173
ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين ومائة
فيها توفي محمد بن سليمان بن علي بالبصرة فأرسل الرشيد من قبض تركته وكانت عظيمة من المال والمتاع والدواب فحملوا منه ما يصلح للخلافة وتركوا مالأ يصلح.
وكان من جملة ما أخذوا ستون ألف ألف فلما قدموا بذلك عليه أطلق منه للندماء والمغنين شيئا كثيرا ورفع الباقي إلى خزانته.
وكان سبب أخذ الرشيد تركته أن أخاه جعفر بن سليمان كان يسعى به إلى الرشيد حسدا له ويقول إنه لا مال له ولا ضيعة إلا وقد أخذ أكثر من ثمنها ليتقوى به على ما تحدث به نفسه يعني الخلافة وإن أمواله حل طليق لأمير المؤمنين؛ وكان الرشيد يأمر بالاحتفاظ بكتبه فلما توفي محمد بن سليمان أخرجت كتبه إلى جعفر أخيه واحتج عليه بها ولم يكن له أخ لأبيه وأمه غير جعفر فأقر بها فلهذا قبضت أمواله.
وفيها ماتت الخيزران أم الرشيد فحمل الرشيد جنازتها ودفنها في مقابر قريش ولما فرغ من دفنها أعطى الخاتم الفضل بن الربيع وأخذه من جعفر بن يحيى بن خالد.
119

وفيها استقدم الرشيد جعفر بن محمد بن الأشعث من خراسان واستعمل عليها ابنه العباس بن جعفر وحج بالناس الرشيد أحرم من بغداد.
وفيها مات مورقاط ملك جليقية من بلاد الأندلس وولي بعده برمند بن قلورية القس ثم تبرأ من الملك وترهب وجعل ابن أخيه في الملك وكان ملك ابن أخيه سنة خمس وسبعين ومائة.
وفيها توفي سلام بن أبي مطيع بتشديد اللام وجويرية بن أسماء بن عبيد البصري ومروان بن معاوية بن الحرث بن أسماء الفزاري أبو عبد الله وكان موته بمكة فجأة.
120

174
ثم دخلت سنة أربع وسبعين ومائة
فيها استعمل الرشيد إسحاق بن سليمان على السند ومكران.
وفيها استقضى الرشيد يوسف بن أبي يوسف وأبوه حي.
وفيها هلك روح بن حاتم وسار الرشيد إلى الجودي ونزل بقردى وبازبدي من أعمال جزيرة ابن عمر فابتنى بها قصرا.
وغزا الصائفة عبد الملك بن صالح.
وحج بالناس الرشيد فقسم في الناس مالأ كثيرا.
وفيها عزل علي بن مسهر عن قضاء الموصل وولي القضاء بها إسحاق بن زياد الدولابي.
121

175
ثم دخلت سنة خمس وسبعين ومائة
وفي هذه السنة عقد الرشيد لابنه محمد بن زبيدة بولاية العهد ولقبه الأمين وأخذ له البيعة وعمره خمس سنين.
وكان سبب البيعة أن خاله عيسى بن جعفر بن المنصور جاء إلى الفضل بن يحيى بن خالد فسأله في ذلك وقال له إنه ولدك وخلافته لك فوعده بذلك وسعى فيها حتى بايع الناس له بولاية العهد.
وفيها عزل الرشيد عن خراسان العباس بن جعفر وولاها خالدا الغطريف بن عطاء.
وغزا الصائفة عبد الرحمن بن عبد الملك بن صالح فبلغ أقريطية وقيل غزاها عبد الملك نفسه فأصابهم برد شديد سقط منه كثير [من] أيدي الجند وأرجلهم.
وفيها سار يحيى بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي إلى الديلم فتحرك هناك؛ وحج بالناس هذه السنة هارون الرشيد.
122

ذكر ظفر هشام بأخويه ومطروح
وفيها فزع هشام بن عبد الرحمن صاحب الأندلس من أخويه سليمان وعبد الله وأجلاهما عن الأندلس فلما خلا سره منهما انتدب لمطروح بن سليمان بن يقظان فسير إليه جيشا كثيفا وجعل عليهم أبا عثمان عبيد الله بن عثمان فساروا إلى مطروح، وهو بسرقسطة فحصروه بها فلم يظفروا به فرجع أبو عثمان عنه ونزل بحصن طرسونة بالقرب من سرقسطة وبث سراياه على أهل سرقسطة يغيرون ويمنعون عنهم الميرة.
ثم أن مطروحا خرج في بعض الأيم آخر النهار يتصيد فأرسل البازي على طائر فاقتنصه فنزل مطروح ليذبحه بيده ومعه صاحبان له قد انفرد بهما عن أصحابه فقتلاه وأخذا رأسه وأتيا به أبا عثمان فسار إلى سرقسطة فكاتبه أهلها بالطاعة فقبل منهم وسار إليها فنزلها وأرسل رأس مطروح إلى هشام.
ذكر غزاة هشام بالأندلس
ثم أن عثمان لما فرغ من مطروح أخذ الجيش وسار بهم غلى بلاد الفرنج فقصد ألية والقلاع فلقيه العدو فظفر بهم وقتل منهم خلقا
123

كثيرا، وفتح الله عليه.
وفيها سير هشام أيضا يوسف بن بخت في جيش إلى جليقية فلقي ملكهم وهو برمند الكبير فاقتتلوا قتالا شديدا وانهزمت الجلالقة وقتل منهم عالم كثير.
وفيها انقاد أهل طليطلة إلى طاعة الأمير هشام فآمنهم.
وفيها سجن هشام أيضا ابنه عبد الملك لشيء بلغه عنه فبقي مسجونا حياة أبيه وبعض ولاية أخيه فتوفي محبوسا سنة ثمان وتسعين ومائة.
ذكر عدة حوادث
وفيها خرج بخراسان حصين الخارجي وهو من موالي قيس بن ثعلبة من أهل أوق، وكان على سجستان عثمان بن عمارة فأرسل جيشا فلقيهم حصين فهزمهم ثم أتى خراسان وقصد باذغيس وبوشنج وهراة وكتب الرشيد إلى الغطريف في طلبه فسير إليه الغطريف داود بن يزيد في اثني عشر ألفا فلقيهم حصين في ستمائة فهزمهم وقتل منهم خلقا كثيرا.
ثم سار في خراسان إلى أن قتل سنة سبع وسبعين ومائة.
وفيها مات الليث بن سعد الفقيه بمصر ومحمد بن إسحاق بن إبراهيم أبو العنبس الشاعر.
وفيها توفي المسيب بن زهير بن عمر بن مسلم الضبي، وقيل سنة ست وسبعين وكان على شرط المنصور والمهدي وولاه المهدي خراسان.
وفيها ولد إدريس بن إدريس بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب.
124

176
ثم دخلت سنة ست وسبعين ومائة
ذكر ظهور يحيى بن عبد الله بالديلم
في هذه السنة ظهر يحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بالديلم واشتدت شوكته وكثر جموعه وأتاه الناس من الأمصار.
فاغتم الرشيد لذلك فندب إليه الفضل بن يحيى في خمسين ألفا ومعه صناديد القواد وولاه جرجان وطبرستان والري وغيرها وحمل معه الأموال فكاتب يحيى بن عبد الله ولطف به وحذره وأشار عليه وسط أمله.
ونزل الفضل بالطالقان بمكان يقال له أشب ووالى كتبه إلى يحيى وكاتب صاحب الديلم وبذل له ألف ألف درهم على أن يسهل له خروج يحيى بن عبد الله فأجاب يحيى إلى الصلح على أن يكتب له الرشيد أمانا بخطه يشهد عليه فيه القضاة والفقهاء وجلة بني هاشم ومشايخهم منهم عبد الصمد بن علي فاجابه الرشيد إلى ذلك وسربه وعظمت منزلة الفضل عنده وسير الأمان مع هدايا وتحف فقدم يحيى مع الفضل بغداد فلقيه الرشيد بكل ما أحب وأمر له بمال كثير.
ثم أن الرشيد حبسه فمات في الحبس وكان الرشيد قد عرض كتاب أمان يحيى على محمد بن الحسن الفقيه وعلى أبي البختري القاضي، فقال
125

محمد: الأمان صحيح فحاجه الرشيد فقال محمد وما يصنع بالأمان لو كان محاربا ثم ولي وكان آمنا وقال أبو البختري هذا أمان منتقض من وجه كذا فمزقه الرشيد.
ذكر ولاية عمر بن مهران مصر
وفيها عزل الرشيد موسى بن عيسى عن مصر ورد أمرها إلى جعفر بن يحيى بن خالد فاستعمل عليها جعفر عمر بن مهران.
وكان سبب عزله أن الرشيد بلغه أن موسى عازم على الخلع فقال والله لا أعزله إلا بأخس من على بابي! فأمر جعفر فأحضر عمر بن مهران وكان أحول مشوه الخلق وكان لباسه خسيسا وكان يردف غلامه خلفه فلما قال له الرشيد أتسير إلى مصر أميرا فقال أتولاها على شرائط إحداها أن يكون اذني إلى نفسي إذا أصلحت البلاد انصرفت فأجابه إلى ذلك.
فسار، فلما وصل إليها أتى جار موسى فجلس في أخريات الناس فلما تفرقوا قال ألك حاجة قال نعم ثم دفع إليه الكتب فلما قرأها قال هل يقدم أبو حفص أبقاه الله قال أنا أبو حفص قال موسى لعن الله فرعون حيث قال أليس لي ملك مصر ثم سلم له العمل فتقدم عمر إلى كاتبه أن لا يقبل هدية إلا ما يدخل في الكيس، فبعث الناس بهداياهم فلم يقبل دابة ولا جارية ولم يقبل إلا المال والثياب فأخذها وكتب عليها أسماء أصحابها وتركها.
126

وكان أهل مصر قد اعتادوا المطل بالخراج وكسره فبدأ عمر برجل منهم فطالبه بالخراج فلواه فأقسم أن لا يؤديه إلا بمدينة السلام فبذل الخراج فلم يقبله منه وحمله إلى بغداد فأدى الخراج بها فلم يمطله أحد فاخذ النجم الأول والنجم الثاني فلما كان النجم الثالث وقعت المطاولة والمطل وشكوا الضيق فأحضر تلك الهدايا وحسبها لأربابها وأمرهم بتعجيل الباقي فاسرعوا في ذلك فاستوفى خراج مصر عن آخره ولم يفعل ذلك غيره ثم انصرف إلى بغداد.
ذكر فتنة بدمشق
وفي هذه السنة هاجت الفتنة بدمشق بين المضرية واليمانية.
وكان رأس المضرية أبو الهيذام واسمه عامر بن عمارة بن خزيم الناعم بن عمرو بن الحرث بن خارجة بن سنان بن أبي حارثة بن مرة بن نشبة بن غيظ بن مرة بن عوف
بن سعد بن ذيبان بن بغيض بن ريث بن غطفان المري أحد فرسان العرب المشهورين.
وكان سبب الفتنة أن عاملا للرشيد بسجستان قتل أخا لأبي الهيذام، فخرج أبة الهيذام بالشام، وجمع جمعا عظيما، وقال رثي أخاه:
(سأبكيك بالبيض الرقاق وبالقنا * فإن بها ما يدرك الطالب الوترا)
(ولسنا كمن ينعى أخاه بعبرة * يعصرها من ماء مقلته عصرا)
127

(وإنا أناس ما تفيض دموعنا * على هالك منا وإن قصم الظهرا)
(ولكنني أشفي الفؤاد بغارة * الهب في قطري كتائبها جمرا)
وقيل: أن هذه الأبيات لغيره والصحيح أنها له ثم أن الرشيد احتال عليه بأخ له كتب إليه فأرغبه ثم شد عليه فكتفه وأتى به الرشيد فمن عليه وأطلقه.
وقيل كان أول ما هاجت الفتنة في الشام أن رجلا من [بني] القين خرج بطعام له يطحنه في الرحى بالبلقاء فمر بحائط رجل من لخم أو جذام وفيه بطيخ وقثاء فتناول منه فشتمه صاحبه وتضاربا وسار القيني فجمع صاحب البطيخ قوما من أهل اليمن ليضربوه إذا عاد فلما عاد ضربوه وأعانه قوم آخرون فقتل رجل من اليمانية وطلبوا بدمه فاجتمعوا لذلك.
وكان على دمشق حينئذ عبد الصمد بن علي فلما خاف الناس أن يتفاقم ذلك اجتمع أهل الفضل والرؤساء ليصلحوا بينهم فأتوا بني القين فكلموهم فأجابوهم إلى ما طلبوا فأتوا اليمانية فكلموهم فقالوا انصرفوا عنا حتى ننظر ثم ساروا، فبيتوا [بني] القين فقتلوا منهم ستمائة وقيل ثلاثمائة فاستنجدت بنو القين قضاعة وسليحا فلم ينجدوهم فاستنجدت قيسا فأجابوهم وساروا معهم إلى الصواليك من أرض البلقاء فقتلوا من اليمانية ثمانمائة وكثر القتال بينهم فالتقوا مرات.
وعزل عبد الصمد عن دمشق واستعمل عليها إبراهيم بن صالح بن علي فقام ذلك الشر بينهم نحو ستين والتقوا بالبثنية فقتل من اليمانية نحو ثمانمائة ثم اصطلحوا بعد شر طويل.
128

ووفد إبراهيم بن صالح على الرشيد، وكان ميله مع اليمانية فوقع في قيس عند الرشيد فاعتذر عنهم عبد الواحد بن بشر النصري من بني نصر فقبل عذرهم ورجعوا واستخلف إبراهيم بن صالح على دمشق ابنه إسحاق وكان ميله أيضا مع اليمانية فأخذ جماعة من قيس فحبسهم وضربهم وحلق لحاهم فنفر الناس ووثبت غسان برجل من ولد قيس بن العبسي فقتلوه فجاء أخوه إلى ناس من الزواقيل بحوران فاستنجدهم فأنجدوه وقتلوا من اليمانية نفرا.
ثم ثارت اليمانية بكليب بن عمرو بن الجنيد بن عبد الرحمن وعنده ضيف له فقتلوه فجاءت أم الغلام بثيابه إلى أبي الهيذام فألقتها بين يديه فقال انصرفي حتى ننظر فإني لا أخبط خبط العشواء حتى يأتي الأمير ونرفع إليه دماءنا فإن نظر فيها وإلا فأمير المؤمنين ينظر فيها.
ثم أرسل إسحاق فأحضر أبا الهيذام فحضر فلم يأذن له ثم أن أناسا من الزواقيل قتلوا رجلا من اليمانية وقتلت اليمانية رجلا من سليم ونهبت أهل تلفياثا وهم جيران محارب فجاءت محارب إلى أبي الهيذام فركب معهم إلى إسحاق في ذلك فوعدهم الجميل فرضي فلما انصرف أرسل إسحاق إلى اليمانية يغريهم بأبي الهيذام فاجتمعوا وأتوا أبا الهيذام من باب الجابية فخرج إليهم في نفر يسير فهزمهم واستولى على دمشق وأخرج أهل السجون عامة.
ثم أن أهل اليمانية استجمعت واستنجدت كلبا، وغيرهم، فأمدوهم، وبلغ الخبر أبا الهيذام فأرسل إلى المضرية فأتته الأمداد وهو يقاتل اليمانية.
129

عند باب توما فانهزمت اليمانية ثم أن اليمانية أتت قرية لقيس عن دمشق فأرسل أبو الهيذام إليهم الزواقيل فقاتلوهم فانهزمت اليمانية أيضا ثم لقيهم جمع آخر فانهزموا أيضا ثم أتاهم الصريخ أدركوا باب توما فأتوه فقاتلوا اليمانية فانهزمت أيضا فهزموهم في يوم واحد أربع مرات ثم رجعوا إلى أبي الهيذام.
ثم ارسل إسحاق إلى أبي الهيذام يأمره بالكف ففعل وأرسل إلى اليمانية قد كففته عنكم فدونكم الرجل فهو غار فأتوه من باب شرقي متسللين، فأتى الصريخ أبا الهيذام فركب في فوارس من أهله فقاتلهم فهزمهم.
ثم بلغه خبر جمع آخر على باب توما، فأتاهم، فهزمهم أيضا؛ ثم جمعت اليمانية أهل الأردن والخولان وكلبا وغيرهم وأتى الخبر أبا الهيذام فأرسل من يأتيه بخبرهم فلم يقف لهم على خبر في ذلك وجاؤوا من جهة أخرى كان آمنا منها لبناء فيها.
فلما انتصف النهار ولم ير شيئا فرق أصحابه فدخلوا المدينة ودخلها معهم وخلف طليعة فلما رآه إسحاق قد دخل أرسل إلى ذلك البناء فهدمه وأمر اليمانية بالعبور ففعلوا فجاءت الطليعة إلى أبي الهيذام فأخبروه الخبر وهو عند باب الصغير ودخلت اليمانية المدينة وحملوا على أبي الهيذام فلم يبرح وأمر بعض أصحابه أن يأتي اليمانية من ورائهم ففعلوا فلما رأتها اليمانية تنادوا الكمين الكمين وانهزموا وأخذ منهم سلاحا وخيلا.
فلما كان مستهل صفر جمع إسحاق الجنود فعسكروا عند قصر الحجاج،
130

وأعلم أبو الهيذام أصحابه فجاءته بنو القين وغيرهم واجتمعت اليمن إلى إسحاق فالتقى بعض العسكر فاقتتلوا فانهزمت اليمانية وقتل منهم، ونهب أصحاب أبو الهيذام بعض داريا وأحرقوا فيها ورجعوا وأغار هؤلاء فنهبوا وأحرقوا واقتتلوا غير مرة فانهزمت اليمانية أيضا.
فأرسلت ابنة الضحاك بن رمل السكسكي وهي يمانية إلى أبو الهيذام تطلب منه الأمان فأجابها وكتب لها ونهب القرى التي لليمانية بنواحي دمشق وأحرقها، فلما رأت اليمانية ذلك أرسل إليه ابن خارجة الحرشي وابن عزة الخشني وأتاه الأوزاع والأوصاب ومقرا وأهل كفر سوسية والحميريون وغيرهم يطلبون الأمان فأمنهم فسكن الناس وأمنوا.
وفرق أبو الهيذام أصحابه وبقي في نفر يسير من أهل دمشق فطمع فيه إسحاق فبذل الأموال للجنود ليواقع أبا الهيذام فأرسل العذافر السكسكي في جمع إلى أبي الهيذام فقاتلوهم فانهزم العذافر.
ودامت الحرب بين أبي الهيذام وبين الجنود من الظهر إلى المساء وحمل خيل أبي الهيذام على الجند فجالوا ثم تراجعوا وانصرفوا وقد جرح منهم أربعمائة ولم يقتل منهم أحد وذلك نصف صفر.
فلما كان الغد لم يقتتلوا إلى المساء فلما كان آخر النهار تقد إسحاق في الجند فقاتلهم عامة الليل وهم بالمدينة واستمد أبو الهيذام أصحابه،
131

وأصبحوا من الغد فاقتتلوا والجند في اثني عشر ألفا وجاءتهم اليمانية وخرج أبو الهيذام من المدينة فقال لأصحابه وهم قليلون انزلوا فنزلوا وقاتلوهم على باب الجابية حتى أزالوهم عنه.
ثم أن جمعا من أهل حمص أغاروا على قرية لأبي الهيذام فأرسل طائفي من أصحابه إليهم فقاتلوهم فانهزم أهل حمص وقتل منهم بشر كثير وأحرقوا قرى في الغوطة لليمانية وأحرقوا داريا ثم بقوا نيفا وسبعين يوما لم تكن حرب.
فقدم السندي، مستهل ربيع الآخر، في الجنود من عند الرشيد فأتته اليمانية تغريه بأبي الهيذام وأرسل أبو الهيذام إليه يخبره أنه على الطاعة فاقبل حتى دخل دمشق وإسحاق بدار الحجاج فلما كان الغد أرسل السندي قائدا في ثلاثة آلاف وأخرج إليهم أبو الهيذام ألفا فلما رآهم القائد رجع إلى السندي فقال أعط هؤلاء ما أرادوا فقد رأيت قوما الموت أحب إليهم من الحياة فصالح أبا الهيذام وأمن أهل دمشق والناس.
وسار أبو الهيذام إلى حوران وأقام السندي بدمشق ثلاثة أيام، وقدم موسى بن عيسى واليا عليها، فلما دخلها أقام بها عشرين يوما، واغتنم غرة أبي الهيذام فأرسل من يأتيه به، فكسبوا داره، فخرج هو وابنه خريم وعبد له، فقاتلوهم، ونجا منهم وانهزم الجند.
وسمعت خيل أبي الهيذام فجاءته من كل ناحية وقصد بصرى وقاتل جنود موسى بطرف اللجاة فقتل منهم وانهزموا ومضى أبا الهيذام فلما أصبح أتاه خمسة فوارس فكلموه فأوصى أصحابه بما أراد وتركهم ومضى وذلك لعشر بقين من رمضان سنة سبع وسبعين ومائة.
وكان أولئك النفر قد أتوه من عند أخيه يأمره بالكف ففعل ومضى معهم وأمر أصحابه بالتفرق وكان آخر الفتنة ومات أبو الهيذام سنة
132

اثنتين وثمانين ومائة.
هذا ما أردنا ذكره على سبيل الاختصار.
(خريم بضم الخاء المعجمة وفتح الراء وحارثة بالحاء المهملة والثاء المثلثة نشبة بضم النون وسكون الشين المعجمة وبعده باء موحدة وبغيض بالباء الموحدة وكسر الغين المعجمة وآخره ضاد معجمة وريث بالراء والياء تحتها نقطتان وآخره ثاء مثلثة).
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة غزا عبد الملك بن عبد الواحد بجيش صاحب الأندلس بلاد الفرنج فبلغ ألية والقلاع فغنم وسلم.
وفيها استعمل هشام ابنه الحكم على طليطلة وسيره إليها فضبطها وأقام بها وولد له بها ابنه عبد الرحمن بن الحكم وهو الذي ولي الأندلس بعد أبيه.
وفيها استعمل الرشيد على الموصل الحاكم بن سليمان.
وفيها خرج الفضل الخارجي بنواحي نصيبين فأخذ من أهلها مالأ وسار إلى دارا وآمد وارزن فأخذ منهم مالأ وكذلك فعل بالخلاط ثم رجع إلى نصيبين وأتى الموصل فخرج إليه عسكرها فهزمهم على الزاب،
133

ثم عادوا لقتاله فقتل الفضل وأصحابه.
وفيها مات الفرج بن فضالة وصالح بن بشير المري القاري وكان ضعيفا في الحديث.
وفيها توفي عبد الملك بن محمد بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أبو طاهر الأنصاري وكان قاضيا ببغداد.
وفيها توفي نعيم بن ميسرة النحوي الكوفي وأبو الأحوص وأبو عوانة واسمه الوضاح مولى يزيد بن عطاء الليثي وكان مولده سنة اثنتين وتسعين.
134

177
ثم دخلت سنة سبع وسبعين ومائة
ذكر غزو الفرنج بالأندلس
فيها سير هشام صاحب الأندلس جيشا كثيفا واستعمل عليهم عبد الملك بن عبد الواحد بن مغيث فدخلوا بلاد العدو فبلغوا أربونة وجرندة فبدأ بجرندة وكان بها حامية الفرنج فقتل رجالها وهدم أسوارها وأبراجها وأشرف على فتحها فرحل عنها إلى أربونة ففعل مثل ذلك وأوغل في بلادهم ووطئ أرض شرطانية فاستباح حريمها وقتل مقاتلتها وجاس البلاد شهورا يخرب الحصون ويحرق وينم قد أجفل العدو من بين يديه هاربا وأوغل في بلادهم ورجع سالما معه من الغنائم ما لا يعلمه إلا الله تعالى وهي من أشهر مغازي المسلمين بالأندلس.
ذكر استعمال الفضل بن روح بن حاتم على أفريقية
وفي هذه السنة وهي سنة سبع وسبعين استعمل الرشيد على أفريقية الفضل بن روح بن حاتم وكان الرشيد لما توفى روح استعمل بعده حبيب بن نصر المهلبي، فسار الفضل إلى باب الرشيد وخطب ولاية أفريقية،
135

فولاه فعاد إليها فقدم في المحرم سنة سبع وسبعين ومائة فاستعمل على مدينة تونس ابن أخيه المغيرة بن بشر بن روح وكان غارا فاستخف بالجند.
وكان الفضل أيضا قد أوحشهم وأساء السيرة معهم بسبب ميلهم إلى نصر بن حبيب الوالي قبله فاجتمع من بتونس وكتبوا إلى الفضل يستعفون من ابن أخيه فلم يجبهم عن كتابهم فاجتمعوا على ترك طاعته فقال لهم قائد من الخراسانية يقال له محمد بن الفارسي كل جماعة لا رئيس لها فهي إلى الهلاك أقرب فانظروا رجلا يدبر أمركم. قالوا صدقت فاتفقوا على تقديم قائد منهم يقال له عبد الله بن الجارود يعرف بعبدويه الأنباري فقدموه عليهم وبايعوه على السمع والطاعة وأخرجوا المغيرة عنهم وكتبوا إلى الفضل يقولون أنا لم نخرج يدا عن طاعته ولكنه أساء السيرة فأخرجناه فول علينا من نرضاه.
فاستعمل عليهم ابن عمه عبد الله بن يزيد بن حاتم وسيره إليهم فلما كان على مرحلة من تونس أرسل إليه ابن الجارود جماعة لينظروا في أي شئ قدم ولا يحدثوا حدثا إلا بأمر، فساروا إليه، وقال بعضهم لبعض أن الفضل يخدعكم بولاية هذا ثم ينتقم منكم بإخراجكم أخاه فعدوا على عبد الله بن يزيد فقتلوه وأخذوا من معه من القواد أسارى، فاضطر حينئذ عبد الله بن الجارود ومن معه إلى القيام والجد في إزالة الفضل. فتلوى ابن الفارسي الأمر وصار يكتب إلى كل قائد بافريقية ومتولي مدينة يقول له:
أنا نظرنا في صنيع الفضل في بلاد أمير المؤمنين وسوء سيرته فلم
136

يسعنا إلا الخروج علينا لنخرجه عنا ثم نظرنا فلم نجد أحدا أولى بنصيحة أمير المؤمنين لبعد صوته وعطفه على جنده منك فرأينا أن نجعل نفوسنا دونك فإن ظفرنا جعلناك أميرنا وكتبنا إلى أمير المؤمنين نسأله ولايتك وإن كانت الأخرى لم يعلم أحد أننا أردناك والسلام.
فأفسد بهذا كافة الجند على الفضل وكثر الجمع عندهم، فسير إليهم الفضل عسكرا كثيرا فخرجوا إليه فقاتلوه فانهزم عسكره وعاد إلى القيروان منهزما وتبعهم أصحاب ابن الجارود فحاصروا القيروان يومهم ذلك، ثم فتح أهل القيروان الأبواب ودخل ابن الجارود وعسكره في جمادى الأخرة سنة ثمان وسبعين ومائة وأخرج الفضل من القيروان ووكل به وبمن معه من أهله أن يوصلهم إلى قابس فساروا يومهم ثم ردهم ابن الجارود وقتل الفضل بن روح بن حاتم.
فلما قتل الفضل غضب جماعة من الجند واجتمعوا على قتل ابن الجارود فسير إليهم عسكرا فانهزم عسكره وعاد إليه بعد قتال شديد واستولى أولئك الجند على القيروان وكان ابن الجارود بمدينة تونس فسار إليهم وقد تفرقوا بعد دخول القيروان، فوصل إليهم ابن الجارود فلقوه واقتتلوا فهزمهم ابن الجارود وقتل جماعة من أعيانهم فانهزموا فلحقوا بالأربس وقدموا عليهم العلاء بن سعيد والي بلد الزاب وساروا إلى القيروان.
ذكر ولاية هرثمة بن أعين بلاد إفريقية
اتفق وصول يحيى بن موسى من عند الرشيد لما قصد العلاء ومن معه القيروان وكان سبب وصوله أن الرشيد بلغه ما صنع ابن الجارود،
137

وإفساده إفريقية، فوجه هرثمة بن أعين ومعه يحيى بن موسى لمحله عند أهل خراسان وأمر أن يتقدم يحيى فيتلطف بابن الجارود ويستميله ليعاود الطاعة قبل وصول هرثمة؛ فقدم يحيى القيروان فجرى بينه وبين ابن الجارود كلان كثير ودفع إليه كتاب الرشيد فقال أنا على السمع والطاعة وقج قرب مني العلاء بن سعيد ومعه البربر فإن تركت القيروان وثب البربر فملكوها فأكون قد ضيعت بلاد أمير المؤمنين ولكني أخرج إلى العلاء فإن ظفر بي فشأنكم والثغور وإن ظفرت به انتظرت قدوم هرثمة فأسلم البلاد إليه وأشير إلى أمير المؤمنين.
وكان قصده المغالطة فإن ظفر بالعلاء منع هرثمة عن البلاد فعلم يحيى ذلك وخلا بابن الفارسي وعاتبه على ترك الطاعة فاعتذر وحلف أنه عليها وبذل من نفسه المساعدة على ابن الجارود، فسعى ابن الفارسي في افساد حاله واستمال جماعة من أجناده فأجابوه وكثر جمعه وخرج إلى قتال ابن الجارود، فقال ابن الجارود لرجل من أصحابه اسمه طالب إذا تواقفنا فإنني سأدعو ابن الفارسي لأعاتبه فاقصده أنت وهو غافل فاقتله فأجابه إلى ذلك وتواقف العسكران ودعا ابن الجارود محمد بن الفارسي وكلمه وحمل طالب عليه وهو غافل فقتله وانهزم أصحابه، وتوجه يحيى بن موسى إلى هرثمة بطرابلس.
وأما العلاء بن سعيد فإنه لما علم الناس بقرب هرثمة منهم كثر جمعه وأقبلوا إليه من كل ناحية وسار إلي ابن الجارود.
فعلم ابن الجارود أنه لا قوة له به فكتب إلى يحيى بن موسى يستدعيه ليسلم إليه القيروان،
138

فسار إليه في جند طرابلس في المحرم سنة تسع وسبعين ومائة، فلما وصل قابسا تلقاه عامة الجند وخرج ابن الجارود من القيروان مستهل صفر وكانت ولايته سبعة أشهر.
وأقبل العلاء بن سعيد ويحيى بن موسى يستبقان إلى القيروان كل منهما يريد أن يكون الذكر له فسبقه العلاء ودخلها وقتل جماعة من أصحاب ابن الجارود وسار إلى هرثمة فسيره هرثمة إلى الرشيد وكتب إليه يعلمه أن العلاء كان سبب خروجه، فكتب الرشيد يأمره بإرسال العلاء إليه فسيره فلما وصل لقيه صلة كثيرة من الرشيد، وخلع فلم يلبث بمصر إلا قليلا حتى توفي.
وأما ابن الجارود فإنه اعتقل ببغداد، وسار هرثمة إلى القيروان فقدمها في ربيع الأول سنة تسع وسبعين ومائة فأمن الناس وسكنهم وبنى القصر الكبير بالمنستير سنة ثمانين ومائة وبنى سور مدينة طرابلس مما يلي البحر.
وكان إبراهيم بن الأغلب بولاية الزاب فأكثر الهدية إلى هرثمة ولاطفه فولاه هرثمة ناحية من الزاب فحسن أثره فيها.
ثم إن عياض بن وهب الهواري وكليب بن جميع الكلبي جمعا جموعا وأرادا قتال هرثمة فسير إليهما يحيى بن موسى في جيش كثير ففرق جموعهما وقتل كثيرا من أصحابهما وعاد إلى القيروان.
ولما رأى هرثمة بأفريقية من الاختلاف واصل كتبه إلى الرشيد يستعفي فأمره بالقدوم عليه إلى العراق فسار عن أفريقية في رمضان سنة إحدى وثمانين ومائة فكانت ولايته سنتين ونصفا.
139

ذكر الفتنة بالموصل
وفيها خالف العطاف بن سفيان الأزدي على الرشيد وكان من فرسان أهل الموصل واجتمع عليه أربعة آلاف رجل وجبى الخراج وكان عامل الرشيد على الموصل محمد بن العباس الهاشمي وقيل عبد الملك بن صالح والعطاف غالب على الأمر كله وهو يجب الخراج وأقام على هذا سنتين حتى خرج الرشيد إلى الموصل فهدم سورها بسببه.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة عزل الرشيد جعفر بن يحيى عن مصر واستعمل عليها إسحاق بن سليمان وعزل حمزة بن مالك عن خراسان واستعمل عليها الفضل بن يحيى البرمكي مضافا إلى ما كان إليه من الأعمال وهي الري وسجستان وغيرهما.
وفيها غزا الصائفة عبد الرزاق بن عبد الحميد التغلبي.
وفيها من المحرم هاجت ريح شديدة وظلمة ثم عادت مرة ثانية في صفر وحج بالناس الرشيد.
وفيها توفي عبد الواحد بن زيد وقيل سنة ثمان وسبعين.
وفيها توفي شريك بن عبد الله النخعي، وجعفر بن سليمان.
140

178
ثم دخلت سنة ثمان وسبعين ومائة
ذكر الفتنة بمصر
في هذه السنة وثبت الحوفية بمصر على عاملهم إسحاق بن سليمان وقاتلوه وأمده الرشيد بهرثمة بن أعين وكان عامل فلسطين فقاتلوا الحوفية وهم من قيس وقضاعة فأذعنوا بالطاعة وأدوا ما عليهم للسلطان.
فعزل الرشيد إسحاق عن مصر واستعمل عليها هرثمة مقدار شهر ثم عزله واستعمل عليها عبد الملك بن صالح
ذكر خروج الوليد بن طريف الخارجي
وفيها خرج الوليد بن طريف التغلبي بالجزيرة ففتك إبراهيم بن خازم بن خزيمة بنصيبين ثم قويت شوكة الوليد فدخل إلى أرمينية وحصر خلاط عشرين يوما فافتدوا منه أنفسهم بثلاثين ألفا.
ثم سار إلى أذربيجان ثم إلى حلوان وأرض السواد ثم عبر إلى غرب دجلة وقصد مدينة بلد فافتدوا منه بمائة ألف وعاث في أرض الجزيرة فسير إليه الرشيد يزيد بن مزيد بن زائدة الشيباني وهو ابن أخي معن بن زائدة فقال الوليد:
(ستعلم يا يزيد إذا التقينا * بشط الزاب أي فتى يكون)
141

فجعل يخاتله ويماكره وكانت البرامكة منحرفة عن يزيد فقالوا للرشيد إنما يتجافى عن الوليد للرحم لأنهما كلاهما من وائل وهونوا أمر الوليد فكتب إليه الرشيد كتاب مغضب وقال له لو وجهت أحد الخدم لقام بأكثر مما تقوم به ولكنك مداهن متعصب وأقسم بالله إن أخرت مناجزته لأوجهن إليك من يحمل رأسك فلقي الوليد عشية خميس في شهر رمضان سنة تسع وسبعين فيقال جهد عطشا حتى رمى بخاتمه في فيه وجعل يلوكه ويقول اللهم إنها شدة شديدة فاسترها. وقال لأصحابه: فداكم أبي وأمي إنما هي الخوارج ولهم حملة فاثبتوا فإذا نقضت حملتهم فاحملوا عليهم فإنهم إذا انهزموا لم يرجعوا.
فكان كما قال، حملوا عليهم حملة، فثبت يزيد ومن معه من عشيرته ثم حمل عليهم فانكشفوا، فيقال: إن أسد بن يزيد كان شبيها بأبيه جدا لا يفصل بينهما إلا ضربة في وجه يزيد تأخذ من قصاص شعره منحرفة على جبهته فكان أسد يتمنى مثلها فهوت إليه ضربة فأخرج وجهه من الترس فأصابته في ذلك الموضع فيقال لو خطت على ضربة أبيه ما عدا.
واتبع يزيد الوليد بن طريف فلحقه فأخذ رأسه فقال بعض الشعراء:
(وائل بعضهم يقتل بعضا * لا يفل الحديد إلا الحديد)
فلما قتل الوليد صبحتهم أخته ليلى بنت طريف مستعدة عليها الدرع فجعلت تحمل على الناس فعرفت فقال يزيد دعوها ثم خرج إليها فضرب بالرمح قطاة فرسها ثم قال اعزبي الله عليك فقد فضحت العشيرة فاستحيت وانصرفت وهي تقول ترثي الوليد:
(بتل تباثا رسم قبر كأنه * على علم فوق الجبال منيف)
142

(تضمن جودا حاتميا ونائلا * وسورة مقدام وقلب حصيف)
(ألا قتل الله الجثى كيف أضمرت * فتى كان بالمعروف غير عفيف)
(فإن يك أراده يزيد بن مزيد * فيا رب خيل فضها وصفوف)
(ألا يا لقومي للنوائب والردى * ودهر ملح بالكرام عنيف)
(وللبدر من بين الكواكب قد هوى * وللشمس همت بعده بكسوف)
(فيا شجر الخابور مالك مورقا * كأنك لم تجزع على ابن طريف)
(فتى لا يحب الزاد إلا من التقى * ولا المال إلا من قنا وسيوف)
(ولا الخيل إلا كل جرداء شطبة * وكل حصان باليدين عروف)
(فلا تجزعا يا أبتي طريف فإنني * أرى الموت نزالا بكل شريف)
(فقدناك فقدان الربيع فليتنا * فديناك من دهمائنا بألوف)
وقال مسلم بن الوليد في قتل الوليد ورفق يزيد قتاله من قصيدة هذه الأبيات:
(يفتر عند افترار الحرب مبتسما * إذا تغير وجه الفارس البطل)
(موف على مهج في يوم ذي رهج * كأنه أجل يسعى إلى أمل)
(ينال بالرفق ما تعي الرجال به * كالموت مستعجلا يأتي على مهل)
وهي حسنة جدا.
143

ذكر غزو الفرنج والجلالقة بالأندلس
فيها سير هشام صاحب الأندلس عسكرا مع عبد الكريم بن عبد الواحد بن مغيث إلى بلاد الفرنج فغزا ألية والقلاع فغنم وسلم.
وسير أيضا جيشا آخر مع أخيه عبد الملك بن عبد الواحد إلى بلاد الجلالقة فخرب دار ملكهم اذفونش وكنائسه وغنم فلما قفل المسلمون ضل الدليل بهم فنالهم مشقة شديدة ومات منهم بشر كثير ونفقت دوابهم وتلفت آلاتهم ثم سلموا وعادوا.
ذكر فتنة تاكرتا
وفيها هاجت فتنة تاكرتا بالأندلس وخلع بربرها الطاعة وأظهروا الفساد وأغاروا على البلاد وقطعوا الطريق، فسير هشام إليهم جندا كثيفا عليهم عبد القادر بن أبان بن عبد الله مولى معاوية بن أبي سفيان فقصدوها وتابعوا قتال من فيها إلى أن أبادوهم قتلا وسببا وفر من بقي منهم فدخل في سائر القبائل وبقيت كورة تاكرتا وجبالها خالية من الناس سبع سنين.
144

ذكر عدة حوادث
وفيها غزا الصائفة معاوية بن زفر بن عاصم وغزا الشاتية سليمان بن راشد ومعه البند بطريق صقلية.
وحج بالناس هذه السنة محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي.
وفيها فوض الرشيد أمور دولته كلها إلى يحيى بن خالد البرمكي.
وفيها وصل الفضل بن يحيى إلى خراسان وغزا ما وراء النهر من بخارى فحضر عنده صاحب أشر وسنة وكان ممتنعا وبنى الفضل بخراسان المساجد والرباطات.
وفيها توفي عبد الوارث بن سعيد والمفضل بن يونس وجعفر بن سليمان الضبعي.
145

179
ثم دخلت ستة تسع وسبعين ومائة
ذكر غزو الفرنج بالأندلس
فيها سير صاحب الأندلس جيشا كثيفا عليهم عبد الملك بن عبد الواحد بن مغيث إلى جليقية فساروا حتى انتهوا إلى استرقة وكان أذفونش ملك الجلالقة قد جمع وحشد وأمده ملك البشكنس وهم جيرانه ومن يليهم من المجوس وأهل تلك النواحي فصار في جمع عظيم فأقدم عليه عبد الملك فرجع أذفونش هيبة له وتبعهم عبد الملك يقفو أثرهم ويهلك كل من تخلف منهم فدوخ بلادهم وأوغل فيها وأقام فيها يغنم ويقتل ويخرب وهتك حريم اذفونش ورجع سالما.
وكان قد سير هشام جيشا آخر من ناحية أخرى فدخلوا أيضا على ميعاد من عبد الملك فأخربوا ونهبوا وغنموا فلما أرادوا الخروج من بلاد العدو اعترضهم عسكر للفرنج فنال منهم وقتل نفرا من المسلمين ثم تخلصوا وسلموا وعادوا سالمين سوى من قتل منهم.
ذكر عدة حوادث
فيها عاد الفضل بن يحيى من خراسان فاستعمل الرشيد منصور بن يزيد بن منصور الحميري خال المهدي واعتمر الرشيد في شهر رمضان،
146

شكرا لله تعالى على قتل الوليد بن طريف، وعاد إلى المدينة فأقام بها إلى وقت الحج وحج بالناس ومشى مكة إلى منى [ثم] إلى عرفات، وشهد المشاهد والمشاعر كلها ماشيا ورجع على طريق البصرة:
وفيها خرج بخراسان بحمزة بن اترك السجستاني.
وفيها توفي حماد بن يزيد بن درهم الأزدي مولاهم أبو إسماعيل ومالك بن أنس الأصبحي، الإمام أستاذ الشافعي.
وفيها توفي مسلم بن خالد الزنجي أبو عبد الله الفقيه المكي وصحبه الشافعي قيل مالك وأخذ عند الفقه وإنما قيل له الزنجي لأنه كان أبيض مشربا بحمرة وعباد بن حبيب بن المهلب بن أبي صفرة المهلبي البصري وأبو الأحوص سلام بن سليم الحنفي (سلام بتشديد [اللام]).
147

180
ثم دخلت سنة ثمانين ومائة
ذكر وفاة هشام
فيها مات هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان صاحب الأندلس في صفر، وكانت إمارته سبع سنين وسبعة أشهر وثمانية أيام وقيل تسعة أشهر وقيل عشرة أشهر وكان عمره تسعا وثلاثين سنة وأربعة أشهر وكنيته أبو الوليد وكانت أمه أم ولد.
وكان أبيض أشهل مشربا بحمرة بعينيه حول وخلف خمسة بنين وكان عاملا حازما ذا رأي وشجاعة وعدل خيرا محبا لأهل الخير والصلاح شديدا على الأعداء راغبا في الجهاد.
ومن أحسن عمله أنه أخرج مصدقا يأخذ الصدقة على كتاب الله وسنة نبيه أيام ولايته وهو الذي تمم بناء الجامع بمدينة قرطبة وكان أبوه قد مات قبل فراغه منه وبنى عدة مساجد معه وبلغ من عز الاسلام في أيامه وذل الكفر أن رجلا مات في أيامه وكان وصى أن يفك أسير من المسلمين من تركته فطلب ذلك فلم يوجد في دار الكفار أسير يشترى ويفك لضعف العدو وقوة المسلمين.
ومناقبه كثيرة قد ذكرها أهل الأندلس كثيرا وبالغوا حتى قالوا كان يشبه في سيرته بعمر بن عبد العزيز رحمه الله.
148

ذكر ولايته ابنه الحكم ولقبه المنتصر
ولما مات استخلف بعده ابنه الحكم وكان الحكم صارما حازما وهو أول من استكثر من المماليك بالأندلس وارتبط الخيل وتشبه بالجبابرة وكان يباشر الأمور بنفسه وكان فصيحا شاعرا، ولما ولي خرج عليه عماه سليمان وعبد الله وكانا في بر العدوة الغربية فعبر عبد الله البلنسي إلى الأندلس فتولى بلنسية وتبعه أخوه سليمان وكان بطنجة وأقبلا يؤلبان الناس على الحكم ويثيران الفتنة فتحاربوا مدة والظفر للحكم.
ثم إن الحكم ظفر بعمه سليمان فقتله سنة أربع وثمانين ومائة [وأما عبد الله] فأقام ببلنسية، وقد كف عن الفتنة وخاف فراسل الحكم في الصلح فأجابه إلى ذلك فوقع الصلح بينهما سنة ست وثمانين وزوج أولاد عبد الله بإخوته وسكنت الفتنة.
ولما اشتغل الحكم بالفتنة مع عميه اغتنم الفرنج الفرصة فقصدوا بلاد الإسلام وأخذوا مدينة برشلونة واتخذوها دارا ونقلوا أصحابهم إليها وتأخرت عساكر المسلمين عنها وكان أخذها سنة خمس وثمانين ومائة.
ذكر غزو الفرنج بالأندلس
في هذه السنة سير الحكم صاحب الأندلس، جيشا مع عبد الكريم بن مغيث إلى بلاد الفرنج فدخل البلاد السرايا ينهبون ويقتلون،
149

ويحرقون البلاد، وسير سرية فجازوا خليجا من البحر كان الماء قد جزر عنه وكان الفرنج قد جعلوا أموالهم وأهليهم وراء ذلك الخليج ظنا منهم أن أحدا لا يقدر أن يعبر إليهم فجاءهم ما لم يكن في حسابهم فغنم المسلمون جميع مالهم وأسروا الرجال وقتلوا منهم فأكثروا وسبوا الحريم وعادوا سالمين إلى عبد الكريم.
وسير طائفة أخرى فخربوا كثيرا من بلاد فرنسية وغنم أموال أهلها وأسروا الرجال فأخبره بعض الأسرى أن جماعة من ملوك الفرنج قد سبقوا المسلمين إلى واد وعر المسلك على طريقهم فجمع عبد الكريم عساكره وسار على تعبية وجد السير فلم يشعر الكفار إلا وقد خالطهم المسلمون فوضعوا السيف فيهم فانهزموا وغنم ما معهم وعاد سالما هو ومن معه.
ذكر ولاية علي بن عيسى خراسان
وفيها عزل الرشيد منصور بن يزيد عن خراسان، واستعمل عليها علي بن عيسى بن ماهان فوليها عشر سنين وفي ولايته خرج حمزة بن أترك الخارجي أيضا فجاء إلى بوشنج فخرج إليه عمرويه بن يزيد الأزدي وكان على هراة في ستة آلاف فقاتله فهزمه حمزة وقتل من أصحابه جماعة ومات عمرويه في الزحام فوجه إليه علي بن عيسى ابنه الحسين في عشرة آلاف فلم يحارب حمزة فعزله وسير عوضه ابنه عيسى بن
150

علي فقاتل حمزة، فهزمه حمزة، فرده أبوه إليه أيضا فقاتله بباخرز وكان حمزة بنيسابور فانهزم حمزة وقتل أصحابه وبقي في أربعين رجلا فقصد قهستان.
وأرسل عيسى أصحابه إلى أوق وجوين فقتلوا من بها من الخوارج وقصد القرى التي كان أهلها يعينون حمزة فأحرقها وقتل من فيها حتى وصل إلى زرنج فقتل ثلاثين ألفا ورجع وخلف بزرنج عبد الله بن العباس النفسي فجبى الأموال وسار بها فلقيه حمزة بأسفزار فقاتله فصبر له عبد الله ومن معه من الصغد فانهزم حمزة وقل كثير من
أصحابه وجرح في وجهه واختفى هو ومن سلم من أصحابه في الكروم ثم خرج وسار في القرى يقتل ولا يبقى على أحد.
وكان علي بن عيسى قد استعمل طاهر بن الحسين على بوشنج فسار إليه حمزة وانتهى إلى مكتب فيه ثلاثون غلاما فقتلهم وقتل معلمهم وبلغ طاهرا الخبر فأتى قرية فيها وقعد الخوارج وهم الذين لا يقاتلون ولا ديوان لهم فقتلهم طاهر وأخذ أموالهم وكان يشد الرجل منهم في شجرتين يجمعهما ثم يرسلهما فتأخذ كل شجرة نصفه فكتب القعد إلى حمزة بالكف فكف وواعدهم وأمن الناس مدة وكانت بينه وبين أصحاب علي بن عيسى حروب كثيرة.
ذكر عدة حوادث
وفيها سار جعفر بن يحيى بن خالد إلى الشام للعصبية التي بها ومعها القواد والعساكر والسلاح والأموال فسكن الفتنة وأطفأ النائرة وعاد الناس
151

إلى الأمن والسكون.
وفيها أخذ الرشيد الخاتم من جعفر فدفعه إلى أبيه يحيى بن خالد.
وفيها ولى جعفر خراسان وسجستان ثم عزله عنها بعد عشرين ليلة واستعمل عليها عيسى بن جعفر وولي جعفر بن يحيى الحرس.
وفيها هدم الرشيد سور الموصل بسبب العطاف بن سفيان الأزدي سار إليها بنفسه وهدم سورها واقسم ليقتلن من لقي من أهلها فأفتاه القاضي أبو يوسف ومنعه من ذلك، وكان العطاف قد سار عنها نحو أرمينية فلم يظفر به الرشيد ومضى إلى الرقة فاتخذها وطنا.
وفيها عزل هرثمة بن أعين عن إفريقية واستقدمه إلى بغداد واستخلفه جعفر بن يحيى على الحرس وفيها كانت بمصر زلزلة عظيمة سقط منها رأس منارة الإسكندرية.
وفيها خرج خراشة الشيباني بالجزيرة فقتله مسلم بن بكار العقيلي وفيها خرجت المحمرة بجرجان.
وفيها عزل الفضل بن يحيى عن طبرستان والرويان، ووليها عبد الله ابن خازم، وولي سعيد بن سلم الجزيرة، وغزا الصائفة محمد بن معاوية بن زفرة بن عاصم.
وفيها سار الرشيد إلى الحيرة وابتنى بها المنازل فاقطع أصحابه القطائع
152

فثار بهم أهل الكوفة وأساؤوا مجاورته فعاد إلى بغداد.
وحج بالناس هذه السنة موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي.
وفيها استعمل الرشيد على الموصل يحيى بن سعيد الحرشي فأساء السيرة في أهلها وظلمهم وطالبهم بخراج سنين مضت فجلا أكثر أهل البلد.
وفي هذه السنة توفي المبارك بن سعيد الثوري أخو سفيان وسلمة الأحمر وسعيد بن خيثم وأبو عبيدة عبد الوارث بن سعيد وعبد العزيز بن أبي حازم وتوفي وهو ساجد وأبو ضمرة أنس بن عياض الليثي المدني.
وفيها أمر الرشيد ببناء مدينة عين زربى وحصنها وسير إليها جندا من أهل خراسان وغيرهم فأقطعهم بها المنازل.
153

181
ثم دخلت سنة إحدى وثمانين ومائة
ذكر ولاية محمد بن مقاتل إفريقية
وفي هذه السنة استعمل الرشيد على أفريقية محمد بن مقاتل بن حكيم العكي لما استعفي منها هرثمة بن أعين على ما ذكرناه سنة سبع وسبعين ومائة وكان محمد هذا رضيع الرشيد فقدم القيروان أول رمضان فتسلمها وعاد هرثمة إلى الرشيد فلما استقر فيها لم يكن بالمحمود السيرة فاختلف الجند عليه واتفقوا على تقديم مخلد بن مرة الأزدي واجتمع كثير من الجند والبربر وغيرهم.
فسير إليه محمد بن مقاتل جيشا فقاتلوه فانهزم مخلد واختفى في مسجد فأخذ وذبح.
وخرج عليه بتونس تمام بن تميم التميمي في جمع كثير وساروا إلى القيروان في رمضان سنة ثلاث وثمانين وخرج إليه محمد بن مقاتل العكي في الذين معه فاقتتلوا بمنية الخيل فانهزم ابن العكي إلى القيروان وسار تمام فدخل القيروان وأمن ابن العكي على أن يخرج عن أفريقية فسار في رمضان إلى طرابلس.
فجمع إبراهيم بن الأغلب التميمي جمعا كثيرا وسار إلى القيروان
154

منكرا لما فعله تمام، فلما قاربها سار عنها إلى تونس ودخل إبراهيم القيروان وكتب إلى محمد بن مقاتل يعلمه الخبر ويستدعيه إلى عمله فعاد إلى القيروان وكتب إلى محمد بن مقاتل يعلمه الخبر ويستدعيه إلى عمله فعاد إلى القيروان فثقل ذلك على أهل البلد وبلغ الخبر إلى تمام فجمع جمعا وسار إلى القيروان ظنا منه أن الناس يكرهون محمدا ويساعدونه عليه.
فلما صول قال ابن الأغلب لمحمد إن تماما انهزم مني وأنا في قلة فلما وصلت إلى البلاد تجدد له طمع لعلمه أن الجند يخذلونك والرأي أن أسير أنا ومن معي من أصحابي فنقاتله ففعل ذلك وسار إليه فقاتله فانهزم تمام وقتل جماعة من أصحابه ولحق بمدينة تونس فسار إبراهيم بن الأغلب إليه ليحصره فطلب منه الأمان فأمنه.
ذكر ولاية إبراهيم بن الأغلب إفريقية
لما استقر الأمر لمحمد بن مقاتل ببلاد إفريقية وأطاعه تمام كره أهل البلاد ذلك وحملوا إبراهيم بن الأغلب على أن كتب إلى الرشيد يطلب منه ولاية إفريقية، فكتب إليه في ذلك وكان على ديار مصر كل سنة مائة ألف دينار تحمل إلى إفريقية معونة فنزل إبراهيم عن ذلك وبذل أن يحمل كل سنة أربعين ألف دينار فأحضر الرشيد ثقاته
واستشارهم فيمن يوليه إفريقية وذكر لهم كراهة أهلها ولاية محمد بن مقاتل، فأشار هرثمة بإبراهيم بن الأغلب وذكر له ما رآه من عقله ودينه وكفايته وأنه قام بحفظ إفريقية على ابن مقاتل فولاه الرشيد في المحرم سنة أربع وثمانين
155

ومائة، فانقمع الشر وضبط الأمر وسير تماما وكل من يتوثب على الولاة إلى الرشيد فسكنت البلاد وابتنى مدينة سماها العباسية بقرب القيروان وانتقل إليها بأهله وعبيده.
وخرج عليه، ست وثمانين ومائة، رجل من أبناء العرب بمدينة تونس، اسمه حمديس، فنزع السواد، وكثر جمعه، فبعث إليه ابن الأغلب عمران بن مخلد في عساكر كثيرة وأمره أن لا يبقى على أحد منهم ان ظفر بهم فسار عمران والتقوا واقتتلوا وصار أصحاب حمديس يقولون بغداد بغداد وصبر الفريقان فانهزم حمديس ومن معه وخذهم السيف فقتل منهم عشرة آلاف رجل ودخل عمران تونس.
ثم بلغ ابن الأغلب أن إدريس بن إدريس العلوي قد كثر جمعه بأقاصي المغرب فأراد قصده فنهاه أصحابه وقالوا اتركه ما تركك فاعمل الحيلة، وكاتب القيم بأمره من المغاربة واسمه بهلول بن عبد الواحد وأهدى إليه ولم يزل به حتى فارس إدريس وأطاع إبراهيم وتفرق جمع إدريس فكتب إلى إبراهيم يستعطفه ويسأله الكف عن ناحيته ويذكر له قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فكف عنه.
ثم إن عمران بن مخلد المقدم ذكره وكان من بطانة إبراهيم بن الأغلب وينزل معه في قصره ركب يوما مع إبراهيم وجعل يحدثه فلم يفهم من حديثه شيئا لاشتغال قلبه بهم كان له فاستعاد الحديث من عمران فغضب وفارق إبراهيم وجمع جمعا كثيرا وثار عليه، فنزل بين القيروان والعباسية وصارت القيروان وأكثر بلاد إفريقية معه.
فخندق إبراهيم على العباسية، وامتنع فيها، ودامت الحرب بينهما سنة كاملة فسمع الرشيد الخبر فانفذ إلى إبراهيم خزانة مال فلما صارت إليه الأموال أمر مناديا ينادي من كان من جند أمير المؤمنين فليحضر لأخذ
156

العطاء. ففارق عمران أصحابه وتفرقوا عنه فوثب عليهم أصحاب إبراهيم فانهزموا فنادى إبراهيم بالأمان والحضور لقبض العطاء فحضروا فأعطاهم وقلع أبواب القيروان وهدم في سورها.
وأما عمران فسار حتى لحق بالزاب فأقام به حتى مات إبراهيم وولي ابنه عبد الله فأمن عمران فحضر عنده وأسكنه معه فقيل لعبد الله إن هذا ثأر بأبيك ولا نأمنه عليك فقتله.
ولما انهزم عمران سكن الشر بافريقية وأمن الناس فبقي كذلك إلى أن توفي إبراهيم في شوال سنة ست وتسعين ومائة وعمره ست وخمسون سنة وإمارته اثنتا عشرة سنة وأربعة أشهر وعشرة أيام.
ذكر ولاية عبد الله بن إبراهيم بن الأغلب إفريقية
ولما توفي إبراهيم بن الأغلب ولي بعده ابنه عبد الله وكان عبد الله غائبا بطرابلس قد حصره البربر على ما نذكره سنة ست وتسعين ومائة فعهد إليه أبوه بالامارة وأمر ابنه زياد الله بن إبراهيم أن يبايع لأخيه عبد الله بالامارة فكتب إلى أخيه بموت أبيه وبالإمارة ففارق طرابلس ووصل إلى القيروان فاستقامت الأمور. ولم يكن في أيامه شر ولا حرب وسكن الناس فعمرت البلاد وتوفي في ذي الحجة سنة إحدى ومائتين.
157

ذكر من خالف بالأندلس على صاحبها
وفي هذه السنة خالف بهلول بن مرزوق المعروف بأبي الحجاج في ناحية الثغر من بلاد الأندلس ودخل سرقسطة وملكها فقدم على بهلول فيها عبد الله بن عبد الرحمن عم صاحبها الحكم ويعرف بالبلنسي وكان متوجها إلى الفرنج.
وخالف فيها عبيدة بن حميد بطليطلة وأمر الحكم القائد عمروس بن يوسف وهو بمدينة طلبيرة أن يحارب أهل طليطلة فكان يكثر قتلاهم وضيق عليهم ثم إن عمروس بن يوسف كاتب رجالا من أهل طليطلة يعرفون ببني مخشي واستمالهم فوثبوا على عبيدة بن حميد وقتلوه وحملوا رأسه إلى عمروس فسير الرأس إلى الحكم وأنزل بني مخشي عنده وكان بينهم وبين البربر الذين بمدينة طلبيرة ذحول فتسور البربر عليهم فقتلوهم، فسير عمروس رؤوسهم مع رأس عبيدة إلى الحكم وأخبره الخبر...... من باب آخر، فمن دخل منهم عدل به إلى موضع آخر فقتلوه حتى قتل منهم سبعمائة رجل فاستقامت تلك الناحية.
ذكر عدة حوادث
فيها غزا الرشيد أرض الروم فافتتح حصن الصفصاف.
وفيها غزا عبد الملك بن صالح أرض الروم فبلغ أنقرة وافتتح مطمورة.
158

وفيها توفي حمزة بن مالك.
وفيها غلبت المحمرة على خراسان.
وفيها أحدث الرشيد في صدر كتبه الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وحج بالناس الرشيد.
وفي هذه السنة كان الفداء بين الروم والمسلمين وهو أول فداء كان أيام بني العباس وكان القاسم بن الرشيد هو المتولي له وكان الملك فغفور ففرح بذلك الناس ففودي بكل أسير في بلاد الروم وكان الفداء باللامس على جانب البحر بينه وبين طرسوس اثنا عشر فرسخا وحضر ثلاثون ألفا من المرتزقة مع أبي سليمان فخرج الخادم متولي طرسوس وخلق كثير من أهل الثغور وغيرهم من العلماء والأعيان وكان عدة الأسرى ثلاثة آلاف وسبعمائة وقيل أكثر من ذلك.
وفيها توفي الحسن بن قحطبة وهو من قواد المنصور هو وأبوه وكان عمره أربعا وثمانين سنة وعبد الله بن المبارك المرزوي توفي في رمضان بهيت وعمره ثلاث وستون سنة وعلي بن حمزة أبو الحسن الأزدي المعروف بالكسائي المقري النحوي بالري وقيل مات سنة ثلاث وثمانين.
وفيها توفي مروان بن سليمان بن يحيى بن أبي حفصة الشاعر وكان مولده سنة خمس ومائة.
وفيها توفي أبو يوسف القاضي واسمه يعقوب بن إبراهيم وهو أكبر أصحاب أبي حنيفة.
159

وفيها توفي يعقوب بن داود بن عمر بن طهمان مولى عبد الله بن خازم السلمي وكان يعقوب وزير المهدي وهاشم بن البريد ويزيد بن زريع وحفص بن ميسرة الصنعاني من صنعاء دمشق.
(البريد بفتح الباء الموحدة وكسر الراء وبالياء تحتها نقطتان).
160

182
ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين ومائة
في هذه السنة بايع الرشيد لعبد الله المأمون بولاية العهد بعد الأمين وولاه خراسان وما يتصل بها إلى همدان ولقبه المأمون وسلمه إلى جعفر ابن يحيى.
وهذا من العجائب فإن الرشيد قد رأى ما صنع أبوه وجده المنصور بعيسى بن موسى حتى خلع نفسه من ولاية العهد وما صنع أخوه الهادي ليخلع نفسه من العهد فلو لم يعاجله الموت لخلعه، ثم هو بعد ذلك يبايع للمأمون بعد الأمين وحبك الشيء يعمي ويصم.
وفيها حملت ابنة خاقان ملك الخزر إلى الفضل بن يحيى فماتت ببرذعة فرجع من معها إلى أبيها فأخبروه أنها قتلت غيلة فتجهز إلى بلاد الاسلام.
وغزا الصائفة عبد الرحمن بن عبد الملك بن صالح فبلغ أفسوس مدينة أصحاب الكهف.
وفيها سملت الروم عيني ملكهم قسطنطين بن أليون وأقروا أمه ريني وتلقب عطسة. وحج بالناس موسى بن عيسى بن موسى وكان على الموصل هرثمة بن أعين.
وفيها جاز سليمان بن عبد الرحمن صاحب الأندلس إلى بلاد الأندلس
161

من الشرق، وتعرض لحرب ابن أخيه الحكم بن هشام بن عبد الرحمن صاحب البلاد، فسار إليه الحكم في جيوش كثيرة.
وقد اجتمع إلى سليمان كثير من أهل الشقاق ومن يريد الفتنة فالتقيا واقتتلا واشتدت الحرب فانهزم سليمان واتبعه عسكر الحكم وعادت الحرب بينهم ثانية في ذي الحجة فانهزم فيها سليمان واعتصم بالوعر والجبال فعاد الحكم.
ثم عاد سليمان فجمع برابر وأقبل إلى جانب إستجة فسار إليهم الحكم فالتقوا واقتتلوا سنة ثلاث وثمانين ومائة واشتد القتال فانهزم سليمان واحتمى بقرية فحصره الحكم وعاد سليمان منهزما إلى ناحية قريش.
وفيها كان بقرطبة سيل عظيم فغرق كثير من ربضها القبلي وخرب كثير منه وبلغ السيل شقندة.
وفي هذه السنة مات جعفر الطيالسي المحدث وعمار بن محمد بن أخت سفيان الثوري وعبد العزيز بن محمد بن أبي عبيد الدراوردي مولى جهينة وكان أبوه من دارابجرد فاستثقلوا نسبته إليها فقالوا دراوردي.
وفيها توفي دراج أبو السمح واسمه عبد الله بن السمح وقيل عبد الرحمن بن السمح بن أسامة التجيبي المصري وكان مولده سنة خمس وعشرين ومائة وعفيف بن سالم الموصلي.
162

183
ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين ومائة
ذكر غزو الخزر بلاد الاسلام
وفيها خرج الخزر بسبب ابنة خاقان من باب الأبواب فأوقعوا بالمسلمين وأهل الذمة وسبوا أكثر من مائة ألف رأس وانتهكوا أمرا عظيما لم يسمع بمثله في الأرض فولى الرشيد أرمينية يزيد بن مزيد مضافا إلى أذربيجان وقواه بالجند ووجه إليهم وأنزل خزيمة بن خازم نصيبين ردا لأهل أرمينية.
وقيل إن سبب خروجهم أن سعيد بن سلم قتل المنجم السلمي فدخل ابنه [بلاد] الخزر، واستجاشهم على سعيد فخرجوا ودخلوا أرمينية من الثلمة فانهزم وأقاموا نحو سبعين يوما فوجه الرشيد خزيمة بن خازم ويزيد بن مزيد فأصلحا ما أفسد سعيد وأخرجا الخزر وسدا الثلمة.
ذكر عدة حوادث
وفيها استقدم الرشيد علي بن عيسى من خراسان ثم رده عليها من قبل ابنه المأمون وأمره بحرب أبي الخصيب.
163

وفيها خرج بنسا من خراسان أبو الخصيب وهيب بن عبد الله النسائي.
وحج بالناس العباس بن الهادي.
وفيها مات موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ببغداد في حبس الرشيد.
وكان سبب حبسه أن الرشيد اعتمر في شهر رمضان من سنة تسع وسبعين ومائة فلما عاد إلى المدينة على ساكنها الصلاة والسلام دخل إلى قبر النبي يزوره ومعه الناس
فلما انتهى إلى القبر وقف فقال السلام عليك يا رسول الله يا ابن عم افتخارا على من حوله فدنا موسى بن جعفر فقال السلام عليك يا أبت فتغير وجه الرشيد وقال هذا الفخر يا أبا الحسين جدا ثم أخذه معه إلى العراق فحبسه عنه السندي بن شاهك وتولى حبسه أخت السندي بن شاهك وكانت تتدين. فحكت عنه أنه كان إذا صلى العتمة حمد الله ومجده ودعا إلى أن يزول الليل ثم يقوم فيصلي حتى يصلي الصبح ثم يذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس ثم يقعد إلى ارتفاع الضحى ثم يرقد يستيقظ قبل الزوال ثم يتوضأ ويصلي حتى يصلي العصر ثم يذكر الله حتى يصلي المغرب ثم يصلي المغرب ثم يصلي ما بين المغرب والعتمة فكان هذا دأبه إلى أن مات.
وكانت إذا رأته قالت خاب قوم تعرضوا لهذا الرجل الصالح وكان يلقب الكاظم لأنه كان يحسن إلى من يسيء إليه كان هذا عادته أبدا ولما كان محبوسا بعث إلى الرشيد رسالة أنه لن ينقضي عني يوم من البلاء إلا أن ينقضي عنك معه يوم من الرخاء حتى ينقضيا جميعا إلى يوم ليس له انقضاء يخسر فيه المبطلون.
164

وفيها كانت بالأندلس فتنة وحرب بين قائد كبير يقال له أبو عمران وبين بهلول بن مرزوق وهو من أعيان الأندلس وكان عبد الله البلنسي مع أبي عمران فانهزم أصحاب بهلول وقتل كثير منهم.
وفيها توفي يونس بن حبيب النحوي المشهور أخذ العلم عن أبي عمرو بن العلاء وغيره وكان عمره قد زاد على مائة سنة.
وفيها مات موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ومحمد بن صبيح أبو العباس مولى بني عجل المذكر المعروف بابن السماك وهشيم بن بشير الواسطي توفي في شعبان وكان ثقة إلا أنه كان يصحف ويحيى بن زكريا بن أبي زائدة قاضي المدائن بها وكان عمره ثلاثا وستين سنة ويوسف بن يعقوب بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون:
(صبيح بفتح الصاد المهملة، وكسر الباء الموحدة وبشير بفتح الباء الموحدة وكسر الشين المعجمة).
165

184
ثم دخلت سنة أربع وثمانين ومائة
وفيها ولي الرشيد حمادا البربري اليمن ومكة وولى داود بن يزيد بن حاتم المهلبي السند ويحيى الحرشي الجبل ومهرويه الرازي طبرستان وقام أمر إفريقية إبراهيم بن الأغلب فولاه إياها الرشيد.
وفيها خرج أبو عمرو الشاري فوجه إليه زهيرا القصاب فقتله بشهرزور.
وفيها طلب أبو الخصيب الأمان فأمنه علي بن عيسى بن ماهان. وحج بالناس إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي وكان على الموصل وأعمالها يزيد بن مزيد بن زائدة الشيباني وفيها سار عبد الله بن عبد الرحمن البلنسي إلى مدينة أشقة من الأندلس فنزل بها مع أبي عمران ومع العرب فسار إليهم بهلول بن مرزوق وحاصرهم فيها فتفرق العرب عنهم ودخل بهلول مدينة أشقة وسار عبد الله إلى مدينة بلنسية فأقام بها.
وفيها توفي المعافي بن عمران الموصلي الأزدي وقيل سنة خمس وثمانين.
وفيها توفي عبد الله بن عبد العزيز بن عمر بن الخطاب الذي يقال له
166

العابد، وعبد السلام بن شعيب بن الحبحاب الأزدي وعبد الاعلى بن عبد الله الشامي المصري من بني شامة بن لؤي وعبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي أبو محمد.
167

185
ثم دخلت سنة خمس وثمانين ومائة
في هذه السنة قتل أهل طبرستان مهرويه الرازي وهو واليها فولى الرشيد مكانه عبد الله بن سعيد الحرشي.
وفيها قتل عبد الرحمن الأنباري أبان بن قحطبة الخارجي بمرج القلعة.
وفيها عاث حمزة الخارجي بباذغيس من خراسان فقتل عيسى بن علي بن عيسى من أصحابه عشرة آلاف وبلغ عيسى كابل وزابلستان.
وفيها غدر أبو الخصيب ثانية وغلب على أبيورد وطوس ونيسابور وحصر مرو ثم انهزم عنها وعاد إلى سرخس وعاد أمره قويا.
وفيها استأذن جعفر بن يحيى في الحج والمجاورة فأذن له فخرج في شعبان واعتمر في رمضان وأقام بجدة مرابطا إلى أن حج.
وفيها جمع الحكم صاحب الأندلس عساكره وسار إلى عمه سليمان بن عبد الرحمن وهو بناحية قريش فقاتله فانهزم سليمان وقصد ماردة فتبعه طائفة من عسكر الحكم فأسروه فلما حضر عند الحكم قتله وبعث برأسه إلى قرطبة. وكتب إلى أولاد سليمان وهم بسرقسطة
168

كتاب أمان واستدعاهم فحضروا عنده بقرطبة.
وفيها وقعت في المسجد الحرام صاعقة قتلت رجلين. وحج بالناس فيها منصور بن محمد بن عبد الله [بن محمد] بن علي. وفيها مات عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن عباس ولم يكن سقط له سن وقيل كانت أسنانه قطعة واحدة من أسفل وقطعة واحدة من فوق وهو قعدد بني عبد مناف لأنه كان في القرب إلى عبد مناف بمنزلة يزيد بن معاوية وبين موتهما ما يزيد على مائة وعشرين سنة.
وفيها ملك الفرنج لعنهم الله مدينة برشلونة بالأندلس وأخذوها من المسلمين ونقلوا حماة ثغورهم إليها وتأخر المسلمون إلى ورائهم.
وكان سبب ملكهم إياها اشتغال الحكم صاحب الأندلس بمحاربة عميه عبد الله وسليمان على ما تقدم.
وفيها سار الرشيد من الرقة إلى بغداد على طريق الموصل.
وفيها مات يقطين بن موسى ببغداد.
وفيها أيضا توفي يزيد بن مزيد بن زائدة الشيباني وهو ابن أخي معن بن شجاعا وأكثر الشعراء مراثيه ومن أحسن ما قيل في المرائي ما قاله أبو محمد التميمي يرثيه به فأثبته لجودته:
(أحقا أنه أودى يزيد * تبين أيها الناعي المشيد)
(أتدري من نعيت وكيف فاهت * به شفتاك كان بها الصعيد)
169

(أحامي المجد والاسلام أودي * فما للأرض ويحك لا تميد)
(تأمل هل ترى الإسلام مالت * دعائمه وهل شاب الوليد)
(وهل مالت سيوف بني نزار * وهل وضعت عن الخيل اللبود)
(وهل تسقي البلاد عشار مزن * بدرتها وهل يخضر عود)
(أما هدت لمصرعه نزار * بلى وتقوض المجد المشيد)
(وحل ضريحه إذ حل فيه * طريف المجد والحسب التليد)
(أما والله ما تنفك عيني * عليك بدمعها أبدا تجود)
(فإن تجمد دموع لئيم قوم * فليس لدمع ذي حسب جمود)
(أبعد يزيد تختزن البواكي * دموعا أو يصان لها خدود)
(لتبكك قبة الاسلام لما * وهت أطنابها ووهي العمود)
(ويبكيك شاعر لم يبق دهر * له نسبا وقد كسد القصيد)
(فمن يدعو الإمام لكل خطب * ينوب وكل معضلة تؤود)
(ومن يحمي الخميس إذا تعايا * بحيلة نفسه البطل النجيد)
(فإن يهلك يزيد فكل حي * فريس للمنية أو طريد)
(ألم تعجب له أن المنايا * فتكن به وهن له جنود)
(فصدن له وكن يحدن * إذا ما الحرب شب لها وقود)
170

(لقد عزى ربيعة أن يوما * عليها مثل يومك لا يعود)
وكان الرشيد إذا سمع هذه المرثية بكى وكان يستجيدها ويستحسنها وفيها توفي محمد بن إبراهيم الامام بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ببغداد وعبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير والمغيرة بن عبد الرحمن بن الحرث بن عياش المخزومي ويعرف بالحزامي وكان مولده سنة أربع وعشرين ومائة وحجاج الصواف وهو ابن أبي عثمان ميسرة:
(عياش بالشين المعجمة، والياء المثناة من تحت. الحزامي بالحاء المهملة والزاي).
171

186
ثم دخلت سنة ست وثمانين ومائة
ذكر اتفاق الحكم صاحب الأندلس وعمه عبد الله
في هذه السنة اتفق الحكم بن هشام بن عبد الرحمن أمير الأندلس وعمه عبد الله بن عبد الرحمن البلنسي.
وسبب ذلك أن عبد الله لما سمع بقتل أخيه سليمان عظم عليه وخاف على نفسه ولزم بلنسية ولم يفارقها ولم يتحرك لإثارة فتنة وأرسل إلى الحكم يطلب المسالمة والدخول في طاعته وقيل بل الحكم أرسل إليه رسلا وكتب إليه يعرض عليه المسالمة ويؤمنه وبذل له الأرزاق الواسعة ولأولاده فأجاب عبد الله إلى الاتفاق واستقرت القاعدة بينهم على يد يحيى بن يحيى صاحب مالك وغيره من العلماء وزوج الحكم أخواته من أولاد عمه عبد الله وسار إليه عبد الله فأكرمه الحكم وعظم محله وأجرى له ولأولاده الأرزاق الواسعة والصلات السنية.
وقيل إن المراسلة في الصلح كانت هذه السنة واستقر الصلح سنة سبع وثمانين ومائة.
172

ذكر حج الرشيد وأمر كتاب ولاية العهد
في هذه السنة حج بالناس هارون الرشيد سار إلى مكة من الأنبار فبدأ بالمدينة فأعطي فيها ثلاثة أعطية أعطى هو عطاء ومحمد الأمين عطاء وعبد الله عطاء وسار إلى مكة فأعطى أهلها فبلغ ألف ألف دينار وخمسين ألف دينار.
وكان الرشيد قد ولى الأمين العراق والشام وإلى آخر المغرب وضم إلى المأمون من همذان إلى آخر المشرق ثم بايع لابنه القاسم بولاية العهد بعد المأمون ولقبه المؤتمن وضم إليه الجزيرة والثغور والعواصم وكان في حجر عبد الملك بن صالح وجعل خلعه وإثباته إلى المأمون.
ولما وصل الرشيد إلى مكة ومعه أولاده والفقهاء والقضاة والقواد كتب كتابا أشهد فيه على محمد الأمين وأشهد فيه من حضر بالوفاء للمأمون وكتب كتابا للمأمون أشهدهم عليه فيه بالوفاء للأمين وعلق الكتابين في الكعبة وجدد العهود عليهما في الكعبة ولما فعل الرشيد ذلك قال الناس قد ألقى بينهم شرا وحربا، وخافوا عاقبة ذلك فكان ما خافوه.
ثم إن الرشيد في سنة تسع وثمانين شخص إلى قرماسين ومعه المأمون وأشهد على نفسه من عنده من القضاة والفقهاء أن جميع ما في عسكره من الأموال والخزائن والسلاح والكراع وغير ذلك للمأمون وجدد له البيعة عليهم وارسل إلى بغداد فجدد البيعة على محمد الأمين.
173

ذكر عدة حوادث
في هذه السنة سار علي بن عيسى بن ماهان من مرو إلى نسا لحرب أبي الخصيب فحاربه فقتله وسبى نساءه وذراريه واستقامت خراسان.
وفيها توفي خالد بن الحرث وبشر بن المفضل وأبو إسحاق إبراهيم بن محمد الفزاري.
وفيها مات عبد الله بن صالح بن علي بن عبد الله بن عباس بسلمية في ربيع الأول.
وفيها توفي علي بن عباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس في رجب وعمره خمس وستون سنة وستة أشهر وهو ابن أخي السفاح والمنصور.
وفيها توفي عمر بن يونس منصرفه من الحج باليمامة.
وفيها توفي عباد بن عباد بن العوام الفقيه ببغداد وتوفي شقران بن علي الزاهد بالأندلس، وكان فقيها.
وفيها توفي راشد مولى عيسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب وكان قد دخل المغرب مع إدريس بن عبد الله بن الحسن وقام بعده بأمر البربر أبو خالد يزيد بن الياس.
174

187
ثم دخلت سنة سبع وثمانين ومائة
ذكر ايقاع الرشيد بالبرامكة
وفي هذه السنة أوقع الرشيد بالبرامكة وقتل جعفر بن يحيى.
وكان سبب ذلك أن الرشيد كان لا يصبر عن جعفر وعن أخته عباسة بنت المهدي وكان يحضرهما إذا جلس للشرب فقال لجعفر أزوجكها ليحل لك النظر إليها ولا تقربها فإني لا أطيق الصبر عنها فأجابه إلى ذلك فزوجها منه وكانا يحضران معه ثم يقوم عنهما وهما شابان فجامعهما جعفر فحملت منه فولدت له غلاما فخافت الرشيد فسيرته مع حواضن له إلى مكة فأعطته الجواهر والنفقات.
ثم إن عباسة وقع بينها وبين بعض جواريها شر فأنهت [أمرها وأمر الصبي] إلى الرشيد، فحج هارون هذه السنة وبحث عن الأمر فعلمه وكان جعفر يصنع للرشيد طعاما بعسفان إذا حج فصنع ذلك ودعاه فلم يحضر عنده فكان ذلك أول تغير أمرهم.
وقيل كان سب ذلك أن الرشيد دفع يحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي إلى جعفر بن يحيى بن خالد فحبسه ثم دعا به ليلة وسأله عن بعض أمره فقال له اتق الله في أمري ولا تتعرض أن يكون غدا خصمك
175

محمد صلى الله عليه وسلم فوالله ما أحدثت حدثا ولا آويت محدثا.
فرق له وقال اذهب حيث شئت من بلاد الله قال فكيف أذهب ولا آمن أن أؤخذ بعد قليل فوجه معه من أداه إلى مأمنه.
وبلغ الخبر الفضل بن الربيع من عين كانت له من خواص جعفر فرفعه إلى الرشيد فقال ما أنت وهذا فعله عن أمري ثم أحضر جعفرا للطعام فجعل يلقمه ويحادثه ثم سأله عن يحيى فقال هو بحاله في الحبس الضيق. فقال بحياتي؟ ففطن جعفر، فقال لا وحياتك وقص عليه أمره وقال علمت أنه لا مكروه عنده فقال نعم ما فعلت ما عدوت ما في نفسي فلما قام عنه قال قتلني الله إن لم أقتلك فكان من أمره ما كان.
وقيل: كان من الأسباب أن جعفرا ابتنى دارا غرم عليها عشرين ألف ألف درهم فرفع ذلك إلى الرشيد وقيل هذه غرامته على دار فما ظنك بنفقاته وصلاته وغير ذلك فاستعظمه.
وكان من الأسباب أيضا ما لا تعده العامة سببا وهو أقوى الأسباب ما سمع من يحيى بن خالد وهو يقول وقد تعلق بأستار الكعبة في حجته هذه اللهم إن كان رضاك أن تسلبني نعمك عندي فاسلبني اللهم إن كان رضاك أن تسلبني مالي وأهلي وولدي فاسلبني إلا الفضل ثم ولى فلما كان عند باب المسجد رجع فقال مثل ذلك وجعل يقول اللهم إنه سمج بمثلي أن يستثني عليك اللهم والفضل.
وسمع أيضا يقول في ذلك المقام اللهم إن ذنوبي جمة عظيمة لا يحصيها غيرك اللهم إن كنت تعاقبني فاجعل عقوبتي بذلك في الدنيا وإن أحاط ذلك بسمعي وبصري وولدي ومالي حتى يبلغ رضاك ولا تجعل
176

عقوبتي في الآخرة. فاستجيب له.
فلما انصرفوا من الحج ونزلوا الأنبار ونزل الرشيد العمر نكبهم.
وكان أول ما ظهر من فساد حالهم أن علي بنت عيسى بن ماهان سعى بموسى بن يحيى بن خالد واتهمه في أمر خراسان وأعلم الرشيد أنه يكاتبهم ليسير إليهم ويخرجهم عن الطاعة فحبسه ثم أطلقه.
وكان يحيى بن خالد يدخل على الرشيد بغير إذن فدخل عليه يوما وعنده جبرائيل بن بختيشوع الطبيب فسلم فرد الرشيد ردا ضعيفا ثم أقبل الرشيد على جبرائيل فقال أيدخل عليك منزلك أحد بغير إذن فقال لا! قال فما بالنا يدخل علينا بغير إذن فقال يحيى يا أمير المؤمنين ما ابتدأت ذلك الساعة ولكن أمير المؤمنين خصني به حتى إن كنت لأدخل وهو في فراشه مجردا حينا وحينا في بعض إزاره وما علمت أن أمير المؤمنين كره ما كان يحب فإذا قد علمت فإني سأكون [عنده] في الطبقة التي يجعلني فيها فاستحيى هارون وكان من أرق الخلفاء وجها وعيناه في الأرض ما يرفع إليه طرفه وقال ما أردت ما تكره.
وكان يحيى إذا دخل على الرشيد قام له الغلمان فقال الرشيد لمسرور مر الغلمان لا يقومون ليحيى إذا دخل الدار فدخلها فلم يقوموا فتغير لونه وكانوا بعد ذلك إذا رأوه أعرضوا عنه.
فلما رجع الرشيد من الحج نزل العمر الذي عند الأنبار سلخ المحرم وأرسل مسرورا الخادم ومعه جماعة من الجند إلى جعفر ليلا وعنده ابن بختيشوع الطبيب وأبو زكار المغني وهو في لهوه وأبو زكار يغني:
(فلا تبعد فكل فتى سيأتي * عليه الموت يطرق أو يغادي)
177

(وكل ذخيرة لا بد يوما * وإن كرمت تصير إلى نفاد)
قال مسرور فقلت له يا أبا الفضل الذي جئت له هو والله ذاك قد طرقت أجب أمير المؤمنين فوقع على رجلي يقبلها وقال حتى أدخل فأوصي، فقلت أما الدخول فلا سبيل إليه وأما الوصية فاصنع ما شئت فأوصى بما أراد وأعتق مماليكه.
وأتتني رسل الرشيد تستحثني فمضيت به إليه فأعلمته وهو في فراشه فقال ائتني برأسه فأتيت جعفرا فأخبرته فقال الله الله والله ما أمرك [بما أمرك به] إلا وهو سكران فدافع حتى أصبح أو راجعه في ثانية فعدت لأراجعه فلما سمع حسي قال يا ملص بظر أمه ائتني برأسه! فرجعت إليه فأخبرته فقال آمره فرجعت فحذفني بعمود كان في يده وقال نفيت من المهدي إن لم تأتني برأسه لأقتلنك قال فخرجت فقتلته وحملت رأسه إليه وأمر بتوجيه من أحاط بيحيى وولده وجميع أسبابه وحول الفضل بن يحيى ليلا فحبس في بعض منازل الرشيد وحبس يحيى في منزله وأخذ ما وجد لهم من مال وضياع ومتاع وغير ذلك وأرسل من ليلته إلى سائر البلاد في قبض أموالهم ووكلائهم ورقيقهم وأسبابهم وكل مالهم.
فلما أصبح أرسل جيفة جعفر إلى بغداد وأمر أن ينصب رأسه على جسر ويقطع بدنه قطعتين تنصب كل قطعة على جسر.
ولم يتعرض الرشيد لمحمد بن خالد بن برمك وولده وأسبابه لأنه علم براءته فلما دهل فيه أهله وقيل كان يسعى بهم ثم حبس يحيى وبنيه الفضل ومحمدا وموسى محبسا سهلا ولم يفرق بينهم وبين عدة من خدمهم ولا ما يحتاجون
178

إليه من جارية وغيرها.
ولم تزل حالهم سهلة حتى قبض الرشيد على عبد الملك بن صالح فعمهم بسخطه وجدد له ولهم التهمة عند الرشيد فضيق عليهم.
ولما قتل جعفر بن يحيى قيل لأبيه قتل الرشيد ابنك قال كذلك يقتل ابنه، قيل: وأقد أخرب ديارك قال كذلك تخرب دياره فلما بلغ ذلك الرشيد قال قد خفت أن يكون ما قاله لأنه ما قال شيئا إلا ورأيت تأويله.
قال سلام الأبرش دخلت على يحيى وقت قبضه وقد هتكت الستور وجمع المتاع فقال هكذا تقوم القيامة قال فحدثت الرشيد فأطرق مفكرا.
وكان قتل جعفر ليلة السبت مستهل صفر وكان عمره سبعا وثلاثين سنة وكانت الوزارة إليهم سبع عشرة سنة ولما نكبوا قال الرقاشي وقيل أبو نواس:
(الآن استرحنا واستراحت ركابنا * وأمسك من يحدي ومن كان يحتدي)
(فقل للمطايا قد أمنت من السرى * وطي الفيافي فدفدا بعد فدفد)
(وقل للمنايا قد ظفرت بجعفر * ولن تظفري من بعده بمسود)
(وقل للعطايا بعد فضل تعطلي * وقل للرزايا كل يوم تجددي)
(ودونك سيفا برمكيا مهندا * أصيب بسيف هاشمي مهند)
وقال يحيى بن خالد لما نكب الدنيا والمال عارية ولنا بمن قبلنا أسوة وفينا لمن بعدنا عبرة.
179

ووقع يحيى على قصة محبوس: العدوان أوبقه والتوبة تطلقه.
وقال جعفر بن يحيى الخط سمط الحكمة به تفصل شذورها وينظم منثورها.
قال نمامة قلت لجعفر ما البيان قال أن يكون الاسم محيطا بمعناك مخبرا عن مغزاك مخرجا من الشركة غير مستعان عليه بالفكرة.
ذكر القبض على عبد الملك بن صالح
وفي هذه السنة غضب الرشيد على عبد الملك بن صالح بن علي بن عبد الله ابن عباس.
وكان سبب ذلك أنه كان له ولدا اسمه عبد الرحمن وبه كان يكنى وكان من رجل الناس فسعى بأبيه هو وقمامة كاتب أبيه وقالا للرشيد إنه يطلب الخلافة ويطمع فيها فأخذه وحبسه عند الفضل بن الربيع واحضره يوما حين سخط عليه وقال له أكفرا بالنعمة وجحودا لجليل المنة والتكرمة؟
فقال: يا أمير المؤمنين! لقد بؤت إذا بالندم وتعرضت لاستحلال النقم وما ذاك إلا بغي حاسد نافسني فيك مودة القرابة وتقديم الولاية إنك يا أمير المؤمنين خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمته وأمينه على عترته لك عليها فرض الطاعة وأداء النصيحة ولها عليك العدل
180

في حكمها، والغفران لذنوبها والتثبت في حادثها.
فقال له الرشيد أتضع [لي] من لسانك وترفع [لي] من جنانك هذا كاتبك قمامة يخبر بغلك وفساد نيتك فاسمع كلامه.
فقال عبد الملك: أعطاك ما ليس في عقده ولعله لا يقدر أن يعضهني أو يبهتني بما لم يعرفه مني.
فأحضر قمامة فقال له الرشيد: تكلم غير هائب ولا خائف! فقال: أقول إنه عازم على الغدر بك والخلاف عليك فقال عبد الملك كيف لا يكذب علي من خلفي [من] يبهتني في وجهي؟
فقال الرشيد: فهذا ابنك عبد الرحمن يخبرني بعتوك وفساد نيتك ولو أردت أن أحتج عليك لم أجد أعدل من هذين الاثنين لك فلم تدفعهما عنك؟
فقال عبد الملك: هو مأمور أو عاق مجبور فإن كان مأمورا فمعذور وإن كان عاقا ففاجر كفور أخبر الله عز وجل بعداوته وحذر منه بقوله: (ان من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم)، فنهض الرشيد وهو يقول ما أمرك إلا قد وضح ولكني لا أعجل حتى أعلم الذي يرضي الله عز وجل فيك فإنه الحكم بيني وبينك.
فقال عبد الملك: رضيت بالله حكما وبأمير المؤمنين حاكما فإني أعلم أنه لن يؤثر هواه على رضا ربه.
181

وأحضره الرشيد يوما آخر فكان مما قال له:
(أريد حياته ويريد قتلي * عذيرك من خليلك من مراد)
ثم قال: أما والله لكأني أنظر إلى شؤبوبها قد همع وعارضها قد بلع وكأني بالوعيد قد أورى زنادا يسطع فاقلع عن براجم بلا معاصم ورؤوس بلا غلاصم فمهلا مهلا بني هاشم فبي والله سهل لكم الوعر وصفا لكم الكدر وألقت إليكم الأمور أزمتها فنذار لكم نذار قبل حلول داهية خبوط باليد لبوط بالرجل.
فقال عبد الملك اتق الله يا أمير المؤمنين فيما ولاك من رعيته التي استرعاك ولا تجعل الكفر مكان الشكر ولا العقاب موضع الثواب فقد نحلت لك النصيحة ومحضت لك الطاعة وشددت أواخي ملكك بأثقل من ركني يلملم وتركت عدوك مشتغلا، فالله الله في دمي إلى رحمك أن تقطعه بعد أن وصلته بظن أوضح الكتاب [لي] بعضه، أو ببغي باغ ينهس اللحم ويلغ الدم فقد والله سهلت لك والأعور وذللت لك الأمور وجمعت على طاعتك القلوب في الصدور فكم ليل تمام فيك كابدته ومقام ضيق [لك] قمته كنت [فيه] كما قال أخو بني
182

جعفر بن كلاب يعني لبيدا:
(ومقام ضيق فرجته * ببيان ولسان وجدل)
(لو يقوم الفيل أو فياله * زل عن مثل مقامي وزحل)
فقال له الرشيد والله لولا إبقائي على بني هاشم لضربت عنقك ثم أعاده إلى محبسه.
فدخل عبد الله بن مالك على الرشيد وكان على شرطته فقال له والله العظيم يا أمير المؤمنين ما علمت عبد الملك إلا ناصحا فعلام حبسته فقال بلغني عنه ما أوحشتني ولم آمنه أن يضرب بين ابني هذين يعني الأمين والمأمون فإن كنت ترى أن نطلقه من الحبس أطلقناه فقال أما إذا حبسته فلست أرى في قرب المدة أن تطلقه ولكن تحبسه محبسا كريما قال فإني أفعل؛ فأمر الفضل بن الربيع أن يمضي إليه وينظر ما يحتاج إليه فيوظفه له ففعل.
ولم يزل عبد الملك محبوسا حتى مات الرشيد فأخرجه الأمين واستعمله على الشام فأقام بالرقة وجعل لمحمد الأمين عهد الله لئن قتل وهو حي لا يعطي المأمون طاعة أبدا فمات قبل الأمين؛ وكان ما قال للأمين: إن خفت فالجأ إلي فوالله لأصوننك.
وقال الرشيد يوما لعبد الملك ما أنت لصالح قال فلمن أنا قال لمروان الجعدي قال ما أبالي أي الفحلين غلب علي.
وأرسل الرشيد يوما إلى يحيى بن خالد بن برمك أن عبد الملك أراد الخروج علي ومنازعتي في الملك وعلمت ذلك فاعلمني ما عندك فيه فإنك إن صدقتني أعدتك إلى حالك.
183

فقال: والله ما اطلعت من عبد الملك على شيء من هذا ولو اطلعت عليه لكنت صاحبه دونك لأن ملكك كان ملكي وسلطانك كان سلطاني، والخير والشر كان فيه علي [ولي]، وكيف يطمع عبد الملك في ذلك مني وهل كان إذا فعلت به ذلك يفعل معي أكثر من فعلك وأعيذك بالله أن تظن بي هذا الظن ولكنه كان رجلا محتملا يسرني أن يكون في أهلك مثله فوليته لما حمدت أثره ومذهبه وملت إليه لأدبه واحتماله.
فلما أتاه الرسول بهذا أعاده عليه فقال له إن أنت لم تقر عليه قتلت الفضل ابنك.
فقال له: أنت مسلط علينا فافعل ما أردت فأخذ الرسول الفضل فأقامه فودع أباه وقال له ألست راضيا عني قال بلى فرضي الله عنك ففرق بينهما ثلاثة أيام فلما لم يجد عندهما في ذلك شيئا جمعهما.
ذكر غزو الروم
وفي هذه السنة دخل القاسم بن الرشيد أرض الروم في شعبان فأناخ على قرة وحصرها ووجه العباس بن جعفر بن محمد بن الأشعث، فحصر حصن سنان حتى جهد أهلها فبعث إليه الروم ثلاثمائة وعشرين أسيرا من المسلمين على أن يرحل عنهم فأجابهم ورحل عنهم صلحا.
ومات علي بن عيسى في هذه الغزاة بأرض الروم وكان يملك الروم حينئذ امرأة اسمها ريني فخلعتها الروم وملكت نقفور وتزعم الروم
184

أنه من أولاد جفنة بن غسان وكان قبل أن يملك يلي ديوان الخراج وماتت ريني بعد خمسة أشهر من خلعها.
فلما استوثقت الروم لنقفور كتب إلى الرشيد من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب أما بعد فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ وأقامت نفسها مقام البيدق فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقا بحمل أضعافها إليها لكن ذلك لضعف النساء وحمقهن فإذا قرأت كتابي هذا فاردد ما حصل لك من أموالها وافتد نفسك بما تقع به المصادرة لك وإلا فالسيف بيننا وبينك.
فلما قرأ الرشيد الكتاب استفزه الغضب حتى لم يقدر أحد أن ينظر اليه دون أن يخاطبه وتفرق جلساؤه فدعا بداوة وكتب على ظهر الكتاب بسم الله الرحمن الرحيم من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم قد قرأت كتابك يا بن الكافرة والجواب ما تراه دون ما تسمعه والسلام.
ثم سار من يومه حتى نزل على هرقلة ففتح وغنم وأحرق وخرب فسأله نقفور المصالحة على خراج يحمله كل سنة فأجابه إلى ذلك.
فلما رجع من غزوته وصار بالرقة نقض نقفور العهد وكان البرد شديدا فأمن رجعة الرشيد خوفا على أنفسهم من العود في مثل ذلك البرد واشفاقا من الرشيد فاحتيل له بشاعر من أهل جنده وهو أبو محمد عبد الله بن يوسف وقيل هو الحجاج بن يوسف التيمي فقال أبياتا منها:
185

(نقض الذي أعطيته نقفور * فعليه دائرة البوار تدور)
(أبشر أمير المؤمنين فإنه * فتح أتاك به الإله كبير)
(فتح يزيد على الفتوح يؤمنا * بالنصر فيه لواؤك المنصور)
في أبيات غيرها فلما سمع الرشيد ذلك قال أوقد فعل ذلك نقفور؟ وعلم أن الوزراء قد احتالوا له في ذلك فرجع إلى بلاد الروم في أشد زمان وأعظم كلفة حتى بلغ بلادهم فأقام بها حتى شفي واشتفى وبلغ ما أراد.
وقيل: كان فعل نقفور وهذه الأبيات سببا لسير الرشيد وفتح هرقلة، على ما نذكره، سنة تسعين ومائة، إن شاء الله تعالى.
ذكر قتل إبراهيم بن عثمان بن نهيك
وفيها قتل الرشيد إبراهيم بن عثمان بن نهيك وسبب قتله أنه كان كثيرا ما يذكر جعفر بن يحيى والبرامكة ويبكي عليهم إلى أن خرج من البكاء إلى حد طالبي الثار فكان إذا شرب النبيذ مع جواريه أخذ سيفه ويقول وا جعفراه وا سيداه والله لأقتلن قاتلك ولأثأرن بدمك.
فلما كثر هذا منه داء ابنه فأعلم الرشيد هو وخصي كان لإبراهيم فأحضر إبراهيم وسقاه النبيذ فلما أخذ منه النبيذ قال له إني قد ندمت على قتل جعفر بن يحيى وودت أني خرجت من ملكي وأنه كان بقي له فما وحدت طعن النوم مذ فارقته.
فلما سمعها إبراهيم أسبل دموعه وقال: رحم الله أبا الفضل! والله
186

يا سيدي لقد أخطأت في قتله وأوطأت العشوة في أمره وأين توجد في الدنيا مثله؟
فقال الرشيد: قم! عليك لعنة الله يا بن اللخناء فقام وما يعقل [ما يطأ]، فما كان بين هذا وبين أن دخل عليه ابنه وضربه بالسيق إلا ليال قلائل.
ذكر ملك الفرنج مدينة تطيلة بالأندلس
في هذه السنة ملك الفرنج مدينة تطيلة بالأندلس وسبب ذلك أن الحكم صاحب الأندلس استعمل على ثغور الأندلس قائدا كبيرا من أجناده اسمه عمروس بن يوسف فاستعمل ابنه يوسف على تطيلة وكان قد انهزم من الحكم أهل بيت من الأندلس أولو قوة وبأس لأنهم خرجوا عن طاعته فالتحقوا بالمشركين فقوي أمرهم واشتدت شوكتهم وتقدموا إلى مدينة تطيلة فحصروها وملكوها من المسلمين فأسروا أميرها يوسف بن عمروس وسجنوه بصخرة قيس.
واستقر عمروس بن يوسف بمدينة سرقسطة ليحفظها من الكفار وجمع العساكر وسيرها مع ابن عم له فلقي المشركين وقاتلهم ففض جمعهم وهزمهم وقتل أكثرهم ونجا الباقون منكوبين وسار الجيش إلى صخرة قيس فحصروها وافتتحوها ولم يقدر المشركون على منعها منهم لما نالهم من الوهن بالهزيمة ولما فتحها المسلمون خلصوا يوسف بن
187

عمروس أمير الثغر، وسيروه إلى أبيه وعظم أمر عمروس عند المشركين وبعد صوته فيهم وأقام في الثغر أميرا عليه.
ذكر ايقاع الحكم باهل قرطبة
كان الحكم في صدر ولايته تظاهر بشرب الخمر والانهماك في اللذات وكانت قرطبة دار علم وبها فضلاء في العلم والورع منهم يحيى بن يحيى الليثي راوي موطأ مالك
عنه وغيره فثار أهل قرطبة وأنكروا فعله ورجموه بالحجارة وأرادوا قتله فامتنع منهم بمن حضر من الجند وسكن الحال.
ثم بعد أيام اجتمع وجوه أهل قرطبة وفقهاؤها وحضروا عند محمد بن القاسم القرشي المرواني عم هشام بن حمزة وأخذوا له البيعة على أهل البلد وعرفوه أن الناس قد ارتضوه كافة فاستنظر ليلة ليرى رأيه ويستخير الله سبحانه وتعالى فانصرفوا فحضر عند الحكم وأطلعه على الحال وأعلمه أنه على بيعته فطلب الحكم تصحيح الحال عنده فأخذ معه بعض ثقات الحكم وأجلسه في قبة في داره وأخفى أمره وحضر عنده القوم يستعلمون منه هل تقلد أمرهم أم لا فأراهم المخافة على نفسه وعظم الخطب عليهم وسألهم تعداد أسمائهم ومن معهم فذكروا له جميع من معهم من أعيان البلد وصاحب الحكم يكتب أسماؤهم فقال لهم محمد بن القاسم يكون هذا الأمر يوم الجمعة إن شاء الله في المسجد الجامع.
ومشى إلى الحكم مع صاحبه، فأعلماه جلية الحال وكان ذلك يوم
188

الخميس فما أتى عليه الليل حتى حبس الجماعة المذكورين عن آخريهم ثم أمر بهم بعد أيام فصلبوا عند قصره وكانوا اثنين وسبعين رجلا ومنهم أخو يحيى بن يحيى وابن أبي كعب وكان يومهم يوما شنيعا فتمكنت عداوة الناس للحكم.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة هاجت العصبية بالشام بين المضرية واليمانية فأرسل الرشيد محمد بن منصور بن زياد فأصلح بينهم.
وفيها زلزت المصيصة فانهدم سورها ونضب ماؤها ساعة من الليل.
وفيها خرج عبد السلام بآمد فحكم فقتله يحيى بن سعيد العقيلي.
وفيها أغزى الرشيد ابنه القاسم الصائفة وهبه وجعله قربانا له وولاه العواصم. وحج بالناس هذه السنة عبد الله بن العباس بن محمد بن علي.
وفيها توفي الفضيل بن عياض الزاهد وكان مولده بسمرقند وانتقل إلى مكة فمات بها.
وفيها توفي المعمر بن سليمان بن طرخان التيمي أبو محمد البصري وكان مولده سنة ست أو سبع ومائة وعمر بن عبيد الطنافسي الكوفي.
وفيها توفي أبو مسلم معاذ الهراء النحوي وقيل كنيته أبو علي وعنه أخذ الكسائي النحو وولد أيام يزيد بن عبد الملك.
189

188
ثم دخلت سنة ثمان وثمانين ومائة
في هذه السنة غزا إبراهيم بن جبرائيل الصائفة، فدخل أرض الروم من درب الصفصاف فخرج إليه نقفور ملك الروم فاتاه من ورائه أمر صرفه عنه ولقي جمعا من المسلمين فجرح ثلاث جراحات وقتل من الروم، فيما قيل أربعون ألفا وسبعمائة وفيها رابط القاسم بن الرشيد بدابق.
وحج بالناس فيها الرشيد فقسم أموالا كثيرة وهي آخر حجة حجها في قول بعضهم.
وفيها توفي جرير بن عبد الحميد الضبي الرازي وله ثمان وسبعون سنة وفيها توفي العباس بن الأحنف الشاعر وقيل سنة ثلاث وتسعين ومات أبوه الأحنف سنة خمسين ومائة.
وفيها توفي شهيد بن عيسى بالأندلس وعمره ثلاث وتسعون سنة وكان دخوله الأندلس مع عبد الرحمن بن معاوية.
(شهيد بضم الشين المعجمة وفتح الهاء).
190

189
ثم دخلت سنة تسع وثمانين ومائة
ذكر مسير هارون الرشيد إلى الري
وفي هذه السنة سار الرشيد إلى الري وسبب ذلك أن الرشيد لما استعمل علي بن عيسى بن ماهان على خراسان ظلم أهلها وأساء السيرة فيهم فكتب كبراء أهلها وأشرافها إلى الرشيد يشكون سوء سيرته وظلمه واستخفافه بهم وأخذ أموالهم وقيل للرشيد إن علي بن عيسى قد أجمع على الخلاف فسار إلى الري في جمادى الأولى ومعه ابناه عبد الله المأمون والقاسم وكان قد جعله ولي عهد بعد المأمون وجعل أمره إلى المأمون إن شاء أقره وإن شاء خلعه وأحضر القضاة والشهود وأشهدهم أن جميع [ما] في عسكره من الأموال والخزائن والسلاح والكراع وغير ذلك للمأمون وليس له فيه شيء.
وأقام الرشيد بالري أربعة أشهر حتى أتاه علي بن عيسى من خراسان فلما قدم عليه أهدى له الهدايا الكثيرة والأموال العظيمة وأهدى لجميع من معه من أهل بيته وولده وكتابه وقواده من الطرف والجواهر وغير ذلك ورأى الرشيد خلاف ما كان يظن فرده إلى خراسان.
ولما قام الرشيد بالري سير حسينا الخادم إلى طبرستان وكتب معه أمانا لشروين أبي قارن وأمانا لوندا هرمز جد مازيار وأمانا لمرزبان
191

بن جستان صاحب الديلم فقدم جستان ووندا هرمز فأكرمهما وأحسن إليهما وضمن وندا هرمز السمع والطاعة وأداء الخراج عن شروين.
ورجع الرشيد إلى العراق، ودخل بغداد في آخر ذي الحجة فلما مر بالجسر أمر باحراق جثة جعفر بن يحيى، ولم ينزل بغداد ومضى من فوره إلى الرقة ولما جاز بغداد قال والله اني لأطوي مدينة ما وضع بشرق ولا غرب مدينة أيمن ولا أيسر منها وإنها لدار مملكة بني العباس ما بقوا وحافظوا عليها ولا رأى أحد من آبائي سوءا ولا
نكبة منها ولنعم الدار هي ولكني أريد المناخ على ناحية أهل الشقاق والنفاق والبغض لائمة الهدى والحب لشجرة اللعنة بني أمية مع ما فيها من المارقة والمتصلطة ومخيفي السبيل ولولا ذلك ما فراقت بغداد [ما حييت]. فقال العباس بن الأحنف في طي الرشيد بغداد:
(ما أنخنا حتى ارتحلنا فما نف * بين المناخ والارتحال)
(سألونا عن حالنا إذ قدمنا * فقرأنا وداعهم بالسؤال)
ذكر فتنة بطرابلس الغرب
في هذه السنة كثر شغب أهل طرابلس الغرب على ولاتهم وكان إبراهيم بن الأغلب أمير أفريقية قد استعمل عليهم عدة ولاة فكانوا يشكون
192

من ولاتهم، فيعزلهم، ويولي غيرهم فاستعمل عليهم هذه السنة سفيان بن المضاء وهي ولايته الرابعة فاتفق أهل البلد على إخراجه عنهم وإعادته إلى القيروان فزحفوا إليه فأخذ سلاحه وقاتلهم هو وجماعة ممن معه فأخرجوه من داره فدخل المسجد الجامع فقاتلهم فيه فقتلوا أصحابه ثم أمنوه فخرج عنهم في شعبان من هذه السنة فكانت ولايته سبعا وعشرين يوما.
واستعمل الجند الذين بطرابلس على البلد وأهله إبراهيم بن سفيان التميمي ثم وقع بين الأبناء بطرابلس أيضا وبين قوم يعرفون ببني أبي كنانة وبني يوسف حروب كثيرة وقتال حتى فسدت طرابلس فبلغ ذلك إبراهيم بن الأغلب فأرسل جمعا من الجند وأمرهم أن يحضروا الأبناء وبني أبي كنانة وبني يوسف فأحضروهم عنده بالقيروان في ذي الحجة فلما قدموا سألوه العفو عنهم في الذي فعلوه فعفا عنهم فعادوا إلى بلدهم.
ذكر عدة حوادث
بها كان الفداء بين المسلمين والروم فلم يبق بأرض الروم مسلم إلا فودي به.
وحج بالناس العباس بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس.
وفيها ولي الرشيد عبد الله بن مالك طبرستان والري ودنباوند وقومس
193

وهمذان وهو متوجه إلى الري فقال أبو العتاهية في مسيره إليها وكان الرشيد ولد بها:
(إن أمين الله في خلقه * حن به البر إلى مولده)
(ليصلح الري وأقطارها * ويمطر الخير بها من يده)
وفيها مات محمد بن الحسن الشيباني الفقيه صاحب أبي حنيفة وحميد بن عبد الرحمن بن حميد الرؤاسي أبو عوف وسابق بن عبد الله الموصلي وكان من الصالحين البكائين من خشية الله تعالى.
194

190
ثم دخلت سنة وتسعين ومائة
ذكر خلع رافع بن الليث بن نصر بن سيار
وفي هذه السنة ظهر رافع بن الليث بن نصر بما وراء النهر مخالفا للرشيد بسمرقند.
وكان سبب ذلك أن يحيى بن الأشعث بن يحيى الطائي تزوج ابنة لعمه أبي النعمان وكانت ذات يسار ولسان ثم تركها بسمرقند وأقام ببغداد واتخذ السراري فلما طال ذلك عليها أرادت التخلص منه وبلغ رافعا خبرها فطمع فيها وفي مالها فدس إليها من قال لها إنه لا سبيل إلى الخلاص من زوجها إلا أنت تشهد عليها قوما أنها أشركت بالله ثم تتوب فينفسخ نكاحها وتحل للأزواج ففعلت ذلك وتزوجها رافع فبلغ الخبر يحيى بن الأشعث فشكا إلى الرشيد فكتب إلى علي بن عيسى بن ماهان يأمره أن يفرق بينهما وأن يعاقب رافعا ويجلده الحد ويقيده ويطوف به في سمرقند على حمار ليكون عظة لغيره ففعل به ذلك ولم يحده فأراد ضرب عنقه فشفع فيه عيسى بن علي بن عيسى وأمره بالانصراف إلى سمرقند فرجع إليها ووثب بعامل ابن عيسى عليها فقتله واستولى عليها فوجه إليه ابنه فلقيه فهزمه رافع فاخذ علي بن عيسى في جمع الرجال والتأهب لمحاربته وانقضت السنة.
195

ذكر فتح هرقلة
وفي هذه السنة فتح الرشيد هرقلة وأخربها وكان سبب مسيره إليها ما ذكرناه سنة سبع وثمانين ومائة من غدر نقفور وكان فتحها في شوال وكان حصرها ثلاثين يوما وسبى أهلها وكان قد دخل البلاد في مائة ألف وخمسة وثلاثين ألفا من المرتزقة سوى الاتباع والمتطوعة ومن لا ديوان له وأناخ عبد الله بن مالك على ذي الكلاع ووجه داود بن عيسى بن موسى سائرا في أرض الروم في سبعين ألفا يخرب وينهب ففتح الله عليه، وفتح شراحيل بن معن بن زائدة حصن الصقالبة ودلسة وافتتح يزيد بن مخلد الصفصاف وملقونية واستعمل حميد بن معيوف على سواحل الشام ومصر فبلغ قبرس فهدم وأحرق وسبى من أهلها سبعة عشر ألفا فأقدمهم الرافقة فبيعوا بها وبلغ فداء أسقف قبرس ألفي دينار.
ثم سار الرشيد إلى طوانة فنزل بها ثم رحل عنها وخلف عليها عقبة بن جعفر.
وبعث نقفور بالخراج والجزية عن رأسه أربعة دنانير وعن رأس ولده دينارين وعن بطارقته كذلك وكتب نقفور إلى الرشيد في جارية من سبي هرقلة كان هرقلة كان
خطبها فأرسلها اليه.
196

ذكر عدة حوادث
وخرج في هذه السنة خارجي من ناحية عبد القيس يقال له سيف بن بكير فوجه إليه الرشيد محمد بن يزيد بن مزيد فقتله بعين النورة.
وفيها نقض أهل قبرص العهد فغزاهم معيوف بن يحيى فسبى أهلها. وحج بالناس عيسى بن موسى الهادي وفيها أسلم الفضل بن سهل على يد المأمون وقيل بل أسلم أبوه سهل على يدي المهدي وكان محبوسا وقيل أسلم الفضل وأخوه الحسن على يد يحيى بن خالد فاختاره يحيى لخدمة المأمون فلهذا كان الفضل يرعى البرامكة ويثنى عليهم ولقب بذي الرياستين لأنه تقلد الوزارة والسيف وكان يتشيع وهو الذي أشار على المأمون بالعهد لعلي بن موسى الرضا عليه السلام.
وكان على الموصل هذه السنة خالد بن يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب، لوما دخل الموصل تنكسر لواؤه في باب المدينة فتطير منه وكان معه أبو الشيص الشاعر فقال في ذلك:
(ما كان منكسر اللواء لطيرة * تخشى ولا أمر يكون مويلا)
(لكن هذا الرمح أضعف ركنه * صغر الولاية فاستقل الموصلا)
فسرى عن خالد.
وفيها غزا الرشيد الصائفة واستخلف المأمون بالرقة وفوض إليه
197

الأمور وكتب إلى الآفاق بذلك ودفع إليه خاتم المنصور تيمنا به ونقشه الله ثقتي آمنت به.
وفيها خرجت الروم إلى عين زربى والكنيسة السوداء وأغاروا فاستنقذ أهل المصيصة ما كان معهم من الغنيمة.
وفيها توفي أسد بن عمرو بن عامر أبو المنذر البجلي الكوفي صاحب أبي حنيفة.
وفيها توفي يحيى بن خالد بن برمك محبوسا بالرافقة في المحرم وعمره سبعون سنة وعمر بن علي بن عطاء بن مقدم المقدمي البصري.
198

191
ثم دخلت سنة إحدى وتسعين ومائة
ذكر الفتنة من أهل طليطلة وهو وقعة الحفرة
في هذه السنة أوقع الأمير الحكم بن هشام الأموي صاحب الأندلس بأهل طليطلة فقتل منهم ما يزيد على خمسة آلاف رجل من أعيان أهلها.
وسبب ذلك أن أهل طليطلة كانوا قد طمعوا في الأمراء وخلعوهم مرة بعد أخرى وقويت نفوسهم بحصانة بلدهم وكثرة أموالهم فلم يكونوا يطيعوا أمراءهم طاعة مرضية فلما أعيا الحكم شأنهم أعمل الحيلة في الظفر بهم فاستعان في ذلك بعمروس بن يوسف المعروف بالمولد وكان قد ظهر في هذا الوقت بالثغر الأعلى فأظهر طاعة الحكم ودعا إليه فاطمأن إليه بهذا السبب وكان من أهل مدينة وشقة فاستحضره فحضر عنده فأكرمه الحكم وبالغ في إكرامه واطلعه على عزمه في أهل طليطلة ووطأه على التدبير عليهم فولاه طليطلة وكتب إلى أهلها يقول إني قد اخترت لكم فلانا وهو منكم لتطمئن قلوبكم إليه وأعفيتكم ممن تكرهون من عمالنا وموالينا ولتعرفوا جميل رأينا فيكم.
فمضى عمروس إليهم ودخل طليطلة فأنس به أهلها واطمأنوا إليه وأحسن عشرتهم وكان أول ما عمل عليهم من الحيلة أن أظهر لهم موافقتهم على بغض بني أمية وخلع طاعتهم فمالوا إليه ووثقوا بما
199

يفعله؛ ثم قال لهم إن سبب الشر بينكم وبين أصحاب الأمير إنما هو اختلاطهم بكم وقد رأيت أن أبني بناء اعتزل فيه أنا وأصحاب السلطان رفقا بكم فأجابوه إلى ذلك فبنى في وسط البلد ما أراد.
فلما مضى لذلك مدة كتب الأمير الحكم إلى عامل له على الثغر الأعلى سرا يأمره أن يرسل إليه يستغيث من جيوش الكفرة وطلب النجدة والعساكر، ففعل العامل ذلك فحشد الحكم الجيوش من كل ناحية واستعمل عليهم ابنه عبد الرحمن وحشد معه قواده ووزراءه فسار الجيش واجتاز بمدينة
طليطلة ولم يعرض عبد الرحمن لدخولها فأتاه وهو عندها الخبر من ذلك العامل أن عساكر الكفرة قد تفرقت وكفى الله شرها فتفرق العسكر وعزم عبد الرحمن على العود إلى قرطبة فقال عمروس عند ذلك لأهل طليطلة قد ترون نزول ولد الحكم إلى جانبي وأنه يلزمني الخروج إليه وقضاء حقه فإن نشطتم لذلك وإلا سرت إليه وحدي فخرج معه وجوه أهل طليطلة فأكرمهم عبد الرحمن وأحسن إليهم.
وكان الحكم قد أرسل مع ولده خادما له ومعه كتاب لطيف إلى عمروس فأتاه الخادم وصافحه وسلم الكتاب إليه من غير أن يحادثه فلما قرأ عمروس الكتاب رأى فيه كيف تكون الحيلة على أهل طليطلة فأشار إلى أعيان أهلها بأن يسألوا عبد الرحمن الدخول إليهم ليرى هو وأهل عسكره كثرتهم ومنعتهم وقوتهم فظنوه ينصحهم ففعلوا ذلك وادخلوا عبد الرحمن البلد ونزل مع عمروس في داره وأتاه أهل طليطلة ارسالا يسلمون عليه.
وأشاع عمروس أن عبد الرحمن يريد أن يتخذ لهم وليمة عظيمة،
200

وشرع في الاستعداد لذلك وواعدهم يوما ذكره وقرر معهم أنهم يدخلون من باب ويخرجون من آخر ليقل الزحام ففعلوا ذلك.
فلما كان اليوم المذكور أتاه الناس أفواجا فكان كلما دخل فوج أخذوا وحملوا إلى جماعة من الجند على حفرة كبيرة في ذلك القصر فضربت رقابهم عليها فلما تعالى النهار أتى بعضهم فلم ير أحدا فقال أين الناس فقيل إنهم يدخلون من هذا الباب ويخرجون من الباب الآخر فقال ما لقيني منهم أحد وعلم الحال وصاح وأعلم الناس هلاك أصحابهم فكان سبب نجاة من بقي منهم فذلت رقابهم بعدها وحسنت طاعتهم بقية أيام الحكم وأيام ولده عبد الرحمن ثم انجبرت مصيبتهم وكثروا فلما هلك عبد الرحمن وولي ابنه محمد عاجلوه بالخلع على ما نذكره.
ذكر عصيان أهل ماردة على الحكم وما فعله باهل قرطبة
وفيها عصى أصبغ بن عبد الله ووافقه أهل مدينة ماردة من الأندلس على الحكم وأخرجوا عامله واتصل الخبر بالحكم فسار إليها وحاصرها فبينما هو مجد في الحصار أتاه الخبر عن أهل قرطبة أنهم أعلنوا بالعصيان له فرجع مبادرا فوصل إلى قرطبة في ثلاثة أيام وكشف عن الذين أثاروا الفتنة فصلبهم منكسين وضرب أعناق جماعة فارتدع الباقون بذلك واشتدت كراهيتهم له.
201

ولم يزل أهل ماردة تارة يطيعون ومرة يعصون إلى سنة اثنتين وتسعين فضعف أمر أصبغ لأن الحكم تابع إرسال الجيوش إليه واستعمال جماعة من أعيان أهل ماردة وثقاته من أصحابه فمالوا إليه وفارقوا أصبغ حتى أخوه فتحير اصبغ وضعفت نفسه فأرسل يطلب الأمان فأمنه الحكم ففارق ماردة وحضر عند الحكم وأقام عنده بقرطبة.
ذكر غزو الفرنج بالأندلس
في هذه السنة تجهز لذريق ملك الإفرنج بالأندلس وجمع جموعه ليسير إلى مدينة طرطوشة ليحصرها فبلغ ذلك الحكم فجمع العساكر وسيرها مع ولده عبد الرحمن فاجتمعوا في جيش عظيم وتبعهم كثير من المتطوعة فساروا فلقوا الإفرنج في أطراف بلادهم قبل أن ينالوا من بلاد المسلمين شيئا فاقتتلوا وبذل كل من الطائفتين جهده واستنفذ وسعه فانزل الله تعالى نصره على المسلمين فانهزم الكفار وكثر القتل فيهم والأسر ونهبت أموالهم وأثقالهم وعاد المسلمون ظافرين غانمين.
ذكر عصيان حزم على الحكم
في هذه السنة خالف حزم بن وهب بناحية باجة ووافقه غيره وقصدوا لشبونة وكان الحكم يسمى حزما في كتبه النبطي فلما سمع الحكم خبره سير إليه ابنه هشاما في جمع كثير فأذله ومن معه وقطع الأشجار وضيق عليهم حتى أذعنوا لطلب الأمان فأمنه.
202

ذكر عزل علي بن عيسى بن ماهان عن خراسان وولاية هرثمة
وفيها عزل الرشيد علي بن عيسى بن ماهان عن خراسان وكان سبب ذلك ما ذكرناه من قتل ابنه عيسى فلما قتل جزع عليه أبوه فخرج عن بلخ إلى مرو مخافة عليها أن يسير إليها رافع بن الليث ليأخذها وكان ابنه عيسى قد دفن في بستان في داره بلخ أموالا عظيمة قيل كانت ثلاثين ألف ألف ولم يعلم بها أبوه ولم يطلع عليها إلا جارية له فلما سار علي بن عيسى إلى مرو وأطلعت الجارية على ذلك بعض الخدم وتحدث به الناس واجتمعوا ودخلوا البستان ونهبوا المال وبلغ الرشيد الخبر فقال خرج عن بلخ من غير أمري وخلف مثل هذا المال وهو يزعم أنه قد باع حلي نسائه فيما أنفق على محاربة رافع فعزله واستعمل هرثمة بن أعين.
وكان قد نقم الرشيد عليه ما كان يبلغه من سوء سيرته وإهانته أعيان الناس واستخفافه بهم فمن ذلك أنه دخل عليه يوما الحسين بن مصعب والد طاهر بن الحسين وهشام بن فرخسرو فسلما عليه فقال للحسين لا سلم الله عليك يا ملحد ابن الملحد والله إني لأعرف ما أنت عليه من عداوة الاسلام والطعن في الدين ولم أنتظر بقتلك إلا أمر الخيفة ألست المرجف بي في منزلي هذا بعد أن ثملت من الخمر وزعمت أنك جاءتك كتب من بغداد بعزلي أخرج إلى سخط الله لعنك الله فعن قريب ما يكون منها فاعتذر إليه فلم يقبل عذره وأمر بإخراجه فأخرج.
وقال لهشام بن فرخسرو صارت دارك دار الندوة يجتمع إليك السفهاء تطعن على الولاة سفك الله دمي إن لم أسفك دمك فاعتذر إليه فلم يعذره فأخرجه.
203

فأما الحسين فسار إلى الرشيد، فاستجار به وشكا إليه فأجاره وأما هشام فإنه قال لبنت له إني أخاف الأمير على مدي وأنا مفض إليك بأمر إن أنت أظهرته قتلت وإن أنت كتمته سلمت قالت وما هو قال قد عزمت على أن أظهر أن الفالج قد أصابني فإذا كان في السحر فاجمعي جواريك واقصدي فراشي وحركيني فإذا رأيت حركتي ثقلت فصيحي أنت وجواريك واجمعي اخوتك فأعلميهم علتي ففعلت ما أمرها وكانت عاقلة فأقام مطروحا على فراشه حينا لا يتحرك إلى أن جاء هرثمة واليا فركب إلى لقائه فرآه علي بن عيسى بن ماهان فقال إلى أين فقال أتلقى الأمير أبا حاتم قال ألم تكن عليلا فقال وهب الله العافية وعزل الطاغية في ليلة واحدة فعلى هذا تكون ولاية هرثمة ظاهرة.
وقيل بل كانت ولايته سرا لم يطلع الرشيد أحدا فقيل إنه لما أراد عزل علي بن عيسى استدعى هرثمة وأسر إليه ذلك وقال له ان علي بن عيسى قد كتب يستمدني بالعساكر والأموال فأظهر للناس أنك تسير إليه نجدة له وكتب له الرشيد كتابا بولايته بخط يده وأمر كتابه أن يكتبوا له إلى علي بن عيسى بأنه قد سير هرثمة نجدة له.
فسار هرثمة ولا يعلم بأمره أحد حتى ورد نيسابور فلما وردها استعمل أصحابه على كورها وسار مجدا يسبق الخبر فأتى مرو والتقاه علي بن عيسى فاحترمه هرثمة وعظمه حتى دخل البلد ثم قبض 1 عليه وعلى أهله وأصحابه وأتباعه وأخذ أمواله فبلغت ثمانين ألف ألف وكانت خزائنه وأثاثه على ألف وخمسمائة بعير فأخذ الرشيد ذلك كله وكان وصول هرثمة إلى خراسان سنة اثنتين وتسعين فلما فرغ هرثمة من أخذ أموالهم
204

أقامهم لمطالبة الناس، وكتب إلى الرشيد بذلك، وسير علي بن عيسى اليه على بعير بغير وطاء ولا غطاء.
ذكر عدة حوادث
فيها خرج خارجي يقال له ثروان بن سيف بناحية حولايا وتنقل في السواد فوجه إليه طوق بن مالك فهزمه طوق وجرحه وقتل عامة أصحابه.
وفيها خرج أبو النداء بالشام فسير الرشيد في طلبه يحيى بن معاذ وعقد له على الشام.
وفيها ظفر حماد البربري بهيصم اليماني وفيها أرسل أهل نسف إلى رافع بن الليث يسألونه أن يوجه إليهم من يعينهم على قتل عيسى بن علي بن عيسى وعلي بن عيسى فأرسل إليهم جمعا فقتلوا عيسى وحده في ذي القعدة.
وفيها غزا يزيد بن مخلد الهبيري أرض الروم في عشرة آلاف فأخذت الروم عليه المضيق فقتلوه وخمسين رجلا وسلم الباقون وكان ذلك على مرحلتين من طرطوس.
205

وفيها استعمل الرشيد على الصائفة هرثمة بن أعين قبل أن يوليه خراسان وضم إليه ثلاثين ألفا من أهل خراسان ورتب الرشيد بدرب الحدث عبد الله بن مالك وبمرعش سعيد بن سلم بن قتيبة فأغارت الروم عليها فأصابوا من المسلمين وانصرفوا ولم يتحرك سعيد من موضعه وبعث محمد بن يزيد بن مزيد إلى طرطوس.
وأقام الرشيد يتحرك بدرب الحدث ثلاثة أيام من رمضان وعاد إلى الرقة وأمر الرشيد بهدم الكنائس بالثغور وأخذ أهل الذمة بمخالفة هيئة المسلمين في لباسهم وركوبهم وأمر هرثمة ببناء طرطوس وتمصيرها ففعل وتولى ذلك فرخ الخادم بأمر الرشيد وسير إليها جندا من أهل خراسان ثلاثة آلاف ثم اشخص إليهم ألفا من أهل المصيصة وألفا من أهل أنطاكية وتم بناؤها سنة اثنتين وتسعين ومائة وبنى مسجدها.
وحج بالناس هذه السنة الفضل بن العباس بن محمد بن علي وكان أميرا على مكة وكان على الموصل محمد بن الفضل بن سليمان.
وفيها توفي الفضل بن موسى السيناني أبو عبد الله المروزي مولى بني قطيعة وكان مولده سنة خمس عشرة ومائة.
(السيناني بكسر السين المهملة وبالياء المثناة من تحتها وبالنون قبل الألف ثم بنون بعده منسوب إلى سينان وهي قرية من قرى مرو).
206

192
ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين ومائة
ذكر مسير الرشيد إلى خراسان
فيها سار الرشيد من الرقة إلى بغداد يريد خراسان لحرب رافع بن الليث وكان مريضا واستخلف على الرقة ابنه القاسم وضم إليه خزيمة بن خازم وسار من بغداد إلى النهروان لخمس خلون من شعبان واستخلف على بغداد انه الأمين وأمر المأمون بالمقام ببغداد فقال الفضل بن سهل للمأمون حين أراد الرشيد المسير إلى خراسان لست تدري ما يحدث بالرشيد وخراسان ولايتك ومحمد الأمين المقدم عليك وإن أحسن ما يصنع بم أن يخلعك وهو ابن زبيدة وأخواله بنو هاشم، وزبيدة وأموالها [ردء له]، فاطلب إلى أمير المؤمنين أن تسير معه فطلب إليه ذلك فأجابه بعد امتناع.
فلما سار الرشيد سايره الصباح الطبري فقال له يا صباح لا أظنك تراني أبدا فدعا فقال ما أظنك تدري ما أجد قال الصباح لا والله فعدل عن الطريق واستظل بشجرة وأمر خواصه بالبعد فكشف عن بطنه فإذا عليه عصابة حرير حوالي بطنه فقال هذه علة أكتمها الناس كلهم ولكل واحد من ولدي علي رقيب فمسرور رقيب المأمون وجبرائيل بن بختيشوع
207

رقيب الأمين وما منهم أحد إلا وهو يحصى أنفاسي ويستطيل دهري وان أردت أن تعلم ذلك فالساعة أدعو بدابة فيأتوني بدابة أعجف قطوف لتزيد بي علتي فاكتم علي ذلك فدعا له بالبقاء ثم طلب الرشيد دابة فجاؤوا بها على ما وصف فنظر إلى الصباح وركبها.
ذكر عدة حوادث
وفيها تحركت الخرمية بناحية أذربيجان فوجه إليهم الرشيد عبد الله بن مالك في عشرة آلاف فقتل وسبى وأسر ووافاه بقرماسين فأمره بقتل الأسرى وبيع السبي.
وفيها قدم يحيى بن معاذ على الرشيد بأبي النداء فقتله.
وفيها فارق جماعة من القواد رافع بن الليث وصاروا إلى هرثمة منهم عجيف بن عنبسة وغيره.
وفيها استعمل الرشيد على الثغور ثابت بن نصر بن مالك وغزا فافتتح مطمورة.
وفيها كان الفداء بالبذندون.
وفيها خرج ثروان الحروري بطف البصرة فقاتل عامل السلطان بها.
وفيها مات عيسى بن جعفر المنصور بالدسكرة وهو يريد اللحاق بالرشيد.
208

وفيها قتل الرشيد الهيصم اليماني وحج بالناس هذه السنة العباس بن عبد الله بن جعفر بن المنصور.
وفيها كان وصول هرثمة إلى خراسان كما تقدم وحصر هرثمة رافع بن الليث بسمرقند وضايقه واستقدم طاهر بن الحسين فحضر عنده وخلت خراسان لحمزة الخارجي حتى دخلها وصار يقتل ويجمع الأموال ويحملها إليها عمال هراة وسجستان فخرج إليه عبد الرحمن النيسابوري فاجتمع إليه نحو عشرين ألفا فسار إلى حمزة فقاتله قتالا شديدا فقتل من أصحاب حمزة خلقا وسار خلفه حتى بلغ هراة وكان ذلك سنة أربع وتسعين فكتب إليه المأمون فرده وأدام هرثمة على حصار سمرقند حتى فتحها على ما نذكره إن شاء الله تعالى وقتل رافع بن الليث وجماعة من أقربائه واستعمل على ما وراء النهر ابن يحيى فعاد وكان قتله رافعا سنة خمس وتسعين.
وفي هذه السنة توفي عبد الله بن إدريس بن يزيد الأودي الكوفي ويوسف بن أبي يوسف القاضي وفيها كان الفداء الثاني بين المسلمين والروم وكان القيم به ثابت بن نصر
بن مالك الخزاعي وكان عدة الأسرى من المسلمين ألفين وخمسمائة أسير.
209

193
ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين ومائة
ذكر موت الفضل بن يحيى
في هذه السنة مات الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك في الحبس بالرقة وكانت علته أنه أصابه ثقل في لسانه وشقه فعولج أشهرا فبرأ وكان يقول ما أحب أن يموت الرشيد لأن أمري قريب من أمره.
فلما صح من علته وتحدث عادته العلة واشتدت عليه وانعقد لسانه وطرفه فمات في المحرم وصلى عليه اخوانه في القصر الذي كانوا فيه ثم أخرج فصلى عليه الناس وجزع الناس وكان موته قبل الرشيد بخمسة أشهر وهو ابن خمس وأربعين سنة وكان من محاسن الدنيا لم ير في العالم مثله ولاشتهار أخباره وأخبار أهله وحسن سيرتهم لم نذكرها.
وفيها مات سعيد الطبري المعروف بالجوهري.
وفيها كانت وقعة بين هرثمة وأصحاب رافع كان الظفر [فيها] لهرثمة، وافتتح بخارى وأسر بشيرا أخا رافع فبعث به إلى الرشيد.
210

ذكر موت الرشيد
وفي هذه السنة مات الرشيد أول جمادى الآخرة لثلاث خلون منه وكانت قد اشتدت علته بالطريق بجرجان فسار إلى طوس فمات بها.
قال جبرائيل بن بختيشوع كنت مع الرشيد بالرقة وكنت أول من يدخل عليه في كل غداة أتعرف حاله في ليلته ثم يحدثني وينبسط إلي ويسألني عن أخبار العامة فدخلت عليه يوما فسلمت عليه فلم يكد يرفع طرفه ورأيته عابسا مفكرا مهموما فوقت مليا من النهار وهو على تلك الحال فلما طال ذلك أقدمت فسألته عن حاله وما سببه فقال: إن فكري وهمي لرؤيا رأيتها في ليلتي هذه قد أفزعتني وملأت صدري فقلت فرجت عني يا أمير المؤمنين ثم قبلت يده ورجله وقلت الرؤيا إنما تكون لخاطر أو بخارات رديئة وتهاويل السوداء وهي أضغاث أحلام.
قال: فإني أقصها عليك رأيت كأني جالس على سريري هذا إذ بدت من تحتي ذراع أعرفها وكف أعرفها لا افهم اسم صاحبها وفي الكف تربة حمراء فقال لي قائل أسمعه ولا أرى شخصه هذه التربة التي تدفن فيها فقلت وأين هذه التربة قال طوس وغابت اليد وانقطع الكلام.
فقلت أحسبك لما أخذت مضجعك فكرت في خراسان وما ورد عليك
211

منها وانتقاض بعضها فذلك الفكر أوجب هذه الرؤيا.
فقال كان ذلك فأمرته باللهو والانبساط ففعل ونسينا الرؤيا وكالت الأيام ثم سار إلى خراسان لحرب رافع فما صار ببعض الطريق ابتدأت به العلة فلم تزل تزيد حتى دخلنا طوس فبينا هو يمرض في بستان في ذلك القصر الذي هو فيه إذ ذكر تلك الرؤيا فوثب متحاملا يقوم ويسقط فاجتمعنا [إليه] نسأله، فقال أتذكر رؤياي بالرقة في طوس ثم رفع رأسه إلى مسرور فقال جئني من تربة هذا البستان فأتاه بها في كفه حاسرا عن ذراعيه فلما نظر إليه قال هذه والله الذراع التي رأيتها في منامي وهذه الكف بعينها وهذه التربة الحمراء ما خرمت شيئا وأقبل على البكاء والنحيب ثم مات بعد ثلاثة.
قال أبو جعفر لما سار الرشيد عن بغداد إلى خراسان بلغ جرجان في صفر وقد اشتدت علته فسير ابنه المأمون إلى مرو وسير معه من القواد عبد الله بن مالك ويحيى بن معاذ وأسد بن يزيد والعباس بن جعفر بن محمد بن الأشعث والسندي الحرشي ونعيم بن حازم وسار الرشيد إلى طوس واشتد به الوجع حتى ضعف عن الحركة فلما أثقل أرجف به الناس فبلغه ذلك فأمر بمركوب ليركبه ليراه الناس فأتي بفرس فلم يقدر على النهوض فأتي ببرذون فلم يطق النهوض فأتي بحمار فلم ينهض فقال ردوني ردوني صدق والله الناس.
ووصل إليه وهو بطوس بشير بن الليث أخو رافع وأسيرا فقال الرشيد والله لو لم يبق من أجلي إلا أن أحرك شفتي بكلمة فقلت اقتلوه ثم دعا بقصاب فأمر به ففصل أعضاءه فلما فرغ منه أغمي عليه وتفرق الناس عنه.
212

فلما أيس من نفسه أمر بقبره فحفر في موضع عن الدار التي كان فيها وأنزل إليه قرحا فقرؤوا فيه القرآن حتى ختموا وهو في محفة على شفير القبر يقول ابن آدم تصير إلى هذا وكان يقول في تلك الحال وا سوأتاه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال الهيثم بن عدي: لما حضرت الرشيد الوفاة غشي عليه ففتح عينيه منها فرأى الفضل بن الربيع على رأسه، فقال: يا فضل:
(أحين دنا ما كنت أرجو دنوه * رمتني عيون الناس من كل جانب)
(فأصبحت مرحوما وكنت محسدا * فصبرا على مكروه أمن العواقب)
(سأبكي على الوصل الذي كان بيننا * وأندب أيام السرور الذواهب)
قال سهل بن صاعد: كنت عند الرشيد وهو يجود بنفسه فدعا بملحفة غليظة فاحتبى بها وجعل يقاسي ما يقاسي فنهضت فقال اقعد فقعدت طويلا لا يكلمني ولا أكلمه فنهضت فقال أين يا سهل؟ فقلت ما يتسع قلبي [أن أرى] يا أمير المؤمنين تعاني من المرض ما تعاني فلو اضطجعت يا أمير المؤمنين [كان أرواح]. فضحك ضحكا
صحيحا ثم قال يا سهل أذكر في هذه الحال قول الشاعر:
(وإني من قوم كرام يزيدهم * شماسا وصبرا شدة الحدثان)
ثم مات وصلى عليه ابنه صالح وحضر وفاته الفضل بن الربيع،
213

وإسماعيل بن صبيح ومسرور وحسين ورشيد.
وكانت خلافته ثلاثا وعشرين سنة وشهرين وثمانية عشر يوما وقيل ملك ثلاثا وعشرين سنة وشهرا وستة عشر يوما وكان عمره سبعا وأربعين سنة وخمسة أشهر وخمسة أيام وكان جميلا وسيما أبيض جعدا قد وخطه الشيب قال وكان في بيت المال لما توفي تسعمائة ألف ونيف.
ذكر ولاة الأمصار أيام الرشيد
(ولاة المدينة): إسحاق بن عيسى بن علي عبد الملك بن صالح بن علي محمد بن عبد الله موسى بن عيسى بن موسى إبراهيم بن محمد بن إبراهيم علي بن عيسى بن موسى محمد بن إبراهيم عبد الله بن مصعب بكار بن عبد الله بن مصعب محمد بن علي أبو البختري وهب بن منبه.
(ولاة مكة): العباس بن محمد بن إبراهيم سليمان بن جعفر بن سليمان موسى بن عيسى بن موسى عبد الله بن محمد بن إبراهيم عبد الله بن قثم بن العباس عبيد الله بن قثم عبد الله بن محمد بن عمران عبيد الله بن محمد بن إبراهيم العباس بن موسى بن عيسى علي بن موسى بن عيسى محمد بن عبد الله العثماني حماد البربري سليمان بن جعفر بن سليمان الفضل بن العباس بن محمد أحمد بن إسماعيل بن علي.
214

(ولاة الكوفة): موسى بن عيسى بن موسى محمد بن إبراهيم عبيد الله بن محمد بن إبراهيم يعقوب بن أبي جعفر موسى بن عيسى بن موسى العباس بن عيسى بن موسى إسحاق بن الصباح الكندي موسى بن عيسى بن موسى العباس بن عيسى بن موسى موسى بن عيسى بن موسى جعفر بن أبي جعفر.
(ولاة البصرة): محمد بن سليمان بن علي سليمان بن أبي جعفر عيسى بن جعفر بن أبي جعفر حزيمة بن خازم عيسى بن جعفر جرير بن يزيد جعفر بن سليمان جعفر بن أبي جعفر عبد الصمد بن علي مالك بن علي الخزاعي إسحاق بن سليمان بن علي سليمان بن أبي جعفر عيسى بن جعفر الحسن بن جميل مولى أمير المؤمنين عيسى بن جعفر بن أبي جعفر جرير بن يزيد عبد الصمد بن علي إسحاق بن عيسى ابن علي.
(ولاة خراسان) أبو العباس الطوسي جعفر بن محمد بن الأشعث العباس بن جعفر الغطريف بن عطاب سليمان بن راشد.
على الخراج) حمزة بن مالك الفضل بن يحيى بن خالد منصور بن يزيد بن منصور جعفر بن يحيى وخليفته بها علي بن عيسى بن ماهان هرثمة بن أعين العباس بن جعفر للمأمون بها علي بن الحسن بن قحطبة.
215

ذكر نسائه وأولاده
قيل: تزوج زبيدة وهي أم جعفر بنت جعفر بن المنصور وأعرس بها سنة خمس وستين ومائة فولدت محمدا الأمين وماتت سنة ست وعشرين ومائتين.
وتزوج أمه العزيز أم ولد الهادي فولدت له علي بن الرشيد.
وتزوج أم محمد بنت صالح المسكين.
وتزوج العباسية بنت سليمان بن المنصور.
وتزوج عزيزة ابنة خاله الغطريف.
وتزوج العثمانية، وهي ابنة عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان وجدة أبيها فاطمة بنت الحسين بن علي.
ومات الرشيد عن أربع مهائر زبيدة وأم محمد بنت صالح وعباسة والعثمانية.
وكان قد ولد له من الذكور محمد الأمين من زبيدة وعبد الله المأمون لأم ولد اسمها مراجل والقاسم المؤتمن وأبو إسحاق محمد المعتصم وصالح وأبو عيسى محمد وأبو يعقوب محمد وأبو العباس محمد وأبو سليمان محمد وأبو علي محمد وأبو محمد وهو اسمه وأبو أحمد محمد كلهم لأمهات أولاد.
وله من البنات سكينة وأم حبيب وأروى وأم الحسن وأم محمد وهي حمدونة وفاطمة وأم أبيها وأم سلمة وخديجة.
216

وأم القاسم ورملة وأم جعفر وأم علي والغالية وريطة كلهن لأمهات أولاد.
ذكر بعض سيرته
قيل: كان الرشيد يصلي كل يوم مائة ركعة إلى أن فارق الدنيا إلا من مرض وكان يتصدق من صلب ماله كل يوم بألف درهم بعد زكاته وكان إذا حج حج معه مائة من الفقهاء وأبنائهم فإذا لم يحج أحج ثلاثمائة رجل بالنفقة السابغة والكسوة الطاهرة.
وكان يطلب العمل بآثار المنصور إلا في بذل المال فإنه لم ير خليفة قبله كان أعطى منه للمال وكان لا يضيع عنده إحسان محسن ولا يؤخر ذلك.
وكان يحب الشعر والشعراء ويميل إلى أهل الأدب والفقه ويكره المراء في الدين وكان يحب المديح لا سيما من شاعر فصيح ويجزل العطاء عليه ولما مدحه مروان بن أبي حفصة بقصيدة التي منها:
(وسدت بهارون الثغور فأحكمت * به من أمور المسلمين لمرائر)
أعطاه خمسة آلاف دينار وخلعه وعشرة من الرقيق الرومي و [حمله] وبرذون من خاص مركبه.
وقيل: كان مع الرشيد ابن أبي مريم المديني وكان مضاحكا فكها،
217

يعرف أخبار أهل الحجاز وألقاب الأشراف ومكايد المجان فكان الرشيد لا يصبر عنه وأسكنه في قصره فجاء ذات ليلة وهو نائم فقام الرشيد إلى صلاة الفجر فكشف اللحاف عنه وقال كيف أصبحت فقال ما أصبحت بعد اذهب إلى عملك قال قم إلى الصلاة قال هذا وقت صلاة أبي الجارود وأنا من أصحاب أبي يوسف فمضى الرشيد يصلي وقام ابن أبي مريم وأتى الرشيد فرآه يقرأ في الصلاة: (ومالي لا أعبد الذي فطرني) فقال ما أدري والله فما تمالك الرشيد أن ضحك ثم قال وهو مغضب في الصلاة أيضا قال ما صنعت قال قطعت علي صلاتي قال والله ما فعلت إنما سمعت منك كلاما غمني حين قلت: (ومالي لا أعبد الذي فطرني) فقلت لا أدري فعاد الرشيد الضحكة ثم قال له إياك والقرآن والدين ولك ما شئت بعدها.
وقيل: استعمل يحيى بن خالد على بعض أعمال الخراج فدخل على الرشيد يودعه وعنده يحيى وجعفر فقال لهما الرشيد أوصياه فقال يحيى وقر وأعمر وقال جعفر انصف وانتصف فقال الرشيد اعدل وأحسن.
وقيل: حج الرشيد مرة فدخل الكعبة فرآه بعض الحجبة وهو
218

واقف على أصابعه يقول: يا من يملك حوائج السائلين ويعلم ضمير الصامتين فإن لكل مسألة منك ردا حاضرا وجوابا عنيدا ولكل صامت منك علم محيط ناطق بمواعيدك الصادقة وأياديك الفاضلة ورحمتك الواسعة صل على محمد وعلى آل محمد واغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا يا من لا تضره الذنوب ولا تخفى عليه الغيوب ولا تنقصه مغفرة الخطايا يا من كبس الأرض على الماء وسد الهواء بالسماء واختار لنفسه أحسن الأسماء صل على محمد وعلى آل محمد وخر لي في جميع أموري يا من خضعت له الأصوات بأنواع اللغات يسألونه الحاجات إن من حاجتي إليك أن تغفر لي ذنوبي إذا توفيتني وصيرت في لحدي وتفرق عني أهلي وولدي اللهم لك الحمد حمدا يفضل كل حمد كفضلك على جميع الخلق اللهم صل على محمد وعلى آل محمد صلاة تكون له رضا وصل عليه صلاة تكون له ذخرا واجزه عنا الجزاء الأوفى اللهم أحينا سعداء وتوفنا شهداء واجعلنا سعداء مرزوقين ولا تجعلنا أشقياء محرومين.
وقيل: دخل ابن السماك على الرشيد فبينما هو عنده إذ طلب ماء فلما أراد شربه قال له ابن السماك مهلا يا أمير المؤمنين بقرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم لو منعت هذه الشربة بكم كنت تشتريها قال بنصف ملكي قال اشرب فلما شرب قال أسألك بقرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم لو منعت خروجها من بدنك بماذا كنت تشتريها قال بجميع ملكي قال إن ملكا لا يساوي شربة ماء
219

وخروج بولة لجدير أن لا ينافس فيه فبكى الرشيد.
وقيل: كان الفضيل بن عياض يقول ما من نفس أشد علي موتا من هارون الرشيد لوددت أن الله زاد من عمري في عمره فعظم ذلك على أصحابه؛ فلما مات وظهرت الفتن وكان من المأمون ما حمل الناس عليه من القول بخلق القرآن قالوا الشيخ أعلك بما تكلم به.
وقال محمد بن منصور البغدادي لما حبس الرشيد أبا العتاهية جعل عليه عينا يأتيه بما يقول فرآه يوما قد كتب على الحائط:
(أما والله إن الظلم لؤم * وما زال المسئ هو الظلوم)
(إلى ديان يوم الدين نمضي * وعند الله تجتمع الخصوم)
فأخبر بذلك الرشيد فبكى وأحضره واستحله وأعطاه ألف دينار.
وقال الأصمعي صنع الرشيد يوما طعاما كثيرا وزخرف مجالسه وأحضر أبا العتاهية فقال له صف لنا ما نحن فيه من نعيم هذه الدنيا فقال:
(عش ما بدا لك سالما * في ظل شاهقة القصور)
فقال: أحسنت! ثم قال ماذا؟ فقال:
(يسعى عليك بما أشتهي * لدى الرواح وفي البكور)
220

فقال أحسنت! ثم ماذا؟ فقال:
(فإذا النفوس تقعقعت * في ظل حشرجة الصدور)
(فهناك تعلم موقنا * ما كنت إلا في غرور)
فبكى الرشيد. وقال الفضل بن يحيى بعث إليك أمير المؤمنين لتسره فحزنته فقال دعه فإنه رآنا في عمي أن يزيدنا.
خلافة الأمين
وفي هذه السنة بويع الأمين بالخلافة في عسكر الرشيد صبيحة الليلة التي توفي فيها وكان المأمون حينئذ بمرو فكتب حمويه مولى المهدي صاحب البريد إلى نائبه ببغداد وهو سلام أبو مسلم يعلمه بوفاة الرشيد فدخل أبو مسلم على الأمين فعزاه وهناه بالخلافة فكان أول الناس فعل ذلك.
وكتب صالح بن الرشيد إلى أخيه الأمين يخبره بوفاة الرشيد مع رجاء الخادم وأرسل معه الخاتم والقضيب والبردة فلما وصل رجاء انتقل الأمين من قصره بالخلد إلى قصر الخلافة وصلى بالناس الجمعة ثم صعد المنبر فنعى الرشيد وعزى نفسه والناس ووعدهم الخير وأمن الأبيض والأسود وفرق في الجند الذين ببغداد رزق أربعة
وعشرين شهرا ودعا إلى البيعة فبايعه جلة أهل بيته وكل عم ابنه وأمر سليمان بن المنصور بأخذ البيعة على القواد وغيرهم فأمر السندي أيضا بمبايعة من عداهم.
221

ذكر ابتداء الاختلاف بين الأمين والمأمون
في هذه السنة ابتدأ الاختلاف بين الأمين والمأمون ابني الرشيد.
وكان سبب ذلك أن الرشيد لما سار نحو خراسان وأخذ البيعة للمأمون على جميع من في عسكره من القواد وغيرهم وأقر له لجميع ما معه من الأموال وغيرها على ما سبق ذكره عظم على الأمين ذلك ثم بلغه شدة مرض الرشيد فأرسل بكر بن المعتمر وكتب معه كتبا وجعلها في قوائم صناديق المطبخ وكانت منقورة وألبسها جلود البقر وقال لا تظهرن أمير المؤمنين ولا غيره على ذلك حتى يموت أكير المؤمنين ولو قتلت فإذا مات فادفع إلى كل إنسان منهم ما معك.
فلما قدمك بكر بن المعتمر طوس بلغ هارون قدومه فدعا به وسأله عن سبب قدومه فقال بعثني الأمين لآتيه بخبرك؛ قال فهل معك كتاب قال لا فأمر بما معه ففتش فلم يصيبوا شيئا فأمر به فضرب فلم يقر بشيء فحبسه وقيده ثم أمر الفضل بن الربيع بتقريره فإن أقر وإلا اضرب عنقه فقرره فلم يقر بشيء ثم غشي على الرشيد فصاح النساء فأمسك الفضل عن قتله وحضر عند الرشيد فأفاق وهو ضعيف قد شغل عن بكر وغيره ثم مات.
وكان بكر قد كتب إلى الفضل يسأله أن لا يعجل في أمره بشيء فان عنده أشياء يحتاج إلى عملها فأحضره الفضل وأعلمه بموت الرشيد وسأله عما عنده فخاف أن يكون الرشيد حيا فلما تيقن موته أخرج الكتب
222

التي معه، وهي كتاب إلى أخيه من يأمره بترك الجزع وأخذ البيعة على الناس لهما ولأخيهما المؤتمن ولم يكن المأمون حاضرا كان بمرو وكتاب إلى أخيه صالح يأمره بتسيير العسكر واستصحاب ما فيه وأن يتصرف هو ومن معه برأي الفضل وكتاب إلى الفضل يأمره بالحفظ والاحتياط على ما معه من الحرم والأموال وغير ذلك وأقر كل من كان اليه عمل كصاحب الشرطة والحرس والحجابة.
فلما قرؤوا الكتب تشاوروا هم والقواد في اللحاق بالأمين فقال الفضل بن الربيع لا أدع ملكا حاضرا لآخر ما أدري ما يكون من أمره وأمر الناس بالرحيل فرحلوا محبة منهم لأهلهم ووطنهم وتركوا العهود التي كانت أخذت عليهم للمأمون.
فلما بلغ المأمون ذلك جمع من عنده من قواد أبيه وهم عبد الله بن مالك ويحيى بن معاذ وشبيب بن حميد بن قحطبة والعلاء مولى هارون وهو على حجابته والعباس بن المسيب بن زهير وهو على شرطته وأيوب بن أبي سمير وهو على كتابته وعبد الرحمن بن عبد الملك بن صالح وذو الرياستين وهو أعظمهم عنده قدرا وأخصهم به واستشارهم فأشاروا أن يلحقهم في الفي فارس جريدة فيردهم فخلا به ذو الرياستين وقال إن فعلت ما أشار به هؤلاء جعلوك هدية إلى أخيك ولكن الرأي أن تكتب إليهم كتابا وتوجه رسولا يذكرهم البيعة ويسألهم الوفاء ويحذرهم الحنث وما فيه دنيا وآخرة.
ففعل ذلك؛ ووجه سهل بن صاعد ونوفلا الخادم ومعهما كتاب فلحقا الجند والفضل بنيسابور فأوصلا إلى الفضل كتابه فقال إنما أنا واحد من الجند وشد عبد الرحمن بن جبلة الأنباري على سهل بالرمح
223

ليطعنه فأمره على جنبه وقال له قل لصاحبك لو كنت حاضرا لوضعته [في] فيك وسب المأمون.
فرجعا إليه بالخبر فقال ذو الرياستين أعداء استرحت منهم ولكن افهم عني أن هذه الدولة لم تكن قط أعز منها أيام المنصور فخرج عليه المقنع وهو يدعي الربوبية وقيل طلب بدم أبي مسلم فضعضع العسكر بخروجه بخراسان وخرج بعده يوسف البرم وهو عند المسلمين كافر فتضعضعوا أيضا له فأخبرني أنت أيها الأمير كيف رأيت الناس عند ما ورد عليهم خبر رافع قال رأيتهم اضطربوا اضطرابا شديدا قال فكيف بك وأنت نازل في أخوالك وبيعتك في أعناقهم كيف يكون اضطراب أهل بغداد؟ اصبر، وأنا أضمن لك الخلافة.
قال المأمون قد فعلت وجعلت الأمر إليك فقم به.
قال ذو الرياستين والله لأصدقنك إن عبد الله بن مالك ومن معه من القواد ان قاموا لك بالأمر كانوا أنفع لك مني برياستهم المشهورة وبما عندهم من القوة [على الحرب]، فمن قام بالأمر كنت خادما له حتى تبلغ أملك وترى رأيك.
وقام ذو الرياستين وأتاهم في منازلهم وذكرهم ما يجب عليهم من الوفاء قال فكأني جئتهم بجيفة على طبق فقال بعضهم هذا لا يحل اخرج وقال بعضهم من الذي يدخل بين أمير المؤمنين وأخيه فجئت وأخبرته فقال قم بالأمر قال قلت له قرأت القرآن وسمعت
224

الأحاديث وتفقهت في الدين فأرى أن نبعث إلي من بحضرتك من الفقهاء فتدعوهم إلى الحق والعمل به وإحياء السنة وتقعد على الصوف وترد المظالم.
ففعل ذلك جميعه وأكرمه القواد والملوك وأبناء الملوك وكان يقول للتميمي نقيمك مقام موسى بن كعب وللربعي نقيمك مقام أبي داود وخالد بن إبراهيم ولليماني نقيمك مقام قحطبة ومالك بن الهيثم وكل هؤلاء نقباء الدولة العباسية ووضع عن خراسان ربع الخراج فحسن ذلك عند أهلها وقالوا ابن أختنا وابن عم نبينا وأما الأمين فلما سكن الناس ببغداد أمر ببناء ميدان حول قصر المنصور بعد بيعته بيوم [للصوالجة واللعب]؛ فقال شاعرهم:
(بنى أمين الله مدانا * وصير الساحة بستانا)
(وكانت الغزلان فيه بانا * يهدي إليه فيه غزلانا)
وأقام المأمون يتولى ما كان بيده من خراسان والري وأهدى إلى الأمين وكتب إليه وعظمه.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة دخل هرثمة بن أعين حائط سمرقند فأرسل رافع بن الليث إلى الترك فأتوه وصار هرثمة بين رافع والترك ثم إن الترك انصرفوا فضعف رافع.
وفيها قدمت زبيدة امرأة الرشيد من الرقة إلى بغداد فلقيها ابنها الأمين
225

بالأنبار، ومعه جمع من بغداد من الوجوه وكان معه أخوه ابن الرشيد.
وفيها قتل نقفور ملك الروم في حرب برجان وكان ملك سبع سنين وملك بعده ابنه استبراق وكان مجروحا فبقي شهرين ومات فملك بعده ميخائيل بن جورجس ختنه على أخته.
وفيها عزل الأمين أخاه القاسم المؤتمن عن الجزيرة وأقره على قنسرين والعواصم واستعمل على الجزيرة خزيمة بن خازم.
وحج بالناس هذه السنة داود بن عيسى بن موسى بن محمد وهو أمير مكة.
وفيها توفي صقلاب بن زياد الأندلسي وهو من أصحاب مالك وكان فقيها زاهدا.
وفي هذه السنة مات مروان بن معاوية الفزاري وقيل سنة أربع وتسعين في ذي الحجة.
وفيها توفي إسماعيل بن علية وأبو بكر بن عياش وله ست وتسعون سنة. (عياش بالياء المثناة من تحت والشين المعجمة).
226

194
ثم دخلت سنة أربع وتسعين ومائة
ذكر خلاف أهل حمص على الأمين
في هذه السنة خالف أهل حمص على الأمين وعلى عاملهم إسحاق بن سليمان فانتقل عنهم إلى سلمية فعزله الأمين واستعمل مكانه عبد الله بن سعيد الحرشي فقتل عدة من وجوههم وحبس عدة وألقى النار في نواحيها فسألوا الأمان فأجابهم ثم هاجوا بعد ذلك فقتل عدة منهم.
ذكر ظهور الخلاف بين الأمين والمأمون
وفي هذه السنة أمر الأمين بالدعاء على المنابر لابنه موسى.
وكان السبب في ذلك أن الفضل بن الربيع لما قدم العراق من طوس، ونكث عهد المأمون أفكر في أمره وعلم أن المأمون إن أفضت إليه الخلافة وهو حي لم يبق عليه فسعى في إغراء الأمين وحثه على خلع المأمون والبيعة لابنه موسى بولاية العهد ولم يكن ذلك في عزم محمد الأمين فلم يزل الفضل يصغر عنده أمر المأمون ويزين له خلعه وقال له ما تنتظر بعبد الله والقاسم فإن البيعة كانت لك قبلهما وإنما أدخل فيها بعدك.
ووافقه على هذا علي بن عيسى بن ماهان والسندي وغيرهما فرجع
227

الأمين إلى قولهم.
ثم إنه أحضر عبد الله بن خازم فلم يزل في مناظرته حتى انقضى الليل، وكان مما قال عبد الله أنشدك الله يا أمير المؤمنين أن لا تكون أول الخلفاء نكث عهده ونقض ميثاقه ورد رأي الخليفة قبله فقال [الأمين]: اسكت فعبد الملك كان أفضل ملك رأيا وأكمل نظرا يقول لا يجتمع فحلان في أجمة.
ثم جمع القواد وعرض عليهم خلع المأمون فأبوا ذلك وربما ساعده قوم حتى بلغ إلى خزيمة بن خازم فقال يا أمير المؤمنين لم ينصحك من كذبك ولم يغشك من صدقك لا تجرئ القواد على الخلع فيخلعوك ولا تحملهم على نكث العهد فينكثوا عهدك وبيعتك فان الغادر مخذول والناكث مغلول.
فأقبل الأمين على علي بن عيسى بن ماهان فتبسم وقال لكن شيخ الدعوة ونائب هذه الدولة لا يخالف على إمامه ولا يوهن طاعته.
ثم رفعه إلى موضع لم يرفعه إليه قبلها لأنه كان هو والفضل بن الربيع يعينانه على الخلع؛ ولج الأمين في خلع المأمون حتى أنه قال يوما للفضل بن الربيع يا فضل أحياة مع عبد الله لا بد من خلعه والفضل يغريه ويقول فمتى ذلك إذا غلب على خراسان وما فيها فأول ما فعله أن كتب إلى جميع العمال بالدعاء لابنه موسى بالامرة بعد الدعاء للمأمون وللمؤتمن.
228

فلما بلغ ذلك المأمون مع عزل المؤتمن عما كان بيده أسقط اسم الأمين من الطرز وقطع البريد عنه.
وكان رافع بن لليث بن نصر بن سيار لما بلغه حسن سيرة المأمون طلب الأمان فأجابه إلى ذلك فحضر عند المأمون، وأقام هرثمة بسمرقند ومعه طاهر بن الحسين ثم قدم هرثمة على المأمون فأكرمه وولاه الحرس فأنكر ذلك كله الأمين؛ فكان مما وتر عليه أن كتب إلى العباس ن عبد الله بن مالك وهو عامل المأمون على الري يأمره أن ينفذ بغرائب غروس الري يريد امتحانه إليه بما أمره وكتم ذلك عن المأمون وذي الرياستين فبلغ المأمون فعزله بالحسن بن علي المأموني.
ثم وجه الأمين إلى المأمون أربعة أنفس وهم العباس بن موسى بن عيسى بن محمد بن علي وعيسى بن جعفر بن المنصور وصالح صاحب المصلى ومحمد بن عيسى بن نهيك يطلب إليه أن يقدم ابنه موسى على نفسه ويحضر عنده فقد استوحش لبعده فبلغ الخبر المأمون فكتب إلى عماله بالري ونيسابور وغيرهما، يأمرهم بإظهار العدة والقوة ففعلوا ذلك وقدم الرسل على المأمون وأبلغوه الرسالة؛ وكان ابن ماهان أشار بذلك وأخبر الأمين أن أهل خراسان معه.
فلما سمع المأمون هذه الرسالة استشار الفضل بن سهل فقال له أحضر هشاما والد علي وأحمد ابن هشام واستشره فاحضروه واستشاره فقال له: إنما أخذت البيعة علينا
على أن لا تخرج من خراسان فمتى فعل
229

محمد ذلك، فلا بيعة لك في أعناقنا والسلم عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته ومتى هممت بالمسير اليه تعلقت بك يمين فإذا قطعت تعلقت بيساري فإذا قطعت تعلقت بلساني فإذا ضربت عنقي كنت أديت ما علي.
فقوي عزم المأمون على الامتناع فأحضر العباس وأعلمه أنه لا يحضر وأنه لا يقدم موسى على نفسه فقال العباس بن موسى ما عليك أيها الأمير من ذلك فهذا جدي عيسى بن موسى قد خلع فما ضره فصاح به ذو الرياستين اسكت إن جدك كان أسيرا في أيديهم وهذا بين أخواله وشيعته.
ثم قاموا فخلا ذو الرياستين بالعباس بن موسى واستماله ووعده إمرة الموسم ومواضع من مصر فأجاب إلى بيعة المأمون وسمى المأمون ذلك الوقت بالإمام فكان العباس يكتب إليهم بالأخبار من بغداد.
ويشير عليهم بالرأي ورجع الرسل إلى الأمين فأخبروه بامتناع المأمون وألح الفضل وعلي بن عيسى على الأمين في خلع المأمون والبيعة لابنه موسى بن الأمين؛ وكان الأمين قد كتب إلى المأمون يطلب منه أن ينزل عن بعض كور خراسان وأن يكون له عنده صاحب البريد يكاتبه بالأخبار فاستشار المأمون خواصه وقواده فأشاروا باحتمال هذا الشر والإجابة إليه خوفا من شر هو أعظم منه.
فقال لهم الحسن بن سهل: أتعلمون أن الأمين طلب ما ليس له؟ قالوا: نعم! ويحتمل ذلك لضرر منعه؛ قال: فهل تثقون بكفه بعد إجابته فلا يطلب غيرها، قالوا لا قال فإن طلب غيرها فما ترون؟ قالوا:
230

نمنعه، قال فهذا خلاف ما سمعناه من قول الحكماء استصلح عاقبة أمرك باحتمال ما عرض من مكروه في يومك ولا تلتمس هدنة يومك بإخطار أدخلته على نفسك في غدك.
فقال المأمون لذي الرياستين ما تقول أنت فقال أسعدك الله هل تأمن أن يكون الأمين طالبك بفضل قوتك ليستظهر بها عليك بل إنما أشار الحكماء بحمل ثقل ترجون به صلاح العاقبة.
فقال المأمون: بإيثار دعة العاجل صار إلى فساد العاقبة في دنياه وآخرته فامتنع المأمون من إجابته إلى ما طلب؛ وأنفذ المأمون ثقته إلى الحد فلا يمكن أحدا من العبور إلى بلاده إلا مع ثقة من ناحيته وحصر أهل خراسان أن يستمالوا برغبة أو رهبة وضبط الطرق بثقات أصحابه فلم يمكنوا من دخول خراسان إلا من عرفوه وأتى بجواز أو [كان] تاجرا معروفا وفتشت الكتب.
وقيل: لما أراد الأمين أن يكتب إلى المأمون يطلب بعض كور خراسان قال له إسماعيل بن صبيح يا أمير المؤمنين إن هذا مما يقوي التهمة وينبه على الحذر ولكت اكتب اليه فأعلمه حاجتك وما تحب من قربه والاستعانة به على ما ولاك الله واسأله القدوم عليك لترجع إلى رأيه فيما تفعل.
فكتب إليه بذلك وسير الكتاب مع نفر وأمرهم أن يبلغوا الجهد في إحضاره وسير معهم الهدايا الكثيرة فلما حضر الرسل عنده، وقرأ الكتاب
231

أشاروا عليه بإجابة الأمين، وأعلموه ما في إجابته من المصلحة العامة والخاصة فأحضر ذا الرياستين وأقرأه الكتاب واستشاره فأشار عليه بملازمة خراسان وخوفه من القرب من الأمين فقال لا يمكنني مخالفته وأكثر القواد والأموال معه والناس مائلون إلى الدرهم والدينار لا يرغبون في حفظ عهد ولا أمانة ولست في قوة حتى أمتنع، وقد فارق جيغويه الطاعة والتوى خاقان ملك التبت وملك كابل قد استعد للغارة على ما يليه وملك اترادبنده قد منع الضريبة ومالي بواحد من هذه الأمور بد وأنا أعلم أن محمدا لم يطلب قدومي إلا لشر يريده ولا أرى إلا تخلية ما أنا فيه واللحاق بخاقان ملك الترك والاستجارة به لعلي آمن على نفسي.
فقال ذو الرياستين: إن عاقبة الغدر شديدة وتبعه البغي غير مأمونة ورب مقهور قد عاد قاهرا وليس النصر بالكثرة والقلة والموت أيسر من الذل والضيم وما أرى أن تصير إلى أخيك متجردا من قوادك وجندك كالرأس الذي فارق بدنه فتكون عنده كبعض رعيته يجري عليك حكمه من غير أن تبدي عذرا في قتال، واكتب إلى جيغويه وخاقان فولهما بلادهما وابعث إلى ملك كابل بعض هدايا خراسان ووادعه واترك لملك اترادبنده ضريبته ثم اجمع إليك أطرافك وضم جندك واضرب الخيل بالخيل والرجال بالرجال فإن ظفرت وإلا لحقت بخاقان.
فعرف المأمون صدقه ففعل ما أشار به فرضي أولئك الملوك العصاة،
232

وضم جنده، وجمعهم عنده وكتب إلى الأمين أما بعد فقد وصل [إلي] كتاب أمير المؤمنين وإنما أنا عامل من عماله وعون من أعوانه أمرني الرشيد بلزوم [هذا] الثغر ولعمري إن مقامي به أرد على أمير المؤمنين وأعظم غناء للمسلمين من الشخوص إلى أمير المؤمنين فإن كنت مغتبطا بقربه مسرورا بمشاهدة نعمة الله عنده فإن رأى أمير المؤمنين أن يقرني على عملي ويعفيني من الشخوص [إليه] فعل إن شاء الله.
فلما قرأ الأمين كتاب المأمون علم أنه لا يتابعه على ما يريده فكتب إليه يسأله أن ينزل عن بعض كور خراسان كما تقدم ذكره فلما امتنع المأمون أيضا من إجابته إلى ما طلب أرسل جماعة ليناظروه في منع ما طلب منه فلما وصلوا إلى الري منعوا ووجدوا تدبيره محكما وحفظوا في حال سفرهم إقامتهم من أن يخبروا ويستخبروا وكانوا معدين لوضع الأخبار في العامة فلم يمكنهم ذلك فلما رجعوا أخبروا الأمين بما رأوا.
وقيل ان الأمين لما عزم على خلع المأمون وزين له ذلك الفضل وابن ماهان دعا يحيى بن سليم وشاوره في ذلك فقال يا أمير المؤمنين كيف تفعل ذلك مع ما قد أكد الرشيد من بيعته وأخذ الشرائط والايمان في الكتاب الذي كتبه فقال الأمين ان رأي الرشيد كان فلتة شببها عليه جعفر بن يحيى فلا ينفعنا ما نحن فيه إلا بخلعه وقلعه واحتشاشه.
فقال يحيى: إذا كان رأي أمير المؤمنين خلعه فلا تجاهره ليستنكر الناس ذلك ولكن تستدعي الجند بعد الجند والقائد بعد القائد وتؤنسهما بالألطاف والهدايا وتفرق ثقاته ومن معه وترغبهم بالأموال فإذا وهنت قوته واستفرغت رجاله أمرته بالقدوم عليك فإن قدم صار إلى الذي تريد
233

منه، وإن أبى كنت قد تناولته وقد كل حده وانقطع عزه.
فقال الأمين: أنت مهذار خطيب ولست بذي رأي مصيب قم فالحق بمدادك وأقلامك.
وكان ذو الرياستين الفضل بن سهل قد اتخذ قوما يثق بهم ببغداد يكاتبونه بالأخبار وكان الفضل بن الربيع قد حفظ الطرق وكان أحد أولئك النفر إذا كاتب ذا الرياستين بما تجدد ببغداد سير الكتاب مع امرأة وجعله في عود أكفاف وتسير كالمجتازة من قرية إلى قرية فلما ألح الفضل بن الربيع في خلع المأمون أجابه الأمين إلى ذلك وبايع لولده موسى في صفر وقيل في ربيع الأول سنة خمس وتسعين ومائة على نذكره إن شاء الله تعالى وسماه الناطق بالحق ونهى عن ذكر المأمون والمؤتمن على المنابر وأرسل إلى الكعبة بعض الحجبة فأتاه بالكتابين الذين وضعهما الرشيد في الكعبة ببيعة الأمين والمأمون فأحضرهما عنده فمزقهما الفضل.
فلما أتت الأخبار إلى المأمون بذلك قال لذي الرياستين: هذه أمور أخبر الرأي عنها، وكفانا أن نكون مع الحق.
فكان أول ما دبره ذو الرياستين، حين بلغه ترك الدعاء للمأمون وصح عنده، أن جمع الأجناد الذين كان اتخذهم بجنبات الري مع الأجناد الذين كانوا بها، وأمدهم بالأقوات وغيرها؛ وكانت البلاد عندهم قد أجدبت، فأكثر عندهم ما يريدونه، حتى صاروا في أرغد عيش، وأقاموا بالحد لا يتجاوزونه، ثم أرسل إليهم طاهر بن الحسين بن مصعب بن زريق بن أسعد أبا العباس
234

الخزاعي أميرا فيمن ضم إليه من قواده وأجناده، فسار مجدا حتى ورد الري، فنزلها، فوضع المسامح والمواصل، فقال بعض شعراء خراسان:
(رمى أهل العراق ومن عليها * إمام العدل والملك الرشيد)
(بأحزم من نشا رأيا وحزما * وكيدا نافذا مما يكيد)
(بداهية تأدى خنفقيق * يشب لهول صولتها الوليد)
فأما الأمين فإنه وجه عصمة بن حماد بن سالم إلى همذان في الف رجل وأمره أن يوجه مقدمته إلى ساوة ويقيم بهمذان وجعل الفضل بن الربيع وعلي بن عيسى يبعثان الأمين ويغريانه بحرب المأمون.
ولما بايع الأمين لولده موسى جعله في حجر علي بن عيسى وجعل على شرطه محمد بن عيسى بن نهيك وعلى حرسه عثمان بن عيسى بن نهيك وعلى ديوان رسائله علي بن صالح صاحب المصلى.
ذكر خلاف أهل تونس على ابن الأغلب
في هذه السنة عصى عمران بن مجالد الربيعي وقريش بن التونسي بتونس على إبراهيم بن الأغلب أمير أفريقية واجتمع فيها خلق كثير وحصر إبراهيم بن الأغلب بالقصر وجمع من أطاعه وخالف عليه أيضا أهل
235

القيروان في جمادى الآخرة فكانت بينهم وقعة وحرب قتل فيها جماعة من رجال ابن الأغلب.
وقدم عمران بن مجالد فيمن معه فدخل القيروان عاشر رجب وقد قريش من تونس إليه فكانت بينهم وبين ابن الأغلب وقعة في رجب فانهزم أصحاب ابن الأغلب ثم التقوا في العشرين منه فانهزموا ثانية أيضا ثم التقوا ثالثة فيه أيضا فكان المظفر لابن الأغلب وأرسل عمران بن مجالد إلى أسد بن الفرات الفقيه ليخرج معهم فامتنع فأعاد الرسول يقول له تخرج معنا وإلا أرسلت إليك من يجر برجلك فقال أسد للرسول قل له والله إن خرجت لأقولن للناس إن القاتل والمقتول في النار فتركه.
ذكر عصيان أهل ماردة وغزو الحكم بلاد الفرنج
في هذه السنة عاود أهل ماردة الخلاف على الحكم بن هشام أمير الأندلس وعصوا عليه فسار بنفسه إليهم وقاتلهم ولم تزل سراياه وجيوشه تتردد إلى مقاتلتهم هذه السنة وسنة خمس وسنة ست وتسعين ومائة.
وطمع الفرنج في ثغور المسلمين وقصدوها بالغارة والقتل والنهب والسبي وكان الحكم مشغولا بأهل ماردة فلم يتفرغ للفرنج فأتاه الخبر بشدة الأمر على أهل الثغور وما بلغ العدو منهم وسمع أن امرأة مسلمة
236

أخذت سبية، فنادت وا غوثاه يا حكم فعظم الأمر عليه وجمع عسكره واستعد وحشد وسار إلى بلد الفرنج سنة ست وتسعين ومائة وأثخن في بلادهم وافتتح عدة حصون وخرب البلاد ونهبها وقتل الرجال وسبى الحريم ونهب الأموال وقصد الناحية التي كانت بها تلك المرأة فمر لهم من الأسرى بما يفادون به أسراهم وبالغ في الوصية في تخليص تلك المرأة فتخلصت من الأسر وقتل باقي الأسرى فلما فرغ من غزاته قال لأهل الثغور هل أغاثكم الحكم فقالوا نعم. ودعوا له وأثنوا عليه خيرا وعاد إلى قرطبة مظفرا.
ذكر عدة حوادث
وفيها وثبت الروم على ملكهم ميخائيل فهرب وترهب وكان ملك نحو سنتين وملك بعده أليون القائد.
وكان على الموصل إبراهيم بن العباس استعمله الأمين.
وفي هذه السنة قتل شقيق البلخي الزاهد في غزاة كولان من بلاد الترك.
وفيها مات الوليد بن مسلم صاحب الأوزاعي وقيل سنة خمس وتسعين وكان مولده سنة عشرة ومائة.
وفيها مات حفص بن غياث النخعي قاضي الكوفة وكان مولده سنة عشر ومائة. (غياث بالغين المعجمة).
237

وفيها توفي عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي وكان مولده سنة عشرة ومائة وكان قد اختلط في آخر عمره وكان حديثه صحيحا إلى أن اختلط.
وفيها توفي سيبويه النحوي واسمه عمرو بن عثمان بن قنبر أبو بشير وقيل كان توفي سنة ثلثا وثمانين ومائة قيل وكان عمره قد زاد على أربعين سنة وقيل كان عمره اثنتين وثلاثين سنة.
وفيها توفي يحيى بن سعيد بن أبان بن سعيد بن العاص وعمره أربع وسبعون سنة.
238

195
ثم دخلت سنة خمس وتسعين ومائة
ذكر قطع خطبة المأمون
في هذه السنة أمر الأمين باسقاط ما كان ضرب لأخيه المأمون من الدراهم والدنانير بخراسان في سنة أربع وتسعين ومائة لأنها لم يكن عليها اسم الأمين وأمر فدعي لموسى بن الأمين على المنابر ولقبه الناطق بالحق وقطع ذكر المأمون لقول بعضهم وكان موسى طفلا صغيرا ولابنه الآخر عبد الله ولقبه القائم بالحق
ذكر محاربة علي بن عيسى وطاهر
ثم إن الأمين أمر علي بن عيسى بن ماهان بالمسير لحرب المأمون وكان سبب مسيره دون غيره أن ذا الرياستين كان له عين عند الفضل بن الربيع يرجع إلى قوله ورأيه فكتب ذو الرياستين إلى ذلك الرجل يأمره أن يشير بانفاذ ابن ماهان لحربهم وكان مقصوده أن ابن ماهان لما ولي خراسان أيام الرشيد أساء السيرة في أهلها فظلمهم فعزله الرشيد لذلك ونفر أهل خراسان عنه وأبغضوه فأراد ذو الرياستين أن يزداد أهل خراسان جدا في محاربة الأمين وأصحابه.
239

ففعل ذلك الرجل ما أمر ذو الرياستين، فأمر الأمين بن ماهان بالمسير.
وقيل: كان سببه أن عليا قال للأمين إن أهل خراسان كتبوا إليه يذكرون أنه إن قصدهم هو أطاعوه وانقادوا له وإن كان غيره فلا فأمره بالمسير وأقطعه كور الجبل كلها نهاوند وهمذان وقم وأصبهان وغير ذلك، [وولاه] حربها وخراجها وأعطاه الأموال وحكمه في الخزائن وجهز معه خمسين ألف دارس وكتب إلى أبي دلف القاسم بن إدريس بن عيسى العجلي وهلال بن عبد الله الحضرمي بالانضمام إليه وأمده بالأموال والرجال شيئا بعد شيء.
فلما عزم على المسير من بغداد ركب إلى باب زبيدة أم الأمين ليودعها فقالت له يا علي إن أمير المؤمنين [و] إن كان ولدي واليه انتهت شفقتي فإني على عبد الله منعطفة مشفقة لما يحدث عليه من مكروه وأذى وإنما ابني ملك نافس أخاه في سلطانه [وغاره على ما في يده]، والكريم يأكل لحمه ويميقه غيره فاعرف لعبد الله حق ولادته وأخوته ولا تجبهه بالكلام فإنك لست [له] بنظير، ولا تقتسره اقتسار العبيد ولا توهنه بقيد ولا غل ولا تمنع عنه جارية ولا خادما ولا تعنف عليه في السير ولا تساوه في المسير ولا تركب قبله وخذ بركابه وان شتمك فاحتمل منه.
ثم دفعت إليه قيدا من فضة وقالت إن صار إليك فقيده بهذا القيد فقال لها: يأفعل مثل ما أمرت.
ثم خرج علي بن عيسى في شعبان وركب الأمين يشيعه ومعه القواد والجنود وذكر مشايخ بغداد أنهم لم يروا عسكرا أكثر رجالا، وأفره
240

كراعا وأتم عدة وسلاحا من عسكره ووصاه الأمين وأمره إن قاتله المأمون أن يحرص على أسره.
ثم سار فلقيه القوافل عند جلولاء فسألهم فقالوا له إن طاهرا مقيم بالري يعرض أصحابه ويرم آلته والامداد تأتيه من خراسان وهو يستعد للقتال فيقول إنما طاهر شوكة من أغصاني وشرارة من ناري وما مثل طاهر يتولى الجيوش ويلقى الحروب ثم قال لأصحابه ما بينكم وبين أن ينقصف انقصاف الشجر من الريح العاصف إلا أن يبلغه عبورنا عقبة همذان فإن السخال لا تقوى على النطاح والثعالب لا صبر لها على لقاء الأسد وان أقام تعرض لحد السيف وأسنة الرماح وإذا قابلنا الري ودنونا منهم فت ذلك في أعضادهم.
ثم أنفذ الكتب إلى ملوك الديلم وطبرستان وما والاها من الملوك يعدهم الصلات وأهدى لهم التيجان والأسورة وغيرها وأمرهم أن يقطعوا طريق خراسان فأجابوه إلى ذلك وسار حتى أتى أول أعمال الري وهو قليل الاحتيال فقال له جماعة من أصحابه لو أركبت العيون وعملت خندقا لأصحابك وبعثت الطلائع لأمنت البيات وفعلت الرأي فقال مثل طاهر لا يستعد له وإن حاله يؤول إلى أمرين إما [أن] يتحصن بالري فيبيته أهلها فيكفونا أمره وإما أن يرجع ويتركها إذا قربت خيلنا منه فقالوا له لو كان عزمه تركها والرجوع لفعل فإننا قد قربنا منه فلم يفعل.
ولما صار بينه وبين الري عشرة فراسخ استشار طاهر أصحابه فأشاروا
241

عليه أن يقيم بالري، ويدافع القتال ما قدر عليه إلى أن يأتيه من خراسان المدد وقائد يتولى الأمور دونه وقالوا له إن مقامك [بمدينة الري] أرفق بأصحابك [وبك]، واقدر لهم على الميرة واكن من البرد وتعتصم بالبيوت وتقدر على المماطلة فقال طاهر إن الرأي ليس ما رأيتم إن أهل الري لعلي هائبون ومن سطوته مشفقون ومعه من أعراب البوادي وصعاليك الجبال والقرى كثير ولست آمن إن أقمت بالري أن يثب أهلها بنا خوفا من علي وما الرأي إلا أن نسير إليه فإن ظفرنا والا عولنا عليها فقاتلناه
فيها إلى أن يأتينا مدد.
فنادى طاهر في أصحابه فخرج من الري في أقل من أربعة آلاف فارس وعسكر على خمسة فراسخ فأتاه أحمد بن هشام وكان على شرطة طاهر فقال له: إن أتانا علي بن عيسى فقال أنا عامل أمير المؤمنين وأقررنا له بذلك فليس لنا أن نحاربه فقال طاهر لم يأتني في ذلك شيء فقال دعني وما أريد فقال افعل فصعد المنبر فخلع محمدا ودعا للمأمون بالخلافة وساروا عنها وقال له بعض أصحابه ان جندك قد هابوا هذا الجيش فلو أخرت القتال إلى أن يشامهم أصحابك ويأنسوا بهم ويعرفوا وجه المأخذ في قتالهم فقال إني لا أوتى من قلة تجربة وحزم إن أصحابي قليل والقوم عظيم سوادهم كثير عددهم فإن أخرت القتال اطلعوا على قلتنا واستمالوا من معي برهبة ورغبة، فيخذلني
242

أهل الصبر والحفاظ ولكن ألف الرجال بالرجال وأقحم الخيل على الخيل واعتمد على الطاعة والوفاء واصبر صبر محتسب للخير حريص على الفوز بالشهادة فإن نصرنا الله فذلك الذي نريده ونرجوه وإن تكن الأخرى فلست بأول من قاتل وقتل وما عند الله أجزل وأفضل.
وقال علي لأصحابه بادروهم فإنهم قليلون ولو وجدوا حرارة السيوف وطعن الرماح لم يصبروا عليها.
وعبى جنده ميمنة وميسرة وقلبا وعبى عشرة رايات مع كل راية مائة رجل وقدمها راية راية وجعل بين كل رايتين غلوة سهم وأمر أمراءها إذا قاتلت الراية الأولى وطال قتالهم أن تتقدم التي تليها وتتأخر هي حتى تستريح وجعل أصحاب الجواشن أمام الرايات ووقف في شجعان أصحابه.
وعبى طاهر أصحابه كراديس وسار بهم يحرضهم ويوصيهم ويرجيهم وهرب من أصحاب طاهر نفر إلى على فجلد بعضهم وأهان الباقين فكان ذلك مما ألب الباقين على قتاله وزحف الناس بعضهم إلى بعض؛ فقال أحمد بن هشام لطاهر ألا تذكر علي بن عيسى البيعة التي أخذها هو علينا للمأمون خاصة معاشر أهل خراسان قال أفعل، فأخذ البيعة فعلقها على رمح وقام بين الصفين وطلب الأمان فأمنه علي بن
243

عيسى. فقال له ألا تتقي الله عز وجل هذه نسخة البيعة التي أخذتها أنت خاصة اتق الله فقد بلغت باب قبرك فقال علي من أتاني به فله الف درهم فشتمه أصحاب محمد وخرج من أصحاب علي رجل يقال له حاتم الطائي فحمل عليه طاهر وأخذ السيف بيديه وضربه فصرعه فلذلك سمي طاهر ذا اليمينين.
ووثب أهل الري فأغلقوا باب المدينة فقال طاهر لأصحابه اشتغلوا بمن أمامكم عمن خلقكم فإنه لا ينجيكم إلا الجد والصدق ثم اقتتلوا قتالا شديدا وحملت ميمنة علي على ميسرة طاهر فانهزمت هزيمة منكرة وميسرته على ميمنة طاهر فأزالتها أيضا عن موضعها فقال طاهر اجعلوها جدكم وبأسكم على القلب واحملوا حملة خارجية فإنكم متى فضضتم منها راية واحدة رجعت أوائلها على أواخرها فصبر أصحابه صبرا صادقا وحملوا على أول رايات القلب فهزموهم وأكثروا فيهم القتل ورجعت الرايات بعضها على بعض فانتقضت ميمنة علي.
ورأى ميمنة طاهر وميسرته ما فعل أصحابهم فرجعوا على من بإزائهم فهزموهم وانتهت الهزيمة إلى علي فجعل ينادي أصحابه أين أصحاب الخواص والجوائز والأسورة والأكاليل إلى الكرة بعد الفرة فرماه رجل من أصحاب طاهر بسهم فقتله وقيل داود سياه هو الذي حمل رأسه إلى طاهر وشدت يداه إلى رجليه وحمل على خشبة إلى طاهر فأمر به فألقي في بشر فأعتق طاهر من كان عنده من غلمانه شكرا لله تعالى وتمت الهزيمة ووضع أصحاب طاهر فيهم السيوف وتبعوهم فرسخين
244

واقعوهم فيها اثنتي عشرة مرة في كل ذلك ينهزم عسكر الأمين وأصحاب طاهر يقتلون ويأسرون حتى حال الليل بينهم وغنموا غنيمة عظيمة.
ونادى طاهر: من القي سلاحه فهو آمن فطرحوا أسلحتهم ونزلوا عن دوابهم، ورجع طاهر إلى الري وكتب إلى المأمون وذي الرياستين بسم الله الرحمن الرحيم كتابي إلى أمير المؤمنين ورأس علي بن عيسى بين يدي وخاتمه في إصبعي وجنده مصرفون تحت أمري والسلام فورد الكتاب مع البريد في ثلاثة أيام وبينهما نحو من خمسين ومائتي فرسخ، فدخل ذو الرياستين على المأمون فهنأه بالفتح وأمر الناس فدخلوا عليه فسلموا عليه بالخلافة ثم وصل رأس علي بعد الكتاب بيومين فطيف به في خراسان.
ولما وصل الكتاب بالفتح كان المأمون قد جهز هرثمة في جيش كثير ليسيره نجدة لطاهر فأتاه الخبر بالفتح.
وأما الأمين فإنه أتاه نعي علي بن عيسى وهو يصطاد السمك فقال للذي أخبره ويلك دعني فإن كوثرا قد اصطاد سمكتين وأنا ما صدت شيئا بعد.
ثم بعض الفضل إلى نوفل الخادم وهو وكيل المأمون على ملكه بالسواد والناظر في أمر أولاده ببغداد وكان للمأمون معه ألف ألف درهم كان قد وصله بها الرشيد فأخذ جميع ما عنده وقبض ضياعه وغلاته فقال بعض شعراء بغداد في ذلك:
(أضاع الخلافة غش الوزير * وفسق الأمير وجهل المشير)
(ففضل وزير وبكر مشير * يريدان ما فيه حتف الأمير)
(وما ذاك إلا طريق غرور * وشر المسالك طرق الغرور)
245

حيث ذكرها مع روعه وندم الأمين على نكثه وغدره ومشى القواد بعضهم إلى بعض في النصف من شوال فاتفقوا على طلب الأرزاق والشغب ففعلوا ذلك ففرق فيهم مالا كثيرا بعد أن قاتلهم عبد الله بن خازم فمنعه الأمين.
ذكر توجيه عبد الرحمن بن جبلة
لما اتصل بالأمين قتل علي بن عيسى وهزيمة عسكره وجه عبد الرحمن بن جبلة الأنباري في عشرين ألف رجل نحو همذان واستعمله عليها وعلى كل ما يفتحه من أرض
خراسان وأمره بالجد وأمده بالأموال فسار حتى نزل همذان وحصنها ورم سورها.
وأتاه طاهر إلى همذان فخرج إليه عبد الرحمن على تعبية فاقتتلوا قتالا شديدا وصبر الفريقان وكثر القتل والجراح فيهم ثم انهزم عبد الرحمن ودخل همذان فأقام بها أياما حتى قوي أصحابه واندمل جراحهم ثم خرج إلى طاهر فلما رآهم قال لأصحابه إن عبد الرحمن يريد أن يتراءى لكم فإذا قربتم منه قاتلكم فإن هزمتموه ودخل المدينة قاتلكم على خندقها وإن هزمكم اتسع له المجال ولكن قفوا قريبا من عسكرنا وخندقنا فإن قرب منا قاتلناه.
فوقفوا فظن عبد الرحمن أن الهيبة منعتهم فتقدم إليهم فاقتتلوا قتالا شديدا وصبر الفريقان وكثر القتل في أصحاب عبد الرحمن وجعل
246

يطوف عليهم ويحرضهم ويأمرهم بالصبر ثم إن رجلا من أصحاب طاهر حمل على صاحب علم عبد الرحمن فقتله وزحمهم أصحاب طاهر فانهزموا ووضع فيهم أصحاب طاهر السيوف يقتلونهم حتى انتهوا إلى المدينة وأقام طاهر على بابها محاصرا لها فاشتد بهم الحصار وضجر أهل المدينة فخاف عبد الرحمن أن يثب به أهل المدينة مع ما فيه أصحابه من الجهد فأرسل إلى طاهر يطلب الأمان لنفسه ولمن معه فأمنه فخرج عن همذان.
ذكر استيلاء طاهر على أعمال الجبل
لما نزل طاهر بباب همذان وحصر عبد الرحمن بها تخوف أن يأتيه كثير بن قادرة من ورائه وكان بقزوين فأمر أصحابه بالقيام وسار في الف فارس نحو قزوين فلما سمع به كثير بن قادرة وكان في جيش كثيف هرب من بين يديه وأخلى قزوين وجهل طاهر فيها جندا واستعمل عليها رجلا من أصحابه وأمره أن يمنع من أراد دخولها واستولى على سائر أعمال الجبل معها.
247

ذكر قتل عبد الرحمن بن جبلة
في هذه السنة قتل عبد الرحمن بن جبلة الأنباري وكان سبب قتله أنه لما خرج في أمان طاهر أقام يري طاهرا وأصحابه أنه مسالم لهم راض بأمانهم ثم اغترهم وهم آمنون فركب في أصحابه وهجم على طاهر وأصحابه ولم يشعروا فثبت له رجالة طاهر وقاتلوه حتى أخذت الفرسان أهبتها واقتتلوا أشد قتال رآه الناس حتى تقطعت السيوف وتكسرت الرماح وانهزم عبد الرحمن وبقي في نفر من أصحابه فقاتل وأصحابه يقولون له قد أمكنك الهرب فاهرب فقال لا يرى أمير المؤمنين وجهي منهزما أبدا ولم يزل يقاتل حتى قتل.
وانتهى من انهزم من أصحابه إلى عبد الله واحمد ابن الحرشي وكانا في جيش عظيم بقصر اللصوص قد سيره الأمين معونة لعبد الرحمن فلما بلغ المنهزمون إليهما انهزما أيضا في جندهما من غير قتال حتى دخلوا بغداد وخلت البلاد لطاهر فأقبل يحوزها بلدة بلدة وكورة كورة حتى انتهى إلى شلاشان من قرى حلوان فخندق بها وحصن عسكره وجمع أصحابه.
248

ذكر خروج السفياني
في هذه السنة خرج السفياني وهو علي بن عبد الله بن خالد يزيد بن معاوية وأمه نفيسة بنت عبيد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب وكان يقول أنا من شيخي صفين يعني عليا ومعاوية وكان يلقب بأبي العميطر لأنه قال يوما لجلسائه أي شيء كنية الحرذون قالوا لا ندري قال هو أبو العميطر فلقبوه به.
ولما خرج دعا لنفسه بالخلافة في ذي الحجة وقوي على سليمان بن المنصور عامل دمشق فأخرجه عنها وأعانه الخطاب بن وجه الفلس مولى بني أمية وكان قد تغلب على صيدا ولما خرج سير اليه الأمين الحسين بن علي بن عيسى بن ماهان فبلغ الرقة ولم يسر إلى دمشق.
وكان عمر أبي العميطر حتى خرج تسعين سنة وكان الناس قد أخذوا عنه علما كثيرا وكان سحن السيرة فلما خرج ظلم وأساء السيرة فتركوا ما نقلوا عنه.
وكان أكثر أصحابه من كلب وكتب إلى محمد بن صالح بن بيهس الكلابي يدعوه إلى طاعته ويتهدده إن لم يفعل فلم يجبه إلى ذلك، فأقبل السفياني على قصد القيسية فكتبوا إلى محمد بن صالح فأقبل إليهم في ثلاثمائة فارس من الضباب ومواليه واتصل الخبر بالسفياني فوجه إليه يزيد بن هشام في اثني عشر ألفا فالتقوا فانهزم يزيد ومن معه وقتل منهم إلى أن دخلوا أبواب دمشق زيادة على ألقي رجل وأسر ثلاثة آلاف فأطلقهم ابن بيهس وحلق رؤوسهم ولحاهم.
249

وضعف السفياني، وحصر بدمشق ثم جمع جمعا وجعل عليهم ابنه القاسم وخرجوا إلى ابن بيهس فالتقوا فقتل القاسم وانهزم أصحاب السفياني وبعث رأسه إلى الأمين ثم جمع جمعا آخر وسيرهم مع مولاه المعتمر فلقيهم ابن بيهس فقتل المعتمر وانهزم أصحابه فوهن أمر أبي العميطر وطمع فيه قيس
ثم مرض ابن بيهس فجمع رؤساء بني نمير فقال لهم ترون ما أصابني من علتي هذه فارفقوا ببني مروان وعليكم بمسلمة بن يعقوب بن علي بن محمد بن سعيد بن مسلمة بن عبد الملك فإنه ركيك وهو ابن أختكم وأعلموه أنكم لا تتبعون ببني أبي سفيان وبايعوه بالخلافة وكيدوا به السفياني.
وعاد ابن بيهس إلى حوران واجتمعت نمير على مسلمة وبذلوا له البيعة فقبل منهم وجمع مواليه ودخل على السفياني فقبض عليه وقيده وقبض على رؤساء بني أمية فبايعوه وأدنى قيسا وجعلهم خاصته.
فلما عوفي ابن بيهس عاد إلى دمشق فحصرها فسلمها إليه القيسية وهرب مسلمة والسفياني في ثياب النساء إلى المزة وكان ذلك في المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة ودخل ابن بيهس دمشق وغلب عليها وبقي بها إلى أن قدم عبد الله بن طاهر دمشق ودخل إلى مصر وعاد إلى دمشق فأخذ ابن بيهس معه إلى العراق فمات بها.
ذكر عدة حوادث
وكان العامل على مكة والمدينة لمحمد الأمين داود بن عيسى بن موسى وهو الذي حج بالناس سنة ثلاث وتسعين أيضا وكان على الكوفة العباس
250

ابن الهادي للأمين وعلى البصرة له أيضا منصور بن المهدي.
وفيها مات محمد بن خازم أبو معاوية الضرير وكان يتشيع وهو ثقة في الحديث.
وفيها توفي أبو نواس الحسن بن هانئ الشاعر المشهور وكان عمره تسعا وخمسين سنة ودفن بالشونيزي ببغداد ومحمد بن فضل بن غزوان بن جرير الضبي مولاهم ويوسف بن أسباط أبو يعقوب.
251

196
ثم دخلت سنة ست وتسعين ومائة
ذكر توجيه الأمين الجيوش إلى طاهر وعودهم من غير قتال
في هذه السنة سن الأمين أسد بم يزيد بن مزيد وسير عمه أحمد بن مزيد وعبد الله بن حميد بن قحطبة إلى حلوان لحرب طاهر.
وكان سبب ذلك ما ذكره أسد قال أنه لما قتل عبد الرحمن أرسل إلي الفضل بن الربيع يستدعيني فجئته ودخلت عليه وهو قاعد بيده رقعة وقد قرأها وقد احمرت عيناه فاشتد غضبه وهو يقول ينام نوم الطائر وينتبه انتباه الذئب همه بطنه يقاتل الرعاء والكلاب ترصده لا يفكر في زال نعمة ولا يروي في امضاء رأي قد ألهاه كأسه وشغله قدحه فهو يجزي في لهوه والأيام توضع في هلاكه قد شمر له عبد الله عن ساق وفوق له أصوب أسهمه يرميه على بعد الدار بالحتف النافذ والموت القاصد وقد عبى له المنايا على ظهور الخيل وناط له البلاء في أسنة الرماح وشفار السيوف ثم استرجع وتمثل بشعر البعيث:
252

(ومجدولة جدل العنان خريدة * لها شعر جعد ووجه مقسم)
(وثغر نقي اللون عذب مذاقه * يضيء له الظلماء ساعة تبسم)
(وثديان كالحقين والبطن ضامر * خميص ووجه ناره تتضرم)
(لهوت بها ليل التمام ابن خالد * وأنت بمرو الروذ غيظا تجرم)
(أظل أناغيها وتحت أبت خالد * أمية نهد المركلين عثمثم)
(طواه طراد الخيل في كل غارة * لها عارض فيه الأسنة ترزم)
(يقارع أتراك ابن خاقان ليله * إلى أن يرى الاصباح ما يتلعثم)
(فيصبح من طول الطراد وجسمه * نحيل وأضحى في النعيم أصم)
(أبا كرها صهباء كالمسك ريحها * لها أرج في دنها حين يرسم)
(فشتان ما بيني وبين ابن خالد * أمية في الرزق الذي الله يقسم)
ثم التفت إلي فقال: أبا الحرث! أنا وإياك نجري إلى غاية إن قصرنا عنها ذممنا وإن اجتهدنا في بلوغها انقطعنا وإنما نحن شعب من أصل إن قوي قوينا وإن ضعف ضعفنا ان هذا الرجل قد ألقى بيده إلقاء الأمة الوكعاء يشاور النساء ويعتزم على الرؤيا وقد أمكن ما معه من أهل اللهو والجسارة فهم يعدونه الظفر ويمنونه عقب الأيام والهلاك أسرع اليه من السيل إلى قيعان الوحل وقد خشيت والله أن نهلك بهلاكه ونعطب بعطبه وأنت فارس العرب وابن فارسها وقد فزع إليك في هذا الأمر
253

ولقاء هذا الرجل، وأطمعه فيما قبلك أمران: أحدهما صدق الطاعة وفضل النصيحة والثاني يمن نقيبتك وشدة بأسك وقد أمرني بإزاحة ما عليك وبسط يدك فيما أحببت غير أن الاقتصاد رأس النصيحة ومفتاح اليمن والبركة أنجز حوائجك وعجل المبادرة إلى عدوك فإني أرجو أن يوليك الله شرف هذا الفتح ويلم بك شعث هذه الخلافة والدولة.
فقلت: أنا لطاعة أمير المؤمنين وطاعتك مقدم ولكل ما دخل فيه الوهن على عدوه وعدوك حريص غير أن المحارب لا يعمل بالغدر ولا يفتح أمره بالتقصير والخلل وإنما مالك المحارب الجنود وملاك الجنود المال والذي سأل أن يؤمر لأصحابي برزق سنة وتحمل معهم أرزاق سنة وتحض أهل الغناء والبلاء وأبدل من فيهم من الضعفى وأحمل الف رجل ممن يعي على الخيل ولا أسأل عن محاسبة ما افتتحت من المدن والكور فقال قد أشططت ولا بد من مناظرة أمير المؤمنين.
ثم ركب وركبت معه فدخل قبلي الأمين وأذن لي فدخلت فما كان إلا كلمتان حتى غضب وأمر بحبسي.
وقيل: إنه طلب أن يدفع ولدي المأمون فإن أطاعه وإلا قتلتهما فقال الأمين أنت أعربي مجنون أدعوك إلى ولاية أعنة العرب والعجم وأطعمك خراج كور الجبال إلى خراسان وارفع منزلتك على نظرائك من أبناء القواد والملوك وتدعوني إلى قتل ولدي وسفك دماء أهل بيتي إن
254

هذا للخرق والتخليط.
وكان ببغداد ابنان للمأمون مع أمهما أم عيسى ابنة الهادي وقد طلبهما المأمون من أخيه في حال السلام فمنعهما من المال الذي كان له فلما حبس أسدا قال هل في أهل بيته من يقوم مقامه فإني أكره أن أفسدهم مع نباهتهم وما تقدم من طاعتهم ونصيحتهم.
قالوا: نعمم عمه أحمد بن مزيد وهو أحسنهم طريقة له بأس ونجدة وبصر بسياسة الحرب فأنفذ إليه أحضره، فأتى الفضل فدخل عليه وعنده عبد الله بن حميد بن قحطبة وهو يريده على المسير إلى طاهر وعبد الله يشط قال أحمد فلما رآني الفضل رحب بي ورفعني إلى صدر المجلس ثم أقبل على عبد الله يداعبه ثم قال:
(إنا وجدنا إذ رث حبلكم * من آل شيبان أما دونكم وأبا)
(الأكثرون إذا عد الحصى عددا * والأقربون إلينا منكم نسبا)
فقال عبد الله: أقسم أنهم لكذلك وفيهم سد الخلل ونكاء العدو ودفع معرة أهل المعصية عن أهل الطاعة.
فقال له الفضل ان أمير المؤمنين أجرى ذكرك فوصفتك له بحسن الطاعة والشدة على أهل المعصية فأحب اصطناعك والتنويه باسمك وأن يرفعك إلى منزلة لم يبلغها أحد من أهل بيتك.
ثم مضى ومضيت معه إلى الأمين، فدخلنا عليه فقال لي في حبس أسد،
255

واعتذر إلي وأمرني بالمسير إلى حرب طاهر فقلت سأبذل في طاعة أمير المؤمنين مهجتي وأبلغ في جهاد عدوه أفضل ما أمله عندي ورجاه من غنائي وكفايتي إن شاء الله تعالى.
فأمر الفضل بأن يمكنه من العساكر يأخذ منهم من أراد وأمره بالجد في المسير والتجهز فأخذ من العسكر عشرين ألف فارس وسار معه عبد الله بن حميد بن قحطبة في عشرين ألفا من الأبناء وسار بهم إلى حلوان وشفع في أسد ابن أخيه فأطلقه وأقام أحمد وعبد الله بخانقين وأقام طاهر بموضعه ودس الجواسيس والعيون وكانوا يرجفون في عسكر أحمد وعبد الله ويخبرونهم أن الأمين قد وضع العطاء لأصحابه، وأمر لهم بالأرزاق الوافرة ولم يزل يحتال في وقوع الاختلاف بينهم حتى اختلفوا وانتقض أمرهم وقاتل بعضهم بعضا ورجعوا عن خانقين من غير أن يلقوا طاهرا، وتقدم طاهر فنزل حلوان فلما نزلها لم يلبث إلا يسيرا حتى أتاه هرثمة في جيش من عند المأمون ومعه كتاب إلى طاهر يأمره بتسليم ما حوى من المدن والكور إلى هرثمة ويتوجه هو إلى الأهواز ففعل ذلك وأقام هرثمة بحلوان وحصنها وسار طاهر إلى الأهواز.
ذكر الفضل بن سهل
في هذه السنة خطب للمأمون بإمرة المؤمنين ورفع منزلة الفضل بن سهل وسبب ذلك أنه لما أتاه خبر قتل ابن ماهان وعبد الرحمن بن جبلة وصح عنده الخبر بذلك أمر أن يخطب له ويخاطب بأمير المؤمنين ودعا
256

الفضل بن سهل وعقد له على المشرق من جبل همذان إلى التبت طولا ومن بحر فارس إلى بحر الديلم وجرجان عرضا وجعل له عمالة ثلاثة آلاف الف درهم وعقد له لواء على سنان ذي شعبتين ولقبه ذا الرياستين رياسة الحرب والقلم وحمل اللواء علي بن هشام وحمل القلم نعيم بن حازم وولى الحسن بن سهل ديوان الحراج.
ذكر عبد الملك بن صالح بن علي وموته
قد ذكرنا قبض الرشيد على عبد الملك بن صالح وحبسه إياه فلم يزل محبوسا حتى مات الرشيد فأخرجه الأمين من الحبس في ذي القعدة سنة ثلاث وتسعين [ومائة]، وأحسن إليه، فشكر عبد الملك ذلك له.
فلما كان من طاهر ما كان دخل عبد الملك على الأمين فقال له يا أمير المؤمنين! أرى الناس قد طمعوا فيك وجندك قد أعيتهم الهوام وأضعفتهم الحروب وامتلأت قلوبهم هيبة لعدوهم فإن سيرتهم إلى طاهر غلب بقليل من معه كثيرهم وهزم بقوة نيته ضعف نصائحهم ونياتهم وأهل الشام قوم قد ضرستهم الحرب وأدبتهم الشدائد وكلهم منقاد إلي متنازع إلى طاعتي وإن وجهني أمير المؤمنين اتخذت له منهم جندا يعظم نكايتهم في عدوه فولاه الأمين الشام والجزيرة وقواه بمال ورجال وسيره سيرا حثيثا.
257

فسار حتى نزل الرقة وكاتب رؤساء أهل الشام وأهل القوة والجلد والبأس فأتوه رئيسا بعد رئيس وجماعة بعد جماعة فأكرمهم ومناهم وخلع عليهم وكثر جمعه فمرض واشتد مرضه.
ثم ان بعض جنود خراسان المقيمين في عسكر الشام رأى دابة كانت أخذت منه في وقعة سليمان بن أبي جعفر تحت بعض الزواقيل من أهل الشام أيضا فتعلق بها واجتمع جماعة من الزواقيل والجند فتضاربوا واجتمعت الأبناء وتألبوا وأتوا الزواقيل وهم غارون فوضعوا فيهم السيوف فقتلوا منهم مقتلة عظيمة وتنادى الزواقيل فركبوا خيولهم ونشبت الحرب بينهم.
وبلغ ذلك عبد الملك فوجه إليهم يأمرهم بالكف فلم يفعلوا واقتتلوا يومهم ذلك قتالا شديدا وأكثرت الأبناء القتل في الزواقيل فأخبر عبد الملك بذلك وكان مريضا مدنفا فضرب بيده على يد وقال واذلاه تستضام العرب في دورها وبلادها فغضب من كان أمسك عن الشر من الأبناء وتفاقم الأمر فيما بينهم وقام بأمر الأبناء الحسين بن علي بن عيسى بن ماهان، وأصبح الزواقيل فاجتمعوا بالرقة واجتمع الأبناء وأهل خراسان بالرافقة وقام رجل من أهل حمص فقال يا أهل حمص الهرب أهون من العطب والموت أهون من الذل إنكم قد بعدتم عن بلادكم ترجون الكثرة بعد القلة والعزة بعد الذلة ألا وفي الشر وقعتم وفي حومة الموت أنختم إن المنايا في شوارب المسودة وقلانسهم النفير النفير قبل أن ينقطع السبيل وينزل الأمر الجليل ويفوت المطلب ويعسر المهرب.
وقام رجل من طلب في غرز ناقته فقال نحوا من ذلك ثم قال ألا وإني سائر فمن أراد الانصراف فلينصرف معي ثم سار معه عامة أهل الشام وأحرقت الزواقيل ما كان التجار قد جمعوه من الأعلاف،
258

وأقبل نصر بن شبث العقيلي ثم حمل وأصحابه فقاتل قتالا شديدا وصبر الجند لهم وكان أكثر القتل في الزواقيل لكثير بن قادرة وأبي القيل وداود بن موسى بن عيسى الخراساني وانهزمت الزواقيل وكان على حاميتهم يومئذ نصر بن شبث وعمرو بن عبد العزيز السلمي والعباس بن زفر الكلابي ثم توفي عبد الملك بن صالح بالرقة في هذه السنة.
ذكر خلع الأمين والمبايعة للمأمون وعود الأمين إلى الخلافة
فلما مات عبد الملك بن صالح نادى الحسين بن علي بن عيسى بن ماهان في الجند فجعل الرجالة في السفن وسار الفرسان على الظهر في رجب فلما قدم بغداد لقيه القواد وأهل بغداد وعملت له القباب ودخل منزله فلما كان جوف الليل بعث إليه الأمين يأمره بالركوب إليه فقال للرسول ما أنا بمغن ولا مسامر ولا مضحك ولا وليت له عملا ولا ملأ فلأي شيء يردني هذه الساعة انصرف فإذا أصبحت غدوت إليه إن شاء الله.
وأصبح الحسين فوافى باب الجسر واجتمع إليه الناس فقال يا معشر الأبناء إن خلافة الله لا تجاوز بالبطر ونعمته لا تستصحب بالتجبر وان محمدا يريد أن يوقع أديانكم وينقل عزكم إلى غيركم وهو صاحب الزواقيل بالأمس وبالله ان طالت بعد مدة ليرجعن وبال ذلك عليكم فاقطعوا أثره قبل أن يقطع آثاركم وضعوا عزه قبل أن يضع عزكم فوالله لا ينصره
259

ناصر منكم إلا خذل وما عند الله عز وجل لأحد هوادة ولا يراقب على الاستخفاف بعهوده والحنث بايمانه.
ثم أمر الناس بعبور الجسر فعبروا وصاروا إلى سكة باب خراسان وتسرعت خيول الأمين إلى الحسين فقاتلوه قتالا شديدا فانهزم أصحاب الأمين وتفرقوا فخلع الحسين الأمين يوم الأحد لإحدى عشرة ليلة خلت من رجب وأخذ البيعة للمأمون من الغد يوم الاثنين.
فلما كان يوم الثلاثاء وثب العباس بن موسى بن عيسى بالأمين فأخرجه من قصر الخلد وحبسه بقصر المنصور وأخرج أمه زبيدة أيضا فجعلها مع ابنها فلما كان يوم الأربعاء طالب الناس الحسين بالأرزاق وماج بعضهم في بعض فقام محمد بن خالد بباب الشام فقال أيها الناس والله ما أدري بأي سبب تأمر الحسين بن علي علينا وتولى هذا الأمر دوننا ما هو بأكبرنا سنا وما هو بأكبر منا حسبا ولا بأعظمنا منزلة وغنى وإني أولكم أنقض عهده وأظهر الانكار لفعله فمن كان على رأيي فليعتزل معي.
وقال أسد الحربي يا معشر الحربية هذا يوم له ما بعده إنكم قد نمتم فطال نومكم وتأخرتم فتقدم عليكم غيركم وقد ذهب أقوام بخلع الأمين فاذهبوا أنتم بذكر فكه وإطلاقه.
وأقبل شيخ على فرس فقال أيها الناس! هل تعتدون على محمد بقطع
260

أرزاقكم؟ قالوا: لا! قال: فهل قصر بأحد من رؤسائكم وعزل أحدا من قوادكم؟ قالوا: لا! قال: فما بالكم خذلتموه وأعنتم عدوه على أسره وأيم الله ما قتل قوم خليفتكم إلا سلط الله عليهم السيف انهضوا إلى خليفتكم فقاتلوا عنه من أراد خلعه فنهضوا وتبعهم أهل الأرباض فقاتلوا الحسين قتالا شديدا فأسر الحسين بن علس ودخل الأسد الحربي على الأمين فكسر قيوده وأقعده في مجلس الخلافة.
ورأى الأمين أقواما ليس عليهم لباس الجند فأمرهم بأخذ السلاح فانتهبه الغوغاء ونهبوا غيره وحمل إليه الحسين أسيرا فلامه فاعتذر له الحسين فاطلقه وأمره بجمع الجند ومحاربة أصحاب المأمون وخلع عليه وولاه ما وراء بابه وأمره بالمسير إلى حلوان فوقف الحسين باب الجسر والناس يهنونه فلما خف عنه الناس قطع الجسر وهرب فنادى الأمين في الجند يطلبه فركبوا كلهم فأدركوا بمسجد كوثر على فرسخ من بغداد فقاتلهم فعثر به فرسه فسقط عنه فقتل وأخذوا رأسه.
وقيل إن الأمين كان استوزره وسلم اليه خاتمه وجدد الجند البيعة للأمين بعد قتل الحسين بيوم وكان قتله خامس عشر رجب فلما قتل الحسين بن علي هرب الفضل بن الربيع واختفى.
261

ذكر ما فعله طاهر بالأهواز
لما نزل طاهر بشلاشان وجه الحسين بن عمر الرستمي إلى الأهواز وأمره بالحذر فلما توجه أتت طاهرا عيونه فأخبروه أن محمد بن يزيد بن حاتم المهلبي وكان عاملا للأمين على الأهواز قد توجه في جمع عظيم يريد جند يسابور ليحمي الأهواز من أصحاب طاهر فدعا طاهر عدة من أصحابه منهم محمد بن طالوت ومحمد بن العلاء والعباس بن بخار اخذاه وغيرهم وأمرهم أن يجدوا السير حتى يتصل أولهم بآخر أصحاب الرستمي فإن احتاج إلى مدد أمدوه.
فساروا حتى شارفوا الأهواز ولم يلقوا أحدا وبلغ خبرهم محمد بن يزيد فسار حتى نزل عسكر مكرم وصير العمران والماء وراء ظهره وتخوف طاهر أن يعجل إلى أصحابه فأمدهم بقريش بن شبل وتوجه هو بنفسه حتى كان قريبا منهم، وسير الحسين بن علي المأموني إلى قريش والرستمي فسارت تلك العساكر حتى أشرفوا على محمد بن يزيد بعسكر مكرم فاستشار أصحابه في المطاولة والمناجزة فأشاروا عليه بالرجوع إلى الأهواز والتحصن نبها وأن يستعدي الجند من البصرة وقومه الأزد ففعل ذلك فسير طاهر وراءه قريش بن شبل وأمره بمبادرته قبل أن يتحصن بالأهواز فسبقه محمد بن يزيد ووصل بعده بيوم قريش فاقتتلوا قتالا شديدا فالتفت محمد إلى من معه من مواليه وكان أصحابه قد رجعوا معه فقال لمواليه ما رأيكم إني أرى من معي قد انهزم ولست آمن خذلانهم ولا أرجو رجعتهم وقد عزمت على النزول والقتال بنفسي حتى يقضي الله
262

بما أحب فمن أراد الانصراف فلينصرف فوالله لئن تبقوا أحب إلي من أن تموتوا.
فقالوا: والله ما أنصفناك إذا تكون قد أعتقتنا من الرق ورفعتنا من الضعة وأغنيتنا بعد القلة ثم نخذلك على هذه الحال فلعن الله الدنيا والعيش بعدك!
ثم نزلوا فعرقبوا دوابهم وحملوا على أصحاب قريش حمله منكرة فأكثروا فيهم القتل وقتل محمد بن يزيد المهلبي واستولى طاهر على الأهواز وأعمالها واستعمل العمال على اليمامة والبحرين وعمان وجرح في تلك الوقعة عدة جراحات وقطعت يده:
(فما لمت نفسي غير أني لم أطق * حراكا وأني كنت بالضرب مثخنا)
(ولو سلمت كفاي قاتلت دونه * وضاربت عنه الطاهري الملعنا)
(فتى لا يرى أن يخذل السيف في الوغى * إذا ادرع الهيجاء في النقع واكتنى)
ولما دخل ابن عيينة المهلبي على طاهر ومدحه فحين انتهى إلى قوله:
(ما ساء ظني إلا بواحدة * في الصدر محصورة عن الكلم)
تبسم طاهر ثم قال أما والله ساءني من ذلك ما ساءك وآلمني ما آلمك ولقد كنت كارها لما كان غير أن الحتف واقع والمنايا نازلة ولا بد من قطع الأواصر والشكر للأقارب في تأكيد الخلافة والقيام بحق الطاعة فظن من حضر أنه أراد محمد بن يزيد بن حاتم.
263

ذكر استيلاء طاهر على واسط وغيرها
ثم سار طاهر من الأهواز إلى واسط وبها السندي بن يحيى الحرشي والهيثم بن شعبة خليفة خزيمة بن خازم فجعل طاهر كلما تقدم نحوهم تقوضت المسالح والعمال بين يديه حتى أتى واسط فهرب السندي والهيثم بن شعبة عنها، واستولى طاهر على واسط ووجه قائدا من قواده إلى الكوفة وعليها العباس بن موسى الهادي فلما بلغه الخبر خلع الأمين وبايع للمأمون وكتب بذلك إلى طاهر.
ونزلت خيل طاهر فم النيل وغلب على ما بين واسط والكوفة وكتب المنصور بن المهدي وكان عاملا للأمين على البصرة إلى طاهر ببيعته وطاعته، وأتته بيعة المطلب بن عبد الله بن مالك بالموصل للمأمون وخلع الأمين وكان هذا جميعه في رجب من هذه السنة فأقرهم طاهر على أعمالهم وولى داود بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي الهاشمي مكة والمدينة واستعمل يزيد بن جرير بن يزيد بن خالد بن عبد الله القسري البجلي على اليمن ووجه الحرث بن هشام وداود بن موسى إلى قصر ابن هبيرة واقام طاهر بجرجرايا.
فلما بلغ الأمين خبر عامله بالكوفة وخلعه والبيعة للمأمون وجه محمد بن سليمان القائد ومحمد بن حماد البربري وأمرهما أن يبيتا الحرث بن هشام وداود بالقصر فبلغ الحرث الخبر فركب هو وداود فعبرا في مخاضة في سوراء إليهم فأوقعا بهم وقعة شديدة فاقتتلوا قتالا شديدا وانهزم أهل بغداد.
264

ووجه الأمين أيضا الفضل بن عيسى الهاشمي عاملا على الكوفة في خيل فبلغ طاهرا الخبر فوجه محمد بن العلاء في جيش إلى طريقه فلقي الفضل بقرية الاعراب فبعث إليه الفضل أنس سامع مطيع وإنما كان مخرجي كيدا مني لمحمد الأمين فقال له ابن العلاء لست أعرف ما تقول فإن أردت طاهرا فارجع وراءك فهو أسهل الطريق فرجع الفضل فقال محمد بن العلاء كونوا على حذر فلا آمن مكروه.
ثم إن الفضل رجع إلى ابن العلاء وهو يظن أنه على غير أهبة متيقظا حذرا فاقتتلوا قتالا شديدا كأشد ما يكون من القتال فانهزم الفضل وأصحابه.
ذكر استيلاء طاهر على المدائن ونزوله بصرصر
ثم إن طاهرا سار إلى المدائن وبها جيش كثير للأمين عليهم البرمكي قد تحصن بها والمدد يأتيه كل يوم والخلع والصلات من قبل محمد فلما قرب طاهر منه وجه قريش بن شبل والحسين بن علي المأموني في مقدمته فلما سمع أصحاب البرمكي طبول طاهر أسرجوا وركبوا وأخذ البرمكي في التعبية فكان كلما سوى صفا انتفض واضطرب وانضم أولهم إلى آخرهم فقال اللهم إنا نعوذ بك من الخذلان ثم قال لصاحب ساقته حل سبيل الناس فلا خير عندهم فركب بعضهم بعضا نحو بغداد فنزل طاهر المدائن واستولى على تلك النواحي ثم سار إلى صرصر فعقد بها جسرا ونزلها.
265

ذكر البيعة للمأمون بمكة والمدينة
وفي هذه السنة خلع داود بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي الأمين وهو عامله على مكة والمدينة وبايع للمأمون.
وكان سبب ذلك أنه لما بلغه ما كان من الأمين والمأمون وما فعل طاهر وكان للأمين قد كتب إلى داود بن عيسى يأمره بخلع المأمون وبعث أخذ الكتابين من الكعبة كما تقدم فلما فعل ذلك جمع داود وجوه الناس ومن كان شهد في الكتابين، وكان داود أحدهم فقال لهم قد علمتم ما أخذ الرشيد علينا وعليكم من العهد والميثاق عند بيت الله الحرام لابنيه لنكونن مع المظلوم منهما على ظالمه ومع المغدور به على الغادر وقد رأينا ورأيتم أن محمدا قد بدأ بالظلم البغي والغدر والنكث على أخويه المأمون والمؤتمن وخلعهما عاصيا لله وبايع لابنه طفل صغير رضيع لم يفطم وأخذ الكتابين من الكعبة فحرقهما ظالما فقد رأيت خلعه والبيعة للمأمون إذ كان مظلوما مبغيا عليه.
فأجابوه إلى ذلك فنادى في شعاب مكة فاجتمع الناس فخطبهم بين الركن [والمقام]، وخلع محمدا، وبايع للمأمون، وكتب إلى ابنه سليمان وهو عامله على المدينة يأمره أن يفعل مثل ما فعل فخلع سليمان الأمين وبايع للمأمون.
فلما أتاه الخبر بذلك سار من مكة على طريق البصرة ثم إلى فارس ثم إلى كرمان حتى صار إلى المأمون بمرو فأخبره بذلك فسر المأمون بذلك
266

سرورا شديدا وتيمن ببركة مكة والمدينة.
وكانت البيعة بهما في رجب سنة ست وتسعين ومائة واستعمل داود على مكة والمدينة وأضاف إليه ولاية عك وأعطاه خمسمائة ألف درهم معونة وسير معه ابن أخيه العباس بن موسى بن عيسى بن موسى وجعله على الموسم فسارا حتى أتيا طاهرا ببغداد فأكرمهما وقربهما ووجه معهما يزيد بن جرير بن يزيد بن خالد بن عبد الله القسري البجلي عاملا على اليمن وبعث معه خيلا كثيفة فلما قدم اليمن دعا أهلها إلى خلع الأمين والبيعة للمأمون ووعدهم العدل والاحسان وأخبرهم بسيرة المأمون فأجابوه إلى ما طلب وخلعوا محمدا وبايعوا للمأمون وكتب بذلك إلى طاهر وإلى المأمون وسار فيهم أحسن سيرة وأظهر العدل.
ذكر ما فعله الأمين
وفي هذه السنة عقد محمد الأمين في رجب وشعبان نحوا من أربعمائة لواء لقواد شتى وأمر عليهم علي بن محمد بن عيسى بن نهيك وأمرهم بالمسير إلى هرثمة بن أعين فساروا إليه فالتقوا بنواحي النهروان في رمضان فانهزموا وأسر علي بن محمد بن عيسى فسيره هرثمة إلى المأمون ورحل هرثمة فنزل النهروان.
267

ذكر وثوب الجند بطاهر والأمين ونزوله بغداد
وأقام طاهر بصرصر مشمرا في محاربة الأمين وكان لا يأتيه جيش إلا هزمه وبذل الأمين الأموال فاشتد ذلك على أصحاب طاهر فسار إليه منهم خمسة آلاف فسر بهم الأمين ووعدهم ومناهم وفرق فيهم مالا عظيما وغلف لحاهم بالغالية فسموا قواد الغالية وقود الجماعة من الحربية ووجههم إلى مسكرة الملك والنهروان فلم يكن بينهم قتال كثير وندب جماعة من قواد بغداد ووجههم إلى الياسرية والكوثرية وفرق الجواسيس في أصحاب طاهر ودس إلى رؤساء الجند فأطمعهم ورغبهم فشغبوا على طاهر واستأمن كثير منهم إلى الأمين فانضموا إلى عسكره وساروا حتى أتوا صرصرا، فعبأ طاهر أصحابه كراديس وسار فيهم يمنيهم ويحرضهم ويعدهم النصر ثم تقدم فاقتتلوا مليا من النهار ثم انهزم أصحاب الأمين وغنم عسكر طاهر ما كان لهم من السلاح والدواب وغير ذلك.
وبلغ ذلك الأمين فأخرج الأموال وفرقها وجمع أهل الأرباض وقود منهم جماعة وفرق فيهم الأموال وأعطى كل قائد منهم قارورة غالية ولم يفرق في أجناد القواد وأصحابهم شيئا.
فبلغ ذلك طاهرا فراسلهم ووعدهم واستمالهم وأغرى أصاغرهم بأكابرهم فشغبوا على الأمين في ذي الحجة فصعب الأمر عليه فأشار عليه أصحابه باستمالتهم والاحسان إليهم فلم يفعل وأمر بقتالهم جماعة
268

من المستأمنة والمحدثين فقاتلوهم وراسلهم طاهر وراسلوه وأخذ رهائنهم على بذل الطاعة وأعطاهم الأموال.
ثم تقدم فصار إلى موضع البستان الذي على باب الأنبار في ذي الحجة فنزل بقواده وأصحابه ونزل من استأمن إليه من جند الأمين في البستان والأرباض وأضعف للقواد وأبنائهم والخواص العطاء ونقب أهل السجون السجون وخرجوا منها وفتن الناس وساءت حالهم ووثب الشطار على أهل الصلاح ولم يتغير بعسكر طاهر حال لتفقد حالهم وأخذه على أيدي السفهاء وغادي القتال ورواحه حتى تواكل الفريقان وخربت الديار.
وحج بالناس هذه السنة العباس بن موسى بن عيسى بن موسى ودعا للمأمون بالخلافة وهو أول موسم دعي له فيه بالخلافة.
ذكر الفتنة بافريقية مع أهل طرابلس
في هذه السنة ثار أبو عصام ومن وافقه إبراهيم بن الأغلب إفريقية فحاربهم إبراهيم فظفر بهم.
وفيها استعمل ابن الأغلب ابنه عبد الله على طرابلس الغرب فلما قدم إليها ثار عليه الجند فحصروه في داره ثم اصطلحوا على أن يخرج عنهم فخرج عنهم فلم يبعد عن البلد حتى اجتمع إليه كثير من الناس ووضع العطاء فأتاه البربر من كل ناحية وكان يعطي الفارس كل يوم أربعة
269

دراهم، ويعطي الراجل في اليوم درهمين فاجتمع له عدد كثير فزحف بهم إلى طرابلس فخرج اليه الجند فاقتتلوا فانهزم جند طرابلس ودخل عبد الله المدينة وأمن الناس وقام بها ثم عزله أبوه واستعمل بعده سفيان بن المضاء فثارت هوارة بطرابلس فخرج الجند إليهم والتقوا واقتتلوا فهزم الجند إلى المدينة فتبعهم هوارة فخرج الجند هاربين إلى الأمير إبراهيم بن الأغلب ودخلوا المدينة فهدموا أسوارها.
وبلغ ذلك إبراهيم بن الأغلب فسير إليه ابنه أبا العباس عبد الله في ثلاثة عشر ألف فارس فاقتتل هو والبربر فانهزم البربر وقتل كثيرا منهم ودخل طرابلس وبنى سورها.
وبلغ خبر هزيمة البربر إلى عبد الوهاب بن عبد الرحمن بن رستم وجمع البربر وحرضهم وأقبل بهم إلى طرابلس وهم جمع عظيم عصبا للبربر ونصرة لهم فنزلوا على طرابلس وحصروها، فسد أبو العباس عبد الله بن إبراهيم باب زناتة وكان يقاتل من باب هوارة ولم يزل كذلك إلى أن توفي أبوه إبراهيم بن الأغلب وعهد بالامارة لولده عبد الله فأخذ أخوه زياد الله بن إبراهيم له العهود على الجند وسير الكتاب إلى أخيه عبد الله يخبره بموت أبيه وبالإمارة له فأخذ البربر الرسول والكتاب ودفعوه إلى عبد الوهاب بن عبد الرحمن بن رستم فأمر بأن ينادي عبد الله بن إبراهيم بموت أبيه، [فصالحهم على أن يكون البلد] والبحر لعبد الله، وما كان خارجا من ذلك يكون لعبد الوهاب، وسار عبد الله إلى القيروان فلقيه الناس وتسلم الأمر وكانت أيامه أيام سكون ودعة.
270

197
ثم دخلت سنة سبع وتسعين ومائة
ذكر حصار بغداد
في هذه السنة حاصر طاهر وهرثمة وزهير بن المسيب الأمين محمدا ببغداد فنزل زهير بن المسيب الضبي برقة كلواذى ونصبر المجانيق والعرادات وحفر الخندق وكان يخرج في الأيام عند انشغال الجند بحرب طاهر فيرمي بالعرادات ويعشر أموال التجار فشكا الناس منه إلى طاهر، فنزل هرثمة نهر بين وعمل عليه خندقا وسورا ونزل عبيد الله بن الوضاح بالشماسية ونزل طاهر البستان الذي بباب الأنبار.
فلما نزله شق ذلك على الأمين وتفرق ما كان بيده من الأموال فأمر ببيع ما في الخزائن من الأمتعة وضرب آنية الذهب والفضة ليفرقها في أصحابه وأمر باحراق الحربية فرميت بالنفط والنيران وقتل بها خلق كثير.
واستأمن إلى طاهر سعيد بن مالك بن قادم فولاه الأسواق وشاطئ دجلة وما اتصل به وأمره بحفر الخنادق وبناء الحيطان في كل ما غلب عليه من الدروب وأمده بالأموال
والرجال فكثر الخراب ببغداد والهدم فدرست المنازل ووكل الأمين عليا افراهمرد بقصر صالح وقصر سليمان بن المنصور إلى دجلة فألح في إحراق الدور والدروب والرمي بالمجانيق وفعل طاهر مثل ذلك فأرسل إلى أهل الأرباض من طريق الأنبار وباب الكوفة
271

وما يليها فكلما أجابه أهل ناحية خندق عليهم ومن أبى حاجته قاتله وأحرق منزله ووحشت بغداد وخربت فقال حسين الخليع:
(أتسرع الرحلة أغذاذا * عن جانبي بغداد أماذا)
(أما ترى الفتنة قد الفت * إلى أولي الفتنة شذاذا)
(وانتقضت بغداد عمرانها * عن رأي لا ذاك ولا هذا)
(هدما وحرقا قد أباد أهلها * عقوبة لاذت بمن لاذا)
(ما أحسن الحالات ان لم تعد * بغداد في القلة بغدادا)
وسمى طاهر الأرباض التي خالفها أهلها ومدينة المنصور وأسواق الكرخ والخلد دار النكث وقبض ضياع من لم يخرج إليه من بني هاشم والقواد وغيرهم وأخذ أموالهم فذلوا وانكسروا وذل الأجناد وضعفوا عن القتال إلا باعة الطريق والعراة وأهل السجون والأوباش والطرارين وأهل السوق فكانوا ينهبون أموال الناس.
وكان طاهر لا يفتر في قتالهم فاستأمن إليه علي أفراهمرد الموكل بقصر صالح فأمنه وسير إليه جندا كثيفا فسلم إليه ما كان بيده من تلك الناحية في جمادى الآخرة واستأمن إليه محمد بن عيسى صاحب شرطة الأمين وكان مجدا في نصرة الأمين فلما استأمن هذان إلى طاهر أشفى الأمين على الهلاك وأقبلت الغواة من العيارين وباعة الطريق والأجناد،
272

فاقتتلوا داخل قصر صالح قتالا عظيما قتل فيه من أصحاب طاهر جماعة كثيرة ومن قواده جماعة ولم تكن وقعة قبلها ولا بعدها أشد على طاهر منها.
ثم إن طاهرا كاتب القواد الهاشميين وغيرهم بعد أن أخذ ضياعهم ودعاهم إلى الأمان والبيعة للمأمون فأجابه جماعة منهم عبد الله بن حميد بن قحطبة واخوته وولد الحسن بن قحطبة ويحيى بن علي بن ماهان ومحمد بن أبي العباس الطائي وكاتبه غيرهم وصارت قلوبهم معه.
وأقبل الأمين بعد وقعة قصر صالح على الأكل والشرب ووكل الأمر إلى محمد بن عيسى بن نهيك وإلى الهرش فكان من معهما من الغوغاء والفساق يسلبون من قدروا عليه وكان منهم ما لم يبلغنا مثله فلما طال ذلك بالناس خرج عن بغداد من كانت به قوة وكان أحدهم إذا خرج أمن على ماله ونفسه وكان مثلهم كما قال الله: (فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب). وخرج عنها قوم بعلة الحج في ذلك يقول شاعرهم:
(أظهروا الحج وما ينوونه * بل من الهرش يريدون الهرب)
(كم أناس أصبحوا في غبطة * وكل الهرش عليهم العطب)
وقال بعض فتيان بغداد:
(بكيت دما على بغداد لما * فقدت غضارة العيش الأنيق)
(تبدلنا هموما من سرور * ومن سعة تبدلنا بضيق)
(أصابتنا من الحساد عين * فأفنت أهلها بالمنجنيق)
273

(فقوم أحرقوا بالنار قسرا * ونائحة تنوح على غريق)
(وصائحة تنادي وا صباحا * وباكية لفقدان الشقيق)
(وحوراء المدامع ذات دل * مضمخة المجاسد بالخلوق)
(تفر من الحريق إلى انتهاب * ووالدها يفر إلى الحريق)
(وسالبة الغزالة مقلتيها * مضاحكها كلألاء البروق)
(حيارى هكذا ومفكرات * عليهن القلائد في الحلوق)
(ينادين الشقيق ولا شفيق * وقد فقد الشفيق من الشفيق)
(ومغترب قريب الدار ملقى * بلا رأس بقارعة الطريق)
(توسط من قتالهم جميعا * لما يدرون من أبي الفريق)
(فما ولد يقيم على أبيه * وقد فر الصديق عن الصديق)
(ومهما أنس من شيء تولى * فإني ذاكر دار الرفيق)
وقال الجرمي قصيدة طويلة نحو مائة وخمسين بيتا أتى فيها على جميع الحوادث ببغداد في هذه الحرب تركتها لطولها.
وذكر أن قائدا من أهل خراسان من أصحاب طاهر من أهل النجدة والبأس خرج يوما إلى القتال فنظر إلى قوم عراة لا سلاح معهم فقال لأصحابه ما يقاتلنا الا من نرى استهانة بأمرهم واحتقارا لهم، فقيل
274

له: نعم! هؤلاء هم الآفة؛ فقال لهم أف لكن حين تنهزمون من هؤلاء وأنتم في السلاح والعدة والقوة وفيكم الشجاعة وما عسى يبلغ كيد هؤلاء ولا سلاح معهم ولا جنة تقيهم!
وتقدم إلى بعضهم وفي يديه بارية مقيرة وتحت إبطه مخلاة فيها حجارة فجعل الخراساني كلما رمى بسهم استتر منه العيار فوقع في باريته أو قريبا منها فيأخذه ويتركه معه وصاح دانق أي ثمن النشابة دانق قد أحرزه فلم يزالا كذلك حتى فنى سهاك الخراساني ثم حمل عليه العيار ورمي بحجر من مخلاته في مقلاع فما أخطأ عينه ثم خر فكاد يصرعه فانهزم وهو يقول ليس هؤلاء بناس.
فلما سمع طاهر خبره ضحك منه، فلما طال ذلك على طاهر وقتل من أصحابه في قصر صالح من قتل أمر بالهدم والاحراق فهدم دور من خالفه ما بين دجلة ودار الرقيق وباب الشام وباب الكوفة إلى الصراة وربض حميد ونهر كرخايا فكان أصحابه إذا هدموا دارا أخذ أصحاب الأمين أبوابها وسقوفها فيكونون أشد على أهلها فقال شاعر منهم:
(لنا كل يوم ثلمة لا نسدها * يزيدون فيما يطلبون وننقص)
(إذا هدموا دار أخذنا سقوفها * ونحن لأخرى غيرها نتربص)
(فإن حرصوا يوما على الشر جهدهم * فغوغاؤنا منهم على الشر أحرص)
(فقد ضيقوا من أرضنا كل واسع * وصار لهم أهل بها وتعرص)
(يثيرون بالطبل القنيص فإن بدا * لهم وجه صيد من قريب تقنصوا)
275

(لقد أفسدوا شرق البلاد وغربها * علينا فما ندري إلى أين نشخص)
(إذا حضروا قالوا بما يعرفونه * وإن لم يروا شيئا قبيحا تخرصوا)
(وما قتل الأبطال مثل مجرب * رسول المنايا ليلة يتلصص)
في أبيات غيرها فلما رأى طاهر أن هذا جميعه لا يجفلون به أمر منع التجار عنهم ومنع من حمل الأقوات وغيرها وشدد في ذلك وصرف السفن التي حمل فيها إلى الفرات فاشتد ذلك عليهم وغلت الأسعار وصاروا في أشد حصار؛ فأمر الأمين ببيع الأموال وأخذها ووكل بها بعض أصحابه فكان يهجم غللا الناس في منازلهم ليلا ونهارا فاشتد ذلك على الناس وأخذوا بالتهمة والظنة.
ثم كان بينهم وقعة بدرب الحجارة قتل فيها من أصحاب طاهر خلق كثير ووقعة بالشماسية خرج فيها حاتم بن الصقر في العيارين وغيرهم إلى عبيد الله بن الوضاح فأوقعوا به وهو لا يعلم فانهزم عنهم وغلبوه على الشماسية فأتاه هرثمة يعينه فأسره بعض أصحاب الأمين وهو لا يعرفه فقاتل عليه بعض أصحابه حتى خلصه وانهزم أصحاب هرثمة فلم يرجعوا يومين.
فلما بلغ طاهرا ما صنعوا عقد جسرا فوق الشماسية وعبر أصحابه إليهم فقاتلوا أشد قتال حتى ردوا أصحاب الأمين وأعاد أصحاب عبيد الله بن الوضاح إلى مراكزهم وأحرق منازل الأمين بالخيزرانية وكانت النفقة عليها بلغت عشرين ألف الف درهم، وقتل من العيارين كثير فضعف أمر الأمين فأيقن بالهلاك وهرب منه عبد الله بن خازم بن خزيمة
276

إلى المدائن، خوفا من الأمين لأنه اتهمه وتحامل عليه السفلة والغوغاء فأقام بها وقيل بل كاتبه طاهر وحذره قبض ضياعه وأمواله.
ثم إن الهرش خرج ومعه لفيفة وجماعة إلى جزيرة العباس وكانت ناحية لم يقاتل فيها فخرج إليه بعض أصحاب طاهر فقاتلوه فقوي عليهم فأمدهم طاهر بجند آخر فأوقعوا بالهرش وأصحابه وقعة شديدة فغرق منهم بشر كثير.
وضجر الأمين وخاف حتى قال يوما وددت أن الله قتل الفريقين جميعا فأراح الناس منهم فما منهم إلا عدو لي أما هؤلاء فيريدون مالي وأما أولئك فيريدون نفسي وضعف أمره وانتشر جنده وأيقن بظفر طاهر به.
ذكر عدة حوادث
وحج بالناس هذه السنة العباس بن موسى بن عيسى بتوجيه طاهر إياه على الموسم بأمر أمير المؤمنين المأمون.
وفيها سار المؤتمن بن الرشيد ومنصور بن المهدي إلى المأمون بخراسان فوجه المأمون أخاه المؤتمن إلى جرجان.
وفيها كان بالأندلس غلاء شديد وكان الناس يطوون الأيام ويتعللون بما يضبط النفس.
وفيها مات وكيع بن الجراح الرؤاسي بفيد وقد عاد عن الحج؛ وبقية بن الوليد الحمصي، وكان مولده سنة عشر ومائة ومحمد بن مليح بن سليمان الأسلمي؛ ومعاذ بن معاذ أبو المثنى العنبري وله سبع وسبعون سنة.
277

198
ثم دخلت سنة ثمان وتسعين ومائة
ذكر استيلاء طاهر على بغداد
في هذه السنة لحق خزيمة بن خازم بطاهر وفارق الأمين ودخل هرثمة إلى الجانب الشرقي.
وكان سبب ذلك أن طاهرا أرسل إلى خزيمة أن انفصل الأمر بيني وبين محمد ولم يكن لك في نصرتي الا أقصر في أمرك فأجابه بالطاعة وقال له لو كنت أنت النازل الجانب الشرقي مكان هرثمة لحمل نفسه اليه وأخبره قلة ثقته بهرثمة إلا أن يضمن له القيام دونه لخوفه من العامة، فكتب طاهر إلى هرثمة يعجزه ويلومه ويقول جمعت الأجناد وأتلفت الأموال وقد وقفت وقوف المحجم عمن بإزائك فاستعد للدخول إليهم فقد أحكمت الأمر على دفع العسكر وقطع الجسور وأرجو أن لا يختلف عليك اثنان فأجابه هرثمة بالسمع والطاعة فكتب طاهر إلى خزيمة بذلك وكتب إلى محمد بن علي بن عيسى بن ماهان بمثل ذلك فلما كان ليلة الأربعاء لثمان بقين من المحرم وثب خزيمة ومحمد بن علي بن عيسى على جسر دجلة فقطعاه وخلعا محمدا الأمين وسكن أهل عسكر المهدي ولم يدخل هرثمة حتى مضى إليه نفر من القواد وحلفوا له أنه لا يرى منهم مكروها، فدخل
278

إليهم، فقال الحسين الخليع في ذلك:
(علينا جميعا من خزيمة منة * بما أخمد الرحمن نائرة الحرب)
(تولى أمور المسلمين بنفسه * فدب وحامى عنهم أشرف الذب)
(ولولا أبو العباس ما انفك دهرنا * ينيب على عتب ويعدو على عتب)
(خزيمة لم يذكر له مثل هذه * إذا اضطربت سرق البلاد مع الغرب)
(أناخ بجسري دجلة القطع والقنا * شوارع والأرواح في راحة الغضب)
وهي عدة أبيات، فلما كان الغد تقدم طاهر إلى المدينة والكرخ فقاتل هناك قتالا شديدا فهزم الناس حتى ألحقهم بالكرخ وقاتلهم فيه فهزمهم فمروا لا يلوون على شيء فدخلها طاهر بالسيف وأمر مناديه فنادى من لزم بيته فهو آمن ووضع بسوق الكرخ وقصر الوضاح جندا على قدر حاجته وقصد إلى مدينة المنصور وأحاط بها وبقصر زبيدة وقصر الخلد من باب الجسر إلى باب خراسان وباب الشام وباب الكوفة وباب البصرة وشاطئ الصراة إلى مصبها في دجلة.
وثبت على قتال طاهر حاتم بن الصقر والهرش، والأفارقة، فنصب
279

المجانيق بإزاء قصر زبيدة، وقصر الخلد؛ وأخذ الأمين أمه وأولاده إلى مدينة المنصور وتفرق منه عامة جنده وخصيانه وجواريه في الطريق لا يلوي أحد على أحد وتفرق السفلة والغوغاء وتحصن محمد بمدينة المنصور وحصره طاهر وأخذ عليه الأبواب.
وبلغ خبر هذه الوقعة عمرو الوراق، فقال لمخبره: ناولني قدحا ثم تمثل:
(خذها فللخمرة أسماء * لها دواء ولها داء)
(يصلحها الماء إذا أصفقت * يوما وقد يفسدها الماء)
(وقائل كانت لهم وقعة * في يومنا هذا وأشياء)
(قلت له أنت أمر} جاهل * فيك عن الخيرات إبطاء)
(اشرب ودعنا من أحاديثهم * يصطلح الناس إذا شاؤوا)
وحكى إبراهيم بن المهدي أنه كان مع الأمين لما حصره طاهر قال فخرج الأمين ذات ليلة يريد أن يتفرج من الضيق الذي هو فيه فصار إلى قصر له بناحية الخلد ثم أرسل إلى فحضرت عنده فقال ترى طيب هذه الليلة وحسن القمر في السماء وضوءه في الماء على شاطيء دجلة فهل لك في الشرب فقلت شأنك فشرب رطلا وسقاني ثم غنيته ما كنت أعلم أنه يحبه فقال لي ما تقول فيمن يضرب عليك؟ فقلت ما أحوجني إليه فدعا بجارية متقدمة عنده اسمها ضعف فتطيرت من اسمها ونحن في تلك الحال فقال لها غني فغنت بشعر النابغة الجعدي:
(كليب لعمري كان أكثر ناصرا * وأيسر جرما منك ضرج بالدم)
280

فاشتد ذلك عليه وتطير منه وقال غني غير ذلك فغنت:
(أبكي فراقكم عيني فارقها * إن التفرق للأحباب بكاء)
(ما زال يعدو عليهم ريب دهرهم * حتى تفانوا وريب الدهر عداء)
فقال لها: لعنك الله أما تعرفين من الغناء غير هذا فقالت ما تغنيت إلا ما ظننت أنك تحبه ثم غنت آخر:
(أما ورب السكون والحرك * ان المنايا كثيرة الشرك)
(ما اختلف الليل والنهار وما * دارت نجوم السماء في الفلك)
(ألا لنقل السلطان عن ملك * قد زال سلطانه إلى ملك)
(ومالك ذي العرش دائم أبدا * ليس بفان ولا بمشترك)
فقال لها قومي غضب الله عليك ولعنك! [قال]: فقامت، وكان له قح من بلور حسن الصنعة كان يسميه رب رباح وكان موضوعا بين يديه فعثرت الجارية به فكسرته
فقال ويحك يا إبراهيم ما ترى ما جاءت به هذه الجارية ثم ما كان من كسر القدح والله ما أظن أمري إلا وقد قرب فقلت يديم الله ملكك ويعز سلطانك ويكبت عدوك فما استتم الكلام حتى سمعنا صوتا: (قضي الامر الذي فيه تستفتيان). فقال:
281

يا إبراهيم! أما سمعت ما سمعت قلت ما سمعت شيئا وكنت قد سمعت قال تسمع سمعا فدنوت من الشطر فلم أر شيئا ثم عاودنا الحديث فعاد الصوت بمثله فقام من مجلسه مغتما إلى مجلسه بالمدينة فما مضى إلا ليلة أو ليلتان حتى قتل.
ذكر قتل الأمين
لما دخل محمد إلى مدينة المنصور واستولى طاهر على أسواق الكرخ وغيرها كما تقدم وقر بالمدينة علم قواده وأصحابه أنهم ليس لهم فيها عدة الحصر وخافوا أن يظفر بهم طاهر فأتاه محمد بن حاتم بن الصقر ومحمد بن إبراهيم بن الأغلب الإفريقي وغيرهما فقالوا قد آلت حالنا إلى ما ترى وقد رأينا رأيا نعرضه عليك فانظر واعزم عليه فإنا نرجو أن يجعل الله فيه الخيرة.
قال وما هو؟
قالوا: قد تفرق عنك الناس، وأحاط بك عدوك من كل جانب وقد بقي معك من خيلك سبعة آلاف فرس من خيارها فنرى أن تختار ممن عرفناه بمحبتك من الأبناء سبعة آلاف فتحملهم على هذه الخيل وتخرج ليلا على باب من هذه الأبواب فإن الليل لأهله ولن يثبت لنا أحد إن شاء الله تعالى،
282

فتخرج، حتى نلحق بالجزيرة والشام فنفرض الفروض ونجبي الخراج ونصير في مملكة واسعة وملك جديد فيسارع إليك الناس وينقطع عن طلبك الجند ويحدث الله أمورا.
فقال لهم نعم ما رأيتم! وعزم على ذلك، وبلغ الخبر إلى طاهر فكتب إلى سليمان بن المنصور ومحمد بن عيسى بن نهيك والسندي بن شاهك والله لئن لم تردوه عن هذا الرأي لا تركت لكم ضيعة إلا قبضتها ولا يكون لي همة إلا أنفسكم.
فدخلوا على الأمين فقالوا له قد بلغنا الذي عزمت عليه فنحن نذكرك الله في نفسك أن هؤلاء صعاليك وقد بلغ بهم الحصار إلى ما ترى فهم يرون أن لا أمان لهم عند أخيك وعند طاهر لجدهم في الحرب ولسنا نأمن إذا خرجت معهم أن يأخذوك أسيرا أو يأخذوا رأسك فيتقربوا بك ويجعلوك سبب أمانهم وضربوا له فيه الأمثال فرجع إلى قولهم وأجاب إلى طلب الأمان والخروج فقالوا له إنما غايتك السلامة واللهو وأخوك يتركك حيث أحببت، [ويفردك في موضع] ويجعل لك فيه كل ما يصلحك وكل ما تحب وتهوى وليس عليك من بأس ولا مكروه فركن إلى ذلك وأجاب إلى الخروج إلى هرثمة بن أعين.
فدخل عليه أولئك النفر الذي أشاروا بقصد الشأم وقالوا إذا لم تقبل ما أشرنا به عليك وهو الصواب وقبلت من هؤلاء المداهنين فالخروج إلى طاهر خير لك من الخروج إلى هرثمة فقال أنا أكره طاهرا لأني رأيت في منامي كأني قائم على حائط من آجر شاهق في السماء عريض الأساس
283

لم أر مثله في الطول والعرض، وعلى سوادي، ومنطقتي وسيفي وكان طاهر في أصل ذلك الحائط فما زال يضربه حتى سقط وسقطت وطارت قلنسوتي عن رأسي فأنا أتطير منه وأكرهه وهرثمة مولانا وهو بمنزلة الوالد وأنا أشد أنسا به وثقة إليه.
فأرسل يطلب الأمان فأجابه هرثمة إلى ذلك وحلف له أن يقاتل دونه إن هم المأمون بقتله، فلما علم ذلك طاهر اشتد عليه وأبى أن يدعه يخرج إلى هرثمة وقال هو في جندي والجانب الذي أنا فيه وأنا أخرجته بالحصار حتى طلب الأمان فلا أرضى أن يخرج إلى هرثمة فيكون له الفتح دوني.
فلما بلغ ذلك هرثمة والقواد اجتمعوا في منزل خزيمة بن خازم وحضر طاهر وقواده وحضر سليمان بن المنصور والسندي ومحمد بن عيسى بن نهيك وأداروا الرأي بينهم وأخبروا طاهرا أنه لا يخرج إليه أبدا وأنه إن لم يجب إلى ما سأل لم يؤمن إلا أن يكون الأمر مثله إلى الحسين بن علي بن عيسى بن ماهان وقالوا له إنه يخرج إلى هرثمة ببدنة ويدفع إليك الخاتم والقضيب والبردة وذلك هو الخلافة فاغتنم هذا الأمر ولا تفسده! فأجاب إلى ذلك ورضي به.
ثم إن الهرش لما علم بالخبر أراد التقرب إلى طاهر فأخبر أن الذي جرى بينهم مكر وأن الخاتم والقضيب والبردة يحمل مع الأمين إلى هرثمة فاغتاظ منه وجعل حول قصر أم الأمين وقصور الخلد قوما معهم العتل والفؤوس ولم يعلم بهم أحد.
فلما تهيأ الأمين للخروج إلى هرثمة،
284

عطش قبل خروجه عطشا شديدا فطلب له في خزانة الشراب ماء فلم يوجد فلما أمسى ليلة الأحد لخمس بقين من محرم سنة ثمان وتسعين ومائة خرج بعد العشاء الآخرة إلى صحن الدار وعليه ثياب بيض وطيلسان أسود فأرسل إليه هرثمة: وافيت للميعاد لأحملك ولكني أرى أن لا تخرج الليلة فإني قد رأيت على الشط أمرا قد رابني وأخاف أن أغلب وتؤخذ من يدي وتذهب نفسك ونفسي فأقم الليلة حتى استعد الليلة القابلة فإن حوربت حاربت دونك.
فقال الأمين للرسول إرجع إليه وقل له لا يبرح فإني خارج إليه الساعة لا محالة ولست أقيم إلى غد.
وقلق وقال: قد تفرق عني الناس من الموالي والحرس وغيرهم ولا آمن إن انتهى الخبر إلى طاهر أن يدخل علي فيأخذني ثم دعا بابنيه فضمهما إليه وقبلهما وبكى وقال استودعكما الله عز وجل ودمعت عيناه فمسح دموعه بكمه ثم جاء راكبا إلى الشط فإذا حراقة هرثمة فصعد إليها.
فذكر أحمد بن سلام صاحب المظالم قال كنت مع هرثمة في الحراقة فلما دخلها الأمين قمنا له وجثى هرثمة على ركبتيه واعتذر إليه من نقرس به ثم احتضنه وضمه إليه وجعله في حجره وجعل يقبل يديه ورجليه وعينيه وأمر هرثمة الحراقة أن تدفع إذ شد علينا أصحاب طاهر في الزواريق وعطعطوا ونقبوا الحراقة ورموهم بالآجر
والنشاب فدخل الماء إلى الحراقة فغرقت وسقط هرثمة إلى الماء وسقطنا فتعلق الملاح بشعر هرثمة فأخرجه، وأما الأمين فإنه لما سقط إلى الماء شق ثيابه وخرج إلى الشط فأخذني رجل من أصحاب
285

طاهر، وأتى بي رجلا من أصحاب طاهر وأعلمه اني من الذين خرجوا من الحراقة فسألني من أنا فقلت أنا أحمد بن سلام صاحب المظالم مولى أمير المؤمنين قال كذبت فأصدقني قلت قد صدقتك قال فما فعل المخلوع؟ قلت: رأيته وقد شق ثيابه فركب وأخذني معه أعدو وفي عنقي حبل فعجزت عن العدو فأمر بضرب عنقي فاشتريت نفسي منه بعشرة آلاف درهم فتركني في بيت حتى يقبض المال وفي البيت بواري وحصر مدرجة ووسادتان.
فلما ذهب من الليل ساعة وإذ قد فتحوا الباب وأدخلوا الأمين وهو عريان وعليه سراويل وعمامة وعلى كتفه خرقة خلقة فتركوه معي فاسترجعت وبكيت فيما بيني وبين نفسي فسألني عن اسمي فعرفته فقال ضمني إليك فاني أجد وحشة شديدة قال فضممته إلى وإذا قلبه يخفق خفقانا شديدا فقال يا أحمد ما فعل أخي قلت حي هو قال قبح الله بريدهم كان يقول قد مات شبه المعتذر من محاربته فقلت بل قبح الله وزراءك فقال ما تراهم يصنعون بي أيقتلونني أم يفوا لي بأمانهم فقلت بل يفون لك.
وجعل يضم الخرقة على كتفه فنزعت مبطنة كانت علي وقلت ألق هذه عليك فقال دعني فهذا من الله عز وجل في مثل هذا الموضع خير كثير.
فبينما نحن كذلك إذا دخل علينا رجل فنظر في وجوهنا فاستثبتها فلما عرفته انصرف وإذا هو محمد بن حميد الطاهري فلما رأيته علمت أن الأمين مقتول؛ فما انتصف الليل فتح الباب ودخل الدار قوم من العجم معهم السيوف مسلولة فلما رآهم قام قائما وجعل يقول إنا لله وإنا إليه راجعون ذهبت والله نفسي في سبيل الله أما من مغيث
286

أما من أحد من الأبناء.
وجاؤوا حتى وقفوا على باب البيت الذي نحن فيه وجعل بعضهم يقول لبعض تقدم ويدفع بعضهم بعضا وأخذ الأمين بيده وسادة وجعل يقول ويحكم أنا ابن عم رسول الله أنا ابن هارون أنا أخو المأمون الله الله في دمي.
فدخل عليه رجل منهم فضربه بالسيف ضربة وقعت في مقدم رأسه وضربه الأمين بالوسادة على وجهه وأراد [أن] يأخذ السيف منه، فصاح: قتلني قتلني فدخل منهم جماعة فنسخه واحد منهم بالسيف في خاصرته وركبوه فذبحوه ذبحا من قفاه وأخذوا رأسه ومضوا به إلى طاهر وتركوا جثته فلما كان السحر أخذوا جثته.
فأدرجوها في جل وحملوها فنصب طاهر الرأس على برج وخرج أهل بغداد للنظر وطاهر يقول هذا رأس المخلوع محمد.
فلما قتل ندم جند بغداد وجند طاهر على قتله لما كانوا يأخذون من الأموال وبعث طاهر برأس محمد إلى أخيه المأمون مع ابن عمه محمد بن الحسين بن مصعب وكتب معه بالفتح فلما وصل أخذ الرأس ذو الرياستين فأدخله على ترس فلما رآه المأمون سجد، وبعث معه طاهر بالبردة والقضيب والخاتم.
ولما بلغ أهل المدينة أن طاهرا أمر مولاه قريشا فقتله قال شيخ من أهل المدينة سبحان الله كنا نروي أنه يقتله قريش فذهبنا إلى القبيلة فوافق الاسم [الاسم].
ولما قتل الأمين نودي في الناس بالأمان فأمن الناس كلهم ودخل طاهر المدينة يوم الجمعة فصلى بالناس وخطب للمأمون وذم الأمين،
287

وكتب إلى المعتصم، وقيل إلى ابن المهدي: أما بعد فإنه عزيز علي أن أكتب إلى رجل من أهل بيت الخلافة بغير التأمير ولكنه بلغني أنك تميل بالرأي وتصغي بالهوى إلى الناكث المخلوع فإن كان ذلك فكثيرا ما كتبت إليك وإن كان غير ذلك فالسلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته.
ولما قتل الأمين قال إبراهيم بن المهدي يرثيه:
(عوجا بمغنى الطلل الدائر * بالخلد ذات الصخر والآجر)
(والمرمر المنسوب يطلى به * والباب الذهب الناضر)
(عوجا بها فاستيقنا عندها * على يقين قدرة القادر)
(وأبلغا عني مقالا إلى المولى * على المأمور والآمر)
(قولا له يا ابن أبي الناضر * طهر بلاد الله من طاهر)
(لم يكفه أن حز أوداجه * في شطن هذا مدى السائر)
(قد برد الموت على جنبه * فطرفه منكسر الناظر)
فلما بلغ المأمون قوله اشتد عليه.
ذكر صفة الأمين وعمره وولايته
قيل إن محمدا ولي يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى سنة ثلاث وستعين ومائة وقتل ليلة الأحد لست بقين من المحرم
288

سنة ثمان وتسعين ومائة وكنيته أبو موسى وقيل أبو عبد الله.
وهو ابن الرشيد هارون بن أبي عبد الله المهدي بن أبي جعفر المنصور وأمه زبيدة ابنه جعفر الأكبر ابن المنصور وكانت خلافته أربع سنين وثمانية أشهر وخمسة إلى وقيل كانت ولايته في النصف من جمادى الآخرة وكان عمره ثمانيا وعشرين سنة. وكان سبطا انزع صغير العينين أقنى جميلا طويلا عظيم الكراديس بعيد ما بين المنكبين وكان مولده بالرصافة.
ولما وصل خبر قتله إلى المأمون أذن للقواد وقرأ الفضل بن سهل الكتاب عليهم فهنؤوه بالظفر ودعوا له وكتب إلى طاهر وهرثمة بخلع القاسم المؤتمن من ولاية العهد
فخلعاه في شهر ربيع الأول من هذه السنة.
وأكثر الشعراء في مراثي الأمين وهجائه تركنا أكثره لأنه خارج عن التاريخ، فمما قيل في مراثيه قول الحسين بن الضحاك وكان من ندمائه وكان لا يصدق بقتله ويطمع في رجوعه:
(يا خير أسرته وإن زعموا * اني عليك لمثبت أسف)
(الله يعلم أن لي كبدا * حرى عليك ومقلة تكف)
(ولئن شجيت بما رزئت به * اني لأضمر فوق ما أصف)
(هلا بقيت لسد فاقتنا * أبدا وكان لغيرك التلف)
قد كان فيك لمن مضى خلف * ولسوف يعوز بعدك الخلف)
(لا بات رهطك بعد هونهم * إني لرهطك بعدها شنف)
(هتكوا لحرمتك التي هتكت * حرم الرسول ودونها السجف)
289

(ونبت أقاربك التي خذلت * وجميعها بالذل معترف)
(تركوا حريم أبيهم نفلا * والمحصنات صوارخ هتف)
(أبدت مخلخلها على دهش * أبكارهن ورنت النصف)
(سلبت معاجرهن واختلست * ذات النقاب ونوزع الشنف)
(فكأنهن خلال منتهب * در تكشف دونه الصدف)
(سلك تخوف نظمه قدر * فوهى فصرف الدهر مختلف)
(هيهات بعدك أن يدوم لنا * عز وان يبقى لنا شرف)
(أفبعد عهد الله تقتله * والقتل بعد أمانة سرف)
(فستعرفون غدا بعاقبة * عز الإله فأوردوا وقفوا)
(يا من يخون نومه أرقا * هدت الشجون وقلبه لهف)
(قد كنت لي أملا غنيت به * فمضى وحل محله الأسف)
(مرج النظام وعاد منكرنا * عرفا وأنكر بعده العرف)
(والشمس منتشر لفقدك والد * نيا سدى والباب منكشف)
وقال حزيمة بن الحسين يرثيه على لسان أمه زبيدة وتخاطب المأمون وكنية زبيدة أم جعفر:
(لخبر امام قام من خير عنصر * وأفضل سام فوق أعواد منبر)
(لوارث علم الأولين وفهمهم * وللملك المأمون من أم جعفر)
(كتبت وعيني مستهل دموعها * إليك ابن عمي من جفون ومحجر)
(وقد مسني ضر وذل كآبة * وأرق عيني يا ابن عمي تفكري)
290

(وهمت لما لاقيت بعد مصابه * فأمري عظيم منكر جد منكر)
(سأشكو الذي لقيته بعد فقده * إليك شكاة المستضيم المقتر)
(وأرجو لما قد مر بي مذ فقدته * فأنت لبثي خير رب مغير)
(أتى طاهرا لا طهر الله طاهرا * فما طاهر فيما أتى بمطهر)
(فأخرجني مكشوفة الوجه حاسرا * وأنهب أموالي وأخرب أدوري)
(يعز على هارون ما قد لقيته * وما مر بي من ناقص الخلق أعور)
(فان كان ما أبدى بأمر أمرته * صبرت لامر من قدير مقدر)
(تذكر أمير المؤمنين قرابتي * فديتك من ذي حرمة متذكر)
فلما قرأها المأمون بكى وقال أنا والله الطالب بثأر أخي قتل الله قتلته.
ولقد أسرف الحسين بن الضحاك في مراثي الأمين وذم المأمون فلهذا حجبه المأمون عنه ولم يسمع مديحه مدة ثم أحضر يوما فقال له أخبرني هل رأيت يوم قتل أخي هاشمية قتلت وهتكت قال لا قال فما قولك:
(ومما شجا قلبي وكفكف عبرتي * محارم من آل النبي استحلت)
(ومهتوكة بالخلد عنها سجوفها * كعاب كقرن الشمس حين بدت)
(إذا خفرتها روعة من منازع * لها المرط عادت بالخشوع ورنت)
(وسرب ظباء من ذؤابة هاشم * هتفن بدعوى خير حي وميت)
(أرد يدا مني إذا ما ذكرته * على كبد حرى وقلب مفتت)
291

(فلا بات ليل الشامتين بغبطة * ولا بلغت آمالها ما تمنت)
فقال: يا أمير المؤمنين لوعة غلبتني وروعة فاجأتني ونعمة سلبتها بعد أن غمرتني وإحسان شكرته فأنطقني وسيد فقدته فأقلقني فإن عاقبت فبحقك وإن عفوت فبفضلك.
فدمعت عين المأمون قال قد عفوت عنك وأمرت بإدرار أرزاقك عليك وعطائك ما فاتك متمما وجعلت عقوبة ذنبك امتناعي من استخدامك.
ثم إن المأمون رضي عنه وسمع مديحه ومما قيل في هجائه:
(لم نبكيك لماذا الطرب * يا أبا موسى وترويج اللعب)
(ولترك الخمس في أوقاتها * حرضا منك على ماء العنب)
(وشنيف أنا لا أبكي له * وعلى كوثر لا أخشى العطب)
(لم تكن تعرف الرضا * لا ولا تعرف ما حد الغضب)
(لم تكن تصلح للملك ولم * تعطك الطاعة بالملك العرب)
(لم نبكيك لما عرضتنا * للمجانيق وطورا للسلب)
(في عذاب وحصار مجهد * سدد الطرق فلا وجه الطلب)
(زعموا أنك حي حاشر * كل من قد قال هذا قد كذب)
292

(ليته قد قاله في وجده * من جميع ذاهب حيث ذهب)
(أوجب الله علينا قتله * وإذا ما أوجب الأمر وجب)
(كان والله علينا فتنة * غضب الله عليه وكتب)
وقيل فيه غير ذلك تركنا ذكره خوف الإطالة.
ذكره بعض سيرة الأمين
لما ملك الأمين وكاتبه المأمون، وأعطاه بيعته طلب الخصيان واتباعهم وغالى فيهم فصيرهم لخلوته ليله ونهاره وقوام طعامه وشرابه وأمره ونهيه وفرض لهم فرضا سماهم الجرادية وفرضا من الحبشان سماهم الغرابية ورفض النساء الحرائر والإماء حتى رمى بهن وقيل في الاشعار فمما قيل
فيه:
(الا يا أيها المثوى بطوس * عزيبا ما تفادى بالنفوس)
(لقد أبقيت للخصيان هقلا * يحمل منهم شؤم البسوس)
(فاما نوفل فالشأن فيه * وفي بدر فيا لك من جليس)
(وما للمعصمي شيء لديه * إذا ذكروا بذي سهم خسيس)
(وما حسن الصغير أخس حالا * لديه عند مخترق الكؤوس)
293

(لهم من عمره شطر وشطر * يعاقر فيه شرب الخندريس)
(وما للغانيات لديه حظ * سوى التقطيب والوجه العبوس)
(إذا كان الرئيس كذا سقيما * فكيف صلاحنا بعد الرئيس)
(فلو علم المقيم بدار طوس * لعز على المقيم بدار طوس)
ثم وجه إلى جميع البلدان في طلب الملهين وضمهم إليه وأجرى عليهم الأرزاق واحتجب عن أخويه وأهل بيته واستخف بهم وقواده وقسم ما في بيوت الأموال وما بحضرته من الجواهر في خصيانه وجلسائه ومحدثيه وأمر ببناء مجالس لمتنزهاته وموضع خلواته ولهوه ولعبه وعمل خمس حراقات في دحلة على صورة الأسد والفيل والعقاب والحية والفرس وانفق في عملها مالا عظيما فقال أبو فراس في ذلك:
(سخر الله للأمين مطايا * لم تسخر لصاحب المحراب)
(فإذا ما ركابه سرن برا * سار في الماء راكبا ليث غاب)
(عجب الناس إذ رأوك على صو * رة ليث تمر مر السحاب)
(سبحوا إذ رأوك سرت عليه * كيف لو أبصروك فوق العقاب)
(ذات زور ومنسر وجناحي * تشق العباب بعد العباب)
(تسبق الطير في السماء إذا ما * استعجلوها بجيئة وذهاب)
294

قال الكوثر: أمر الأمين أن يفرش له على دكان في الخلد يوما ففرش عليها بساط زرعي ونمارق وفرش مثله وهيئ من آنية الذهب والفضة والجواهر أمر عظيم وأمر قيمة جواريه أن تهيئ له مائة جارية صانعة فتصعد إليه عشرا بأيديهن العيدان يغنين بصوت واحد فأصعدت إليه عشرا فاندفعن يغنين بصوت واحد:
(هم قتلوه كي يكونوا مكانه * كما غدرت يوما بكسرى مرازبه)
فسبهن وطردهن ثم أمرها فأصعدت عشرا غيرهن فغنينه:
(من كان مسرورا بمقتل مالك * فليأت نسوتنا بوجه نهار)
ففعل مثل ما فعله وأطرق طويلا ثم قال اصعدي عشرا فأصعدتهن فغنين:
(كليب لعمري كان أكثر ناصرا * وأيسر حزما منك ضرج بالدم)
فقام من مجلسه، وأمر بهدم الدكان تطيرا مما كان قيل وذكر محمد الأمين عند الفضل بن سهل بخراسان فقال كيف لا يستحل قتل محمد وشاعره يقول في مجلسه:
(ألا فأسقني خمرا وقل لي هي الخمر * ولا تسقني سرا فقد أمكن الجهر)
فبلغت القصة الأمين فحبس أبا نواس لم نجد في سيرته ما يستحسن ذكره من حلم أو معدلة أو تجربة حتى نذكرها وهذا القدر كاف.
295

ذكر وثوب الجند بطاهر
وفي هذه السنة وثب الجند بطاهر بعد مقتل الأمين بخمسة إيام.
وكان سبب ذلك أنهم طلبوا منه مالا فلم يكن معه شيء فثاروا به فضاق به الأمر وظن أن ذلك من موطأة من الجند وأهل الأرباض وأنهم معهم عليه ولم يكن تحرك من أهل الأرباض أحد فخشي على نفسه فهرب ونهبوا بعض متاعه ومضى إلى عقرقوف.
وكان لما قتل الأمين أمر بحفظ الأبواب وحول زبيدة أم الأمين وولديه موسى وعبد الله معها وحملهم في حراقة إلى همينيا على الزاب الأعلى ثم أمر بحمل موسى وعبد الله إلى عمهما المأمون بخراسان.
فلما ثار به الجند نادوا موسى يا منصور وبقوا كذلك يومهم ومن الغد فصوب الناس إخراج طاهر ولدي الأمين ولما هرب طاهر إلى عقرقوف خرج معه جماعة من القواد وتعب لقتال الجند وأهل الأرباض ببغداد فلما بلغ ذلك القواد المختلفين عنه والأعيان من أهل المدينة خرجوا واعتذروا وأحالوا على السفهاء والاحداث وسألوه الصفح عنهم وقبول عذرهم.
فقال طاهر ما خرجت عنكم إلا لوضع السيف فيكم وأقسم بالله العظيم عز وجل لئن عدتم لمثلها لأعودن إلى رأيي فيكم ولأخرجن إلى مكروهكم فكسرهم بذلك وأمر لهم برزق أربعة أشهر.
وخرج إليه جماعة من مشيخة أهل بغداد وعميرة أبو شيخ بن عميرة الأسدي فحلفوا له أنه لم يتحرك من أهل بغداد ولا من الأبناء أحد وضمنوا
296

منه من وراءهم، فسكن غضبه، وعفا عنهم ووضعت الحرب أوزارها واستوثق الناس في المشرق والمغرب على طاعة المأمون والانقياد لخلافته.
(عميرة بفتح العين وكسر الميم).
ذكر خلاف نصر بن سيار بن شبث العقيلي على المأمون
وفي هذه السنة أظهر نصر بن سيار بن شبث العقيلي الخلاف على المأمون وكان نصر بن بني عقيل يسكن كيسوم ناحية شمالي حلب وكان في عنقه بيعة للأمين وله فيه هوى فلما قتل الأمين أظهر نصر الغضب لذلك وتغلب على ما جاوره من البلاد وملك سميساط واجتمع عليه خلق كثير من الأعراب وأهل الطمع وقويت نفسه وعبر الفرات إلى الجانب الشرقي وحدثته نفسه بالتغلب عليه فلما رأى الناس ذلك منه كثرت جموعه وزادت عما كانت وكان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(شبث بفتح الشين المعجمة والباء الموحدة والثاء المثلثة).
ذكر ولاية الحسن بن سهل العراق وغيره من البلاد
وفي هذه السنة استعمل المأمون الحسن بن سهل أخا الفضل على كل ما كان افتتحه طاهر من كور الجبال والعراق وفارس والأهواز،
297

والحجاز، واليمن بعد أن قتل الأمين وكتب إلى طاهر بتسليم ذلك إليه فقدم الحسن بين يديه علي بن أبي طاهر سعيد فدافعه طاهر بتسليم الخراج إليه حتى وفى الجند أرزاقهم وسلم إليه العمل.
وقدم الحسن سنة تسع وتسعين [ومائة]، وفرق العمال، وأمر طاهرا أن يسير إلى الرقة لمحاربة نصر بن سيار بن شبث العقيلي وولاه الموصل والجزيرة والشام والمغرب فسار طاهر إلى قتال نصر بن سيار بن شبث وأرسل إليه يدعوه إلى الطاعة وترك الخلاف فلم يجبه إلى ذلك فتقدم إليه طاهر والتقوا بنواحي كيسوم واقتتلوا
شديدا أبلى فيه نصر بلاء عظيما وكان الظفر له وعاد طاهر شبه المهزوم إلى الرقة.
وكان قصارى أمر طاهر حفظ تلك النواحي وكتب المأمون إلى هرثمة يأمره بالمسير إلى خراسان وحج بالناس العباس بن موسى بن عيسى بن موسى بن محمد.
ذكر وقعة الربض بقرطبة
في هذه السنة كانت بقرطبة الوقعة المعروفة بالربض وسببها أن الحكم بن هشام الأموي صاحبها كان مثير التشاغل باللهو والصيد والشرب وغير ذلك مما يجانسه وكان قد قتل جماعة من أعيان قرطبة فكرهه أهلها وصاروا يتعرضون لجنده بالأذى والسب إلى أن بلغ الأمر بالغوغاء أنهم كانوا ينادون عند انقضاء الأذان الصلاة يا مخمور الصلاة؛ وشافهه بعضهم بالقول وصفقوا عليه بالأكف فشرع في تحصين قرطبة وعمارة
298

أسوارها، وحفر خنادقها وارتبط الخيل على بابه واستكثر المماليك ورتب جمعا لا يفارقون باب قصره بالسلاح فزاد ذلك في حقد أهل قرطبة وتيقنوا أنه بفعل ذلك للانتقام منهم.
ثم وضع عليهم عشر الأطعمة كل سنة من غير خرص فكرهوا ذلك ثم عمد إلى عشرة من رؤساء سفهائهم فقتلهم وصلبهم فهاج لذلك أهل الربض وانضاف إلى ذلك أن مملوكا له سلم سيفا إلى صيقل ليصقله فمطله، فأخذ المملوك السيف فلم يزل يضرب الصيقل به إلى قتله وذلك في رمضان من هذه السنة.
فكان أول من شهر السلاح أهل الرب واجتمع أهل الأرباض جميعهم بالسلاح واجتمع الجند والأمويون والعبيد بالقصر وفرق الحكم الخيل والأسلحة وجعل أصحابه كتائب ووقع القتال بين الطائفتين فغلبهم أهل الربض وأحاطوا بقصره فنزل الحكم من أعلى القصر ولبس سلاحه وركب وحرض الناس فقاتلوا بين يديه قتالا شديدا.
ثم أمر ابن عمه عبيد الله فثلم في السور ثلمة وخرج منها ومعه قطعة من الجيش وأتى أهل الربض من وراء ظهورهم ولم يعلموا بهم فأضرموا النار في الربض وانهزم أهله وقتلوا مقتلة عظيمة وأخرجوا من وجدوا في المنازل والدور فأسروهم فانتقى من الأسرى ثلاثمائة من وجوههم فقتلهم وصلبهم منكسين وأقام النهب والقتل والحريق والخراب في أرباض قرطبة ثلاثة إيام.
ثم استشار الحكم عبد الكريم بن عبد الواحد بن عبد المغيث ولم يكن
299

عنده من يوازيه في قربه، فأشار عليه بالصفح عنهم والعفو وأشار غيره بالقتل فقبل قوله وأمر فنودي بالأمان على أنه من بقي من أهل الربض بعد ثلاثة إلى قتلناه وصلبناه فخرج من بقي بعد ذلك مستخفيا وتحملوا على الصعب والذلول خارجين من حضرة قرطبة بنسائهم وأولادهم وما خف من أموالهم وقعد لهم الجند والفسقة بالمراصد ينهبون ومن امتنع عليهم قتلوه.
فلما انقضت الأيام الثلاثة أمر الحكم بكف الأيدي عن حرم الناس وجمعهن إلى مكان وأمر بهدم الربض القبلي.
وكان بزيع مولى أمية ابن الأمير عبد الرحمن بن معاوية بن هشام محبوسا في حبس الدم بقرطبة في رجليه قيد ثقيل فلما رأى أهل قرطبة قد غلبوا الجند سأل الحرس أن يفرجوا له فأخذوا عليه العهود إن سلم أن يعود إليهم وأطلقوه فخرج فقاتل قتالا شديدا لم يكن في الجيش مثله فلما انهزم أهل الربض عاد إلى السجن فانتهى خبره إلى الحكم فأطلقه وأحسن إليه وقد ذكر بعضهم هذه الوقعة سنة اثنتين ومائتين.
ذكر الوقعة بالموصل المعروفة بالميدان
وفيها كانت الوقعة المعروفة بالميدان بالموصل بين اليمانية والنزارية وكان سببها أن عثمان بن نعيم البرجمي صار إلى ديار مضر فشكا الأزد واليمن وقال إنهم يتهضموننا ويغلبوننا على حقوقنا واستنصرهم فسار معه إلى الموصل ما يقارب عشرين ألفا فأرسل إليهم علي بن الحسن الهمداني،
300

وهو حينئذ متغلب على الموصل فسألهم عن حالهم فأخبروه فأجابهم إلى ما يريدون فلم يقل عثمان ذلك فخرج إليهم علي من البلد في نحو أربعة آلاف رجل فالتقوا واقتتلوا قتالا شديدا عدة وقائع فكانت الهزيمة على النزارية وظفر بهم علي وقتل منهم خلقا كثيرا وعاد إلى البلد.
ذكر عدة حوادث
وفي هذه السنة خرج الحسن الهرش في جماعة من سفلة الناس معه خلق كثير من الأعراب ودعا إلى الرضا من آل محمد واتى النيل فجبى الأموال ونهب القرى.
وفيها مات سفيان بن عيينة الهلالي بمكة وكان مولده سنة تسع ومائة.
وفيها توفي عبد الرحمن بن المهدي وعمره ثلاث وستون سنة ويحيى بن سيعد القطان في صفر ومولده سنة عشرين ومائة.
301

199
ثم دخلت سنة تسع وتسعين ومائة
ذكر ظهور ابن طباطبا العلوي
وفيها ظهر أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام لعشر خلون من جمادى الآخرة بالكوفة يدعو إلى الرضا من آل محمد والعمل بالكتاب والسنة وهو الذي يعرف بابن طباطبا وكان القيم بأمره في الحرب أبو السرايا السري بن منصور وكان يذكر أنه من ولد هانئ بن قبصة بن هانئ بن مسعود الشيباني.
وكان سبب خروجه أن المأمون لما صرف طاهرا عما كان إليه من الأعمال التي افتتحها ووجه الحسن بن سهل إليها تحدث الناس بالعراق أن الفضل بن سهل قد غلب
على المأمون وأنه أنزله قصرا حجبه فيه عن أهل بيته وقواده وأنه يستبد بالأمر دونه فغضب لذلك بنو هاشم ووجوه الناس واجترأوا على الحسن بن سهل وهاجت الفتن في الأمصار فكان أول من ظهر ابن طباطبا بالكوفة.
وقيل كان سبب اجتماع ابن طباطبا بأبي السرايا أن أبا السرايا كان يكري الحمير ثم قوي حاله فجمع نفرا فقتل رجلا من بني تميم بالجزيرة،
302

وأخذ ما معه فطلب فاختفى وعبر الفرات إلى الجانب الشامي فكان يقطع الطريق في تلك النواحي ثم لحق بيزيد بن الشيباني بأرمينية ومعه ثلاثون فارسا فقوده فجعل يقاتل معه الخرمية وأثر فيهم وفتك وأخذ منهم غلامه أبا الشوك.
فلما عزل أسد عن أرمينية صار أبو السرايا إلى أحمد بن مزيد فوجهه أحمد طليعة إلى عسكر هرثمة في فتنة الأمين والمأمون وكانت شجاعته قد اشتهرت فراسله هرثمة يستميله فمال إليه فانتقل إلى عسكره وقصده العرب من الجزيرة واستخرج لهم الأرزاق من هرثمة معه نحو ألفي فارس وراجل فصار يخاطب بالأمير.
فلما قتل الأمين نقصه هرثمة من أرزاقه وأرزاق أصحابه فاستأذنه في الحج فأذن له وأعطاه عشرين ألف درهم ففرقها في أصحابه ومضى وقال لهم اتبعوني متفرقين ففعلوا فاجتمع معه منهم نحو من مائتي فارس، فسار بهم إلى عين التمر وحصر عاملها وأخذ ما معه من المال وفرقه في أصحابه.
وسار، فلقي عاملا آخر ومعه مال على ثلاثة بغال فأخذها وسار فلحقه عسكر قد سيره هرثمة خلفه فعاد إليهم وقاتلهم فهزمهم ودخل البرية وقسم المال بين أصحابه وانتشر جنده فلحق به من تخلف عنه من أصحابه وغيرهم فكثر جمعه فسار نحو دقوقا وعليها أبو ضرغامة العجلي في سبعمائة فارس فخرج إليه فلقيه فاقتتلوا فانهزم أبو ضرغامة ودخل قصر دقوقا فحصره أبو السرايا وأخرجه من القصر بالأمان وأخذ
303

ما عنده من الأموال.
وسار إلى الأنبار وعليها إبراهيم الشروي مولى المنصور فقتله أبو السرايا وأخذ ما فيها وسار عنها ثم عاد إليها بعد إدراك الغلال فاحتوى عليها ثم ضجر من طول السري في البلاد فقصد الرقة فمر بطوق بن مالك التغلبي وهو يحارب القيسية فأعانه عليهم وأقام معه أربعة أشهر يقاتل على غير طمع إلا للعصبية للربعية على المضرية فظفر طوق وانقادت له قيس.
وسار عنه أبو السرايا إلى الرقة فلما وصلها لقيه محمد بن إبراهيم المعروف بابن طباطبا فبايعه وقال له انحدر أنت في الماء وأسير أنا على البر حتى نوافي الكوفة فدخلاها وابتدأ أبو السرايا بقصر العباس بن موسى بن عيسى فأخذ ما فيه من الأموال والجواهر وكان عظيما لا يحصى وبايعهم أهل الكوفة.
وقيل كان سبب خروجه أن أبا السرايا كان من رجال هرثمة فمطله بأرزاقه فغضب ومضى إلى الكوفة فبايع ابن طباطبا وأخذ الكوفة واستوثق له أهلها وأتاه الناس من نواحي الكوفة والأعراب فبايعوه وكان العامل عليها الحسن بن سهل سليمان بن المنصور فلامه الحسن ووجه زهير بن المسيب الضبي إلى الكوفة فغي عشرة آلاف فارس وراجل فخرج إليه ابن طباطبا وأبو السرايا فواقعوه في قرية شاهي فهزموه واستباحوا عسكره وكانت الوقعة سلخ جمادى الآخرة.
304

فلما كان الغد، مستهل رجب مات محمد بن إبراهيم بن طباطبا فجأة، سمه أبو السرايا؛ وكان سبب ذلك أنه لما غنم ما في عسكر زهير منع عنه أبا السرايا وكان الناس له مطيعين فعلم أبو السرايا أنه لا حكم له معه فسمه فمات وأخذ مكانه غلاما أمرد يقال له محمد بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام فكان الحكم إلى أبي السرايا.
ورجع زهير إلى قصر ابن هبيرة فأقام به ووجه الحسن بن سهل عبدوس بن محمد بن أبي خالد المروروذي في أربعة آلاف فارس فخرج إليه أبو السرايا فلقيه بالجامع لثلاث عشرة ليلة بقيت من رجب فقتل عبدوسا ولم يفلت من أصحابه أحد كانوا بين قتيل وأسير.
وانتشر الطالبيون في البلاد وضرب أبو السرايا الدراهم بالكوفة وسير جيوشه إلى البصرة وواسط ونواحيهما فولي البصرة العباس بن محمد بن عيسى بن محمد الجعفري وولي مكة الحسين بن الحسن بن علي بن الحسين بن علي الذي يقال له الأفطس وجعل إليه الموسم وولي اليمن إبراهيم بن موسى بن جعفر وولي فارس إسماعيل بن موسى بن جعفر وولي الأهواز زيد بن موسى بن جعفر فسار إلى البصرة وغلب عليها وأخرج عنها العباس بن محمد الجعفري ووليها مع الأهواز ووجه أبو السرايا محمد بن سليمان بن داود بن الحسن بن الحسن بن علي إلى المدائن وأمره أن يأتي بغداد من الجانب الشرقي فأتي المدائن وأقام بها وسير عسكره إلى ديالى.
وكان بواسط عبد الله بن سعيد الحرشي واليا عليها من قبل الحسن بن
305

سهل، فانهزم من أصحاب أبي السرايا إلى بغداد فلما رأى الحسن أن أصحابه لا يلبثون لأصحاب أبي السرايا أرسل إلى هرثمة يستدعيه لمحاربة أبي السرايا وكان قد سار إلى خراسان مغاضبا للحسن فحضر بعد امتناع وسار إلى الكوفة في شعبان.
وسير الحسن إلى المدائن وواسط علي بن سعيد فبلغ الخبر أبا السرايا وهو بقصر ابن هبيرة فوجه جيشا إلى المدائن فدخلها أصحابه في رمضان وتقدم حتى نزول بنهر صرصر وجاء هرثمة فعسكر بإزائه بينهما النهر وسار علي بن سعيد في شوال إلى المدائن فقاتل بها أصحاب أبي السرايا فهزمهم واستولى على المدائن.
وبلغ الخبر أبا السرايا فرجع من نهر صرصر إلى قصر ابن هبيرة فنزل به وسار هرثمة في طلبه فوجد جماعة من أصحابه فقتلهم ووجه رؤوسهم إلى الحسن بن سهل ونازل هرثمة أبا السرايا فكانت بينهما وقعة قتل فيها جماعة من أصحاب أبي السرايا فانحاز إلى الكوفة ووثب من معه من الطالبين على دور بني العباس ومواليهم واتباعهم فهدموها وانتهبوها وخربوا ضياعهم وأخرجوهم من الكوفة وعملوا أعمالا قبيحة واستخرجوا الودائع التي كانت لهم عند الناس.
وكان هرثمة يخبر الناس أنه يريد الحج وحبس من قدم للحج من خراسان وغيرها ليكون هو أمير الموسم ووجه إلى مكة داود بن عيسى بن موسى بن عيسى بن محمد بن
علي بن عبد الله بن عباس رضي الله عنهم وكان الذي وجهه أبو السرايا إلى مكة حسين بن حسن الأفطس بن علي بن علي بن الحسين بن علي ووجه أيضا إلى المدينة محمد بن سليمان بن داود بن الحسن بن علي فدخلها ولم يقاتله بها أحد.
306

ولما بلغ داود بن عيسى توجيه أبي السرايا حسين بن حسن إلى مكة لإقامة الموسم جمع أصحاب بني العباس ومواليهم.
وكان مسرور الكبير قد حج في تلك السنة في مائتي فارس، فتعبأ للحرب وقال لداود أقم إلى شخصك أو بعض ولدك وأنا أكفيك، فقال لا أستحل القتال في المحرم والله لئن دخلوها من هذا الفج لأخرجن من غيره.
وانحاز داود إلى ناحية المشاش وافترق الجمع الذي كان داود بن عيسى جمعهم وخاف مسرور أن يقاتلهم فخرج في أثر داود راجعا إلى العراق وبقي الناس بعرفة فصلى بهم رجل من عرض الناس بغير خطبة ودفعوا من عرفة بغير إمام.
وكان حسين بن حسن بسرف يخاف دخول مكة حتى خرج إليه قوم أخبروه أن مكة قد خلت من بني العباس فدخلها في عشرة أنفس فطافوا بالبيت وبين الصفا والمروة ومضوا إلى عرفة فوقفوا ليلا ثم رجعوا إلى مزدلفة فصلى بالناس الصبح وأقام بمنى إلى الحج وبقي بمكة إلى أن انقضت السنة وكذلك أيضا أقام محمد بن سليمان بالمدينة حتى انقضت السنة.
وأما هرثمة فإنه نزل بقرية شاهي ورد الحاج واستدعى منصور بن المهدي إليه وكاتب رؤساء أهل الكوفة.
وأما علي بن سعيد فإنه توجه من المدائن إلى واسط فأخذها وتوجه إلى البصرة فلم يقدر على أخذها هذه السنة.
307

ذكر قوة نصر بن شبث العقيلي
وفيها قوى أمر نصر بن شبث العقيلي بالجزيرة وكثر جمعه وحصر حران وأتاه نفر من شيعة الطالبيين فقالوا قد وترت بني العباس وقتلت رجالهم وأعلقت عنهم العرب فلو بايعت لخليفة كان أقوى لأمرك.
فقال من أي الناس فقالوا تبايع لبعض آل علي بن أبي طالب، فقال أبايع [بعض] أولاد السوداوات فيقول إنه هو خلقني ورزقني قالوا فبايع لبعض بني أمية؛ فقال أولئك قد أدبر أمرهم والمدبر لا يقبل أبدا ولو سلم على رجل مدبر لأعداني إدباره وانما هواي في بني العباس وانما حاربتهم محاماة عن العرب لأنهم يقدمون عليهم العجم.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة توفي الحسين بن مصعب بن زريق أبو طاهر بن الحسين بخراسان وكان طاهر بالرقة وحضر المأمون جنازته ونزل الفضل بن سهل قبره ووجه المأمون إلى طاهر يعزيه بأبيه.
وفيها توفي أبو عون معاوية بن أحمد الصمادحي مولى آل جعفر بن أبي طالب الفقيه المغربي الزاهد.
وفيها توفي سهل بن شاذويه أبو هارون وعبد الله بن نمير الهمداني الكوفي وكنيته أبو هاشم وهو والد محمد بن عبد الله بن نمير شيخ البخاري ومسلم.
308

200
ثم دخلت سنة مائتين
ذكر هرب أبي السرايا
في هذه السنة هرب أبو السرايا من الكوفة وكان قد حصره فيها ومن معه هرثمة وجعل يلازم قتالهم حتى ضجروا وتركوا القتال فلما رأى ذلك أبو السرايا تهيأ للخروج من الكوفة فخرج في ثمانمائة فارس ومعه محمد بن محمد بن زيد ودخلها هرثمة فأمن أهلها ولم يتعرض إليهم وكان هربه سادس عشر المحرم وأتى القادسية وسار منها إلى السوس بخوزستان فلقي مالا قد حمل من الأهواز فأخذه وقسمه بين أصحابه.
وأتاه الحسن بن علي المأموني فأمره بالخروج من عمله وكره قتاله فأبى أبو السرايا إلا قتاله فقاتله فهزمه المأموني وجرحه وتفرق أصحابه وسار هو ومحمد بن محمد وأبو الشوك نحو منزل أبي السرايا برأس عين فلما انتهوا إلى جلولاء ظفر بهم حماد الكندغوش فأخذهم وأتى بهم الحسن بن سهل وهو بالنهروان فقتل أبا السرايا وبعث رأسه إلى المأمون ونصبت جثته على جسر بغداد وسير محمد بن محمد إلى المأمون.
309

وأما هرثمة فإنه أقام بالكوفة يوما واحدا وعاد واستخلف بها غسان بن أبي الفرج أبا إبراهيم بن غسان صاحب حرس والي خراسان.
وسار علي بن سعيد إلى البصرة فأخذها من العلويين وكان بها زيد بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسن بن علي عليه السلام وهو الذي يسمى زيد النار وإنما سمي بها لكثرة ما أحرق بالبصرة من دور العباسيين وأتباعهم وكان إذا أتى رجل من المسودة أحرقه وأخذ أموالا كثيرة من أموال التجار سوى أموال بني العباس فلما وصل علي إلى البصرة استأمنه زيد فأمنه وأخذه وبعث إلى مكة والمدينة واليمن جيشا فأمرهم بمحاربة من بها من العلويين وكان بين خروج أبي السرايا وقتله عشرة أشهر.
ذكر ظهور إبراهيم بن موسى بن جعفر
في هذه السنة ظهر إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد وكان بمكة فلما بلغه خبر أبي السرايا وما كان منه سار إلى اليمن وبها إسحاق بن موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس عاملا للمأمون فلما بلغه قرب إبراهيم من صنعاء سار منها نحو مكة فأتى المشاش فعسكر بها،
310

واجتمع بها إليه جماعة من أهل مكة هربوا من العلويين واستولى إبراهيم على اليمن وكان يسمى الجزار لكثرة من قتل باليمن من الناس وسبى وأخذ الأموال.
ذكر ما فعله الحسين بن الحسن الأفطس بمكة والبيعة لمحمد بن جعفر
وفي هذه السنة في المحرم نزع الحسين كسوة الكعبة وكساها كسوة أخرى أنفذها أبو السرايا من الكوفة من القز وتتبع ودائع بني العباس واتباعهم وأخذها وأخذ أموال الناس بحجة الودائع فهرب الناس منه وتطرق أصحابه إلى قلع شبابيك الحرم وأخذ ما على الأساطين من الذهب وهو نزر حقير، وأخذ ما في خزانة الكعبة فقسمه مع كسوتها على أصحابه.
فلما بلغه قتل أبي السرايا ورأى تغير الناس لسوء سيرته وسيرة أصحابه أتى هو وأصحابه إلى محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي عليه السلام وكان شيخا محببا للناس مفارقا لما عليه كثير من أهل بيته من قبح السيرة وكان يروي العلم عن أبيه جعفر رضي الله عنه وكان الناس يكتبون عنه وكان يظهر زهدا فلما أتوه قالوا له تعلم منزلتك من الناس فهلم نبايع لك بالخلافة فإن فعلت لم يختلف عليك رجلان.
فامتنع من ذلك فلم يزل به ابنه علي والحسين بن الحسن الأفطس حتى غلباه على رأيه وأجابهم وأقاموه في ربيع الأول فبايعوه بالخلافة وجمعوا
311

له الناس، فبايعوه طوعا وكرها وسموه أمير المؤمنين فبقي شهورا وليس له من الأمر شيء وابنه علي والحسين بن الحسن وجماعتهم أسوأ ما كانوا سيرة وأقبح فعلا فوثب الحسين بن الحسن على امرأة من بني فهر كانت جميلة وأرادها على نفسها فامتنعت منه فأخاف زوجها وهو من بني مخزوم حتى توارى عنه ثم كسر باب دارها وأخذها إليه مدة ثم هربت منه.
ووثب علي بن محمد بن جعفر على غلام أمرد وهو ابن قاضي مكة يقال له إسحاق بن محمد وكان جميلا فأخذه قهرا. فلما رأى ذلك أهل مكة ومن بها من المجاورين اجتمعوا بالحرم واجتمع معهم جمع كثير فأتوا محمد بن جعفر فقالوا له لنخلعنك أو لنقتلنك أو لتردن الينا هذا الغلام فأغلق بابه وكلمهم من شباك وطلب منهم الأمان ليركب إلى ابنه ويأخذ الغلام وحلف لهم أنه لم يعلم بذلك فأمنوه فركب إلى ابنه وأخذ الغلام منه وسلمه إلى أهله.
ولم يلبثوا إلا يسيرا حتى قدم إسحاق بن موسى العباسي من اليمن فنزل المشاش واجتمع الطالبيون إلى محمد بن جعفر وأعلموه وحفروا خندقا وجمعوا الناس من الاعراب وغيرهم فقاتلهم إسحاق ثم كره القتال فسار نحو العراق فلقيه الجند الذين أنفذهم هرثمة إلى مكة ومعهم الجلودي ورجاء بن جميل فقالوا لإسحاق ارجع معنا ونحن نكفيك القتال فرجع معهم فقاتلوا الطالبيين فهزموهم فأرسل محمد بن جعفر يطلب الأمان فأمنوه ودخل العباسيون مكة في جمادى الآخرة وتفرق الطالبيون من مكة.
وأما محمد بن جعفر فسار نحو الجحفة فأدركه بعض موالي بني
312

العباس، فأخذ جميع ما معه، وأعطاه دريهمات يتوصل بها فسار نحو بلاد جهينة فجمع بها وقاتل هارون بن المسيب والي المدينة عند الشجرة وغيرها عدة دفعات فانهزم محمد وفقئت عينه بنشابة وقتل من أصحابه بشر كثير ورجع إلى موضعه.
فلما انقضى الموسم طلب الأمان من الجلودي ومن رجاء بن جميل وهو ابن عمة الفضل بن سهل فأمنه وضمن له الرجاء عن المأمون وعن الفضل الوفاء بالأمان فقبل ذلك فأتي مكة العشر بقين من ذي الحجة فخطب الناي وقال إنني بلغني أن المأمون مات وكانت له في عنقي بيعة وكانت فتنة عمت الأرض فبايعني الناس ثم إنه صح عندي أن المأمون حي صحيح وأنا أستغفر الله من البيعة وقد خلعت نفسي من البيعة التي بايعتموني عليها كما خلعت خاتمي هذا من إصبعي فلا بيعة لي في رقابكم ثم نزل وسار سنة احدى ومائتين إلى العراق فسيره الحسن بن سهل إلى المأمون بمرو فلما سار المأمون إلى العراق صحبه فمات بجرجان على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر ما فعله إبراهيم بن موسى
وفي هذه السنة وجه إبراهيم بن موسى بن جعفر من اليمن رجلا من ولد عقيل بن أبي طالب في جند ليحج بالناس فسار العقيلي حتى أتى
313

بستان ابن عامر فبلغه ان أبا إسحاق المعتصم قد حج في جماعة من القواد فيهم حمدويه بن علي بن عيسى بن ماهان وقد استعمله الحسن بن سهل على اليمن فعلم العقيلي أنه لا يقوى لهم فأقام ببستان ابن عامر فاجتازت به قافلة من الحاج ومعهم كسوة الكعبة وطيبها فأخذ أموال التجار وكسوة الكعبة وطيبها وقدم الحجاج مكة عراة منهوبين.
فاستشار المعتصم أصحابه فقال الجلودي أنا أكفيك ذلك فانتخب مائة رجل وسار بهم إلى العقيلي فصحبهم فقاتلهم فانهزموا وأسر أكثرهم وأخذ كسوة الكعبة وأموال التجار إلا ما كان مع من هرب قبل ذلك فرده وأخذ الأسرى فضرب كل واحد منهم عشرة أسواط وأطلقهم فرجعوا إلى اليمن يستطعمون الناس فهلك أكثرهم في الطريق.
ذكر مسير هرثمة إلى المأمون وقتله
لما فرغ هرثمة من أبي السرايا رجع فلم يأت الحسن بن سهل وكان بالمدائن بل سار على عقرقوف حتى أتى البردان والنهروان وأتى خراسان فاتته كتب المأمون في غير موضع لأن يأتي إلى الشام والحجاز فأبى وقال لا أرجع حتى ألقى أمير المؤمنين إدلالا منه عليه ولما يعرف من نصيحته له ولآبائه، وأراد أن يعرف المأمون ما يدبر عليه الفضل
314

ابن سهل وما يكتم عنه من الأخبار وأنه لا يدعه حتى يرده إلى بغداد ليتوسط سلطانه.
فعلم الفضل بذلك فقال للمأمون إن هرثمة قد أثقل عليك البلاد والعباد ودس أبا السرايا وهو من جنده ولو أراد لم يفعل ذلك وقد كتبت إليه عدة كتب ليرجع إلى الشام والحجاز فلم يفعل وقد جاء مشاقا يظهر القول الشديد فإن أطلق هذا كان مفسدة لغيره.
فتغير قلب المأمون، وأبطأ هرثمة إلى ذي القعدة فلما بلغ مرو خشي أن يكتم قدومه عن المأمون فأمر بالطبول فضربت لكي يسمعها المأمون فسمعها فقال ما هذا قالوا
هرثمة قد أقبل يرعد ويبرق فظن هرثمة أن قوله المقبول فأمر المأمون بإدخاله فلما دخل عليه قال له المأمون مالأت أهل الكوفة العلويين ووضعت أبا السرايا ولو شئت أن تأخذهم جميعا لفعلت.
فذهب هرثمة يتكلم ويعتذر فلم يقبل منه فأمر به فديس بطنه وضرب أنفه وسحب من بين يديه وقد أمر الفضل الأعوان بالتشديد عليه فحبس فمكث في الحبس أياما ثم دس إليه من قتله وقالوا مات.
ذكر وثوب الحربية ببغداد
وفيها كان الشغب ببغداد بين الحربية والحسن بن سهل وكان سبب ذلك أن الحسن بن سهل كان بالمدائن حين شخص هرثمة إلى المأمون فلما
315

اتصل ببغداد وسمع ما صنعه المأمون بهرثمة بعث الحسن بن سهل إلى علي بن هشام وهو والي بغداد من قبله أن ماطل الجند من الحربية أرزاقهم ولا تعطهم.
وكانت الحربية قبل ذلك حين خرج هرثمة إلى خراسان قد وثبوا وقالوا لا نرضى حتى نطرد الحسن وعماله عن بغداد فطردوهم وصيروا إسحاق بن موسى الهادي خليفة المأمون ببغداد واجتمع أهل الجانبين على ذلك ورضوا به.
فدس الحس إليهم وكاتب قوادهم حتى يبعثوا من جانب عسكر المهدي فحول الحربية إسحاق إليهم وأنزلوه على دجيل. وجاء زهير بن المسيب فنزل في عسكر المهدي وبعث الحسن علي بن هشام في الجانب الآخر وهو ومحمد بن أبي خالد ودخلوا بغداد ليلا في شعبان وقاتل الحربية ثلاثة إلى على قنطرة الصراة ثم وعدهم رزق سنة اشهر إذا أدركت الغلة فسألوه تعجيل خمسين درهما لكل رجل منهم ينفقونها في رمضان فأجابهم إلى ذلك.
وجعل يعطيهم فلم يتم العطاء حتى أتاهم خبر زيد بن موسى من البصرة المعروف بزيد النار وكان هرب من الحبس وكان عند علي بن سعيد فخرج بناحية الأنبار هو وأخو أبي السرايا في ذي القعدة سنة مائتين فبعثوا إليه فأتي به إلى علي بن هشام وهرب علي بن هشام بعد جمعة من الحربية ونزل بصرصر لأنه لم يف لهم بإعطاء الخمسين إلى أن جاء الأضحى وبلغهم خبر هرثمة وأخرجوه.
وكان القيم بأمر هرثمة محمد بن أبي خالد لأن علي بن هشام كان يستخف به فغضب من ذلك وتحول إلى الحربية فلم يقربهم علي فهرب إلى صرصر ثم هزموه من صرصر.
316

وقيل كان السبب في شغب الأبناء أن الحسن بن سهل جلد عبد الله بن علي بن ماهان الحد فغضب الأبناء وخرجوا.
ذكر فتنة بالموصل
وفيها وقعت الفتنة بالموصل بين بني سامة وبني ثعلبة فاستجارت ثعلبة بمحمد بن الحسين الهمداني وهو أخو علي بن الحسين أمير البلد فأمرهم بالخروج إلى البرية ففعلوا فتبعهم بنو سامة في ألف رجل إلى العوجاء وحصروهم فيها فبلغ الخبر عليا ومحمدا ابني الحسين فأرسلا الرجال إليهم واقتتلوا قتالا شديدا فقتل من بني سامة جماعة وأسر جماعة منهم ومن بني تغلب وكانوا معهم فحبسوا في البلد.
ثم ان أحمد بن عمر بن الخطاب العدوي التغلبي أتى محمدا وطلب إليه المسالمة فأجابه إليه وصلح الأمر وسكنت الفتنة.
ذكر الغزاة إلى الفرنج
وفي هذه السنة جهز الحكم أمير الأندلس جيشا مع عبد الكريم بن مغيث إلى بلاد الفرنج بالأندلس فسار بالعساكر حتى دخل بأرضهم وتوسط
317

بلادهم فخربها ونهبها وهدم عدة من حصونها، [وكان] كلما أهلك موضعا وصل إلى غيره فاستنفد خزائن ملوكهم.
فلما رأى ملكهم فعل المسلمين ببلادهم كاتب ملوك جميع تلك النواحي مستنصرا بهم فاجتمعت إليه النصرانية من كل أوب فأقبل في جموع عظيمة بإزاء عسكر المسلمين بينهم نهر فاقتتلوا قتالا شديدا عدة إلى المسلمون يريدون أن يعبروا النهر وهم يمنعون المسلمين من ذلك.
فلما رأى المسلمون ذلك تأخروا عن النهر فعبر المشركون إليهم فاقتتلوا أعظم قتال فانهزم المشركون إلى النهر فأخذهم السيف والأسر فمن عبر النهر سلم وأسر جماعة من جنودهم وملوكهم وقمامصتهم وعاد الفرنج ولزموا جانب النهر يمنعون المسلمين من جوازه فبقوا كذلك ثلاثة عشر يوما يقتتلون كل يوم فجاءت الأمطار وزاد النهر وتعذر جوازه فقفل عبد الكريم عنهم سابغ ذي الحجة.
ذكر خروج البربر بناحية مورور
وفي هذه السنة خرج خارجي من البربر بناحية مورور من الأندلس ومعه جماعة فوصل كتاب العامل إلى الحكم بخبره فأخفى الحكم خبره واستدعى من ساعته قائدا من قواده فأخبره بذلك سرا وقال له سر من ساعتك إلى هذا الخارجي فائتني برأسه والا فرأسك وعوضه وأنا قاعد
318

مكاني هذا إلى أن تعود.
فسار القائد إلى الخارجي فلما قاربه سأل عنه فأخبر عنه باحتياط كثير واحتراز شديد ثم ذكر قول الحكم إن قتلته وإلا فرأسك عوضه فحمل نفسه على سبيل سلوك المخاطرة فأعمل الحيلة حتى دخل عليه وقتله وأحضر [رأسه] عند الحكم فرآه بمكانه ذلك لم يتغير منه وكانت غيبته أربعة إيام.
فلما رأى رأسه أحسن إلى ذلك القائد ووصله وأعلى محله.
(مورور بفتح الميم وسكون الواو وضم الراء وسكون الواو الثانية وآخره راء ثانية).
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة وجه المأمون رجاء بن أبي الضحاك لإحضار علي بن موسى بن جعفر بن محمد وأحصي في هذه السنة ولد العباس فبلغوا ثلاثة وثلاثين ألفا ما بين ذكر وأنثى، وفي هذه السنة قتلت الروم ملكها اليون وكان ملكه سبع سنين وستة أشهر وملكوا عليهم ميخائيل بن جورجيش ثانية، وفيها خالف علي بن أبي سعيد على الحسن بن سهل فبعث المأمون إليه بسراج الخادم وقال له إن وضع يده في يد الحسن بن سهل أو شخص إلى بمرو وإلا
319

فاضرب عنقه.
فسار إليه سراج فأطاع وتوجه إلى المأمون بمرو مع هرثمة وفيها قتل المأمون يحيى بن عامر بن إسماعيل لأنه قال له يا أمير الكافرين. وحج بالناس هذه السنة المعتصم وفيها توفي القاضي أبو البختري وهب بن وهب ومعروف الكرخي الزاهد وصفوان بن عيسى الفقيه والمعافى بن داود الموصلي وكان فاضلا عابدا.
320

201
ثم دخلت سنة احدى ومائتين
ذكر ولاية منصور بن المهدي ببغداد
وفي هذه السنة أراد أهل بغداد أن يبايعوا المنصور بن المهدي بالخلافة فامتنع عن ذلك فأرادوه على الإمرة عليهم على أن يدعو للمأمون بالخلافة فأجابهم إليه.
وكان سبب ذلك ما ذكرناه قبل من إخراج أهل بغداد علي بن هشام من بغداد فلما اتصل إخراجه من بغداد بالحسن بن سهل سار من المدائن إلى واسط وذلك أول سنة احدى ومائتين فلما هرب إلى واسط تبعه محمد بن أبي خالد بن الهندوان مخالفا له وقد تولى القيام بأمر الناس وولي سعيد بن الحسن بن قحطبة الجانب الغربي ونصر بن حمزة بن مالك الجانب الشرقي.
وكان ببغداد منصور بن المهدي والفضل بن الربيع وخزيمة بن خازم وقدم عيسى بن محمد بن أبي خالد من الرقة من عند طاهر في هذه الأيام فوافق أباه على قتال الحسن بن سهل فمضيا ومن معهما إلى قرية أبي قريش قريب واسط ولقيهما في طريقهما عساكر الحسن في غير موضع فهزماهم.
321

ولما انتهى محمد إلى دير العاقول أقام به ثلاثا وزهير بن المسيب مقيم بإسكاف بني الجنيد عاملا للحسن على جوخى وهو يكاتب قواد بغداد فركب إليه محمد وأخذه أسيرا وأخذ كل ماله وسيره أسيرا إلى بغداد وحبسه عند أبيه جعفر.
ثم تقدم محمد إلى واسط ووجه محمد ابنه هارون من دير العاقول إلى النيل وبها نائب للحسن فهزمه هارون وتبعه إلى الكوفة.
ثم سار المنهزمون من الكوفة إلى الحسن بواسط ورجع هارون إلى أبيه وقد استولى على النيل وسار محمد وهارون نحو واسط فسار الحسن عنها ونزل خلفها وكان الفضل بن الربيع مختفيا كما تقدم إلى الآن فلما رأى أن محمدا قد بلغ واسطا طلب منه الأمان فأمنه، وظهر، وسار محمد إلى الحسن على تعبية فوجه إليه الحسن قواده وجنده فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزم أصحاب محمد بعد العصر وثبت محمد حتى جرح جراحات شديدة وانهزموا هزيمة قبيحة وقتل منهم خلق كثير وغنموا مالهم وذلك لسبع بقين من شهر ربيع الأول.
ونزل محمد بفم الصلح وأتاهم الحسن فاقتتلوا فلما جنهم الليل رحل محمد وأصحابه فنزلوا المبارك فأتاهم الحسن فاقتتلوا فلما جنهم الليل ارتحلوا حتى أتوا جبل، فأقاموا بها، ووجه محمد ابنه عيسى إلى عرنايا فأقام بها وأقام محمد بجرجرايا فاشتدت جراحات محمد فحمله ابنه أبو زنبيل إلى بغداد وخلف عسكره لست خلون من ربيع
322

الآخر ومات محمد بن أبي خالد فدفن في داره سرا.
وأتى أبو زنبيل خزيمة بن خازم فأعلمه حال أبيه وأعلم خزيمة ذلك الناس وقرأ عليهم كتاب عيسى بن محمد إليه يبذل فيه القيام بأمر الحرب مقام أبيه فرضوا به وصار مكان أبيه وقتل أبو زنبيل زهير بن المسيب من ليلته ذبحه ذبحا وعلق رأسه في عسكر أبيه.
وبلغ الحسن بن سهل موت محمد فسار إلى المبارك فأقام به وبعث في جمادى الآخرة جيشا له فالتقوا بأبي زنبيل بفم الصراة فهزموه وانحاز إلى أخيه هارون بالنيل فتقدم جيش الحسن إليهم فلقوهم فاقتتلوا ساعة وانهزم هارون وأصحابه فأتوا المدائن ونهب أصحاب الحسن النيل ثلاثة إلى وما حولها من القرى.
وكان بنو هاشم والقواد حين مات محمد بن أبي خالد قالوا نصير بعضنا خليفة ونخلع المأمون فأتاهم خبر هارون وهزيمته فجدوا في ذلك وأرادوا منصور بن المهدي على الخلافة فأبى فجعلوه خليفة للمأمون ببغداد والعراق وقالوا لا نرضى بالمجوسي ابن المجوسي الحسن بن سهل.
وقيل إن عيسى لما ساعده أهل بغداد على حرب الحسن بن سهل علم الحسن أنه لا طاقة له به فبعث إليه وبذل المصاهرة ومائة ألف دينار والأمان له ولأهل بيته ولأهل بغداد وولاية أي النواحي أحب فطلب كتاب المأمون بخطه، وكتب عيسى إلى أهل بغداد أني مشغول بالحرب عن جباية الخراج فولوا رجلا من بني هشام فولوا منصور بن المهدي وقال أنا خليفة أمير المؤمنين المأمون حتى يقدم أو يولي من أحب فرضي به الناس.
323

وعسكر منصور بكلواذي وبعث غسان بن عباد بن أبي الفرج إلى ناحية الكوفة فنزل بقصر ابن هبيرة فلم يشعر غسان إلا وقد أحاط به حميد الطوسي فأخذه أسيرا وقتل من أصحابه وذلك لأربع خلون من رجب.
وسير منصور بن المهدي محمد بن يقطين في عسكر إلى حميد فسار حتى أتى كوثر فلم يشعر بشيء حتى هجم عليه حميد وكان بالنيل فقاتله قتالا شديدا وانهزم ابن يقطين وقتل من أصحابه وأسر وغرق بشر كثير ونهب حميد ما حول كوثى من القرى ورجع حميد إلى النيل وابن يقطين أقام بنهر صرصر؛ وأحصى عيسى بن محمد بن أبي
خالد من في عسكره وكانوا مائة ألف وخمسة وعشرين ألفا بين فارس وراجل فأعطى الفارس أربعين درهما والراجل عشرين درهما.
ذكر أمر المتطوعة بالمعروف
وفي هذه السنة تجردت المتطوعة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وكان سبب ذلك أن فساق بغداد والشطار آذوا الناس أذى شديدا وأظهروا الفسق وقطعوا الطريق وأخذوا النساء والصبيان علانية وكانوا يأخذون ولد الرجل وأهله فلا يقدر أن يمتنع منهم وكانوا يطلبون من الرجل أن يقرضهم أو يصلهم فلا يقدر على الامتناع وكانوا ينهبون القرى
324

لا سلطان يمنعهم ولا يقدر عليهم لأنه كان يغريهم وهم بطانته وكانوا يمسكون المجتازين في الطريق ولا يعدي عليهم أحد وكان الناس معهم في بلاء عظيم.
وآخر أمرهم أنهم خرجوا إلى قطربل وانتهبوها علانية وأخذوا العين والمتاع والدواب فباعوها ببغداد ظاهرا واستعدى أهلها السلطان فلم يعدهم وكان ذلك آخر شعبان.
فلما رأى الناس ذلك قام صلحاء كل ربض ودرب ومشى بعضهم إلى بعض وقالوا إنما في الدرب الفاسق والفاسقان إلى العشرة وقد غلبوكم وأنتم أكثر منهم فلو اجتمعتم لقمعتم هؤلاء الفساق ولعجزوا عن الذي يفعلونه؛ فقام رجل يقال له خالد الدريوش فدعا جيرانه وأهل محلته على أن يعاونوه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فأجابوه إلى ذلك فشد على من يليه من الفساق والشطار فمنعهم وامتنعوا عليه وأرادوا قتاله فقاتلهم فهزموهم وضرب من أخذه من الفساق وحبسهم ورفعهم إلى السلطان إلا أنه كان لا يرى أن يغر على السلطان شيئا.
ثم قام بعده رجل من الحربية يقال له سهل بن سلامة الأنصاري من أهل خراسان ويكنى أبا حاتم فدعا الناس إلى الامر بالمعروف والنهي عن المنكر والعمل بالكتاب والسنة وعلق مصحفا في عنقه وأمر أهل محلته ونهاهم فقبلوا منه ودعا الناس جميعا الشريف والوضيع من بني هاشم وغيرهم فأتاه خلق عظيم فبايعوه على ذلك وعلى القتال معه لمن خالفه وطاف ببغداد وأسواقها؛ وكان قيام سهل لأربع خلون من رمضان وقيام الدريوش قبله بيومين أو ثلاثة.
325

وبلغ خبر قيامهما إلى منصور بن المهدي وعيسى بن محمد بن أبي خالد فكسرهما ذلك لأن أكثر أصحابهما كان الشطار ومن لا خير فيه ودخل منصور بغداد وكان عيسى يكاتب الحسن بن سهل في الأمان فأجابه الحسن إلى الأمان له ولأهل بغداد وأن يعطي جنده وأهل بغداد رزق ستة أشهر إذا أدركت الغلة ورحل عيسى فدخل بغداد لثلاث عشرة ليلة خلت من شوال وتفرقت العساكر فرضي أهل بغداد بما صالح عليه وبقي سهل على ما كان عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ذكر البيعة لعلي بن موسى عليه السلام بولاية العهد
في هذه السنة جعل المأمون علي بن موسى الرضا بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام ولي عهد المسلمين والخليفة من بعده ولقبه الرضا من آل محمد وأمر جنده بطرح السواد ولبس الثياب الخضرة وكتب بذلك إلى الآفاق وكتب الحسن بن سهل إلى عيسى بن محمد بن أبي خالد بعد عوده إلى بغداد يعلمه أن المأمون قد جعل علي بن موسى ولي عهده من بعده.
وذلك أنه نظر في بني العباس وبني علي فلم يجد أحدا أفضل ولا أورع ولا أعلم منه وأنه سماه الرضا من آل محمد وأمره بطرح السواد ولبس الخضرة وذلك لليلتين خلتا من شهر رمضان سنة إحدى ومائتين وأمر محمدا أن يأمر من عنده من أصحابه والجند والقواد وبني هاشم بالبيعة له ولبس الخضرة ويأخذ أهل بغداد جميعا بذلك فدعاهم محمد إلى ذلك فأجاب بعضهم وامتنع بعضهم وقال لا تخرج الخلافة من ولد العباس وإنما هذا من الفضل بن سهل، فمكثوا
326

كذلك أياما وتكلم بعضهم وقالوا نولي بعضنا ونخلع المأمون فكان أشدهم فيه منصور وإبراهيم ابنا المهدي.
ذكر الباعث على البيعة لإبراهيم بن المهدي
وفي هذه السنة في ذي الحجة خاض الناس في البيعة لإبراهيم بن المهدي بالخلافة وخلع المأمون ببغداد.
وكان سبب ما ذكرناه من إنكار الناس لولاية الحسن بن سهل والبيعة لعلي بن موسى فأظهر العباسيون بغداد أنهك قد كانوا بايعوا لإبراهيم بن المهدي لخمس بقين من ذي الحجة ووضعوا يوم الجمعة رجلا يقول إنا نريد أن ندعو للمأمون ومن بعده لإبراهيم ووضعوا من يجيبه بأننا لا نرضى إلا أن تبايعوا لإبراهيم بن المهدي بالخلافة ومن بعده لإسحاق بن موسى الهادي وتخلعوا المأمون ففعلوا ما أمروهم به فلم يصل الناس جمعة وتفرقوا وكان ذلك لليلتين بقيتا من ذي الحجة من السنة.
ذكر فتح جبال طبرستان والديلم
في هذه السنة افتتح عبد الله بن خرداذبه والي طبرستان البلاذر والشيزر من بلاد الديلم وافتتح جبال طبرستان فأنزل شهريار بن
327

شروين عنها وأشخص مازيار بن قارن إلى المأمون وأسر أبا ليلى ملك الديلم.
ذكر ابتداء بابك الخرمي
وفيها تحرك بابك الخرمي في الجاويدانية أصحاب جاويدان بن سهل صاحب البذ وادعى أن روح جاويدان دخلت فيه وأخذ في العبث والفساد وتفسير جاويدان الدائم الباقي ومعنى خرم فرج وهي مقالات المجوس والرجل منهم ينكح أمه وأخته وابنته ولهذا يسمونه دين الفرج ويعتقدون مذهب التناسخ وأن الأرواح تنتقل من حيوان إلى غيره.
ذكر ولاية زيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب أفريقية
وفي هذه السنة سادس ذي الحجة توفي أبو العباس عبد الله بن إبراهيم بن الأغلب أمير إفريقية وكانت إمارته خمس سنين ونحو شهرين.
328

وكان سبب موته أنه حدد على كل فدان في عمله ثمانية عشر دينارا كل سنة فضاق الناس لذلك وشكا بعضهم إلى بعض فتقدم إليه رجل من الصالحين اسمه حفص بن عمر
الجزري مع رجال من الصالحين فنهوه عن ذلك ووعظوه وخوفوه العذاب في الآخرة وسوء الذكر في الدنيا وزوال النعمة فإن الله تعالى اسمه وجل ثناؤه (لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له ومالهم من دونه من وال).
فلم يجبهم أبو العباس عبد الله بن إبراهيم بن الأغلب أمير إفريقية المذكور إلى ما طلبوا فخرجوا من عنده إلى القيروان فقال لهم حفص لو أننا نتوضأ للصلاة ونصلي ونسأل الله تعالى أن يخفف عن الناس ففعلوا ذلك فما لبث إلا خمسة إلى حتى خرجت قرحة تحت أذنه فلم ينشب أن مات منها وكان من أجمل أهل زمانه ولما مات ولي بعده أخوه زيادة الله بن إبراهيم وبقي أميرا رخى البال وادعا والدنيا عنده آمنة.
ثم جهز جيشا في أسطول البحر وكان مراكب كثيرة إلى مدينة سردانية وهي للروم فعطب بعضها بعد أن غنموا من الروم وقتلوا كثيرا فلما عاد من سلم منهم أحسن إليهم زيادة الله ووصلهم.
فلما كان سنة سبع ومائتين خرج عليه زياد بن سهل المعروف بابن الصقلبية وجمع جمعا كثيرا وحصر مدنية باجة فسير إليه زيادة الله العساكر فأزالوه عنها وقتلوا من وافقه على المخالفة.
329

وفي سنة ثمان ومائتين مقل إلى زيادة الله أن منصور بن نصير الطنبذي يريد المخالفة عليه بتونس وهو يسعى في ذلك ويكاتب الجند فلما تحققه سير إليه قائدا اسمه محمد بن حمزة في ثلاثمائة فارس وأمره أن يخفى خبره ويجد السير إلى تونس فلا يشعر به منصور حتى يأخذه فيحمله إليه.
فسار محمد ودخل تونس فلم يجد منصورا بها كان قد توجه إلى قصره بطنبذة فأرسل إليه محمد قاضي تونس ومعه أربعون شيخا يقبحون له الخلاف وينهونه عنه ويأمرونه بالطاعة فساروا إليه واجتمعوا به وذكروا له ذلك فقال منصور ما خالفت طاعة الأمير وأنا سائر معكم إلى محمد ومن معه إلى الأمير ولكن أقيموا معي يومنا هذا حتى معمل له ولمن معه ضيافة.
فأقاموا عنده وسير منصور لمحمد ولمن معه الإقامة الحسنة الكثيرة من الغنم والبقر وغير ذلك من أنواع ما يؤكل فكتب إليه يقول إنني صائر إليك مع القاضي والجماعة فركن محمد إلى ذلك وأمر بالغنم فذبحت وأكل هو ومن معه وشربوا الخمر.
فلما أمسى منصور سجن القاضي ومن معه وسار مجدا فيمن عنده من أصحابه سرا إلى تونس فدخلوا دار الصناعة وفيها محمد وأصحابه فأمر بالطبول فضربت وكبر هو وأصحابه فوثب محمد وأصحابه إلى سلاحهم وقد عمل فيه الشراب وأحاط بهم منصور ومن معه وأقبلت العامة من كل مكان فرجموهم بالحجارة واقتتلوا عامة الليل فقتل من كان مع محمد ولم يسلم منهم إلا من نجا إلى البحر فسبح حتى تخلص وذلك في صفر.
330

وأصبح منصور فاجتمع عليه الجند وقالوا نحن لا نثق بك ولا نأمن أن يخليك زيادة الله ويستميلك بدنياه فتميل إليه فإن أحببت أن نكون معك فاقتل أحدا من أهله ممن عندك فأحضر إسماعيل بن سفيان بن سالم بن عقال وهو من أهل زيادة الله فكان هو العامل على تونس فلما حضر أمر بقتله.
فلما سمع زيادة الله الخبر سير جيشا كثيفا واستعمل عليهم غلبون واسمه الأغلب بن عبد الله بن الأغلب وهو وزير زيادة الله إلى منصور الطنبذي فلما ودعهم زيادة الله تهددهم بالقتل إن انهزموا؛ فلما وصلوا إلى تونس خرج إليهم منصور فقاتلهم فانهزم جيش زيادة الله عاشر ربيع الأول فقال القواد الذين فيه لغلبون لا نأمن زيادة الله على أنفسنا فإن أخذت لنا أمانا حضرنا عنده.
وفارقوه واستولوا على عدة مدن فأخذوها منها باجة والجزيرة وصطفورة ومنير والأربس وغيرها فاضطربت أفريقية واجتمع الجند كلهم إلى منصور وأطاعوه لسوء سيرة زيادة الله كانت معهم.
فلما كثر جمع منصور سار إلى القيروان فحصرها في جمادى الأولى وخندق على نفسه وكان بينه وبين زيادة الله وقائع كثيرة وعمر منصور سور القيروان [فوالاه] أهلها فبقي الحصار عليه أربعين يوما.
ثم إن زيادة الله عبى أصحابه وجمعهم وسار معهم الفارس والراجل فكانوا خلقا كثيرا فلما رآهم منصور راعه ما رأى وهاله ولم يكن يعرف
331

ذلك من زيادة الله لما كان فيه من الوهن فزحف منصور إليه بنفسه أيضا فالتقوا واقتتلوا قتالا شديدا وانهزم منصور ومن معه ومضوا هاربين وقتل منهم خلق كثير وذلك منتصف جمادى الآخرة، وأمر زيادة الله أن ينتقم من أهل القيروان بما جنوه من مساعدة منصور والقتال معه وبما تقدم أولا من مساعدة عمران بن مجالد لما قاتل أباه إبراهيم بن الأغلب فمنعه أهل العلم والدين فكف عنهم وخرب سور القيروان.
ولما انهزم منصور فارقه كثير من أصحابه الذين صاروا معه منهم عامر بن نافع وعبد السلام بن المفرج إلى البلاد التي تغلبوا عليها؛ ثم إن زيادة الله سير جيشا سنة تسع ومائتين إلى مدينة سبيبة واستعمل عليهم محمد بن عبد الله بن الأغلب وكان بها جمع من الجند الذين صاروا مع منصور عليهم عمر بن ناع فالتقوا في العشرين من المحرم واقتتلوا فانهزم ابن الأغلب وعاد هو ومن معه إلى القيروان فعظم الأمر على زيادة الله وجمع الرجال وبذل الأموال.
وكان عيال الجند الذين مع منصور بالقيروان فلم يعرض لهم زيادة الله فقال الجند لمنصور الرأي أن تحتال في نقل العيال من القيروان لنأمن عليهم فسار بهم منصور إلى القيروان وحصر زيادة الله ستة عشر يوما ولم يكن منهم قتال وأخرج الجند نساءهم وأولادهم من القيروان وانصرف منصور إلى تونس ولم يبق زيادة الله من أفريقية كلها إلا قابس والساحل ونفزاوة وطرابلس فإنهم تمسكوا بطاعته.
وأرسل الجند إلى زيادة الله أن ارحل عنا وخل أفريقية ولك
332

الأمان على نفسك ومالك وما ضمه قصرك فضاق به وغمه الأمر فقال له سفيان بن سوادة مكني من عسكرك لاختار منهم مائتي فارس وأسير بهم إلى نفزاوة فقد بلغني أن عامر بن نافع يريد قصدهم فإن ظفرت كان الذي تحب وإن تكن الأخرى عملت برأيك فأمره بذلك فأخذ مائتي فارس وسار إلى نفزاوة فدعا برابرها إلى نصرته فأجابوه وسارعوا إليه واقبل عامر بن نافع في العسكر إليهم فالتقوا واقتتلوا فانهزم عامر ومن معه وكثر القتل فيهم ورجع عامر إلى قسطيلية فجبى أموالها ليلا ونهارا في ثلاثة إلى وساروا عنها واستخلف عليها من يضبطها فهرب منها أيضا خوفا من أهلها فأرسل أهل قسطيلية إلى ابن سوادة وسألوه أن يجيء إليهم فسار إليهم وملك قسطيلية وضبطها.
وقد قيل إن هذه الحوادث المذكورة سنة ثمان وتسع مائتين إنما كانت سنة تسع وعشر ومائتين.
(طنبذة بضم الطاء المهملة وسكون النون وضم الباء الموحدة وبذال معجمة وآخره هاء وصطفورة بفتح الصاد وسكون الطاء وضم الفاء وسكون الواو وآخره هاء وسبيبة بفتح السين المهملة وكسر الباء الموحدة وسكون الياء تحتها نقطتان وفتح الباء الثانية الموحدة وآخره هاء ونفزاوة بالنون والفاء الساكنة وفتح الزاي وبعد الألف واو ثم هاء).
ذكر ما فتحه زيادة الله بن الأغلب من جزيرة صقلية
وما كان فيها من الحروب إلى أن توفى
في سنة اثنتي عشرة ومائتين جهز زيادة الله جيشا في البحر وسيرهم إلى جزيرة صقلية واستعمل عليهم أسد بن الفرات قاضي القيروان،
333

وهو من أصحاب مالك وهو مصنف الأسدية في الفقه على مذهب مالك فلما وصلوا إليها ملكوا كثيرا منها.
وكان سبب إنفاذ الجيش أن ملك الروم بالقسطنطينية استعمل على جزيرة صقلية بطريقا اسمه قسطنطين سنة احدى عشرة ومائتين فلما وصل إليها استعمل على جيش الأسطول إنسانا روميا اسمه فيمي كان حازما شجاعا فغزوا أفريقية وأخذ من سواحلها تجارا ونهب وبقي هناك مديدة.
ثم إن ملك الروم كتب إلى قسطنطين يأمره بالقبض على فيمي مقدم الأسطول وتعذيبه فبلغ الخبر إلى فيمي فأعلم أصحابه فغضبوا له وأعانوه على المخالفة فسار في مراكبه إلى صقلية واستولى على مدينة سرقوسة فسار إليه قسطنطين فالتقوا واقتتلوا فانهزم قسطنطين إلى مدينة قطانية فسير إليه فيمي جيشا فهرب منهم فأخذ وقتل وخوطب فيمي بالملك واستعمل على ناحية من الجزيرة رجلا اسمه بلاطه فخالف على فيمي وعصى واتفق هو وابن عم له اسمه ميخائيل وهو والي مدينة بلزم وجمعا عسكرا كثيرا فقاتلا فيمي وانهزم فاستولى بلاطه على مدينة سرقوسة.
وركب فيمي ومن معه في مراكبهم إلى أفريقية وأرسل إلى الأمير
334

زيادة الله يستنجده ويعده بملك جزيرة صقلية فسير معه جيشا في ربيع الأول سنة اثنتي عشرة ومائتين فوصلوا إلى مدينة مازر من صقلية فساروا إلى بلاطه الذي قاتل فيمي فلقيهم جمع للروم فقاتلهم المسلمون وأمروا فيمي ومن معه أن يعتزلوهم واشتد القتال بين المسلمين والروم فانهزمت الروم وغنم المسلمون أموالهم ودوابهم وهرب بلاطه إلى قلورية فقتل بها.
واستولى المسلمون على عدة حصون من الجزيرة ووصل إلى قلعة تعرف بقلعة الكراث وقد اجتمع إليها خلق كثير فخدعوا القاضي أسد بنت الفرات أمير المسلمين وذلوا له فلما رآهم فيمي مال إليهم وراسلهم أن يثبتوا ويحفظوا بلدهم فبذلوا لأسد الجزية وسألوه أن لا يقرب منهم فأجابهم إلى ذلك وتأخر عنهم أياما فاستعدوا للحصار ودفعوا إليهم ما يحتاجون إليه فامتنعوا عليه وناصبهم الحرب وبث السرايا في كل ناحية فغنموا شيئا كثيرا وافتتحوا عمرانا كثيرة حول سرقوسة وحاصروا سرقوسة برا وبحرا ولحقته الأمداد من أفريقية فسار إليهم والي بلرم في عساكر كثيرة فخندق المسلمون عليهم وحفروا خارج الخندق حفرا كثيرة فحمل الروم عليهم فسقط في تلك الحفر كثير منهم فقتلوا.
وضيق المسلمون على سرقوسة فوصل أسطول من القسطنطينية فيه جمع كثير وكان قد حل بالمسلمين وباء شديد سنة ثلاث عشرة ومائتين،
335

هلك فيه كثير منهم وهلك فيه أميرهم أسد بن الفرات وولي الأمر على المسلمين بعده محمد بن أبي الجواري فلما رأى المسلمون شدة الوباء ووصول الروم تحملوا في مراكبهم ليسيروا فوقف الروم في مراكبهم على باب المرسى فمنعوا المسلمين من الخروج.
فلما رأى المسلمون ذلك أحرقوا مراكبهم وعادوا ورحلوا إلى مدينة ميناو فحصروها ثلاثة إلى وتسلموا الحصن فسار طائفة منهم إلى حصن جرجنت فقاتلوا أهله وملكوه وسكنوا فيه واشتدت نفوس المسلمين بهذا الفتح وفرحوا.
ثم ساروا إلى مدينة قصريانة ومعهم فيمي فخرج أهلها إليه فقبلوا الأرض بين يديه فأجابوه إلى أن يملكوه عليهم وخدعوه ثم قتلوه.
ووصل جيش كثير من القسطنطينية مددا لمن في الجزيرة فتصافوا هم والمسلمون فانهزم الروم وقتل منهم خلق كثير ودخل من سلم قصريانة، وتوفي محمد بن أبي الجواري أمير المسلمين وولي بعده زهير ابن غوث.
ثم إن سرية المسلمين سارت للغنيمة فخرج عليها طائفة من الروم فاقتتلوا وانهزم المسلمون وعادوا من الغد ومعهم جمع العسكر فخرج إليهم الروم وقد اجتمعوا وحشدوا وتصافوا مرة ثانية فانهزم المسلمون أيضا وقتل منهم نحو ألف قتيل وعادوا إلى معسكرهم وخندقوا عليهم
336

فحصرهم الروم ودام القتال بينهم فضاقت الأقوات على المسلمين فعزموا على بيات الروم فعلموا بهم ففارقوا الخيم وكانوا بالقرب منها فلما خرج المسلمون لم يرو أحدا.
وأقبل عليهم الروم من كل ناحية فأكثروا القتل فيهم وانهزم الباقون فدخلوا ميناو ودام الحصار عليهم حتى أكلوا الدواب والكلاب فلما سمع من في مدينة جرجنت من المسلمين ما هم عليه هدموا المدينة وساروا إلى مازر ولم يقدروا على نصرة إخوانهم.
ودام الحال كذلك إلى أن دخلت سنة أربع عشرة ومائتين وقد أشرف المسلمون على الهلاك وإذ قد أقبل أسطول كثير من الأندلس خرجوا غزاة ووصل في ذلك الوقت مراكب كثيرة من أفريقية مددا للمسلمين فبلغت عدة الجميع ثلاثمائة مركب فنزلوا إلى الجزيرة فانهزم الروم عن حصار المسلمين وفرج الله عنهم وسار المسلمون إلى مدينة بلرم فحصروها وضيقوا على من بها فطلب صاحبها الأمان لنفسه ولأهله ولماله فأجيب إلى ذلك وسار في البحر إلى بلاد الروم.
ودخل المسلمون البلد في رجب سنة ست عشرة ومائتين فلم يروا فيه إلا أقل من ثلاثة آلاف إنسان وكان فيه لما حصروه سبعون ألفا وماتوا كلهم وجرى بين المسلمين أهل أفريقية وأهل الأندلس خلف ونزاع ثم اتفقوا وبقي المسلمون إلى سنة تسع عشرة ومائتين، وسار المسلمون إلى مدينة قصريانة فخرج من فيها من الروم فاقتتلوا أشد قتال ففتح الله على المسلمين وانهزم الروم إلى معسكرهم ثم رجعوا في الربيع فقاتلوهم فنصر المسلمون أيضا ثم ساروا سنة عشرين ومائتين وأمرهم
337

محمد بن عبد الله إلى قصريانة فقاتلهم فانهزموا وأسرت امرأة لبطريقهم وابنه وغنموا ما كان في عسكرهم وعادوا إلى بلرم.
ثم سير محمد بن عبد الله عسكرا إلى ناحية طبرمين عليهم محمد بن سالم فغنم غنائم كثيرة ثم عدا عليه بعض عسكره فقتلوه ولحقوا بالروم فأرسل زيادة الله من أفريقية الفضل بم يعقوب عوضا منه فسار في سرية إلى ناحية سرقوسة فأصابوا غنائم كثيرة وعادوا؛ ثم سارت سرية كبيرة فغنمت وعادت فعرض لهم البطريق ملك الروم بصقلية وجمع كثير فتحصنوا من الروم في أرض وعرة وشجر كثيف فلم يتمكن من قتالهم وواقفهم إلى العصر فلما رأى أنهم لا يقاتلونهم عاد عنهم فتفرق أصحابه وتركوا التعبئة.
فلما رأى المسلمون ذلك حملوا عليهم حملة صادقة فانهزم الروم وطعن البطريق وجرح عدة جراحات وسقط عن فرسه فأتاه حماة أصحابه واستنقذوه جريحا وحملوه وغنم المسلمون ما معهم من سلاح ومتاع ودواب فكانت وقعة عظيمة.
وسير زيادة الله من أفريقية إلى صقلية أبا الأغلب إبراهيم بن عبد الله أميرا عليها فخرج إليها فوصل إليها منتصف رمضان فبعث أسطولا، فلقوا جمعا للروم في أسطول، فغنم المسلمون [ما فيه]، فضرب أبو الأغلب رقاب كل من فيه.
338

و بعث آخر إلى قوصرة فظفر بحراقة فيها رجال من الروم ورجل متنصر من أهل إفريقية فأتي بهم فضرب رقابهم.
وسارت سرية أخرى إلى جبل النار والحصون التي في تلك الناحية فأحرقوا الزرع وغنموا وأكثروا القتل.
ثم سيروا أبو الأغلب سنة إحدى وعشرين ومائتين سرية إلى جبل النار أيضا فغنموا غنائم عظيمة حتى بيع الرقيق بأبخس الأثمان وعادوا سالمين.
وفيها جهز أسطولا فساروا نحو الجزائر فغنموا غنائم عظيمة وفتحوا مدنا ومعاقل وعادوا سالمين وفيها سير أبو الأغلب أيضا سرية إلى قسطلياسة فغنموا وسبوا ولقيهم العدو فكانت بينهم حرب استظهر فيها الروم.
وسير سرية إلى مدينة قصريانة فخرج إليهم العدو فاقتتلوا فانهزم المسلمون وأصيب منهم جماعة.
ثم كانت وقعة أخرى بين الروم والمسلمين فانهزم الروم وغنم المسلمون منهم تسعة مراكب كبار برجالها وشلندس فلما جاء الشتاء وأظلم الليل رأى رجل من المسلمين غفلة من أهل قصريانة فقرب منه ورأى طريقا فدخل منه ولم يعلم به أحد ثم انصرف إلى العسكر فأخبرهم فجاؤوا معه فدخلوا من ذلك الموضع وكبروا وملكوا ربضه وتحصن
339

المشركون منهم بحصنه فطلبوا الأمان فأمنوهم وغنم المسلمون غنائم كثيرة وعادوا إلى بلرم.
وفي سنة ثلاث وعشرين ومائتين وصل كثير من الروم في البحر إلى صقلية وكان المسلمون قد حاصروا جفلوذى وقد طال حصارها فلما وصل الروم رحل المسلمون عنها وجرى بينهم وبين الروم الواصلين حروب كثيرة ثم وصل الخبر بوفاة زيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب أمير أفريقية فوهن المسلمون ثم تشجعوا وضبطوا أنفسهم.
(سرقوسة بسين مفتوحة وقاف وواو وسين ثانية وبلرم بفتح الباء الموحدة واللام وتسكين الراء وبعدها ميم وميناو بميم وياء تحتها نقطتان ونون وبعد الألف واو وجرجنت بجيم وراء وجيم ثانية مفتوحة [ونون] وتاء فوقها نقطتان وقصريانة بالقاف والصاد المهملة والراء والياء تحتها نقطتان وبعد الألف نون مشددة وهاء).
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة مات محمد بن محمد صاحب أبي السرايا وفيها أصاب أهل خراسان وأصبهان والري مجاعة شديدة وكثر الموت فيهم؛ وحج بالناس هذه السنة إسحاق بن موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس.
340

202
ثم دخلت سنة اثنتين ومائتين
ذكر بيعة إبراهيم بن المهدي
في هذه السنة بايع أهل بغداد إبراهيم بن المهدي بالخلافة ولقبوه المبارك وكانت بيعته أول يوم من المحرم وقيل خامسه وخلعوا المأمون وبايعه سائر بني هاشم فكان المتولي لأخذ البيعة المطلب بن عبد الله بن مالك فكان الذي سعى في هذا الأمر السندي وصالح صاحب المصلى ونصير الوصيف وغيرهم غضبا على المأمون حين أراد
إخراج الخلافة من ولد العباس ولتركه لباس آبائه من السواد.
فلما فرغ من البيعة وعد الجند رزق بستة أشهر ودافعهم بها فشغبوا عليه فأعطاهم لكل رجل مائتي درهم وكتب لبعضهم إلى السواد بقيمة [بقية] ما لهم حنطة وشعيرا فخرجوا في قبضها فانتهبوا الجميع وأخذوا نصيب السلطان وأهل السواد واستولى إبراهيم على الكوفة والسواد جميعه وعسكر بالمدائن واستعمل على الجانب الغربي من بغداد العباس بن موسى الهادي.
وعلى الجانب الشرقي منها إسحاق بن موسى الهادي.
وخرج عليه مهدي بن علوان الحروري وغلب على طساسيج نهر بوق والراذانين فوجه إليه إبراهيم أبا إسحاق بن الرشيد، وهو المعتصم،
341

في جماعة من القواد فلقوه فاقتتلوا فطعن رجل من أصحابه ابن الرشيد فحامى عنه غلام تركي يقال له أشناس وهزم مهدي إلى حولايا.
وقيل كان خروج مهدي سنة ثلاث ومائتين.
ذكر استيلاء إبراهيم على قصر ابن هبيرة
وكان بقصر ابن هبيرة حميد بن عبد الحميد عاملا للحسن بن سهل ومعه من القواد سعيد بن الساجور وأبو البط وغسان بن أبي الفرج ومحمد بن إبراهيم الأفريقي وغيرهم فكاتبوا إبراهيم على أن يأخذوا له قصر ابن هبيرة وكانوا قد تحرفوا عن حميد وكتبوا إلى الحسن بن سهل يخبرونه أن حميدا يكاتب إبراهيم وكان حميد يكتب فيهم بمثل ذلك فكتب الحسن إلى حميد يستدعيه إليه فلم يفعل خاف أن يسير إليه فيأخذ هؤلاء القواد ماله وعسكره ويسلمونه إلى إبراهيم فلما ألح الحسن عليه بالكتب سار إليه في ربيع الآخر وكتب أولئك القواد إلى إبراهيم لينفذ إليهم عيسى بن محمد بن أبي خالد فوجهه إليهم فانتهبوا ما في عسكر حميد فكان مما أخذوا له مائة بدرة وأخذ ابن حميد جواري أبيه وسار إليه وهو بعسكر الحسن.
ودخل عيسى القصر وتسلمه لعشر خلون من ربيع الآخر فقال حميد للحسن ألم أعلمك لكنك خدعت.
وعاد إلى الكوفة فأخذ أمواله واستعمل عليها العباس بن موسى بن جعفر العلوي وأمره أن يدعو لأخيه علي بن موسى بعد المأمون، وأعانه بمائة
342

آلف درهم وقال له قاتل عن أخيك فإن أهل الكوفة يجيبونك إلى ذلك وأنا معك.
فلما كان الليل خرج حميد إلى الحسن وكان الحسن قد وجه حكيما الحارثي إلى النيل فسار إليه عيسى بن محمد فاقتتلوا فانهزم حكيم فدخل عيسى النيل ووجه إبراهيم إلى الكوفة سعيدا وأبا البط لقتال العباس بن موسى وكان العباس قد دعا أهل الكوفة فأجابه بعضهم.
وأما الغلاة من الشيعة فإنهم قالوا إن كنت تدعونا لأخيك وحده فنحن معك وأما المأمون فلا حاجة لنا فيه فقال إنما أدعو للمأمون وبعده لأخي فقعدوا عنه.
فلما أتاه سعيد وأبو البط ونزلوا قرية شاهي بعث إليهم العباس ابن عمه علي بن محمد بن جعفر وهو ابن الذي بويع له بمكة وبعث معه جماعة منهم أخو أبي السرايا فاقتتلوا ساعة فانهزم علي بن محمد العلوي وأهل الكوفة ونزل سعيد وأصحابه الحضرة.
وكان ذلك ثاني جمادى الأولى ثم تقدموا فقاتلوا أهل الكوفة وخرج إلى شيعة بني العباس ومواليهم فاقتتلوا إلى الليل وكان شعارهم يا أبا إبراهيم يا منصور لا طاعة للمأمون وعليهم السواد وعلى أهل الكوفة الخضرة فلما كان الغد اقتتلوا وكان كل فريق منهم إذا غلب على شيء أحرقه ونهبه فلما رأى ذلك رؤساء أهل الكوفة خرجوا إلى السعيد فسألوه الأمان للعباس وأصحابه فأمنهم على أن يخرجوا من الكوفة فأجابوه إلى ذلك ثم أتوا العباس فأعلموه ذلك فقبل منهم وتحول عن داره،
343

فشغب أصحاب العباس بن موسى على من بقي من أصحاب سعيد وقاتلوهم فانهزم أصحاب سعيد إلى الخندق ونهب أصحاب العباس دور عيسى بن موسى وأحرقوا وقتلوا من ظفروا به.
فأرسل العباسيون إلى سعيد وهو بالحيرة يخبرونه أن العباس بن موسى قد رجع عن الأمان فركب سعيد وأصحابه وأتوا الكوفة عتمة فقتلوا من ظفروا به ممن انتهب وأحرقوا ما معهم من النهب فمكثوا عامة الليل فخرج إليهم رؤساء الكوفة فأعلموهم أن هذا فعل الغوغاء وأن العباس لم يرجع عن الأمان فانصرفوا عنه.
فلما كان الغد دخلها سعيد وأبو البط ونادوا بالأمان ولم يعرضوا إلى أحد وولوا على الكوفة الفضل بن محمد بن الصباح الكندي ثم عزلوه لميله إلى أهل بلده واستعملوا مكانه غسان بن أبي الفرج ثم عزلوه بعد ما قتل أبا عبد الله أخا أبي السرايا واستعملوا الهول ابن أخي سعيد فلم يزل عليها حتى قدمها حميد بن عبد الحميد فهرب الهول.
وأمر إبراهيم بن المهدي عيسى بن محمد أن يسير إلى ناحية واسط على طريق النيل وأمر ابن عائشة الهاشمي ونعيم بن حازم أن يسيرا جميعا ولحق بهما سعيد وأبو البط والإفريقي وعسكروا جميعا بالصيادة قرب واسط عليهم جميعا عيسى بن محمد فكانوا يركبون ويأتون عسكر الحسن بواسط فلا يخرج إليهم منهم أحد وهم متحصنون بالمدينة.
ثم إن الحسن أمر أصحابه بالخروج إليهم لأربع بقين من رجب فاقتتلوا قتالا شديدا إلى الظهر وانهزم عيسى أصحابه حتى بلغوا طرنايا والنيل وغنموا عسكر عيسى وما فيه.
344

ذكر الظفر بسهل بن سلامة
وفي هذه السنة ظفر إبراهيم بن المهدي بسهل بن سلامة المطوعي فحبسه وعاقبه.
وكان سبب ظفره به أن سهلا كان مقيما بغداد يدعو إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فاجتمع إليه عامة أهل بغداد فلما انهزم عيسى أقبل هو ومن معه نحو سهل بن
سلامة لأنه كان يذكرهم بأقبح أعمالهم ويسميهم الفساق فقاتلوه أياما حتى صاروا إلى الدروب وأعطوا أصحابه الدراهم الكثيرة حتى تنحوا عن الدروب فأجابوا إلى ذلك.
فلما كان السبت لخمس بقين من شعبان قصد وه من كل وجه وخذله أهل الدروب لأجل الدراهم التي أخذوها حتى وصل عيسى وأصحابه إلى منزل سهل فاختفى منهم واختلط بالنظارة فلم يروه في منزله فجعلوا عليه العيون فلما كان الليل أخذوه وأتوا به إسحاق بن الهادي فكلمه فقال إنما كانت دعوتي عباسية وإنما كنت أدعو إلى العمل بالكتاب والسنة وأنا على ما كنت أدعوكم إليه الساعة فقالوا له أخرج إلى الناس فقل لهم إن ما كنت أدعوكم إليه باطل فخرج فقال:
أيها الناس! قد علمتم ما كنت أدعوكم إليه من العمل بالكتاب والسنة وأنا أدعوكم إليه الساعة فضربوه وقيدوه وشتموه وسيروه إلى إبراهيم بن المهدي بالمدائن، فلما دخل عليه كلمه به إسحاق بن
345

الهادي فضربه وحبسه وأظهر أنه ق تل خوف ا من الناس لئلا يعلموا مكانه فيخرجوه وكان ما بين خروجه وقبضه اثنا عشر شهرا.
ذكر مسير المأمون إلى العراق وقتل ذي الرياستين
وفي هذه السنة سار المأمون من مرو إلى العراق واستخف على خراسان غسان بن عبادة.
وكان سبب مسيره أن علي بن موسى الرضا أخبر المأمون بما الناس فيه من الفتنة والقتال مذ قتل الأمين وبما كان الفضل بن سهل يستر عنه من أخبار وأن أهل بيته والناس قد نقموا عليه أشياء وأنهمك يقولون مسحور مجنون وأنهم قد بايعوا إبراهيم بن المهدي بالخلافة فقال له المأمون لم يبايعوه بالخلافة وإنما صيروه أميرا يقوم بأمرهم على ما أخبر به الفضل فأعلمه أن الفضل قد كذبه وأن الحرب قائمة بين الحسن بن سهل وإبراهيم والناس ينقمون عليك مكانه ومكان أخيه الفضل ومكاني ومكان بيعتك لي من بعدك.
فقال ومن يعلم هذا قال حلى بن معاذ وعبد العزيز بن عمران وغيرهما من وجوه العسكر فأمر بإدخالهم فدخلوا فسألهم عما أخبره به علي بن موسى ولم يخبروه حتى يجعل لهم الأمان من الفضل أن لا يعرض إليهم.
346

فضمن لهم ذلك وكتب لهم خطه به فأخبروه بالبيعة لإبراهيم بن المهدي وأن أهل بغداد قد سموه الخليفة السني وأنهم يتهمون المأمون بالرفض لمكان علي بن موسى منه وأعلموه بما فيه الناس وبما موه عليه الفضل من أمر هرثمة وأن هرثمة إنما جاءه لينصحه فقتله الفضل وإن لم يتدارك أمره وإلا خرجت الخلافة من يده وأن طاهر بن الحسين قد أبلى في طاعته ما يعلمه فأخرج من الأمر كله وجعل في ولاية من الأرض بالرقة لا يستعان به في شيء حتى ضعف أمره وشغب عليه جنده وأنه لو كان ببغداد لضبط الملك وأن الدنيا قد تفتقت من أقطارها وسألوا المأمون الخروج إلى بغداد فإن أهلها لو رأوك لأطاعوك.
فلما تحقق ذلك أمر بالرحيل فعلم الفضل بالحال فبغتهم حتى ضرب بعضهم وحبس بعضهم ونتف لحى بعضهم فقال علي بن موسى للمأمون في أمرهم فقال أنا أدري ثم ارتحل فلما أتى سرخس وثب قوم بالفضل بن سهل فقتلوه في الحمام وكان قتله لليلتين خلتا من شعبان وكان الذين قتلوه أربعة نفر أحدهم غالب المسعودي الأسود وقسطنطين الرومي وفرج الديلمي وموفق الصقلبي وكان عمره ستين سنة وهربوا فجعل المأمون لمن جاء بهم عشرة آلاف دينار فجاء بهم العباس بن الهيثم الدينوري فقالوا للمأمون أنت أمرتنا بقتله فأمر بهم فضربت رقابهم.
وقيل إن المأمون لما سألهم فمنهم من قال إن علي بن أبي سعيد ابن
347

أخت الفضل بن سهل وضعهم عليه ومنهم من أنكر ذلك فقتلهم ثم أحضر عبد العزيز بن عمران وعليا وموسى وخلقا فسألهم فأنكروا أن يكونوا علموا بشيء من ذلك فلم يقبل منهم وقتلهم وبعث برؤوسهم إلى الحسن بن سهل وأعلمه ما دخل عليه من المصيبة بقتل الفضل وأنه قد صيره مكانه فوصله الخبر في رمضان.
ورحل المأمون إلى العراق فكان إبراهيم بن المدي وعيسى وغيرهما بالمدائن وكان أبو البط وسعيد بالنيل يراوحون القتال ويغادونه وكان المطلب بن عبد الله بن مالك قد عاد من المدائن فاعتل بأنه مريض فأتى بغداد وجعل يدعو في السر إلى المأمون على أن المنصور بن المهدي خليفة المأمون ويخلعون إبراهيم فأجابه منصور بن المهدي وخزيمة بن خازم وغيرهما من القواد وكتب المطلب إلى علي بن هشام وحميد أن يتقدما فينزل حميد نهر صرصر وينزل على النهروان.
فلما علم إبراهيم بن المهدي بذلك عاد عن المدائن نحو بغداد فنزل زندورد منتصف صفر وبعث إلى المطلب ومنصور وخزيمة يدعوهم فاعتلوا عليه فلما رأى ذلك بعث عيسى إليهم فاما منصور وخزيمة فأعطوا بأيديهما وأما المطلب فمنعه مواليه وأصحابه فنادى منادي إبراهيم من أراد النهب فليأت دار المطلب فلما كان وقت الظهر وصلوا إلى داره فنهبوها ونهبوا دور أهله ولم يظفروا به وذلك لثلاث عشرة بقيت من صفر فلما بلغ حميدا وعلي بن هشام الخبر أخذ حميد المدائن ونزلها وقطع الجسر وأقاموا بها وندم إبراهيم حيث صنع بالمطلب ما صنع ثم لم يظفر به.
348

ذكر قتل علي بن الحسين الهمداني
في هذه السنة قتل علي بن الحسين الهمداني وأخوه احمد وجماعة من أهل بيته وكان متغلبا على الموصل.
وسبب قتله انه خرج ومعه جماعة من قومه ومن الأزد فلما نظر إلى رستاق نينوى والمرج قال نعم البلاد لإنسان واحد.
فقال بعض الأزد فما نصنع نحن قال تلحقون بعمان فانتشر الخبر.
ثم أن عليا أخذ رجلا من الأزد يقال له عون بن جبلة فبنى عليه حائطا فمات فيه وظهر خبره فركبت الأزد عليهم السيد بن انس فاقتتلوا واستنصر علي بن الحسين بخارجي يقال له مهدي بن علوان فاتاه فدخل البلد وصلى بالناس ودعا لنفسه واشتدت الخرب وكانت أخيرا على علي بن الحسين وأصحابه فخرجوا عن البلد إلى الحديثة فتبعهم
الأزد إليها فقتلوا عليا وأخاه احمد وجماعة من أهلهما وسار أخوهما محمد إلى بغداد فنجا وعادت الأزد إلى الموصل وغلب السيد عليها وخطب للمأمون وأطاعه.
(الهمداني ههنا نسبة إلى همدان بسكون الميم وبالدال المهملة وهي قبيلة من اليمن).
349

ذكر عدة حوادث
وفيها تزوج المأمون بوران بنت الحسن بن سهل.
وفيها أيضا زوج المأمون ابنته أم حبيب بن علي بن موسى الرضا وزوج ابنته أم الفضل من محمد بن علي الرضا بن موسى.
وحج بالناس هذه السنة إبراهيم بن موسى بن جعفر ودعا لأخيه بعد المأمون بولاية العهد ومضى إلى اليمن وكان حمدويه بن علي بن عيسى بن ماهان قد غلب على اليمن.
وفيها في ربيع الآخر ظهرت حمرة في السماء ليلة السبت رابع عشر ربيع الآخر وبقيت إلى آخر الليل وذهبت الحمرة وبقي عمودان أحمران إلى الصبح.
وفيها توفي أبو محمد يحيى بن المبارك بن المغيرة العدوي اليزيدي المقرئ صاحب وأبي عمرو بن العلاء وإنما قيل له اليزيدي لأنه صحب يزيد بن منصور خال المهدي وكان يعلم ولده.
وفيها توفي والد ذي الرياستين بعد قتل ابنه بستة اشهر وعاشت أمه حتى أدركت عرس بوران ابنة ابنها.
350

203
ثم دخلت سنة ثلاث ومائتين
ذكر موت علي بن موسى الرضى
في هذه السنة مات علي بن موسى الرضا عليه السلام وكان سبب موته انه أكل عنبا فأكثر منه فمات فجأة وذلك في آخر صفر وكان موته بمدينة طوس فصلى المأمون عليه ودفنه عند قبر أبيه الرشيد.
وكان المأمون لما قدمها قد أقام عند قبر أبيه؛ وقيل أن المأمون سمه في عنب وكان علي يحب العنب وهذا عندي بعيد فلما توفي كتب المأمون إلى الحسن بن سهل يعلمه موت علي وما دخل عليه من المصيبة بموته وكتب إلى أهل بغداد وبني العباس والموالي يعلمهم موته وانهم إنما نقموا ببيعته وقد مات ويسألهم الدخول في طاعته فكتبوا إليه أغلظ جواب.
وكان مولد علي بن موسى بالمدينة سنة ثمان وأربعين ومائة.
ذكر قبض إبراهيم بن المهدي على عيسى بن محمد
وفي هذه السنة في آخر شوال حبس إبراهيم بن المهدي عيسى بن محمد بن أبي خالد.
351

وسبب ذلك أن عيسى كان يكاتب حميدا والحسن بن سهل وكان يظفر لإبراهيم الطاعة وكان كلما قال له إبراهيم ليخرج إلى قتال أحمد يعتذر بان الجند يريدون أرزاقهم ومرة يقول حتى تدرك الغلة فلما توثق عيسى بما يريد فارقهم على أن يدفع إليهم إبراهيم بن المهدي يوم الجمعة سلخ شوال.
وبلغ الخبر إبراهيم أبلغه هارون بن محمد بن عيسى وجاء عيسى إلى باب الجسر فقال للناس أني قد سالت حميدا أن لا يدخل عملي ولا ادخل عمله ثم أمر بحفر خندق بباب الجسر وباب الشام.
وبلغ إبراهيم قوله وفعله وكان عيسى قد سأله إبراهيم أن يصلي الجمعة بالمدينة فأجابه إلى ذلك فلما تكلم عيسى بما تكلم حذر إبراهيم وأرسل إلى عيسى يستدعيه فاعتل عليه فتابع الرسل بذلك فحضر عنده بالرصافة فلما دخل عليه عاتبه ساعة وعيسى يعتذر إليه وينكر بعضه فأمر به إبراهيم فضرب وحبس واخذ عدة من قواده وأهله فحبسهم ونجا بعضهم وفيمن نجا خليفته العباس.
ومشى بعض أهله إلى بعض وحرضوا الناس على إبراهيم وكان أشدهم العباس خليفة عيسى وكان هو رأسهم فاجتمعوا وطردوا عامل إبراهيم على الجسر والكرخ وغيره وظهر الفساق والشطار وكتب العباس إلى حميد يسأله أن يقدم عليهم حتى يسلموا إليه بغداد.
352

ذكر خلع إبراهيم بن المهدي
وفي هذه السنة خلع أهل بغداد إبراهيم بن المهدي وكان سبب ذلك ما ذكرنا من قبضه على عيسى بن محمد على ما تقدم فلما كاتب أصحابه ومنهم العباس حميدا بالقدوم عليهم سار حتى أتى نهر صرصر فنزل عنده.
وخرج إليه العباس وقواد أهل بغداد فلقوه وكانوا قد شرطوا عليه أن يعطي كل جندي خمسين درهما فأجابهم إلى ذلك ووعدهم أن يصنع لهم العطاء يوم السبت في الياسرية على أن يدعوا للمأمون بالخلافة يوم الجمعة ويخلعوا إبراهيم فأجابوه إلى ذلك.
ولما بلغ إبراهيم الخبر اخرج عيسى ومن معه من اخوته من الحبس وسأله أن يرجع إلى منزله ويكفيه أمر هذا الجانب فأبى عليه.
فلما كان يوم الجمعة احضر العباس بن محمد بن أبي رجاء الفقيه فصلى بالناس الجمعة ودعا للمأمون بالخلافة وجاء حميد إلى الياسرية فعرض جند بغداد وأعطاهم الخمسين التي وعدهم فسألوه أن ينقصهم عشرة عشرة لما تشاءموا به من علي بن هشام حين أعطاهم الخمسين وقطع العطاء عنهم فقال حميد بل أزيدكم عشرة وأعطيكم ستين درهما لكل رجل.
فلما بلغ ذلك إبراهيم دعا عيسى وسأله أن يقاتل حميدا فأجابه إلى ذلك فخلى سبيله واخذ منه كفلاء وكلم عيسى الجند ووعدهم أن
353

يعطيهم مثل ما أعطاهم حميد، فأبوا ذلك، عليه فعبر إليهم عيسى وقواد الجانب الشرقي ووعد أولئك الجند أن يزيدهم على الستين فشتموه وأصحابه وقالوا لا نريد بإبراهيم فقاتلهم ساعة ثم ألقى نفسه في وسطهم حتى أخذوه شبه الأسير فأخذه بعض قواده فأتى به منزله ورجع الباقون إلى إبراهيم فأخبروه فاغتم لذلك.
وكان المطلب بن عبد الله بن مالك قد اختفى من إبراهيم كما ذكرنا فلما قدم حميد أراد العبور إليه فعلموا به فأخذوه وأحضروه عند إبراهيم فحبسه ثلاثة أيام، ثم خلى عنه لليلة خلت من ذي الحجة.
ذكر اختفاء إبراهيم بن المهدي
وفي هذه السنة اختفى إبراهيم بن المهدي وكان سبب ذلك أن حميدا تحول فنزل عند أرجاء عبد الله بن مالك فلما رأى أصحاب إبراهيم وقواده ذلك تسللوا إليه فصار عامتهم عنده واخذوا له المدائن.
فلما رأى إبراهيم فعلهم اخرج جميع من بقي عنده حتى يقاتلوا فالتقوا على جسر نهر ديالى فاقتتلوا فهزمهم حميد وتبعهم أصحابه حتى دخلوا بغداد وذلك سلخ ذي القعدة.
فلما كان الأضحى اختفى الفضل بن الربيع ثم تحول إلى حميد وجعل الهاشميون والقواد يأتون حميدا واحدا عد واحد فلما رأى ذلك إبراهيم سقط في يديه، وشق عليه؛ وكاتب المطلب حميدا ليسلم إليه
354

ذلك الجانب وكان سعيد بن الساجور وأبو البط وغيرهما يكاتبون علي بن هشام على أن يأخذوا له إبراهيم فلما علم إبراهيم بأمرهم وما اجتمع عليه كل قوم من أصحابه جعل يداريهم فلما جنه الليل اختفى ليلة الأربعاء لثلاث عشرة بقيت من ذي الحجة.
وبعث المطلب إلى حميد يعلمه انه قد أحدق بدار إبراهيم وكتب ابن الساجور إلى علي بن هشام فركب حميد من ساعته من أرحاء عبد الله فأتى باب الجسر وجاء علي بن هشام حتى نزل نهر بين ثم تقدم إلى مسجد كوثر واقبل حميد إلى دار إبراهيم فطلبوه فلم يجدوه فيها فلم يزل إبراهيم متواريا حتى جاء المأمون وبعد ما قدم حتى كان من أمره ما كان.
وكانت أيام إبراهيم سنة واحد عشر شهرا واثني عشر يوما وكان بعده علي بن هشام على شرقي بغداد وحميد على غربيها وكان إبراهيم قد أطلق سهل بن سلامة من الحبس وكان الناس يظنونه قد قتل فكان يدعو في مسجد الرصافة إلى ما كان عليه فإذا جاء الليل يرد إلى حبسه ثم انه أطلقه وخلى سبيله لليلة خلت من ذي الحجة فذهب فاختفى ثم ظهر بعد هرب إبراهيم فقربه حميد وأحسن إليه ورده إلى أهله فلما جاء المأمون أجازه ووصله.
355

ذكر عدة حوادث
في هذه السنة انكسفت الشمس لليلتين بقيتا من ذي الحجة حتى ذهب ضوءها وغاب أكثر من ثلثيها ووصل المأمون إلى همذان في آخر من ذي الحجة وحج بالناس سليمان بن عبد الله سليمان بن علي وكانت بخراسان زلازل عظيمة ودامت مقدار سبعين يوما وكان معظمها ببلخ والجوزجان والفارياب والطالقان وما وراء النهر فخربت البلاد وتهدمت الدور وهلك فيها خلق كثير.
وفيها غلبت السوداء على الحسن بن سهل فتغير عقله حتى شد في الحديد وحبس وكتب القواد إلى المأمون بذلك فجعل على عسكره دينار بن عبد الله وأرسل إليهم يعرفهم انه واصل.
وفيها ظهر بالأندلس رجل يعرف بالولد وخالف على صاحبها فسير إليه جيشا فحصروه بمدينة باجة وكان استولى عليها فضيقوا عليه فملكوها وقيد.
وفيها ولي أسد بن الفرات الفقيه القضاء بالقيروان.
وفيها توفي محمد بن جعفر الصادق بجرجان وصلى عليه المأمون وهو الذي بايعه الناس بالخلافة بالحجاز.
وفيها توفي خزيمة بن خازم التميمي في شعبان وهو من القود المشهورين وقد تقدم من أخباره ما يعرف به محله ويحيى بن آدم بن سليمان وأبو احمد الزبيري ومحمد بن بشير العبدي الفقيه بالكوفة والنضر بن شميل اللغوي المحدث وكان ثقة.
356

204
ثم دخلت سنة أربع ومائتين
ذكر قدوم المأمون بغداد
في هذه السنة قدم المأمون بغداد وانقطعت الفتن وكان قد أقام بجرجان شهرا وجعل يقيم بالمنزل اليوم واليومين والثلاثة وأقام بالنهروان ثمانية أيام فخرج إليه أهل بيته والقواد ووجوه الناس وسلموا عليه.
وكان قد كتب إلى طاهر وهو بالرقة ليوافيه بالنهروان فاتاه بها ودخل بغداد منتصف صفر ولباسه ولباس أصحابه الخضرة فلما قدم بغداد نزل الرصافة ثم تحول ونزل قصره على شاطئ دجلة وأمر القواد أن يقيموا في معسكرهم.
وكان الناس يدخلون عليه في الثياب الخضر وكانوا يخرقون كل ملبوس يرونه من السواد على إنسان فمكثوا بذلك ثمانية أيام فتكلم بنو العباس وقواد أهل خراسان وقيل انه أمر طاهر بن الحسين أن يسأله حوائجه فكان أول حاجة سأله أن يلبس السواد فأجابه إلى ذلك وجلس للناس واحضر سوادا فلبسه ودعا بخلعة سوداء فالبسها طاهرا وخلع
على قواده السواد فعاد الناس إليه وذلك لسبع بقين من صفر.
ولما كان سائرا قال له احمد بن أبي خالد الأحول يا أمير المؤمنين فكرت في هجومنا على أهل بغداد وليس معنا إلا خمسون ألف درهم مع
357

فتنة غلبت قلوب الناس، فكيف يكون حالنا إذا هاج هائج أو تحرك متحرك فقال يا احمد صدقت ولكن أخبرك أن الناس على طبقات ثلاث في هذه المدينة ظالم ولا مظلوم، فأما الظالم فلا يتوقع إلا عفونا وأما المظلوم فلا يتوقع إلا أن ينتصف بنا وأما الذي ليس بظالم ولا مظلوم فبيته يسعه وكان الأمر على ما قال.
ذكر عدة حوادث
وفيها أمر المأمون بمقاسمة أهل السواد على الخمسين وكانوا يقاسمون على النصف واتخذ الفقير المحم وهو عشرة مكاكيك بالمكوك الهاروني كيلا مرسلا.
وفيها واقع يحيى بن معاذ بابك، فلم يظفر واحد منهما بصاحبه؛ وولى المأمون أبا عيسى أخاه الكوفة وصالحا أخاه البصرة واستعمل عبيد الله بن الحسين بن عبيد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب [على] الحرمين وحج بالناس عبيد الله [بن الحسن].
وفيها انحدر السيد بن انس الأزدي من الموصل إلى المأمون فتظلم منه
358

محمد بن الحسن بن صالح الهمداني وذكر أنه قتل اخوته وأهل بيته فأحضره المأمون فلما حضر قال أنت السيد قال أنت السيد يا أمير المؤمنين وأنا ابن انس فاستحسن ذلك فقال أنت قتلت اخوة هذا قال نعم ولو كان معهم لقتلته لأنهم ادخلوا الخارجي بلدك وأعلوه على منبرك وأبطلوا دعوتك فعفا عنه واستعمله على الموصل وكان على القضاء بها الحسن بن موسى الأشيب.
وفي هذه السنة مات الإمام محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه وكان مولده سنة خمسين ومائة والحسن بن زياد اللؤلؤي الفقيه أحد أصحاب أبي حنيفة وأبو داود سليمان بن داود الطيالسي صاحب المسند ومولده سنة ثلاث وثلاثين ومائة وهشام بن محمد السائب الكلبي النسابة وقيل مات سنة سن ومائتين.
وفيها توفي محمد بن عبيد بن أبي أمية المعروف بالطنافسي وقيل سنة خمس ومائتين.
359

205
ثم دخلت سنة خمس ومائتين
ذكر ولاية طاهر خراسان
وفي هذه السنة استعمل المأمون طاهر بن الحسين على المشرق من مدينة السلام إلى أقصى عمل المشرق وكان قبل ذلك يتولى الشرط بجانبي بغداد ومعاون السواد.
وكان سبب ولايته خراسان أن طاهرا دخل على المأمون وهو يشرب النبيذ وحسين الخادم يسقيه فلما دخل طاهر سقاه رطلين وأمره بالجلوس فقال ليس لصاحب الشرطة أن يجلس عند سيده فقال المأمون ذلك في مجلس العامة وأما في مجلس الخاصة فله ذلك فبكى المأمون وتغرغرت عيناه بالدموع فقال طاهر يا أمير المؤمنين لم تبكي لا أبكي الله عينك والله لقد دانت البلاد وأذعن لك العباد وصرت إلى المحبة في كل أمرك قال أبكي لأمر ذكره ذل وستره حزن ولن يخلو أحد من شجن.
وانصرف طاهر فدعا هارون بن جيعونة وقال له أن أهل خراسان يتعصب بعضهم لبعض فخذ معك ثلاثمائة ألف درهم فاعط حسينا الخادم مائتي ألف وكاتبه محمد بن هارون مائة ألف وسله أن يسال المأمون
360

لم بكى ففعل ذلك فلما تغدى المأمون قال اسقني يا حسين فقال لا والله حتى تقول لي لم بكيت حين دخل عليك طاهر فقال وكيف عنين بهذا الأمر حتى سألتني عنه فقال لغمي لذلك قال هو أمر أن خرج من رأسك قتلتك قال يا سيدي ومتى أخرجت لك سرا قال أني ذكرت محمدا أخي وما ناله من الذل فخنقتني العبرة فاسترحت إلى الإفاضة ولن يفوت طاهرا مني ما يكره.
فأخبر حسين طاهرا بذلك فركب طاهر إلى احمد بن أبي خالد فقال له إن الثناء مني ليس برخيص وان المعروف عندي ليس بضائع فغيبني عن عينه فقال له سأفعل ذلك وركب احمد إلى المأمون فلما دخل عليه قال له ما نمت البارحة قال ولم قال لأنك وليت غسان خراسان وهو ومن معه أكلة رأس وأخاف أن تخرج عليه خارجة من الترك فتهلكه فقال لقد فكرت فيما فكرت فيه فمن ترى قال طاهر بن الحسين قال ويلك هو والله خالع قال أنا الضامن له قال فوله فدعا طاهرا من ساعته فعقد له فشخص في يومه فنزل طاهر البلد فأقام شهرا فحمل إليه عشرة آلاف ألف درهم التي تحمل خراسان وسار عن بغداد لليلة بقيت من ذي القعدة.
وقيل كان سبب ولايته أن عبد الرحمن المطوعي جمع جموعا كثيرة بنيسابور ليقاتل بهم الحرورية بغير أمر والي خراسان فتخوفوا أن يكون ذلك أصل عمل عليه وكان غسان بن عباد يتولى خراسان من قبل الحسن بن سهل وهو ابن عمه فلما استعمل طاهر على خراسان كان صارما للحسن بن سهل وسبب ذلك أن الحسن ندبه لمحاربة نصر بن شبث،
361

قال: حاربت خليفة، وسقت الخلافة إلى خليفة وأومر بمثل هذا إنما كان ينبغي أن يتوجه إليه قائد من قوادي وصارمه.
ذكر عدة حوادث
وفيها قدم عبد الله بن طاهر بن الحسين بغداد من الرقة وكان أبوه استخلفه بها وأمره بقتال نصر بن شبث فلما قدم إلى بغداد جعله المأمون على الشرطة بعد مسير أبيه وولى المأمون يحيى بن معاذ الجزيرة وولى عيسى بن محمد بن أبي خالد أرمينية وأذربيجان ومحاربة بابك.
وفيها مات السري بن الحكم بمصر وكان واليها.
وفيها مات داود بن يزيد عامل السند فولاها المأمون بشير بن داود على أن يحمل كل سنة ألف ألف درهم.
وفيها ولى المأمون عيسى بن يزيد الجلودي محاربة الزط وحج بالناس عبيد الله بن الحسن أمير مكة والمدينة.
وفيها زادت دجلة زيادة عظيمة انهدمت المنازل ببغداد وكثر الخراب بها.
وفي هذه السنة توفي يزيد بن هارون الواسطي ومولده سنة تسع عشرة ومائة والحجاج بن محمد الأعور الفقيه وشبابة بن سوار الفزاري الفقيه وعبد الله بن نافع الصائغ ومحاضر بن الموزع وأبو يحيى إبراهيم بن موسى الزيات الموصلي سمع هشام بن عروة وغيره.
362

206
ثم دخلت سنة ست ومائتين
ذكر ولاية عبد الله بن طاهر الرقة
وفي هذه السنة ولى المأمون عبد الله بن طاهر من الرقة إلى مصر وأمره بحرب نصر بن شبث.
وكان سبب ذلك أن يحيى بن معاذ الذي كان المأمون ولاه الجزيرة مات في هذه السنة واستخلف ابنه احمد فاستعمل المأمون عبد الله مكانه فلما أراد توليته أحضره وقال له يا عبد الله استخير الله تعالى منذ شهر وأكثر وأرجو أن يكون قد خار لي ورأيت الرجل يصف ابنه [ليطريه] لرأيه فيه، ورأيتك فوق ما قال أبوك فيك وقد مات يحيى واستخلف ابنه وليس بشيء وقد رأيت توليتك مصر ومحاربة نصر بن شبث.
فقال: السمع والطاعة وأرجو أن يجعل الله لأمير المؤمنين الخيرة وللمسلمين فعقد له وقيل وكانت ولايته سنة خمس ومائتين وقيل سبع ومائتين.
ولما سار أي تخلف على الشرطة إسحاق بن إبراهيم بن الحسين بن مصعب،
363

وهو ابن عمه، ولما استعمله المأمون كتب إليه أبوه طاهر كتابا جمع فيه كل ما يحتاج إليه الأمراء من الآداب والسياسة وغير ذلك وقد أثبت منه أحسنه لما فيه من الآداب والحث على مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم لأنه لا يستغني عنه أحد من ملك وسوقة وهو:
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد، فعليك بتقوى الله وحده لا شريك له وخشيته ومراقبته عز وجل ومزايلة سخطه وحفظ رعيتك في الليل والنهار والزم ما ألبسك الله من العافية بالذكر لمعادك وما أنت سائر إليه موقوف عليه ومسؤول عنه والعمل في ذلك كله بما يعصمك الله عز وجل وينجيك يوم القيامة من عقابه واليم عذابه، فان الله سبحانه وتعالى قد أحسن إليك وأوجب عليك الرأفة بمن استرعاك أمرهم من عباده وألزمك العدل عليهم والقيام بحقه وحدوده فيهم والذب عنهم والدفع عن حريمهم وبيضتهم والحقن لدمائهم والام لسبيلهم وإدخال الراحة عليهم في معايشهم ومؤاخذك بما فرض عليك وموقفك عليه ومسائلك عنه ومثيبك عليه بما قدمت وأخرت ففرغ لذلك فهمك وعقلك ونظرك ولا يشغلك عنه شاغل وانه رأس أمرك وملاك شانك وأول ما يوفقك الله عز وجل به لرشدك.
364

وليكن أول ما تلزم به نفسك وتنسب إليه أفعالك المواظبة على ما افترض الله عز وجل عليك من الصلوات الخمس والجماعة عليها بالناس فات بها في مواقيتها على سننها وفي اسباغ الوضوء لها وافتتاح ذكر الله عز وجل [فيها]، وترتل في قراءتك وتمكن في ركوعك وسجودك وتشهدك وليصدق فيه رأيك ونيتك واحضض عليها جماعة من معك وتحت يدك وآداب عليها فإنها كما قال الله عز وجل: (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر).
ثم اتبع ذلك بالأخذ بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمثابرة على خلافته واقتفاء آثار السلف الصالح من بعده وإذا ورد عليك أمر فاستعن عليه باستخارة الله عز وجل وتقواه ولزوم ما انزل الله عز وجل في كتابه من أمره ونهيه وحلاله وحرامه وائتمام ما جاءت به الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قم فيه بما يحق لله عز وجل عليك ولا تمل من العدل فيما أحببت أو كرهت لقريب من الناس أو بعيد.
وآثر الفقه والدين وحملته وكتاب الله عز وجل والعاملين به فان أفضل ما تزين به المرء الفقه في الدين والطلب له والحث عليه والمعرفة بما يتقرب به إلى الله عز وجل فنه الدليل على الخير كله،
365

والقائد له، والآمر به، والناهي عن المعاصي والموبقات كلها ومع توفيق الله عز وجل واجلالا له ودركا للدرجات العلا في المعاد مع ما في ظهوره للناس من التوقير لأمرك والهيبة لسلطانك والأنسة بك والثقة بعدلك.
وعليك بالاقتصاد في الأمور كلها فليس شيء أبين نفعا ولا أخص أمنا ولا اجمع فضلا منه والقصد داعية إلى الرشد والرشد دليل على التوفيق والتوفيق قائد إلى السعادة وقوام الدين والسنن الهادية بالاقتصاد وآثره ف دنياك كلها ولا تقصر في طلب الآخرة والأعمال الصالحة والسنن المعروفة ومعالم الرشد ولا غاية للاستكثار في البر والسعي إذ كان يطلب به وجه الله تعالى ومرضاته ومرافقة أوليائه في دار كرامته.
واعلم أن القصد في شان الدنيا يورث العز ويحصن من الذنوب وانه لن تحوط لنفسك ومن يليك ولا تستصلح أمورك بأفضل منه فاته واهتد به تتم أمورك وتزد مقدرتك وتصلح خاصتك وعامتك.
وأحسن الظن بالله عز وجل تستقيم لك رعيتك والتمس الوسيلة إليه في الأمور،
366

كلها تستدم به النعمة عليك ولا تتهمن أحدا من الناس فيما توليه من عملك قبل أن تكشف أمره فان إيقاع التهم بالبداء والظنون السيئة بهم مأثم فاجعل من شانك حسن الظن
بأصحابك واطرد عنك سوء الظن بهم وارفضه فيهم يغنك ذلك عن اصطناعهم ورياضتهم ولا يجدن عدو الله الشيطان في أمرك مغمزا فإنه إنما يكتفي بالقليل من وهنك ويدخل عليك من الغم في سوء الظن ما ينغصك لذاذة عيشك.
واعلم انك تجد بحسن الظن قوة وراحة وتكتفي به ما أحببت كفايته من أمورك وتدعو به الناس إلى محبتك والاستقامة في الأمور كلها لك ولا يمنعنك حسن الظن بأصحابك والرأفة برعيتك أن تستعمل المسالة والبحث عن أمورك ولتكن المباشرة لأمور الأولياء والحياطة للرعية والنظر فيما يقيمها ويصلحها والنظر في حوائجهم وحمل مؤناتهم آثر عندك مما سوى ذلك فإنه أقوم للدين وأحيا للسنة.
وأخلص نيتك في جميع هذا وتفرد بتقويم نفسك تفرد من يعلم انه مسؤول عما صنع ومجزي بما أحسن ومأخوذ بما ساء فان الله عز وجل جعل الدين حرزا وعزا ورفع من اتبعه وعززه فسالك بمن تسوسه وترعاه نهج الدين وطريقة الهدى.
وأقم حدود الله عز وجل في أصحاب الجرائم على قدر منازلهم وما استحقوه ولا تعطل ذلك ولا تهاون به ولا تؤخر عقوبة أهل العقوبة، فان في تفريطك في ذلك ما يفسد عليك حسن ظنك، واعتزم
367

على أمرك في ذلك بالسنن المعروفة وجانب البدع والشبهات يسلك لك دينك وتقم لك مروءتك.
وإذا عاهدت عهدا فف به إذا وعدت خيرا فأنجزه واقبل الحسنة وادفع بها واغمض عن عيب كل ذي عيب من رعيتك واشدد لسانك عن قول الكذب والزور وابغض أهله وأقص أهل النميمة فان أول فساد أمورك في عاجلها وآجلها تقريب الكذوب والجراءة على الكذب لان الكذب رأس المآثم والزور والنميمة خاتمها لان النميمة لا يسلم صاحبها وقائلها لا يسلم له صاحب ولا يستتم لمطيعها أمر.
وأحب أهل الصلاح والصدق وأعن الإشراف بالحق واس الضعفاء وصل الرحمن وابتغ بذلك وجه الله تعالى وإعزاز أمره والتمس فيه ثوابه والدار الآخرة واجتنب سوء الأهواء والجور واصرف عنهما رأيك واظهر براءتك في ذلك رعيتك وانعم بالعدل سياستهم وقم بالحق فيهم وبالمعرفة التي تنته بك إلى سبيل الهدى.
واملك نفسك عند الغضب وآثر الوقار والحلم واساك والحدة والطيرة والغرور فيما أنت سبيله وإياك أن تقول أنا مسلط افعل ما أشاء فان ذلك سريع [فيه] إلى نقص الرأي وقلة اليقين بالله عز وجل.
وأخلص لله وحده لا شريك له النية فيه واليقين به واعلم أن الملك لله سبحانه وتعالى يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء ولن تجد تغير
368

النعمة وحلول النقمة إلى أحد أسرع منه إلى حملة النعمة من أصحاب السلطان والمبسوط لهم في الدولة إذا كفروا نعم الله عز وجل وإحسانه واستطالوا بما آتاهم الله عز وجل من فضله.
ودع عنك شره نفسك ولتكن ذخائرك وكنوزك التي تدخر وتكنز البر والتقوى والمعدلة واستصلاح الرعية وعمارة بلادهم والتفقد لأمورهم والحفظ لدمائهم والإغاثة لملهوفهم واعلم أن الأموال إذا كثرت وذخرت في الخزائن لا تنمو وإذا كانت في صلاح الرعية وإعطاء حقوقهم وكف مؤنة عنهم ربت وزكت ونمت وصلحت به العامة وتزينت به الولاية وطاب به الزمان واعتقد فيه العز والمنعة، فليكن كنز خزائنك تفريق الأموال في عمارة الإسلام وأهله ووفر منه على أولياء أمير المؤمنين قبلك حقوقهم وأوف رعيتك من ذلك حصصهم وتعهد ما يصلح أمورهم ومعاشهم فإنك إذا فعلت ذلك قرت النعمة عليك واستوجبت المزيد من الله عز وجل وكنت بذلك على جباية خراجك وجمع أموال رعيتك وعملك أقدر وكان الجميع لما شملهم من عدلك وإحسانك أسلس لطاعتك وأطيب نفسا بكل ما أردت، واجهد نفسك فيما حددت لك في هذا الباب ولتعظم حسنتك فيه وإنما بقي من المال ما انفق في سبيل الله واعرف للشاكرين شكرهم وأثبهم عليه.
وإياك أن تنسبك الدنيا وغرورها هول الآخرة فتتهاون بما يحق عليك، فان التهاون يورث التفريط، والتفريط يورث البوار، وليكن عملك لله،
369

عزوجل وارج الثواب فيه فان الله سبحانه قد أسبغ عليك نعمته وأسبغ لديك فضله واعتصم بالشكر وعليه فاعتمد يزدك الله خيرا وإحسانا فان الله عز وجل يثيب بقدر شكر الشاكرين وسيرة المحسنين.
ولا تحقرن ذنبا ولا تمالئن حاسدا ولا ترحمن فاجرا ولا تصلن كفروا ولا تداهنن عدوا ولا تصدقن نماما ولا تأمنن غدارا ولا توالين فاسقا ولا تبتغين عاديا ولا تحمدن مرائيا ولا تحقرن إنسانا ولا تردن سائلا فقيرا ولا تجيبن باطلا ولا تلاحظن مضحكا ولا تخلفن وعدا ولا ترهقن هجرا ولا تركبن سفها ولا تظهرن غضبا ولا تأسن مدحا ولا تمشين مرحا ولا تفرطن في طلب الآخرة ولا تدفع الأنام عتابا ولا تغمضن عن ظالم رهبة منه أو محاباة ولا تطلبن ثواب الآخرة في الدنيا.
وأكثر مشاورة الفقهاء واستعمل نفسك بالحلم وخذ عن أهل التجارب وذوي العقل والريا والحكمة ولا تدخلن في مشورتك أهل الذمة والنحل ولا تسمعن لهم قولا فان ضررهم أكثر من منفعتهم وليس شيء أسرع فسادا لما استقبلت فيه أمر رعيتك من الشح واعلم انك إذا كنت حريصا كنت كثير الأخذ قليل العطية وإذا كنت كذلك لم يستقم لك أمرك إلا قليلا فان رعيتك إنما تقعد على محبتك بالكف عن أموالهم وترك
370

الجور عليهم وابتدئ من صفا لك من أوليائك بالإفضال عليهم وحسن العطية لهم واجتنب الشح واعلم انه أول ما عصى الإنسان به ربه وان العاصي بمنزلة خزي وتدبر قول الله عز وجل: (ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون).
واجعل للمسلمين كلهم من بينك حظا ونصيبا وأيقن أن الجود من أفضل أعمال العباد فاعدده لنفسك خلقا وسهل طريق الجود بالحق وارض به عملا ومذهبا.
وتفقد أمور الجند في دواوينهم ومكاتبهم وادرر عليهم أرزاقهم ووسع عليهم في معايشهم يذهب الله عز وجل بذلك فاقتهم فيقوى لك أمرهم وتزيد به قلوبهم في طاعتك
وأمرك خلوصا وانشراحا.
وحسب ذي السلطان من السعادة أن يكون على جنده ورعيته رحمة في عدله وحيطته وانصافه وعنايته وشفقته وبره وتوسيعه فزايل مكروه إحدى البليتين باستشعار فضيلة الباب الآخر ولزوم العمل به تلق إن شاء الله تعالى نجاحا وصلاحا وفلاحا.
واعلم أن القضاء [بالعدل] من الله تعالى بالمكان الذي ليس [يعدل] به شيء من الأمور لأنه ميزان الله الذي يعتدل عليه أحوال الناس في الأرض وبإقامة العدل في القضاء والعمل تصلح أحوال الرعية وتأمن السبل وينتصف المظلوم ويأخذ الناس حقوقهم وتحسن المعيشة ويؤدي حق الطاعة ويرزق الله
371

العافية والسلامة ويقوم الدين وتجرى السنن والشرائع على مجاريها.
واشتد في أمر الله عز وجل وتورع عن القصف وامض لإقامة الحدود واقلل العجلة وابعد عن الضجر والقلق واقنع بالقسم وانتفع بتجربتك وانتبه في صمتك وسدد في منطقك وانصف الخصم وقف عند الشبهة وأبلغ في الحجة ولا يأخذك في أحد من رعيتك محاباة ولا محاماة ولا لوم لائم وتثبت وتأن وراقب وانظر الحق على نفسك فتدبر وتفكر واعتبر وتواضع لربك وارأف بجميع الرعية وسلط الحق على نفسك.
ولا تسرعن إلى سفك دم فان الدماء من الله عز وجل بمكان عظيم انتهاكا لها بغير حقها؛ وانظر هذا الخراج الذي استقامت عليه الرعية وجعله الله للإسلام عزا ورفعة ولاله توسعة ومنعة ولعدوه وعدوهم كبتا وغيظا ولأهل الكفر من معانديهم ذلا وصغارا فوزعه بين أصحابه بالحق والعدل والتسوية والعموم فيه ولا ترفعن منه شيئا عن شريف لشرفه ولا عن غنى لغناه ولا عن كاتب ولا عن أحد من خاصتك وحاشيتك ولا تأخذن منه فوق الاحتمال له ولا تكلف أمرا فيه شطط واحمل الناس كلهم على مر الحق فان ذلك اجمع لألفتهم وألزم لرضا العامة.
واعلم انك جعلت بولايتك خازنا وحافظا وراعيا، وإنما
372

سمي أهل عملك رعيتك لأنك راعيهم وقيمهم تأخذ منهم ما أعطوك من عفوهم ومقدرتهم وتنفذه في قوام أمرهم وصلاحهم وتقويم أودهم فاستعمل عليهم ذوي الرأي والتدبير والتجربة والخبرة بالعمل والعلم بالسياسة والعفاف ووسع عليهم في الرزق فان ذلك من الحقوق اللازمة لك فيما تقلدت واسند إليك ولا يشغلك عنه شاغل ولا يصرفك عنه صارف فإنك متى آثرته وقمت فيه بالواجب استدعيت به زيادة النعمة من ربك وحسن الأحدوثة في عملك وأحرزت به المحبة من رعيتك وأعنت على الصلاح ودرت الخيرات في بلدك وفشت العمارة بناحيتك وظهر الخصب في كورك وكثر خراجك وتوفرت أموالك وقويت بذلك على ارتباط جندك وارضاء العامة بإفاضة العطاء فيهم من نفسك وكنت محمود السياسة مرضى العدل في ذلك عند عدوك وكنت في أمورك كلها ذا عدل وآلة وقوة وعدة فنافس في ذلك ولا تقدم عليه شيئا تحمد فيه مغبة أمرك إن شاء الله تعالى.
واجعل في كل كورة من عملك أمينا يخبرك أخبار عمالك ويكتب إليك بسيرتهم وأعمالهم حتى كأنك مع كل عامل فيعمله معاين لأموره كلها فان أردت أن تأمرهم بأمر فانظر في عواقب ما أردت من ذلك فان رأيت السلامة فيه والعافية ورجوت فيه حسن الدفاع والصنع فامضه وإلا فتوقف عنه وراجع أهل البصيرة والعلم به ثم خذ فيه
373

عدته، فإنه ربما نظر الرجل في أمر من أموره قدره واتاه على ما يهوى فأغواه ذلك فأعجبه فان لم ينظر في عواقبه أهلكه ونقض عليه أمره فاستعمل الحزم في كل ما أردت وباشره بعد عون الله عز وجل بالقوة وأكثر في استخارة ربك في جميع أمورك وافرغ من عمل يومك ولا تؤخره لغدك وأكثر مباشرته بنفسك فان لغد أمورا وحوادث تلهيك عن عمل يومك الذي أخرت.
واعلم أن اليوم إذا مضى ذهب بما فيه وإذا أخرت عمله اجتمع عليك أمور يومين فيشغلك ذلك حتى تعرض عنه وإذا أمضيت لكل يوم عمله أرحت نفسك وبدنك وأحكمت أمور سلطانك.
وانظر أحرار الناس وذوي السن منهم ممن تستيقن صفاء طويتهم وشهدت مودتهم لك ومظاهرتهم بالنصح والمخالصة على أمرك فاستخلصهم وأحسن إليهم.
وتعاهد أهل البيوتات ممن قد دخلت عليهم الحاجة فاحتمل مؤنتهم وأصلح حالهم حتى لا يجدوا لخلتهم مسا وافرد نفسك بالنظر في أمور الفقراء والمساكين ومن لا يقدر على رفع مظلمة إليك والمحتقر الذي لا علم له بطلب حقه فسل عنه أحفى مسالة ووكل بأمثاله أهل الصلاح من رعيتك ومرهم برفع حوائجهم وحالاتهم إليك لتنظر فيها بما يصلح الله به أمرهم.
وتعاهد ذوي البأساء وأيتامهم وأراملهم واجعل لهم أرزاقا من بيت
374

المال اقتداء بأمير المؤمنين أعزه الله في العطف عليهم والصلة لهم ليصلح الله بذلك عيشهم ويرزقك به بركة وزيادة واجر للإضراب من بيت المال وقدم حملة القرآن منهم والحافظين لأكثره في الجرائد على غيرهم، وانصب لمرضى المسلمين دورا تؤويهم وقواما يرفقون بهم وأطباء يعالجون أسقامهم وأسعفهم بشهواتهم ما لم يؤد لك إلى سرف في بيت المال.
واعلم أن الناس إذا أعطوا حقوقهم وفضل أمانيهم لم يرضهم ذلك ولم تطب أنفسهم دون رفع حوائجهم إلى ولاتهم طمعا في نيل الزيادة وفضل الرفق منهم وربما تبرم المتصفح لأمور الناس لكثرة ما يرد عليه ويشغل فكره وذهنه قليله عما يناله به من مؤنة ومشقة وليس من يرغب في العدل ويعرف محاسن أموره في العاجل وفضل ثواب الآجل كالذي يستثقل بما يقربه إلى الله تعالى ويلتمس رحمته.
وأكثر الاذن للناس عليك وابرز لهم وجهك وسكن لهم حواسك واخفض لهم جناحك واظهر لهم بشرك ولن لهم في المسالة والمنطق واعطف عليهم بجودك وفضلك.
وإذا أعطيت فاعط بسماحة وطيب نفس والتماس للصنيعة والأجر من غير تكدير ولا امتنان فان العطية على ذلك تجارة مربحة إن شاء الله تعالى.
375

واعتبر بما ترى من أمور الدنيا ومن مضى قبلك من أهل السلطان والرياسة في القرون الخالية والأمم البائدة ثم اعتصم في أحوالك كلها بأمر الله والوقوف عند محبته والعمل بشريعته وسنته وإقامة دينه وكتابه واجتنب ما فارق ذلك وخالف ما دعا إلى سخط الله عز وجل.
واعرف ما تجمع عمالك من الأموال وينفقون منها ولا تجمع حراما ولا تنفق إسرافا.
وأكثر مجالسة العلماء، ومشاورتهم، ومخالطتهم، وليكن هواك اتباع السنن وإقامتها وايثار مكارم الأمور ومعاليها وليكن أكرم دخلائك وخاصتك عليك من إذا رأى عيبا فيك لم تمنعه هيبتك عن إنهاء ذلك إليك في سرك وإعلامك وما فيه من النقص فان أولئك انصح أوليائك ومظاهريك لك وانظر عمالك الذين بحضرتك وكتابك فوقت لكل رجل منهم في كل يوم وقتا يدخل فيه عليك بكتبه ومؤامراته وما عنده من حوائج عمالك وأمور كورك ورعيتك ثم فرغ لما يورده عليك من ذلك سمعك وبصرك وفهمك وعقلك وكرر النظر فيه والتدبر له فما كان موافقا للحق والحزم فامضه واستخر الله عز وجل فيه وما كان مخالفا لذلك فاصرفه إلى التثبت فيه والمسالة عنه.
ولا تمتن على رعيتك ولا غيرهم بمعروف تؤتيه إليهم ولا تقبل من أحد منهم إلا الوفاء والاستقامة والعون في أمور أمير المؤمنين ولا تضعن المعروف إلا على ذلك وتفهم كتابي إليك وأكثر النظر فيه والعمل به.
376

واستعن بالله على جميع أمورك، واستخره فان الله عز وجل مع الصلاح وأهله، وليكن أعظم سيرتك وأفضل عيشك ما كان فيه لله عز وجل رضا ولدينه نظاما ولأهله عزا وتمكينا وللذمة وللملة عدلا وصلاحا وانا اسأل الله أن يحسن عونك وتوفيقك ورشدك وكلاءتك والسلام.
فما رأى الناس هذا الكتاب تنازعوه وكتبوه وشاع أمره وبلغ المأمون خبره فدعا به فقرئ عليه فقال ما أبقى أبو الطيب يعني طاهرا شيئا من أمر الدنيا والدين والتدبير والرأي والسياسة وإصلاح الملك والرعية وحفظ السلطان وطاعة الخلفاء وتقويم الخلافة إلا وقد احكم وأوصى به وأمر المأمون فكتب به إلى جميع العمال في النواحي فسار عبد الله إلى عمله فاتبع ما أمر به وعهد إليه وسار بسيرته.
ذكر موت الحكم بن هشام
وفي هذه السنة مات الحكم بن هشام بن عبد الرحمن صاحب الأندلس لأربع بقين من ذي الحجة وكانت بيعته في صفر سنة ثمانين ومائة وكان عمره اثنتين وخمسين سنة وكنيته أبو العاص وهو لام ولد وكان طويلا أسمر، نحيفا، وكان له تسعة عشر ذكرا وله شعر جيد، وهو وأول من
377

جند بالأندلس الأجناد المرتزقين وجمع الأسلحة والعدد واستكثر من الحشم والحواشي وارتبط الخيول على بابه وشابه الجبابرة في أحواله، واتخذ المماليك وجعلهم في المرتزقة فبلغت عدتهم خمسة لآلاف مملوك وكانوا يسمون الخرس العجمة ألسنتهم.
وكانوا يوما على باب قصره.
وكان يطلع على الأمور بنفسه وما قرب منها وبعد، وكان له نفر من ثقات أصحابه يطالعونه بأحوال الناس فيرد عنهم المظالم وينصف المظلوم وكان شجاعا مقداما مهيبا وهو الذي وطا لعقبه الملك بالأندلس وكان يقرب الفقهاء وأهل العلم.
ذكر ولاية ابنه عبد الرحمن
لما مات الحكم بن هشام قام بالملك بعده ابنه عبد الرحمن ويكنى أبا المطرف واسم أمه حلاوة وكان بكر والده بطليطلة أيام كان أبوه الحكم يتولاها لأبيه هشام ولد لسبعة اشهر وجد ذلك بخط أبيه.
وكان جسيما وسيما حسن الوجه، فلما ولي خرج عليه عم أبيه عبد الله البلنسي وطمع بموت الحكم وخرج من بلنسية يريد قرطبة،
378

فتجهز له عبد الرحمن فلما بلغ ذلك عبد الله خاف وضعفت نفسه فرجع إلى بلنسية ثم مات في أثناء ذلك سريعا ووقى الله ذلك الطرف شره.
فلما مات نقل عبد الرحمن أولاده وأهله إليه بقرطبة وخلصت الإمارة بالأندلس لولد هشام بن عبد الرحمن.
ذكر عدة حوادث
وفيها عزل الحسن بن موسى الأشيب عن قضاء الموصل فانحدر إلى بغداد وتولى القضاء بها علي بن أبي طالب الموصلي.
وفيها ولى المأمون داود بن ماسحور محاربة الزط وأعمال البصرة وكور دجلة واليمامة والبحرين.
وفيها كان المد عظيما غرق فيه السواد وكسكر وقطيعة أم جعفر وهلك فيه من الغلات كثير.
وفيها نكب بابك الخرمي عيسى بن محمد بن أبي خالد، وحج بالناس هذه السنة عبيد الله بن الحسن العلوي وهو أمير الحرمين.
وفيها غزا المسلمون من أفريقية جزيرة سردانية فغنموا وأصابوا من الكفار وأصيب منهم ثم عادوا.
وفيها توفي الهيثم بن عدي الطائي الإخباري وكان عابدا ضعيفا في
379

الحديث وعبد الله بن عمرو بن عثمان بن أبي أمية الموصلي وهو من أصحاب سفيان الثوري.
وفيها توفي محمد بن المستنير المعروف بقطرب النحوي أخذ النحو من سيبويه.
وفيها توفي أبو عمرو إسحاق بن مرار الشيباني اللغوي:
(مرار بكسر الميم وبراءين مخففتين).
380

207
ثم دخلت سنة سبع ومائتين
ذكر خروج عبد الرحمن بن احمد باليمن
في هذه السنة خرج عبد الرحمن بن احمد بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم ببلاد عك في اليمن يدعو إلى الرضا من آل محمد.
وكان سبب خروجه أن العمال باليمن أساءوا السيرة فيهم فبايعوا عبد الرحمن هذا فلما بلغ المأمون ذلك وجه إليه دينار بن عبد الله في عسكر كثيف وكتب معه بأمانه فحضر دينار الموسم وحج.
ثم سار إلى اليمن فبعث إلى عبد الرحمن بأمانه فقبله ودخل في طاعة المأمون ووضع يده في يد دينار فخرج به إلى المأمون فمنع المأمون عند ذلك الطالبين من الدخول عليه وأمرهم بلبس السواد وذلك لليلتين بقيتا من ذي القعدة.
ذكر وفاة طاهر بن الحسين
وفي هذه السنة في جمادى الأولى مات طاهر بن الحسين من حمى أصابته وانه وجد في فراشه ميتا.
381

وقال كلثوم بن ثابت بن أبي سعيد كنت على بريد خراسان فلما كانت سنة سبع ومائتين حضرت الجمعة فصعد طاهر المنبر فخطب فلما بلغ إلى ذكر الخليفة امسك عن الدعاء له وقال اللهم اصلح أمة محمد بما أصلحت به أولياءك واكفنا مؤنة من بغى علينا وحشد فيها بلم الشعث وحقن الدماء وإصلاح ذات البين.
قال: فقلت في نفسي أنا أول مقتول لأني لا اكتم الخبر قال فانصرفت فاغتسلت غسل الموتى وتكفنت وكتبت إلى المأمون فلما كان العصر دعاني وحدث به حادث في جفن عينه وسقط ميتا فخرج إلى ابنه طلحة قال هل كتبت بما كان قلت: نعم! قال: فاكتب بوفاته فكتبت بوفاته وبقيام طلحة بأمر الجيش فوردت الخريطة على المأمون بخلعه فدعا احمد بن أبي خالد فقال سر فائت بطاهر كما زعمت وضمنت فقال أبيت الليلة؟ فقال لا فلم يزل حتى اذن له في المبيت.
ووافت الخريطة الأخرى ليلا بموته فدعا فقال قد مات طاهر فمن ترى قال ابنه طلحة قال اكتب بتوليته! فكتب بذلك فأقام طلحة واليا على خراسان في أيام المأمون سبع سنين ثم توفي وولي عبد الله خراسان ولما ورد موت طاهر على المأمون قال لليدين وللفم الحمد لله الذي قدمه وأخرنا وكان طاهر أعور وفيه يقول بعضهم:
(يا ذا اليمينين وعين واحدة * نقصان عين ويمين زائدة)
382

يعني أن لقبه ذا اليمينين وكانت كنيته أبا الطيب، وقد قيل أن طاهرا لما مات انتهب الجند بعض خزائنه فقام يأمرهم سلام الأبرش الخصي وأعطاهم رزق ستة اشهر.
وقيل استعمل المأمون على عمله جميعه ابنه عبد الله بن طاهر فسير إلى خراسان أخاه طلحة وكان عبد الله بالرقة على حرب نصر بن شبث فلما توجه طلحة إلى خراسان سير المأمون إليه احمد بن أبي خالد ليقوم بأمره فعبر احمد إلى ما وراء النهر وافتتح أشروسنة واسر كاوس بن صارخره وابنه الفضل وبعث بهما إلى المأمون ووهب طلحة لأحمد بن أبي خالد ثلاثة آلاف ألف درهم وعروضا بألفي ألف درهم ووهب لإبراهيم بن العباس كاتب احمد خمسمائة ألف درهم.
ذكر ما كان بالأندلس في هذه السنة
وفي هذه السنة وقع عبد الرحمن بن الحكم صاحب الأندلس بجند البصرة وأهلها وهي الوقعة [المعروفة] بوقعة بالس (!).
وكان سببها أن الحكم كان قد بلغه عن عامل اسمه ربيع انه ظلم أبناء أهل الذمة فقبض عليه وصلبه قبل وفاته فلما توفي وولي ابنه عبد الرحمن سمع الناس بصلب ربيع فاقبلوا إلى قرطبة من النواحي يطلبون الأموال التي
383

كان ظلمهم بها، ظنا منهم أنها ترد إليهم وكان أهل البيرة أكثرهم طلبا وإلحاحا فيه ولبوا فبعث إليهم عبد الرحمن من يفرقهم ويسكنهم فلم يقبلوا ودفعوا من أتاهم فخرج إليهم جمع من الجند وأصحاب عبد الرحمن فقاتلوهم فانهزم جند البيرة ومن معهم وقتلوا قتلا ذريعا ونجا الباقون منهزمين ثم طلبوا بعد ذلك فقتلوا كثيرا منهم.
وفيها ثارت بمدينة تدمير فتنة بين المضرية واليمانية فاقتتلوا بلورقة وكان بينهم وقعة تعرف بيوم المضارة قتل منهم ثلاثة آلاف رجل ودامت الحرب بينهم سبع سنين فوكل بكفهم ومنعهم يحيى بن عبد الله بن خالد وسيره في جميع الجيش فكانوا إذا أحسوا بقرب يحيى تفرقوا وتركوا القتال وإذا عاد عنهم رجعوا إلى الفتنة والقتال حتى عيي أمرهم.
وفيها كان بالأندلس مجاعة شديدة وذهب فيها كثير وبلغ المد في بعض البلاد ثلاثين دينارا.
(تدمير بالتاء فوقها نقطتان والدال المهملة والياء تحتها نقطتان ثم راء).
ذكر عدة حوادث
وفيها غلا السعر بالعراق حتى بلغ القفيز من الحنطة بالهاروني أربعين درهما إلى الخمسين.
384

وفيها ولي محمد بن حفص طبرستان والرويان ودنباوند؛ وحج بالناس أبو عيسى بن الرشيد.
وفيها أمر المأمون السيد بن أبي انس والي الموصل يقصد بني شيبان وغيرهم من العرب لإفسادهم في البلاد فسار إليهم وكبسهم بالدسكرة فقتلهم ونهب أموالهم وعاد.
وفيها توفي وهب بن جرير الفقيه وعمر بن حبيب العدوي القاضي، وعبد الصمد بن عبد الوارث بن سيعد وعبد العزيز بن ابان القرشي قاضي واسط وجعفر بن عون بن
جعفر بن عمرو بن حريث المخزومي الفقيه وبشر بن عمر الزاهد الفقيه وكثير بن هشام وأزهر بن سعيد السمان وأبو النضر هشام بن القاسم الكناني.
وفيها توفي محمد بن عمر بن واقد الواقدي وكان عمره ثمانيا وسبعين سنة وكان عالما بالمغازي واختلاف العلماء وكان يضعف في الحديث.
وفيها توفي محمد بن أبي رجاء القاضي وهو من أصحاب أبي يوسف صاحب أبي حنيفة.
وفيها توفي محمد بن أبي عبد الله بن عبد الأعلى بالمعروف بابن كناسة وهو ابن أخت إبراهيم بن أدهم وكان عالما بالعربية والشعر وأيام الناس.
وفيها توفي يحيى بن زياد أبو زكريا الفراء النحوي الكوفي وأبو غانم الموصلي وزيد بن علي بن أبي خداش الموصلي وهو من أصحاب المعافى كثير الرواية عنه.
385

208
ثم دخلت سنة ثمان ومائتين
في هذه السنة سار الحسن بن الحسين بن مصعب من خراسان إلى كرمان فعصى بها فسار إليه احمد بن أبي خالد فأخذه واتى به المأمون فعفا عنه وفيها استقصى إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة وفيها عزل محمد بن عبد الرحمن المخزومي عن قضاء عسكر المهدي ووليه بشر بن الوليد الكندي فقال بعضهم:
(يا أيها الرجل الموحد ربه * قاضيك بشر بن الوليد حمار)
(ينفي شهادة من يدين بما به * نطق الكتاب وجاءت الآثار)
(ويعد عدلا من يقول بأنه * شيخ يحيط بجسمه الأقطار)
وفيها مات موسى بن الأمين والفضل بن الربيع في ذي القعدة وحج بالناس صالح بن الرشيد.
وفيها هلك اليسع أبي القاسم صاحب سجلماسة فولى أهلها على أنفسهم أخاه المنتصر بن أبي القاسم واسول المعروف بمدرار وقد تقدم ذكرهم.
وفيها سير عبد الرحمن بن الحكم صاحب الأندلس جيشا إلى بلاد المشركين، واستعمل عليه عبد الكريم بن عبد الواحد بن مغيث فساروا [إلى] ألية
386

والقلاع فنهبوا بلاد الية وأحرقوها وحصروا عدة من الحصون ففتحوا بعضها وصالحه بعضها على مال وإطلاق الأسرى من المسلمين فغنم أموالا جليلة القدر واستنقذوا من أسارى المسلمين وسبيهم كثيرا فكان ذلك في جمادى الآخرة وعادوا سالمين.
وفيها توفي عبد الله بن عبد الرحمن الأموي المعروف بالبلنسي صاحب بلنسية من الأندلس وقد تقدم من أخباره مع أخبار هشام ابن أخيه الحكم بن هشام كثير.
وفيها توفي عبد الله بن أبي بكر بن حبيب السهمي الباهلي ويونس بن محمد المؤدب والقاسم بن الرشيد وسعيد بن تمام بالبصرة وعبد الله بن جعفر بن سليمان بن علي والحسن بن موسى الأشيب وقد كان ليتولى قضاء طبرستان فمات بالري.
وتوفي علي بن المبارك الأحمر النحوي صاحب الكسائي وقيل توفي في سنة ست وثمانين [ومائة].
387

ثم دخلت سنة تسع ومائتين
ذكر الظفر بنصر بن شبث
وفي هذه السنة حصر عبد الله بن طاهر نصر بن شبث بكيسوم وضيق عليه حتى غلب الأمان فقال محمد بن جعفر العامري قال المأمون لثمامة بن أشرس ألا تدلني على رجل من أهل الجزيرة له عقل وبيان يؤدي عني ما أوجهه إلى نصر؟
قال: بلى يا أمير المؤمنين محمد بن جعفر العامري فأمر بإحضاري فحضرت فكلمني بكلام امرني أن أبلغه نصرا وهو بكفر عزون بسروج فأبلغته نصرا فأذعن وشرط شروطا منها أن لا يطأ بساطه فلم يجبه المأمون إلى ذلك وقال ما باله ينفر مني؟
قلت: لجرمه وما تقدم من ذنبه.
قال: افتراه احكم جرما من الفضل بن الربيع ومن عيسى بن محمد بن أبي خالد؟
اما الفضل فاخذ قوادي وأموالي وسلاحي وجميع ما أوصى به
388

الرشيد لي، فذهل به إلى محمد أخي وتركني بمرو فريدا وحيدا وسلمني وافسد علي أخي حتى كان من أمره ما كان فكان أشد علي من كل شيء وأما عيسى بن أبي خالد فإنه طرد خليفتي من مدينتي ومدينة آبائي وذهب بخراجي وفيئي وأخرب علي داري واقعد إبراهيم خليفة دوني.
قال: قلت: يا أمير المؤمنين أتأذن لي في الكلام؟
قال: تكلم قال قلت أما الفضل بن الربيع فإنه صنيعكم ومولاكم وحال سلفه حالهم فترجع إليه بضروب كلها تردك إليه.
وأما عيسى فرجل من دولتك وسابقته وسابقة من مضى من سلفه معروفة ويرجع إليه بذلك.
وأما نصر فرجل لم يكن له يد قط فيحتمل كهؤلاء لمن مضى من سلفه وإنما كانوا من جند بني أمية.
قال: انه كما تقول ولست اقلع عنه حتى يطأ بساطي.
قال: فأبلغت نصرا ذلك، فصاح بالخيل، فجالت إليه فقال ويلي عليه وهو لم يقو على أربعمائة ضفدع تحت جناحه يعني الزط يقوى علي بحلبة العرب فجاده عبد الله بن طاهر القتال وضيق عليه فطلب الأمان فأجابه إليه وتحول من معسكره إلى الرقة [وصار] إلى عبد الله،
389

وكان مدة حصاره ومحاربته خمس سنين فلما خرج إليه أخرب عبد الله حصن كيسوم وسير نصرا إلى المأمون فوصل إليه في صفر سنة عشر ومائتين.
ذكر عدة حوادث
وفيها ولى المأمون علي بن صدقة المعروف بزريق على أرمينية وأذربيجان وأمره بمحاربة بابك وأقام بأمره احمد بن الجنيد الإسكافي فأسره بابك فولى إبراهيم بن الليث بن الفضل آذربيجان.
وحج بالناس صالح بن العباس بن محمد بن علي.
وفيها مات ميخائيل بن جورجيس ملك الروم وكان ملكه تسع سنين وملك ابنه توفيل.
وفيها خرج منصور بن نصير بأفريقية عن طاعة الأمير زياد الله وكان منه ما ذكرناه سنة اثنتين ومائتين.
وفيها توفي أبو عبيدة معمر بن المثنى اللغوي وقيل سنة عشر وكان يميل إلى مقالة الخوارج وكان عمره ثلاثا وتسعين سنة. وقيل مات سنة ثلاث عشرة وعمره ثمان وتسعون سنة.
وفيها توفي يعلى بن عبيد الطنافسي أبو يوسف والفضل بن عبد الحميد الموصلي المحدث.
390

210
ثم دخلت سنة عشر ومائتين
ذكر ظفر المأمون بابن عائشة
فيها ظفر المأمون بإبراهيم بن محمد بن عبد الوهاب بن إبراهيم الإمام المعروف بابن عائشة ومحمد بن إبراهيم الأفريقي ومالك بن شاهي ومن كان معهم ممن كان يسعى في البيعة لإبراهيم بن المهدي.
وكان الذي اطلعه عليهم وعلى صنيعهم عمران القطربلي وكانوا اتعدوا أن يقطعوا الجسر إذا خرج الجند يتلقون نصر بن شبث فنم عليهم عمران فاخذوا في صفر ودخل نصر بن شبث بغداد ولم يلقه أحد من الجند فاخذ ابن عائشة فأقيم على باب المأمون ثلاثة أيام في الشمس ثم ضربه بالسياط وحبسه وضرب مالك بن شاهي وأصحابه فكتبوا للمأمون بأسماء من دخل معهم في هذا الأمر من سائر الناس فلم يعرض لهم المأمون وقال لا آمن أن يكون هؤلاء قذفوا قوما براء.
ثم إن قتل ابن عائشة وأين شاهي ورجلين من أصحابهما وكان سبب
391

قتلهم أن المأمون بلغه انهم يريدون أن ينقبوا السجن، وكانوا قبل ذلك بيوم قد سدوا باب السجن فلم يدعوا أحدا يدخل عليهم فلما بلغ المأمون خبرهم ركب إليهم بنفسه فأخذهم فقتلهم صبرا وصلب ابن عائشة وهو أول عباسي صلب في الإسلام ثم انزل وكفن وصلي عليه ودفن في مقابر قريش.
ذكر الظفر بإبراهيم بن المهدي
وفي هذه السنة في ربيع الأول أخذ إبراهيم بن المهدي وهو منتقب مع امرأتين وهو في زي امرأة أخذه حارس اسود ليلا فقال من أين أنتن وأين تردن هذا الوقت فأعطاه إبراهيم خاتم ياقوت كان في يده له قدر عظيم ليخليهن ولا يسألهن فلما نظر الحارس إلى الختم استرابهن وقال خاتم رجل له شان ورفعهن إلى صاحب المسلحة فأمرهن أن يسفرن فامتنع إبراهيم فجذبه فبدت لحيته فدفعه إلى صاحب الجسر فعرفه فذهب به إلى باب المأمون واعلمه به فأمر بالاحتفاظ به إلى بكرة.
فلما كان الغد اقعد إبراهيم في دار المأمون والمقنعة التي تقنع بها في عنقه والملحفة على صدره ليراه بنو هاشم والناس ويعلموا كيف أخذ ثم حوله إلى احمد بن أبي خالد فحبسه عنده ثم أخرجه معه لما سار في الصلح إلى الحسن بن سهل فشفع فيه الحسن وقيل ابنته بوران.
وقيل أن إبراهيم لما أخذ حمل إلى دار أبي إسحاق المعتصم وكان المعتصم عند المأمون فحمل رديفا لقرح التركي فلما دخل على المأمون قال:
392

هيه يا إبراهيم! فقال: يا أمير المؤمنين ولي الثأر محكم في القصاص والعفو أقرب للتقوى ومن تناوله الاغترار بما مد له من أسباب الشقاء أمكن عادية الدهر من نفسه وقد جعلك الله فوق كل ذي ذنب كما جعل كل ذي ذنب دونك فان تعاقب فبحقك وان تعف فبفضلك.
قال: بل اعفو يا إبراهيم فكبر وسجد وقيل بل كتب إبراهيم هذا الكلام إلى المأمون وهو متخف فوقع المأمون في حاشية رقعته القدرة تذهب الحفيظة والندم توبة وبينهما عفو الله عز وجل وهو أكبر ما يسأله فقال إبراهيم يمدح المأمون:
(يا خير من رفلت يمانية به * بعد النبي لآيس أو طائع)
(وأبر من عبد الاله على التقى * غيبا وأقوله بحق صادع)
(عسل الفوارع ما أطعت فان نهج * فالصاب يمزج بالسمام الناقع)
(متيقظا حذرا وما نخشى العدى * نبهان من وسنان ليل الهاجع)
(ملئت قلوب الناس منك مخافة * وتبيت تكلؤهم بقلب خاشع)
(بابي وأمي فدية وأبيهما * من كل معضلة وذنب واقع)
(ما ألين الكنف الذي بوأتني * وطنا وأمرع ربعه للراتع)
(للصالحات أخا جعلت وللتقى * وأبا رؤوفا للفقير القانع)
393

(نفسي فداؤك إذ تضل معاذري * وألوذ منك بفضل حلم واسع)
(أملا لفضلك والفواضل شيمة * رفعت بناءك للمحل اليافع)
(فبذلت أفضل ما يضيق ببذله * وسع النفوس من الفعال البارع)
(وعفوت عمن لم يكن عن مثله * عفو ولم يشفع إليك بشافع)
(إلا العلو عن العقوبة بعد ما * ظفرت يداك بمستكين خاضع)
(فرحمت أطفالا كأفراخ القطا * وعويل عانسة كقوس النازع)
(وعطفت آمرة علي كما وهى * بعد انهياض الوثي عظم الظالع)
(الله يعلم ما أقول كأنها * جهد الالية من حنيف راكع)
(ما إن عصيتك والغواة تقودني * أسبابها إلا بنية طائع)
(حتى إذا علقت حبائل شقوتي * بردى إلى حفر المهالك هائع)
(لم أدر أن لمثل جرمي غافرا * فوقت انظر أي حتف صارعي)
(رد الحياة علي بعد ذهابها * ورع الإمام القادر المتواضع)
(أحياك من ولاك أفضل مدة * ورمى عدوك في الوتين بقاطع)
(كم من يد لك لم تحدثني بها * نفسي إذا آلت إلي مطامعي)
(أسديتها عفوا إلي هنيئة * وشكرت مصطنعا لأكرم صانع)
(إلا يسيرا عند ما أوليتني * وهو الكبير لدي غير الضائع)
394

(إن أنت جدت بها علي تكن لها * أهلا وان تمنع فأكرم مانع)
(ان الذي قسم الخلافة حازها * من صلب آدم للإمام السابع)
(جمع القلوب عليك جامع امرها * وحوى رداؤك كل خير جامع)
فذكر أن المأمون قال حين انشده هذه القصيدة أقول كما قال يوسف لاخوته: (لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو ارحم الراحمين).
ذكر ناء المأمون ببوران
وفي هذه السنة بنى المأمون ببوران بنت الحسن بن سهل في رمضان وكان المأمون سار من بغداد إلى فم الصلح إلى معسكر الحسن بن سهل فنزله وزفت إليه بوران فلما دخل إليها المأمون كان عندها حمدونة بنت الرشيد وأم جعفر زبيدة أم الأمين وجدتها أم الفضل والحسن بن سهل.
فلما دخل نثرت عليه جدتها ألف لؤلؤة من أنفس ما يكون فأمر المأمون بجمعه فجمع فأعطاه بوران وقال سلي حوائجك فأمسكت فقالت جدتها سلي سيدك فقد أمرك فسألته الرضا عن إبراهيم بن المهدي فقال قد فعلت وسألته الاذن لام جعفر في الحج فأذن لها وألبستها أم جعفر البدلة اللؤلؤية الأموية وابتنى بها في ليلته وأوقد في تلك الليلة شمعة عنبر فيها أربعون منا.
395

وأقام المأمون عند الحسن سبعة عشر يوما وحملهم ووصلهم وكان مبلغ ما يحتاج إليه وخلع الحسن على القواد على مراتبهم وحملهم ووصلهم وكان مبلغ ما لزمه خمسين ألف ألف درهم وكتب الحسن أسماء ضياعه في رقاع ونثرها على القواد فمن وقعت بيده رقعة منها فيها اسم ضيعة بعث فتسلمها.
ذكر مسير عبد الله بن طاهر إلى مصر
في هذه السنة سار عبد الله بن طاهر إلى مصر وافتتحها واستأمن إليه عبد الله بن السري.
وكان سبب مسيره أن عبيد الله قد تغلب على مصر وخلع الطاعة وخرج جمع من الأندلس فتغلبوا على الإسكندرية واشتغل عبد الله بن طاهر عنهم بمحاربة نصر بن شبث فلما فرغ منه سار نحو مصر فلما قرب منها على مرحلة قدم قائدا من قواده إليها لينظر موضعا يعسكر فيه وكان ابن السري قد خندق على مصر خندقا فاتصل الخبر به من وصول القائد إلى ما قرب منه فخرج إليه في أصحابه فالتقى هو والقائد فاقتتلوا قتالا شديدا، وكان القائد في قلة فجال أصحابه وسير بريدا إلى عبد الله بن طاهر بخبره فحمل عبد الله الرجال على البغال وجنبوا الخيل وأسرعوا السير فلحقوا بالقائد وهو يقاتل ابن السري فلما رأى ابن السري ذلك لم يصبر بين أيديهم وانهزم عنهم وتساقط أكثر أصحابه في
396

الخندق فمن هلك منهم بسقوط بعضهم على بعض كان أكثر ممن قتله الجند بالسيف.
ودخل ابن السري مصر وأغلق الباب عليه وعلى أصحابه وحاصره عبد الله فلم يعد ابن السري يخرج إليه وانفذ إليه ألف وصيف ووصيفة مع كل واحدة منهم ألف دينار فسيرهم ليلا فردهم ابن طاهر وكتب إليه لو قبلت هديتك نهارا لقبلتها ليلا بل أنتم بهديتكم تفرحون ارجع إليهم: (فلنأتينهم بجنود لت قبل لهم ولنخرجنهم منها أذلة وهم
صاغرون) قال: فحينئذ طلب الأمان وقيل كان سنة إحدى عشرة.
وذكر احمد بن حفص بن أبي الشماس قال: خرجنا مع عبد الله بن طاهر إلى مصر حتى إذا كنا بين الرملة ودمشق إذ نحن بأعرابي قد اعترض فإذا شيخ على بعير له فسلم فرددنا عليه السلام قال وكنت أنا وإسحاق بن إبراهيم الرافقي وإسحاق بن أبي ربعي ونحن نساير الأمير وكنا أفره منه دابة وأجود كسوة، قال فجعل الأعرابي ينظر إلى وجوهنا، قال فقلت: يا شيخ قد ألححت في النظر أعرفت شيئا أنكرته قال لا والله ما عرفتكم قبل يومي هذا ولكني رجل حسن الفراسة في الناس قال فأشرت إلى إسحاق بن أبي ربعي وقلت ما تقول في هذا؟ فقال:
(أرى كاتبا داهي الكتابة بين * عليه وتأديب العراق منير)
(له حركات قد يشاهدن انه * عليم بتسقيط الخراج بصير)
ونظر إلى إسحاق بن إبراهيم الرافقي فقال:
397

(ومظهر نسك ما عليه ضميره * يحب الهدايا بالرجال مكور)
(أخال به جبنا وبخلا وشيمة * تخبر عنه انه لوزير)
ثم نظر إلي وقال:
(وهذا نديم للأمير ومؤنس * يكون له بالقرب منه سرور)
(وأحسبه للشعر والعلم راويا * فبعض نديم مرة وسمير)
ثم نظر إلى الأمير وقال:
(وهذا الأمير المرتجى سيب كفه * فما أن له في العالمين نظير)
(عليه رداء من جمال وهيبة * ووجه بإدراك النجاح بشير)
(لقد عظم الإسلام منه بذي يد * فقد عاش معروف ومات نكير)
(ألا إنما عبد الإله بن طاهر * لنا والد بر بنا وأمير)
قال فوقع ذلك من عبد الله أحسن موقع وأعجبه وأمر للشيخ بخمسمائة دينار وأمره أن يصحبه.
ذكر فتح عبد اله الإسكندرية
وفي هذه السنة اخرج عبد الله من كان تغلب على الإسكندرية من أهل الأندلس بأمان وكانوا قد اقبلوا في مراكب من الأندلس في جمع،
398

والناس في فتنة ابن السري وغيره، فأرسوا بالإسكندرية ورئيسهم يدعى أبا حفص فلم يزالوا بها حتى قدم ابن طاهر فأرسل يؤذنهم بالحرب إن هم لم يدخلوا في الطاعة فأجابوه وسألوه الأمان على أن يرتحلوا عنها إلى بعض أطراف الروم التي ليست من بلاد الإسلام فأعطاهم الأمان على ذلك فرحلوا ونزلوا بجزيرة إقريطش واستوطنوها وأقاموا بها فأعقبوا وتناسلوا.
قال يونس بن عبد الأعلى اقبل إلينا فتى حدث من المشرق يعني ابن طاهر والدنيا عندنا مفتونة مفتونة قد غلب على كل ناحية من بلادنا غالب والناس في بلاء فاصلح الدنيا وأمن البريء وأخاف السقيم واستوثق له الرعية بالطاعة.
ذكر خلع أهل قم
في هذه السنة خلع أهل قم المأمون ومنعوا الخراج فكان سببه أن المأمون لما سار من خراسان إلى العراق أقام بالري عدة أيام واسقط عنهم شيئا من خراجهم فطمع أهل قم أن يصنع بهم كذلك فكتبوا إليه يسألونه الحطيطة وكان خراجهم ألفي ألف درهم فلم يجبهم المأمون إلى ما سألوا فامتنعوا من أدائه فوجه المأمون إليهم علي بن هشام وعجيف بن عنبسة فحارباهم فظفرا بهم وقتل يحيى بن عمران وهدم سور المدينة وجباها على سبعة آلاف ألف درهم وكانوا يتظلمون من ألفي ألف.
399

ذكر ما كان بالأندلس من الحوادث
وفي هذه السنة سير عبد الرحمن بن الحكم سرية كبيرة إلى بلاد الفرنج واستعمل عليها عبيد الله المعروف بابن البلنسي فسار ودخل بلاد العدو وتردد فيها بالغارات والسبي والقتل والأسر ولقي الجيوش الأعداء في ربيع الأول فاقتتلوا فانهزم المشركون وكثر القتل فيهم وكان فتحا عظيما.
وفيها افتتح عسكر سيره عبد الرحمن أيضا حصن القلعة من ارض العدو وتردد فيها بالغارات منتصف شهر رمضان.
وفيها أمر عبد الرحمن ببناء المسجد الجامع بجيان.
وفيها أخذ عبد الرحمن رهائن أبي الشماخ بن إبراهيم مقدم اليمانية بتدمير ليسكن الفتنة بين المضرية واليمانية فلم ينزجروا ودامت الفتنة فلما رأى عبد الرحمن ذلك أمر العامل بتدمير أن ينقل منها ويجعل مرسية منزلا ينزله العمال ففعل ذلك وصارت مرسية هي قاعدة تلك البلاد من ذلك الوقت ودامت الفتنة بينهم إلى ثلاث عشرة ومائتين فسير عبد الرحمن إليهم جيشا فأذعن أبو الشماخ وأطاع عبد الرحمن وسار إليه وصار من جملة قواده وأصحابه وانقطعت الفتنة من ناحية تدمير.
400

ذكر عدة حوادث
مات في هذه السنة شهريار بن شروين صاحب جبال طبرستان وصار في موضعه ابنه سابور فقاتله مازيار بن قارن فأسره وقتله وصارت الجبال في يد مازيار.
وحج بالناس في هذه السنة صالح بن العباس بن محمد وهو والي مكة.
وفيها توفيت عليه بنت المهدي مولدها سنة ستين ومائة وكان زوجها موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس فولدت منه.
401

211
ثم دخلت سنة إحدى عشرة ومائتين
وفي هذه السنة ادخل عبيد الله بن السري بغداد وانزل مدينة المنصور وأقام ابن طاهر بمصر واليا عليها وعلى الشام والجزيرة وقال للمأمون بعض اخوته إن عبد الله بن طاهر يميل إلى ولج علي بن أبي طالب وهكذا كان أبوه قبله فأنكر المأمون ذلك فعاوده أخوه فوضع المأمون رجلا قال له امش في هيئة القراء والنساك إلى مصر فادع جماعة من كبرائها إلى القاسم بن إبراهيم بن طباطبا ثم صر إلى عبد الله بن طاهر فادعه إليه واذكر له مناقبه ورغبه فيه وابحث غن باطنه وائتني بما تسمع.
ففعل الرجل ذلك فاستجاب له جماعة من أعيانه فقعد بباب عبد الله بن طاهر فلما ركب قام إليه فأعطاه رقعة فلما عاد إلى منزله أحضره قال قد فهمت ما في رقعتك فهات ما عندك! فقال ولي أمانك؟ قال نعم فدعاه إلى القاسم وذكر فضله وزهده وعلمه.
فقال عبد الله: أتنصفني؟ قال نعم قال هل يجب شكر الله على العباد قال نعم قال فتجيء إلي وأنا في هذه الحال لي خاتم في المشرق جائز وخاتم في المغرب جائز وفيها بينهما أمري مطاع ثم ما التفت عن يميني ولا شمالي وورائي وأمامي إلا رأيت نعمة لرجل أنعمها علي ومنة ختم بها رقبتي ويدا لائحة بيضاء ابتدأني بها وتفضلا وكرما تدعوني إلى
402

أن اكفر بهذه النعم وهذا الإحسان وتقول أغدر بمن كان أولى لهذا وأحرى واسع في إزالة خيط عنقه وسفك دمه تراك لو دعوتني إلى الجنة عيانا أكان الله يوجب علي أن أغدر به وأكفر إحسانه وأنكث بيعته؟
فسكت الرجل فقال له عبد الله ما أخاف عليك إلا نفسك فارحل عن هذا البلد فان السلطان الأعظم أن بلغه ذلك كنت الجاني على نفسك ونفس غيرك.
فلما ايس منه جاء إلى المأمون فأخبره فاستبشر وقال ذلك غرس يدي وإلف أدبي وترب تلقيحي ولم يظهر ذلك ولا علمه ابن طاهر إلا بعد موت المأمون وكان هذا القائل للمأمون المعتصم فإنه كان منحرفا عن عبد الله.
ذكر قتل السيد بن انس
وفيها قتل السيد بن انس الأزدي أمير الموصل وسبب قتله أن زريق بن علي بن صدقة الأزدي الموصلي كان قد تغلب على الجبال ما بين الموصل وأذربيجان وجرى بينه وبين السيد حروب كثيرة فلما كان هذه السنة جمع زريق جمعا كثيرا قيل كانوا أربعين ألفا وسيرهم إلى الموصل لحرب السيد فخرج إليهم في أربعة آلاف فالتقوا بسوق الأحد فحين رآهم السيد حمل عليهم وحده وهذه كانت عادته أن يحمل وحده بنفسه،
403

وحمل عليه رجل من أصحاب زريق فاقتتلا فقتل كل واحد منهما أحبه لم يقتل غيرهما.
وكان هذا الرجل قد حلف بالطلاق إن رأى السيد أن يحمل عليه فيقتله أو يقتل دونه لأنه كان له على زريق كل سنة مائة ألف درهم فقيل له بأي سبب تأخذ هذا المال فقال لأنني متى رأيت السيد قتلته وحلف على ذلك فوفى به.
فلما بلغ المأمون قتله غضب لذلك وولى محمد بن حميد الطوسي حرب زريق وبابك الخرمي واستعمله على الموصل.
ذكر الفتنة بين عامر ومنصور وقتل منصور بافريقية
وفي هذه السنة وقع الاختلاف بين عامر بن نافع وبين منصور بن نصر بأفريقية وسبب ذلك أن منصورا كان كثير الحسد وسار بهم من تونس إلى [منصور] وهو بقصره بطنبذة فحصره حتى فنى ما كان عنده من الماء فراسله منصور وطلب منه الأمان على أن يركب سفينة ويتوجه إلى المشرق فأجابه إلى ذلك فخرج منصور أول الليل مختفيا يريد الأربس فلما أصبح عامر ولم ير لمنصور أثرا طلبه حتى أدركه فاقتتلوا
404

وانهزم منصور ودخل الأربس فتحصن بها وحصره عامر ونصب عليه منجنيقا.
فلما اشتد الحصار على أهل الأربس قالوا لمنصور أما أن تخرج عنا وإلا سلمناك إلى عامر فقد أضر بنا الحصار فاستمهلهم حتى يصلح أمره فأمهلوه وأرسل إلى عبد السلام بن المفرج وهو من قواد الجيش يسأله الاجتماع به فاتاه فكلمه منصور من فوق السور واعتذر وطلب منه أن يأخذ له أمانا من عامر حتى يسير إلى المشرق فأجابه عبد السلام إلى ذلك واستعطف له عامر فأمنه على أن يسير إلى تونس ويأخذ أهله وحاشيته ويسير بهم إلى الشرق.
فخرج إليه فسيره مع خيل إلى تونس وأمر رسوله سرا أن يسير به إلى مدينة جربة ويسجنه ففعل ذلك وسجن معه أخاه حمدون.
فلما علم عبد السلام ذلك عظم عليه وكتب عامر إلى أخيه وهو عامله على جربة يأمره بقتل منصور وأخيه حمدون ولا يراجع فيهما فحضر عندهما وأقرأهما الكتاب فطلب منصور منه دواة وقرطاسا ليكتب وصيته فأمر له بذلك فلم يقدر أن يكتب وقال فاز المقتول بخير الدنيا والآخرة ثم قتلهما وبعث برأسيهما إلى أخيه واستقامت الأمور لعامر بن نافع ورجع بعد السلام بن المفرج إلى مدينة باجة وبقي عامر بن نافع بمدينة تونس وتوفي سلخ ربيع الآخر سنة أربع عشرة ومائتين فلما وصل خبره إلى زيادة الله قال الآن وضعت الحرب أوزارها وأرسل بنوه إلى زيادة الله يطلبون الأمان فأمنهم وأحسن إليهم.
405

ذكر عدة حوادث
وفيها قدم عبد الله بن طاهر مدينة السلام من المغرب فتلقاه العباس بن المأمون والمعتصم وسائر الناس.
وفيها مات موسى بن حفص فولي ابنه طبرستان وولي حاجب بن صالح السند فهزمه بشر بن داود فانحاز إلى كرمان.
وفيها أمر المأمون مناديا فنادى برئت الذمة من ذكر معاوية بخير أو فضله على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفيها مات أبو العتاهية الشاعر وحج بالناس صالح بن العباس وهو والي مكة وفيها خرج بأعمال تاكرنا من الأندلس طوريل فقصد جماعة من الجند قد نزلوا ببعض قرى تاكرنا ممتارين فقتلهم واخذ دوابهم وسلاحهم وما معهم فسار إليه عاملها وفيها مات الأخفش النحوي البصري.
وفيها مات طلق بن غنام النخعي واحمد بن إسحاق الحضرمي وعبد الرحيم بن عبد الرحمن بن محمد المحاربي.
وفيها توفي عبد الرزاق بن همام الصنعاني المحدث وهو من مشايخ احمد بن حنبل وكان يتشيع.
وفيها توفي عبد الله بن داود الخريبي البصري وكان يسكن الخريبة بالبصرة فنسب إليها.
406

212
ثم دخلت سنة اثنتي عشرة ومائتين
ذكر استيلاء محمد بن حميد على الموصل
في هذه السنة وجه المأمون محمد بن حميد الطوسي إلى بابك الخرمي لمحاربته وأمره أن يجعل طريقه على الموصل ليصلح أمرها ويحارب زريق بن علي فسار محمد إلى الموصل ومعه جيشه وجمع ما فيها من الرجال من اليمن والربعية وسار لحرب بن زريق ومعه محمد بن السيد بن انس الأزدي فبلغ الخبر إلى زريق فسار نحوهم فالتقوا على الزاب فراسله محمد بن حميد يدعوه إلى الطاعة فامتنع فناجزه محمد واقتتلوا واشتد قتال الأزدي مع محمد بن السيد طلبا بثار السيد فانهزم زريق وأصحابه ثم أرسل يطلب الأمان فأمنه محمد فنزل إليه فسيره إلى المأمون.
وكتب المأمون إلى محمد يأمره بأخذ جميع مال زريق من قرى ورستاق ومال غيره فاخذ ذلك لنفسه فجمع محمد أولاد زريق واخوته وأخبرهم بما أمر به المأمون فأطاعوا لذلك فقال لهم أن أمير المؤمنين قد امرني به وقد قبلت ما حباني منه ورددته عليكم فشكروه على ذلك.
ثم سار إلى آذربيجان واستخلف على الموصل محمد بن السيد وقصد المخالفين المتغلبين على آذربيجان فأخذهم منهم يعلى بن مرة ونظراؤه وسيرهم إلى المأمون وسار نحو بابك الخرمي لمحاربته.
407

ذكر عدة حوادث
في هذه السنة خلع احمد بن محمد العمري المعروف بالأحمر العين المأمون باليمن فاستعمل المأمون على اليمن محمد بن عبد الحميد المعروف بابي الرازي وسيره إليها.
وفيها اظهر المأمون القول بخلق القرآن وتفضيل علي بن أبي طالب على جميع الصحابة وقال هو أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك في ربيع الأول.
وحج بالناس عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن محمد.
وفيها كانت باليمن زلزلة شديدة فكان أشدها بعدن فتهدمت المنازل وخربت القرى وهلك فيها خلق كثير.
وفيها سير عبد الرحمن صاحب الأندلس جيشا إلى بلد المشركين فوصلوا إلى برشلونة ثم ساروا إلى جرندة وقاتل أهلها في ربيع الأول فأقام الجيش شهرين ينهبون ويخربون.
وفيها كانت سيول عظيمة وأمطار متتابعة بالأندلس فخربت أكثر الأسوار بمدائن ثغر الأندلس وخربت قنطرة سرقسطة ثم جددت عمارتها وأحكمت:
(برشلونة بالباء الموحدة والراء والشين المعجمة واللام والواو والنون والهاء).
وفيها توفي محمد بن يوسف بن واقد بن عبد الله الضبي المعروف بالفريابي وهو من مشايخ البخاري.
408

213
ثم دخلت سنة ثلاث عشرة ومائتين
وفيها ولى المأمون ابنه العباس الجزيرة والثغور والعواصم وولى أخاه أبا إسحاق المعتصم الشام ومصر وأمر لكل منهما ولعبد الله بن طاهر بخمسمائة ألف درهم فقيل لم يفرق في يوم من المال مثل ذلك.
وفي هذه السنة خلع عبد السلام وابن جليس المأمون بمصر في القيسية واليمانية وظهرا بها ثم وثبا بعامل المعتصم وهو ابن عميرة بن الوليد الباذغيسي فقتلاه في ربيع الأول سنة أربع عشرة ومائتين فسار المعتصم إلى مصر وقاتلهما فقتلهما وافتتح مصر فاستقامت أمروها واستعمل عليها عماله.
وفيها مات طلحة بن طاهر بخراسان.
وفيها استعمل المأمون غسان بن عباد على السند وسبب ذلك أن بشر بن داود خالف المأمون وجبى الخراج فلم يحمل منه شيئا فعزم على تولية غسان فقال لأصحابه أخبروني عن غسان فإني أريده لأمر عظيم فأطنبوا في مدحه فنظر المأمون إلى احمد بن يوسف وهو ساكت فقال ما تقول يا احمد فقال أيا أمير المؤمنين ذلك رجل محاسنه
أكثر من مساويه لا يصرف به إلى طبقة ألا انتصف منهم فمهما تخوفت عليه فإنه لن
409

يأتي أمرا يعتذر منه فأطنب فيه فقال لقد مدحته على سوء رأيك فيه قال لأني كما قال الشاعر:
(كفى شكرا لما أسديت أني * صدقتك في الصديق وفي عداتي)
قال فاعجب المأمون من كلامه وأدبه.
وحج بالناس في هذه السنة عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن محمد بن علي.
وفيها قتل أهل ماردة من الأندلس عاملهم فثارت الفتنة عندهم فسير إليهم عبد الرحمن جيشا فحاصرهم وافسد زرعهم وأشجارهم فعاودوا الطاعة وأخذت رهائنهم وعاد الجيش بعد أن خربوا سور المدينة.
ثم أرسل عبد الرحمن إليهم بنقل حجارة السور إلى النهر لئلا يطمع أهلها في عمارته فلما رأوا ذلك عادوا إلى العيصان وأسروا العامل عليهم وجددوا بناء السور وأتقنوه.
فلما دخلت ستة أربع عشرة سار عبد الرحمن صاحب الأندلس في جيوشه إلى ماردة ومعه رهائن أهلها فلما بارزها راسله أهلها وافتكوا رهائنهم بالعامل الذي أروه وغيره وحصرهم وأفسد بلدهم ورحل عنهم ثم سير إليهم جيشا سنة سبع عشرة ومائتين فحصروها وضيقوا عليها ودام الحصار ثن رحلوا عنهم.
فلما دخلت سنة ثمان عشرة سير إليها جيشا ففتحها وفارقها أهل الشر والفساد وكان من أهلها إنسان اسمه محمود بن عبد الجبار الماردي فحصره عبد الرحمن بن الحكم في جمع كثير من الجند وصدقوه القتال
410

فهزموه وقتلوا كثيرا من رجاله وتبعتهم الخيل في الجبل فأفنوهم قتلا وأسرا وتشريدا.
ومضى محمود بن عبد الجبار الماردي فيمن سلم معه من أصحابه إلى منت سالوط فسير إليه عبد الرحمن جيشا سنة عشرين ومائتين فمضوا هاربين عنه إلى حلقب في ربيع الآخر منها فأرسل سرية في طلبهم فقاتلهم محمود فهزمهم وغنم ما معهم ومضوا لوجهتهم فلقيهم جمع من أصحاب عبد الرحمن مصادقة فقاتلوهم ثم كف بعضهم عن بعض وساروا فلقيهم سرية أخرى فقاتلوهم فانهزمت السرية وغنم محمود ما فيها.
وسار حتى أتى مدينة مينة فهجم عليها وملكها واخذ ما فيها من دواب وطعام وفارقوها فوصلوا إلى بلاد المشركين فاستلوا على قلعة لهم فأقاموا بها خمسة أعوام وثلاثة أشهر فحصرهم أذفونس ملك الفرنج فملك الحصن وقتل محمودا ومن معه وذلك سنة خمس وعشرين ومائتين في رجب وانصرف من فيها.
وفيها توفي إبراهيم الموصلي المغني وهو إبراهيم بن ماهان والد إسحاق بن إبراهيم وكان كوفيا وسار إلى الموصل فلما عاد قيل له الموصلي فلزمه وعلي بن دبلة بن مسلم أبو الحسن الشاعر وكان مولده سنة ستين ومائة وكان قد أضر ومحمد بن عرعرة بن البنود وأبو عبد الرحمن المقري المحدث وعبد الله بن موسى العبسي الفقيه وكان شيعيا وهو من مشايخ البخاري في صحيحه.
(البوند بكسر الباء الموحدة والواو وتسكين النون وآخره دال مهملة).
411

214
ثم دخلت سنة أربع عشرة ومائتين
ذكر قتل محمد الطوسي
فيها قتل محمد بن حميد الطوسي قتله بابك الخرمي وسبب ذلك انه لما فرغ من أمر المتغلبين على طريقه إلى بابك سار نحوه وقد جمع العساكر والآلات والميرة فاجتمع معه عالم من المتطوعة من سائر الأمصار فسلك المضائق إلى بابك وكان كلما تجاوز مضيقا أو عقبة ترك عليه من يحفظه من أصحابه إلى أن ينزل بهشتادسر وحفر خندقا وشاور في دخول بلد بابك فأشاروا عليه بدخوله من وجه ذكروه له فقبل رأيهم وعبى أصحابه وجعل على القلب محمد بن يوسف بن عبد الرحمن الطائي المعروف بابي سعيد وعلى الميمنة السعدي بن اصرم وعلى الميسرة العباس بن عبد الجبار اليقطيني ووقف محمد بن حميد خلفهم في جماعة ينظر إليهم ويأمرهم بسد خلل أن رآه فكان بابك يشرف عليهم من الجبل وقد كمن لهم الرجال تحت كل صخرة.
فلما تقدم أصحاب محمد وصعدوا في الجبل مقدار ثلاثة فراسخ خرج عليهم الكمناء وانحدر بابك إليهم فيمن معه وانهزم الناس فأمرهم
412

أبو سعيد ومحمد بن حميد بالصبر فلم يفعلوا ومروا على وجوههم والقتل يأخذهم وصبر محمد بن حميد مكانه وفر من مكان معه غير رجل واحد وسارا يطلبان الخلاص فرأى جماعة وقتالا فقصدهم فرأى الخرمية يقاتلون طائفة من أصحابه فحين رآه الخرمية قصدوه لما رأوا من حسن هيئته فقاتلهم وقاتلوه وضربوا فرسه بمزراق فسقط إلى الأرض وأكبوا على محمد بن حميد فقتلوه.
وكان محمد ممدوحا جوادا فرثاه الشعراء وأكثروا منهم الطائي فلما وصل خبر قتله إلى المأمون عظل ذلك عنده واستعمل عبد الله بن طاهر على قتال بابك فسار نحوه.
ذكر حال أبي دلف مع المأمون
كان أبو دلف من أصحاب محمد الأمين وسار مع علي بن عيسى بن ماهان إلى حرب طاهر بن الحسين فلما قتل علي عاد أبو دلف إلى همذان فراسله طاهر يستميله ويدعوه إلى بيعة المأمون فلم يفعل وقال أن في عنقي بيعة لا أجد إلى فسخها سبيلا لكني سأقيم مكاني لا أكون مع أحد الفريقين أن كففت عني فأجابه إلى ذلك فأقام بكرج.
فلما خرج المأمون إلى الري راسل أبا دلف يدعوه إليه فسار نحوه
413

مجدا، وهو خائف، شديد الوجل فقل له أهله وقومه وأصحابه أنت سيد العرب وكلها تطيعك فان كنت خائفا فأقم ونحن نمنعك فلم يفعل، وسار وهو يقول:
(أجود بنفسي دون قومي دافعا * لما نابهم قدنا وأغشى الدواهيا)
(واقتحم الأمر المخوف اقتحامه * لأدرك مجدا أو أعاود ثاويا)
و هي أبيات حسنة؛ فلما وصل إلى المأمون أكرمه، وأحسن إليه وأمنه، وأعلى منزلته.
ذكر استعمال عبد الله بن طاهر على خراسان
في هذه السنة استعمل المأمون عبد الله بن طاهر على خراسان فسار إليها.
وكان سبب مسيره إليها أن أخاه طلحة لما مات ولي خراسان علي بن طاهر خليفة لأخيه عبد الله وكان عبد الله بالدينور يجهز العساكر إلى بابك وأوقع الخوارج بخراسان بأهل قرية الحمراء من نيسابور فأكثروا فيهم القتل واتصل ذلك بالمأمون فأمر عبد الله بن طاهر بالمسير إلى خراسان فسار إليها فلما قدم نيسابور وكان أهلها قد قحطوا فمطروا قبل وصوله إليها بيوم واحد فلما دخلها قام إليه رجل بزاز فقال:
(قد قحط الناس في زمانهم * حتى إذا جئت بالدرر)
(غيثان في ساعة لنا قدما * فمرحبا بالأمير والمطر)
414

فأحضره عبد الله وقال له الشاعر أنت قال لا ولكني سمعتها بالرقة فحفظتها فأحسن إليه وجعل إليه أن لا يشتري له شيء من الثياب إلا بأمره.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة خرج بلال الغساني الشاري فوجه إليه المأمون ابنه العباس في جماعة من القواد فقتل بلال.
وفيها قتل أبو الرازي باليمن.
وفيها تحرك جعفر بن داود القمي فظفر به عزيز مولى عبد الله بن طاهر وكان هرب من مصر فرد إليها.
وفيها ولي علي بن هشام الجبل وقم وأصبهان وأذربيجان.
وفيها توفي إدريس بن إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام بالمغرب وأقام بعده ابنه محمد بأمر مدينة فاس فولى أخاه القاسم البصرة وطنجة وما يليهما واستعمل باقي اخوته على مدن البربرة.
وفيها سار عبد الرحمن الأموي صاحب الأندلس إلى مدينة باجة وكانت عاصية عليه من حين فتنة منصور إلى الآن فملكها عنوة.
وفيها خالف هاشم الضراب بمدينة طليطلة من الأندلس على صاحبها
415

عبد الرحمن وكان هاشم ممن خرج من طليطلة [لما] أوقع الحكم بأهلها، فسار إلى قرطبة فلما كان الآن سار إلى طليطلة فاجتمع إليه أهل الشر وغيرهم فسار بهم إلى وادي نحوييه وأغار على البربر وغيرهم فطار اسمه واشتدت شوكته واجتمع له جمع عظيم وأوقع بأهل شنت برية.
وكان بينه وبين البربر وقعات كثيرة فسير إليه عبد الرحمن هذه السنة جيشا فقاتلوه لم تستظهر إحدى الطائفتين على الأخرى وبقي هاشم كذلك وغلب على عدة مواضع وجاوز بركة العجوز وإذا غارة خيله فسير إليه عبد الرحمن جيشا كثيفا سنة ست عشرة ومائتين فلقيهم هاشم بالقرب من حصن سمسطا بمجاورة رورية فاشتدت الحرب بينهم ودامت عدة أيام ثم انهزم هاشم وقتل هو وكثير ممن معه من أهل الطمع والشر وطالبي الفتن وكفى الله الناس شرهم.
وحج بالناس إسحاق بن العباس بن محمد.
وفيها توفي أبو هاشم النبيل واسمه الضحاك بن محمد الشيباني وهو إمام في الحديث.
وفيها توفي أبو احمد حسين بن محمد البغدادي.
416

215
ثم دخلت سنة خمس عشرة ومائتين
ذكر غزو المأمون إلى الروم
في هذه السنة سار المأمون إلى الروم في المحرم فلما سار استخلف على بغداد إسحاق بن إبراهيم بن مصعب وولاه مع ذلك السواد وحلوان وكور دجلة فلما صار المأمون بتكريت قدم عليه محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام من المدينة فلقيه بها فأجازه وأمره بالدخول بابنته أم الفضل وكان زوجها منه فأدخلت عليه فلما كان أيام الحج سار بأهله إلى المدينة فأقام بها.
وسار المأمون على طريق الموصل حتى صار إلى منبج ثم إلى دابق ثم إلى أنطاكية ثم إلى المصيصة وطرسوس ودخل منها إلى بلاد الروم في جمادى الأولى ودخل ابنه العباس من ملطية فأقام المأمون على حصن قرة حتى افتتحه عنوة لأربع بقين من جمادى الأولى، وقيل أن أهله طلبوا الأمان فأمنهم المأمون وفتح قبله حصن ماجدة بالأمان ووجه اشناس إلى حصن سندس فاتاه برئيسه ووجه عجيفا وجعفرا الخياط إلى صاحب حصن سناذ فسمع وأطاع.
417

وفيها عاد المعتصم من مصر فلقي المأمون قبل دخوله الموصل ولقيه منويل وعباس بن المأمون برأس عين.
وفيها توجه المأمون بعد خروجه من بلاد الروم إلى دمشق وحج بالناس عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن محمد.
وفيها توفي قبيصة بن عقبة السوائي وأبو يعقوب إسحاق بن الطباخ الفقيه وعلي بن الحسن بن شقيق صاحب ابن المبارك وثابت بن محمد الكندي العابد المحدث وهوذة بن خليفة بن عبد الله بن عبيد الله بن أبي بكرة أبو الأشهب وأبو جعفر محمد بن الحرث الموصلي وأبو سليمان الداراني الزاهد توفي بداريا ومكي بن إبراهيم التيمي البلخي ببلخ وهو من مشايخ البخاري في صحيحه وقد قارب مائة سنة وأبو زيد سعيد بن أوس بن ثابت الأنصاري اللغوي النحوي وكان عمره ثلاثا وتسعين سنة.
وفيها توفي عبد الملك بن قريب بن عبد الملك أبو سعيد الأصمعي اللغوي البصري وقيل سنة ست عشرة ومحمد بن عبد الله بن المثنى بن عبد الله بن انس بن مالك الأنصاري قاضي البصرة.
418

216
ثم دخلت سنة ست عشرة ومائتين
ذكر فتح هرقلة
في هذه السنة عاد المأمون إلى بلاد الروم وسبب ذلك انه بلغه أن ملك الروم قتل ألفا وستمائة من أهل طرسوس والمصيصة فسار حتى دخل ارض الروم في جمادى الأولى فأقام إلى منتصف شعبان.
وقيل كان سبب دخوله إليها أن ملك الروم كتب إليه بنفسه فسار إليه ولم يقرا كتابه فلما دخل ارض الروم أناخ على أن أطيعوا فخرجوا على صلح ثم سار إلى هرقلة فخرج أهلها على صلح ووجه أخاه أبا إسحاق المعتصم فافتتح ثلاثين حصنا ومطمورة ووجه يحيى بن أكثم من طوانة فأغار وقتل واحرق فأصاب سبيا ورجع ثم سار المأمون إلى كيسوم فأقام بها يومين ثم ارتحل إلى دمشق.
ذكر عدة حوادث
وفيها ظهر عبدوس الفهري بمصر فوثب على عمال المعتصم فقتل بعضهم فغي شعبان فسار المأمون من دمشق إلى مصر منتصف ذي الحجة.
419

وفيها قدم الأفشين من برقة فأقام بمصر.
وفيها كتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم يأمره بأخذ الجند بالتكبير إذا صلوا فبدا بذلك منتصف رمضان قياما وكبروا ثلاثا ثم فعلوا ذلك في كل صلاة مكتوبة.
وفيها غضب المأمون على علي بن هاشم ووجه عجيفا واحمد بن هاشم وأمر بقبض أمواله وسلاحه.
وفيها ماتت أم جعفر زبيدة أم الأمين ببغداد.
وفيها قدم غسان بن عباد من السند ومعه بشر بن داود مستأمنا وأصلح السند واستعمل عليها عمران بن موسى العتكي.
وفيها هرب بن داود القمي إلى قم وخلع الطاعة بها وحج بالناس في قول بعضهم سليمان بن عبد الله بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس وقيل حج بهم عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس رضي الله عنهم وكان المأمون ولاه اليمن وجعل إليه ولاية كل بلد يدخله فسار من دمشق فقدم بغداد فصلى بالناس يوم الفطر وسار عنها فحج بالناس.
وفيها توفي أبو مسهر عبد الاعلى بن مسهر الغساني ببغداد ومحمد بن عباد بن عباد بن حبيب بن المهلب المهلبي أمير البصرة بها ويحيى بن يعلى المحاربي وإسماعيل بن جعفر بن سليمان بن علي.
420

217
ثم دخلت سنة سبع عشرة ومائتين
في هذه السنة ظهر الأفشين بالفرما من أرش مصر ونزل أهلها بأمان على حكم المأمون ووصل المأمون إلى مصر في المحرم من هذه السنة فأتي بعبدوس الفهري فضرب عنقه وعاد إلى الشام.
وفيها قتل المأمون علي بن هشام وكان سبب ذلك أن المأمون كان استعمله على آذربيجان وغيرها كما تقدم ذكره فبلغه ظلمه وأخذه الأموال وقتله الرجال فوجه إليه عجيف بن عنبسة فثار به علي بن هشام وأراد قتله واللحاق ببابك وظفر به عجيف وقدم به على المأمون فقتله وقتل أخاه حبيبا في جمادى الأولى وطيف برأس علي في العراق وخراسان والشام ومصر ثم ألقي في البحر.
وفيها عاد المأمون إلى بلاد الروم فأناخ على لؤلؤة مائة يوم ثم رحل عنها وترك عليها عجيفا فخدعه أهله وأسروه فبقي عندهم ثمانية أيام وأخرجوه وجاء توفيل ملك الروم فأحاط بعجيف فيه فبعث المأمون إليه الجنود فارتحل توفيل قبل موافاتهم وخرج أهل لؤلؤة إلى عجيف بأمان وأرسل ملك الروم بطلب المهادنة فلم يتم ذلك.
421

وفيها سار المأمون إلى سلغوس.
وفيها بعث علي بن عيسى القمي إلى جعفر بن داود القمي فقتل وحجب الناس سليمان بن عبد الله بن سليمان بن علي.
وفيها توفي الحجاج بن المنهال بالبصرة وسريج بن النعمان. (سريج بالسين المهملة والجيم). وسعدان بن بشر الموصلي يروي عن الثوري.
وفيها توفي الخليل بن أبي رافع المزني الموصلي وكان عالما عابدا وأبوه جعفر بن محمد بن أبي يزيد الموصلي وكان فاضلا.
422

218
ثم دخلت سنة ثمان عشرة ومائتين
ذكر المحنة بالقرآن المجيد
وفي هذه السنة كتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم ببغداد في امتحان القضاة والشهود والمحدثين بالقرآن فمن أقر أنه مخلوق محدث خلى سبيله ومن أبى أعلمه به ليأمره فيه برأيه وطول كتابه بإقامة الدليل على خلق القرآن وترك الاستعانة بمن امتنع عن القول بذلك وكان الكتاب في ربيع الأول وأمره بإنفاذ سبع نفر منهم محمد بن سعد كاتب الواقدي وأبو مسلم مستملي يزيد بن هارون ويحيى بن معين وأبو خيثمة زهير بن حرب وإسماعيل بن داود وإسماعيل بن أبي مسعود وأحمد بن الدورقي فأشخصوا إليه فسألهم وامتحنهم عن القرآن فأجابوا جميعا أن القرآن مخلوق فأعادهم إلى بغداد فأحضرهم إسحاق بن إبراهيم داره وشهر قولهم بحضرة المشايخ من أهل الحديث فأقروا بذلك فخلى سبيلهم.
وورد كتاب المأمون بعد ذلك إلى إسحاق بن إبراهيم بامتحان القضاة والفقهاء، فأحضر إسحاق بن إبراهيم أبا حسان الزبادي وبشر بن الوليد
423

الكندي، وعلي بن أبي مقاتل، والفضل بن غانم، والذيال بن الهيثم، وسجادة والقواريري وأحمد بن حنبل وقتيبة وسعدويه الواسطي وعلي بن جعد وإسحاق بن أبي إسرائيل وابن الهرش وابن علية الأكبر ويحيى بن عبد الرحمن العمري وشيخا آخر من ولد عمر بن الخطاب كان قاضي الرقة وأبا نصر التمار وأبا معمر القطيعي ومحمد بن حاتم بن ميمون ومحمد بن نوح المضروب وابن الفرخان وجماعة منهم النضر بن شميل وابن علي بن عاصم وأبو العوام البزاز وابن شجاع وعبد الرحمن بن إسحاق فأدخلوا جميعا على إسحاق فقرأ عليهم كتاب المأمون مرتين حتى فهموه ثم قال لبشر بن الوليد ما تقول في القرآن فقال قد عرفت مقالتي أمير المؤمنين غير مرة، قال فقد تجدد من كتاب أمير المؤمنين ما ترى فقال أقول القرآن كلام الله قال لم أسألك عن هذا أمخلوق هو قال الله خالق كل شيء قال فالقرآن شيء قال نعم قال فمخلوق هو قال ليس بخالق قال ليس هو عن هذا أمخلوق هو قال ما أحسن غير ما قلت لك وقد استعهدت أمير المؤمنين أن لا أتكلم فيه وليس عندي غير ما قلت لك.
فأخذ إسحاق رقعة فقرأها عليه ووقفه عليها فقال أشهد أن لا إله إلا الله أحدا فردا لم يكن قبله شيء ولا يشبهه شيء من
424

خلقه في معنى من المعاني ووجه من الوجوه. قال نعم؛ قال للكاتب: اكتب ما قال.
ثم قال لعلي بن أبي مقاتل: ما تقول؟ قال قد سمعت كلامي لأمير المؤمنين في هذا غير مرة وما عندي غيره فامتحنه بالرقعة فأقر بما فيها ثم قال له القرآن مخلوق قال القرآن كلام الله قال لم أسألك عن هذا قال القرآن كلام الله فإن أمرنا أمير المؤمنين بشيء سمعنا وأطعنا فقال للكاتب أكتب مقالته.
ثم قال للذيال نحوا من مقالته لعلي بن أبي مقاتل فقال مثل ذلك.
ثم قال لأبي حسان الزيادي ما عندك قال سل عم شئت فقرأ عليه الرقعة فأقر بما فيها ثم قال ومن لم يقل هذا القول فهو كافر فقال القرآن مخلوق هو قال القرآن كلام الله والله خالق كل شيء وأمير المؤمنين إمامنا وبه سمعنا عامة العلم وقد سمع ما لم نسمع وعلم ما لم نعلم وقد قلده الله أمرنا فصار يقيم حجنا وصلاتنا ونؤدي إليه زكاة أموالنا ونجاهد معه ونرى إمامته فإن أمرنا ائتمرنا وإن نهانا انتهينا.
قال: فالقرآن مخلوق؟ فأعاد مقالته. قال إسحاق فإن هذه مقالة أمير المؤمنين قال قد تكون مقالته ولا يأمر بها الناس وإن خبرتني أن أمير المؤمنين أمرك أن أقول قلت ما أمرتني به فإنك الثقة فيما أبلغتني عنه قال ما أمرني أن أبلغك شيئا.
قال أبو حسان وما عندي إلا السمع والطاعة فأمرني ائتمر قال ما أمرني أن آمركم وإنما أمرني أن أمتحنكم.
ثم قال لأحمد بن حنبل ما تقول في القرآن قال كلام الله قال:
425

أمخلوق هو؟ قال كلام الله ما أزيد عليها فامتحنه بما في الرقعة فلما أتى إلى: ليس كمثله شيء [قرأ]: وهو السميع البصير وأمسك عن: ولا يشبهه شيء من خلقه في معنى من المعاني ولا وجه من الوجوه فاعترض عليه ابن البكاء الأصغر فقال: أصلحك الله! إنه يقول سميع من أذن وبصير من عين فقال إسحاق لأحمد ما معنى قولك سميع بصير؟ قال: هو كما وصف نفسه. قال فما معناه قال لا أدري أهو هو كما وصف نفسه.
ثم دعا بهم رجلا رجلا كلهم يقول القرآن كلام الله إلا قتيبة وعبيد الله بن محمد بن الحسن وابن علية الأكبر وابن البكاء وعبد المنعم بن إدريس ابن بنت وهب بن منبه والمظفر بن مرجا ورجلا من ولد عمر بن الخطاب قاضي الرقة وابن الأحمر.
فأما ابن البكاء الأكبر فإنه قال القرآن مجعول لقول الله عز وجل: (إنا جعلناه قرآنا عربيا) والقرآن محدث لقوله تعالى: (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث).
قال إسحاق: فالمجعول مخلوق قال نعم قال والقرآن مخلوق قال لا أقول مخلوق ولكنه مجعول فكتب مقالته ومقالات القوم رجلا رجلا ووجهت إلى المأمون فأجاب المأمون يذمهم ويذكر كلا منهم ويعيبهم ويقع فيه شيء وأمره أن يحضر بشر بن الوليد وإبراهيم
426

ابن المهدي ويمتحنهما فإن أجابا وإلا فاضرب أعناقهما وأما من سواهما فإن أجاب إلى القول بخلق القرآن وإلا احملهم موثقين بالحديد إلى عسكره مع نفر يحفظونهم.
فأحضرهم إسحاق وأعلمهم بما أمر به المأمون فأجاب القوم إلا أربعة نفر وهم أحمد بن حنبل وسجادة والقواريري ومحمد بن نوح المضروب فأمر بهم إسحاق فشدوا في الحديد فلما كان الغد دعاهم في الحديد فأعاد عليهم المحنة فأجابه سجادة والقواريري فأطلقهما وأصر أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح على قولهما فشدا في الحديد ووجها إلى طرسوس وكتب إلى المأمون بتأويل القوم فيما أجابوا إليه فأجابه المأمون إنني بلغني عن بشر بن الوليد بتأويل الآية التي أنزلها الله تعالى في عمار بن ياسر: (إلا من
أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) وقد أخطأ التأويل إنما عنى الله سبحانه وتعالى بهذه الآية من كان معتقدا للإيمان مظهرا للشرك فأما من كان معتقدا للشرك مظهرا للإيمان فليس هذا له.
فأشخصهم جميعا إلى طرسوس ليقيموا بها إلى أن يخرج أمير المؤمنين من بلاد الروم فأحضرهم إسحاق وسيرهم جميعا إلى العسكر وهم أبو حسان الزيادي وبشر بن الوليد والفضل بن غانم وعلي بن مقاتل والذيال بن الهيثم ويحيى بن عبد الرحمن العمري وعلي بن الجعد وأبو العوام والنضر بن شميل وأبو نصر التمار وسعدويه الواسطي ومحمد بن حاتم بن ميمون وأبو معمر بن الهرش وابن الفرخان وأحمد بن شجاع وأبو هارون بن البكاء فلما صاروا إلى الرقة بلغهم موت المأمون فرجعوا إلى بغداد.
427

ذكر مرض المأمون ووصيته
وفي هذه السنة مرض المأمون مرضه الذي مات فيه لثلاث عشرة خلت من جمادى الآخرة.
وكان سبب مرضه ما ذكره سعد بن العلاف القارئ قال دعاني المأمون يوما فوجدته جالسا على جانب البذندون والمعتصم عن يمينه وهما قد دليا أرجلهما في الماء فأمرني أن أضع رجلي في الماء وقال ذقه فهل رأيت أعذب منه أو أصفى صفاء أو أشد بردا ففعلت وقلت يا أمير المؤمنين ما رأيت مثله قط فقال أي شيء يطيب أن يؤكل ويشرب عليه هذا الماء فقلت أمير المؤمنين أعلم فقال الرطب الآزاذ.
فبينما هو يقول [هذا] إذ سمع وقع لجم البريد فالتفت فإذا بغال البريد عليها الحقائب فيها الألطاف فقال لخادم [له]: أنظر إن كان في هذه الألطاف رطب آزاذ فأت بها فمضى وعاد ومعه سلتان فيهما آزاذ كأنما جني تلك الساعة فأظهر شكر الله وتعجبنا جميعا وأكلنا وشربنا من ذلك الماء فما قام منا أحد إلا وهو محموم وكانت منية المأمون من تلك العلة ولم يزل المعتصم مريضا حتى دخل العراق وبقيت أنا مريضا مدة.
فلما مرض المأمون أمر أن يكتب إلى البلاد الكتب من عبد الله المأمون أمير المؤمنين وأخيه الخليفة من بعده أبي إسحاق بن هارون الرشيد وأوصى
428

إلى المعتصم بحضرة ابنه العباس وبحضرة الفقهاء والقضاة والقواد، وكانت وصيته بعد الشهادة والإقرار بالوحدانية والبعث والجنة والنار والصلاة على النبي والأنبياء إني مقر مذنب أرجو وأخاف إلا أني إذا ذكرت عفو الله رجوت وإذا مت فوجهوني وغمضوني وأسبغوا وضوئي وطهوري وأجيدوا كفني ثم أكثروا حمدا لله على الإسلام ومعرفة حقه عليكم في محمد إذ جعلنا من أمته المرحومة ثم أضجعوني على سريري ثم عجلوا بي وليصل علي أقربكم نسبا وأكبركم سنا وليكبر خمسا ثم احملوني وأبلغوا في حفرتي ولينزل أقربكم قرابة وأودكم محبة.
وأكثروا من حمد الله وذكره ثم ضعوني على شقي الأيمن واستقبلوا بي القبلة ثم حلوا كفني عن رأسي ورجلي ثم سدوا اللحد وأخرجوا عني وخلوني وعملي وكلكم لا يغني عني شيئا ولا يدفع عني مكروها ثم قفوا بأجمعكم فقولوا خير إن علمتم وأمسكوا عن ذكر شر إن كنتم عرفتم فإني مأخوذ من بينكم بما تقولون ولا تدعوا باكية عندي فإن المعول عليه يعذب رحم الله عبدا اتعظ وفكر في ما حتم الله على خلقه من الفناء وقضى عليهم من الموت الذي لا بد منه الحمد الله الذي توحد بالبقاء وقضى على جميع خلقه الفناء.
[ثم] لينظر ما كنت فيه من عز الخلافة هل أغني عني ذلك شيئا إذ جاء أمر الله لا والله ولكن أضعف علي به السحاب فياليت عبد الله بن هارون
429

لم يكن بشار بل ليته لم يكن خلقا.
يا أبا إسحاق ادن مني واتعظ بما ترى وخذ بسيرة أخيك في القرآن والإسلام واعمل في الخلافة إذا طوقكها الله عمل المريد لله الخائف من عقابه وعذابه ولا تغتر بالله ومهلته وكأن قد نزل بك الموت، ولا تغفل أمر الرعية والعوام فإن الملك بهم وبتعهدك لهم، الله الله فيهم وفي غيرهم من المسلمين ولا ينتهين إليك أمر فيه صلاح للمسلمين ومنفعة إلا قدمته وآثرته على غيره من هواك.
وخذ من أقويائهم لضعفائهم ولا تحمل عليهم في شيء وأنصف بعضهم من بعض بالحق بينهم وقربهم وتأن بهم وعجل الرحلة عني والقدوم إلى دار ملكك بالعراق وانظر هؤلاء القوم الذين أنت بساحتهم فلا تغفل عنهم في كل وقت والخرمية فأغزهم ذا حرمة وصرامة وجلد واكنفه بالأموال والجنود فإن طالت مدتهم فتجرد لهم فيمن معك [من] أنصارك وأوليائك واعمل في ذلك مقدم النية فيه راجيا ثواب الله عليه.
ثم دعا المعتصم بعد ساعة حين اشتد الوجع وأحس بمجيء أمر الله،
430

فقال: يا أبا إسحاق! عليك عهد الله وميثاقه وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لتقومن بحق الله في عباده ولتؤثرن طاعة الله على معصيته إذ أنا نقلتها من غيرك إليك قال اللهم نعم قال هؤلاء بنو عمك من ولد أمير المؤمنين علي صلوات الله عليه فأحسن صحبتهم وتجاوز عن مسيئهم واقبل من محسنهم ولا تغفل صلاتهم في كل سنة عند محلها فإن حقوقهم تجب وجوه شتى اتقوا الله ربكم حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون اتقوا الله واعملوا له اتقوا الله في أموركم كلها استودعكم الله ونفسي واستغفر الله ما سلف مني إنه كان غفارا فإنه ليعلم كيف ندمي على ذنوبي فعليه توكلت من عظيمها وإليه أنيب ولا قوة إلا بالله حسبي الله ونعم الوكيل ونبي الهدى والرحمة.
ذكر وفاة المأمون وعمره وصفته
وفي هذه السنة توفي المأمون لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب، فلما اشتد مرضه وحضره الموت كان عنده من يلقنه فعرض عليه الشهادة وعنده ابن ماسويه الطبيب فقال لذلك الرجل دعه فإنه لا يفرق في هذه الحال بين ربه وماني ففتح المأمون عينيه وأراد أن يبطش به فعجز عن ذلك وأراد الكلام فعجز عنه ثم إنه تكلم فقال يا من لا يموت
431

ارحم من يموت ثم توفي من ساعته.
ولما توفي حمله ابنه العباس وأخوه المعتصم إلى طرسوس فدفناه بدار خاقان خادم الرشيد وصلى عليه المعتصم ووكلوا به حرسا من أبناء أهل طرسوس وغيرهم مائة رجل وأجري على كل رجل منهم تسعون درهما.
وكانت خلافته عشرين سنة وخمسة أشهر وثلاثة وعشرين يوما سوى سنين كان دعي له فيها بمكة وأخوه الأمين محصور ببغداد وكان مولده للنصف من ربيع الأول سنة سبعين ومائة وكان كنيته أبا العباس وكان ربعة أبيض جميلا طويل اللحية رقيقها قد وخطها الشيب؛ وقيل كان أسمر تعلوه صفرة أجنى أعين طويل اللحية رقيقها أشيب ضيق البلجة بخده خال أسود.
ذكر بعض سيرته وأخباره
قال محمد بن صالح السرخسي تعرض رجل للمأمون بالشام مرارا وقال: يا أمير المؤمنين! انظر لعرب الشام كما نظرت لعجم خراسان فقال له أكثرت علي والله ما أنزلت قيسا من ظهور خيولها إلا وأنا أرى أنه لم يبق في بيت مالي درهم واحد يعني فتنة ابن شبث العامري وأما اليمن فوالله ما أحببتها ولا أحبتني قط وأما قضاعة فساداتها تنتظر السفياني وخروجه حتى تكون من شيعته وأما ربيعة فساخطة على ربها مذ
432

بعث الله نبيه من مضر ولم يخرج اثنان إلا وخرج أحدهما سائسا اعرف فعل الله بك.
وذكر سعيد بن زياد أن المأمون قال لما دخل دمشق أرني الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فأريته فقال إني لأشتهي أن أدري إيش هذا الغشاء على هذا الخاتم قال فقال له المعتصم حل العقدة حتى تدري ما هو قال ما أشك أن النبي عقد هذا العقد وما كنت لأحل عقدة عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال للواثق خذه وضعه على عينيك لعل الله أن يشفيك وجعل المأمون يضعه على عينيه ويبكي.
وقال العبسي صاحب إسحاق بن إبراهيم: كنت مع المأمون بدمشق وكان قد قال المال عنده حتى أضاق وشكا ذلك إلى المعتصم فقال له يا أمير المؤمنين كأنك بالمال وقد وافاك بعد جمعه وكان قد حمل إليه ثلاثون ألف ألف ألف درهم من خراج ما يتولاه له فلما ورد عليه المال قال المأمون ليحيى بن أكثم اخرج بنا ننظر هذا المال فخرجا ينظرانه وكان قد هيئ بأحسن هيئته وحليت أباعره فنظر المأمون إلى شيء حسن واستكثر ذلك واستبشر به والناس ينظرون إليه ويعجبون منه فقال المأمون يا أبا محمد ننصرف بالمال وأصحابنا يرجعون خائبين إن هذا للؤم ثم دعا محمد بن يزداد فقال له وقع لآل فلان بألف ألف ولآل فلان بمثلها فما زال كذلك حتى فرق أربعة
433

وعشرين ألف ألف ورجله في الركاب ثم قال ادفع الباقي إلى المعلى يعطيه جندنا.
قال العبسي فقمت نصب عينيه أنظر إليهما فلما رآني كذلك قال وقع لهذا بخمسين ألفا فقبضتها.
وذكر عن محمد بن أيوب بن جعفر بن سليمان أنه كان بالبصرة رجل من بني تميم بن سعد وكان شاعرا ظريفا خبيثا منكرا وكنت آنس به وأستحليه فقلت له أنت شاعر وأنت ظريف والمأمون أجود من السحاب الحافل فما يمنعك منه فقال ما عندي ما يحملني فقلت أنا أعطيك راحلة ونفقة فأعطيته راحلة نجيبة وثلاثمائة درهم فعمل أرجوزة ليست بالطويلة ثم سار إلى المأمون.
قال: فجئت إليه وهو بسلغوس قال فلبست ثيابي وأنا أروم بالعسكر وإذا بكهل على بغل فاره فتلقاني مواجهة وأنا أردد نشيد أرجوزتي فقال السلام عليك فقلت عليكم السلام ورحمة الله وبركاته قال قف إن شئت فوقفت فتضرعت من رائحة المسك والعنبر فقال ما أولك قلت رجل من مضر. قال ونحن من مضر. قال ثم ماذا قلت من بني تميم قال وما بعد تميم قلت من بني سعد. قال وما أقدمك قلت قصدت هذا الملك الذي ما سمعت بمثله أندى رائحة ولا أوسع راحة. قال فما الذي قصدته به قلت شعر طيب يلذ على الأفواه ويحلو في آذان السامعين قال فأنشدنيه فغضبت وقلت يا ركيك أخبرتك أني قصدت الخليفة بمديح تقول أنشدنيه فتغافل عنها وألغى عن جوابها فقال فما الذي تأمل منه قلت إن كان على ما ذكر لي فألف دينار قال أنا أعطيك ألف دينار إن رأيت الشعر جيدا والكلام
434

عذبا، وأضع عنك العناء وطول الترداد متى تصل إلى الخليفة وبينك وبينه عشرة آلاف رامح ونابل قلت فلي عليك الله أن تفعل قال نعم لك الله علي أن أفعل فأنشدته:
(مأمون ذا المنزلة الشريفة * وصاحب المرتبة المنيفة)
(وقائد الكتيبة الكثيفة * هل لك في أرجوزة ظريفه)
(أظرف من فقه أبي حنيفة * لا والذي أنت له خليفه)
(ما ظلمت في أرضنا ضعيفه * أميرنا مؤنته خفيفه)
(وما اقتنى شيئا سوى الوظيفه * فالذنب والنقمة في سقيفة)
(واللص والتاجر في قطيفه *)
قال فوالله ما عدا أن بلغت ههنا فإذا زهاء عشرة آلاف فارس قد سدوا الأفق يقولون السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته فأخذتني رعدة فنظر إلي بتلك الحال فقال لا بأس عليك أي أخي قلت يا أمير المؤمنين جعلني الله فداك من جعل الكاف مكان القاف من العرب قال حمير قلت لعن الله حمير ولعن من استعمل هذه اللغة بعد اليوم.
435

وضحك المأمون وقال لخادمه معه أعطه ما معك فأخرج كيسا فيه ثلاثة آلاف دينار فأخذتها ومضيت.
ومعنى سؤاله عن وضع الكاف موضع القاف أنه أراد أن يقول يا رقيق فقال يا ركيك.
وقال عمارة بن عقيل: أنشدت المأمون قصيدة مائة بيت فأبتدئ بصدر البيت فيبادرني إلى قافيته كما قفيته فقلت والله يا أمير المؤمنين ما سمعها مني أحد قط فقال هكذا ينبغي أن يكون ثم قال لي أما بلغك أن عمر بن أبي ربيعة أنشد عبد الله بن عباس قصيدته التي يقول فيها:
تشط غدا دار وجيراننا، فقال ابن العباس: وللدار بعد غد أبعد حتى أنشده القصيدة يقفيها ابن عباس ثم قال أنا ابن ذاك وذكر أن المأمون قال:
(بعثتك مرتادا ففزت بنظرة * وأغفلتني حتى أسأت بك الظنا)
(فناجيت من أهوى وكنت مباعدا * فياليت شعري عن دنوك ما أغنى)
(أرى أثرا منه بعينيك بينا * لقد أخذت عيناك من عينه حسنا)
قيل: وإنما أخذ المأمون هذا المعنى من العباس بن الأحنف فإنه أخرج هذا المعنى فقال:
436

(أن تشق عيني بها فقد سعدت * عين رسولي وفزت بالخبر)
(وكلما جاءني الرسول لها * وددت عهدا في عينه نظري)
(خذ مقلتي يا رسول عارية * فانظر بها واحتكم على بصري)
قيل: وشكا اليزيدي يوما إلى المأمون دينا لحقه فقال ما عندي في هذه الأيام ما إن أعطيناك بلغت به ما تريد، فقال يا أمير المؤمنين إن غرمائي قد أرهقوني قال انظر لنفسك أمرا تنال به نفعا قال إن لك ندماء فيهم من أن حركته نلت به نفعا قال أفعل قال إذا حضروا عندك فمر فلانا الخادم يوصل رقعتي إليك فإذا قرأتها فأرسل إلي دخولك في هذا الوقت متعذر ولكن اختر لنفسك من أحببت قال أفعل فلما علم اليزيدي جلوس المأمون مع ندمائه وتيقن أنهم قد أخذ الشراب منهم أتى الباب فدفع إلى الخادم رقعته فإذا فيها:
(يا خير إخواني وأصحابي * هذا الطفيلي على الباب)
(أخبر أن القوم في لذة * يصبو إليها كل أواب)
(فصيروني واحدا منكم * أو أخرجوا لي بعض أترابي)
فقرأها المأمون عليهم، وقالوا: ما ينبغي أن يدخل علينا على مثل هذه الحال، فأرسل إليه المأمون دخولك في هذا الوقت متعذر فاختر لنفسك من أحببت تنادمه فقال ما أريد إلا عبد الله بن طاهر فقال له المأمون قد اختارك فسر إليه! قال: يا أمير المؤمنين، وأكون شريك الطفيلي؟ فقال: ما يمكن
437

رد أبي محمد عن أمرين فإن أحببت أن تخرج إليه وإلا فافتد نفسك منه! فقال: علي عشرة آلاف قال لا يقنعه فما زال يزيد عشرة عشرة والمأمون يقول لا يقنعه حتى بلغ مائة ألف، فقال له المأمون فجعلها فكتب بها إلى وكيله ووجه معه رسولا وأرسل إليه المأمون قبض هذه الدراهم في هذه الساعة أصلح من منادمته وانفع لك.
وقال عمارة بن عقيل قال لي عبد الله بن أبي السمط أعلمت أن المأمون لا يبصر الشعر قلت ومن يكون أعلم منه فوالله إنا لننشده أول البيت فيسبقنا إلى آخره قال إني أنشدته بيتا أجدت فيه فلم يتحرك له قلت: وما هو؟ قال:
(أضحى إمام الهدى المأمون مشتغلا * بالدين والناس بالدنيا مشاغيل)
قال فقلت والله ما صنعت شيئا هل زدت على أن جعلته عجوزا في محرابها فإذن من الذي يقوم بأمر الدنيا إذا تشاغل عنها وهو المطوق بها ألا قلت كما قال جدي جرير في عبد العزيز بن الوليد:
(فلا هو في الدنيا يضيع نصيبه * ولا عرض الدنيا عن الدين شاغله)
فقال: الآن علمت أني قد أخطأت.
قال أبو العباس أحمد بن عبد الله بن عمار كان المأمون شديد الميل إلى العلويين والإحسان إليهم وخبره مشهور معهم وكان يفعل ذلك طبعا لا تكلفا فمن ذلك أنه توفي في أيامه
438

يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين العلوي فحضر الصلاة عليه بنفسه ورأى الناس عليه من الحزن والكآبة ما تعجبوا منه ثم إن ولدا لزينب بنت سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس وهي ابنة عم المنصور توفي بعده فأرسل له المأمون كفنا وسير أخاه صالحا ليصلي عليه ويعزي أمه فإنها كانت عند العباسيين بمنزلة عظيمة فأتاها وعزاها عنه واعتذر عن تخلفه عن الصلاة عليه فظهر غضبها وقالت لابن ابنها تقدم فصل على أبيك وتمثلت:
(سبكناه ونحسبه لجينا * فأبدى الكير عن خبث الحديد)
ثم قالت لصالح قل له يا ابن مراجل أما لو كان يحيى بن الحسين بن زيد لوضعت ذيلك على فيك وعدوت خلف جنازته.
ذكر خلافة المعتصم
هو أبو إسحاق بن هارون الرشيد بويع له بالخلافة بعد موت المأمون ولما بويع له شغب الجند ونادوا باسم العباس بن المأمون فأرسل إليه المعتصم فأحضره فبايعه ثم خرج إلى الجند فقال ما هذا الحب البارد قد بايعت عمي فسكتوا وأمر المعتصم بخراب ما كان المأمون أمر ببنائه من طوانة مما نذكره في عدة حوادث وحمل ما أطلق من
السلاح والآلة التي بها وأحرق الباقي وأعاد الناس الذين بها إلى البلاد التي لهم وانصرف إلى بغداد ومعه العباس بن المأمون فقدمها مستهل شهر رمضان.
439

ذكر خلاف فضل على زيادة الله
وفي هذه السنة وجه زيادة الله بن الأغلب صاحب أفريقية جيشا لمحاربة فضل بن أبي العنبر بالجزيرة وكان مخالفا لزيادة الله فاستمد فضل بعبد السلام بن المفرج الربعي وكان أيضا مخالفا من عهد فتنة منصور كما ذكرنا فسار إليه فالتقوا مع عسكر زيادة الله وجرى بين الطائفتين قتال شديد كان عند مدينة اليهود بالجزيرة فقتل عبد السلام وحمل رأسه إلى زيادة الله.
وسار فضل بن أبي العنبر إلى مدينة تونس فدخلها وامتنع بها فسير زيادة الله إليه جيشا فحصروا فضلا بها وضيقوا عليه حتى فتحوها منه وقتل وقت دخول العسكر كثير من أهلها منهم عباس بن الوليد الفقيه وكان دخل في بيته لم يقاتل فدخل عليه بعض الجند فأخذ سيفه وخرج وهو يصيح الجهاد فقتل وبقي ملقى في خربة سبعة أيام لم يقربه ذو ناب ولا مخلب وكان قد سمع الحديث مع ابن عيينة وغيره وكان من الصالحين وهرب كثير من أهل تونس لما ملكت ثم أمنهم زيادة الله فعادوا إليها.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة عاد المأمون إلى سلغوس ووجه ابنه العباس إلى طوانة وأمره ببنائها وكان قد وجه الفعلة فابتدؤوا في بنائها ميلا في ميل وجعل
440

سورها على ثلاثة فراسخ وجعل لها أربعة أبواب وجعل على كل باب حصنا وكتب إلى البلدان ليفرضوا على كل بلد جماعة ينتقلون إلى طوانة وأجرى لهم لكل فارس مائة درهم ولكل راجل أربعين درهما.
وفيها توفي بشر بن غياث المريسي وكان يقول بخلق القرآن والإرجاء وغيرهما من البدع وفيها دخل كثير من أهل الجبال وهمذان وأصبهان وماسبذان وغيرها في دين الخرمية وتجمعوا فعسكروا في عمل همذان فوجه إليهم المعتصم العساكر وكان فيهم إسحاق بن إبراهيم بن مصعب وعقد له على الجبال في شوال فسار إليهم فأوقع بهم في أعمال همذان فقتل منهم ستين ألفا وهرب الباقون إلى بلد الروم وقرئ كتابه بالفتح يوم التروية وحج بالناس هذه السنة صالح بن العباس بن محمد.
441

219
ثم دخلت سنة تسع عشرة ومائتين
ذكر خلاف محمد بن القاسم العلوي
في هذه السنة ظهر محمد بن القاسم بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام بالطالقان من خراسان يدعو إلى الرضا من آل محمد.
وكان ابتداء أمره أنه كان ملازما مسجد النبي حسن السيرة فأتاه إنسان من خراسان اسمه أبو محمد كان مجاورا فلما رآه أعجبه طريقه فقال له أنت أحق بالإمامة من كل أحد وحسن له ذلك وبايعه وصار الخراساني يأتيه بالنفر بعد النفر من حجاج خراسان يبايعونه فعل ذلك مدة.
فلما رأى كثرة من بايعه من خراسان سارا جميعا إلى الجوزجان واختفى هناك وجعل أبو محمد يدعو الناس إليه فعظم أصحابه وحمله أبو محمد على إظهار أمره فأظهره بالطالقان فاجتمع إليه بها ناس كثير، وكانت بينه وبين قواد عبد الله بن طاهر وقعات بناحية الطالقان وجبالها فانهزم هو وأصحابه وخرج هاربا يريد بعض كور خراسان وكان أهلها كاتبوه.
442

فلما صار بنسا وبها والد بعض من معه فلما بصر به سأله عن الخبر فأخبره فمضى الأب إلى عامل نسا فأخبر بأمر محمد بن القاسم فأعطاه العامل عشرة آلاف درهم على دلالته وجاء العامل إلى محمد واستوثق منه وبعثه إلى عبد الله بن طاهر فسيره إلى المعتصم فورد إليه منتصف شهر ربيع الأول فحبس عند مسرور الخادم الكبير وأجرى عليه الطعام ووكل به قوما يحفظونه فلما كان ليلة الفطر اشتغل الناس بالعيد فهرب من الحبس دلي إليه حبل من كوة كانت [في أعلى البيت] يدخل [عليه] منها الضوء، فلما أصبحوا أتوه بالطعام للغداء فلم يروه وجعلوا لمن دل عليه مائة ألف فلم يعرف له خبر.
ذكر محاربة الزط
وفيها وجه المعتصم عجيف بن عنبسة في جمادى الآخرة لحرب الزط الذين كانوا غلبوا على طريق البصرة وعاثوا وأخذوا الغلات من البيادر بكسكر وما يليها من البصرة وأخافوا السبيل ورتب عجيف الخيل في كل سكة من سكك البريد تركض بالأخبار فكان يأتي بالأخبار في عجيف في يوم فسار حتى نزل تحت واسط وأقام على نهر يقال له بردودا حتى سده وأنهارا أخر كانوا يخرجون منها ويدخلون وأخذ عليهم الطرق ثم حاربهم فأسر منهم في معركة واحدة خمسمائة رجل وقتل في المعركة ثلاثمائة رجل فضرب أعناق الأسرى وبعث الرؤوس إلى باب المعتصم.
443

ثم أقام عجيف بإزاء الزط خمسة عشر يوما فظفر منهم فيها بخلق كثير وكان رئيس الزط رجلا يقال له محمد بن عثمان وكان صاحب أمره إنسانا يقال له سماق ثم استوطن عجيف وأقام بإزائهم سبعة أشهر.
ذكر محاصرة طليطلة
في هذه السنة سير عبد الرحمن بن الحكم الأموي صاحب الأندلس جيشا مع أمية بن الحكم إلى مدينة طليطلة فحصرها وكانوا قد خالفوا الحكم وخرجوا عن الطاعة واشتد في حصرهم وقطع أشجارهم وأهلك زروعهم فلم يذعنوا إلى الطاعة فرحل عنهم وأنزل بقلعة رباح جيشا عليهم ميسرة المعروف بفتى أبي أيوب فلما أبعدوا منه خرج جمع كثير من أهل طليطلة لعلهم يجدون فرصة وغفلة من ميسرة فينالون منه ومن أصحابه غرضا وكان ميسرة قد بلغه الخبر فجعل الكمين في مواضع فلما وصل أهل طليطلة
إلى قلعة رباح للغارة خرج الكمين عليهم من جوانبهم ووضعوا السيف فيهم وأكثروا القتل وعاد من سلم منهم منهزما إلى طليطلة وجمعت رؤوس القتلى وحملت إلى ميسرة فلما رأى كثرتها عظمت عليه وارتاع لذلك ووجد في نفسه غما شديدا فمات بعد أيام يسيرة.
444

وفيها أيضا كان بطليطلة فتنة كبيرة تعرف بملحمة العراس قتل من أهلها كثير.
ذكر عدة حوادث
وفيها أحضر المعتصم أحمد بن حنبل وامتحنه بالقرآن فلم يجب إلى القول بخلقه فأمر به فجلد جلدا عظيما حتى غاب عقله وتقطع جلده وحبس مقيدا.
وفيها قدم إسحاق بن إبراهيم إلى بغداد في جمادى الأولى ومعه من أسرى الخرمية خلق كثير وقيل إنه قتل منهم نحو مائة ألف سوى النساء والصبيان.
وفيها توفي أبو نعيم الفضل بن دكين الملائي مولى طلحة بن عبد الله التيمي في شعبان وهو من مشايخ البخاري ومسلم كان مولده سنة ثلاثين ومائة وكان شيعيا وله طائفة تنسب إليه يقال لها الدكينية.
445

220
ثم دخلت سنة عشرين ومائتين
ذكر ظفر عجيف بالزط
وفي هذه السنة دخل عجيف بالزط بغداد بعد أن ضيق عليهم وقاتلهم وطلبوا منه الأمان فأمنهم فخرجوا إليه في ذي الحجة سنة تسع عشرة ومائتين وكانت عدتهم مع النساء والصبيان سبعة وعشرين ألفا والمقاتلة منهم اثنا عشر ألفا فلما خرجوا إليه جعلهم في السفن وعبأهم في سفنهم على هيئتهم في الحرب معهم البوقات حتى دخل بهم بغداد يوم عاشوراء من هذه السنة.
وخرج المعتصم إلى الشماسية في سفينة يقال لها الرف حتى يمر به الزط على تعبيتهم وهم ينفخون في البوقات وأعطى عجيف أصحابه كل رجل دينارين دينارين وأقام الزط في سفنهم ثلاثة أيام ثم نقلوا إلى الجانب الشرقي وسلموا إلى بشر بن السميدع فذهب بهم إلى خانقين ثم نقلوا إلى الثغر إلى عين زربة فأغارت الروم عليهم فاجتاحوهم فلم يفلت منهم أحد.
446

ذكر مسير الأفشين لحرب بابك الخرمي
وفي هذه السنة عقد المعتصم للأفشين حيدر بن كاوس على الجبال ووجهه لحرب بابك فسار إليه.
وكان ابتداء خروج بابك سنة إحدى ومائتين فكانت مدينته البذ وهزم من جيوش السلطان عدة وقتل من قواده جماعة فلما أفضى الأمر إلى المعتصم وجه أبا سعيد محمد بن يوسف إلى أردبيل وأمره أن يبني الحصون التي أخربها بابك فيما بين زنجان وأردبيل ويجعل فيها الرجال تحفظ الطرق لمن يجلب الميرة إلى أردبيل فتوجه أبو سعيد لذلك وبنى الحصون.
ووجه بابك سرية في بعض غزاته فأغارت على بعض النواحي ورجعت منصرفة وبلغ ذلك أبا سعيد فجمع الناس وخرج في طلب السرية فاعترضها في بعض الطرق فاقتتلوا قتالا شديدا فقتل أبو سعيد من أصحاب بابك جماعة وأسر جماعة واستنقذ ما كانوا أخذوه وسير الرؤوس والأسرى إلى المعتصم فكانت هذه أول هزيمة على أصحاب بابك.
ثم كان الأخرى لمحمد بن البعيث وذلك أن محمدا كان في قلعة له حصينة تسمى الشاهي كان ابن البعيث قد أخذها من ابن الرواد وهي من كورة أذربيجان وله حصن آخر من أذربيجان يسمى تبريز وكان مصالحا لبابك تنزل سراياته عنده فيضيفهم حتى أنسوا به ثم إن بابك وجه قائدا اسمه عصمة من أصبهبذيته في سرية فنزل بابن البعيث،
447

فأنزل له الضيافة على عادتها، واستدعاه له في خاصة ووجوه أصحابه فصعد فغذاهم وسقاهم الخمر حتى سكروا ثم وثب على عصمة فاستوثق منه وقتل من كان معه من أصحابه وأمره أن يسمي رجلا رجلا من أصحابه فكان يدعو الرجل باسمه فيصعد فيضرب عنقه حتى علموا بذلك فهربوا وسير عصمة إلى المعتصم فسأل المعتصم عصمة عن بلاد بابك فأعلمه طرقه ووجوه القتال فيها ثم ترك عصمة محبوسا فبقي إلى أيام الواثق.
ثم إن الأفشين سار إلى بلاد بابك فنزل برزند وعسكر بها وضبط الطرق والحصون فيما بينه وبين أردبيل وانزل محمد بن يوسف بموضع يقال له خش فحفر خندقا وأنزل الهيثم الغنوي برستاق أرشق فأصلح حصنه وحفر خندقه وأنزله علوية الأعور من قواد الأبناء في حصن النهر مما يلي أردبيل فكانت السابلة والقوافل تخرج من أردبيل ومعها من يحميها حتى تنزل بحصن النهر ثم يسيرها صاحب حصن النهر إلى الهيثم الغنوي فيلقاه الهيثم بمن جاء إليه من ناحية في موضع معروف لا يتعداه أحدهم إذا وصل إليه فإذا لقيه أخذ ما معه وسلم إليه ما معه ثم يسير الهيثم بمن معه إلى أصحاب أبي سعيد فيلقونه بمنتصف الطريق ومعهم من خرج من العسكر فيتسلمون ما مع الهيثم ويسلمون إليه ما معهم وإذا سبق أحدهم إلى المنتصف لا يتعداه ويسير أبو سعيد بمن معه إلى عسكر الأفشين فيتلقاه صاحب سيارة الأفشين فيتسلمهم منه ويسلم إليه من
448

صحبه من العسكر فلم يزل الأمر على هذا.
وكانوا إذا ظفروا بأحد من الجواسيس حملوه إلى الأفشين فكان يحسن إليهم ويهب لهم ويسألهم عن الذي يعطيهم بابك فيضعفه لهم ويقول لهم كونوا جواسيس لنا فكان ينتفع بهم.
ذكر وقعة الأفشين مع بابك
وفيها كانت وقعة الأفشين مع بابك قتل من أصحاب بابك خلق كثير.
وكان سببها أن المعتصم وجه بغا الكبير إلى الأفشين ومعه مال للجند والنفقات فوصل أردبيل فبلغ بابك الخبر فتهيأ هو وأصحابه ليقطعوا عليه قبل وصوله إلى الأفشين فجاء جاسوس إلى الأفشين فأخبره بذلك فلما صح الخبر عند الأفشين كتب إلى بغا أن يظهر أنه يريد الرحيل ويحمل المال على الإبل ويسير نحوه حتى يبلغ حصن النهر فيحبس الذي معه حتى يجوز من صحبه من القافلة فإذا جاوزوا رجع بالمال إلى أردبيل.
ففعل بغا ذلك وسارت القافلة وجاءت جواسيس بابك إليه فأخبروه أن المال قد سار فبلغ النهر وركب الأفشين في اليوم الذي واعد فيه بغا عند العصر من برزند فوافى خش مع غروب الشمس فنزل خارج أبي سعيد فلما أصبح ركب سرا ولم يضرب طبلا ولم ينشر علما،
449

وأمر الناس بالسكوت وجد في السير ورحلت القافلة التي كانت توجهت ذلك اليوم من النهر إلى ناحية الهيثم وتعبى بابك في أصحابه وسار على طريق النهر وهو يظن أن المال يصادفه فخرجت خيل بابك على القافلة ومعها صاحب النهر فقاتلهم صاحب النهر فقتلوه وقتلوا من كان معه من الجند وأخذوا جميع ما كان معهم وعلموا أن المال قد فاتهم وأخذوا علمه ولباس أصحابه فلبسوها وتنكروا ليأخذوا الهيثم الغنوي ومن معه أيضا ولا يعلمون بخروج الأفشين وجاؤوا كأنهم أصحاب النهر فلم يعرفوا الموضع الذي يقف فيه علم صاحب النهر فوقفوا في غيره.
وجاء الهيثم فوقف في موضعه وأنكر ما رأى فوجه ابن عم له فقال له اذهب إلى هذا البغيض فقل له لأي شيء وقوفك فجاء إليهم فأنكرهم فرجع إليه فأخبره فأنفذ جماعة غيره فأنكروهم أيضا وأخبروه أن بابك قد قتل علوية صاحب النهر وأصحابه وأخذ أعلامهم ولباسهم فرحل الهيثم راجعا ونجى القافلة التي كانت معه وبقي هو وأصحابه في أعقابهم حامية لهم حتى وصلت القافلة إلى الحصن وهو راشق، وسير رجلين من أصحابه إلى الأفشين وإلى أبي سعيد يعرفهما الخبر فخرجا يركضان ودخل الهيثم الحصن ونزل بابك عليه ووضع له كرسي بحيال الحصن، وأرسل إلى الهيثم أن خل الحصن وانصرف فأبى الهيثم ذلك فحاربه بابك وهو يشرب الخمر على عادته والحرب مشتبكة.
وسار الفارسان فلقيا الأفشين على أقل من فرسخ فقال لصاحب مقدمته:
450

أرى فارسين يركضان ركضا شديدا ثم قال اضربوا الطبل وانشروا الأعلام واركضوا نحوهما وصيحوا لبيكما ففعلوا ذلك وأجرى الناس خيلهم طلقا وأحدا حتى لحقوا بابك وهو جالس فلم يطق أن يركب حتى وافته الخيل فاشتبكت الحرب فلم يفلت من رجاله أحد وأفلت هو في نفر يسير من خيالته ودخل موقان وقد تقطع عنه أصحابه ورجع عنه الأفشين إلى برزند.
وأقام بابك بموقان وأرسل إلى البذ فجاءه عسكر فرحل بهم من موقان حتى دخل البذ ولم يزل الأفشين معسكرا ببرزند وأقام بموقان وأرسل إلى البذ فجاءه عسكر فرحل بهم من موقان حتى دخل البذ ولم يزل الأفشين معسكرا ببرزند فلما كان في بعض الأيام مرت قافلة فخرج عليها أصبهبذ بابك فأخذها وقتل من فيها فقحط عسكر الأفشين لذلك فكتب الأفشين إلى صاحب مراغة بحمل الميرة وتعجيلها فوجه إليه قافلة عظيمة فيها قريب من ألف ثور سوى غيرها من الدواب تحمل الميرة ومعها جند يسيرون بها فخرج عليهم سرية لبابك فأخذوها عن آخرها وأصاب العسكر ضيق شديد فكتب الأفشين إلى صاحب شيروان يأمره أن يحمل إليه طعاما فحمل إليه طعاما كثيرا وأغاث الناس وقدم بغا على الأفشين بما معه.
ذكر بناء سامرا
وفي هذه السنة خرج المعتصم إلى سامرا لبنائها.
وكان سبب ذلك أنه قال إني أتخوف هؤلاء الحربية أن يصيحوا صيحة فيقتلون غلماني فأريد أن أكون فوقهم فإن رابني منهم شيء أتيتهم في البر والماء حتى آتي عليهم فخرج إليها فأعجبه مكانها.
451

وقيل كان سبب ذلك أن المعتصم كان قد أكثر من الغلمان الأتراك فكانوا لا يزالون يرون الواحد بعد الواحد قتيلا وذلك أنهم كانوا جفاة يركبون الدواب فيركضونها إلى الشوارع فيصدمون الرجل والمرأة والصبي فيأخذهم الأبناء عن دوابهم ويضرونهم وربما هلك أحدهم فتأذى بهم الناس.
ثم إن المعتصم ركب يوم عيد فقام إليه شيخ فقال له يا أيا إسحاق فأراد الجند ضربه فمنعهم فقال يا شيخ مالك مالك قال لا جزاك الله عن الجوار خيرا جاورتنا وجئت بهؤلاء العلوج من غلمانك الأتراك فأسكنتهم بيننا فأيتمت صبياننا وأرملت بهم نسواننا وقتلت رجالنا والمعتصم يسمع ذلك فدخل منزله ولم ير راكبا إلى مثل ذلك اليوم فخرج فصلى بالناس العيد ولم يدخل بغداد بل سار إلى ناحية القاطول ولم يرجع إلى بغداد.
قال مسرور الكبير سألني المعتصم أين كان الرشيد يتنزه إذا ضجر من المقام ببغداد قلت بالقاطول وكان قد بني هناك مدينة آثارها وسورها قائم وكان قد خاف من الجند ما خاف المعتصم، فلما وثب أهل الشام بالشام وعصوا خرج إلى الرقة فأقام بها وبقيت مدينة القاطول لم تستتم.
ولما خرج المعتصم إلى القاطول استخلف ببغداد ابنه الواثق.
وكان المعتصم قد اصطنع قوما من أهل الحوف بمصر واستخدمهم وسماهم المغاربة وجمع خلقا من سمرقند وأشروسنة وفرغانة وسماهم الفراغنة فكانوا من أصحابه وبقوا بعده. وكان ابتداء العمار بسامرا سنة إحدى وعشرين ومائتين.
452

ذكر قبض الفضل بن مروان
وكان الفضل بن مروان من البردان وكان حسن الخط فاتصل بيحيى الجرمقاني كاتب المعتصم قبل خلافته فكان يكتب بين يديه، فلما هلك الجرمقاني صار في موضعه وسار مع المعتصم إلى الشام ومصر فأخذ من الأموال الكثير فلما صار المعتصم خليفة كان اسمها له وكان معناها للفضل واستولى على الدواوين كلها وكثر الأموال.
وكان المعتصم يأمره بإعطاء المغني والنديم فلا ينفذ الفضل ذلك فثقل على المعتصم وكان له مضحك اسمه إبراهيم يعرف بالهفتي فأمر له المعتصم بمال وتقدم إلى الفضل بإعطائه فلم يعطه شيئا فبينا الهفتي يوما عند المعتصم يمشي معه في بستان له وكان الهفتي يصحبه قبل الخلافة ويقول له فيما يداعبه والله لا تفلح أبدا وكان مربوعا بدينا وكان المعتصم خفيف اللحم فكان يسبقه يسبقه ويلتفت إليه ويقول مالك لا تسرع المشي فلما أكثر عليه من ذلك قال الهفتي مداعبا له كنت أراني أماشي خليفة ولم [أكن] أراني أماشي فيجا، والله لا أفلحت أبدا! فضحك المعتصم فقال وهل بقي من الفلاح شيء لم أدركه بعد الخلافة فقال أتظن أنك أفلحت؟ لا والله مالك الخلافة إلا اسمها ما يتجاوز أمرك أذنيك إنما الخليفة الفضل فقال وأي أمر لي لم ينفذ؟ فقال الهفتي أمرت لي بكذا وكذا منذ شهرين فما أعطيت حبة فحقدها على الفضل.
فقيل: أول ما أحدثه في أمره أن جعل زماما في نفقات خاصة وفي
453

الخراج، وجميع الأعمال ثم نكبه وأهل بيته في صفر وأمرهم بعمل حسابهم وصير مكانه محمد بن عبد الملك الزيات فنفى الفضل إلى قرية في طريق الموصل تعرف بالسن وصار محمد وزيرا كاتبا.
وكان الفضل شرس الأخلاق ضيق الطعن كريه اللقاء بخيلا مستطيلا فلما نكب شمت به الناس حتى قال بعضهم فيه:
(لبيك على الفضل بن مروان نفسه * فليس له باك من الناس يعرف)
(لقد صحب الدنيا منوعا لخيرها * وفارقها وهو الظلوم المعنف)
(إلى النار فليذهب ومن كان مثله * على أي شيء فاتنا منه نأسف)
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة سير عبد الرحمن ملك الأندلس جيشا إلى طليطلة فقاتلوها فلم يظفروا بها وحج بالناس صالح بن العباس بن محمد.
وفيها توفي سليمان بن داود بن علي بن عبد الله بن عباس أبو أيوب الهاشمي وعفان بن مسلم أبو عثمان الصفار البصري وكان موته ببغداد وله خمس وثمانون سنة وهو من مشايخ البخاري وتوفي فتح الموصلي
454

الزاهد، وكان من الأولياء والأجواد ومحمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي عليه السلام توفي ببغداد وكان قدمها ومعه امرأته أم الفضل ابنة المأمون فدفن بها عمد جده موسى بن جعفر وهو أحد الأئمة الإمامية وصلى عليه الواثق وكان عمره خمسا وعشرين سنة وكانت وفاته في ذي الحجة وقيل في سبب موته غير ذلك.
455

221
ثم دخلت سنة إحدى وعشرين ومائتين
ذكر محاربة بابك في هذه السنة
في هذه السنة واقع بابك بغا الكبير فهزمه وواقعه الأفشين فهزم بابك.
وكان سبب ذلك أن بغا الكبير كان قد قدم المال الذي كان معه إلى الأفشين ففرقه في أصحابه وتجهز بعد النيروز ووجه إلى بغا في عسكر ليدور حول هشتادسر وينزل في خندق محمد بن حميد ويحفره ويحكمه فسار بغا إلى الخندق ورحل الأفشين من برزند ورحل أبو سعيد من خش يريدان بابك فتوافوا بمكان يقال له دروذ فحفر الأفشين خندقا وبنى عليه سورا وكان بينه وبين البذ ستة أميال.
ثم إن بغا تجهز بغير أمر الأفشين وحمل معه الزاد ودار حول هشتادسر حتى دخل قرية البذ فنزلها فأقام بها ثم وجه ألف رجل في علاقة له فخرج عليهم بعض عساكر بابك فأخذ العلاقة وقتل كل من كان قاتله وأسر من قدر عليه وأخذ بعضهم فأرسل منهم رجلين إلى الأفشين يعلمانه نزل بهم.
ورجع بغا إلى خندق محمد بن حميد تشبيها بالمنهزم وكتب إلى الأفشين
456

يعلمه ذلك، ويسأله المدد، فوجه إليه الأفشين أخاه الفضل، وأحمد بن الخليل بن هشام، وابن جوشن، وجناحا الأعور صاحب شرطة الحسن بن سهل وأحد الأخوين قرابة الفضل بن سهل فأتوا بغا وكتب الأفشين إلى بغا يعلمه أن يعزو بابك في يوم عينه له ويأمره أن يغزو في ذلك اليوم بعينه فيحاربه من الوجهين فخرج الأفشين ذلك اليوم من دروذ يريد بابك وخرج بغا من خندقه فخرج إلى هشتادسر فلم يكن للناس صبر لشدة البرد والريح فانصرف إلى عسكره فعسكر على دعوة وهاجت ريح شديدة ومطر شديد فرجع بغا إلى عسكره، وواقعهم الأفشين من الغد بعد رجوع بغا فهزم أصحاب بابك وأخذ عسكره وخيمه وامرأة كانت معه ونزل الأفشين في معسكر بابك.
ثم تجهز بغا من الغد وصعد إلى هشتادسر فأصاب العسكر وكان بإزائه قد انصرف إلى بابك فأصاب من أثاثهم ورحلهم شيئا وانحدر من هشتادسر يريد البذ وعلى مقدمته داود سياه فأرسل إليه بغا أن المساء قد أدركنا وقد تعب الرجالة وتوسطنا المكان الذي قد نعرفه فانظر جبلا حصينا حتى نعسكر فيه ليلتنا هذه فصعد بهم إلى جبل أشرفوا منه على عسكر الأفشين فقالوا نبيت ههنا إلى غدوة وننحدر إلى الكافر إن شاء الله تعالى.
فجاءهم تلك الليلة سحاب وبرد وثلج كثير فأصبحوا ولا يقدر أحد منهم [أن] ينزل فيأخذ ماء ولا يسقي دابته من شدة البرد واشتد عليهم الثلج والضباب، فلما كان اليوم الثالث قال الناس لبغا قد فني ما معنا من الزاد،
457

وقد أضر بنا البرد فانزل على أي حالة كانت إما راجعين وإما إلى الكافر.
وكان بابك في أيام الضباب والثلج قد بيت الأفشين وبعض عسكره وانصرف الأفشين إلى عسكره فضرب بغا الكبير الطبل وانحدر يريد البذ ولا يعلم بما تم على الأفشين بل يظنه في موضع عسكره فلما نزل إلى بطن الوادي رأى السماء منجلية والدنيا طيبة غير رأس الجبل الذي كان عليه فعبأ أصحابه وتقدم إلى البذ حتى صار بحيث يزلق جبل البذ ولم يبق بينه وبين أن يشرف على أبيات البذ إلا صعود نصف ميل.
وكان على مقدمته جماعة فيهم غلام لابن البعيث له قرابة البذ فلقيهم طلائع بابك فعرف بعضهم الغلام فسأله عم له عمن معه من أهله فأخبره فقال له ارجع وقل لمن تعني به يتنحى فإنا قد هزمنا الأفشين ومضى إلى خندقه وتهيأنا لكم عسكرين فعجل بالانصراف لعلك تفلت.
فرجع الغلام فأخبر ابن البعيث فأخبر بغا بذلك فشاور أصحابه فقال بعضهم هذا باطل هذه خدعة وقال بعضهم هذا رأس جبل ينظر إلى عسكر الأفشين فصعد بغا ومعه نفر إلى رأس الجبل فلم يروا عسكر الأفشين فتيقن أنه مضى وتشاوروا فرأوا أن ينصرف الناس قبل أن يجيئهم الليل فانصرفوا وجدوا في السير ولم يقصد الطريق الذي دخل منه لكثرة مضايقه بل أخذ طريقا يدور حول هشتادسر ليس فيه غير مضيق واحد فطرح الرجالة سلاحهم في الطريق وخافوا وصار بغا وجماعة القواد في الساقة وطلائع بابك تتبعهم وهم قدر عشرة فرسان فشاور بغا
458

أصحابه، وقال: لا آمن أن يكون هؤلاء مشغلة لنا عن المسير وتقدم أصحابهم ليأخذوا المضيق علينا فقال له الفضل إن هؤلاء أصحاب الليل فأسرع السير ولا تنزل حتى تجاوز المضيق وقال غيره إن العسكر قد تقطع وقد رموا سلاحهم وقد بقي المال والسلاح على البغال ليس معه أحد ولا نأمن أن يؤخذ الأسير الذي معهم.
وكان ابن جويدان معهم أسيرا يريدون أن يفادوا به فعسكر على رأس جبل حصين ونزل الناس وقد وكلوا وتعبوا وفنيت أزوادهم يتحارسون من ناحية المصعد فأتاهم بابك من الناحية الأخرى فكبسوا بغا والعسكر وخرج بغا راجلا فرأى دابة فركبها وجرح الفضل بن كاوس وقتل جناح السكري وابن جوشن وأخذ الأخوين قرابة لفضل بن سهل ونجا بغا والناس ولم تتبعهم الخرمية وأخذوا الأموال والسلاح والأسير فوصل الناس معسكرهم منقطعين إلى خندقهم فأقام بغا به خمسة وعشرين يوما.
وكتب إليه الأفشين يأمره بالرجوع إلى مراغة وأن يرسل إليه المدد فمضى بغا إلى مراغة وفرق الأفشين الناس في مشاتيهم تلك السنة حتى جاء الربيع.
وفيها قتل طرخان وهو من أكبر قواد بابك وكان سبب قتله أنه طلب من بابك اذنا حتى يشتهي في قريته وهي بناحية مراغة وكان الأفشين يرصده فلما علم خبره أرسل إلى ترك مولى إسحاق بن إبراهيم وهو بمراغة يأمره أن يسري إليه في قريته حتى يقتله أو يأخذه أسيرا ففعل ترك ذلك وأسرى إليه وقتله وأخذ رأسه فبعثه إلى الأفشين.
459

ذكر عدة حوادث
وفي هذه السنة قدم صول أرتكين وأهل بلاده في القيود فنزعت قيودهم وحمل على الداوب نحو مائتين.
وفيها غضب الأفشين على رجا الحضاري وبعث به مقيدا وحج بالناس هذه السنة محمد بن داود بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله وهو والي مكة.
(الحضاري بكسر الحاء المهملة وبالضاد المعجمة وبعد الألف راء وياء).
وفيها توفي القاضي أحمد بن محرز قاضي القيروان وكان من العلماء العاملين الزاهدين في الدنيا وفيها توفي آدم بن الياس العسقلاني وهو من مشايخ البخاري في صحيحه وعيسى بن أبان بن صدقة أبو موسى قاضي البصرة وهو من أصحاب أبي الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة وعبد الله بن مسلمة بن قعنب الحارثي صاحب مالك وعبد الكبير بن المعافى بن عمران الموصلي وكان فاضلا والعباس بن سليم بن جميل الأزدي الموصلي.
460

222
ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين ومائتين
ذكر محاربة بابك أيضا
في هذه السنة وجه المعتصم إلى الأفشين جعفرا الخياط مددا له ووجه إليه إيتاخ ومعه ثلاثون ألف ألف درهم للجند وللنفقات فأوصل ذلك إلى الأفشين وعاد.
وفيها كانت وقعة بين أصحاب الأفشين وقائد لبابك اسمه آذين، وكان سببها أن الشتاء لما انقضى سنة إحدى وعشرين ومائتين وجاء الربيع ودخلت سنة اثنتين وعشرين رحل الأفشين عند امكان الزمان فصار إلى موضع يقال له كلان روذ وتفسيره نهر كبير فاحتفر عنده خندقا وكتب إلى أبي سعيد ليرحل من برزند إلى طرف رستاق كلان روذ وبينهما قدر ثلاثة أميال فأقام الأفشين بكلان روذ خمسة أيام فأتاه من أخبره أن قائدا لبابك اسمه أذين قد عسكر بإزائه وأنه قد صير عياله في خيل فقال له بابك لتجعلهم في الحصن فقال لا أتحصن من اليهود يعني المسلمين والله لا أدخلتهم حصنا أبدا.
فوجه الأفشين ظفر بن العلاء السعدي في جماعة من الفرسان والرجالة فساروا ليلتهم فوصلوا إلى مضيق لا يسلكه إلا الواحد بعد الواحد، وأكثر
461

الناس قادوا دوابهم، وتسلقوا في الجبل وأخذوا عيال أذين وبعض ولده.
وبلغ الخبر أذين وكان الأفشين قد خاف أن يؤخذ عليهم الطريق فأمرهم أن يجعلوا على رأس كل جبل رجالا معهم الأعلام السود فإن رأوا شيئا يخافونه حركوا الأعلام ففعلوا ذلك فما أخذوا عيال أذين ورجعوا إلى بعض الطريق قبل المضيق أتاهم أذين في أصحابه فحاربوهم فقتل منهم قتلى واستنقذوا بعض النساء فنظر الرجال المرتبون
برؤوس الجبال فحركوا الأعلام وكان أذين قد أنفذ من يمسك عليهم المضيق فلما رأى الأفشين تحريك العلم الذي بإزائه سير جماعة من الجند مع مظفر بن كيذر فأسرع نحوهم ووجه أبا سعيد بعدهم وبخاراخذاه فلما نظر إليهم رجالة أذين الذين على المضيق تركوه وقصدوا أصحابهم فنجا ظفر بن العلاء ومن معه ومعهم بعض عيال آذين.
ذكر فتح البذ وأسر بابك
وفي هذه السنة فتحت البذ مدينة بابك ودخلها المسلمون وخربوها واستباحوها وذلك لعشر بقين من شهر رمضان.
وكان سبب ذلك أن الأفشين لما عزم على الدنو من البذ والرحيل من كلان روذ جعل يتقدم قليلا قليلا خلاف ما تقدم وكتب إليه المعتصم يأمره أن يجعل الناس نوائب يقفون على ظهور الخيل نوبا في الليل مخافة البيات فضج الناس من التعب وقالوا بيننا وبين العدو أربعة فراسخ،
462

ونحن نفعل أفعالا كأن العدو بإزائنا قد استحيينا من الناس أقدم بنا فإما لنا وإما علينا.
فقال أعلم أن قولكم حق ولكن أمير المؤمنين أمرني بهذا، فلم يلبث أن جاءه كتاب المعتصم يأمره أن يفعل كما كان يفعل فلم يزل كذلك أياما ثم انحدر حتى نزل روذ الروذ وتقدم حتى شارف الموضع الذي كانت به الوقعة في العام الماضي فوجد عليه كردوسا من الخرمية فلم يحاربهم ولم يزل إلى الظهر ثم رجع إلى معسكره فمكث يومين ثم عاد في أكثر من الذين كانوا معهم ولم يقاتلهم، وأقام الأفشين بروذ الروذ وأمر الكوهبانية وهم أصحاب الأخبار أن ينظروا له في رؤوس الجبال مواضع تحصن فيها الرجالة.
فاختاروا له ثلاثة أجبل كان عليها حصون فخربت فأخذ معه الفعلة وسار نحو هذه الجبال وأخذ معه الكعك والسويق وأمر الفعلة بنقل الحجارة وسد الطريق إلى تلك الجبال حتى صارت كالحصون وأمر بحفر خندق على كل طريق وراء تلك الحجارة ولم يترك مسلكا إلى الجبال منها إلى مسلكا واحدا ففرغ من الذي أراد من حفر الخنادق في عشرة أيام وهو والناس يحرسون الفعلة والرجالة ليلا ونهارا.
فلما فرغ منها أدخل الرجالة إليها وأنفذ إليه بابك رسولا ومعه قثاء وبطيخ وخيار ويعلمه أنه قد تعب وشقي من أكل الكعك واننا في عيش رغد فقبل ذلك منه وقال قد عرفت ما أراد أخي وأصعد الرسول،
463

فأراه ما عمل وأطاف به خنادقه كلها وقال اذهب فعرفه ما رأيت.
وكان جماعة من الخرمية يأتون إلى قريب خندق الأفشين فيصيحون فلم يترك الأفشين أحدا يخرج إليهم فعلوا ذلك ثلاثة أيام ثم إن الأفشين أكمن لهم كمينا فما جاؤوا ثاروا عليهم فهربوا ولم يعودوا.
وعبى الأفشين أصحابه وأمر كلا منهم بلزومه موضعه وكان يركب والناس في مواقفهم فكان يصلي الصبح بغلس ثم يضرب الطبول ويسير زحفا وكانت علامته في المسير والوقوف ضرب الطبول لكثرة الناس ومسيرهم في الجبال والأودية على مصافهم فإذا سار ضربها وإذا وقف أمسك عن ضربها فيقف الناس جميعا ويسيرون جميعا.
وكان يسير قليلا كلما جاءه كوهباني بخبر سار أو وقف وكان إذا أراد أن يتقدم إلى المكان الذي كانت به الوقعة عام أول خلف بخاراخذاه على رأس العقبة في ألف فارس وستمائة راجل يحفظون الطريق لئلا يأخذه الخرمية عليهم.
وكان بابك إذا أحس بمجيئهم وجه جمعا من أصحابه فيكمنون في واد تحت تلك العقبة تحت بخاراخذاه واجتهد الأفشين أن يعرف مكان كمين بابك فلم يعلم بهم وكان يأمر أبا سعيد أن يعبر الوادي في كردوس ويأمر جعفر الخياط أن يعبر في كردوس ويأمر أحمد بن الخليل بن هشام أن يعبر في كردوس آخر فيصير في ذلك الجانب ثلاثة كراديس في طرف أبياتهم وكان بابك يخرج عسكره فيقف بإزاء هذه الكراديس لئلا
464

يتقدم منهم أحد إلى باب البذ وكان يفرق عساكره كمينا ولم يبق إلا في يسير.
وكان الأفشين يجلس على تل مشرف ينظر إلى قصر بابك والناس كراديس فمن كان معه من جانب الوادي نزل عن دابته ومن كان من ذلك الجانب مع أبي سعيد وجعفر وأحمد بن الخليل لم ينزل القرية من العدو وكان بابك وأصحابه يشربون الخمر ويضربون بالسرنائي فإذا صلى الأفشين الظهر رجع إلى خندقه بروذ الروذ فكان يرجع أولا أقربهم إلى العدو ثم الذي يليه ثم الذي يليه فكان الآخر من يرجع بخاراخذاه لأنه كان أبعدهم عن العدو فإذا رجعوا صاح بهم الخرمية.
فلما كان في بعض الأيام ضجرت الخرمية من المطاولة وانصرف الأفشين كعادته وعادت الكراديس التي بجانب ذلك الوادي ولم يبق إلا جعفر الخياط فتح الخرمية باب البذ وخرج منهم جماعة على أصحاب جعفر وارتفعت الصيحة فتقدم جعفر بنفسه فرد أولئك الخرمية إلى باب البذ ووقعت الصيحة في العسكر فرجع الأفشين فرأى جعفرا وأصحابه يقاتلون وخرج من الفريقين جماعة وجلس الأفشين في مكانه وهو يتلظى على جعفر ويقول أفسد علي تعبيتي.
465

وارتفعت الصيحة فكان مع أبي دلف قوم من المتطوعة فعبروا إلى جعفر بغير أمر الأفشين وتعلقوا بالبذ وأثروا فيه أثرا وكادوا يصعدونه فيدخلون البذ ووجه جعفر إلى الأفشين أن أمدني بخمسمائة راجل من الناشبة فإني أرجو أن أدخل البذ إن شاء الله تعالى فبعث إليه الأفشين إنك أفسدت علي أمري فتخلص قليلا وخلص أصحابك وانصرف وارتفعت الصيحة من المتطوعة حتى تعلقوا بالبذ وظن الكمناء الذي لبابك أن الحرب قد اشتبكت فوثب بعضهم من تحت بخاراخذاه ووثب بعضهم من ناحية أخرى فتحركت الكمناء من الخرمية والناس على رؤوسهم فلم يزل منهم أحد، فقال الأفشين الحمد لله الذي بين مواضع هؤلاء.
ورجع جعفر وأصحابه والمتطوعة فجاء جعفر إلى الأفشين فأنكر عليه حيث لم يمده وجرى بينهما نفرة شديدة وجاء رجل من المتطوعة ومعه صخرة فقال للأفشين أتردنا
وهذا الحجر أخذته من السور فقال إذا انصرفت عرفت من على طريقك يعني الكمين الذي عند بخاراخذاه وقال لجعفر لو ثار هذا الكمين الذي تحتك كيف كنت ترى هؤلاء المتطوعة؟
ثم رجع هو وأصحابه على عادتهم فلما رأى هؤلاء الكمين الذي عند بخاراخذاه علموا ما كان وراءهم فإن بخاراخذاه لو تحرك نحو القتال لملكوا ذلك الموضع وهلك المسلمون عن آخرهم فأقام الأفشين بخندقه أياما فشكا المتطوعة إليه ضيق العلوفة والزاد والنفقة فقال من صبر فليصبر،
466

ومن لم [يصبر] فالطريق واسع فلينصرف وفي جند أمير المؤمنين كفاية فانصرف المتطوعة يقولون لو ترك الأفشين جعفرا وتركنا لأخذنا البذ لكنه يشتهي المطاولة فبلغه ذلك وما تتناوله المتطوعة بألسنتهم حتى قال بعضهم إني رأيت رسول الله في المنام قال لي قل للأفشين إن أنت حاربت هذا وجددت في أمره وإلا أمرت الجبال أن ترجمك بالحجارة فتحدث الناس بذلك فبلغ الأفشين فأحضره وسأله عن المنام فقصه عليه فقال الله يعلم نيتي وما أريد بهذا الخلق وإن الله لو أمر الجبال برجم أحد لرجم هذا الكافر فكفانا مؤنته فقال رجل من المتطوعة أيها الأمير لا تحرمنا شهادة إن كانت حضرت وإنما قصدنا ثواب الله ووجهه فدعنا وحدنا حتى نتقدم بعد أن يكون بإذنك لعل الله أن يفتح علينا.
فقال الأفشين: إني أرى نياتكم حاضرة وأحسب هذا الأمر يريده الله تعالى وهو خير إن شاء الله تعالى وقد نشطتم ونشط الناس وما كان هذا رأيي وقد حدث الساعة لما سمعت من كلامكم اعزموا على بركة الله أي يوم أردتم حتى نناهضه ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فخرجوا مستبشرين فتأخر من أراد الانصراف ووعد الأفشين الناس ليوم ذكره لهم وأمر الناس بالتجهز وحمل المال والزاد والماء وجعل المحامل على البغال تحمل الجرحى وزحف بالناس ذلك اليوم وجعل بخاراخذاه بمكانه على العقبة وجعل الأفشين بالمكان الذي كان يجلس فيه وقال لأبي دلف قل للمتطوعة أي ناحية أسهل عليكم فاقتصروا عليها.
467

فقال لجعفر: العسكر كله بين يديك والناشبة والنفاطون فإن أردت فخذ منهم ما تريد.
واعزم على بركة الله وتقدم من أي موضع تريده فسار إلى الموضع الذي كان به ذلك اليوم وقال لأبي سعيد قف عندي أنت وأصحابك وقال لجعفر قف أنت ههنا لمكان عينه له فإن أراد جعفر رجالا أو فرسانا أمددناه.
وتقدم جعفر والمتطوعة فقاتلوا وتعلقوا بسور البذ وضرب جعفر باب البذ ووقف عنده يقاتل عليه ووجه الأفشين إليه وإلى المتطوعة بالأموال لتفرق فيهم ويعطى من تقدم وأمدهم بالفعلة معهم الفؤوس وبعث إليهم بالمياه لئلا يعطشوا وبالكعك والسويق فاشتبكت الحرب على الباب طويلا ففتحت الخرمية الباب وخرجوا على أصحاب جعفر فنحوهم عن الباب وشدوا على المتطوعة من الناحية الأخرى فطرحوهم عن السور ورموهم بالصخر وأثروا فيهم وضعفوا عن الحرب وأخذ جعفر من أصحابه نحو مائة رجل فوقفوا خلف تراسهم متحاجزين لا يقدم أحد على الآخر فلم يزالوا كذلك حتى صليت الظهر فتحاجزوا.
وبعث الأفشين الرجالة الذي كانوا عنده نحو المتطوعة وبعث إلى جعفر بعضهم خوفا أن يطمع العدو فقال جعفر لست أوتى من قلة ولكني لا أرى للحرب موضعا يتقدمون فيه فأمره بالانصراف فانصرف.
وحمل الأفشين الجرحى ومن به وهن من حجر فحملوا في المحامل على البغال وانصرفوا عنهم وأيس الناس من الفتح تلك السنة وانصرف أكثر المتطوعة.
468

ثم إن الأفشين تجهز بعد جمعتين فلما كان جوف الليل بعث الرجالة الناشبة وهم ألف رجل وأعطى كل واحد منهم شكوة وكعكا وأعطاهم أعلاما غير مركبة وبعث معهم أدلاء فساروا في جبال منكرة صعبة في غير طريق حتى صاروا خلف التل الذي يقف أذين عليه وهو جبل شاهق وأمرهم أن لا يعلم بهم أحد حتى إذا رأوا أعلام الأفشين وصلوا الغداة ورأوا الوقعة ركبوا تلك الأعلام في الرماح وضربوا الطبول وانحدروا من فوق الجبل ورموا بالنشاب والصخر على الخرمية وإن هم لم يروا الأعلام لم يتحركوا حتى يأتيهم خبره ففعلوا ذلك فوصلوا إلى رأس الجبل عند السحر، فلما كان في بعض الليل وجه الأفشين إلى الجند وأمرهم بالتجهز للحرب.
فلما كان في بعض الليل وجه بشيرا التركي وقوادا من الفراغنة كانوا معه فأمرهم أن يسيروا حتى يصيروا تحت التل الذي عليه أذين وكان يعلم أن بابك يكمن تحت ذلك الحبل فساروا ليلا ولا يعلم بهم أكثر من أهل العسكر ثم ركب هو والعسكر مع السحر فصلى الغداة وضرب الطبل وركب فأتى الموضع الذي كان يقف فيه فقعد على عادته وأمر بخاراخذاه أن يقف مع جعفر الخياط وأبي سعيد وأحمد بن الخليل بن هشام ونزل الموضع الذي كان يقف فيه فأنكر الناس ذلك وأمرهم أن يقربوا من التل الذي عليه أذين فيحدقوا به وكان قبل ينهاهم عنه.
ومضى الناس مع هؤلاء القواد الأربعة فكان جعفر مما يلي الباب وإلى جانبه أبو سعيد وإلى جانب أبي سعيد بخاراخذاه وكان أحمد مما يلي
469

بخاراخذاه فصاروا جميعا حول التل وارتفعت الضجة من أسفل الوادي فوثب كمين بابك ببشير التركي والفراغنة فحاربوهم وسمع أهل العسكر صيحتهم فأرادوا الحركة فأمر الأفشين مناديا ينادي فيهم أن بشيرا قد أثار كمينا فلا يتحركن أحد فسكنوا.
ولما سمع الرجال الذي كان سيرهم حتى صاروا في أعلى الجبال ضجة العسكر ركبوا الأعلام على الرماح فنظر الناس إلى الأعلام تنحدر من الجبل على خيل آذين فوجه إليهم بعض أصحابه.
وحمل جعفر وأصحابه على آذين وأصحابه حتى صعدوا إليه فحملوا عليه حملة منكرة فانحدر إلى الوادي وحمل عليه جماعة من أصحاب أبي سعيد فإذا تحت دوابهم آبار محفورة فتساقطت الفرسان فيها فوجه الأفشين الفعلة يطمون تلك الآبار ففعلوا وحمل الناس عليهم حملة شديدة.
وكان آذين قد جعل فوق الجبل عجلة عليها صخر فلما حمل الناس عليهم دفع تلك العجلة عليهم فأفرج الناس منها حتى تدحرجت ثم حمل الناس من كل وجه فلما نظر بابك إلى أصحابه قد أحدق بهم خرج من طرف البذ مما يلي الأفشين فأقبل نحوه فقيل للأفشين إن هذا بابك يريدك فتقدم إليه حتى سمع كلامه وكلام أصحابه والحرب مشتبكة في ناحية آذين فقال أريد الأمان من أمير المؤمنين فقال له الأفشين قد عرضت هذا عليك وهو لك مبذول متى شئت فقال قد شئت الآن على أن تؤخرني حتى أحمل عيالي وأتجهز فقال له الأفشين أنا أنصحك خروجك اليوم خير من الغد قال قد قبلت هذا قال الأفشين فابعث
470

بالرهائن! فقال نعم أما فلان وفلان فهم على ذلك التل فمر أصحابك بالتوقف.
فجاء رسول الأفشين ليرد الناس فقيل له إن أعلام الفراغنة قد دخلت البذ وصعدوا بها القصور فركب وصاح بالناس فدخل ودخلوا، وصعد الناس بالأعلام فوق قصور بابك وكان قد كمن في قصوره وهي أربعة ستمائة رجل فخرجوا على الناس فقاتلوهم ومر بابك حتى دخل الوادي الذي يلي هشتادسر واشتغل الأفشين ومن معه بالحرب على أبواب القصور فاحضر النفاطين فأحرقوها وهدم الناس القصور فقتلوا الخرمية عن آخرهم وأخذ الأفشين أولاد بابك وعيالاته وبقي هناك حتى أدركه المساء فأمر الناس بالانصراف فرجعوا إلى الخندق بروذ الروذ.
وأما بابك فإنه سار فيمن معه وكانوا قد عادوا إلى البذ بعد رجوع الأفشين فأخذوا ما أمكنهم من الطعام والأموال ولما كان الغد رجع الأفشين إلى البذ وأمر بهدم القصور وإحراقها ففعلوا فلم يدع منها بيتا، وكتب إلى ملوك أرمينية وبطارقتهم يعلمهم أن بابك قد هرب وعدة معه وهو مار بكم وأمرهم بحفظ نواحيهم ولا يمر بهم أحد إلا أخذوه حتى يعرفوه.
وجاءت جواسيس الأفشين إليه فأعلموه بموضع بابك وكان في واد كثير الشجر والعشب طرفه بأذربيجان وطرفه الآخر بأرمينية ولم يمكن الخيل نزوله ولا يرى من يستخفي فيه لكثرة شجره ومياهه ويسمى هذا الوادي غيضة فوجه الأفشين إلى كل موضع فيه طريق إلى الوادي جماعة من أصحابه
471

يحفظونه وكانوا خمسة عشر جماعة.
وورد كتاب المعتصم فيه أمان بابك فدعا الأفشين من كان استأمن إليه من أصحابه فأعلمهم ذلك وأمرهم بالمسير إليه بالكتاب وفيهم ابنه فلم يجسر أحد منهم خوفا منهم فقال إنه يفرج بهذا الأمان فقالا نحن أعرف به منك فقام رجلان فقالا أضمن لنا أنك تجري على عيالاتنا فضمن لهما فسارا بالكتاب فلما رأياه أعلماه ما قدما له فقتل أحدهما وأمر الآخر أن يعود بالكتاب إلى الأفشين.
وكان ابنه قد كتب إليه معهما كتابا فقال لذلك الرجل قل لابن الفاعلة إن كنت ابني لحقت بي ولكنك لست ابني ولأن تعيش يوما واحدا وأنت رئيس خير نم أن تعيش أربعين سنة عبدا ذليلا وقعد في موضعه فلم يزل في تلك الغيضة حتى فنى زاده وخرج من بعض تلك الطرق وكان من عليه من الجند قد تنحوا قريبا منه وتركوا عليه أربعة نفر يحرسونه.
فبينما هم ذات يوم نصف النهار إذ خرج بابك وأصحابه فلم يروا العسكر ولا أولئك الذي يحرسون المكان فظن أن ليس هناك أحد فخرج هو وعبد الله أخوه ومعاوية وأمه وامرأة أخرى وساروا يريدون أرمينية فرآهم الحراس فأرسلوا إلى أصحابهم أننا قد رأينا فرسانا لا ندري من هم وكان أبو الساج هو المقدم عليهم فركب الناس وساروا نحوهم،
472

فرأوا بابك وأصحابه قد نزلوا على ماء يتغدون فلما رأى العساكر ركب هو ومن معه فنجا هو وأخذ معاوية وأم بابك والمرأة الأخرى فأرسلهم أبو الساج إلى الأفشين.
وسار بابك في جبال أرمينية مستخفيا فاحتاج إلى طعام وكان بطارقة أرمينية قد تحفظوا بنواحيهم وأوصوا أن لا يجتاز بهم أحد إلا أخذوه حتى يعرفوه وأصاب بابك الجوع فرأى حراثا في بعض الأودية فقال لغلامه انزل إلى هذا الحراث وخذ معك دنانير ودراهم فإن كان معه خبز فاشتر منه.
وكان للحراث شريك قد ذهب لحاجة فنزل الغلام إلى الحراث ليأخذ منه الطعام فرآه رفيق الحراث فظن أنه يأخذ ما معه غصبا فعدا إلى المسلحة وأعلمهم أن رجلا عليه سيف وسلاح قد أخذ خبز شريكه فركب صاحب المسلحة وكان في جبال ابن سنباط فوجه إلى سهل بن سنباط بالخبر فركب في جماعة فوافى الحراث والغلام عنده فسأل عنه فأخبره الحراث خبره فأخبره الغلام عن مولاه فدله عليه فلما رأى وجه بابك عرفه فترجل له وأخذ يده فقبلها وقال أين تريد قال بلاد الروم قال لا تجد أحدا أعرف بحقك مني وليس بيني وبين السلطان عمل وكل من ههنا من البطارقة إنما هم أهل بيتك قد صار لك منهم أولاد وذلك أن بابك كان إذا علم أن عند بعضهم من النساء امرأة جميلة طلبها فإن بعث بها إليه وإلا أسرى إليه فأخذها ونهب ماله وعاد فخدعه ابن سناط حتى صار إلى حصنه.
473

وأرسل بابك أخاه عبد الله إلى حصن اصطفانوس فأرسل ابن سنباط إلى الأفشين يعلمه بذلك فكتب إليه الأفشين يعده ويمنيه ووجه إليه أبا سعيد وبورماره وأمرهما بطاعته وأمرهما ابن سنباط بالمقام في مكان حماه وقال لا تبرحا حتى يأتيكما رسولي فيكون العمل بما يقول لكما.
ثم إنه قال لبابك قد ضجرت من هذا الحصن فلو نزلت إلى الصيد ففعل فلما نزل من الحصن أرسل ابن سنباط إلى أبي سعيد وبورماره فأمرهما أن يوافياه أحدهما من جانب واد هناك والثاني من الجانب الآخر ففعلا فلم يحب أن يدفعه إليهما.
فبينما بابك وابن سنباط يتصيدان إذ خرج عليهما أبو سعيد وبورماره في أصحابهما وعلى بابك دراعة بيضاء فأخذوهما وأمروا بابك بالنزول فقال من أنتم؟ فقال: أنا أبو سعيد وهذا فلان فنزل ثم قال لابن سنباط القبيح وشتمه وقال إنما بعتني لليهود بشيء يسير لو أردت المال لأعطيتك أكثر مما يعطيك هؤلاء فأركبه أبو سعيد وساروا به إلى الأفشين فلما قرب من العسكر صعد الأفشين وجلس ينظر إليه وصف عسكره صفين وأمر بإنزال بابك عن دابته ومشى بين الصفين وأدخله الأفشين بيتا ووكل به من
يحفظه وسير معه سهل بن سنباط ابنه معاوية فأمر له الأفشين بمائة ألف درهم وأمر لسهل بألف درهم ومنطقة مغرقة بالجواهر وتاج البطرقة.
وأرسل الأفشين إلى عيسى بن يونس بن اصطفانوس يطلب منه عبد الله أخا بابك فأنفذه إليه فحبسه مع أخيه وكتب إلى المعتصم بذلك فأمره بالقدوم بهما عليه.
474

وكان وصول بابك إلى الأفشين ببرزند لعشر خلون من شوال وكان الأفشين قد أخذ نساء كثيرة وصبيانا كثيرا ذكروا أن بابك أسرهم وأنهم أحرار من العرب والدهاقين فأمر بهم فجعلوا في حظيرة كبيرة وأمرهم أن يكتبوا إلى أوليائهم فكل من جاء يعرف امرأة أو صبيا أو جارية وأقام شاهدين أخذه فأخذ الناس منهم خلقا كثيرا وبقي كثير منهم.
ذكر استيلاء عبد الرحمن على طليطلة
قد ذكرنا عصيان أهل طليطلة على عبد الرحمن بن الحكم بن هشام الأموي صاحب الأندلس وانفاذ الجيوش إلى محاصرتها مرة بعد مرة فلما كان سنة إحدى وعشرين ومائتين خرج جماعة من أهلها إلى قلعة رباح وبها عسكر لعبد الرحمن فاجتمعوا كلهم على حصر طليطلة وضيقوا عليها وعلى أهلها وقطعوا عنهم باقي مرافقهم واشتدوا في محاصرتهم فبقوا كذلك إلى أن دخلت سنة اثنتين وعشرين.
فسير عبد الرحمن أخاه الوليد بن الحكم إليها أيضا فرأى أهلها وقد بلغ بهم الجهد كل مبلغ واشتد عليهم طول الحصار وضعفوا عن القتال والدفع فافتتحها قهرا وعنوة يوم السبت لثمان خلون من رجب وأمر بتجديد القصر على باب الحصن الذي كان هدم أيام الحكم وأقام بها إلى آخر شعبان من سنة ثلاث وعشرين ومائتين حتى استقرت قواعد أهلها وسكنوا.
475

ذكر عدة حوادث
وحج بالناس هذه السنة محمد بن داود.
وفيها ظهر عن يسار القبلة كوكب فبقي يرى نحوا من أربعين ليلة وله شبه الذئب وكان أول ما طلع نحو المغرب ثم رؤي بعد ذلك نحو المشرق وكان طويلا جدا فهال الناس ذلك وعظم عليهم ذكره ابن أبي أسامة في تاريخه وهو من الثقات الاثبات.
وفيها توفي يحيى بن صالح أبو زكريا الوحاظي وهو دمشقي وقيل حمصي.
وفيها توفي أبو هاشم محمد بن علي بن أبي خداش الموصلي وكان كثير الرواية عن المعافى بن عمران.
476

223
ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين ومائتين
ذكر قدوم الأفشين ببابك
في هذه السنة قدم الأفشين إلى سامرا ومعه بابك الخرمي وأخوه عبد الله في صفر سنة ثلاث وعشرين ومائتين وكان المعتصم يوجه إلى الأفشين في كل يوم من حين سار إلى برزند إلى أن وافى سامرا خلعة وفرسا فلما صار الأفشين بقناطر حذيفة تلقاه هارون الواثق بن المعتصم وأهل بيت المعتصم وأنزل الأفشين بابك عنده في قصره بالمطيرة فأتاه أحمد بن أبي دؤاد متنكرا فنظر إلى بابك وكلمه ورجع إلى المعتصم فوصفه له فأتاه المعتصم أيضا متنكرا فرآه.
فلما كان الغد قعد المعتصم واصطف الناس من باب العامة إلى المطيرة فشهره المعتصم وأمر أن يركب على الفيل فركب عليه واستشرفه الناس إلى باب العامة فقال محمد بن عبد الملك الزيات:
(قد خضب الفيل كعاداته * يحمل شيطان خراسان)
(والفيل لا تخضب أعضاؤه * إلا لذي شأن من الشان)
477

ثم أدخل دار المعتصم فأمر بإحضار سياف بابك فحضر فأمره المعتصم أن يقطع يديه ورجليه فقطعهما فسقط فأمره بذبحه ففعل وشق بطنه وأنفذ رأسه إلى خراسان وصلب بدنه بسامرا وأمر بحمل أخيه عبد الله إلى إسحاق بن إبراهيم ببغداد وأمره أن يفعل به ما فعل بأخيه بابك فعمل به ذلك وضرب عنقه وصلب في الجانب الشرقي بين الجسرين.
قيل فكان الذي أخرج الأفشين من المال مدة مقامه بإزاء بابك سوى الأرزاق والإنزال والمعارف في كل يوم يركب فيه عشرة آلاف درهم وفي [كل] يوم لا يركب فيه خمسة آلاف وكان جميع من قتل ببابك في عشرين سنة مائتي ألف وخمسة وخمسين ألفا وخمسمائة إنسان وغلب من القواد يحيى بن معاذ وعيسى بن محمد بن أبي خالد وأحمد بن الجنيد فأسره وزريق بن علي بن صدقة ومحمد بن حميد الطوسي وإبراهيم ابن الليث.
وكان الذين أسروا مع بابك ثلاثة آلاف وثلاثمائة وتسعين أناسي واستنقذ ممن كان في يده من المسلمات وأولادهن سبعة آلاف وستمائة إنسان وصار في يد الأفشين من بني بابك سبعة عشر رجلا ومن البنات والنساء ثلاث وعشرون امرأة.
ولما وصل الأفشين توجه المعتصم وألبسه وشاحين بالجوهر ووصله بعشرين ألف ألف درهم وعشرة آلاف ألف يفرقها في عسكره وعقد له على السند وأدخل عليه الشعراء يمدحونه.
478

ذكر خروج الروم إلى زبطرة
وفي هذه السنة خرج توفيل بن ميخائيل ملك الروم إلى بلاد الإسلام وأوقع بأهل زبطرة وغيرها.
وكان سبب ذلك أن بابك لما ضيق الأفشين عليه وأشرف على الهلاك كتب إلى ملك الروم توفيل يعلمه أن المعتصم قد وجه عساكره ومقاتلته إليه حتى وجه خياطه يعني جعفر بن دينار الخياط وطباخه يعني إيتاخ ولم يبق على بابه أحد فإن أردت الخروج إليه فليس في وجهك أحد يمنعك وظن بابك أن ملك الروم إن تحرك يكشف عنه بعض ما هو فيه بإنفاذ العساكر إلى مقاتلة الروم فخرج توفيل في مائة ألف وقيل أكثر منهم من الجند نيف وسبعون ألفا وبقيتهم أتباع ومعهم من المحمرة الذين كانوا خرجوا للجبال فلحقوا بالروم حين قاتلهم إسحاق بن إبراهيم بن مصعب جماعة فبلغ زبطرة فقتل من بها من الرجال وسبى الذرية والنساء وأغار على أهل ملطية وغيرها من حصون المسلمين وسبى المسلمات ومثل بمن صار في يده من المسلمين وسمل أعينهم وقطع أنوفهم وآذانهم فخرج إليهم أهل الثغور من الشام والجزيرة إلا من لم يكن له دابة ولا سلاح.
479

ذكر فتح عمورية
ولما خرج ملك الروم وفعل في بلاد الإسلام ما فعل بلغ الخبر المعتصم فلما بلغه ذلك استعظمه وكبر لديه وبلغه أن امرأة هاشمية صاحت وهي أسيرة في أيدي الروم وامعتصماه فأجابها وهو جالس على سريره لبيك لبيك ونهض من ساعته وصاح في قصره النفير النفير ثم ركب دابته وسمط خلفه شكالا وسكة الحديد وحقيبة فيها زاده ولم يمكنه المسير إلا بعد التعبية وجمع العساكر فجلس في دار العامة وأحضر قاضي بغداد وهو عبد الرحمن بن إسحاق وشعبة بن سهل ومعهما ثلاثمائة وثمانية وعشرون رجلا من أهل العدالة فأشهدهم على ما وقف من الضياع فجعل ثلثا لولده وثلثا لله تعالى وثلثا لمواليه.
ثم سار فعسكر بغربي دجلة لليلتين خلتا من جمادى الأولى ووجه عجيف بن عنبسة وعمر الفرغاني ومحمد كوتاه وجماعة من القواد إلى زبطرة معونة لأهلها فوجدوا ملك الروم قد انصرف عنها إلى بلاده بعد ما فعل ما ذكرناه، فوقفوا حتى تراجع الناس إلى قراهم واطمأنوا.
فلما ظفر المعتصم ببابك قال أي بلاد الروم أصنع وأمنع وأحصن فقيل عمورية لم يعرض لها أحد منذ كان الإسلام وهي عين النصرانية وهي أشرف عندهم من القسطنطينية فسار المعتصم من سر من رأى وقيل كان مسيره سنة اثنين وعشرين وقيل سنة أربع وعشرين وتجهز جهازا
480

لم يتجهزه خليفة قبله قط من السلاح والعدد والآلة وحياض الأدم والروايا والقرب وغير ذلك وجعل على مقدمته أشناس ويتلوه محمد بن إبراهيم بن مصعب وعلي ميمنته إيتاخ وعلى ميسرته جعفر بن دينار بن عبد الله الخياط وعلى القلب عجيف بن عنبسة فلما دخل بلاد الروم نزل على نهر السن وهو على سلوقية قريبا من البحر بينه وبين طرسوس مسيرة يوم وعليه يكون الفداء.
وأمضى المعتصم الأفشين إلى سروج وأمره بالدخول من درب الحدث سمى له يوما يكون دخوله فيه ويوما يكون اجتماعهم فيه وسير أشناس من درب طرسوس وأمره بانتظاره بالصفصاف فكان مسر أشناس لقمان بقين من رجب وقدم المعتصم وصيفا في أثر أشناس ورحل المعتصم لست بقين من رجب.
فلما صار أشناس بمرج الأسقف ورد عليه كتاب المعتصم من المطامير يعلمه أن ملك الروم بين يديه وأنه يريد [أن] يكبسهم ويأمره بالمقام إلى أن يصل إليه فأقام ثلاثة أيام فورد عليه كتاب المعتصم يأمره أن يوجه قائدا من [قواده] في سرية يلتمسون رجلا من الروم يسألونه عن خبر الملك فوجه أشناس عمر الفرغاني في مائتي فارس فدخل حتى بلغ أنقرة وفرق أصحابه في طلب رجل رومي فأتوه بجماعة بعضهم في عسكر الملك وبعضهم من السواد فأحضرهم عند أشناس فسألهم عن الخبر فأخبروه أن الملك مقيم أكثر من ثلاثين يوما ينتظر مقدمة المعتصم ليواقعهم فأتاه الخبر بأن عسكرا عظيما قد دخل بلادهم من ناحية الأرمنياق يعني عسكر
481

الأفشين، قالوا: فلما أخبر استخلف ابن خاله على عسكره وسار يريد ناحية الأفشين فوجه أشناس بهم إلى المعتصم فأخبروه الخبر فكتب المعتصم كتابا إلى الأفشين يعلمه أن ملك الروم قد توجه إليه ويأمره أن يقيم مكانه خوفا عليه من الروم إلى أن يرد عليه كتابه وضمن لمن يوصل كتابه إلى الأفشين عشرة آلاف درهم.
فسارت الرسل بالكتاب إلى الأفشين فلم يروه لأنه أوغل في بلاد الروم، وكتب المعتصم إلى أشناس يأمره بالتقدم فتقدم والمعتصم من ورائه فلما رحل أشناس نزل المعتصم مكانه حتى صار بينه وبين أنقرة ثلاث مراحل فضاق عسكر المعتصم ضيقا شديدا من الماء والعلف.
وكان أشناس قد أسر في طريقه عدة أسرى فضرب أعناقهم حتى بقي شيخ كبير فقال له ما تنتفع بقتلي وأنت وعسكرك في ضيق وههنا قوم قد هربوا من أنقرة خوفا منكم وهم بالقريب منا معهم الطعام والشعير وغيرهما فوجه معي قوما لأسلمهم إليهم وخلى سبيلي فسير معه خمسمائة فارس ودفع الشيخ إلى مالك بن كيدر وقال له متى أراك هذا الشيخ سبيا كثيرا أو غنيمة كثيرة فخل سبيله.
فسار بهم الشيخ فأوردهم على واد وحشيش فأمرجوا دوابهم وشربوا وأكلوا وساروا حتى خرجوا من الغيضة وسار بهم الشيخ حتى أتى جبلا فنزله ليلا فلما أصبحوا قال الشيخ وجهوا رجلين يصعدان هذا الجبل فينظران ما فوقه فيأخذان من أدركا فصعد أربعة،
482

فأخذوا رجلا وامرأة فسألهما الشيخ عن أهل أنقرة فدلوه عليهم فسار بالناس حتى أشرف على أهل أنقرة وهم في طرف ملاحة فلما رأوا العسكر أدخلوا النساء والصبيان الملاحة وقاتلوهم على طرفها وغنم المسلمون منهم وأخذوا من الروم عدة أسرى وفيهم من فيه جراحات عتيقة متقدمة فسألوهم عن تلك الجراحات فقالوا:
كنا في وقعة الملك مع الأفشين وذلك أن الملك لما كان معسكرا أتاه الخبر بوصول الأفشين في عسكر ضخم من ناحية الأرمنياق واستخلف على عسكره بعض أقربائه وسار إليهم فواقعناهم فقاتلونا قتالا شديدا حتى خرقوا عسكرنا واختلطوا بنا فلم ندر أين الملك وانهزمنا منهم ورجعنا إلى معسكر الملك الذي خلفه فوجدنا العسكر قد انتفض وانصرفوا عن قرابة الملك.
فلما كان الغد جاء الملك في جماعة يسيرة فرأى عسكره قد اختل وأخذ الذي كان استخلفه عليهم فضرب عنقه وكتب إلى المدن والحصون أن لا يأخذوا أحدا انصرف من العسكر إلا ضربوه بالسياط وردوه إلى مكان سماه لهم الملك ليجتمع إليه الناس ويلقى المسلمين وأن الملك وجه خصيا له إلى أنقرة ليحفظ أهلها فرآهم قد أجلوا عنها فكتب إلى الملك بذلك فأمره بالمسير إلى عمورية فرجع مالك بن كيدر بما معهم من الغنيمة والأسرى إلى عسكر أشناس وغنموا في طريقهم بقرا وغنما كثيرا وأطلق
483

الشيخ، فلما بلغ مالك بن كيدر عسكر أشناس أخبره بما سمع فأعلم المعتصم بذلك فسر به.
فلما كان بعد ثلاثة أيام جاء البشير من ناحية الأفشين بخبر السلامة وكانت الوقعة لخمس بقين من شعبان فلما كان الغد قدم الأفشين على المعتصم وهو بأنقرة فأقاموا ثلاثة أيام ثم جعل المعتصم العسكر ثلاثة عساكر عسكر في أشناس في الميسرة والمعتصم في القلب وعسكر الأفشين في الميمنة وبين كل عسكر وعسكر فرسخان وأمر كل عسكر أن يكون له ميمنة وميسرة وأمرهم أن يحرقوا القرى ويخربوها ويأخذوا من لحقوا فيها ثم ترجع كل طائفة إلى صاحبها يفعلون ذلك فيما بين أنقرة وعمورية، وبينهما سبع مراحل ففعلوا ذلك حتى وافوا عمورية.
وكان أول من وردها أشناس ثم المعتصم ثم الأفشين فداروا حولها وقسمها بين القواد وجعل لكل واحد منهم أبراجا منها على قدر أصحابه وكان رجل من المسلمين قد أسره الروم بعمورية فتنصر فلما رأى المسلمين خرج إليهم فأخبر المعتصم أن موضعا من المدينة وقع سوره من سيل أتاه فكتب الملك إلى عامل عمورية ليعمره فتوانى فلما خرج الملك من القسطنطينية خاف العامل أن يرى السور خرابا فبنى وجهه حجرا حجرا وعمل الشرف على جسر خشب فرأى المعتصم ذلك المكان فأمر بضرب
484

خيمته هناك، ونصب المجانيق على ذلك الموضع فانفرج السور من ذلك الموضع.
فلما رأى الروم ذلك جعلوا عليه خشبا كبارا كل عود يلزق الآخر وكان المنجنيق يكسر الخشب فجعلوا عليه براذع فلما ألحت المجانيق على ذلك الموضع تصدع السور، وكتب الخصي وبطريق عمورية واسمه ناطس كتابا إلى ملك الروم يعلمه أمر السور وسيره مع رجلين فأخذهما المسلمون وسألهما المعتصم وفتشهما فرأى الكتاب وفيه أن العسكر قد أحاط المدينة وقد كان دخوله إليها خطأ وإن ناطس عازم على أن يركب في خاصته ليلا يحمل على العسكر كائنا ما كان حتى يخلص ويصير إلى الملك فلما قرأ المعتصم الكتاب أمر لهم ببدرة وهي عشرة آلاف درهم وخلع فأسلما فأمر بهما فطافا حول عمورية وأن يقفا مقابل البرج الذي فيه ناطس فوقفا وعليهما الخلع والأموال بين يديهما فعرفهما ناطس ومن معه من الروم فشتموهما.
وأمر المعتصم بالاحتياط في الحراسة ليلا ونهارا فلم يزالوا كذلك حتى انهدم السور ما بين برجين من ذلك الموضع وكان المعتصم أمر أن يطم خندق عمورية بجلود الغنم المملوءة ترابا فطموه وعمل دبابات كبارا تسع كل دبابة عشرة رجال ليدحرجوها على الجلود إلى السور فدحرجوا واحدة منها فلما صارت في نصف الخندق تعلقت بتلك الجلود فلما تخلص من
485

فيها إلا بعد شدة وجهد وعمل سلاليم ومنجنيقات.
فلما كان الغد من يوم انهدم السور قاتلهم على الثلمة فكان أول من بدأ بالحرب أشناس وأصحابه وكان الموضع ضيقا فلم يمكنهم الحرب فيه فأمدهم المعتصم بالمنجنيقات التي حول السور فجمع بعضها إلى بعض حول الثلمة وأمر أن يرمى ذلك الموضع.
وكانت الحرب في اليوم الثاني على الأفشين وأصحابه وأجادوا الحرب وتقدموا والمعتصم على دابته بإزاء الثلمة وأشناس والأفشين وخواص القواد معه فقال المعتصم ما أحسن ما كان الحرب اليوم وقال عمر الفرغاني الحرب اليوم أجود منها أمس فأمسك أشناس.
فلما انتصف النهار وانصرف المعتصم والناس وقرب أشناس من مضربة ترجل له القواد كما كانوا يفعلون وفيهم الفرغاني وأحمد بن الخليل بن هشام فقال لهم أشناس يا أولاد الزنا تمشون بين يدي كان ينبغي أن تقاتلوا أمس حيث تقفون بين يدي أمير المؤمنين فتقولون الحرب اليوم أجود منها أمس كان يقاتل أمس غيركم انصرفوا إلى مضاربكم فلما انصرف الفرغاني وأحمد بن الخليل قال أحدهما للآخر ألا ترى إلى هذا العبد ابن الفاعلة يعني أشناس ما صنع اليوم أليس الدخول إلى الروم أهون من هذا؟
فقال الفرغاني لأحمد وكان عنده علم من العباس بن المأمون سيكفيك الله أمره عن قريب فالح أحمد عليه فأخبره فأشار عليه أن يأتي العباس فيكون في أصحابه فقال أحمد هذا أمر أظنه لا يتم، قال الفرغاني:
486

قد تم وأرشده إلى الحرث السمرقندي فأتاه فرفع الحرث خبره إلى العباس فكره العباس أن يعلم بشيء من أمره فأمسكوا عنه.
فلما كان اليوم الثالث كان الحرب على أصحاب المعتصم ومعهم المغاربة والأتراك وكان القيم بذلك إيتاخ فقاتلوا وأحسنوا واتسع لهم هدم السور فلم تزل الحرب كذلك حتى كثرت الجراحات في الروم.
وكان بطارقة الروم قد اقتسموا أبراج السور وكان البطريق الموكل بهذه الناحية وندوا وتفسيره ثور فقاتل ذلك اليوم قتالا شديدا وفي الأيام قبله ولم يمده ناطس ولا غيره بأحد فلما كان الليل مشى وندوا إلى الروم فقال إن الحرب علي وعلى أصحابي ولم يبق معي أحد إلا جرح فصيروا أصحابكم على الثلمة يرمون قليلا وإلا ذهبت المدينة فلم يمدوه بأحد وقالوا لا نمدك ولا تمدنا فعزم هو وأصحابه على الخروج إلى المعتصم يسألونه الأمان على الذرية ويسلمون إليه الحصن بما فيه.
فلما أصبح وكل أصحابه بجانبي الثلمة أمرهم أن لا يحاربوا وقال أريد الخروج إلى المعتصم فخرج إليه فصار بين يديه والناس يتقدمون إلى الثلمة وقد أمسك الروم عن القتال حتى وصلوا إلى السور والروم يقولون لا تخشوا وهم يتقدمون ووندوا جالس عند المعتصم فأركبه فرسا وتقدم الناس حتى صاروا في الثلمة وعبد الوهاب بن علي بين يدي المعتصم يومئ إلى المسلمين بالدخول فدخل الناس المدينة فالتفت وندوا
487

وضرب بيده على لحيته، فقال له المعتصم ما لك؟ قال جئت أسمع كلامك فغدرت بي قال المعتصم كل شيء تريده فهو لك ولست أخالفك قال أيش مخالفتي وقد دخل الناس المدينة.
وصار طائفة كبيرة من الروم إلى كنيسة كبيرة لهم فأحرقها المسلمون عليهم فهلكوا كلهم وكان ناطس في برجه حوله أصحابه فركب المعتصم ووقف مقابل ناطس فقيل له يا ناطس هذا أمير المؤمنين فظهر من البرج وعليه سيف فنحاه عنه ونزل حتى وقف بين يديه فضربه سوطا وسار المعتصم إلى مضربه وقال هاتوه فمشى قليلا فأمر بحمله وأخذ السيف الروم، وأقبل الناس بالأسرى والسبي من كل وجه فأمر المعتصم أن يعزل منهم أهل الشرف ونقل من سواهم وأمر ببيع المغانم في عدة مواضع فبيع منها في أكثر من خمسة أيام وأمر بالباقي فأحرق.
وكان لا ينادي على شيء أكثر من ثلاثة أصوات ثم يوجب بيعه طلبا للسرعة وكان ينادى على الرقيق خمسة خمسة [و] عشرة عشرة طلبا للسرعة ولما كان في بعض أيام بيع المغانم وهو الذي كان عجيف وعد الناس أن يثور فيه بالمعتصم على ما نذكره وثب الناس على المغانم فركب المعتصم والسيف في يده وسار ركضا نحوهم فتنحوا عنه وكفوا عن النهب فرجع إلى مضربه وأمر بعمورية فهدمت وأحرقت وكان نزوله عليها لست خلون من شهر رمضان وأقام عليها خمسة وخمسين يوما وفرق الأسرى على القواد وسار نحو طرسوس.
488

ذكر حبس العباس بن المأمون
في هذه السنة حبس المعتصم العباس بن المأمون وأمر بلعنه.
كان سبب ذلك أن عجيف بن عنبسة لما وجهه المعتصم إلى بلاد الروم ولما كان من ملك الروم بزبطرة مع عمر الفرغاني ومحمد كوتاه لم يطلق يد عجيف في النفقات كما أطلقت يد الأفشين واستقصر المعتصم أمر عجيف وأفعاله وظهر ذلك لعجيف فوبخ العباس بن المأمون على ما تقدم من فعله عند وفاة المأمون حتى بايع المعتصم وشجعه على أن يتلافى ما كان منه.
فقبل العباس قوله ودس رجلا يقال له الحرث السمرقندي قرابة عبيد الله بن الوضاح وكان العباس يأنس به وكان الحرث أديبا له عقل ومداراة فجعله العباس رسوله وسفيره إلى القواد وكان يدور في العسكر حتى استمال له جماعة من القواد وبايعوه وجماعة من خواص المعتصم وقال لكل من بايعه إذا أظهرنا أمرنا فليثب كل منكم بالقائد الذي هو معه فوكل من بايعه من خواص المعتصم بقتله ومن بايعه من خواص الأفشين بقتله ومن بايعه من خواص أشناس بقتله وكذلك غيرهم فضمنوا له ذلك.
فلما دخل الدرب وهم يريدون أنقرة وعمورية دخل الأفشين من ناحية ملطية فأشار عجيف على العباس أن يثب بالمعتصم في الدرب وهو في قلة من الناس فيقتله ويرجع إلى بغداد فإن الناس يفرحون بانصرافهم
489

إلى بغداد من الغزو، فأبى العباس ذلك، وقال لا أفسد هذه الغزاة حتى يدخلوا بلاد الروم وافتتحوا عمورية فقال عجيف للعباس يا نائم قد فتحت عمورية والرجل ممكن تضع قوما ينهبون بعض الغنائم فإذا بلغه ذلك ركب في سرعة فتأمر بقتله هناك فأبى عليه وقال انتظر حتى يصير إلى الدروب ويخلو كما كان أول مرة وهو أمكن منه هاهنا.
وكان عجيف قد أمر من ينهب المتاع ففعلوا وركب المعتصم وجاء ركضا وسكن الناس ولم يطلق العباس أحد من أولئك الذين واعدهم وكرهوا قتله بغير أمر العباس.
وكان الفرغاني قد بلغه الخبر ذلك اليوم وله قرابة غلام أمرد في خاصة المعتصم فجاء الغلام إلى ولد عمر الفرغاني وشرب عندهم تلك الليلة فأخبرهم خبر ركوب المعتصم وإنه كان معه وأمره أن يسل سيفه ويضرب كل من لقيه فسمع عمر ذلك من الغلام فاشفق عليه من أن يصاب فقال يا بني أقلل من المقام عند أمير المؤمنين والزم خيمتك وإن سمعت صحية وشغبا فلا تبرح فإنك غلام غر ولا تعرف العساكر فعرف مقالة عمر.
وارتحل المعتصم إلى الثغور ووجه الأفشين ابن الأقطع وأمره أن يغير على بعض المواضع ويوافيه في الطريق فمضى وأغار وعاد إلى العسكر في بعض المنازل ومعه الغنائم فنزل بعسكر الأفشين، وكان كل عسكر على حدة فتوجه عمر الفرغاني وأحمد بن الخليل من عسكر أشناس إلى عسكر الأفشين ليشتريا من السبي شيئا فلقيهما الأفشين فترجلا وسلما عليه وتوجها إلى الغنيمة فرآهما صاحب أشناس فأعلمه بهما فأرسل
490

أشناس إليهما بعض أصحابه لينظر ما يصنعان فجاء فرآهما وهما ينتظران بيع السبي فرجع فأخبر أشناس الخبر فقال أشناس لحاجبه قل لهما يلزمان العسكر وهو خير لهما فقال لهما فاغتما لذلك واتفقا أن يذهبا إلى صاحب خبر العسكر فيستعفياه من أشناس فأتياه وقالا نحن عبيد أمير المؤمنين فضمنا إلى من شاء فإن هذا الرجل يستخف بنا قد شتمنا وتوعدنا ونحن نخاف أن يقدم علينا فليضمنا أمير المؤمنين إلى من أراد.
فأنهى ذلك إلى المعتصم واتفق الرحيل وسار أشناس والأفشين مع المعتصم فقال لأشناس أحسن أدب عمر وأحمد فإنهما قد حمقا أنفسهما فجاء أشناس إلى عسكره فأخذهما وحبسهما وحملهما على بغل حتى صارا بالصفصاف فجاء ذلك الغلام وحكى للمعتصم ما سمع من عمر الفرغاني في تلك الليلة فانفذ المعتصم بغا وأخذ عمر من عند أشناس وسأله عن الذي قال الغلام فأنكر ذلك وقال إنه كان سكران ولم يعلم ما قلت فدفعه إلى إيتاخ؛ وسار المعتصم فأنفذ أحمد بن الخليل إلى أشناس يقول له إن عندي نصيحة لأمير المؤمنين فبعث إليه يسأله عنها فقال لا أخبر بها إلا أمير المؤمنين فحلف أشناس إن هو لم يخبرني بهذه النصيحة لأضربنه بالسياط حتى يموت.
فلما سمع ذلك أحمد حضر عند أشناس وأخبره خبر العباس بن المأمون والقواد والحرث السمرقندي فأنفذ أشناس وأخذ الحرث وقيده وسيره إلى المعتصم وكان قد تقدم فلما دخل على المعتصم أخبره بالحال جميعه وبجميع من بايعه من القواد وغيرهم فأطلقه المعتصم وخلع عليه ولم يصدق على أولئك القواد لكثرتهم.
491

وأحضر المعتصم العباس بن المأمون وسقاه حتى سكر وحلفه أنه لا يكتمه من أمره شيئا فشرح له أمره كله مثل ما شرح الحرث فأخذه وقيده وسلمه إلى الأفشين فحبسه عنده.
وتتبع المعتصم أولئك القواد وكانوا يحملون في الطريق على بغال بأكف بلا وطاء وأخذ أيضا الشاه بن سهل وهو من أهل خراسان فقال له المعتصم يا ابن الزانية أحسنت إليك فلم تشكر؛ فقال ابن الزانية هذا وأومأ إلى العباس وكان حاضرا لو تركني ما كنت الساعة تقدر أن تجلس هذا المجلس وتقول هذا الكلام فأمر به فضربت عنقه وهو أول من قتل منهم ودفع العباس إلى الأفشين.
فلما نزل منبج طلب العباس بن المأمون الطعام فقدم إليه طعام كثير فأكل ومنع الماء، وأدرج في مسح فمات بمنبج وصلى عليه بعض أخوته.
وأما عمر الفرغاني فلما وصل المعتصم إلى نصيبين حفر له بئرا وألقاه فيها وطمها عليه.
وأما عجيف فمات بباعيناثا من بلد الموصل وقيل بل أطعم طعاما كثيرا ومنع الماء حتى مات بباعيناثا.
وتتبع جميعهم فلم يمض عليهم إلا أيام قلائل حتى ماتوا جميعا، ووصل المعتصم إلى سامرا سالما فسمى العباس يومئذ اللعين وأخذ أولاد المأمون من سندس فحبسهم في داره حتى ماتوا بعد.
ومن أحسن ما يذكر أن محمد بن علي الإسكاف كان يتولى إقطاع عجيف فرفع أهله عليه إلى عجيف فأخذه وأراد قتله فبال في
492

ثيابه خوفا من عجيف ثم شفع فيه فقيده وحبسه ثم سار إلى الروم وأخذه المعتصم كما ذكرنا وأطلق من كان في حبسه وكانوا جماعة منهم الإسكاف ثم استعمل على نواح بالجزيرة ومن جملتها باعيناثا قال فخرجت يوما إلى تل باعيناثا فاحتجت إلى الوضوء فجئت إلى تل فبلت عليه ثم توضأت ونزلت وشيخ باعيناثا ينتظرني فقال لي في هذا التل قبر عجيف وأرانيه فإذا [أنا] قد بلت عليه وكان بين الأمرين سنة لا تزيد يوما ولا تنقص يوما.
ذكر وفاة زيادة بن إبراهيم بن الأغلب
وابتداء ولاية أخيه الأغلب
في هذه السنة رابع عشر رجب توفي زيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب، أمير إفريقية، وكان عمره إحدى وخمسين سنة وتسعة أشهر وثمانية أيام وكانت إمارته إحدى وعشرين سنة وسبعة أشهر وولي بعده أخوه أبو عفان الأغلب بن إبراهيم بن الأغلب فأحسن إلى الجند وأزال مظالم كثيرة وزاد العمال في أرزاقهم وكف أيديهم عن الرعية وقطع النبيذ والخمر عن القيروان وسير سرية سنة أربع وعشرين ومائتين إلى صقلية فغنمت وسلمت.
493

وفي سنة خمس وعشرين ومائتين استأمن عدة حصون من جزيرة صقلية إلى المسلمين منها حصن البلوط وابلاطنو وقرلون ومرو وسار أسطول المسلمون إلى قلورية ففتحها ولقوا أسطول صاحب القسطنطينية فهزموه بعد قتال فعاد الأسطول إلى القسطنطينية مهزوما فكان فتحا عظيما.
وفي سنة ست وعشرين ومائتين سارت سرية للمسلمين بصقلية إلى قصريانة فغنمت وأحرقت وسبت فلم يخرج إليها أحد فسارت إلى حصن الغيران وهو أربعون غارا فغنمت جميعها، وتوفي الأمير أبو عفان فيها على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر عدة حوادث
وجرح في هذه السنة في شوال إسحاق بن إبراهيم جرحه خادم له. وحج بالناس هذه السنة محمد بن داود.
وفي هذه السنة سير عبد الرحمن بن الحكم صاحب الأندلس جيشا إلى ألية والقلاع فنزلوا حصن الفرات وحصروه وغنموا ما فيه وقتلوا أهله وسبوا النساء والذرية وعادوا.
494

224
ثم دخلت سنة أربع وعشرين ومائتين
ذكر مخالفة مازيار بطبرستان
في هذه السنة أظهر مازيار بن قارن بن ونداد هرمز الخلاف على المعتصم بطبرستان وعصى وقاتل عساكره.
وكان سببه أن مازيار كان منافرا عبد الله بن طاهر لا يحمل إليه خراجه وكان المعتصم يأمره بحمله إلى عبد الله فيقول لا أحمله إلا إليك وكان المعتصم ينفذ من يقبضه من أصحاب مازيار بهمذان ويسلمه إلى وكيل عبد الله بن طاهر يرده إلى خراسان.
وعظم الشر بين مازيار وعبد الله وكان عبد الله يكتب إلى المعتصم حتى استوحش من مازيار فلما ظفر الأفشين ببابك وعظم محله عند المعتصم طمع في ولاية خراسان فكتب إلى مازيار يستميله ويظهر له المودة ويعلمه أن المعتصم قد وعده ولاية خراسان ورجا أنه إذا خالف مازيار سيره المعتصم إلى حربه وولاه خراسان فحمل ذلك مازيار على الخلاف وترك الطاعة ومنع جبال طبرستان فكتب المعتصم إلى عبد الله بن طاهر يأمره بمحاربته وكتب الأفشين إلى مازيار يأمره بمحاربة عبد الله وأعلمه أنه يكون له عند المعتصم كل ما يحب ولا يشك الأفشين أن مازيار يقوم في
495

مقابلة ابن طاهر وأن المعتصم يحتاج إلى انفاذه وانفاذ عساكر غيره.
فلما خالف دعا الناس إلى البيعة فبايعوه كرها وأخذ الرهائن فحبسهم وأمر أكرة الضياع بانتهاب أربابها.
وكان مازيار أيضا يكاتب بابك واهتم مازيار بجمع الأموال من تعجيل الخراج وغيره فجبى في شهرين ما كان يؤخذ في سنة ثم أمر قائدا له يقال له سرخاستان فأخذ أهل آمل وأهل سارية جميعهم فنقلهم إلى جبل على النصف ما بين سارية وآمل يقال له هرمزاباذ فحبسهم فيه وكانت عدتهم عشرين ألفا فلما فعل ذلك تمكن من أمره وأمر بتخريب سور آمل وسور سارية وسور طميس فخربت الأسوار.
وبنى سرخاستان سورا من طميس إلى البحر مقدار ثلاثة أميال كانت الأكاسرة بنته لتمنع الترك من الغارة على طبرستان وجعل له خندقا ففزع أهل جرجان وخافوا فهرب بعضهم إلى نيسابور فأنفذ عبد الله بن طاهر عمه الحسن بن الحسين بن مصعب في جيش كثيف لحفظ جرجان وأمره أن ينزل على الخندق الذي عمله سرخاستان فسار حتى نزله وصار بينه وبين صاحب سرخاستان الخندق، ووجه أيضا ابن طاهر حيان بن جبلة في أربعة آلاف إلى قومس فعسكر على حد جبال شروين ووجه المعتصم من عنده محمد بن إبراهيم بن مصعب أخا إسحاق بن إبراهيم ومعه الحسن بن قارن الطبري ومن كان عنده من الطبرية ووجه المنصور بن الحسن صاحب دنباوند إلى الري ليدخل طبرستان من ناحية الري ووجه أبا الساج إلى اللارز ودنباوند.
فلما أحدقت الخيل بمازيار من كل جانب وكان أصحاب سرخاستان
496

يتحدثون مع أصحاب الحسن بن الحسين حتى استأنس بعضهم ببعض فتآمر بعض أصحاب الحسن في دخول السور فدخلوه إلى أصحاب سرخاستان على غفلة من الحسن ونظر الناس بعضهم إلى بعض فثاروا وبلغ الخبر إلى الحسن فجعل يصيح بالقوم ويمنعهم خوفا عليهم فلم يقفوا ونصبوا علمه على معسكر سرخاستان وانتهى الخبر إلى سرخاستان وهو في الحمام فهرب في غلالة وحين رأى الحسن أن أصحابه قد دخلوا السور قال اللهم إنهم عصوني وأطاعوك فانصرهم.
وتبعهم أصحابه حتى دخلوا إلى الدرب من غير مانع واستولوا على عسكر سرخاستان وأسر أخوه شهريار ورجع الناس عن الطلب لما أدركهم الليل فقتل الحسن شهريار، وسار سرخاستان خافيا فجهده العطش فنزل عن دابته وشدها فبصر به رجل من أصحابه وغلام اسمه جعفر وقال سرخاستان يا جعفر اسقني ماء فقد هلكت عطشا فقال ليس عندي ما أسقيك فيه.
قال جعفر واجتمع إلى عدة من أصحابي فقلت لهم هذا الشيطان قد أهلكنا فلم لا نتقرب إلى السلطان به ونأخذ لأنفسنا الأمان فثاورناه وكتفناه فقال لهم خذوا مني مائة ألف درهم واتركوني فإن العرب لا تعطيكم شيئا فقالوا أحضرها فقال سيروا معي إلى المنزل لتقبضوها وأعطيكم المواثيق على الوفاء فلم يفعلوا وساروا به نحو عسكر المعتصم ولقيتهم خيل الحسن بن الحسين فضربوهم وأخذوه منهم وأتوا به الحسن فأمر به فقتل.
497

وكان عند سرخاستان رجل من أهل العراق يقال له أبو شاس يقول الشعر وهو ملازم له ليتعلم منه أخلاق العرب فلما هجم عسكر العرب على سرخاستان انتهبوا جميع ما لأبي شاس وخرج وأخذ جرة فيها ماء وأخذ قدحا وصاح الماء للسبيل وهرب فمر بمضرب كاتب الحسن فعرفه أصحابه فأدخلوه إليه فأكرمه وأحسن إليه وقال له قل شعرا تمدح به الأمير فقال والله ما بقي في صدري شيء من كتاب الله من الخوف فكيف أحسن الشعر؟
ووجه الحسن برأس سرخاستان إلى عبد الله بن طاهر وكان حيان بن جبلة مولى عبد الله بن طاهر قد أقبل مع الحسن كما ذكرنا وهو بناحية طميس وكاتب قارن بن شهريار وهو ابن أخي مازيار ورغبه في المملكة وضمن له أن يملكه على جبال أبيه وجده، وكان قارن من قواد مازيار وقد أنفذه مازيار مع أخيه عبد الله بن قارن ومعه عدة من قواده فلما استماله حيان ضمن له قارن أن يسلم إليه الجبال ومدينة سارية إلى حدود جرجان على هذا الشرط وكتب بذلك حيان إلى عبد الله بن طاهر فأجابه إلى كل ما سأل وأمر حيان أن لا يوغل حتى يستدل على صدق قارن لئلا يكون منه مكر وكتب حيان إلى قارن بإجابة عبد الله فدعا قارن بعمه عبد الله بن قارن وهو أخو مازيار ودعا جميع قواده إلى طعامه فلما وضعوا سلاحهم واطمأنوا أحدق بهم أصحابه في السلاح وكتفهم ووجه بهم إلى حيان فلما صاروا إليه استوثق منهم وركب في أصحابه حتى دخل جبال قارن.
498

وبلغ الخبر مازيار فاغتم لذلك فقال له القوهيار في حبسك عشرون ألفا من بين حائك واسكاف وحداد وقد شغلت نفسك بهم وإنما أتيت من مأمنك وأهل بيتك فما تصنع بهؤلاء المحبسين عندك قال فأطلق مازيار جميع من في حبسه ودعا جماعة من أعيان أصحابه وقال لهم إن بيوتكم في السهل وأخاف أن يؤخذ حرمكم وأموالكم فانطلقوا وخذوا لأنفسكم أمانا ففعلوا ذلك.
ولما بلغ أهل سارية أخذ سرخاستان ودخول حيان جبل شروين وثبوا على عامل مازيار بسارية فهرب منهم وفتح الناس السجن وأخرجوا من فيه وأتى حيان إلى مدينة سارية وبلغ قوهيار أخا مازيار الخبر فأرسل إلى حيان مع محمد بن موسى بن حفص يطلب الأمان وإن يملك على جبال أبيه وجده ليسلم إليه مازيار فحضر عند حيان ومعه أحمد بن الصقر وأبلغاه الرسالة فأجاب إلى ذلك.
فلما رجع رأى حيان تحت أحمد فرسا حسنا فأرسل إليه وأخذه منه فغضب أحمد من ذلك وقال هذا الحائك العبد يفعل بشيخ مثلي ما فعل ثم كتب إلى قوهيار ويحك لم تغلط في أمرك وتترك مثل الحسن بن الحسين عم الأمير عبد الله بن طاهر وتدخل في أمان هذا العبد الحائك وتدفع إليه أخاك وتضع قدرك وتحقد عليك الحسن بتركك إياه وبميلك إلى عبد من عبيده؟
فكتب إليه قوهيار: أراني قد غلطت في أول الأمر ووعدت الرجل أن
499

أصير إليه بعد غد ولا آمن إن خالفته أن يناهضني ويستبيح دمي ومنزلي وأموالي وإن قاتلته فقتلت من أصحابه وجرت الدماء فسد كل ما علمناه ووقعت الشحناء.
فكتب إليه أحمد إذا كان يوم الميعاد فابعث إليه رجلا من أهلك واكتب إليه أنه قد عرضت علة منعتني عن الحركة وأنك تتعالج ثلاثة أيام فإن عوفيت وإلا سرت إليك في
محمل وسنحمله نحن على قبول ذلك فأجابه إليه، وكتب أحمد بن الصقر ومحمد بن موسى بن حفص إلى الحسن بن الحسين وهو بطميس أن أقدم علينا لندفع إليك مازيار والخيل وإلا فاتك ووجها الكتاب إليه مع من يستحثه.
فلما وصل الكتاب ركب من ساعته وسار مسيرة ثلاثة أيام في ليلة وانتهى إلى سارية فلما أصبح تقدم إلى خرماباذ وهو الموعد بين قوهيار وحيان وسمع حيان وقع طبول الحين فتلقاه على فرسخ فقال له الحسن ما تصنع ههنا ولم توجه إلى هذا الموضع وقد فتحت جبال شروين وتركتها فما يؤمنك أن يغدر أهلها فينتقض جميع ما عملنا ارجع إليهم حتى لا يمكنهم الغدر إن هموا به فقال حيان أريد أن أحمل أثقالي وآخذ أصحابي فقال له الحسن سر أنت فأنا باعث بأثقالك وأصحابك.
فخرج حيان من فوره كما أمره وأتاه كتاب عبد الله بن طاهر أن يعسكر بكور وهي من جبال ونداد هرمز وهي من أحصنها وكانت أموال مازيار بها فأمر عبد الله أن لا يمنع قارن مما يريد من الأموال والجبال فاحتمل قارن مما كان بها وبغيرها من أموال مازيار وسرخستان وانتقض
500

على حيان ما كان عمله بسبب شرهه إلى ذلك الفرس، وتوفي بعد ذلك حيان فوجه عبد الله مكانه عمه محمد بن الحسين بن مصعب وسار الحسن بن الحسين إلى خرماباذ فأتاه محمد بن موسى بن حفص وأحمد بن الصقر فشكرهما وكتب إلى قوهيار فأتاه فأحسن إليه وأكرمه وأجابه إلى جميع ما طلب إليه منه لنفسه وتواعدوا يوما يحضر مازيار عنده.
ورجع قوهيار إلى مازيار فأعلمه أنه قد أخذ له الأمان واستوثق له وركب الحسن يوم الميعاد وقت الظهر ومعه ثلاثة غلمان أتراك وأخذ إبراهيم بن مهران يدله على الطريق إلى أرم فلما قاربها خاف إبراهيم وقال هذا موضع لا يسلكه إلا ألف فارس فصاح به امض قال فمضيت وأنا طائش العقل حتى وافينا أرم فقال أين طريق هرمزاباذ قلت على هذا الجبل في هذا الطريق فقال سر إليها! فقلت الله الله في نفسك وفينا وفي هذا الخلق الذين معك فصاح امض يا ابن اللخناء! فقلت اضرب عنقي أحب إلي من أن يقتلني مازيار ويلزمني الأمير عبد الله الذنب فانتهرني حتى ظننت أنه يبطش بي فسرت وأنا خائف فأتينا هرمزاباذ مع اصفرار الشمس فنزل فجلس ونحن صيام.
وكانت الخيل قد تقطعت لأنه ركب بغير علم الناس فعلموا بعد مسيره. قال: وصلينا المغرب وأقبل الليل وإذا بفرسان بين أيديهم الشمع مشتعلا مقبلين من طريق لبورة فقال الحسن أين طريق لبورة فقلت أرى عليه فرسانا ونيرانا وأنا داهش لا أقف على حقيقة الأمر حتى قربت النيران فنظرت فإذا المازيار مع القوهيار فنزلا وتقدم مازيار فسلم على الحسن فلم يرد عليه السلام وقال لرجلين من أصحابه خذاه
501

إليكما فأخذاه فلما كان السحر وجه الحسن مازيار معهما إلى سارية وسار الحسن إلى هرمزاباذ فأحرق قصر مازيار وأنهب ماله وسار إلى خرماباذ وأخذ أخوه مازيار فحبسوا هنالك وسار إلى المدينة سارية فأقام بها وحبس مازيار.
ووصل محمد بن إبراهيم بن مصعب إلى الحسن بن الحسين فسار به ليناظره في معنى المال الذي لمازيار وأهله فكتب إلى عبد الله بن طاهر فأمر الحسن بتسليم مازيار وأهله إلى محمد بن إبراهيم ليسير بهم إلى المعتصم وأمره أن يستقصي على أموالهم ويحرزها فأحضر مازيار وسأله عن أمواله فذكر أنه عند خزانة وضمن قوهيار ذلك وأشهد على نفسه وقال مازيار اشهدوا علي أن جميع ما أخذت من أموالي ستة وتسعون ألف دينار وسبع عشرة قطعة زمرد وست عشرة قطعة ياقوت وثمانية أحمال من ألوان الثياب وتاج وسيف مذهب مجوهر وخنجر من ذهب مكلل بالجوهر وحق كبير مملوء جوهرا قيمته ثمانية عشر ألف ألف درهم وقد سلمت ذلك إلى خازن عبد الله بن طاهر وصاحب خبره على العسكر.
وكان مازيار قد استخلف هذا ليوصله إلى الحسن بن الحسين ليظهر للناس والمعتصم أنه أمنه على نفسه وماله وولده وأنه جعل له جبال أبيه، فامتنع الحسن من قبوله وكان أعف الناس.
فلما كان الغد أنفذ الحسن مازيار إلى المعتصم مع يعقوب بن منصور ثم أمر الحسن قوهيار أن يأخذ بغاله ليحمل عليها مال مازيار فأخذها وأراد الحسن أن ينفذ معه جيشا فقال لا حاجة لي بهم.
502

وسار هو وغلمانه فلما فتح الخزائن وأخرج الأموال وعبأها ليحملها وثب عليه مماليك المازيار وكانوا ديالمة وقالوا غدرت بصاحبنا وأسلمته إلى العرب وجئت لتحمل أمواله وكانوا ألفا ومائتين فأخذوه وقيدوه فلما جنهم الليل قتلوه وانتهبوا الأموال والبغال فانتهى الخبر إلى الحسن بن الحسين فوجه جيشا ووجه قارن جيشا فأخذ أصحاب قارن منهم عدة منهم ابن عم مازيار يقال له شهريار بن المضمغان وكان هو يحرضهم فوجهه قارن إلى عبد الله بن طاهر فمات بقومس.
وعلم محمد بن إبراهيم خبرهم فأرسل في أثرهم فأخذوا وبعث بهم إلى مدينة سارية.
وقيل إن السبب في أخذ مازيار كان ابن عم له اسمه قوهيار كان له جبال طبرستان وكان لمازيار السهل وجبال طبرستان ثلاثة أجبل جبل ونداد هرمز وجبل أخيه ونداسنجان والثالث جبل شروين بن سرخاب فقوى مازيار وبعث [إلى] ابن عمه قوهيار، وقيل هو أخوه، فألزمه بابه وولى الجبل واليا من قبله يقال له دري فلما خالف مازيار واحتاج إلى الرجال دعا قوهيار وقال له أنت أعرف بجبلك من غيرك وأظهره على أمر الأفشين ومكاتبته وأمره بالعود على جبله وحفظه وأمر الدري بالمجيء إليه فأتاه فضم إليه العساكر ووجهه إلى محاربة الحسن بن الحسين عم عبد الله بن طاهر.
وظن مازيار أنه قد استوثق من الجبل بقوهيار وتوثق من المواضع المخوفة بدري وعساكره واجتمعت العساكر عليه كما تقدم ذكره وقربت منه.
503

وكان مازيار في مدينته في نفر يسير فدعا قوهيار الحقد الذي في قلبه على مازيار وما صنع به على أن كاتب الحسن بن الحسين وأعلمه جميع ما في عسكره ومكاتبة الأفشين فأنفذ الحسن كتاب قوهيار إلى عبد الله بن طاهر فأنفذه عبد الله إلى المعتصم وكاتب عبد الله والحسن قوهيار وضمنا له جميع ما يريد وأن يعيد إليه جبله وما كان
بيده لا ينازعه فيه أحد فرضي بذلك ووعدهم يوما يسلم فيه الجبل.
فلما جاء الميعاد تقدم الحسن فحارب دري وأرسل عبد الله بن طاهر جيشا كثيفا فوافوا قوهيار فسلم إليهم الجبل فدخلوه ودري يحارب الحسن ومازيار في قصره فلم يشعر مازيار إلا والخيل على باب قصره فأخذوه أسيرا.
وقيل إن مازيار كان يتصيد فأخذوه وقصدوا به نحو دري وهو يقاتل فلم يشعر هو وأصحابه إلا وعسكر عبد الله من ورائهم ومعهم مازيار فاندفع دري وعسكره واتبعوه وقتلوه وأخذوا رأسه وحملوه إلى عبد الله بن طاهر وحملوا إليه مازيار فوعده عبد الله بن طاهر إن هو أظهره على كتب الأفشين أن يسأل فيه المعتصم ليصفح عنه فأقر مازيار بذلك وأظهر الكتب عند عبد الله بن طاهر فسرها إلى إسحاق بن إبراهيم وسير مازيار وأمره أن لا يسلمها إلا من يده إلى يد المعتصم ففعل إسحاق ذلك فسأل المعتصم مازيار عن الكتب فأنكرها فضربه حتى مات وصلبه إلى جانب بابك.
504

وقيل إن مخالفة مازيار كانت سنة خمس وعشرين والأول أصح لأن قتله كان في سنة خمس وعشرين وقيل إنه اعترف بالكتب على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر عصيان منكجور قرابة الأفشين
لما فرغ الأفشين من بابك وعاد إلى سامرا استعمل على أذربيجان وكان في عمله منكجور وهو من أقاربه فوجد في بعض قرى بابك مالا عظيما ولم يعلم به المعتصم ولا الأفشين فكتب صاحب البريد إلى المعتصم وكتب منكجور يكذبه فتناظرا فهم منكجور ليقتله فمنعه أهل أردبيل فقاتلهم منكجور.
وبلغ ذلك المعتصم فأمر الأفشين بعزل منكجور فوجه قائدا في عسكر ضخم فلما بلغ منكجور الخبر خلع الطاعة وجمع الصعاليك وخرج من أردبيل فواقعه القائد فهزمه وسار إلى حصن من حصون أذربيجان التي كان بابك خربها فبناه وأصلحه وتحصن فيه فبقي به شهرا.
ثم وثب به أصحابه فأسلموه إلى ذلك القائد فقدم به إلى سامرا فحبسه المعتصم واتهم الأفشين في أمره وكان قدومه سنة خمس وعشرين ومائتين وقيل إن ذلك القائد الذي أنفذ إلى منكجور كان بغا الكبير وأن منكجور خرج إليه بأمان.
505

ذكر ولاية عبد الله الموصل وقتله
في هذه السنة عصى بأعمال الموصل إنسان من مقدمي الأكراد اسمه جعفر بن فهرجس وتبعه خلق كثير من الأكراد وغيرهم ممن يريد الفساد فاستعمل المعتصم عبد الله بن السيد بن أنس الأزدي على الموصل وأمره بقتال جعفر فسار عبد الله إلى الموصل وكان جعفر بمانعيس.
قد استولى عليها فتوجه عبد الله إليه وقاتله وأخرجه من مانعيس فقصد جبل داسن وامتنع بموضع عال فيه لا يرام والطريق إليه ضيق فقصد عبد الله إلى هناك وتوغل في تلك المضائق حتى وصل إليه وقاتله فاستظهر جعفر ومن معه من الأكراد على عبد الله لمعرفتهم بتلك المواضع وقوتهم على القتال بها رجالة فانهزم عبد الله وقتل أكثر من معه.
وممن ظهر منهم إنسان اسمه رباح حمل على الأكراد فخرق صفهم وطعن فيهم وقتل وصار وراء ظهورهم وشغلهم عن أصحابه حتى نجا منهم من أمكنه النجاة فتكاثر الأكراد عليه فألقى نفسه من رأس الجبل على فرسه وكان تحته نهر فسقط الفرس في الماء ونجا رباح.
وكان فيمن أسره جعفر رجلان أحدهما اسمه إسماعيل والآخر إسحاق ابن أنس وهو عم عبد الله بن السيد وكان إسحاق صهر جعفر فقدمهما جعفر إليه فظن إسماعيل أن يقتله ولا يقتل للصهر الذي بينهما،
506

فقال: يا إسحاق أوصيك بأولادي؛ فقال له إسحاق: أتظن أنك تقتل وأبقى بعدك؟ ثم التفت إلى جعفر فقال: أسألك أن تقتلني قبله لتطيب نفسه فبدأ به فقتله وقتل إسماعيل بعده.
فلما بلغ ذلك المعتصم أمر إيتاخ بالمسير إلى جعفر وقتاله فتجهز وسار إلى الموصل سنة خمس وعشرين وقصد جبل داسن وجعل طريقه على سوق الأحد فالتقاه جعفر فقاتله قتالا شديدا فقتل جعفر وتفرق أصحابه فانكشف شره وأذاه عن الناس.
وقيل إن جعفرا شرب سما كان معه فمات وأوقع إيتاخ بالأكراد فأكثر القتل فيهم واستباح أموالهم وحشر الأسرى والنساء والأموال إلى تكريت.
وقيل أن إيقاع إيتاخ بجعفر كان سنة ست وعشرين والله أعلم.
ذكر غزاة المسلمين بالأندلس
وفي هذه السنة سير عبد الرحمن عبد الله المعروف بابن البلنسي إلى بلاد العدو فوصلوا إلى ألية والقلاع فخرج المشركون إليه في جمعهم وكان بينهم حرب شديدة وقتال عظيم فانهزم المشركون وقتل منهم ما لا يحصى وجمعت الرؤوس أكداسا حتى كان الفارس لا يرى من يقابله.
وفيها خرج لذريق في عسكره وأراد الغارة على مدينة سالم من الأندلس فسار إليه فرتون بن موسى في عسكر جرار فلقيه وقاتله فانهزم لذريق
507

وكثر القتل في عسكره وسار فرتون إلى الحصن الذي كان بناه أهل ألية بإزاء ثغور المسلمين فحصره وافتتحه وهدمه.
ذكر عدة حوادث
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة تولى جعفر بن دينار اليمن.
وفيها تزوج الحسين بن الأفشين أتراجة بنت أشناس ودخل بها في قصر المعتصم في جمادى الآخرة واحضر عرسها عامة أهل سامرا وكانوا يغلفون العامة بالغالية وهي في تغار من فضة.
وفيها امتنع محمد بن عبد الله الورثاني بورثان ثم عاود الطاعة وقدم على المعتصم بأمان سنة خمس وعشرين ومائتين.
وفيها مات ناطس الرومي وصلب بسامرا.
وفيها مات إبراهيم بن المهدي في رمضان وصلى عليه المعتصم وحج بالناس محمد بن داود.
وفيها وقع بأفريقية فتنة كان فيها حرب بين عيسى بن ريعان الأزدي وبين لواتة وزواغة ومكناسة فكانت الحرب بين قفصة وقسطيلية فقتلهم عيسى عن آخرهم.
وفيها اجتمع أهل سجلماسة مع مدرار بن اليسع على تقديم ميمون بن
508

مدرار في الامارة على سجلماسة وإخراج أخيه المعروف بابن نقية فلما استقر الأمر لميمون أخرج أباه وأمه إلى بعض قرى سجلماسة.
وفيها فتح نوح بن أسد كاسان وأورشت بما وراء النهر وكانتا قد نقضتا الصلح وافتتح أيضا اسبيجاب وبنى حوله سورا يحيط بكروم أهله ومزارعهم.
وفيها مات أبو عبيد القاسم بن سلام الإمام اللغوي وكان عمره سبعا وستين سنة كانت وفاته بمكة.
(سلام بتشديد اللام).
509

225
ثم دخلت سنة خمس وعشرين ومائتين
ذكر وصول مازيار إلى سامرا
في هذه السنة كان وصول مازيار إلى سامرا فخرج إسحاق بن إبراهيم فأخذه من الدسكرة وأدخله سامرا على بغل بأكاف لأنه امتنع من ركوب الفيل فأمر المعتصم أن يجمع بينه وبين الأفشين.
وكان الأفشين قد حبس قبل ذلك بيوم فأقر مازيار أن الأفشين كان يكاتبه ويحسن له الخلاف والمعصية فأمر برد الأفشين إلى محبسه وضرب مازيار أربعمائة وخمسين سوطا وطلب ماء للشرب فسقي فمات من ساعته.
وقيل ما تقدم ذكره وقد تقدم من اعتراف مازيار بكتب الأفشين في غير موضع ما يخالف هذا وسببه اختلاف الناقلين.
ذكر غضب المعتصم على الأفشين وحبسه
وفي هذه السنة غضب المعتصم على الأفشين وحبسه.
وكان سبب ذلك أن الأفشين كان أيام محاربة بابك لا تأتيه هدية من أهل
510

أرمينية وأذربيجان إلا وجه بها إلى أشروسنة فيجتاز ذلك بعد الله بن طاهر فيكتب عبد الله إلى المعتصم يعرفه الخبر فكتب إليه المعتصم يأمره بإعلامه بجميع ما يوجه به الأفشين ففعل عبد الله ذلك فكان الأفشين كلما اجتمع عنده مال يجعله على أوساط أصحابه في الهمايين ويسيره إلى أشروسنة.
فأنفذ مرة مالا كثيرا فبلغ أصحابه إلى نيسابور فوجه عبد الله بن طاهر ففتشهم فوجد المال في أوساطهم فقال من أين لكم هذا المال فقالوا للأفشين فقال كذبتم لو أراد أخي الأفشين أن يرسل مثل هذه الهدايا والأموال لكتب يعلمني ذلك الأمر بتسييره وإنما أنتم لصوص.
وأخذ عبد الله المال فأعطاه الجند وكتب إلى الأفشين يذكر له ما قال القوم وقال أنا أنكر أن تكون وجهت بمثل هذا المال ولم تعلمني وقد أعطيته الجند عوض المال الذي يوجه أمير المؤمنين فإن كان المال لك كما زعموا فإذا جاء المال من عند أمير المؤمنين رددته عليك وإن يكن غير هذا فأمير المؤمنين أحق بهذا المال وإنما دفعته إلى الجند لأني أريد [أن] أوجههم إلى بلاد الترك.
فكتب إليه الأفشين إن ما لم ومال أمير المؤمنين واحد وسأله إطلاق القوم فأطلقهم فكان ذلك سبب الوحشة بينهما.
وجعل عبد الله يتبعه وكان الأفشين يسمع من المعتصم ما يدل على أنه يريد عزل عبد الله عن خراسان فطمع في ولايتها فكاتب مازيار يحسن له الخلاف ظنا منه أنه إذا خالف عزل المعتصم عبد الله عن خراسان واستعمله عليها وأمره بمحاربة مازيار فكان من أمر مازيار ما تقدم وكان من عصيان منكجور ما ذكرناه أيضا فتحقق المعتصم أمر الأفشين فتغير عليه.
511

وأحس الأفشين بذلك فلم يدر ما يصنع فعزم على أن يهيئ أطوافا في قصره ويحتال في يوم شغل المعتصم وقواده أن يأخذ طريق الموصل ويعبر الزاب على تلك الأطواف ويصير إلى أرمينية وكانت ولاية أرمينية إليه ثم يصير إلى بلاد الخزر ثم يدور في بلاد الترك ويرجع إلى أشروسنة أو يستميل الخزر على المسلمين فلم يمكنه ذلك فعزم على أن يعمل طعاما كثيرا ويدعو المعتصم والقواد ويعمل فيه سما فإن لم يجئ المعتصم عمل ذلك بالقواد مثل أشناس وإيتاخ وغيرهما يوم تشاغل المعتصم فإذا خرجوا من عنده سار في أول الليل فكان في تهيئة ذلك.
وكان قواده ينوبون في دار المعتصم كما يفعل القواد، وكان أواجن الأشروسني قد جرى بينه وبين من قد اطلع على أمر الأفشين حديث فقال أواجن لا يتم هذا الأمر فذهب ذلك الرجل إلى الأفشين فأعلمه فتهدد أواجن فسمعه بعض من يميل إلى أواجن من خدم الأفشين فأتاه ذلك الخادم فأعلمه الحال بعد عوده من النوبة فخاف على نفسه
فخرج إلى دار المعتصم فقال لإيتاخ إن لأمير المؤمنين عندي نصيحة قال قد نام أمير المؤمنين فقال أواجن لا يمكنني أن أصبر إلى غد فدق إيتاخ الباب على بعض من يخبر المعتصم بذلك فقال المعتصم قل له ينصرف الليلة إلى غد فقال إن انصرفت ذهبت نفسي فأرسل المعتصم إلى إيتاخ بيته عندك الليلة.
فبيته عنده فلما أصبح الصباح بكر به على باب المعتصم فأخبره ما عنده فأمر المعتصم بإحضار الأفشين فجاء في سواده فأمر بأخذ سواده وحبسه في الجوسق، وكتب المعتصم إلى عبد الله بن طاهر في الاحتيال على الحسين بن الأفشين وكان الحسين قد كثرت كتبه إلى عبد الله، فشكا
512

من نوح بن الأسد الأمير بما وراء النهر وتحامله على ضياعه وناحيته فكتب عبد الله إلى نوح يعلمه ما كتب به المعتصم في أمر الحسين ويأمره أن يجمع أصحابه ويتأهب له فإذا قدم عليه الحسين بكتاب ولايته أخذه واستوثق منه وحمله إلي.
وكتب عبد الله إلى الحسين يعلمه أنه قد عزل نوحا وأنه قد ولاه ناحيته ووجه إليه بكتاب عزل نوح وولايته فخرج ابن الأفشين في قلة من أصحابه وسلاحه حتى ورد على نوح وهو يظن أنه والي الناحية فأخذه نوح وقيده ووجهه إلى عبد الله بن طاهر فوجه به عبد الله إلى المعتصم فأمر المعتصم بإحضار الأفشين ليقابل على ما قيل عنه فأحضر محمد بن عبد الملك الزيات وزير المعتصم وعند ابن أبي داود وإسحاق بن إبراهيم وغيرهما من الأعيان وكان المناظر ابن الزيات فأمر بإحضار مازيار والموبذ والمرزبان بن بركش وهو أحد ملوك السغد ورجلين من أهل السغد فدعا محمد بن عبد الملك بالرجلين وعليهما ثياب رثة فقال لهما ما شأنكما فكشفا عن ظهورهما وهي عارية من اللحم فقال للأفشين أتعرف هؤلاء قال نعم هذا مؤذن وهذا إمام بنيا مسجدا بأشروسنة فضربت كل واحد منهما ألف سوط وذلك أن بيني وبين ملك السغد عهدا وشرطا أن أترك كل قوم على دينهم فوثب هذان على بيت كان فيه أصنام أهل أشروسنة فأخرجا الأصنام وجعلاه مسجدا فضربتهما على هذا.
513

قال ابن الزيات: ما كتاب عندك قد حليته بالذهب والجوهر فيه الكفر بالله تعالى؟
قال: كتاب ورثته عن أبي فيه من آداب العجم وكفر فكنت آخذ الآداب وأترك الكفر ووجدته محلى فلم أحتج إلى أخذ الحلية منه، وما ظننت أن هذا يخرج من الإسلام.
ثم تقدم الموبذ فقال إن هذا يأكل اللحم المخنوقة ويحملني على أكلها ويزعم أنه أرطب من المذبوحة وقال لي يوما قد دخلت لهؤلاء القوم في كل شيء أكرهه حتى أكلت الزيت وركبت الجمل والبغل غير أني إلى هذه الغاية لم تسقط عني شعرة يعني لم آخذ شعر العانة ولم أختتن.
فقال الأفشين أخبروني عن هذا أثقة هو في دينه وكان مجوسيا وإنما أسلم أيام المتوكل فقالوا لا فقال فما معنى قبول شهادته ثم قال للموبذ أليس كنت أدخلك علي وأطلعك على سري قال بلى قال لست بالثقة في دينك ولا بالكريم في عهدك إذا أفشيت سرا أسررته إليك.
ثم تقد المرزبان فقال كيف يكتب إليك أهل بلادك قال لا أقول قال أليس يكتبون بكذا بالأشروسنية قال بلى قال أليس تفسير بالعربية إلى إله الآلهة من عبده فلان بن فلان قال بلى! قال: محمد بن عبد الملك الزيات المسلمون لا يحتملون هذا فما أبقيت لفرعون؟ قال:
514

هذه كانت عادتهم لأبي وجدي ولي قبل أن أدخل في الإسلام فكرهت أن أضع نفسي دونهم فتفسد علي طاعتهم.
ثم تقدم مازيار فقالوا للأفشين هل كاتبت هذا قال لا قالوا لمازيار هل كتب إليك قال نعم كتب أخوه إلى أخي قوهيار أنه لم يكن ينصر هذا الدين الأبيض غيري وغيرك، فأما بابك فإنه لحمقه قتل نفسه ولقد جهدت أن أصرف عنه الموت فأبى لحمقه إلا أن أوقعه فإن خالفت لم يكن للقوم من يرمونك به غيري ومعي الفرسان وأهل النجدة فإن وجهت إليك لم يبق أحد يحاربنا إلا ثلاثة العرب والمغاربة والأتراك والعربي بمنزلة الكلب اطرح له كسوة وأضرب رأسه والمغاربة أكلة رأس والأتراك إنما هي ساعة حتى تنفذ سهامهم ثم تجول الخيل عليهم جولة فتأتي على آخرهم ويعود الدين إلى ما لم يزل عليه أيام العجم.
فقال الأفشين: هذا يدعي أن أخي كتب إلى أخيه لا يجب علي ولو كتبت هذا الكتاب إليه لأستميله إلي ويثق بي ثم آخذه بقفاه وأحظى به عند الخليفة كما حظي عبد الله بن طاهر فزجره ابن أبي داود فقال للأفشين يا أبا عبد الله أنت ترفع طيلسانك فلا تضعه حتى تقتل جماعة.
فقال له ابن أبي داود: أمطهر أنت؟ قال: لا! قال: فما منعك من ذلك وبه تمام الإسلام والطهور من النجاسة فقال أو ليس الإسلام استعمال التقية قال بلى قال خفت أن أقطع ذلك العضو من جسدي فأموت فقال أنت تطعن بالرمح وتضرب بالسيف فلا يمنعك ذلك أن يكون ذلك في الحرب وتجزع من قطعة قلفة قال تلك ضرورة تصيبني
515

فأصبر عليها وهذا شيء أستجلبه.
فقال ابن أبي داود قد بان لكم أمره فقال بغا الكبير عليك به فضرب يده على منطقته فجذبها وأخذ بمجامع القباء عند عنقه ورده إلى محبسه.
ذكر عند حوادث
في هذه السنة غضب المعتصم على جعفر بن دينار لأجل وثوبه على من كان معه من الأصحاب وحبسه عند أشناس خمسة عشر يوما ثم رضي عنه وعزله عن اليمن واستعمل عليها إيتاخ.
وفيها عزل الأفشين عن الحرس وولاه إسحاق بن يحيى بن معاذ.
وفيها سار عبد الرحمن صاحب الأندلس في جيش كثير إلى بلاد المشركين في شعبان فدخل بلاد جليقية فافتتح منها عدة حصون وجال في أرضهم يخرب ويغنم ويقتل ويسبي وأطال المقام في هذه الغزاة ثم عاد إلى قرطبة وحج بالناس في هذه السنة محمد بن داود.
وفيها توفي أبو دلف العجلي واسمه القاسم بن عيسى وأبو عمرو الجرمي النحوي واسمه صالح بن إسحاق وكان من الصالحين.
وفيها توفي أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الله المدائني وله ثلاث وتسعون سنة، وله كتب في المغازي وأيام العرب، وكان بصريا فأقام بالمدائن فنسب إليها.
516

226
ثم دخلت سنة ست وعشرين ومائتين
فيها وثب علي بن إسحاق بن يحيى بن معاذ وكان على المعونة بدمشق من قبل صول على أرتكين بن رجاء وكان على الخراج فقتله وأظهر الوسواس ثم تكلم فيه أحمد بن أبي داود فأطلق من محبسه.
وفيها مات محمد بن عبد الله بن طاهر فصلى عليه المعتصم.
ذكر موت الأفشين
وفيها مات الأفشين وكان قد أنفذ إلى المعتصم يطلب أن ينفذ إليه من يثق به وأنفذ إليه حمدون بن إسماعيل فأخذ يعتذر عما قيل فيه وقال قل لأمير المؤمنين إنما مثلي ومثلك كرجل ربى عجلا حتى أسمنه وكبر وكان له أصحاب يشتهون أن يأكلوا من لحمه فعرضوا بذبحه فلم يجبهم فاتفقوا جميعا على أن قالوا لم تربى هذا الأسد فإنه إذا كبر رجع إلى جنسه فقال لهم إنما هو عجل فقالوا هذا أسد فسل من شئت.
517

وتقدموا إلى جميع من يعرفونه وقالوا لهم إن سألكم عن العجل فقولوا له إنه أسد وكلما سأل إنسانا قال هو سبع، فأمر بالعجل فذبح وإني أنا ذلك العجل كيف أقدر أن أكون أسدا الله الله في أمري.
قال حمدون: فقمت عنه وبين يديه طبق فيه فاكهة قد أرسل به المعتصم مع ابنه الواثق وهو على حاله فلم ألبث إلا قليلا حتى قيل إنه يموت أو قد مات فحمل إلى دار إيتاخ فمات بها وأخرجوه وصلبوه على باب العامة ليراه الناس ثم ألقي وأحرق بالنار وكان موته في شعبان.
قال حمدون وسألته هل هو مطهر أم لا فقال إلى مثل هذا الموضع إنما قال لي هذا والناس مجتمعون ليفضحني إن قلت نعم قال تكشف؛ والموت كان أحب إلي من أن أتكشف بين يدي الناس ولكن إن شئت أتكشف بين يديك حتى تراني؛ فقلت له أنت صادق فلما انصرف حمدون وبلغ المعتصم رسالته أمر بقطع الطعام والشراب عنه إلا القليل حتى مات.
قال: ولما أخذ ماله رأى في داره بيت فيه تمثال إنسان من خشب عليه حلية كثيرة وجوهر وفي أذنيه حجران مشتبكان عليهما ذهب فأخذ بعض من كان مع سليمان أحد الحجرين وظنه جوهرا وكان ذلك ليلا فلما أصبح نزع عنه الذهب ووجده شيئا شبيها بالصدف الذي يسمى الحبرون ووجدوا أصناما وغير ذلك والأطواف الخشب التي كان أعدها ووجدوا له كتابا من كتب المجوس وكتبا غيره فيها ديانته.
518

ذكر وفاة الأغلب وولاية أبي العباس محمد بن
الأغلب أفريقية وما كان منه
في هذه السنة في ربيع الآخر توفي الأغلب بن إبراهيم يوم الخميس لسبع بقين من ربيع الآخر من هذه السنة وكانت ولايته سنتين وسبعة أشهر وسبعة أيام.
ولما توفي ولي أبو العباس محمد بن الأغلب بن إبراهيم بن الأغلب بلاد أفريقية بعد وفاة والده ودانت له أفريقية وابتنى مدينة بقرب تاهرت سماها العباسية في سنة تسع وثلاثين ومائتين فأحرقها أفلح بن عبد الوهاب الأباضي وكتب إلى الأموي صاحب الأندلس يعلمه ذلك فبعث إليه الأموي مائة ألف درهم جزاء له على فعله.
وتوفي محمد بن الأغلب يوم الاثنين غرة المحرم من سنة اثنتين وأربعين ومائتين وكانت ولايته خمس عشرة سنة وثمانية أشهر وعشرة أيام.
ذكر ولاية ابنه أبي إبراهيم أحمد
لما توفي أبو العباس محمد بن الأغلب ولي الأمر بعده ابنه أبو إبراهيم أحمد وأحسن السيرة مع الرعية وأكثر العطاء للجند وبنى بأرض أفريقية عشرة آلاف حصن بالحجارة والكلس وأبواب الحديد واشترى لعبيد ولم يكن في أيامه ثائر يزعجه ثم توفي رحمه الله يوم الثلاثاء لثلاث عشرة
519

بقيت من ذي القعدة سنة تسع وأربعين ومائتين وكان ولايته سبع سنين وعشرة أشهر واثني عشر يوما وكان عمره ثمانيا عشرين سنة.
ذكر ولاية أخيه أبي محمد زيادة الله
ولما توفي أحمد ولي أخوه زيادة الله وجرى على سنن سلفه ولم تطل أيامه فتوفي يوم السبت لإحدى عشرة بقيت من ذي القعدة سنة خمسين ومائتين وكانت ولا يته سنة واحدة وستة أيام.
ذكر ولاية محمد بن أحمد بن الأغلب
ولما توفي زيادة الله ولي بعده أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن الأغلب وجرى على سنن أسلافه وكان أديبا عاقلا حسن السيرة غير أن جزيرة صقلية تغلب الروم على مواضع منها وبنى أيضا حصونا ومحارس على ساحل البحر.
وبالمغرب أرض تعرف بالأرض الكبيرة بينها وبين برقة مسيرة خمسة عشر يوما وبها مدينة على ساحل البحر تدعى بارة وكان أهلها نصارى ليسوا بروم فغزاها حياة مولى الأغلب فلم يقدر عليها ثم غزاها خلفون البربري يقال إنه مولى لربيعة ففتحها في خلافة المتوكل وقام بعده
520

رجل يسمى المفرج بن سالم ففتح أربعا وعشرين حصنا واستولى عليها فكتب إلى والي مصر يعلمه خبره وأنه لا يرى لنفسه ومن معه من المسلمين صلاة إلا بان يعقد له الإمام على ناحيته ويوليه إياها ليخرج من حد المتغلبين وبنى مسجدا جامعا.
ثم إن أصحابه شغبوا عليه ثم قتلوه ثم توفي أبو عبد الله محمد رحمه الله سنة إحدى وستين ومائتين وإنما ذكرنا ولاية هؤلاء متتابعة لقلة ما لكل واحد منهم.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة زلزلت الأهواز زلزلة شديدة خمسة أيام وكان مع الزلزلة ريح شديدة فخرج الناس عن منازلهم وخرب كثير منها.
وفيها حج بالناس محمد بن داود أمره أشناس بذلك وكان أشناس حاجا وقد جعل إليه ولاية كل بلد يدخله وخطب له على منابر مكة والمدينة وغيرهما من البلاد التي اجتاز بها بالإمرة إلى أن عاد إلى سامرا.
وفيها توفي أبو الهذيل محمد بن الهذيل بن عبد الله بن العلاف البصري شيخ المعتزلة في زمانه وزاد عمره على مائة سنة وله مسائل في الأصول قبيحة تفرد بها ويحيى بن يحيى بن بكير بن عبد الرحمن التميمي الحنظلي النيسابوري أبو زكريا توفي في صفر بنيسابور وسليمان بن حرب الواشجي القاضي وأبو الهيثم الرازي النحوي وكان عالما بنحو الكوفيين.
521

227
ثم دخلت سنة سبع وعشرين ومائتين
ذكر خروج المبرقع
في هذه السنة خرج أبو حرب المبرقع اليماني بفلسطين وخالف المعتصم.
وكان سبب خروجه أن بعض الجند أراد النزول في داره وهو غائب فمنعه بعض نسائه فضربها الجندي بسوط فأصاب ذراعها فأثر فيها فلما رجع أبو حرب إلى منزله شكت إليه ما فعل بها الجندي فأخذ سيفه وسار نحوه فقتله ثم هرب وألبس وجهه برقعا وقصد بعض جبال الأردن فأقام به وكان يظهر بالنهار متبرقعا فإذا جاءه أحد ذكره وأمره بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويذكر الخليفة وما يأتي ويعيبه فاستجاب له قوم من فلاحي تلك الناحية.
وكان يزعم أنه أموي فقال أصحابه هذا السفياني فلما كثر أتباعه من هذه الصفة دعا أهل البيوتات فاستجاب له جماعة من رؤساء اليمانية منهم رجل يقال له ابن بيهس كان مطاعا في أهل اليمن ورجلان من أهل دمشق.
واتصل الخبر بالمعتصم في مرضه الذي مات فيه فسير إليه رجاء بن أيوب
522

الحضاري في زهاء ألف رجل من الجند فرآه في عالم كثير يبلغون مائة ألف فكره رجاء مواقعته وعسكر في مقابلته حتى كان أوان الزراعة وعمل الأرض فانصرف من كان مع المبرقع إلى عملهم وبقي في زهاء ألف أو ألفين.
وتوفي المعتصم وولي الواثق وثارت الفتنة بدمشق على ما نذكره فأمر الواثق رجاء بقتال من أراد الفتنة والعود إلى المبرقع ففعل ذلك وعاد إلى المبرقع فناجزه رجاء فالتقى العسكران فقال رجاء لأصحابه ما أرى في عسكره رجلا له شجاعة غيره وأنه سيظهر لأصحابه ما عنده فإذا حمل عليكم فأفرجوا له فما لبث أن حمل المبرقع فأفرج له أصحاب رجاء حتى جاوزهم ثم رجع فأفرجوا له حتى أتى أصحابه ثم حمل مرة أخرى فلما أراد الرجوع أحاطوا به وأخذوه أسيرا.
وقيل كان خروجه سنة ست وعشرين ومائتين وأنه خرج بنواحي الرملة وصار في خمسين ألفا فوجه إليه المعتصم رجاء الحضاري فقاتله وأخذ ابن بيهس أسيرا وقتل من أصحاب المبرقع نحوا من عشرين ألفا وأسر المبرقع وحمله إلى سامرا.
ذكر وفاة المعتصم
وفي هذه السنة توفي المعتصم أبو إسحاق محمد بن هارون الرشيد بن محمد المهدي بن عبد الله المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس،
523

يوم الخميس لثمان عشرة مضت من ربيع الأول وكان بدو علته أنه احتجم أول يوم في المحرم واعتل عندها.
قال زنام الزامر: أفاق المعتصم في علته التي مات فيها إفاقة قال هيؤوا لي الزلال لأركب غدا فركب في الزلال في دجلة وأنا معه، فمر بإزاء منازله، فقال يا زنام ازمر لي:
(يا منزلا لم تبل أطلاله * حاشى لأطلالك أن تبلى)
(لم أبك أطلالك لكنني * بكيت عيشي فيك إذ ولى)
(والعيش أولى ما بكاه الفتى * لا بد للمحزون أن يسلى)
قال: فما زلت أزمر له هذا الصوت وأكرره وقد تناول منديلا بين يديه فما زال يبكي فيه وينتحب حتى رجع إلى منزله.
ولما احتضر المعتصم جعل يقول ذهبت الحيل ليست حيلة حتى أصمت ثم مات ودفن بسامرا.
وكان خلافته ثمان سنين وثمانية أشهر ويومين وكان مولده سنة تسع وسبعين ومائة وقيل سنة ثمانين ومائة في الشهر الثامن وهو ثامن الخلفاء والثامن من ولد العباس ومات عن ثمانية بنين وثمان بنات وملك ثمان سنين وثمانية أشهر فعلى القول الأول يكون عمره سبعا وأربعين سنة وشهرين وثمانية عشر يوما وعلى القول الثاني يكون عمره سبعا وأربعين وسبعة أشهر.
وكان أبيض أصهب اللحية طويلها مربوعا مشرب اللون حمرة
524

حسن العينين وكان مولده بالخلدقار، وقال محمد بن عبد الملك الزيات يرثيه:
(قد قلت إذ غيبوك واصطفقت * عليك أيد بالترب والطين)
(اذهب فنعم الحفيظ كنت على الد * نيا ونعم المعين للدين)
(لا يجبر الله أمة فقدت * مثلك إلا بمثل هارون)
وكانت أمه ماردة من مولدات الكوفة وكانت أمها صغدية وكان أبوها نشأ بالبندنيجين.
ذكر بعض سيرته
ذكر عن أحمد بن أبي داود أنه ذكر المعتصم فأسهب في ذكره وأكثر في وصفه وذكر من طيب أعراقه وسعة أخلاقه وكريم عشيرته قال وقال يوما ونحن بعمورية ما تقول في البسر يا أبا عبد الله فقلت يا أمير المؤمنين نحن ببلاد الروم والبسر بالعراق فقال قد جاؤوا منه بشيء من بغداد وعلمت أنك تشتهيه؛ ثم أحضره فمد يده فأخذ العذق فارغا، قال وكنت أزامله كثيرا في سفره ذلك.
ذكر باقي الخبر قال: وأخذت لأهل الشاش منه ألفي ألف درهم لعمل
525

نهر كان لهم اندفن في صدر الإسلام فأضر بهم.
وقال غيره إنه كان لا يبالي إذا غضب من قتل وما فعل ولم يكن له لذة في تزيين البناء ولم يكن بالنفقة أسمح منه بها في الحرب.
قال أحمد بن سليمان بن أبي شيخ قدم الزبير بن بكار العراق هاربا من العلويين لأنه كان ينال منهم فتهددوه فهرب منهم وقدم على عمه مصعب بن عبد الله بن الزبير وشكا إليه حاله وخوفه من العلويين وسأله إنهاء حاله إلى المعتصم فلم يجد عنده ما أراد وأنكر عليه حاله ولامه.
قال أحمد فشكا ذلك إلي وسألني مخاطبة عمه في أمره فقلت له في ذلك وأنكرت عليه إعراضه عنه فقال لي إن الزبير فيه جهل وتسرع فأشر عليه أن يستعطف العلويين ويزيل ما في نفوسهم منه أما رأيت المأمون ورفقه بهم وعفوه عنهم وميله إليهم قلت بلى فهذا أمير المؤمنين والله على مثل ذلك أو فوقه ولا أقدر أذكرهم عنده بقبيح فقل له ذلك حتى يرجع عن الذي هو عليه من ذمهم.
قال إسحاق بن إبراهيم المصعبي دعاني المعتصم يوما فدخلت عليه فقال أحببت أن أضرب معك بالصوالجة فلعبنا بها ساعة ثم نزل وأخذ بيدي نمشي إلى أن صار إلى حجرة الحمام فقال خذ ثيابي فأخذتها ثم أمرني بنزع ثيابي ففعلت ودخلت وليس معنا غلام فقمت إليه فخدمته ودلكته وتولى المعتصم مني مثل ذلك فاستعفيته فأبى علي ثم خرجنا ومشى وأنا معه حتى صار إلى مجلسه فنام وأمرني فنمت حذاءه بعد الامتناع ثم قال لي يا إسحاق إن في قلبي أمرا أنا مفكر فيه منذ مدة طويلة وإنما بسطتك في هذا الوقت لأفشيه إليك فقلت قل
526

يا أمير المؤمنين فإنما أنا عبدك وابن عبدك.
قال: نظرت إلى أخي المأمون وقد اصطنع أربعة فأفلحوا واصطنعت أربعة فلم يفلح أحد منهم قلت ومن الذين اصطنعهم المأمون قال طاهر بن الحسين فقد رأيت وسمعت وابنه عبد الله بن طاهر فهو الرجل الذي لم ير مثله وأنت فأنت والله الرجل الذي لا يعتاض السلطان عنك أبدا وأخوك محمد بن إبراهيم وأين مثل محمد وأنا اصطنعت الأفشين فقد رأيت إلى ما صار أمره وأشناس ففشل وإيتاخ فلا شيء ووصيف فلا معنى فيه.
فقلت: أجيب على أمان من غضبك قال نعم قلت له يا أمير المؤمنين نظر أخوك إلى الأصول فاستعملها فأنجبت فروعها واستعمل أمير المؤمنين فروعا فلم تنجب إذ لا أصول لها فقال يا إسحاق لمقاساة ما مر بي طول هذه المدة أيسر علي من هذا الجواب.
وقال ابن أبي داود تصدق المعتصم ووهب على يدي مائة ألف ألف درهم.
وحكي أن المعتصم قد انقطع عن أصحابه في يوم مطر فبينا هو يسير رحله إذ رأى شيخا معه حمار عليه حمل شوك وقد زلق الحمار وسقط الشيخ قائم ينتظر من يمر به فيعينه على حمله فسأله المعتصم عن حاله فأخبره فنزل عن دابته ليخلص الحمار عن الوحل ويرفع عليه حمله فقال له الشيخ بأبي أنت وأمي لا تبلل ثيابك وطيبك فقال لا عليك ثم إنه خلص الحمار وجعل الشوك عليه وغسل يده ثم ركب فقال
527

الشيخ: غفر الله لك يا شاب ثم لحقه أصحابه فأمر له بأربعة آلاف درهم ووكل به من يسير معه إلى بيته.
ذكر خلافة الواثق بالله
وفيها بويع الواثق بالله هارون بن المعتصم في اليوم الذي توفي فيه أبوه وذلك يوم الخميس لثماني عشرة مضت من ربيع الأول سنة سبع وعشرين ومائتين وكان يكنى أبا جعفر وأمه أم ولد رومية تسمى قراطيس.
وفيها هلك توفيل ملك الروم وكان ملكه اثنتي عشرة سنة وملكت بعده امرأته تدورة وابنها ميخائيل بن توفيل صبي وحج بالناس جعفر بن المعتصم وحجت معه أم الواثق فماتت بالحيرة في ذي الحجة ودفنت بالكوفة.
ذكر الفتنة بدمشق
لما مات المعتصم ثارت القيسية بدمشق وعاثوا وأفسدوا وحصروا أميرهم فبعث الواثق إليهم رجاء بن أيوب الحضاري وكانوا معسكرين بمرج راهط فنزل رجاء بدير
مران ودعاهم إلى الطاعة فلم يرجعوا فواعدهم الحرب بدومة يوم الاثنين.
فلما كان يوم الأحد وقد تفرقت سار رجاء إليهم فوافاهم وقد
528

سار بعضهم إلى دومة وبعضهم في حوائجه فقاتلهم فهزمهم وقتل منهم نحو ألف وخمسمائة وقتل من أصحابه نحو ثلاثمائة وهرب مقدمهم ابن بيهس وصلح أمر دمشق.
وسار رجاء إلى فلسطين إلى قتال أبي حرب المبرقع الخارج بها فقاتله فانهزم المبرقع وأخذ أسيرا على ما ذكرناه.
ذكر عدة حوادث
وفيها توفي بشر بن الحرث الزاهد المعروف بالحافي في ربيع الأول وعبد الرحمن بن عبيد الله بن محمد بن حفص بن عمر بن موسى بن عبيد الله بن معمر المعروف بابن عائشة البصري وإنما قيل له ابن عائشة لأنه من ولد عائشة بنت طلحة وتوفي أبو عبيد الله بعده لسنة وإسماعيل بن أبي أويس ومولده سنة تسع وثلاثين ومائة وأحمد بن عبد الله بن يونس وأبو الوليد الطيالسي والهيثم بن خارجة.
وفيها سير عبد الرحمن صاحب الأندلس جيشا إلى أرض العدو فلما كانوا بين أربونة وشرطانية تجمعت الروم عليهم وأحاطوا بالعسكر وقاتلوهم الليل كله فلما أصبحوا أنزل الله تعالى نصره على المسلمين وهزم عدوهم وأبلى موسى بن موسى في هذه الغزوة بلاء عظيما وكان على مقدمة العسكر وجرى بينه وبين جرير بن موفق وهو من أكابر الدولة أيضا شر فكان سببا لخروج موسى عن طاعة عبد الرحمن.
529

وفيها توفي أذفونس ملك الروم بالأندلس وكانت إمارته اثنين وستين سنة.
وفيها توفي محمد [بن] عبد الله بن حسان اليحصبي الفقيه المالكي وهو من أهل إفريقية.
(شرطانية بفتح الشين المعجمة وسكون الراء وفتح الطاء المهملة وبعدها نون ثم ياء تحتانية ثم هاء).
تم المجلد السادس
530