الكتاب: الكامل في التاريخ
المؤلف: ابن الأثير
الجزء: ٧
الوفاة: ٦٣٠
المجموعة: مصادر التاريخ
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع: ١٣٨٦ - ١٩٦٦م
المطبعة: دار صادر - دار بيروت
الناشر: دار صادر للطباعة والنشر - دار بيروت للطباعة والنشر
ردمك:
ملاحظات:

الكامل في التاريخ
7
1

الكامل في التاريخ
تأليف
الشيخ العلامة عز الدين أبي الحسن علي بن أبي الكرم
محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني المعروف
بابن الأثير
المجلد السابع
دار صادر
للطباعة والنشر
دار بيروت
للطباعة والنشر
بيروت
1385 ه‍ _ 1965 م
3

بسم الله الرحمن الرحيم
228
ثم دخلت سنة ثمان وعشرين ومائتين
ذكر غزوات المسلمين في جزيرة صقلية
في هذه السنة سار الفضل بن جعفر الهمداني في البحر فتزل مرسى مسيني وبث السرايا فغنموا غنائم كثيرة واستأمن إليه أهل نابل وصاروا معه وقاتل الفضل مدة سنتين واشتد القتال فلم يقدر على أخذها فمضى طائفة من العسكر واستداروا خلف جبل مطل على المدينة فصعدوا إليه ونزلوا إلى المدينة وأهل البلد مشغولون بقتال جعفر ومن معه فلما رأى أهل البلد أن المسلمين دخلوا عليهم من خلفهم انهزموا وفتح البلد.
وفيها فتحت مدينة مسكان.
وفي سنة تسع وعشرين ومائتين خرج أبو الأغلب العباس بن الفضل في
5

سرية فبلغ شرة فقاتله أهلها قتالا شديدا فانهزمت الروم وقتل منهم ما يزيد على عشرة آلاف رجل واستشهد من المسلمين ثلاثة نفر ولم يكن بصقلية قبلها مثلها.
وفي سنة اثنتين وثلاثين ومائتين حصر الفضل بن جعفر مدينة مسيني فأخبر الفضل أن أهل مسيني كاتبوا البطريق الذي بصقلية لينصرهم فأجابهم وقال لهم إن العلامة عند وصولي أن توقد النار ثلاث ليال على الجبل الفلاني فإذا رأيتم ذلك ففي اليوم الرابع أصل إليكم فنجتمع أنا وأنتم على المسلمين بغتة.
فأرسل الفضل من أوقد النار على ذلك الجبل ثلاث ليال فلما رأى أهل مسيني النار أخذوا في أمرهم وأعد الفضل ما ينبغي أن يستعد به وكمن الكمناء وأمر الذي يحاصرون المدينة أن ينهزموا إلى جهة الكمين فإذا خرج أهلها عليهم قاتلوهم فإذا جاوزوا الكمين عطفوا عليهم.
فلما كان اليوم الرابع خرج أهل مسيني وقاتلوا المسلمين وهم ينتظرون وصول البطريق فانهزم المسلمون واستجروا الروم حتى جاوزوا الكمين ولم يبق بالبلد أحد إلا خرج فلما جاوزوا الكمين عاد المسلمون عليهم وخرج الكمين من خلفهم ووضعوا فيهم السيف فلم ينج منهم إلا القليل فسألوا الأمان على أنفسهم وأموالهم ليسلموا المدينة فأجابهم المسلمون إلى ذلك وأمنوهم فسلموا المدينة.
وفيها أقام المسلمون بمدينة طارنت من أرض أنكبردة وسكنوها.
6

وفي سنة ثلاث وثلاثين ومائتين وصل عشر شلنديات من الروم فأرسوا بمرسى الطين وخرجوا ليغيروا فضلوا الطريق فرجعوا خائبين وركبوا البحر راجعين فغرق منها سبع قطع.
وفي سنة أربع وثلاثين صالح أهل رغوس وسلموا المدينة إلى المسلمين بما فيها فهدمها المسلمون وأخذوا منها ما أمكن حمله.
وفي سنة خمس وثلاثين سار طائفة من المسلمين إلى مدينة قصريانة فغنموا وسلبوا وأحرقوا وقتلوا في أهلها وكان الأمير على صقلية للمسلمين محمد بن عبد الله بن الأغلب فتوفي في رجب سنة ست وثلاثين ومائتين فكان مقيما بمدينة بلرم لم يخرج منها وإنما كان يخرج الجيوش والسرايا فتفتح فتغنم فكانت إمارته عليها تسع عشرة سنة والله سبحانه أعلم.
ذكر الحرب بين موسى بن موسى والحرث بن بزيغ
في هذه السنة كانت الحرب بين موسى عامل تطيلة وبين عسكر عبد الرحمن أمير الأندلس والمقدم عليهم الحرث بن بزيغ.
وسبب ذلك أن موسى بن موسى كان من أعيان قواد عبد الرحمن وهو العامل على مدينة تطيلة فجرى بينه وبين القواد تحاسد سنة سبع وعشرين،
7

وقد ذكرناه، فعصى موسى بن موسى على عبد الرحمن فسير إليه جيشا واستعمل عليهم الحرث بن بزيغ والقواد فاقتتلوا عند برجة فقتل كثير من أصحاب موسى وقتل ابن عم له وعاد الحرث إلى سرقسطة فسير موسى ابنه ألب بن موسى إلى برجة فعاد الحرث إليها وحصرها فملكها وقتل ابن موسى وتقدم إلى بيته فطلبه فحضر فصالحه موسى على أن يخرج عنها فانتقل موسى إلى أرنيط.
وبقي الحرث يتطلبه أياما ثم سار إلى أرنيط فحصر موسى بها فأرسل موسى إلى غرسية وهو من ملوك الأندلسيين المشركين واتفقا على الحرث واجتمعا وجعلا له كمائن في طريقه واتخذ له الخيل والرجال بموضع يقال له بلمسة على نهر هناك فلما جاء الحرث النهر خرج الكمناء عليه وأحدقوا به وجرى معه قتال شديد وكانت وقعة عظيمة وأصابه ضربة في وجهه فلقت عينه ثم أسر في هذه الوقعة.
فلما سمع عبد الرحمن خبر هذه الوقعة عظم عليه فجهز عسكرا كبيرا واستعمل عليه ابنه محمدا وسيره إلى موسى في شهر رمضان من سنة تسع وعشرين ومائتين وتقدم محمد إلى بنبلونة فأوقع عندها بجمع كثير من المشركين وقتل فيها غرسية وكثير من المشركين.
ثم عاد موسى إلى الخلافة على عبد الرحمن فجهز جيشا كبيرا وسيرهم إلى موسى فلما رأى ذلك طلب المسالمة فأجيب إليها وأعطى ابنه إسماعيل
8

رهينة، وولاه عبد الرحمن مدينة تطيلة، فسار موسى إليها فوصلها، وأخرج من يخافه واستقر فيها.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة أعطى الواثق أشناس تاجا ووشاحين.
وفيها مات أبو تمام حبيب بن أوس الطائي الشاعر.
وفيها غلا السعر بطريق مكة فبلغ الخبز كل رطل بدرهم وراوية ماء بأربعين درهما وأصاب الناس في الموقف حر شديد ثم أصابهم مطر فيه برد واشتد البرد عليهم بعد ساعة من ذلك الحر وسقطت قطعة من الجبل عند جمرة العقبة فقتلت عدة من الحجاج.
وحج بالناس محمد بن داود.
وفيها توفي عبد الملك بن مالك بن عبد العزيز أبو نصر التمار الزاهد وكان عمره إحدى وتسعين سنة وكان قد أضر ومحمد بن عبد الله بن عمر بن معاوية بن عمرو بن عتبة بن أبي سفيان العتبي الأموي البصري أبو عبد الرحمن وكان عالما بالأخبار والآداب وأبو سليمان داود الأشقر السمسار المحدث.
9

229
ثم دخلت سنة تسع وعشرين ومائتين
في هذه السنة حبس الواثق الكتاب وألزمهم أموالا عظيمة وأخذ من أحمد بن إسرائيل ثمانين ألف دينار بعد أن ضربه ومن سليمان بن وهب كاتب إيتاخ أربعمائة ألف دينار ومن الحسن بن وهب أربعة عشر ألف دينار ومن إبراهيم بن رياح وكتابه مائة ألف دينار ومن أحمد بن الخصيب وكتابه ألف ألف دينار ومن نجاح ستين ألف دينار ومن أبي الوزير مائة ألف وأربعين ألف دينار.
وكان سبب ذلك أنه جلس ليلة مع أصحابه فسألهم عن سبب نكبة البرامكة فحكى له عرود بن عبد العزيز الأنصاري أن جارية لعدول الخياط أراد الرشيد شراءها فاشتراها بمائة ألف دينار وأرسل إلى يحيى بن خالد أن يعطيه ذلك فقال يحيى هذا مفتاح سوء إذا أخذ ثمن جارية بمائة ألف دينار فهو أحرى أن يطلب المال على قدر ذلك فأرسل يحيى إليه أنني لا أقدر على هذا المال فغضب الرشيد وأعاد لا بد منها فأرسل يحيى قيمتها دراهم فأمر أن تجعل على طريق الرشيد ليستكثرها ففعل ذلك فاجتاز الرشيد بها فسأل عنها فقيل هذا ثمن الجارية فاستكثرها فأمر برد الجارية وقال لخادم له اضمم إليك هذا المال واجعل لي بيت مال
10

لأضم إليه ما أريد وسماه بيت مال العروس وأخذ في التفتيش عن الأموال فوجد البرامكة قد فرطوا فيها.
وكان يحضر عنده مع سماره رجل يعرف بأبي العود له أدب فأمر ليلة له بثلاثين ألف درهم فمطله بها يحيى فاحتال أبو العود في تحريض الرشيد على البرامكة وكان قد شاع تغير الرشيد عليهم فبينما هو ليلة عند الرشيد يحدثه وساق الحديث إلى أن أنشده قول عمر بن أبي ربيعة:
(واستبدت مرة واحدة * إنما العاجز من لا يستبد)
(وعدت هند وما كانت تعد * ليت هند أنجزتنا ما تعد)
فقال الرشيد أجل إنما العاجز من لا يستبد.
وكان يحيى قد اتخذ نم خدام الرشيد خادما يأتيه بأخباره فعرفه ذلك فأحضر أبو العود وأعطاه ثلاثين ألف درهم ومن عنده عشرين ألف درهم وأرسل إلى ابنيه الفضل وجعفر فأعطاه كل واحد منهما عشرين ألفا وجد الرشيد في أمرهم حتى أخذهم فقال الواثق صدق والله جدي إنما العاجز من لا يستبد وأخذ في ذكر الخيانة وما يستحق أهلها فلم يمض غير أسبوع حتى نكبهم.
وفيها ولى شيرباسبان لإيتاخ اليمن وسار إليها.
وفيها تولى محمد بن صالح بن العباس المدينة وحج بالناس محمد بن داود وفيها توفي خلف بن هشام البزار المقرئ في جمادى الأولى. البزار بالزاي المعجمة والراء المهملة.
11

230
ثم دخلت سنة ثلاثين ومائتين
ذكر مسير بغا إلى الأعراب بالمدينة
وفي هذه السنة وجه الواثق بغا الكبير إلى الأعراب الذين أغاروا بنواحي المدينة.
وكان سبب ذلك أن بني سليم كانت تفسد حول المدينة بالشر ويأخذون مهما أرادوا من الأسواق بالحجاز بأي سعر أرادوا وزاد الأمر بهم إلى أن وقعوا بناس من بني كنانة وباهلة فأصابوا وقتلوا بعضهم في جمادى الآخرة من سنة ثلاثين ومائتين فوجه محمد بن صالح عامل المدينة إليهم حماد بن جرير الطبري وكان مسلحة لأهل المدينة في مائتي فارس وأضاف إليهم جندا غيرهم وتبعهم متطوعة فسار إليهم حماد فلقيهم بالرويثة فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزمت سودان المدينة بالناس وثبت حماد وأصحابه وقريش والأنصار وقاتلوا قتالا عظيما فقتل حماد وعامة أصحابه وعدد صالح من قريش والأنصار وأخذ بنو سليم الكراع والسلاح والثياب فطمعوا ونهبوا القرى والمناهل ما بين مكة والمدينة وانقطع الطريق.
فوجه إليهم الواثق بغا الكبير أبا موسى في جمع من الجند فقدم المدينة
12

في شعبان فلقيهم ببعض مياه الحرة من وراء السوارقية قريتهم التي يأوون إليها وبها حصون فقتل بغا منهم نحوا من خمسين رجلا وأسر مثلهم وانهزم الباقون وأقام بغا بالسوارقية ودعاهم إلى الأمان على حكم الواثق فأتوه متفرقين فجمعهم وترك من يعرف بالفساد وهم زهاء ألف رجل وخلى سبيل الباقين وعاد بالأسرى إلى المدينة في ذي القعدة سنة ثلاثين فحبسهم، ثم سار إلى مكة.
فلما قضى حجه سار إلى ذات عرق بعد انقضاء الموسم وعرض على بين هلال مثل الذي عرض على بني سليم فأقبلوا وأخذ من المفسدين نحوا من ثلاثمائة رجل وأطلق الباقين ورجع إلى المدينة فحبسهم.
ذكر وفاة عبد الله بن طاهر
وفيها مات عبد الله بن طاهر بنيسابور في ربيع الأول وهو أمير خراسان وكان إليه الحرب والشرطة والسواد والري وطبرستان وكرمان وخراسان وما يتصل بها وكان خراج هذه الأعمال يوم مات،
13

ثمانية وأربعين ألف ألف درهم وكان عمره ثمانيا وأربعين سنة وكذلك عمر والده طاهر واستعمل الواثق على أعماله كلها ابنه طاهر بن عبد الله.
ذكر شيء من سيرة عبد الله بن طاهر
لما ولي عبد الله خراسان استناب بنيسابور محمد بن حميد الطاهري فبنى دارا وخرج بحائطها في الطريق فلما قدمها عبد الله جمع الناس وسألهم عن سرة محمد فسكتوا فقال بعض الحاضرين سكوتهم يدل على سوء سيرته فعزله عنهم وأمره بهدم ما بنى في الطريق.
وكان يقول ينبغي أن يبذل العلم لأهله وغير أهله فإن العلم أمنع لنفسه من أن يصير إلى غير أهله.
وكان يقول سمن الكيس ونبل الذكر لا يجتمعان أبدا.
وكان له جلساء منهم الفضل بن محمد بن منصور فاستحضرهم يوما فحضروا وتأخر الفضل ثم حضر فقال له أبطأت عني فقال كان عندي أصحاب حوائج وأردت دخول الحمام فأمره عبد الله بدخول الحمام وأحضر عبد الله الرقاع التي في حقه فوقع فيها كلها بالإجابة وأعادها ولم يعلم الفضل.
وخرج من الحمام، واشتغلوا يومهم، وبكر أصحاب الرقاع إليه فاعتذر إليهم فقال بعضهم أريد رقعتي فأخرجها ونظر فيها فرأى خط عبد الله فيها فنظر في الجميع فرأى خطه فيها فقال لأصحابه خذوا
14

رقاعكم، فقد قضيت حاجاتكم واشكروا الأمير دوني فما كان لي فيها سبب وكان عبد الله أديبا وشاعرا فمن شعره:
(اسم من أهواه اسم حسن * فإذا صحفته فهو حسن)
(فإذا أسقطت منه فاءه، * كان نعتا لهواه المختزن)
(فإذا أسقطت منه ياءه، * صار فيه بعض أسباب الفتن)
(فإذا أسقطت منه راءه، * صار شيئا يعتري عند الوسن)
(فإذا أسقطت منه ظاءه، * صار منه عيش سكان المدن)
(فسروا هذا فلن يعرفه * غير من يسبح في بحر الفطن)
وهذا الاسم هو اسم ظريف غلامه.
وكان من أكثر الناس بذلا للمال مع علم ومعرفة وتجربة وأكثر الشعراء في مراثيه فمن أحسن ما قيل فيه وفي ولاية ابنه طاهر قول أبي الغمر الطبري:
(فأيامك الأعياد صارت مآتما * وساعاتك العصبات صارت خواشعا)
(على أننا لم نعتقدك بطاهر * وإن كان خطبا يقلق القلب رائعا)
(وما كنت إلا الشمس غابت وأطلعت * على أثرها بدرا على الناس طالعا)
15

(وما كنت إلا الطود زال مكانه * وأثبت في مثواه ركنا مدافعا)
(فلولا التقى قلنا تناسختما معا * بديعي معن يفضلان البدائعا)
وهي طويلة.
ذكر خروج المشركين إلى بلاد المسلمين بالأندلس
في هذه السنة خرج المجوس من أقاصي بلاد الأندلس في البحر إلى بلاد المسلمين وكان ظهورهم في ذي الحجة سنة تسع وعشرين عند أشبونة فأقاموا ثلاثة عشر يوما بينهم وبين المسلمين بها وقائع ثم ساروا إلى قادس ثم إلى شدونة فكان بينهم وبين المسلمين بها وقائع.
ثم ساروا إلى إشبيلية ثامن المحرم فنزلوا على اثني عشر فرسخا منها فخرج إليهم كثير من المسلمين فالتقوا فانهزم المسلمون ثاني عشر المحرم وقتل كثير منهم. ثم نزلوا على ميلين من إشبيلية فخرج أهلها إليهم وقاتلوهم فانهزم المسلمون رابع عشر المحرم وكثر القتل والأسر فيهم ولم ترفع المجوس السيف عن أحد ولا عن دابة دخلوا حاجز إشبيلية وأقاموا به يوما وليلة وعادوا إلى مراكبهم.
وأقاموا عسكر عبد الرحمن صاحب البلاد مع عدة من القواد،
16

فتبادر إليهم المجوس، فثبت المسلمون وقاتلوهم فقتل من المشركين سبعون رجلا وانهزموا حتى دخلوا مراكبهم وأحجم المسلمون عنهم فسمع عبد الرحمن فسير جيشا آخر غيرهم فقاتلوا المجوس قتالا شديدا فرجع المجوس عنهم فتبعهم العسكر ثاني ربيع الأول وقاتلوهم وأتاهم المدد من كل ناحية ونهضوا لقتال المجوس من كل جانب فخرج إليهم المجوس وقاتلوهم فكاد المسلمون ينهزمون ثم ثبتوا فترجل كثير منهم فانهزم المجوس وقتل نحو خمسمائة رجل وأخذوا منهم أربعة مراكب فأخذوا ما فيها وأحرقوها وبقوا أياما لا يصلون إلى المجوس لأنهم في مراكبهم.
ثم خرج المجوس إلى لبلة فأصابوا سبيا ثم نزل المجوس إلى جزيرة قريب قوريس فنزلوها وقسموا ما كان معهم من الغنيمة فحمى المسلمون ودخلوا إليهم في النهر فقتلوا من المجوس رجلين ثم رحل المجوس فطرقوا شدونة فغنموا طعمة وسبيا وأقاموا يومين.
ثم وصلت مراكب لعبد الرحمن صاحب الأندلس إلى إشبيلية فلما أحس بها المجوس لحقوا بلبلة فأغاروا وسبوا ثم لحقوا بأكشونية ثم مضوا إلى باجة ثم انتقلوا إلى مدينة أشبونة ثم ساروا فانقطع خبرهم عن البلاد فسكن الناس.
وقد ذكر بعض مؤرخي العرب سنة ست وأربعين خروج المجوس إلى
17

إشبيلية أيضا وهي شبيهة بهذه ثم فلا أعلم أهي هذه وقد اختلفوا في وقتها أم هي غيرها وما أقرب أن تكون هي هي وقد ذكرتها هناك لأن في كل واحدة منهما شيئا ليس في الأخرى.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة مات محمد بن سعد بن منيع أبو عبد الله كاتب الواقدي صاحب الطبقات ومحمد بن يزداد بن سويد المروزي كاتب المأمون وعلي بن الجعد أبو الحسن الجوهري وكان عمره ستا وتسعين وهو من مشايخ البخاري وكان يتشيع.
وفيها مات أشناس التركي بعد موت عبد الله بن طاهر بتسعة أيام وحج هذه السنة إسحاق بن إبراهيم بن مصعب وإليه أحداث الموسم وحج بالناس هذه السنة محمد بن داود.
18

231
ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين ومائتين
ذكر ما فعله بغا بالأعراب
في هذه السنة قتل أهل المدينة من كان في حبس بغا من بني سليم وبين هلال.
وكان سبب ذلك أن بغا لم حبس من أخذه من بني سليم وبني هلال بالمدينة وهم ألف وثلاثمائة وكان سار عن المدين إلى بني مرة فنقبت الأسرى الحبس ليخرجوا فرأت امرأة النقب فصرخت بأهل المدينة فجاؤوا فوجدوهم قد قتلوا المتوكلين وأخذوا سلاحهم فاجتمع عليهم أهل المدينة ومنعوهم الخروج وباتوا حول الدار فقاتلوهم فلما كان الغد قتلهم أهل المدينة وقتل سودان المدينة كل من لقوه بها من الأعراب ممن يريد الميرة فلما قدم بغا وعلم بقتلهم شق ذلك عليه.
وقيل إن السجان كان قد ارتشى منهم ليفتح لهم الباب فعجلوا قبل ميعاده وكانوا يرتجزون:
(الموت خير للفتى من العار * قد أخذ البواب ألف دينار)
وكان سبب غيبة بغا عنهم أن فزارة ومرة تغلبوا على فدك فلما
19

قاربهم أرسل إليهم رجلا من قواده من بني فزارة يعرض عليهم الأمان ويأتيه بأخبارهم فلما أتاهم الفزاري حذرهم سطوته وزين لهم الهرب فهربوا وخلوا فدك وقصدوا الشام.
وأقام بغا بحيفا وهي قرية من حد عمل الشام مما يلي الحجاز نحوا من أربعين ليلة ثم رجع إلى المدينة بمن ظفر [به] من بني مرة وفزارة.
وفيها سار إلى بغا من بطون غطفان وفزارة وأشجع وثعلبة جماعة وكان أرسل إليهم فلما أتوه استحلفهم الأيمان المؤكدة أن يتخلفوا عنه متى دعاهم فحلفوا ثم سار إلى ضربة لطلب بني كلاب فأتاه منهم نحو ثلاثة آلاف رجل فحبس من أهل الفساد نحوا من ألف رجل وخلى سائرهم ثم قدم بهم المدينة في شهر رمضان سنة إحدى وثلاثين ومائتين فحبسهم ثم سار إلى مكة فحج ثم رجع إلى المدينة.
ذكر أحمد بن نصر بن مالك الخزاعي
وفي هذه السنة تحرك ببغداد قوم مع أحمد بن نصر بن مالك بن الهيثم الخزاعي وجده مالك أحد نقباء بني العباس وقد تقدم ذكره.
وكان سبب هذه الحركة أن أحمد بن نصر كان يغشاه أصحاب الحديث كابن معين وابن الدورقي وأبي زهير وكان يخالف من يقول القرآن
20

مخلوق، ويطلق لسانه فيه مع غلظة بالواثق وكان يقول إذا ذكر الواثق فعل هذا الخنزير وقال هذا الكافر وفشا ذلك فكان يغشاه رجل يعرف بأبي هارون الشداخ وآخر يقال له طالب وغيرهما ودعوا الناس إليه فبايعوه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفرق أبو هارون وطالب في الناس مالا فأعطيا كل رجل دينار واتعدوا ليلة الخميس لثلاث خلت من شعبان ليضربوا بالطبل فيها ويثوروا على السلطان.
وكان أحدهما في الجانب الشرقي من بغداد والآخر في الجانب الغربي فاتفق أن ممن بايعهم رجلين من بين الأشرس شربا نبيذا ليلة الأربعاء قبل الموعد بليلة فلما أخذ منهم ضربوا الطبل فلم يجبهم أحد.
وكان إسحاق بن إبراهيم صاحب الشرطة غائبا عن بغداد وخليفته أخوه محمد بن إبراهيم فأرسل إليهم محمد يسألهم عن قصتهم فلم يظهر أحد فدل على رجل يكون في الحمام مصاب العين يعرف بعيسى الأعور فأحضره وقرره فأقر على بني الأشرس وعلى أحمد بن نصر وغيرهما فأخذ بعض من سمى وفيهم طالب وأبو هارون ورأى في منزل بين الأشرس علمين أخضرين ثم أخذ خادما لأحمد بن نصر فقرره فأقر بمثل ما قال عيسى فأرسل إلى أحمد بن نصر فأخذه وهو في الحمام وحمل إليه وفتش بيته فلم يوجد فيه سلاح ولا شيء من الآلات فسيرهم محمد بن إبراهيم إلى الواثق مقيدين على أكف بغال ليس تحتهم وطاء إلى سامرا.
فلما علم الواثق بوصولهم جلس لهم مجلسا عاما فيه أحمد بن أبي داود،
21

وكان كارها لقتل أحمد بن نصر، فلما حضر أحمد عند الواثق لم يذكر له شيئا من فعله والخروج عليه ولكنه قال له ما تقول في القرآن قال كلام الله وكان أحمد قد استقتل فتطيب وتنور قال الواثق أمخلوق هو قال كلام الله قال فما تقول في ربك أتراه يوم القيامة قال يا أمير المؤمنين قد جاءت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته) فنحن على الخبر وحدثني سفيان بحديث رفعه (ان قلب ابن آدم المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبه وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو: يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك.
قال إسحاق بن إبراهيم انظر ما يقول قال أنت أمرتني بذلك فخاف إسحاق وقال أنا أمرتك قال نعم أمرتني أن أنصح له ونصيحتي له أن لا يخالف حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الواثق لمن حوله ما تقولون فيه فقال عبد الرحمن بن إسحاق وكان قاضيا على الجانب الغربي وعزك يا أمير المؤمنين هو حلال الدم.
وقال بعض أصحاب ابن أبي داود اسقني دمه وقال ابن أبي داود هو كافر يستتاب لعل به عاهة ونقص عقل كأنه كره أن يقتل بسبب فقال الواثق إذا رأيتموني قد قمت إليه فلا يقومن أحد معي فإني أحتسب خطاي إليه.
ودعا بالصمصامة سيف عمرو بن معد يكرب الزبيدي ومشى إليه،
22

وهو في وسط الدار على نطع فضربه على حبل عاتقه ثم ضربه أخرى على رأسه ثم ضرب سيما الدمشقي رقبته وحز رأسه وطعنه الواثق بطرف الصمصامة في بطنه وحمل حتى صلب عند بابك وحمل رأسه إلى بغداد فنصب بها وأقيم عليه الحرس وكتب في آذنه رقعة هذا رأس الكافر المشرك الضال أحمد بن نصر وتتبع أصحابه فجعلوا في الحبوس.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة أراد الواثق الحج فوجه عمر بن فرج لإصلاح الطريق فرجع وأخبره بقلة الماء فبدا له.
وفيها ولي جعفر بن دينار اليمن فسار في شعبان وحج في طريقه وكان معه أربعة آلاف فارس وألفا راجل.
وفيها نقب اللصوص بيت المال الذي في دار العامة وأخذوا اثنين وأربعين ألف درهم وشيئا يسيرا من الدنانير ثم تتبعوا وأخذوا بعد ذلك وفيها خرج محمد بن عبد الله الخارجي التغلبي في ثلاث عشر رجلا في ديار ربيعة فخرج إليه غانم بن أبي مسلم بن أحمد الطوسي وكان على حرب الموصل في مثل عدته فقتل من الخوارج أربعة وأخذ محمد بن عبد الله أسيرا فبعث به إلى سامرا فحبس.
وفيها قدم وصيف التركي من ناحية أصبهان والجبال وفارس وكان قد سار في طلب الأكراد لأنهم كانوا قد أفسدوا بهذه النواحي وقد معه بنحو من خمسمائة نفس فيهم غلمان صغار فحبسوا وأجيز وصيف
23

بخمسة وسبعين ألف دينار وقلد سيفا.
وكسي وفيها سار جيش للمسلمين إلى بلاد المشركين فقصدوا جليقية وقتلوا وأسروا وسبوا وغنموا ووصلوا إلى مدينة ليون فحصروها ورموها بالمجانيق فخاف أهلها فتركوها بما فيها وخرجوا هاربين فغنم المسلمون منهم ما أرادوا وأخربوا الباقي ولم يقدروا على هدم سورها فتركوه ومضوا لأن عرضه سبع عشرة ذراعا وقد ثلموا فيه ثلما كثيرة.
وفيها كان الفداء بين المسلمين والروم واجتمع المسلمون فيها على نهر اللامس على مسرة يوم من طرسوس واشترى الواثق من بغداد وغيرها من الروم وعقد الواثق لأحمد بن سعيد بن سلم بن قتيبة الباهلي على الثغور والعواصم وأمره بحضور الفداء هو وخانقان الخادم وأمرهما أن يمتحنا أسرى المسلمين فمن قال القرآن مخلوق وأن الله لا يرى في الآخرة فودي به وأعطي دينارا ومن لم يقل ذلك ترك في أيدي الروم.
فما كان في عاشوراء سنة إحدى وثلاثين اجتمع المسلمون ومن معهم من الأسرى على النهر وأتت الروم ومن معهم من الأسرى وكان النهر بين الطائفتين فكان المسلمون يطلقون الأسير فيطلق الروم الأسير من المسلمين فيلتقيان في وسط النهر ويأتي كل أصحابه فإذا وصل الأسير إلى المسلمين كبروا وإذا وصل الأسير إلى الروم صاحوا حتى فرغوا وكان عدة أسرى المسلمين أربعة آلاف وأربعمائة وستين نفسا والنساء والصبيان ثمانمائة وأهل ذمة المسلمين مائة نفس وكان النهر مخاضة تعبره
24

الأسرى وقيل بل كان عليه جسر.
ولما فرغوا من الفداء غزا أحمد بن سعيد بن سلم الباهلي شاتيا فأصاب الناس ثلج ومطر فمات منهم مائتا نفس وأسر نحوهم وغرق بالبدندون خلق كثير فوجد الواثق على أحمد وكان قد جاء إلى أحمد بطريق من الروم ينذره فقال وجوه الناس لأحمد إن عسكرا فيه سبعة آلاف لا تتخوف عليه فإن كنت كذلك فواجه القوم أطرق بلادهم ففعل وغنم نحوا من ألف بقرة وعشرة آلاف شاة وخرج فعزله الواثق واستعمل مكانه نصر بن حمزة الخزاعي في جمادى الأولى.
وفيها مات الحسن بن الحسين بطبرستان.
وفيها كان بإفريقية حرب بين أحمد بن الأغلب وأخيه محمد بن الأغلب وكان مع أحمد جماعة فهجموا على محمد في قصره وأغلق أصحاب محمد بن الأغلب [الباب]، واقتتلوا ثم كفوا عن القتال واصطلحوا وعظم أمر أحمد ونقل الدواوين إليه ولم يبق لمحمد من الإمارة إلا اسمها ومعناها لأحمد أخيه فبقي كذلك إلى سنة اثنتين وثلاثين ومائتين فاتفق مع محمد من بين عمه ومواليه جماعة وقاتل أخاه أحمد فظفر به ونفاه إلى الشرق واستقام أمر محمد بأفريقية ومات أخوه أحمد بالعراق.
وفيها مات أبو عبد الله محمد بن زياد المعروف بابن الأعرابي الراوية في شعبان وهو ابن ثمانين سنة.
25

وفيها ماتت أم أبيها بنت موسى بن جعفر أخت علي بن الرضا عليه السلام.
وفيها مات مخارق المغني وأبو نصر أحمد بن حاتم راوية الأصمعي وعمرو بن أبي عمرو الشيباني ومحمد بن سعدان النحوي الضرير توفي في ذي الحجة.
وفيها توفي إبراهيم بن غرغرة وعاصم بن علي بن عاصم بن صهيب الواسطي ومحمد بن سلام بن عبد الله الجمحي البصري وكان عالما بالأخبار وأيام الناس (سلام بالتشديد) وعاصم بن عمرو بن علي بن مقدم أبو بشر المقدمي وأبو يعقوب يوسف بن يحيى البويطي الفقيه صاحب الشافعي وكان قد حبس في محنة الناس بخلق القرآن فلم يجب وكان من الصالحين وهارون بن معروف البغدادي وكان حافظا للحديث.
26

232
ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين ومائتين
ذكر الحرب مع بني نمير
وفي هذه السنة سار بغا الكبير إلى بني نمير فأوقع بهم.
وكان سبب ذلك عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير الخطفى امتدح الواثق بقصيدة فدخل عليه وأنشده فأمر له بثلاثين ألف درهم فأخبر الواثق بإفساد بني نمير في الأرض وإغارتهم على الناس وعلى اليمامة وما قرب منها وكتب الواثق إلى بغا يأمره بحربهم وهو بالمدينة فسار نحو اليمامة فلقي من بني نمير جماعة بالريف فحاربهم فقتل منهم نيفا وخمسين رجلا.
وأسر أربعين رجلا ثم سار نزل مرأة وأرسل إليهم يدعوهم إلى السمع والطاعة فامتنعوا وسار بعضهم إلى نحو جبال السود وهي خلف اليمامة وبث بغا سراياه فيهم فأصابت منهم ثم سار بجماعة من معه وهم نحو من ألف رجل سوى من تخلف في العسكر من الضعفاء والأتباع فلقيهم وقد جمعوا لهم وهم نحو ثلاثة آلاف بموضع يقال له روضة الأمان على مرحلة من أضاخ فهزموا مقدمته وكشفوا مسيرته وقتلوا من أصحابه نحوا من
27

مائة رجل وعشرين رجلا وعقروا من إبل عسكره نحو سبعمائة بعير ومائة دابة وانتهبوا الأثقال وبعض الأموال ثم أدركهم الليل وجعل بغا يدعوهم إلى الطاعة.
فلما طلع الصبح ورأوا قلة من مع بغا عبوا وجعلوا رجالتهم أمامهم ونعمهم ومواشيهم وراءهم وحملوا على بغا فهزموه حتى بلغ معسكره وأيقن من معه بالهلكة.
وكان بغا قد أرسل من أصحابه مائتي فارس إلى طائفة منهم فبينا هو قد أشرف على العطب إذ وصل أصحابه إليه منصرفين من وجوههم فلما نظر بنو نمير ورأوهم قد أقبلوا من خلفهم ولوا هاربين وأسلموا رجالتهم وأموالهم فلم يفلت من الرجالة إلا اليسير وأما الفرسان فنجوا على خيلهم.
وقيل إن الهزيمة كانت على بغا مذ غدوة إلى انتصاف النهار ثم تشاغلوا بالنهب فرجع إلى بغا من كان انهزم من أصحابه فرجع بهم فهزم بني نمير وقتل فيهم من زوال
الشمس إلى آخر وقت العصر زهاء ألف وخمسمائة راجل وأقام بموضع الوقعة فأرسل أمراء العرب يطلبون الأمان فأمنهم فأتوه فقيدهم وأخذهم معه إلى البصرة وكانت الوقعة في جمادى الآخرة ثم قدم واجن الأشروسني على بغا في سبعمائة مقاتل مددا له فسيره بغا في آثارهم حتى بلغ تبالة من أعمال اليمن ورجع وكان بغا قد كتب إلى صالح أمير المدينة ليوافيه ببغداد بمن عنده من فزارة ومرة وثعلبة وكلاب ففعل فلقيه ببغداد فسارا جميعا وقدم بغا سامرا بمن بقي معه منهم سوى من هرب ومات وقتل في الحروب فكانوا يزيدون على
28

ألفي رجل ومائتي رجل من نمير وكلاب ومرة وفزارة وثعلبة وطيئ.
ذكر موت أبي جعفر الواثق
في هذه السنة توفي الواثق بالله أبو جعفر هارون بن محمد المعتصم في ذي الحجة لست بقين منه وكانت علته الاستسقاء وعولج بالإقعاد في تنور مسخن فوجد لذلك خفة فأمرهم من الغد بالزيادة في إسخانه ففعل ذلك وقعد فيه أكثر من اليوم الأول فحمي عليه فأخرج منه في محفة وحضر عنده أحمد بن أبي دؤاد ومحمد بن عبد الملك الزيات وعمر بن فرج فمات فيها فلم يشعروا بموته حتى ضرب بوجهه المحفة فعلموا.
وقيل إن أحمد بن أبي دؤاد حضره عند موته وغمضه وقيل إنه لما حضرته الوفاة جعل يردد هاتين البيتين:
(الموت فيه جميع الناس مشترك * لا سوقة منهم تبقى ولا ملك)
(ما ضر أهل قليل في تفرقهم * وليس يغني عن الملاك ما ملكوا)
وأمر بالبسط فطويت وألصق خده بالأرض وجعل يقول يا من لا يزول ملكه ارحم من زال ملكه.
29

وقال أحمد بن محمد الواثقي كنت فيمن يمرض الواثق فلحقه غشية وأنا وجماعة من أصحابه قيام فقلنا لو عرفنا خبره فتقدمت إليه فلما صرت عند رأسه فتح عينيه فكدت أموت من خوفه فرجعت إلى الخلف وتعلقت قنبعة سيفي في عتبة المجلس فاندقت وسلمت من جراحه ووقفت في موقفي.
ثم إن الواثق مات وسجيناه وجاء الفراشون وأخذوا ما تحته في المجلس ورفعوه لأنه مكتوب عليهم واشتغلوا بأخذ البيعة وجلست على باب المجلس لحفظ الميت ورددت الباب فسمعت حسا ففتحت الباب وإذا جرذ قد دخل من بستان هناك فأكل إحدى عيني الواثق فقلت لا إله إلا الله هذه العين التي فتحها من ساعة فاندق سيفي هيبة لها صارت طعمة لدابة ضعيفة.
وجاؤوا فغسلوه فسألني أحمد بن أبي دؤاد عن عينه فأخبرته بالقصة من أولها إلى آخرها فعجب منها.
ولما مات صلى عليه أحمد وأنزله في قبره وقيل صلى عليه أخوه المتوكل ودفن بالهاروني بطريق مكة.
وكان مولده بطريق مكة وأمه أم ولد اسمها قراطيس ولما اشتد مرضه أحضر المنجمين منهم الحسن بن سهل فنظروا في مولده فقدروا
30

له أن يعيش خمسين سنة مستأنفة من ذلك اليوم فلم يعش بعد قولهم إلا عشرة أيام ومات.
وكان أبيض مشربا بحمرة جميلا ربعة حسن الجسم قائم العين اليسرى فيها نكتة بياض وكانت خلافته خمس سنين وتسعة أشهر وخمسة أيام وكان عمره اثنتين وثلاثين سنة وقيل ستا وثلاثين سنة.
ذكر بعض سيرة الواثق بالله
لما توفي المعتصم وجلس الواثق في الخلافة أحسن إلى الناس واشتمل على العلويين وبالغ في إكرامهم والإحسان إليهم والتعهد لهم بالأموال وفرق في أهل الحرمين أموالا لا تحصى حتى أنه لم يوجد في أيامه بالحرمين سائل.
ولما توفي الواثق كان أهل المدينة تخرج من نسائهم كل ليلة إلى البقيع فيبكين عليه ويندبنه ففعلوا ذلك بينهم مناوبة حزنا عليه لما كان يكثر من الإحسان إليهم وأطلق في خلافته أعشار سفن البحر وكان مالا عظيما.
قال الحسين بن الضحاك شهدت الواثق بعد أن مات المعتصم بأيام أول مجلس جلسه فغنته جارية إبراهيم بن المهدي.
(ما درى الحاملون يوم استقلوا * نعشه للثواء أم للبقاء)
31

(فليقل فيك باكياتك ما شئ * ن صباحا وعند كل مساء)
فبكى وبكينا معه حتى شغلنا البكاء عن جميع ما كنا فيه قال ثم تغنى بعضهم فقال:
(ودع هريرة إن الركب مرتحل * وهل تطيق وداعا أيها الرجل)
فازداد الواثق بكاء قال ما سمعت كاليوم تعزية بأب وتغني نفس ثم تفرق أهل المجلس قال وقال أحمد بن عبد الوهاب في الواثق:
(أبت دار الأحبة أن تبينا * أجدك ما رأيت بها معينا)
(تقطع حسرة من حب ليلى * نفوس ما أثبن ولا جزينا)
فصنعت فيه صوتا علم جارية صالح بن عبد الوهاب فغناه زرزر الكبير للواثق فسأله لمن هذا فقال لعلم فأحضر صالحا وطالب منه شراءها فأهداها له فعوضه خمسة آلاف دينار فمطله بها ابن الزيات فأعادت الصوت فقال الواثق بارك الله عليك وعلى من رباك فقالت وما ينفع من رباني أمرت له بشيء فلم يصل إليه فكتب إلى ابن الزيات
يأمره بإيصال المال إليه وأضعفه له فدفع إليه عشرة آلاف دينار وترك صالح عمل السلطان واتجر في المال.
32

وقال أبو عثمان النحوي المازني استحضرني الواثق من البصرة فلما حضرت عنده قال من خلفت بالبصرة قلت أختا لي صغيرة قال فما قالت المسكينة قلت ما قالت ابنة الأعشى:
(تقول ابنتي حين جد الرحيل: * أراني سواء ومن قد يتم)
(أبانا فلا رمت من عندنا * فأنا بخير إذا لم ترم)
(ترانا إذا أضمرتك البلاد * ونجفى وتقطع منا الرحم)
قال فما رددت عليها قلت ما قال جرير لابنته:
(ثقي بالله ليس له شريك * ومن عند الخليفة بالنجاح)
فضحك وأمر له بجائزة سنية.
ذكر خلافة المتوكل
وفي هذه السنة بويع المتوكل على الله جعفر بن المعتصم بعد موت الواثق وسبب خلافته أنه لما مات الواثق حضر الدار أحمد بن أبي دؤاد وإيتاخ ووصيف وعمر بن فرج وابن الزيات وأبو الوزير أحمد بن خالد وعزموا على البيعة لمحمد بن الواثق وهو غلام أمرد قصير فألبسوه دراعة سوداء
33

وقلنسوة، فإذا هو قصير. فقال وصيف: أما تتقون الله تولون هذا الخلافة فتناظروا فيمن تولونه فذكروا عدة ثم أحضر المتوكل فلما حضر ألبسه أحمد بن أبي دؤاد الطويلة وعممه وقبل بين عينيه وقال السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته ثم غسل الواثق وصلي عليه ودفن.
وكان عمر المتوكل يوم بويع ستا وعشرين سنة ووضع العطاء للجند لثمانية أشهر وأراد ابن الزيات [أن] يلقيه المنتصر فقال أحمد بن أبي دؤاد قد رأيت لقبا أرجو أن يكون موافقا وهو المتوكل على أمر الله فأمر بامضائه فكتب به إلى الآفاق.
وقيل بل رأى المتوكل في منامه قبل أن يستخلف كأن سكرا ينزل عليه من السماء مكتوب عليه المتوكل على الله فقصها [على] أصحابه، فقالوا هي والله الخلافة فبلغ ذلك الواثق فحبسه وضيق عليه وحج بالناس محمد بن داود.
ذكر عدة أحداث
في هذه السنة أصاب الحجاج في العود عطش عظيم فبلغت الشربة عدة دنانير ومات منهم خلق كثير،
وفيها غدر موسى بالأندلس وخالف على عبد الرحمن بن الحكم أمير
34

الأندلس بعد أن كان قد وافقه وأطاعه وسير إليه عبد الرحمن جيشا مع ابنه محمد.
وفيها كان بالأندلس مجاعة شديدة وقحط عظيم وكان ابتداؤه سنة اثنتين وثلاثين فهلك فيه خلق كثير من الآدميين والدواب ويبست الأشجار ولم يزرع الناس شيئا فخرج الناس هذه السنة يستسقون فسقوا وزرعوا وزال عن الناس القحط.
وفيها ولي إبراهيم بن محمد بن مصعب بلاد فارس.
وفيها غرق كثير من الموصل [وهلك] فيه خلق قيل كانوا نحو مائة ألف إنسان وكان سبب ذلك أن المطر جاء بها عظيما لم يسمع بمثله بحيث أن بعض أهلها جعل سطلا عمقه ذراع في سعة ذراع فامتلأ ثلاث دفعات في نحو ساعة وزادت دجلة زيادة عظيمة فركب الماء الربض الأسفل وشاطئ نهر سوق الأربعاء فدخل كثير من الأسواق، فقيل إن أمير الموصل وهو غانم بن حميد الطوسي كفن ثلاثين ألفا وبقي تحت الهدم خلق كثير لم يحملوا سوى من حمله الماء.
وفيها أمر الواثق بترك أعشار سفن البحر وفيها توفي الحكم بن موسى ومحمد بن عامر القرشي مصنف الصوائف وغيرها ويحيى بن يحيى الغساني الدمشقي وقيل سنة ثلاث وثلاثين وقيل غير ذلك وأبو الحسن علي بن المغيرة الأثرم النحوي اللغوي أخذ العلم عن أبي عبيدة والأصمعي.
وفيها توفي عمرو الناقد.
35

233
ثم دخلن سنة ثلاث وثلاثين ومائتين
ذكر القبض على محمد بن عبد الملك الزيات
وفي هذه السنة قبض المتوكل على محمد بن عبد الملك الزيات وحبسه لسبع خلون من صفر.
وكان سببه أن الواثق استوزر محمد بن عبد الملك وفوض الأمور كلها إليه وكان الواثق قد غضب على أخيه جعفر المتوكل ووكل عليه من يحفظه ويأتيه بأخباره فأتى المتوكل إلى محمد بن عبد الملك يسأله أن يكلم الواثق ليرضى عنه فوقف بين يديه لا يكلمه ثم أشار عليه بالقعود فقعد فلما فرغ من الكتب التي بين يديه التفت إليه كالمتهدد وقال ما جاء بك قال جئت أسال أمير المؤمنين الرضا عني فقال لمن حوله انظروا يغضب أخاه ثم يسألني أن أسترضيه له اذهب فإذا صلحت رضي عنك.
فقام من عنده حزينا فأتى أحمد بن أبي دؤاد فقام إليه أحمد واستقبله على باب البيت وقبله وقال ما حاجتك جعلت فداك قال جئت لتسترضي أمير المؤمنين لي قال افعل
ونعمة عين وكرامة فكلم أحمد
36

الواثق به، فوعده ولم يرض عنه ثم كلمه فيه ثانية فرضي عنه وكساه.
ولما خرج المتوكل من عند ابن الزيات كتب إلى الواثق أن جعفرا أتاني في زي المخنثين له شعر بقفاه يسألني أن أسأل أمير المؤمنين الرضا عنه فكتب إليه الواثق ابعث إليه فأحضره ومر من يجز شعر قفاه فيضرب به وجهه.
قال المتوكل لما أتاني رسوله لبست سوادا جديدا وأتيته رجاء أن يكون قد أتاه الرضا عني فاستدعى حجاما فأخذ شعري على السواد الجديد ثم ضرب به وجهي فلما ولي الخلافة المتوكل أمهل حتى كان صفرا فأمر إيتاخ بأخذ ابن الزيات وتعذيبه فاستحضره فركب يظن أن الخليفة يستدعيه فلما حاذى منزل إيتاخ عدل به إليه فخاف فأدخله حجرة ووكل عليه وأرسل إلى منازله من أصحابه من هجم عليها وأخذ كل ما فيها واستصفى أمواله وأملاكه في جميع البلاد.
وكان شديد الجزع، كثير البكاء والفكر ثم سوهر وكان ينخس بمسلة لئلا ينام ثم ترك فنام يوما وليلة ثم جعل في تنور عمله هو وعذب له ابن أسماط المصري وأخذ ماله فكان من خشب فيه مسامير من حديد أطرافها إلى داخل التنور وتمنع من يكون فيه من الحركة وكان ضيقا بحيث أن الإنسان كان يمد يديه إلى فوق رأسه ليقدر على دخوله لضيقه،
37

ولا يقدر من يكون فيه يجلس فبقي أياما فمات.
وكان حبسه لسبع خلون من صفر وموته لإحدى عشرة بقيت من ربيع الأول، واختلف في سبب موته فقيل كما ذكرناه وقيل بل ضرب فمات وهو يضرب وقيل مات بغير ضرب وهو أصح فلما مات حضره أبناء سليمان وعبيد الله وكانا محبوسين وطرح على الباب في قميصه الذي حبس فيه فقالا الحمد لله الذي أراح من هذا الفاسق وغسلاه على الباب ودفناه فقيل إن الكلاب نبشته وأكلت لحمه.
قال وسمع قبل موته يقول لنفسه يا محمد لم تقنعك النعمة والدواب والدار النظيفة والكسوة وأنت في عافية حتى طلبت الوزارة ذق ما عملت بنفسك ثم سكت عن ذلك وكان لا يزيد على التشهد وذكر الله عز وجل.
وكان ابن الزيات صديقا لإبراهيم الصولي فلما ولي الوزارة صادره بألف ألف وخمسمائة ألف درهم فقال الصولي:
(وكنت أخي برخاء الزمان * فلما نبا صرت حربا عوانا)
(وكنت أذم إليك الزمان * فأصبحت منك أذم الزمانا)
(وكنت أعدك للنائبات * فها أنا أطلب منك الأمانا)
وقال أيضا:
38

(أصبحت من رأي أبي جعفر * في هيئة تنذر بالصيلم)
(من غير ما ذنب ولكنها * عداوة الزنديق للمسلم)
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة حبس عمر بن الفرج الرخجي.
وكان سبب ذلك أن المتوكل أتاه لما كان أخوه الواثق ساخطا عليه ومعه صك ليختمه عمر له ليقبض أرزاقه من بيت المال فلقيه عمر بالخيبة وأخذ صكه فرمى به إلى صحن المسجد وكان حبسه في شهر رمضان وأخذ ماله وأثاث بيته وأصحابه ثم صولح على أحد عشر ألف ألف على أن يرد عليه ما حيز من ضياع الأهواز حسب فكان قد ألبس في حبسه جبة صوف قال علي بن الجهم يهجوه:
(جمعت أمرين ضاع الحزم بينهما * تيه الملوك وأفعال الصعاليك)
(أردت شكرا بلا بر ومرزئة * لقد سلكت سبيلا غير مسلوك)
وفيها غضب المتوكل على سليمان بن إبراهيم بن الجنيد النصراني كاتب سمانة وضربه وأخذ ماله وغضب أيضا على أبي الوزير وأخذ ماله ومال أخيه وكاتبه.
وفيها أيضا عزل الفضل بن مروان عن ديوان الخراج وولاه يحيى بن خاقان الخراساني مولى الأزد وولى إبراهيم بن العباس بن محمد بن صول ديوان زمان النفقات.
وفيها ولى المتوكل ابنه المنتصر الحرمين واليمن والطائف في رمضان.
39

وفيها فلج أحمد بن أبي دؤاد في جمادى الآخرة.
وفيها وثب ميخائيل بن توفيل بأمه تدوره فألزمها الدير وقتل اللقط لأنه كان اتهمها به فكان ملكها ست سنين، وحج بالناس في هذه السنة محمد بن داود.
وفيها عزل محمد بن الأغلب أمير أفريقية عامله على الزاب واسمه سالم بن غلبون فأقبل يريد القيروان فلما صار بقلعة يلبسير أضمر الخلاف وسار إلى الأندلس فمنعه أهلها من الدخول إليها فسار إلى باجة فدخلها واحتمى بها فسير إليه ابن الأغلب جيشا عليهم خفاجة بن سفيان فنزل عليه وقاتله فهرب سالم ليلا فاتبعه خفاجة فلحقه وقتله وحمل رأسه إلى ابن الأغلب وكان أزهر بن سالم عند ابن أبي الأغلب محبوسا فقتله.
وفيها توفي يحيى بن معين البغدادي بالمدينة وكان مولده سنة ثمان وخمسين ومائة وهو صاحب الجرح والتعديل ومحمد بن سماعة القاضي صاحب محمد بن الحسن وقد
بلغ مائة سنة وهو صحيح الحواس.
40

234
ثم دخلت سنة أربع وثلاثين ومائتين
ذكر هرب محمد بن البعيث
في هذه السنة هرب محمد بن البعيث بن الجليس وكان سبب هربه أنه جيء به أسيرا من أذربيجان إلى سامرا وكان له رجل يخدمه يسمى خليفة وكان المتوكل مريضا فأخبر خليفة ابن البعيث أن المتوكل مات ولم يكن مات وإنما أراد إطماع ابن البعيث في الهرب فوافقه على الهرب وأعد له دواب فهربا إلى موضعه من أذربيجان وهو مرند، وقيل كان له قلعة شاهي وقلعة يكدر.
وقيل إن ابن البعيث كان في حبس إسحاق بن إبراهيم بن مصعب فتكلم فيه بغا الشرابي فأخذ منه الكفلاء نحوا من ثلاثين كفيلا منهم محمد بن خالد بن يزيد بن مزيد الشيباني فكان يتردد بسامرا فهرب إلى مرند وجمع بها الطعام وهي مدينة حصينة وفيها عيون ماء ولها بساتين كثيرة داخل البلد.
وأتاه من أراد الفتنة من ربيعة وغيرهم فصار في نحو من ألفين ومائتي
41

رجل، وكان الوالي بأذربيجان محمد بن حاتم بن هرثمة فقصر في طلبه فولى المتوكل حمدويه بن علي بن الفضل السعدي أذربيجان وسيره على البريد وجمع الناس وسار إلى ابن البعيث فحصره في مرند فلما طالت مدة الحصار بعث المتوكل زيرك التركي في مائتي فارس من الأتراك فلم يصنع شيئا فوجه إليه المتوكل عمر بن سيسيل بن كال في تسعمائة فارس فلم يغن شيئا فوجه بغا الشرابي في ألفي فارس.
وكان حمدويه وابن سيسيل وزيرك قد قطعوا من الشجر الذي حول مرند نحو مائة ألف شجرة ونصبوا عليها عشرين منجنيقا ونصب ابن البعيث عليهم مثل ذلك فلم يقدروا على الدنو من سور المدينة فقتل من أصحاب المتوكل في حربه في ثمانية أشهر نحو مائة رجل وجرح نحو أربعمائة وأصاب أصحابه مثل ذلك وكان حمدويه وعمر وزيرك يغادونه القتال ويراوحونه وكان أصحابه يتدلون بالحبال من السور معهم الرماح فيقاتلون فإذا حمل عليهم أصحاب الخليفة لجؤوا إلى السور وحملوا نفوسهم فكانوا يفتحون الباب فيخرجون فيقاتلون ثم يرجعون.
ولما قرب بغا الشرابي من مرند بعث عيسى بن الشيخ بن الشليل ومعه أمان لوجوه أصحاب ابن البعيث أن ينزلوا وأمان لابن البعيث أن ينزل على حكم المتوكل فنزل من أصحابه خلق كثير بالأمان ثم فتحوا باب المدينة فدخل أصحاب المتوكل وخرج ابن البعيث هاربا فلحقه قوم من الجند فأخذوه أسيرا وانتهب الجند منزله ومنازل أصحابه وبعض منازل أهل المدينة ثم نودي بالأمان وأخذوا لابن البعيث أختين وثلاث بنات وعدة
42

من السراري ثم وافاهم بغا الشرابي من غد فأمر فنودي بالمنع من النهب وكتب بالفتح لنفسه وأخذ ابن البعيث إليه.
ذكر إيتاخ وما صار إليه أمره
كان إيتاخ غلاما حوريا طباخا لسلام الأبرش فاشتراه منه المعتصم في سنة تسع وتسعين ومائة وكان فيه شجاعة فرفعه المعتصم والواثق وضم إليه أعمالا كثيرة منها المعونة بسامرا مع إسحاق بن إبراهيم.
وكان المعتصم إذا أراد قتل أحد فبيد إيتاخ يقتل وبيده يحبس فحبس منهم أولا المأمون بن سندس وابن الزيات وصالح ابن عجيف وغيرهم وكان مع المتوكل في مرتبته وإليه الجيش والمغاربة والأتراك والأموال والبريد والحجابة ودار الخلافة.
فلما تمكن المتوكل من الخلافة شرب فعربد على إيتاخ فهم إيتاخ بقتله فلما أصبح المتوكل قيل له فاعتذر إليه وقال أنت أبي وأنت ربيتني ثم وضع عليه من يحسن له الحج فاستأذن فيه المتوكل فأذن له وصيره أمير كل بلد يدخله وخلع عليه وسار العسكر جميعه بين يديه فلما فارق جعلت الحجابة إلى وصيف في ذي القعدة وقيل إن هذه القصة كانت سنة ثلاث وثلاثين ومائتين.
43

ذكر الخلف بإفريقية
في هذه السنة خرج عمرو بن سليم التجيبي المعروف بالقويع على محمد بن الأغلب أمير أفريقية فسير إليه جيشا فحصره بمدينة تونس هذه السنة فلم يبلغوا منه غرضا فعادوا عنه.
فلما دخلت سنة خمس وثلاثين سير إليه ابن الأغلب جيشا فالتقوا بالقرب من تونس ففارق جيش ابن الأغلب جمع كثير وقصدوا القويع فصاروا معه فانهزم جيش ابن الأغلب وقوي القويع فلما دخلت سنة ست وثلاثين سير محمد بن الأغلب إليه جيشا فاقتتلوا فانهزم القويع وقتل من أصحابه مقتلة عظيمة وأدرك القويع إنسان فضرب عنقه ودخل جيش ابن الأغلب تونس بالسيف في جمادى الأولى.
ذكر عدة حوادث
حج بالناس هذه السنة محمد بن داود بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس.
وفيها توفي جعفر بن مبشر بن أحمد الثقفي المتكلم أحد المعتزلة البغداديين وله مقالة يتفرد بها.
44

وفيه توفي أبو خيثمة زهير بن حرب في شعبان وكان حافظا للحديث وأبو أيوب سليمان بن داود بن بشر المقري البصري المعروف بالشاذكوني بأصبهان.
وفيها توفي علي بن عبد الله بن جعفر المعروف بابن المديني الحافظ وقيل سنة خمس وثلاثين وهو إمام ثقة وكان والده ضعيفا في الحديث وإسحاق بن إسماعيل الطالقاني ويحيى بن أيوب المقابري وأبو بكر بن أبي شيبة وأبو الربيع الزهراني.
45

235
ثم دخلت سنة خمس وثلاثين ومائتين
ذكر قتل إيتاخ
قد ذكرنا ما كان منه مع المتوكل وسبب حجه فلما عاد من مكة كتب المتوكل إلى إسحاق بن إبراهيم ببغداد يأمره بحبسه وأنفذ المتوكل كسوة وهدايا إلى طريق إيتاخ فلما قرب إيتاخ من بغداد خرج إسحاق بن إبراهيم إلى لقائه وكان إيتاخ أراد المسير على الأنبار إلى سامرا فكتب إليه إسحاق أن أمير المؤمنين قد أمر أن تدخل بغداد وأن يلقاك بنو هاشم ووجوه الناس وأن تقعد لهم في دار خزيمة بن خازم وتأمر لهم بالجوائز.
فجاء إلى بغداد، فلقيه إسحاق بن إبراهيم فلما رآه إسحاق أراد النزول له فحلف عليه إيتاخ أن لا يفعل وكان في ثلاثمائة من غلمانه وأصحابه فلما صار بباب دار خزيمة وقف إسحاق وقال له أصلح الله الأمير يدخل فدخل إيتاخ ووقف إسحاق على الباب فمنع أصحابه من الدخول عليه ووكل بالأبواب وأقام عليها الحرس فحين رأى إيتاخ ذلك قال قد فعلوها ولو لم يفعلوا ذلك ببغداد ما قدروا عليه وأخذوا معه ولديه المنصور ومظفرا وكاتبيه سليمان بن وهب وقدامة بن زياد فحبسوا ببغداد أيضا.
وأرسل إيتاخ إلى إسحاق قد علمت ما أمرني به المعتصم والواثق في أمرك،
46

وكنت أدافع عنك فلينفعني ذلك عندك في ولدي فأما أنا فقد مر بي شدة ورخاء فما أبالي ما أكلت وما شربت وأما هذان الغلامان فلم يعرفا البؤس واجعل لهما طعاما يصلحهما.
ففعل إسحاق ذلك وقد إيتاخ وجعل في عنقه ثمانون رطلا فمات في جمادى الآخرة سنة خمس وثلاثين ومائتين وأشهد إسحاق جماعة من الأعيان أنه لا ضرب به ولا أثر.
وقيل كان سبب موته أنهم أطعموه ومنعوه الماء حتى مات عطشا وأما ولداه فإنهما بقيا محبوسين حياة المتوكل فلما ولي المنتصر أخرجهما فأمر مظفر فبقي بعد أخرج من السجن ثلاثة أشهر ومات وأما منصور فعاش بعده.
ذكر أسر ابن البعيث وموته
في هذه السنة قدم بغا الشرابي بابن البعيث في شوال وبخليفته أبي الأغر وبأخويه صقر وخالد وكاتبه العلاء وجماعة من أصحابه فلما قربوا من سامرا حملوا على الجمال ليراهم الناس فلما أحضر ابن البعيث بيد يدي المتوكل أمر بضرب عنقه فجاء السياف وسبه المتوكل وقال ما دعاك إلى ما صنعت؟ قال الشقوة وأنت الحبل المدود بين الله وبين
47

خلقه، وإن لي فيك لظنين أسبقهما إلى قلبي أولاهما بك وهو العفو ثم قال بلا فصل:
(أبى الناس إلا أنك اليوم قاتلي * إمام الهدى والصفح بالمرء أجمل)
(وهل أنا إلى جبلة من خطيئة * وعفوك من نور النبوة مجمل)
(فإنك خير السابقين إلى العلا * ولا شك أن خير الفاعلين تفعل)
فقال المتوكل لبعض أصحابه إن عنده لأدبا بل يتفضل أمير المؤمنين ويمن عليه فأمر برده فحبس مقيدا وقيل إن المعتز شفع فيه إلى أبيه فأطلقه وكان ابن البعيث قد قال حين هرب:
(كم قضيت أمورا كان أهملها * غيري وقد أخذ الإفلاس بالكظم)
(لا تعذليني فمالي ليس ينفعني * إليك عني جرى المقدار بالقلم)
(سأتلف المال في عسر وفي يسر * إن الجواد الذي يعطي على العدم)
ومات ابن البعيث بعد دخوله سامرا بشهر قيل كان قد جعل في عنقه مائة رطل فلم يزل على وجهه حتى مات وجعل بنوه جليس وصقر والبعيث في عداد الشاكرية مع عبيد الله بن يحيى بن خاقان.
48

ذكر البيعة لأولاد المتوكل بولاية العهد
في هذه السنة عقد المتوكل البيعة لبنيه الثلاثة بولاية العهد وهم محمد ولقبه المنتصر بالله وأبو عبد الله محمد وقيل طلحة وقيل الزبير ولقبه المعتز بالله وإبراهيم ولقبه المؤيد بالله وعقد لكل واحد منهم لواءين أحدهما أسود وهو لواء العهد والآخر أبيض وهو لواء العمل فأعطى كل واحد منهم ما نذكره.
فأما المنتصر فأقطعه إفريقية والمغرب كله والعواصم وقنسرين والثغور جميعها الشامية والجزرية وديار مضر وديار ربيعة والموصل وهيت وعانة والأنبار والخابور وكورباجرمى وكور دجلة وطساسيج السواد جميعها والحرمين واليمن وحضرموت واليمامة والبحرين والسند ومكران وقندابيل وفرج بيت الذهب وكور الأهواز والمستغلات بسامرا وماه الكوفة وماه البصرة وماه سبذان ومهرجانقذق وشهر زور والصامغان وأصبهان وقم وقاشان والجبل جميعه وصدقات العرب بالبصرة.
وأما المعتز فأقطعه خراسان وما يضاف إليها وطبرستان والري،
49

وأرمينية، وأذربيجان وكور فارس ثم أضاف إليه في سنة أربعين [ومائتين] خزن الأموال في جميع الآفاق ودور الضرب وأمر أن يضرب اسمه على الدراهم وأما المؤيد فأقطعه جند حمص وجند دمشق، وجند فلسطين.
ذكر ظهور رجل ادعى النبوة
وفيها ظهر بسامرا رجل يقال له محمود بن الفرج النيسابوري فزعم أنه نبي وأنه ذو القرنين وتبعه سبعة وعشرون رجلا وخرج من أصحابه ببغداد رجلان بباب العامة وآخران بالجانب الغربي فأتي به وبأصحابه المتوكل فأمر به فضرب ضربا شديدا وحمل إلى باب العامة فأكذب نفسه وأمر أصحابه أن يضربه كل رجل منهم عشر صفعات ففعلوا وأخذوا له مصحفا فيه كلام قد جمعه وذكر أنه القرآن وأن جبريل نزل به ثم مات من الضرب في ذي الحجة وحبس أصحابه وكان فيهم شيخ يزعم أنه نبي وأن الوحي يأتيه.
50

ذكر ما كان بالأندلس من الحوادث
وفي هذه السنة خرج عباس بن وليد المعروف بالطبلي بنواحي تدمير لمحاربة جمع اجتمعوا وقدموا على أنفسهم رجلا اسمه محمد بن عيسى بن سابق فوطئ عباس بلدهم وأوقع بهم وأصلحهم وعاد.
وفيها ثار أهل تاكرنا ومن يليهم من البربر فسار ليهم جيش عبد الرحمن صاحب الأندلس فقاتلهم وأوقع بهم وأعظم النكاية فيهم.
وفيها سير عبد الرحمن ابنه المنذر في جيش كثيف لغزو الروم فبلغوا ألبه.
وفيها كان سيل عظيم في رجب في بلاد الأندلس فخرب جسر أستجة وخرب الأرحاء وغرق نهر إشبيلية ست عشرة قرية وخرب نهار باجة ثمان عشرة قرية وصار عرضه ثلاثين ميلا وكان هذا حدثا عظيما وقع في جميع البلاد في شهر واحد.
وفيها هلك ردمير بن أذفونس في رجب وكانت ولايته ثمانية أعوام.
وفيها هلك أبو السول الشاعر سعيد بن يعمر بن علي بسرقسطة.
51

ذكر عدة حوادث
وفي هذه السنة أمر المتوكل أهل الذمة بلبس الطيالسة العسلية، وشد الزنانير وركوب السروج بالركب الخشب وعمل كرتين في مؤخر السروج وعمل رقعتين على لباس مماليكهم مخالفتين لون الثوب كل واحد منهما قدر أربع أصابع ولون كل واحدة منهما غير لون الأخرى ومن خرج من نسائهم تلبس إزارا عسليا ومنعهم من لباس المناطق وأمر بهدم بيعهم المحدثة وبأخذ العشر من منازلهم وأن يجعل على أبواب دورهم صور شياطين من خشب، ونهى أن يستعان بهم في أعمال السلطان ولا يعلمهم مسلم وأن يظهروا في شعانينهم صليبا وأن يستعملوا في الطريق وأمر بتسوية قبورهم مع الأرض وكتب في ذلك إلى الآفاق.
وفيها توفي إسحاق بن إبراهيم بن الحسين بن مصعب المصعبي وهو ابن أخي طاهر بن الحسين وكان صاحب الشرطة ببغداد أيام المأمون والمعتصم والواثق والمتوكل ولما مرض أرسل إليه المتوكل ابنه المعتز مع جماعة من القواد يعودونه وجزع المتوكل لموته.
وفيها مات الحسن بن سهل كان شرب دواء فأفرط عليه فحبس
52

الطبع فمات وكان موته وموت إسحاق بن إبراهيم في ذي الحجة في يوم واحد وقيل مات الحسن في سنة ست وثلاثين.
وفيها في ذي الحجة تغير ماء دجلة إلى الصفرة ثلاثة أيام ففزع الناس ثم صار في لون ماء المدود.
وفيها أتي المتوكل بيحيى بن عمر بن يحيى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام وكان قد جمع جمعا ببعض النواحي فأخذ وحبس وضرب وحج بالناس هذه السنة محمد بن داود.
وفيها مات إسحاق بن إبراهيم الموصلي صاحب الألحان والغناء وكان فيه علم وأدب وله شعر جيد وعبيد الله بن عمر بن ميسرة الجشمي القواريري في ذي الحجة وإسماعيل بن علية ومنصور بن أبي مزاحم وسريج بن يونس أبو الحرث.
(سريج بالسين المهملة والجيم).
53

236
ثم دخلت سنة ست وثلاثين ومائتين
ذكر مقتل محمد بن إبراهيم
في هذه السنة قتل محمد بن إبراهيم بن مصعب أخو إسحاق بن إبراهيم وكان سبب ذلك أن إسحاق أرسل ولده محمد بن إسحاق بن إبراهيم إلى باب الخليفة ليكون نائبا عنه ببابه فلما مات إسحاق عقد المعتز لابنه محمد بن إسحاق على فارس وعقد له المنتصر على اليمامة والبحرين بطريق مكة في المحرم من هذه السنة وضم إليه المتوكل أعمال أبيه كلها وحمل إلى المتوكل وأولاده من الجواهر التي كانت لأبيه والأشياء النفسية كثيرا.
وكان عمه محمد بن إبراهيم على فارس فلما بلغه ما صنع المتوكل وأولاده بابن أخيه ساءه ذلك وتنكر للخليفة ولابن أخيه فشكا محمد بن إسحاق ذلك إلى المتوكل فأطلقه إلى عمه ليفعل به ما يشاء فعزله عن فارس واستعمل مكانه ابن عمه الحسين بن إسماعيل بن إبراهيم بن مصعب وأمره بقتل عمه محمد بن إبراهيم.
فلما سار الحسين إلى فارس أهدى إلى عمه يوم النيروز هدايا وفيها حلواء فأكل محمد منها وأدخله الحسين بيتا ووكل عليه فطلب الماء ليشرب فمنع منه فمات بعد يومين.
54

ذكر ما فعله المتوكل بمشهد الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام
في هذه السنة أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي عليه السلام وهدم ما حوله من المنازل والدور وأن يبذر ويسقى موضع قبره وأن يمنع الناس من إتيانه فنادى [عامل صاحب الشرطة] بالناس في تلك الناحية: من وجدناه عند قبره بعد ثلاثة حبسناه في المطبق! فهرب الناس وتركوا زيارته وخرب وزرع.
وكان المتوكل شديد البغض لعلي بن أبي طالب عليه السلام ولأهل بيته وكان يقصد من يبلغه عنه أنه يتولى عليا وأهله بأخذ المال والدم وكان من جملة ندمائه عبادة المخنث وكان يشد على بطنه تحت ثيابه مخدة ويكشف رأسه وهو أصلع ويرقص بين يدي المتوكل والمغنون يغنون قد أقبل الأصلع البدين خليفة المسلمين يحكي بذلك عليا عليه السلام والمتوكل يشرب ويضحك ففعل ذلك يوما والمنتصر حاضر فأومأ إلى عبادة يتهدده فسكت خوفا منه فقال المتوكل ما حالك فقام وأخبره فقال المنتصر يا أمير المؤمنين إن الذي يحكيه هذا الكلب ويضحك منه الناس هو ابن عمك وشيخ أهل بيتك وبه فخرك فكل أنت لحمه إذا شئت ولا تطعم هذا الكلب وأمثال منه فقال المتوكل للمغنين غنوا جميعا:
(غار الفتى لابن عمه * رأس الفتى في حر أمه)
55

فكان هذا من الأسباب التي استحل بها المنتصر قتل المتوكل.
وقيل إن المتوكل كان يبغض من تقدمه من الخلفاء: المأمون، والمعتصم، والواثق في محبة علي وأهل بيته وإنما كان ينادمه ويجالسه جماعة قد اشتهروا بالنصب والبغض لعلي منهم علي بن الجهم الشاعر الشامي من بني شامة بن لؤي وعمرو بن فرخ الرخجي وأبو السمط من ولد مروان بن أبي حفصة من موالي بني أمية وعبد الله بن محمد بن داود الهاشمي المعروف بابن أترجة.
وكانوا يخوفونه من العلويين ويشيرون عليه بإبعادهم والإعراض عنهم والإساءة إليهم ثم حسنوا له الوقيعة في أسلافهم الذين يعتقد الناس علو منزلتهم في الدين ولم يبرحوا به حتى ظهر منه ما كان فغطت هذه السيئة جميع حسناته وكان من أحسن الناس سيرة ومنع الناس من القول بخلق القرآن إلى غير ذلك من المحاسن.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة استكتب المتوكل عبيد الله بن يحيى بن خاقان.
وفيها حج المنتصر بالله وحج معه جدته أم المتوكل.
وفيها هلك أبو سعيد محمد بن يوسف المروزي فجأة وكان
56

عقد له على أرمينية وأذربيجان فلبس أحد خفيه ومد الآخر ليلبسه فمات فولى المتوكل ابنه يوسف ما كان إلى أبيه من الحرب وولاه خراج الناحية فسار إليها وضبطها وحج بالناس هذه السنة المنتصر.
وفيها خرج حبيبة البربري بالأندلس بجبال الجزيرة واجتمع إليه جمع كثير فأغاروا واستطالوا فسار إليهم جيش من عبد الرحمن فقاتلهم فهزمهم، فتفرقوا.
وفيها غزا جيش بالأندلس بلاد برشلونة فقتلوا من أهلها فأكثروا وأسروا جمعا غفيرا وغنموا وعادوا سالمين وفيها توفي هدبة بن خالد وسنان الأيلي وإبراهيم بن محمد الشافعي.
وفيها توفي مصعب بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام أبو عبد الله المدني وكان عمره ثمانين سنة وهو عم الزبير بن بكار وكان عالما فقيها إلا أنه كان منحرفا عن علي عليه السلام.
وفيها أيضا توفي منصور بن المهدي ومحمد بن إسحاق بن محمد المخزومي المسيبي البغدادي وكان ثقة.
وفيها توفي جعفر بن حرب الهمداني أحد أئمة المعتزلة البغداديين وعمره تسع وخمسون سنة وأخذ الكلام عن ابن أبي الهذيل العلاف البصري.
57

237
ثم دخلت سنة سبع وثلاثين ومائتين
ذكر وثوب أهل أرمينية بعاملهم
في هذه السنة وثب أهل أرمينية بعاملهم يوسف بن محمد فقتلوه.
وكان سبب ذلك أن يوسف لما سار إلى أرمينية خرج إليه بطريق يقال له بقراط بن أشوط ويقال له بطريق البطارقة يطلب الأمان فأخذه يوسف وابنه نعمة فسيرهما إلى باب الخليفة فاجتمع بطارقة أرمينية مع ابن أخي بقراط بن أشوط وتحالفوا على قتل يوسف ووافقهم على ذلك موسى بن بزارة وهو صهر بقراط على ابنته فأتى الخبر يوسف ونهاه أصحابه عن المقام بمكانه فلم يقبل فلما جاء الشتاء ونزل الثلج مكثوا حتى سكن الثلج ثم أتوه وهو بمدينة طرون فحصروه بها فخرج إليهم من المدينة فقاتلهم فقتلوه وكل من قاتل معه وأما من لم يقاتل معه فقالوا له انزع ثيابك وانج بنفسك عريانا ففعلوا ومشوا حفاة عراة فهلك أكثرهم من البرد وسقطت أصابع كثير منهم ونجوا، وكان ذلك في رمضان.
وكان يوسف قبل ذلك قد فرق أصحابه في رساتيق عمله فوجه إلى كل طائفة منهم طائفة من البطارقة فقتلوهم في يوم واحد.
فلما بلغ المتوكل خبره وجه بغا الكبير إليهم طالبا بدم يوسف،
58

فسار إليهم على الموصل والجزيرة فبدأ بأرزن وبها موسى بن زرارة وله أخوة إسماعيل وسليمان وأحمد وعيسى ومحمد وهارون فحمل بغا موسى بن زرارة إلى المتوكل وأناخ على قتلة يوسف فقتل منهم زهاء ثلاثين ألفا وسبى منهم خلقا كثيرا فباعهم فسار إلى بلاد الباق فأسر أشوط بن حمزة أبا العباس صاحب ألباق وألباق من كورة البسفرجان ثم سار إلى مدينة دبيل من أرمينية فأقام بها شهرا ثم سار إلى تفليس فحصرها.
ذكر غضب المتوكل على ابن أبي دؤاد وولاية ابن أكثم القضاء
وفيها غضب المتوكل على أحمد بن أبي دؤاد وقبض ضياعه وأملاكه وحبس ابنه أبا الوليد وسائر أولاده فحمل أبو الوليد مائة ألف وعشرين ألف دينار وجواهر قيمتها عشرون ألف دينار ثم صولح بعد ذلك على ستة عشر ألف ألف درهم وأشهد عليهم جميعا بيع أملاكهم.
وكان أبوهم أحمد بن أبي دؤاد قد فلج وأحضر المتوكل يحيى بن أكثم
59

من بغداد إلى سامرا، ورضي عنه، وولاه قضاء القضاة ثم ولاه المظالم فولى يحيى بن أكثم قضاء الشرقية حيان بن بشر وولى سوار بن عبد الله العنبري قضاء الجانب الغربي وكلاهما أعور فقال الجماز:
(رأيت من الكبائر قاضيين * هما أحدوثة في الخافقين)
(هما اقتسما العمى نصفين قدرا * كما اقتسما قضاء الجانبين)
(وتحسب منهما من هز رأسا * لينظر في مواريث ودين)
(كأنك قد وضعت عليه دنا * فتحت بزاله من فرد عين)
(هما فأل الزمان بهلك يحيى * إذا افتتح القضاء بأعورين)
ذكر ولاية العباس بن الفضل صقلية وما فتح فيها
قد ذكرنا سنة ثمان وعشرين ومائتين أن محمد بن عبد الله أمير صقلية توفي سنة ست وثلاثين ومائتين فلما مات اجتمع المسلمون بها على ولاية العباس بن الفضل بن يعقوب فولوه أمرهم فكتبوا بذلك إلى محمد بن الأغلب أمير إفريقية فأرسل إليه عهدا بولايته فكان العباس إلى أن وصل عهده يغير ويرسل السرايا وتأتيه الغنائم.
60

فلما قدم إليه عهده بولايته خرج بنفسه وعلى مقدمته عمه رباح فأرسل في سرية إلى قلعة أبي ثور فغنم وأسر وعاد فقتل الأسرى وتوجه إلى مدينة قصريانة فنهب وأحرق وخرب ليخرج إليه البطريق فلم يفعل فعاد العباس.
وفي سنة ثمان وثلاثين ومائتين خرج حتى بلغ قصريانة ومعه جمع عظيم فغنم وخرب وأتى قطانية وسرقوسة ونوطس ورغوس فغنم من جميع هذه البلاد وخرب وأحرق ونزل على بثيرة وحصرها خمسة أشهر فصالحه أهلها على خمسة آلاف رأس.
وفي سنة اثنتين وأربعين سار العباس في جيش كثيف ففتح حصونا خمسة، وفي سنة ثلاث وأربعين سار إلى قصريانة فخرج أهلها فلقوه فهزمهم وقتل فيهم فأكثر وقصد سرقوسة وطبرمين وغيرهما فنهب وخرب وأحرق ونزل على القصر الحديد وحصره وضيق على من به من الروم فبذلوا له خمسة عشر ألف دينار فلم يقبل منهم وأطال الحصر فسلموا إليه الحصن على شرط أن يطلق مائتي نفس فأجابهم إلى ذلك وملكه وباع كل من فيه سوى مائتي نفس وهدن الحصن.
61

ذكر فتح قصريانة
في سنة أربع وأربعين ومائتين فتح المسلمون مدينة قصريانة وهي المدينة التي بها دار الملك بصقلية وكان الملك قبلها يسكن سرقوسة فلما ملك المسلمون بعض الجزيرة نقل دار الملك إلى قصريانة لحصانتها.
وسبب فتحها أن العباس سار في جيوش المسلمين إلى مدينة قصريانة وسرقوسة وسير جيشا في البحر فلقيهم أربعون شلندى للروم فاقتتلوا أشد قتال فانهزم الروم وأخذ منهم المسلمون عشر شلنديات برجالها وعاد العباس إلى مدينته.
فلما كان الشتاء سير سرية فبلغت قصريانة فنهبوا وخربوا وعادوا ومعهم رجل كان له عند الروم قدر ومنزلة فأمر العباس بقتله فقال استبقني ولك عندي نصيحة قال وما هي قال أملكك قصريانة والطريق في ذلك أن القوم في هذا الشتاء وهذه الثلوج آمنون من قصدكم إليهم فهم غير محترسين ترسل معي طائفة من عسكركم حتى أدخلكم المدينة.
فانتخب العباس ألفي فارس أنجاد أبطال وسار إلى أن قاربها وكمن هناك مستترا وسير عمه رباحا في شجعانهم فساروا مستخفين في الليل والرومي معهم مقيد بين يدي رباح فأراهم الموضع الذي ينبغي أن يملك منه فنصبوا السلاليم وصعدوا الجبل ثم وصلوا إلى سور المدينة، قريبا
62

من الصبح، والحرس نيام فدخلوا من نحو باب صغير فيه يدخل منه الماء وتلقى فيه الأقذار فدخل المسلمون كلهم فوضعوا السيف في الروم وفتحوا الأبواب.
وجاء العباس في باقي العسكر فدخلوا المدينة وصلوا الصبح يوم الخميس منتصف شوال وبنى فيها في الحال مسجدا ونصب فيه منبرا وخطب فيه يوم الجمعة وقتل من وجد فيها من المقاتلة وأخذوا ما فيها من بنات البطارقة بحليهن وأبناء الملوك وأصابوا فيها ما يعجز الوصف عنه وذل الشرك يومئذ بصقلية ذلا عظيما.
ولما سمع الروم بذلك أرسل ملكهم بطريقا من القسطنطينية في ثلاثمائة شلندى وعسكر كثير فوصلوا إلى سرقوسة فخرج إليهم العباس من المدينة ولقي الروم وقاتلهم
فهزمهم فركبوا في مراكبهم هاربين وغنم المسلمون منهم مائة شلندى وكثر القتل فيهم ولم يصب من المسلمين ذلك اليوم غير ثلاثة نفر النشاب.
وفي سنة ست وأربعين ومائتين نكث كثير من قلاع صقلية وهي سطر وابلا وابلاطنوا وقلعة عبد المؤمن وقلعة البلوط وقلعة أبي ثور وغيرها من القلاع فخرج العباس إليهم فلقيهم عساكر الروم فاقتتلوا فانهزم الروم وقتل منهم كثير.
63

وسار إلى قلعة عبد المؤمن وقلعة ابلاطنوا، فحصرها، فأتاه الخبر أن كثيرا من عساكر الروم قد وصلت فرحل إليهم فالتقوا بجفلودي وجرى بينهم قتال شديد فانهزمت الروم وعادوا إلى سرقوسة وعاد العباس إلى المدينة وعمر قصريانة وحصنها وشحنها بالعساكر.
وفي سنة سبع وأربعين ومائتين سار العباس إلى سرقوسة فغنم وسار إلى غيران قرقنة فاعتل ذلك اليوم ومات بعد ثلاثة أيام ثالث جمادى الآخرة فدفن هناك فنبشه الروم وأحرقوه وكانت ولايته إحدى عشرة سنة وأدام الجهاد شتاء وصيفا وغزا أرض قلورية وانكبردة وأسكنها المسلمين.
ذكر ابتداء أمر يعقوب بن الليث
وفيها تغلب إنسان من أهل بست اسمه صالح بن النضر الكناني على سجستان ومعه يعقوب بن الليث فعاد طاهر بن عبد الله بن طاهر أمير خراسان واستنقذها من يده.
ثم ظهر بها إنسان اسمه درهم بن الحسين من المتطوعة فتغلب عليها وكان غير ضابط لعسكره وكان يعقوب بن الليث هو قائد عسكره، فلما رأى أصحاب درهم ضعفه وعجزه اجتمعوا على يعقوب بن الليث، وملكوه
64

أمرهم لما رأوا من تدبيره وحسن سياسته وقيامه بأمورهم فلما تبين ذلك لدرهم لم ينازعه في الأمر وسلمه إليه واعتزل عنه فاستبد يعقوب بالأمر وضبط البلاد وقويت شوكته وقصدته العساكر من كل ناحية، وكان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة ولى عبيد الله بن إسحاق بن إبراهيم بغداد ومعاون السواد وفيها قد محمد بن عبد الله بن طاهر من خراسان في ربيع الأول فولي الجزية والشرطة وخلافة المتوكل ببغداد وأعمال السواد وأقام بها.
وفيها عزل أبو الوليد محمد بن أحمد بن أبي دؤاد عن المظالم وولاها محمد بن يعقوب المعروف بابن الربيع.
وفيها أمر المتوكل بانزال جثة أحمد بن نصر الخزاعي ودفعه إلى أوليائه فحمل إلى بغداد وضم رأسه إلى بدنه وغسل وكفن ودفن واجتمع عليه من العامة ما لا يحصى يتمسحون به فكان المتوكل لما ولي نهى عن الجدال في القرآن وغيره وكتب إلى الآفاق بذلك.
وغزا الصائفة في هذه السنة علي بن يحيى الأرمني وحج بالناس فيها علي بن عيسى بن جعفر بن المنصور وكان والي مكة.
65

وفيها قام رجل بالأندلس بناحية الثغور وادعى النبوة وتأول القرآن على غير تأويله فتبعه قوم من الغوغاء فكان من شرائعه أنه كان ينهى عن قص الشعر وتقليم الأظافر فبعث إليه عامل ذلك البلد فأتي به وكان أول ما خاطبه به أن دعاه إلى اتباعه فأمره العامل بالتوبة فامتنع فصلبه.
وفيها سار جيوش المسلمين إلى بلاد المشركين فكانت بينهم وقعة عظيمة كان الظفر فيها للمسلمين وهي الوقعة المعروفة بوقعة البيضاء وهي مشهورة بالأندلس.
وفيها توفي العباس بن الوليد المديني بالبصرة وعبد الأعلى بن حماد النرسي وعبيد الله بن معاذ العنبري.
(النرسي بالنون والراء والسين المهملة).
66

238
ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين ومائتين
ذكر ما فعله بغا بتفليس
قد ذكرنا مسير بغا إلى تفليس ومحاصرتها وكان بغا لما سار إليها وجه زيرك التركي فجاز النهر الكر وهو نهر كبير ومدينة تفليس على حافته وصغدبيل على جانبه الشرقي فلما عبر النهر نزل بميدان تفليس ووجه بغا أيضا أبا العباس الوارثي النصراني إلى أهل أرمينية عربها وعجمها فأتى تفليس مما يلي باب المرقص فخرج إسحاق بن إسماعيل مولى بني أمية من تفليس إلى زيرك فقابله عند الميدان ووقف بغا على تل مشرف ينظر ما يصنع زيرك وأبو العباس فدعا بغا النفاطين فضربوا المدينة بالنار فأحرقوها وهي من خشب الصنوبر.
وأقبل إسحاق بن إسماعيل إلى المدينة فرأى النار قد أحرقت قصره وجواريه وأحاطت به فأتاه الأتراك والمغاربة فأخذوه أسيرا وأخذوا ابنه عمرا فأتوا بهما بغا فأمر بإسحاق فضربت عنقه وصلبت جثته على النهر الكر وكان شيخا محدورا ضخم الرأس أحول واحترق بالمدينة نحو خمسين ألف إنسان وأسروا من سلم من النار وسلبوا الموتى.
67

وأخذ أهل إسحاق وما سلم من ماله بصغدبيل وهي مدينة حصينة حذاء تفليس بناها كسرى أنوشروان وحصنها إسحاق وجعل أمواله فيها مع امرأته ابنة صاحب السرير.
ثم إن بغا وجه زيرك إلى قلعة الحرزمان وهي بين برذعة وتفليس في جماعة من جنده ففتحها وأخذ بطريقها أسيرا ثم سار بغا إلى عيسى بن يوسف وهو في قلعة كبيش في كورة البيلقان ففتحها وأخذه فحمله وحمل معه أبا العباس الوارثي واسمه سنباط بن أشوط وحمل معه معاوية بن سهل بن سنباط بطريق أران.
ذكر مسير الروم إلى ديار مصر
في هذه السنة جاءت ثلاثمائة مركب للروم مع ثلاثة رؤساء فأناخ أحدهم في مائة مركب بدمياط وبينها وبين الشط شبيه بالبحيرة يكون ماءها إلى صدر الرجل فمن جازها إلى الأرض أمن من مراكب البحر فجازه قوم فسلموا وغرق كثير من النساء وصبيان ومن كان به قوة سار إلى مصر.
وكان على معونة مصر عنبسة بن إسحاق الضبي فلما حضر العيد أمر الجند الذي بدمياط أن يحضروا مصر فساروا منها فاتفق وصول الروم وهي فارغة من الجند فنهبوا وأحرقوا وسبوا وأحرقوا جامعها، وأخذوا
68

ما بها من سلاح ومتاع. وقند وغير ذلك وسبوا من النساء المسلمات والذميات نحو ستمائة امرأة وأوقروا سفنهم من ذلك.
وكان عنبسة قد حبس بن الأكشف بدمياط فكسر قيده وخرج يقاتلهم وتبعه جماعة وقتل من الروم جماعة وسارت الروم إلى أشنوم تنيس وكان عليه سور وبابان من حديد قد عمله المعتصم فنهبوا ما فيه من سلاح وأخذوا البابين ورجعوا ولم يعرض لهم أحد.
ذكر وفاة عبد الرحمن بن الحكم وولاية ابنه محمد
وفيها توفي عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام الأموي صاحب الأندلس في ربيع الأول وكان مولده سنة ست وسبعين ومائة وولايته إحدى وثلاثين سنة وثلاثة أشهر.
وكان أسمر طويلا أقنى أعين عظيم اللحية مخضبا بالحناء وخلف خمسة وأربعين ولدا ذكورا وكان أديبا شاعرا وهو معدود في جملة من عشق جواريه وكان يعشق جارية له اسمها طروب وشهر بها وكان عالما بعلوم الشريعة وغيرها من علوم الفلاسفة وغيرهم وكانت أيامه عافية وسكون وكثرت الأموال عنده وكان بعيد الهمة واخترع قصورا ومنتزهات كثيرة وبنى الطرق وزاد في الجامع بقرطبة رواقين،
69

وتفي قبل أن يستتم زخرفته وأتمه ابنه وبنى جوامع كثيرة بالأندلس.
ولما مات ملك ابنه محمد فجرى على سيرة والده في العدل وتمم بناء الجامع بقرطبة وأمه تسمى بهتر وولد له مائة ولد كلهم ذكور وهو أول من أقام أبهة الملك بالأندلس ورتب رسوم المملكة وعلا عن التبدل للعامة فكان يشبه الوليد بن عبد الملك في أبهة الملك وهو من أحلب الماء العذب إلى قرطبة وأدخله إليها وجعل يفصل للماء مصنعا كبيرا يرده الناس.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة سار المتوكل نحو المدائن فدخل بغداد وسار منها إلى المدائن وغزا الصائفة علي بن يحيى الأرمني.
وفيها مات إسحاق بن إبراهيم الحنظلي المعروف بابن راهويه وكان إماما وجرى له مع الشافعي مناظرة في بيوت مكة وكان عمره سبعا وسبعين سنة ومحمد بن بكار المحدث.
70

239
ثم دخلت سنة تسع وثلاثين ومائتين
في هذه السنة أمر المتوكل أهل الذمة بلبس ذراعين عسليتين في الأقبية والدراريع وبالاقتصار في مراكبهم على ركوب البغال والحمير دون الخيل والبراذين.
وفيها نفى المتوكل علي بن الجهم إلى خراسان.
وفيها أمر المتوكل بهدم البيع المحدثة في الإسلام.
وفيها سير محمد بن عبد الرحمن جيشا مع أخيه الحكم إلى قلعة رباح وكان أهل طليطلة قد خربوا سورها وقتلوا كثيرا من أهلها وأصلح الحكم سورها وأعاد من فارقها من أهلها إليها وأصلح حالها وتقدم إلى طليطلة فأفسد في نواحيها وشعثها وسير محمد أيضا جيشا آخر إلى طليطلة فلما قاربوها خربت عليهم الجنود من المكامن فانهزم العسكر وأصيب أكثر من فيه.
وفيها مات أبو الوليد محمد بن أحمد بن أبي دؤاد القاضي ببغداد في ذي الحجة وغزا الصائفة علي بن يحيى الأرمني.
وفيها حج جعفر بن دينار على الأحداث بطريق مكة والموسم وحج بالناس
71

هذه السنة عبد الله بن محمد بن داود بن عيسى بن موسى وكان والي مكة.
وفيها اتفق الشعانين للنصارى ويوم النيروز وذلك يوم الأحد لعشرين ليلة خلت من ذي القعدة فزعمت النصارى أنهما لهم يجتمعا في الإسلام قط.
وفيها توفي محمود بن غيلان المروزي أبو أحمد وهو من مشايخ البخاري ومسلم والترمذي.
72

240
ثم دخلت سنة أربعين ومائتين
ذكر وثوب أهل حمص بعاملهم
في هذه السنة وثب أهل حمص بعاملهم أبي المغيث موسى بن إبراهيم الرافعي وكان قتل رجلا من رؤسائهم فقتلوا جماعة من أصحابه وأخرجوه وأخرجوا عامل الخراج فبعث المتوكل إليهم عتاب بن عتاب ومحمد بن عبدويه الأنباري وقال لعتاب قل لهم إن أمير المؤمنين قد بدلكم بعاملكم فإن أطاعوا فول عليهم محمد بن عبدويه، فإن أبوا
فأقم وأعلمني حتى أمدك برجال وفرسان.
فساروا إليهم فوصلوا في ربيع الآخر فرضوا بمحمد بن عبدويه، فعمل فيهم الأعاجيب حتى أحوجهم إلى محاربته على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر الحرب بين المسلمين والفرنج بالأندلس
وفي هذه السنة في المحرم كان بين المسلمين والفرنج حرب شديدة بالأندلس.
73

وسبب ذلك أن أهل طليطلة كانوا على ما ذكرنا من الخلاف على محمد بن عبد الرحمن صاحب الأندلس وعلى أبيه من قبله فلما كان الآن سار محمد في جيوشه إلى طليطلة فلما سمع أهلها بذلك أرسلوا إلى ملك جليقية يستمدونه وإلى ملك بشكنس فأمداهم بالعساكر الكثيرة.
فلما سمع محمد بذلك وكان قد قارب طليطلة عبأ أصحابه وقد كمن لهم الكمناء بناحية وادي سليط وتقدم إليهم وهو في قلة من العسكر فلما رأى أهل طليطلة ذلك أعلموا الفرنج بقلة عددهم فسارعوا إلى قتالهم وطمعوا فيهم فلما تراءى الجمعان وانتشب القتال خرجت الكمناء من كل جهة على المشركين وأهل طليطلة فقتل منهم ما لا يحصى وجمع من الرؤساء ثمانية آلاف رأس فرقت في البلاد فذكر أهل طليطلة أن عدة القتلى من الطائفتين عشرون ألف قتيل وبقيت جثث القتلى على وادي سليط دهرا طويلا.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة عزل يحيى بن أكثم عن القضاء وقبض منه ما مبلغه خمسة وسبعون ألف دينار وأربعة آلاف جريب بالبصرة.
74

وفيها ولي جعفر بن عبد الواحد بن جعفر بن سليمان بن علي قضاء القضاة وحج بالناس هذه السنة عبد الله بن محمد بن داود وكان على احداث الموسم جعفر بن دينار.
وفيها توفي القاضي أبو عبد الله أحمد بن أبي دؤاد في المحرم بعد ابنه أبي الوليد بعشرين يوما وكان داعية إلى القول بخلق القرآن وغيره من مذاهب المعتزلة وأخذ ذلك عن بشر المريسي وأخذ بشر من الجهم بن صفوان وأخذه جهم من الجعد بن درهم وأخذه الجعد من أبان بن سمعان وأخذه أبان من طالوت بن أخت لبيد الأعصم وختنه وأخذه طالوت من لبيد بن الأعصم اليهودي الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم وكان لبيد يقول بخلق التوراة وأول نم صنف في ذلك طالوت وكان زنديقا.
فأفشى الزندقة وفيها توفي قتيبة بن سعيد بن حميد أبو رجاء الثقفي وله تسعون سنة وهو خراساني من مشايخ البخاري ومسلم وأحمد بن حنبل وغيرهم من الأئمة وتوفي أبو ثور إبراهيم بن خالد البغدادي الكلبي الفقيه وهو من أصحاب الشافعي وأبو عثمان محمد بن الشافعي وكان قاضي الجزيرة جميعها وروى عن أبيه وعن ابن عنبسة وقيل مات بعد سنة أربعين [ومائتين]. وكان للشافعي ولد آخر اسمه محمد مات بمصر سنة إحدى وثلاثين ومائتين.
75

241
ثم دخلت سنة إحدى وأربعين ومائتين
ذكر وثوب أهل حمص بعاملهم
في هذه السنة وثب أهل حمص بعاملهم محمد بن عبدويه وأعانهم عليه قوم من نصارى حمص فكتب إلى المتوكل بذلك فكتب إليه يأمره بمناهضتهم وأمده بجند من دمشق والرملة فظفر بهم فضرب منهم رجلين من رؤسائهم حتى ماتا وصلبهما على باب حمص وسير ثمانية رجال من أشرافهم إلى المتوكل وظفر بعد ذلك بعشرة رجال من أعيانهم فضرب أعناقهم وأمره المتوكل بإخراج النصارى منها وهدم كنائسهم وبإدخال البيعة التي إلى جانب الجامع إلى الجامع ففعل ذلك.
ذكر الفداء بين المسلمين والروم
وفيها كان الفداء بين المسلمين والروم بعد أن قتلت تدورة ملكة الروم من أسرى المسلمين اثني عشر ألفا فإنها عرضت النصرانية على الأسرى فمن تنصر جعلته أسوى من قتله من المتنصرة ومن أبى قتلته وأرسلت
76

تطلب المفاداة لمن بقي منهم فأرسل المتوكل شنيفا الخادم على الفداء وطلب قاضي القضاء جعفر بن عبد الواحد أن يحضر الفداء ويستخلف على القضاء من يقوم مقامه فأذن له فحضره واستخلف على القضاء ابن أبي الشوارب وهو شاب ووقع الفداء على نهر اللامس فكان أسرى المسلمين من الرجال سبعمائة وخمسة وثمانين رجلا ومن النساء مائة وخمسا وعشرين امرأة.
وفيها جعل المتوكل كل كورة شمشاط عشرية وكانت خراجية.
ذكر غارات البجاة بمصر
وفيها غارت البجاة على أرض مصر وكانت قبل ذلك لا تغزو بلاد الإسلام لهدنة قديمة وقد ذكرناها فيما مضى وفي بلادهم معادن يقاسمون المسلمين عليها ويؤدون إلى عمال مصر نحو الخمس.
فلما كان أيام المتوكل امتنعت عن أداء ذلك فكتب صاحب البريد بمصر يخبرهم وأنهم قتلوا عدة من المسلمين ممن يعمل في المعادن فهرب المسلمون خوفا منها خوفا على أنفسهم فأنكر المتوكل ذلك فشاور في أمرهم فذكر له أنهم أهل بادية أصحاب إبل وماشية وأن الوصول إلى بلادهم صعب لأنها مفاوز وبين أرض الإسلام وبينها مسيرة شهر في أرض قفر وجبال وعرة وأن كل من يدخلها من الجيوش يحتاج أن يتزود لمدة يتوهم أنه يقيمها إلى أن يخرج إلى بلاد الإسلام فإن جاوز تلك المدة هلك وأخذتهم البجاة باليد وأن أرضهم لا ترد على سلطان شيئا.
77

فأمسك المتوكل عنهم فطمعوا وزاد شرهم حتى خاف أهل الصعيد على أنفسهم منهم فولى المتوكل محمد بن عبد الله القمي محاربتهم وولاه معونة تلك الكور وهي قفط
والأقصر أسنا وأرمنت وأسوان وأمره بمحاربة البجاة وكتب إلى عنبسة بن إسحاق الضبي عامل حرب مصر بإزاحة علته وإعطائه من الجند ما يحتاج إليه ففعل ذلك.
وسار محمد إلى أرض البجاة وتبعه ممن يعمل في المعادن والمتطوعة عالم كثير فبلغت عدتهم نحوا من عشرين ألفا بين فارس وراجل ووجه إلى القلزم فحمل في البحر سبعة مراكب موقورة بالدقيق والزيت والتمر والشعير والسويق وأمر أصحابه أن يوافوه بها في ساحل البحر مما يلي بلاد البجاة وسار حتى جاوز المعادن التي يعمل فيها الذهب وسار إلى حصونهم وقلاعهم وخرج إليه ملكهم واسمه علي بابا في جيش كثير أضعاف من مع القمي فكانت البجاة على الإبل وهي إبل فره تشبه المهارى فتحاربوا أياما ولم يصدقهم علي بابا القتال ليطول الأيام وتفنى أزواد المسلمين وعلوفاتهم فيأخذهم بغير حرب فأقبلت تلك المراكب التي فيها الأقوات في البحر ففرق القمي ما كان فيها في أصحابه فاتسعوا فيها.
فلما رأى علي بابا ذلك صدقهم القتال وجمع لهم فالتقوا واقتتلوا قتالا شديدا وكانت إبلهم ذعرة تنفر من كل شيء فلما رأى القمي ذلك جمع كل جرس في عسكره وجعلها في أعناق خيله ثم حملوا على البجاة فنفرت إبلهم لأصوات الأجراس فحملتهم على الجبال والأودية وتبعهم المسلمون قتلا وأسرا حتى أدركهم الليل وذلك أول سنة إحدى وأربعين
78

ومائتين ثم رجع إلى معسكره ولم يقدر على إحصاء القتلى لكثرتهم.
ثم إن ملكهم علي بابا طلب الأمان فأمنه على أن يرد مملكته وبلاده فأدى إليهم الخراج للمدة التي كان منعها وهي أربع سنين وسار مع القمي إلى المتوكل واستخلف على مملكته ابنه بغش فلما وصل إلى المتوكل خلع عليه وعلى أصحابه وكسا جمله رحلا مليحا وجلال ديباج وولى المتوكل البجاة طريق مصر ما بين مصر ومكة سعدا الخادم الإيتاخي فولى الإيتاخي محمدا القمي فرجع إليها ومعه علي بابا وهو على دينه وكان معه صنم من حجارة كهيئة الصبي يسجد له.
ذكر عدة حوادث
وفيها مطر الناس بسامرا مطرا شديدا في آب.
وقيل فيها إنه أنهي إلى المتوكل أن عيسى بن جعفر بن محمد بن عاصم صاحب خان عاصم ببغداد يشتم أبا بكر وعمر وعائشة وحفصة فكتب إلى محمد بن عبد الله بن طاهر أن يضربه بالسياط فإذا مات رمى به في دجلة ففعل ذلك وألقي في دجلة.
79

وفيها وقع بها الصدام فنفقت الدواب والبقر.
وفيها أغارت الروم على عين زربة فأخذت من كان بها أسيرا من الزط مع نسائهم وذراريهم ودوابهم.
وفيها أكثر محمد صاحب الأندلس من الرجال بقلعة رباح وتلك النواحي ليقفوا على أهل طليطلة وسير الجيوش إلى غزو الفرنج مع موسى فدخلوا بلادهم ووصلوا إلى ألية والقلاع وافتتحوا بعض حصونها وعادوا.
ومات في هذه السنة يعقوب بن إبراهيم المعروف بقوصرة صاحب بريد مصر والغرب وحج بالناس عبد الله بن محمد بن داود وحج جعفر بن دينار وهو والي الطريق واحداث الموسم.
وفيها كثر انقضاض النجوم فكانت كثيرة لا تحصى فبقيت ليلة من العشاء الآخرة إلى الصبح.
وفيها كانت بالري زلزلة شديدة هدمت المساكن ومات تحتها خلق كثير لا يحصون وبقيت تتردد فيها أربعين يوما وفيها خرجت ريح من بلاد الترك فقتلت خلقا كثيرا وكان يصيبهم بردها فيزكمون فبلغت سرخس ونيسابور وهمذان والري فانتهت إلى حلوان.
وفيها توفي الإمام أحمد بن حنبل الشيباني الفقيه المحدث في شهر ربيع الأول.
80

242
ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين ومائتين
في هذه السنة كانت زلازل هائلة بقومس ورساتيقها في شعبان فتهدمت الدور وهلك تحت الهدم بشر كثير قيل كانت عدتهم خمسة وأربعين ألفا وستة وتسعين نفسا وكان أكثر ذلك بالدامغان وكان بالشام وفارس وخراسان في هذه السنة زلازل وأصوات منكرة وكان باليمن مثل ذلك مع خسف.
وفيها خرجت الروم من ناحية سميساط بعد خروج علي بن يحيى الأرمني من الصائفة حتى قاربوا آمد وخرجوا من الثغور الجزرية فانتهبوا وأسروا نحوا من عشرة آلاف وكان دخولهم من ناحية أرين قرية قريباس ثم رجعوا فخرج قريباس وعمر بن عبد الله الأقطع وقوم من المتطوعة في آثارهم فلم يلحقوهم فكتب المتوكل إلى علي بن يحيى الأرمني أن يسير إلى بلادهم شاتيا.
وفيها قتل المتوكل رجلا عطارا وكان نصرانيا فأسلم فمكث مسلما سنين كثيرة ثم ارتد واستتيب فأبى الرجوع إلى الإسلام فقتل وأحرق.
وفيها سير محمد بن عبد الرحمن بالأندلس جيشا إلى بلاد المشركين،
81

فدخلوا إلى برشلونة وحارب قلاعها وجازها إلى ما وراء أعمالها فغنموا كثيرا وافتتحوا حصنا من أعمال برشلونة يسمى طراجة وهو من آخر حصون برشلونة.
وفيها مات أبو العباس محمد بن الأغلب أمير إفريقية عاشر المحرم كان عمره ستا وثلاثين سنة وولي بعده ابنه أبو إبراهيم أحمد بن محمد بن الأغلب وقد ذكرنا ذلك سنة ست وعشرين ومائتين.
وفيها مات أبو حسان الزيادي قاضي الشرقية ومات الحسن بن علي بن الجعد قاضي مدينة المنصور وحج بالناس عبد الصمد بن موسى بن محمد بن إبراهيم الإمام وهو على مكة وحج جعفر بن دينار على الطريق وأحداث الموسم وتوفي القاضي يحيى بن أكثم التميمي بالربذة عائدا من الحج ومحمد بن مقاتل الرازي وأبو حصين يحيى بن سليم الرازي المحدث.
82

وفي هذه السنة سار المتوكل إلى دمشق في ذي القعدة على طريق الموصل فضحى بلد فقال يزيد بن محمد المهلبي:
(أظن الشام تشمت بالعراق * إذا عزم الإمام على انطلاق)
(فإن يدع العراق وساكنيه * فقد تبلى المليحة بالطلاق)
وفيها مات إبراهيم بن العباس بن محمد بن صول الصولي وكان أديبا شاعرا فولي ديوان الضياع الحسن بن مخلد بن الجراح خليفة إبراهيم.
ومات عاصم بن منجور وحج بالناس عبد الصمد بن موسى وحج جعفر بن دينار وهو والي الطريق وأحداث الموسم.
وفيها خرج أهل طليطلة بجمعهم إلى طلبيرة وعليها مسعود بن عبد الله العريف فخرج إليهم فيمن معه من الجنود فلقيهم فقاتلهم فانهزم أهل طليطلة وقتل أكثرهم وحمل إلى قرطبة سبعمائة رأس.
وفيها توفي شهيد بن عيسى بن شهيد الأندلسي وكان من العلماء.
83

وفيها توفي يعقوب بن إسحاق بن يوسف المعروف بابن السكيب النحوي اللغوي وقيل سنة أربع وقيل خمس وقيل ست وأربعين والحرث بن أسد المحاسبي أبو عبد الله الزاهد وكان قد هجره الإمام أحمد بن حنبل لأجل الكلام فاختفى لتعصب العامة لأحمد فلم يصل عليه إلا أربعة نفر.
84

244
ثم دخلت سنة أربع وأربعين ومائتين
في هذه السنة دخل المتوكل مدينة دمشق في صفر وعزم على المقام بها ونقل دواوين الملك إليها وأمر بالبناء بها ثم استوبأ البلد وذلك أن هواه بارد ندي والماء ثقيل والريح تهب فيها مع العصر فلا يزال يشتد حتى يمضي عامة الليل وهي كثيرة البراغيث وغلت فيها الأسعار وحال الثلج بين السابلة والميرة فرجع إلى سامرا وكان مقامه بدمشق شهرين وأياما فلما كان بها وجه بغا الكبير لغزو الروم فغزا الصائفة فافتتح صملة.
وفيها عقد المتوكل لأبي الساج على طريق مكة مكان جعفر بن دينار وقيل عقد له سنة اثنتين وأربعين وهو الصواب.
وفيها أتى المتوكل بحربة كانت للنبي تسمى العنزة فكانت للنجاشي فأهداها للزبير بن العوام وأهداها الزبير للنبي وهي التي كانت تركز بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم في العيدين فكان يحملها بين يديه صاحب الشرطة.
وفيها غضب المتوكل على بختيشوع الطبيب وقبض ماله ونفاه إلى البحرين.
وفيها اتفق عبد الأضحى والشعانين للنصارى وعيد الفطر لليهود في يوم واحد وحج بالناس فيها عبد الصمد بن موسى.
85

وفيها توفي إسحاق بن موسى بن عبد الله بن موسى الأنصاري وعلي بن حجر السعدي المروزي وهما إمامان في الحديث ومحمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب ومحمد بن عبد الله بن أبي عثمان بن عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أمية القاضي في جمادى الأولى.
(أسيد بفتح الهمزة).
86

245
ثم دخلت سنة خمس وأربعين ومائتين
في هذه السنة أمر المتوكل ببناء الماخورة وسماها الجعفرية وأقطع القواد وأصحابه فيها وجد في بائها وأنفق عليها فيما قيل أكثر من ألفي ألف دينار وجمع فيها القراء فقرؤوا وحضرها أصحاب الملاهي فوهب أكثر من ألفي ألف درهم وكان يسميها هو وأصحابه المتوكلية وبنى فيها قصرا سماه لؤلؤة لم ير مثله في علوه وحفر لها نهرا يسقي ما حولها فقتل المتوكل فبطل حفر النهر وأخربت الجعفرية.
وفيها زلزلت بلاد المغرب فخربت الحصون والمنازل والقناطر ففرق المتوكل ثلاثة آلاف ألف درهم فيمن أصيب بمنزله وزلزل عسكر المهدي والمدائن وزلزلت أنطاكية فقتل بها خلق كثير فسقط منها ألف وخمسمائة دار وسقط من سورها نيف وتسعون برجا وسمعوا أصواتا هائلة لا يحسنون وصفها وتقطع جبلها الأقرع وسقط في البحر.
وهاج البحر ذلك اليوم وارتفع منه دخان أسود مظلم منتن وغار منها نهر على فرسخ لا يدري أين يذهب وسمع أهل سيس فيما قيل صيحة دائمة هائلة فمات منها خلق كثير فتزلزلت ديار الجزيرة والثغور وطرسوس وأدنة وزلزلت الشام فلم يسلم من أهل اللاذقية إلا اليسير وهلك أهل جبلة.
87

وفيها غارت مسناة عين مكة فبلغ ثمن القربة ثمانين درهما فبعث المتوكل مالا وأنفق عليها.
وفيها مات إسحاق بن أبي إسرائيل وهلال الرازي.
وفيها هلك نجاح بن سلمة وكان سبب هلاكه أنه كان على ديوان التوقيع، وتتبع العمال وكان على الضياع فكان جميع العمال يتوقونه ويقضون حوائجه ولا يقدرون على منعه نم شيء يريده وكان المتوكل ربما نادمه وكان الحسن بن مخلد وموسى بن عبد الملك قد انقطعا إلى عبيد الله بن يحيى بن خاقان وزير المتوكل وكان الحسن على
ديوان الضياع وموسى على ديوان الخراج فكتب نجاح بن سلمة فيهما رقعة إلى المتوكل أنهما خانا وقصرا وأنه يستخرج منهما أربعين ألف ألف فقال له المتوكل بكر غدا حتى ادفعهما إليك فغدا وقد رتب أصحابه لأخذهما فلقيه عبيد الله بن يحيى الوزير فقال له أنا أشير عليك بمصالحتهما وتكتب رقعة أنك كنت شاربا وتكلمت ناسيا وأنا أصلح بينكما وأصلح الحال عند أمير المؤمنين ولم يزل يخدعه حتى كتب خطه بذلك.
فما كتب خطه صرفه وأحضر الحسن وموسى وعرفهما الحال وأمرهما أن يكتبا في نجاح وأصحابه بألفي ألف دينار ففعلا وأخذ الرقعتين وأدخلهما على المتوكل وقال قد رجع نجاح عما قال وهذه رقعة موسى والحسن يتقبلان بما كتبا فأخذ ما ضمنا عليه ثم تعطف عليهما فتأخذ منهما قريبا منه.
فسر المتوكل بذلك وأمر بدفعه إليهما فأخذاه وأولاده فأقروا بنحو
88

مائة وأربعين ألف دينار سوى الغلات والغرس والضياع وغير ذلك فقبض ذلك أجمع وضرب ثم عصرت خصيتاه حتى مات وأقر أولاده بعد الضرب بسبعين ألف دينار سوى مالهما من ملك وغيره فأخذ الجميع وأخذ من وكلائه في جميع البلاد مال جزيل.
وفيها أغارت الروم على سميساط فقتلوا وسبوا وأسروا خلقا كثيرا وغزا علي بن يحيى الأرمني الصائفة ومنع أهل لؤلؤة رئيسهم من الصعود إليها ثلاثين يوما فبعث إليهم ملك الروم بطريقا يضمن لكل رجل منهم ألف دينار على أن يسلموا إليه لؤلؤة فأصعدوا البطريق إليهم ثم أعطوا أرزاقهم الفائتة وما أرادوا فسلموا لؤلؤة والبطريق إلى بلكاجور فسيره إلى المتوكل فبذل ملك الروم في فدائه ألف مسلم.
وحج بالناس محمد بن سليمان بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم الإمام يعرف بالزينبي وهو والي مكة.
وكان نيروز المتوكل الذي أرفق أهل الخراج بتأخيره إياه عنهم لإحدى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول ولسبع عشرة ليلة خلت من حزيران ولثمان وعشرين من أردبيهشت فقال البحتري:
(إن يوم النيروز عاد إلى العه * د الذي كان سنه أردشير)
89

ذكر خروج الكفار بالأندلس إلى بلاد الإسلام
في هذه السنة خرج المجوس من بلاد الأندلس في مراكب إلى بلاد الإسلام فأمر محمد بن عبد الرحمن صاحب بلاد الإسلام بإخراج العساكر إلى قتالهم فوصلت مراكب المجوس إلى إشبيلية فحلت بالجزيرة ودخلت الحاضر إلى قتالهم وأحرقت المسجد الجامع ثم جازت إلى الغدوة فحلت بناكور ثم عادت إلى الأندلس فانهزم أهل تدمير ودخلوا حصن أريوالة.
ثم تقدموا إلى حائط إفرنجة وأغاروا وأصابوا من النهب والسبي كثيرا ثم انصرفوا فلقيتهم مراكب محمد فقاتلوهم فأحرقوا مركبين من مراكب الكفار وأخذوا مركبين آخرين فغنموا ما فيهما فحمى الكفرة عند ذلك وجدوا في القتال فاستشهد جماعة من المسلمين ومضت مراكب المجوس حتى وصلت إلى مدينة بنبلونة فأصابوا صاحبها غرسة الفرنجي فافتدى نفسه منهم بتسعين ألف دينار.
وفيها غزا عامل طرسونة إلى بنبلونة فافتتح حصن بيلسان وسبى أهله ثم كانت على المسلمين في اليوم الثاني وقعة استشهد فيها جماعة.
90

ذكر الحروب بين البربر وابن الأغلب بإفريقية
في هذه السنة كانت بين البربر وعسكر أبي إبراهيم أحمد بن محمد بن الأغلب وقعة عظيمة في جمادى الآخرة.
وسببها أن بربر لهان امتنعوا على عامل طرابلس من أداء عشورهم وصدقاتهم وحاربوه فهزموه فقصد لبلده فحصنها وسار إلى طرابلس فسير إليه أحمد بن محمد الأمير جيشا مع أخيه زيادة الله فانهزم البربر وقتل منهم خلق كثير وسير زيادة الله الخيل في آثارهم فقتل من أدرك منهم وأسر جماعة فضربت أعناقهم وأحرق ما كان في عسكرهم فأذعن البربر بعدها وأعطوه الرهن وأدوا طاعتهم.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة توفي يعقوب بن إسحاق النحوي المعروف بابن السكيت وكان سبب موته أنه اتصل بالمتوكل فقال له أيهما أحب إليك المعتز والمؤيد أو الحسن والحسين فتنقص ابنيه وذكر الحسن والحسين عليهما السلام بما هما أهل له فأمر الأتراك فداسوا بطنه فحمل إلى داره فمات.
91

وفيها توف ذو النون المصري في ذي القعدة وأبو تراب النخشبي الصوفي نهشته السباع فمات بالبادية وأبو علي الحسين بن علي المعروف بالكرابيسي صاحب الشافعي وقيل مات سنة ثمان وأربعين وسوار بن عبد الله القاضي العنبري وكان قد عمي.
92

246
ثم دخلت سنة ست وأربعين ومائتين
وفيها غزا عمرو بن عبد الله الأقطع الصائفة فأخرج سبعة عشر ألف رأس وغزا قريباس وأخرج خمسة آلاف رأس وغزا الفضل بن قارن نحوا من عشرين مركبا فافتتح حصن أنطاكية وغزا بلكجور فغنم وسبى وغزا علي بن يحيى الأرمني فأخرج خمسة آلاف رأس، ومن الدواب والرمك والحمير نحوا من عشرة آلاف رأس.
وفيها تحول المتوكل إلى الجعفرية.
وفيها كان الفداء في صفر على يد علي بن يحيى الأرمني ففودي بألفين وثلاثمائة وسبع وستين نفسا.
وفيها مطر أهل بغداد نيفا وعشرين يوما في شعبان ورمضان حتى نبت العشب فوق الأجاجير وصلى المتوكل صلاة الفطر بالجعفرية وورد الخبر أن سكة بناحية بلخ تعرف بسكة الدهاقين مطرت دما عبيطا وحج بالناس هذه السنة محمد بن سليمان الزينبي وضحى أهل سامرا يوم الاثنين على الرؤية وأهل مكة يوم الثلاثاء.
93

وفيها سار محمد بن عبد الرحمن صاحب الأندلس في جيوش عظيمة وأهبة كثيرة إلى بلد بنبلونة فوطئ بلادها ودوخها وخربها ونهبها وقتل فيها فأكثر وافتتح حصن فيروس وحصن فالحسن وحصن القشتل وأصاب فيه فرتون بن غرسية فحبسه بقرطبة عشرين سنة ثم أطلقه إلى بلده وكان عمره لما مات ستا وتسعين سنة وكان مقام محمد بأرض بنبلونة اثنين وثلاثين يوما.
وفيها توفي دعبل بن علي الخزاعي الشاعر وكان مولده سنة ثمان وأربعين ومائة وكان يتشيع وفيها توفي السري بن معاذ الشيباني بالري وكان أميرا عليها حسن السيرة من أهل الفضل وتوفي أحمد بن إبراهيم الدورقي [بغداد]، ومحمد بن سليمان الأسدي الملقب بكوين.
94

247
ثم دخلت سنة سبع وأربعين ومائتين
ذكر مقتل المتوكل
وفي هذه السنة قتل المتوكل وكان سبب قتله أنه أمر بإنشاء الكتب بقبض ضياع وصيف بأصبهان والجبل وإقطاعها الفتح بن خاقان فكتب وصارت إلى الخاتم فبلغ ذلك وصيفا، وكان المتوكل أراد أن يصلي بالناس أول جمعة في رمضان وشاع في الناس واجتمعوا لذلك وخرج بنو هاشم من بغداد لرفع القصص وكلامه إذا ركب.
فلما كان يوم الجمعة وأراد الركوب للصلاة قال له عبيد الله بن يحيى والفتح بن خاقان إن الناس قد كثروا من أهل بيتك ومن غيرهم فبعض متظلم طالب حاجة وأمير المؤمنين يشكو ضيق الصدر وعلة به فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر بعض ولاة العهود بالصلاة ونكون معه فليفعل.
فأمر المنتصر بالصلاة فلما نهض للركوب قالا له يا أمير المؤمنين إن رأيت أن تأمر المعتز بالصلاة فقد اجتمع الناس لتشرفه بذلك وقد بلغ الله به وكان قد ولد للمعتز قبل ذلك ولد فأمر المعتز فركب فصلى بالناس وأقام المنتصر في داره بالجعفرية فزاد ذلك في إغرائه.
95

فلما فرغ المعتز من خطبته قام إليه عبد الله والفتح بن خاقان فقبلا يديه ورجليه فلما فرغ من الصلاة انصرف ومعه الناس في موكب الخلافة حتى دخل على أبيه فأثنوا عليه عنده فسره ذلك.
فلما كان عيد الفطر قال مروا المنتصر يصلي بالناس فقال له عبيد الله قد كان الناس يتطلعون إلى رؤية أمير المؤمنين واحتشدوا لذلك فلم يركب ولا يأمن إن هو لم يركب اليوم أن يرجف الناس بعلته ويتكلموا في أمره فإذا رأى أمير المؤمنين أن يسر الأولياء ويكبت الأعداء بركوبه فليفعل.
فركب وقد صف له الناس نحو أربعة أميال وترجلوا بين يديه فصلى ورجع فأخذ حفنة من التراب فوضعها على رأسه وقال إني رأيت كثرة هذا الجمع ورأيتهم تحت يدي فأحببت أن أتواضع لله فلما كان اليوم الثالث افتصد واشتهى لحم جزور فأكله وكان قد حضر عنده ابن الحفصي وغيره فأكلوا بين يديه قال ولم يكن يوم أسر من ذلك اليوم ودعا الندماء والمغنين فحضروا وأهدت له أم المعتز مطرف خظ أخضر لم ير الناس مثله فنظر إليه فأطال وأكثر تعجبه منه وأمر فقطع نصفين ورده عليها وقال لرسولها والله إن نفسي لتحدثني أني لا ألبسه وما أحب أن يلبسه أحد بعدي ولهذا أمرت بشقه.
قال فقلنا: نعيذك بالله أن تقول هذا. قال وأخذ في الشرب واللهو ولهج بأن يقول أنا والله مفارقكم عن قليل! ولم يزل في لهوه وسروره إلى الليل.
96

وكان قد عزم هو والفتح أن يفتكا بكرة غدة بالمنتصر ووصيف وبغا وغيرهم من قواد الأتراك وقد كان المنتصر واعد الأتراك ووصيفا وغيره على قتل المتوكل.
وكثر عبث المتوكل قبل بيوم بابنه المنتصر مرة يشتمه ومرة يسقيه فوق طاقته ومرة يأمر بصفعه ومرة يتهدده بالقتل ثم قال للفتح برئت من الله ومن قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم تلطمه يعني المنتصر فقام إليه فلطمه مرتين ثم أمر يده على قفاه ثم قال لمن حضره اشهدوا علي جميعا أني قد خلعت المستعجل يعني المنتصر ثم التفت إليه فقال سميتك المنتصر فسماك الناس لحمقك المنتظر ثم صرت الآن المستعجل.
فقال المنتصر: لو أمرت بضرب عنقي كان أسهل علي مما تفعله بي فقال اسقوه ثم أمر بالعشاء فأحضر وذلك في جوف الليل، فخرج المنتصر من عنده وأمره بابا غلام أحمد بن يحيى أن يلحقه وأخذ بيد زراقة الحاجب وقال له امض معي! فقال إن أمير المؤمنين لم ينم فقال إنه قد أخذ منه النبيذ والساعة يخرج بغا والندماء وقد أحببت أن تجعل أمر ولدك إلي فإن أوتامش سألني أن أزوج ولده من ابنتك وابنك من ابنته فقال نحن عبيدك فمر بأمرك فسار معه إلى حجرة هناك وأكلا طعاما فسمعا الضجة والصراخ فقاما وإذ بغا قد لقي المنتصر، فقال المنتصر:
97

ما هذا؟ فقال: خير يا أمير المؤمنين قال ما تقول ويلك قال أعظم الله أجرك يا أمير المؤمنين كان عبدا لله دعاه فأجابه.
فجلس المنتصر وأمر بباب البيت الذي قتل فيه المتوكل فأغلق وأغلقت الأبواب كلها وبعث إلى وصيف يأمره بإحضار المعتز والمؤيد عن رسالة المتوكل.
وأما كيفية قتل المتوكل، فإنه لما خرج المنتصر دعا المتوكل بالمائدة وكان بغا الصغير المعروف بالشرابي قائما عند الستر وذلك اليوم كان نوبة بغا الكبير وكان خليفته في الدار ابنه موسى وموسى هذا هو ابن خالة المتوكل وكان أبوه يومئذ بسميساط فدخل بغا الصغير إلى المجلس فأمر الندماء بالانصراف إلى حجرهم فقال له الفتح ليس هذا وقت انصرافهم وأمير المؤمنين لم يرتفع فقال بغا إن أمير المؤمنين أمرني أنه إذا جاوز السبعة أن لا أترك أحدا وقد شرب أربعة عشر رطلا وحرم أمير المؤمنين خلف الستارة فأخرجهم ولم يبق إلا الفتح وعثعث وأربعة من خدمه الخاصة وأبو أحمد بن المتوكل وهو أخو المؤيد لأمه.
وكان بغا الشرابي أغلق الأبواب كلها إلا باب الشط ومنه دخل القوم الذين قتلوه فبصر بهم أبو أحمد فقال ما هذا يا سفل فإذا سيوف مسللة فلما سمع المتوكل صوت أبي أحمد رفع رأسه فرآهم فقال ما هذا يا بغا فقال هؤلاء رجال النوبة فرجعوا إلى ورائهم عند كلامه ولم يكن واجن وأصحابه وولد وصيف حضروا معهم فقال لهم بغا يا سفل أنتم مقتولون لا محالة فموتوا كراما فرجعوا فابتدره بغلون فضربه على كتفه وأذنه فقده فقال مهلا قطع الله يدك وأراد الوثوب به واستقبله بيده فضربها فأبانها وشركه باغر فقال الفتح ويلكم أمير المؤمنين ورمى
98

بنفسه على المتوكل، فبعجوه بسيوفهم فصاح الموت وتنحى فقتلوه.
وكانوا قالوا لوصيف ليحضر معهم وقالوا إنا نخاف فقال لا بأس عليكم فقالوا له أرسل معنا بعض ولدك فأرسل معهم خمسة من ولده صالحا وأحمد وعبد الله ونصرا وعبيد الله.
وقيل أن القوم لما دخلوا نظر إليهم عثعث فقال للمتوكل قد فرغنا من الأسد والحيات والعقارب وصرنا إلى السيوف وذلك أنه ربما أسلى الحية والعقرب والأسد فلما ذكر عثعث السيوف قال يا ويلك أي سيوف فما استتم كلامه حتى دخلوا عليه وقتلوه وقتلوا الفتح وخرجوا إلى المنتصر فسلموا عليه بالخلافة وقالوا مات أمير المؤمنين وقاموا على رأس زرافة بالسيوف وقالوا بايع، فبايع.
وأرسل المنتصر إلى وصيف أن الفتح قد قتل أبي فقتلته فأحضر في وجوه أصحابك فحضر هو أصحابه فبايعوا وكان عبيد الله بن يحيى في حجرته ينفذ الأمور ولا يعلم وبين يديه جعفر بن حامد فبينما هو كذلك إذ طلع عليه بعض الخدم فقال ما يحبسك والدار سيف واحد فأمر جعفر بالنظر فخرج وعاد وأخبره أن المتوكل والفتح قتلا فخرج فيمن عنده من خدمه وخاصته فأخبر أن الأبواب مغلقة وأخذ نحو الشط فإذا أبوابه مغلقة فأمر بكسر ثلاثة أبواب وخرج إلى الشط وركب في زورق فأتى منزل المعتز فسأل عنه فلم يصادفه فقال إن لله وإنا إليه راجعون قتل نفسه وقتلني.
واجتمع إلى عبيد الله أصحابه غداة يوم الأربعاء من الأبناء والعجم والأرمن والزواقيل وغيرهم فكانوا زهاء عشرة آلاف وقيل كانوا ثلاثة عشر ألفا وقيل ما بين خمسة آلاف إلى عشرة آلاف، فقالوا: ما اصطنعتنا إلا لهذا اليوم فمرنا بأمرك وأذن لنا نميل على القوم ونقتل المنتصر ومن
99

معه! فأبى ذلك وقال المعتز في أيديهم.
وذكر عن علي بن يحيى المنجم أنه قال كنت أقرأ على المتوكل قبل قتله بأيام كتابا من كتب الملاحم فوقفت على موضع فيه أن الخليفة العاشر يقتل في مجلسه فتوقفت عن قراءته فقال ما لك فقلت خير! قال: لا بد من أن تقرأه، فقرأته، وحدت عن ذكر الخلفاء، فقال: سليت شعري من هذا الشقي المقتول؟ فقال أبو الوارث قاضي نصيبين رأيت في النوم آتيا أتاني وهو يقول:
(يا نائم العين في جثمان يقظان * ما بال عينك لا تبكي بتهتان)
(أما رأيت صروف الدهر قد فعلت * بالهاشمي وبالفتح بن خاقان)
فأتى البريد بعد أيام بقتلهما.
وكان قتله ليلة الأربعاء لأربع خلون من شوال وقيل ليلة الخميس وكانت خلافته أربع عشرة سنة وعشرة أشهر وثلاثة أيام وكان مولده بفم الصلح في شوال سنة ست ومائتين وكان عمره نحو أربعين سنة وكان أسمر حسن العينين نحيفا خفيف العارضين ورثاه الشعراء فأكثروا ومما قيل فيه قول علي بن الجهم:
(عبيد أمير المؤمنين قتلنه * وأعظم آفات الملوك عبيدها)
(بني هاشم صبرا فكل مصيبة * سيبلى على وجه الزمان جديدها)
100

ذكر بعض سيرته
ذكر أن أبا الشمط مروان بن أبي الجنوب قال أنشدت المتوكل شعرا ذكرت في الرافضة فعقد لي على البحرين واليمامة وخلع علي أربع خلع وخلع على المنتصر وأمر لي المتوكل بثلاثة آلاف دينار فنثرت علي وأمر ابنه المنتصر وسعد الإيتاخي أن يلقطاها لي ففعلا والشعر الذي قلته:
(ملك الخليفة جعفر * للدين والدنيا سلامه)
(لكم تراث محمد * وبعدلكم تشفى الظلامه)
(يرجو التراث بنو البنا * ت وما لهم فيها قلامه)
(والصهر ليس بوارث * والبنت لا ترث الإمامة)
(ما للذين تنحلوا * ميراثكم إلا الندامة)
(أخذ الوراثة أهلها * فعلام لومكم علامه)
(لو كان حقكم لما * قامت على الناس القيامة)
(ليس التراث لغيركم * لا والإله ولا كرامه)
(أصبحت بين محبكم * والمبغضين لكم علامه)
ثم نثر علي بعد ذلك لشعر قلته في هذا المعنى عشرة آلاف درهم.
101

وقال يحيى بن أكثم حضرت المتوكل فجرى بيني وبينه ذكر المأمون فقلت بتفضيله وتقريظه ووصف محاسنه وعلمه ومعرفته قولا كثيرا لم يقع لموافقة من حضر فقال المتوكل كيف كان يقول في القرآن فقلت كان يقول ما مع القرآن حاجة إلى علم فرض ولا مع السنة وحشة إلى فعل أحد ولا مع البيان والإفهام حجة لتعلم ولا بعد الجحود للبرهان والحق إلا السيف لظهور الحجة.
فقال المتوكل لم أرد منك ما ذهبت إليه فقال يحيى القول المحاسن في المغيب فريضة على ذي نعمة.
قال فما كان يقول خلال حديثه فإن أمير المؤمنين المعتصم بالله رحمه الله كان يقول وقد أنسيته قال كان يقول اللهم إني أحمدك على النعم التي لا يحصيها غيرك واستغفرك من الذنوب التي لا يحيط بها إلا عفوك.
قال فما كان يقول إذا استحسن شيئا أو بشر بشيء فقد نسيناه؛ قال يحيى: كان يقول إذا ذكر آلاء الله وكثرتها وتعداد نعمه الحديث بها فرض من الله على أهلها وطاعة لأمره فيها وشكر له عليها فالحمد لله العظيم الآلاء السابغ للنعماء بما هو أهله ومستوجبه من محامده القاضية حقه البالغة شكره المانعة غيره الموجبة مزيده على ما لا يحصيه تعدادنا،
102

ولا يحيط به ذكرنا من ترادف مننه وتتابع فضله ودوام طوله حمد من يعلم أن ذلك منه والشرك له عليه فقال المتوكل صدقت، [هذا] هو الكلام بعينه.
وقدم في هذه السنة محمد بن عبد الله بن طاهر من مكة في صفر فشكا ما ناله من الغم بما وقع من الخلاف في يوم النحر فأمر المتوكل بإنفاذ خريطة من الباب إلى أهل الموسم برؤية هلال ذي الحجة وأمر أن يقاد على المشعر الحرام وسائر المشاعر الشمع مكان الزيت والنفط.
وفيها ماتت أم المتوكل في شهر ربيع الآخر وصلى عليها المنتصر ودفنت عند المسجد الجامع وكان موتها قبل المتوكل بستة أشهر.
ذكر بيعة المنتصر
قد ذكرنا قتل المتوكل ومن بايع المنتصر أبا جعفر محمد بن جعفر المتوكل تلك الليلة فلما أصبح يوم الأربعاء حضر الناس الجعفرية من القواد والكتاب والوجوه والشاكرية والجند وغيرهم فقرأ عليهم أحمد بن الخصيب كتابا يخبر فيه عن المنتصر أن الفتح بن خاقان قتل المتوكل فقتله به فبايع الناس وحضر عبيد الله بن يحيى بن خاقان فبايع وانصرف.
قيل وذكر عن أبي عثمان سعيد الصغير أنه قال لما كانت الليلة التي قتل فيها المتوكل، كنا في الدار مع المنتصر، فكان كلما خرج الفتح خرج
103

معه وإذا رجع قام لقيامه وإذا ركب أخذ بركابه وسوى عليه ثيابه في سرجه.
وكان اتصل بنا الخبر أن عبيد الله بن يحيى قد أعد قوما في طريق المنتصر ليغتالوه عند انصرافه وكان المتوكل قد أسمعه وأحفظه ووثب عليه فانصرف غضبان وانصرفنا معه إلى داره وكان واعد الأتراك على قتل المتوكل إذا ثمل من النبيذ قال فلم ألبث أن جاءني رسوله أن أحضر فقد جاءت رسل أمير المؤمنين إلى الأمير ليركب قال فوقع في نفسي ما كنا معنا من اغتيال المنتصر فركبت في سلاح وعدة وجئت باب المنتصر فإذا هم يموجون وإذا واجن قد جاءه فأخبره أنهم قد فرغوا من المتوكل فركب فلحقته في بعض الطريق وأنا مرعوب فرأى ما بي فقال ليس عليك بأس أمير المؤمنين قد شرق بقدح شربه فمات رحمه الله تعالى.
فشق علي، ومضينا ومعنا أحمد بن الخصيب وجماعة من القواد حتى دخلنا القصر ووكل بالأبواب فقلت له يا أمير المؤمنين لا ينبغي أن يفارقك مواليك في هذا الوقت قال أجل وكن أنت خلف ظهري فأحطنا به وبايعه من حضر وكل من جاء يوقف حتى جاء سعيد الكبير فأرسله خلف المؤيد وقال امض أنت إلى المعتز حتى يحضر، فأرسلني فمضيت وأنا آيس من نفسي ومعي غلامان لي فلما صرت إلى باب المعتز لم أجد به أحدا من الحرس والبوابين فصرت إلى الباب
104

الكبير، فدققته دقا عنيفا فأجبت بعد مرة من أنت فقلت رسول أمير المؤمنين المنتصر فمضى الرسول وأبطأ وخفت وضاقت علي الأرض ثم فتح الباب وخرج بيدون الخادم وأغلق الباب ثم سألني عن الخبر فأخبرته أن المتوكل شرق بكأس كان يشربه فمات من ساعته وأن الناس قد اجتمعوا وبايعوا المنتصر وقد أرسلني لأحضر الأمير المعتز ليبايع.
فدخل ثم خرج فأدخلني على المعتز فقال لي ويلك ما الخبر فأخبرته وعزيته وقلت تحضر وتكون في أول من يبايع وتأخذ بقلب أخيك فقال حتى نصبح فما زلت به أنا وبيدون حتى ركب وسرنا وأنا أحدثه فسألني عن عبيد الله بن يحيى فقلت هو يأخذ البيعة على الناس والفتح قد بايع فآيس وأتينا باب الخير ففتح لنا وصرنا إلى المنتصر فلما رآه قربه وعانقه وعزاه وأخذ البيعة عليه.
ثم وافى سعيد الكبير بالمؤيد ففعل به مثل ذلك فأصبح الناس وأمر المنتصر بدفن المتوكل والفتح.
ولما أصبح الناس شاع الخبر في الماخورة وهي المدينة التي بناها المتوكل وفي أهل سامرا بقتل المتوكل فتوافى الجند والشاكرية بباب العامة وبالجعفرية وغيرهم من الغوغاء والعامة وكثر الناس وتسامعوا وركب بعضهم بعضا وتكلموا في أمر البيعة فخرج إليهم عتاب بن عتاب وقيل زرافة فوعدهم عن أمير المؤمنين المنتصر فأسمعوه فدخل عليه فأعلمه فخرج المنتصر وبين يديه جماعة من المغاربة فصاح بهم وقال خذوهم فدفعوهم إلى الأبواب فازدحم الناس وركب بعضهم بعضا فتفرقوا وقد مات منهم ستة أنفس.
105

ذكر ولاية خفاجة بن سفيان صقلية
وابنه محمد وغزواتهما
قد ذكرنا سنة ست وثلاثين ومائتين أن أمير صقلية العباس توفي سنة سبع وأربعين فلما توفي ولى الناس عليهم ابنه عبد الله بن العباس وكتبوا إلى الأمير بإفريقية بذلك وأخرج عبد الله السرايا ففتح قلاعا متعددة منها جبل أبي مالك وقلعة الأرمنين وقلعة المشارعة فبقي كذلك خمسة أشهر.
ووصل من إفريقية خفاجة بن سفيان أميرا على صقلية فوصل في جمادى الأولى سنة ثمان وأربعين ومائتين فأول سرية أخرجها سرية فيها ولده محمود فقصد سرقوسة فغنم وخرب وأحرق وخرجوا إليه فقاتلهم فظفر وعاد فاستأمن إليه أهل رغوس.
وقد جاء سنة اثنتين وخمسين أن أهل رغوس استأمنوا فيها على ما نذكره ولا نعلم أهذا اختلاف من المؤرخين أم هما غزاتان ويكون أهلها قد غدروا بعد هذه الدفعة والله أعلم.
وفي سنة خمسين ومائتين فتحت مدينة نوطس وسبب ذلك أن بعض أهلها أخبر المسلمين بموضع دخلوا منه إلى البلد في المحرم فغنموا منها أموالا
106

جليلة ثم فتحوا شكلة بعد حصار.
وفي سنة اثنتين وخمسين ومائتين سار خفاجة إلى سرقوسة ثم إلى جبل النار، فأتها رسل أهل طبرمين يطلبون الأمان فأرسل إليهم امرأته وولده في ذلك فتم الأمر ثم غدروا فأرسل خفاجة محمدا في جيش إليها ففتحها وسبى أهلها.
وفيها أيضا سار خفاجة إلى رغوس فطلب أهلها الأمان ليطلق رجل من أهلها بأموالهم ودوابهم ويغنم الباقي ففعل وأخذ جميع ما في الحصن من مال ورقيق ودواب وغير ذلك وهادنه أهل الغيران وغيرهم وافتتح حصونا كثيرة ثم مرض فعاد إلى بلرم.
وفي سنة ثلاث وخمسين ومائتين سار خفاجة من بلرم إلى مدينة سرقوسة وقطانية وخرب بلادها وأهلك زروعها وعاد وسارت سراياه إلى أرض صقلية فغنموا غنائم كثيرة.
وفي سنة أربع وخمسين ومائتين سار خفاجة في العشرين من ربيع الأول وسير ابنه محمدا على الحراقات وسير سرية إلى سرقوسة فغنموا وأتاهم الخبر أن بطريقا قد سار من القسطنطينية في جمع كثير فوصل إلى صقلية فلقيه جمع من المسلمين فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزم الروم وقتل منهم خلق كثير وغنم المسلمون منهم غنائم كثيرة ورحل خفاجة إلى سرقوسة فأفسد زرعها وغنم منها وعاد إلى بلرم وسير ابنه محمدا في البحر مستهل رجب إلى مدينة غيطة، فحصرها، وبث العساكر في نواحيها، فغنم
107

وشحن مراكبه بالغنائم وانصرف إلى بلرم في شوال.
وفي سنة خمس وخمسين ومائتين سير خفاجة ابنه محمدا إلى مدينة طبرمين وهي من أحسن مدن صقلية فسار في صفر إليهما وكان قد أتاهم من وعدهم أن يدخلهم إليها من طريق يعرفه فسيره مع ولده فلما قربوا منها تأخر محمد وتقدم بعض عسكره رجالة مع الدليل فأدخلهم المدينة وملكوا بابها وسورها وشرعوا في السبي والغنائم وتأخر محمد بن خفاجة فيمن معه من العسكر عن الوقت الذي وعدهم أنه يأتيهم فيه فلما تأخر عنهم ظنوا أن العدو قد أوقع بهم فمنعهم من السبي فخرجوا عنها منهزمين ووصل محمد إلى باب المدينة ومن معه من العسكر فرأى المسلمين قد خرجوا منها فعاد راجعا.
وفيها في ربيع الأول خرج خفاجة وسار إلى مرسة وسير ابنه في جماعة كثيرة إلى سرقوسة فلقيه العدو في جمع كثير فاقتتلوا فوهن المسلمون وقتل منهم ورجعوا إلى خفاجة فسار إلى سرقوسة فحصرها وأقام عليها وضيق على أهلها وأفسد بلادها وأهلك زرعهم وعاد عنها يريد بلرم فنزل بوادي الطين وسار منه ليلا فاغتاله رجل من عسكره فطعنه طعنة فقتله وذلك مستهل رجب وهرب الذي قتله إلى سرقوسة وحمل خفاجة إلى بلرم فدفن بها وولى الناس عليهم بعده ابنه محمدا وكتبوا بذلك إلى الأمير محمد بن أحمد أمير إفريقية فأقره على الولاية وسير له العهد والخلع.
108

ذكر ولاية ابنه محمد
لما قتل خفاجة استعمل الناس ابنه محمدا وأقره محمد بن الأغلب أحمد بن الأغلب صاحب القيروان على ولايته فسير جيشا في سنة ست وخمسين ومائتين إلى مالطة وكان الروم يحاصرونها فلما سمع الروم بمسيرهم رحلوا عنها.
وفي سنة سبع وخمسين ومائتين في رجب قتل الأمير محمد قتله خدمه الخصيان وهربوا فطلبهم الناس فأدركوهم فقتلوهم.
ذكر عدة حوادث
وفي ولى المنتصر أبا عمرة أحمد بن سعيد مولى بني هاشم بعد البيعة له بيوم المظالم فقال الشاعر:
(يا ضيعة الإسلام لما ولي * مظالم الناس أبو عمره)
(صير مأمونا على أمة * وليس مأمونا على بعره)
وحج بالناس محمد بن سليمان الزينبي واستعمل على دمشق عيسى بن محمد النوشري.
وفيها سار جيش للمسلمين بالأندلس إلى مدينة برشلونة وهي للفرنج،
109

فأوقعوا بأهلها، فراسل صاحبها ملك الفرنج يستمده فأرسل إليه جيشا كثيفا وأرسل المسلمون يستمدون فأتاهم المدد فنازلوا برشلونة وقاتلوا قتالا شديدا فملكوا أرباضها
وبرجين من أبراج المدينة فقتل من المشركين خلق كثير وسلم المسلمون وعادوا وقد غنموا.
وفيها توفي أبو عثمان بكر بن محمد المازني النحوي الإمام في العربية.
110

248
ثم دخلت سنة ثمان وأربعين ومائتين
ذكر غزاة وصيف الروم
في هذه السنة أغزى المنتصر وصيفا التركي إلى بلاد الروم؛ وكان سبب ذلك أنه كان بينه وبين أحمد بن الخصيبي شحناء وتباغض فحرض أحمد بن الخصيب المنتصر على وصيف وأشار عليه بإخراجه من عسكره للغزاة فأمر المنتصر بإحضار وصيف فلما حضر قال له قد أتانا طاغية الروم أنه أقبل يريد الثغر وهذا أمر لا يمكن الإمساك عنه ولست آمنه أن يهلك كل ما مر به من بلاد الإسلام ويقتل ويسبي فإما شخصت أنت وإما شخصت أنا.
فقال بل أشخص أنا يا أمير المؤمنين فقال لأحمد بن الخصيب انظر إلى ما يحتاج إليه وصيف فأتمه له فقال نعم يا أمير المؤمنين قال ما نعم قم الساعة وقال لوصيف مر كاتبك أن يوافقه على ما يحتاج إليه ويلزمه حتى يفرغ منه. فقاما.
ولم يزل أحمد بن الخصيب في جهازه حتى خرج وانتخب له الرجال فكان معه اثنا عشر ألف رجل وكان على مقدمته مزاحم بن خاقان أخو الفتح وكتب المنتصر إلى محمد بن عبد الله بن طاهر ببغداد يعلمه ذلك، ويأمره
111

أن ينتدب الناس إلى الغزاة ويرغبهم فيها وأمر وصيفا أن يوافي ثغر ملطية وجعل على نفقات العسكر والمغانم والمقام أبا الوليد الحريري البجلي ولما سار وصيف كتب إليه المنتصر يأمره بالمقام بالثغر أربع سنين يغزو في أوقات الغزو منها إلى أن يأتيه رأيه.
ذكر خلع المعتز والمؤيد
وفي هذه السنة خلع المعتز والمؤيد ابنا المتوكل من ولاية العهد؛ وكان سبب خلعهما أن المنتصر لما استقامت له الأمور قال أحمد بن الخصيب لوصيف وبغا إنا لا نأمن الحدثان وأن يموت أمير المؤمنين فيلي المعتز الخلافة فيبيد خضراءنا ولا يبقي منا باقية والآن الرأي أن نعمل في خلع المعتز والمؤيد.
فجد الأتراك في ذلك وألحوا على المنتصر وقالوا نخلعهما من الخلافة ونبايع لابنك عبد الوهاب فلم يزالوا به حتى أجابهم وأحضر المعتز والمؤيد بعد أربعين يوما من خلافته وجعلا في دار فقال المعتز للمؤيد يا أخي قد أحضرنا للخلع فقال لا أظنه يفعل ذلك.
فبينما هما كذلك إذ جاءت الرسل بالخلع فقال المؤيد السمع والطاعة وقال المعتز ما كنت لأفعل فإن أردتم القتل فشأنكم فأعلموا المنتصر ثم عادوا بغلظة وشدة وأخذوا المعتز بعنف وأدخلوه بيتا وأغلقوا عليه الباب فلما رأى المؤيد ذلك قال لهم بجرأة واستطالة ما هذا يا كلاب قد ضريتم على دمائنا تثبون على مولاكم هذا الوثوب دعوني وإياه حتى أكلمه
112

فسكتوا عنه وأذنوا له في الاجتماع به بعد إذن من المنتصر بذلك.
فدخل عليه المؤيد وقال يا جاهل تراهم نالوا من أبيك وهو هو ما نالوا ثم تمنع عليهم اخلع ويلك لا تراجعهم فقال وكيف أخلع وقد جرى في الآفاق؟ فقال: هذا الأمر قتل أباك وهو يقتلك وإن كان في سابق علم الله أن تلي لتلين فقال: أفعل.
فخرج المؤيد وقال قد أجاب إلى الخلع فمضوا وأعلموا المنتصر وعادوا فشكروه ومعهم كاتب فجلس وقال للمعتز اكتب بخطك خلعك فامتنع فقال المؤيد للكاتب هات قرطاسك أملل علي ما شئت فأملى عليه كتابا إلى المنتصر يعلمه فيه ضعفه عن هذا الأمر وأن لا يحل له أن يتقلده وكره أن يأثم المتوكل بسببه إذ لم يكن موضعا له ويسأله الخلع ويعلمه أنه قد خلع نفسه وأحل الناس من بيعته فكتب ذلك وقال للمعتز اكتب فأبى فقال اكتب ويلك! [فكتب] وخرج الكاتب عنهما، ثم دعاهما المنتصر فدخلا عليه فأجلسهما وقال هذا كتابكما فقالا نعم يا أمير المؤمنين فقال لهما والأتراك وقوف أتراني خلعتكما طمعا في أن أعيش حتى يكبر ولدي وأبايع له والله ما طمعت في ذلك ساعة قط وإذ لم يكن [لي] في ذلك طمع فوالله لأن يليها بنو أبي أحب إلي من أن يليها بنو عمي ولكن هؤلاء وأومأ إلى سائر الموالي ممن هو قائم عنده وقاعد ألحوا علي في خلعكما فخفت إن لم أفعل أن يعترضكما بعضهم بحديدة فيأتي عليكما فما ترياني صانعا [إذن]؟ أقتله! فوالله ما تفي دماؤهم
113

كلهم بدم بعضكم فكانت إجابتهم إلى ما سألوا أسهل علي.
فقبلا يده وضمهما ثم إنهما أشهدا أنفسهما القضاة وبني هاشم والقواد ووجوه الناس وغيرهم بالخلع وكتب بذلك المنتصر إلى محمد بن عبد الله بن طاهر وإلى غيره.
ذكر موت المنتصر
في هذه السنة توفي المنتصر في يوم الأحد لخمس خلون من ربيع الآخر وقيل يوم السبت وكنيته أبو جعفر بن المتوكل على الله وقيل كنيته أبو العباس وقيل أبو عبد الله.
وكانت علته الذبحة في حلقة أخذته يوم الخميس لخمس بقين من شهر ربيع الأول وقيل كانت علته من ورم في معدته ثم صعد إلى فؤاده فمات وكانت علته ثلاثة أيام.
وقيل إنه وجد حرارة فدعا بعض أطبائه ففصده بمبضع مسموم فمات منه وانصرف إلى منزله وقد وجد حرارة فدعا تلميذا ليفصده ففصده ووضع مباضعه بين يديه ليستخير أجودها فاختار ذلك المبضع المسموم وقد نسيه الطبيب ففصده به فلما فرغ نظر إليه فعرفه فأيقن بالهلاك ووصى من ساعته.
وقيل إنه كان وجد في رأسه علة فقطر ابن الطيفوري في أذنه دهنا فورم رأسه فمات.
114

وقيل بل سمه ابن الفيطوري في محاجمه فمات.
وقيل كان كثير من الناس حين أفضت الخلافة إليه إلى أن مات يقولون إنما مدة حياته ستة أشهر مدة شيرويه بن كسرى قاتل أبيه يقوله الخاصة والعامة.
وقيل إن المنتصر كان نائما في بعض الأيام فانتبه وهو يبكي وينتحب فسمعه عبد الله بن عمر البازيار فأتاه فسأله عن سبب بكائه فقال كنت نائما فرأيت فيما يرى النائم كأن المتوكل قد جاءني فقال ويحك يا محمد قتلتني وظلمتني وغبنتني خلافتي والله لا متعت بها بعدي إلا أياما يسيرة ثم مصيرك إلى النار فقال عبد الله هذه رؤيا وهي تصدق وتكذب بل يعمرك الله ويسرك ادع بالنبيذ وخذ في اللهو لا تعبأ بها ففعل ذلك ولم يزل منكسرا إلى أن توفي.
قال بعضهم وذكر أن المنتصر كان شاور في قتل أبيه جماعة من الفقهاء وأعلمهم بمذاهبه وحكى عنه أمورا قبيحة كرهت ذكرها فأشاروا بقتله فكان كما ذكرنا بعضه.
وكان عمره خمسا وعشرين سنة وستة أشهر وقيل أربعا وعشرين وكانت خلافته ستة أشهر ويومين وقيل كانت ستة أشهر سواء وكانت وفاته بسامرا فما حضرته الوفاة أنشد:
(وما فرحت نفسي بدنيا أخذتها * ولكن إلى الرب الكريم أصير)
وصلى عليه أحمد بن محمد المعتصم بسامرا وبها كان مولده وكان أعين أقنى قصيرا مهيبا وهو أول خليفة من بني العباس عرف قبره وذلك أن أمه طلبت إظهار قبره وكانت أمه أم ولد رومية.
115

ذكر بعض سيرته
كان المنتصر عظيم الحلم راجح العقل غزير المعروف راغبا في الخير جوادا كثير الإنصاف حسن العشرة وأمر الناس بزيارة قبر علي والحسين عليهما السلام وآمن العلويين وكانوا خائفين أيام أبيه وأطلق وقوفهم وأمر برد فدك إلى ولد الحسين والحسن ابني علي بن أبي طالب عليه السلام.
وذكر أن المنتصر لما ولي الخلافة كان أول ما أحدث أن عزل صالح بن علي عن المدينة واستعمل عليها علي بن الحسن بن إسماعيل بن العباس ابن محمد.
قال علي: فلما دخلت أودعه قال لي يا علي إني أوجهك إلى لحمي ودمي ومد ساعده وقال: إلى هذا أوجه بك فانظر كيف تكون للقوم وكيف تعاملهم يعني إلى آل أبي طالب فقال أرجو أن أمتثل أمر أمير المؤمنين إن شاء الله تعالى، فقال إذا تسعد عندي.
ومن كلامه والله ما عز ذو باطل ولو طلع القمر من جبينه ولا ذل ذو حق ولو اتفق العالم عليه.
116

ذكر خلافة المستعين
وفي هذه السنة بويع أحمد بن محمد بن المعتصم بالخلافة وكان سبب ذلك أن المنتصر لما توفي اجتمع الموالي على الهارونية من الغد وفيها بغا الكبير وبغا الصغير وأتامش وغيرهم فاستحلفوا قود الأتراك والمغاربة والأشروسنية على أن يرضوا بمن رضي به بغا الكبير وبغا الصغير وأتامش وذلك بتدبير أحمد بن الخصيب فحلفوا وتشاوروا وكرهوا أن يتولى الخلافة أحد من ولد المتوكل لئلا يغتالهم وأجمعوا على أحمد بن محمد بن المعتصم وقالوا لا تخرج الخلافة من ولد مولانا المعتصم فبايعوه ليلة الاثنين لست خلون من ربيع الآخر وهو ابن ثمان وعشرين سنة ويكنى أبا العباس فاستكتب أحمد بن الخصيب واستوزر أتامش.
فلما كان يوم الاثنين سار المستعين إلى دار العامة في زي الخلافة وحمل إبراهيم بن إسحاق بين يديه الحربة وصف واجن الأشروسني أصحابه صفين وقام هو وعدة من وجوه أصحابه وحضر الدار أصحاب المراتب من العباسيين والطالبيين وغيرهم.
فبيناهم كذلك إذ جاءت صيحة من ناحية الشارع والسوق وإذا نحو من خمسين فارسا ذكروا أنهم من أصحاب محمد بن عبد الله بن طاهر ومعهم غيرهم من أخلاط الناس والغوغاء والسوقة فشهروا السلاح وصاحوا نفير يا منصور وشدوا على أصحاب الأشروسني فتضعضعوا وانضم بعضهم إلى بعض وتحرك من على باب العامة من المبيضة والشاكرية،
117

وكثروا، فحمل عليهم المغاربة وبعض الأشروسنية فهزموهم حتى أدخلوهم درب زرافة ثم نشبت الحرب بينهم فقتل جماعة وانصرف الأتراك بعد ثلاث ساعات وقد بايعوا المستعين هم ومن حضر من الهاشميين وغيرهم.
ودخل الغوغاء والمنتهبة دار العامة فانتهبوا الخزانة التي فيها السلاح والدروع والجواشن والسيوف والتروس وغير ذلك وكان الذين نهبوا ذلك الغوغاء وأصحاب الحمامات وغلمان أصحاب الباقلا وأصحاب الفقاع فأتاهم بغا الكبير في جماعة فأجلوهم عن الخزانة وقتلوا منهم عدة وكثر القتل من الفريقين وتحرك أهل السجن بسامرا وهرب منهم جماعة ثم وضع العطاء على البيعة وبعث بكتاب البيعة إلى محمد بن عبد الله بن طاهر فبايع له هو والناس ببغداد.
ذكر ابن مسكويه في كتاب تجارب الأمم أن المستعين أخو المتوكل لأبيه وليس كذلك إنما هو ولد أخيه محمد بن المعتصم والله أعلم.
ذكر عدة حوادث
وفيها ورد على المستعين وفاة طاهر بن عبد الله بن طاهر بخراسان في رجب فعقد المستعين لابنه محمد بن طاهر على خراسان ولمحمد بن عبد الله بن طاهر على العراق وجعل إليه الحرمين والشرطة ومعاون السواد وأفرده به.
وفيها مات بغا الكبير فعقد لابنه موسى على أعمال أبيه كلها وولي ديوان البريد.
118

وفيها وجه أنوجور التركي إلى أبي العمود الثعلبي فقتله بكفرتوثى لخمس بقين من ربيع الآخر.
وفيها خرج عبيد الله بن يحيى بن خاقان إلى الحج فوجه خلفه رسول ينفيه إلى برقة ويمنعه من الحج.
وفيها ابتاع المستعين من المعتز والمؤيد جميع مالهما وأشهدا عليهما القضاة والفقهاء وكان الشراء باسم الحسن بن المخلد للمستعين وترك للمعتز ما يتحصل منه في السنة عشرون ألف دينار وللمؤيد ما يتحصل منه في السنة خمسة آلاف دينار وجعلا في حجرة في الجوسق ووكل بهما وكان الأتراك حين شغب الغوغاء أرادوا قتلهما فمنعهم أحمد بن الخصيب وقال لا ذنب لهما ولكن احبسوهما فحبسوهما.
وفيها غضب الموالي على أحمد بن الخصيب في جمادى الآخرة واستصفى ماله ومال ولده ونفي إلى أقريطش.
وفيها صرف علي بن يحيى الأرمني عن الثغور الشامية وعقد له على أرمينية وأذربيجان في شهر رمضان.
وفيها شغب أهل حمص على كيدر عاملهم فأخرجوه فوجه إليهم المستعين الفضل بن قارن فأخذهم فقتل منهم خلقا كثيرا وحمل منهم مائة من أعيانهم إلى سامرا.
وفيها غزا الصائفة وصيف وكان مقيما بالثغر الشامي فدخل بلاد الروم فافتتح حصن فرورية.
وفيها عقد المستعين لأتامش على مصر والمغرب واتخذه وزيرا.
119

وفيها عقد لبغا الشرابي على حلوان وما سبذان ومهرجانقذق، وجعل المستعين شاهك الخادم على داره وكراعه، وحرمه، حراسه، وخاص أموره وقدمه وأتامش على جميع الناس.
وحج بالناس هذه السنة محمد بن سليمان الزينبي.
وفيها حكم محمد بن عمرو أيام المنتصر وخرج بناحية الموصل خارجي فوجه إليه المنتصر إسحاق بن ثابت الفرغاني فأسره مع عدة من أصحابه فقتلوا وصلبوا.
وفيها تحرك يعقوب بن الليث الصفار من سجستان نحو هراة.
وفيها توفي عبد الرحمن بن عدويه أبو محمد الرافعي الزاهد وكان مستجاب الدعوة وهو من أهل إفريقية.
وفيها سارت سرية في الأندلس إلى ذي تروجة وكان المشركون قد تطاولوا إلى ذلك الجانب فلقيتهم السرية فأصابوا من المشركين وقتلوا كثيرا منهم.
وفيها كان بصقلية سرايا للمسلمين فغنمت وعادت ولم يكن حرب بينهم تذكر.
وفيها توفي أبو كريب محمد بن العلاء الكوفي في جمادى الآخرة وكان من مشايخ البخاري ومسلم ومحمد بن حميد الرازي المحدث.
120

249
ثم دخلت سنة تسع وأربعين ومائتين
ذكر غزو الروم وقتل علي بن يحيى الأرمني
في هذه السنة غزا جعفر بن دينار الصائفة فافتتح حصنا ومطامير واستأذنه عمر بن عبيد الله الأقطع في المسير إلى بلاد الروم فأذن له فسار في خلق كثير من أهل ملطية فلقيه الملك في جمع عظيم من الروم بمرج الأسقف فحاربه محاربة شديدة قتل فيها من الفريقين خلق كثير.
ثم أحاطت به الروم وهم خمسون ألفا وقتل عمر وممن معه ألفان من المسلمين في منتصف رجب فلما قتل عمر بن عبيد الله خرج الروم إلى الثغور الجزرية وكلبوا عليها وعلى أموال المسلمين وحرمهم فبلغ ذلك علي بن يحيى وهو قافل من أرمينية إلى ميافارقين في جماعة من أهلها ومن أهل السلسلة فنفر إليهم فقتل في نحو من أربعمائة رجل وذلك في شهر رمضان.
ذكر الفتنة ببغداد
وفيها شغب الجند والشاكرية ببغداد؛ وكان سبب ذلك أن الخبر لما اتصل بهم وبسامرا وما قرب منها بقتل عمر بن عبيد الله وعلي بن يحيى وكانا من
121

شجعان الإسلام شديدا بأسهما عظيما عناؤهما عن المسلمين في الثغور شق ذلك عليهم مع قرب مقتل أحدهما من الآخر وما لحقهم من استعظامهم قتل الأتراك للمتوكل واستيلائهم على أمور المسلمين يقتلون من يريدون من الخلفاء ويستخلفون من أحبوا من غير ديانة ولا نظر للمسلمين.
فاجتمعت العامة ببغداد بالصراخ والنداء بالنفير وانضم إليهم الأبناء والشاكرية تظهر أنها تطلب الأرزاق وكان ذلك أو صفر ففتحوا السجون وأخرجوا من فيها وأحرقوا أحد الجسرين وقطعوا الآخر وانتهبوا دار بشر وإبراهيم ابني هارون كاتبي محمد بن عبد الله ثم أخرج أهل اليسار من بغداد أموالا كثيرة ففرقوها فيمن نهض إلى الثغور وأقبلت العامة من نواحي الجبال وفارس والأهواز وغيرها لغزو الروم فلم يأمر الخليفة في ذلك بشيء ولا يوجه عسكره.
ذكر الفتنة بسامرا
وفيها في ربيع الأول وثب نفر من الناس لا يدرى من هم بسامرا ففتحوا السجن وأخرجوا من فيه فبعث في طلبهم جماعة من الموالي فوثب العامة بهم فهزموهم فركب بغا وأتامش ووصيف وعامة الأتراك فقتلوا من
122

العامة جماعة، فرمي وصيف بحجر، فأمر بإحراق ذلك المكان وانتهب المغاربة ثم سكن ذلك آخر النهار.
ذكر مقتل أتامش
في هذه السنة قتل أتامش وكاتبه شجاع؛ وكان سبب ذلك أن المستعين أطلق يد والدته ويد أتامش وشاهك الخادم في بيوت الأموال وأباحهم فعل ما أرادوا فكانت الأموال
التي ترد من الآفاق يصير معظمها إلى هؤلاء الثلاثة أخذ أتامش أكثر ما في بيوت الأموال وكان في حجره العباس بن المستعين وكان ما فضل من هؤلاء الثلاثة أخذه أتامش للعباس فصرفه في نفقاته وكانت الموالي تنظر إلى الأموال تؤخذ وهم في ضيقة ووصيف وبغا بمعزل من ذلك فأغريا الموالي بأتامش وأحكما أمره فاجتمعت الأتراك والفراغنة عليه وخرج إليه منهم أهل الدور والكرخ فسكروا في ربيع الآخر وزحفوا إليه وهو في الجوسق مع المستعين وبلغه الخبر فأراد الهرب فلم يمكنه واستجار بالمستعين فلم يجره فأقاموا على ذلك يومين ثم دخلوا الجوسق وأخذوا أتامش فقتلوه وقتلوا كاتبه شجاعا ونهبت دور أتامش فأخذوا منه أموالا جمة وغير ذلك.
فلما قتل استوزر المستعين أبا صالح عبد الله بن محمد بن يزداد وعزل
123

الفضل بن مروان عن ديوان الخراج وولاه عيسى بن فرخانشاه وولى وصيف الأهواز وبغا الصغير فلسطين ثم غضب بغا الصغير على أبي صالح فهرب إلى بغداد فاستوزر المستعين محمد بن الفضل الجرجرائي فجعل على ديوان الرسائل سعيد بن حميد فقال الحمدوني:
(لبس السيف سعيدا بعدما * كان ذا طمرين لا يؤبه له)
(إن لله لآيات وذا * آية لله فينا منزله)
ذكر عدة حوادث
فيها قتل علي بن الجهم بن بدر الشاعر بقرب حلب كان توجه إلى الثغر فلقيه خيل لكلب فقتلوه وأخذوا ما معه فقال وهو في السياق:
(أزيد في الليل ليل * أم سال في الصبح سيل)
(ذكرت أهل دجيل * وأين مني دجيل)
وكان منزله بشارع دجيل.
وفيها عزل جعفر بن عبد الواحد عن القضاء ووليه جعفر بن محمد بن عثمان البرجمي الكوفي وقيل كان ذلك سنة خمسين ومائتين.
وفيها أصاب أهل الري زلزلة شديدة ورجفة هدمت [منها] الدور، ومات خلق من أهلها وهرب الباقون فنزلوا ظاهر المدينة وحج بالناس هذه
124

السنة عبد الصمد بن موسى بن محمد بن إبراهيم الإمام وهو والي مكة.
وفيها سير محمد صاحب الأندلس جيشا مع ابنه إلى مدينة ألية والقلاع من بلد الفرنج فجالت الخيل في ذلك الثغر وغنمت وافتتحت بها حصونا منيعة.
وفيها توفي أبو إبراهيم أحمد بن محمد بن الأغلب صاحب إفريقية ثالث عشر ذي القعدة فلما مات ولي أخوه زيادة الله بن محمد بن الأغلب فلما ولي زيادة الله أرسل إلى خفاجة بن سفيان أمير صقلية يعرفه موت أخيه وأمره أن يقيم على ولايته.
125

250
ثم دخلت سنة خمسين ومائتين
ذكر ظهور يحيى بن عمر الطالبي ومقتله
في هذه السنة ظهر يحيى بن عمر بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب المكنى بأبي الحسين عليه السلام بالكوفة وكانت أمه فاطمة بنت الحسين بن عبد الله بن إسماعيل بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، رضي الله عنهم.
وكان سبب ذلك أن أبا الحسين نالته ضيقة ولزمه دين ضاق به ذرعا فلقي عمر بن فرج وهو يتولى أمر الطالبيين عند مقدمه من خراسان أيام المتوكل فكلمه في صلته فأغلظ له عمر القول وحبسه فلم يزل محبوسا حتى كفله أهله فأطلق فسار إلى بغداد فأقام بها بحال سيئة ثم رجع إلى سامرا فلقي وصيفا في رزق يجرى له فأغلظ له وصيف وقال لأي شيء يجرى على مثلك؟
فانصرف عنه إلى الكوفة وبها أيوب بن الحسن بن موسى بن جعفر بن سليمان الهاشمي عامل محمد بن عبد الله بن طاهر فجمع أبو الحسين جمعا كثيرا من الأعراب وأهل الكوفة وأتى الفلوجة فكتب صاحب البريد
126

بخبره إلى محمد بن عبد الله بن طاهر فكتب محمد إلى أيوب وعبد الله بن محمود السرخسي عامله على معاون السواد يأمرهما بالاجتماع على محاربة يحيى بن عمر فمضى يحيى بن عمر إلى بيت مال الكوفة يأخذ الذي فيه وكان فيما قيل ألفي دينار وسبعين ألف درهم وأظهر أمره بالكوفة وفتح السجون وأخرج من فيها وأخرج العمال عنها فلقيه عبد الله بن محمود السرخسي فيمن معه فضربه يحيى بن عمر ضربة على وجهه أثخنه بها فانهزم عبد الله وأخذ أصحاب يحيى ما كان معهم من الدواب والمال.
وخرج يحيى إلى سواد الكوفة وتبعه جماعة من الزيدية وجماعة من أهل تلك النواحي إلى ظهر واسط وأقام بالبستان فكثر جمعه فوجه محمد بن عبد الله إلى محاربته الحسين بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسين بن مصعب في جمع من أهل النجدة والقوة فسار إليه فنزل في وجهه لم يقدم عليه فسار يحيى والحسين في أثره حتى نزل الكوفة ولقيه عبد الرحمن بن الخطاب المعروف بوجه الفلس قبل دخولها فقاتله وانهزم عبد الرحمن إلى ناحية شاهي ووافاه الحسين فنزلا بشاهي.
واجتمعت الزيدية إلى يحيى بن عمر ودعا بالكوفة إلى الرضا من آل محمد فاجتمع الناس إليه وأحبوه وتولاه العامة من أهل بغداد ولا يعلم أنهم تولوا أحدا من بيته سواه وبايعه جماعة من أهل الكوفة ممن له تدبير وبصيرة في تشيعهم ودخل فيهم أخلاط لا ديانة لهم.
وأقام الحسين بن إسماعيل بشاهي واستراح واتصلت بهم الأمداد،
127

وأقام يحيى بالكوفة يعد العدد ويصلح السلاح فأشار عليه جماعة من الزيدية ممن لا علم لهم بالحرب بمعاجلة الحسين بن إسماعيل وأحلوا عليه فزحف إليه ليلة الاثنين لثلاث عشرة خلت من رجب ومعه الهيصم العجلي وغيره ورجالة من أهل الكوفة ليس لهم علم ولا شجاعة وأسروا ليلتهم وصبحوا حسينا وهو مستريح فثاروا بهم في الغلس وحمل عليهم أصحاب الحسين فانهزموا ووضعوا فيهم السيف وكان أول أسير الهيصم العجلي وانهزم رجالة أهل الكوفة وأكثرهم بغير سلاح فداستهم الخيل.
وانكشف العسكر عن يحيى بن عمر وعليه جوشن قد تقطر به فرسه فوقف عليه ابن لخالد بن عمران فقال له خير فلم يعرفه وظنه رجلا من أهل خراسان لما رأى عليه الجوشن فأمر جلا فنزل إليه فأخذ رأسه وعرفه رجل كان معه وسير الرأس إلى محمد بن عبد الله بن طاهر وادعى قتله غير واحد فسير محمد الرأس إلى المستعين فنصب بسامرا لحظة ثم حطه ورده إلى بغداد لينصب بها فلم يقدر محمد على ذلك لكثر من اجتمع من الناس فخاف أن يأخذوه فلم ينصبه وجعله في صندوق في بيت السلاح.
ووجه الحسين بن إسماعيل برؤوس من قتل وبالأسرى فحبسوا ببغداد وكتب محمد بن عبد الله يسأل العفو عنهم فأمر بتخليتهم وأن تدفن الرؤوس ولا تنصب ففعل ذلك.
128

ولما وصل الخبر بقتل يحيى جلس محمد بن عبد الله يهنأ بذلك فدخل عليه داود بن الهيثم أبو هاشم الجعفري فقال أيها الأمير إنك لتهنأ بقتل رجل لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حيا لعزي به فما رد عليه محمد شيئا فخرج داود وهو يقول:
(يا بني طاهر كلوه وبيا * إن لحم النبي غير مري)
(إن وترا يكون طالبه الل‍ * ه لوتر نجاحه بالحري)
وأكثر الشعراء مراثي يحيى لما كان عليه من حسن السيرة والديانة فمن ذلك قول بعضهم:
(بكت الخيل شجوها بعد يحيى * وبكاه المهند المصقول)
(وبكته العراق شرقا وغربا * وبكاه الكتاب والتنزيل)
(والمصلى والبيت والركن والحج * ر جميعا له عليه عويل)
(كيف لم تسقط السماء علينا * يوم قالوا أبو الحسين قتيل)
(وبنات النبي تبدين شجوا * موجعات دموعهن همول)
(قطعت وجهه سيوف الأعادي * بأبي وجهه الوسيم الجميل)
(إن يحيى أبقى بقلبي غليلا * سوف يؤذي بالجسم ذلك الغليل)
129

(قتله مذكر لقتل علي * وحسين ويم أودى الرسول)
(صلوات الإله وقفا عليهم * ما بكى موجع وحن ثكول)
ذكر ظهور الحسن بن زيد العلوي
وفيها ظهر الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن زيد بن الحسن بن الحسين علي بن أبي طالب عليه السلام بطبرستان.
وكان سبب ظهوره أن محمد بن عبد الله بن طاهر لما ظفر بيحيى بن عمر أقطعه المستعين من ضواحي السلطان بطبرستان قطائع منها قطيعة قرب ثغر الديلم وهما كلار وشالوس وكان بحذائهما أرض تحتطب منها أهل تلك الناحية وترعى فيها مواشيهم ليس لأحد عليها ملك إنما هي موات وهي ذات غياض، وأشجار، وكلأ، فوجه محمد بن عبد الله نائبه لحيازة ما أقطع واسمه جابر بن هارون النصراني وعامل طبرستان يومئذ سليمان بن عبد الله بن طاهر بن عبد الله بن طاهر خليفة محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر وكان الغالب على أمر سليمان محمد بن أوس البلخي وقد فرق محمد هذا أولاده في مدن طبرستان وهم أحداث سفهاء فتأذى بهم الرعية
130

وشكوا منهم، ومن أبيهم ومن سليمان سوء السيرة.
ثم إن محمد بن أوس دخل بلاد الديلم وهم مسالمون لأهل طبرستان فسبى منهم وقتل فساء ذلك أهل طبرستان فلما قدم جابر بن هارون لحيازة ما أقطعه محمد بن عبد الله عمد فحاز فيه ما اتصل به من أرض موات يرتفق بها الناس وفيما حاز كلار وشالوس.
وكان في تلك الناحية يومئذ أخوان لهما بأس ونجدة يضبطانها ممن رامها من الديلم مذكور أن بإطعام الطعام وبالإفضال يقال لأحدهما محمد وللآخر جعفر وهما ابنا رستم فأنكرا ما فعل جابر من حيازة الموات وكان مطاعين في تلك الناحية فاستنهضا من أطاعهما لمنع جابر من حيازة ذلك الموات فخافهما جابر فهرب منهما فلحق بسليمان بن عبد الله وخاف محمد وجعفر ومن معهما من عامل طبرستان فراسلوا جيرانهم من الديلم يذكرونهم العهد الذي بينهم ويعتذرون فيما فعله محمد بن أوس بهم من السبي والقتل فاتفقوا على المعاونة والمساعدة على حرب سليمان بن عبد الله وغيره.
ثم أرسل ابنا رستم [ومن وافقهما] إلى رجل من الطالبيين اسمه محمد بن إبراهيم كان بطبرستان يدعونه إلى البيعة له فامتنع عليهم وقال لكني أدلكم على رجل منا هو أقوم بهذا الأمر مني فدلهم على الحسن بن زيد، وهو
131

بالري، فوجهوا إليه عن رسالة محمد بن إبراهيم يدعوه إلى طبرستان فشخص إليها فأتاهم وقد صارت كلمة الديلم وأهل كلار وشالوس والرويان على بيعته فبايعوه كلهم
وطردوا عمال ابن أوس عنهم فلحقوا بسليمان بن عبد الله وانضم إلى الحسن بن زيد أيضا جبال طبرستان كاصمغان وقاوشان وليث بن قتاد وجماعة من أهل السفح.
ثم تقدم الحسن ومن معه نحو مدينة آمل وهي أقرب المدن إليهم وأقبل أوس من سارية ليدفعه عنها فاقتتلوا قتالا شديدا وخالف الحسن بن زيد في جماعة إلى آمل فدخلها.
فلما سمع ابن أوس الخبر وهو مشغول بحرب من يقاتله من أصحاب الحسن بن زيد لم يكن له همة إلا النجاة بنفسه فهرب ولحق بسليمان إلى سارية فلما استولى الحسن بن علي على آمل كثر جمعه وأتاه كل طالب نهب وفتنة وأقام آمل أياما ثم سار نحو سارية لحرب سليمان بن عبد الله فخرج إليه سليمان فالتقوا خارج مدينة سارية ونشبت الحرب بينهم فسار بعض قواد الحسن نحو سارية فدخلها فلما سمع سليمان الخبر انهزم هو ومن معه وترك أهله وعياله وثقله وكل ماله بسارية واستولى الحسن وأصحابه على ذلك جميعه فأمر الحرم والأولاد فجعلهم الحسن في مركب وسيرهم إلى سليمان بجرجان وأما المال فكان قد نهب وتفرق.
وقيل إن سليمان انهزم اختيارا لأن الطاهرية كلها كانت تتشيع فلما أقبل الحسن بن زيد إلى طبرستان تأثم سليمان من قتاله لشدته في التشيع.
132

وقال:
(نبئت خيل ابن زيد أقبلت حينا * تريدنا لتحسينا الأمرينا)
(يا قوم إن كانت الأنبياء صادقة * فالويل لي ولجمع الطاهريينا)
(أما أنا فإذا اصطفت كتائبنا * أكون من بينهم رأس المولينا)
(فالعذر عند رسول الله منبسط * إذا احتبست دماء الفاطميينا)
فلما التقوا انهزم سليمان فلما اجتمعت طبرستان للحسن وجه إلى الري جندا مع رجل من أهله يقال له الحسن بن زيد أيضا فملكها وطرد عنها عامل الطاهرية فاستخلف بها رجلا من العلويين يقال له محمد بن جعفر وانصرف عنها.
وورد الخبر على المستعين ومدبر أمره يومئذ وصيف وكاتبه أحمد بن صالح بن شيرزاد فوجه إسماعيل بن فراشة في جند إلى همذان وأمره بالمقام بها ليمنع خيل الحسن عنها وأما ما هداها فإلى محمد بن عبد الله بن طاهر وعليه الذب عنه.
فلما استقر بمحمد بن جعفر الطالبي المقام بالري ظهرت منه أمور كرهها أهل الري ووجه محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر قائدا من عنده يقال له محمد بن ميكال في جمع من الجند إلى الري وهو أخو الشاه بن ميكال فالتقى هو ومحمد بن جعفر الطالبي خارج الري فأسر محمد بن جعفر، وانهزم
133

جيشه، ودخل ابن ميكال الري فأقام بها فوجه الحسن بن زيد عسكرا عليه قائد يقال له واجن فلما صار إلى الري خرج إليه محمد بن ميكال فالتقوا فاقتتلوا فانهزم ابن ميكال والتجأ إلى الري معتصما بها فاتبعه واجن وأصحابه حتى قتلوه وصارت الري إلى أصحاب الحسن بن زيد.
فلما كان هذه السنة يوم عرفة ظهر بالري أحمد بن عيسى بن حسين الصغير بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وإدريس بن موسى بن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب فصلى أحمد بن عيسى بأهل الري صلاة العيد ودعا للرضا من آل محمد فحاربه محمد بن علي بن طاهر فانهزم محمد بن علي وسار إلى قزوين.
ذكر عدة حوادث
وفيها غضب المستعين على جعفر بن عبد الواحد لأنه [كان] بعث إلى الشاكرية فزعم وصيف أنه أفسدهم فنفي إلى البصرة في ربيع الأول.
وفيها أسقطت مرتبة من كانت له مرتبة في دار العامة من بني أمية كأبي الشوارب والعثمانيين وأخرج الحسن بن الأفشين من الحبس.
وفيها عقد لجعفر بن الفضل بن عيسى بن موسى المعروف ببشاشات على مكة.
وفيها وثب أهل حمص وقوم من كلب بعاملهم وهو الفضل بن
134

قارن أخو مازيار بن قارن فقتلوه فوجه المستعين إلى حمص موسى بن بغا في رمضان فلقيه أهلها فيما بين حمص والرستن وحاربوه فهزمهم وافتتح حمص وقتل من أهلها مقتلة عظيمة وأحرقها وأسر جماعة من أهلها الأعيان.
وفيها مات جعفر بن أحمد بن عمار القاضي وأحمد بن عبد الكريم الحوراني التيمي قاضي البصرة.
وفيها ولي أحمد بن الوزير قضاء سامرا.
وفيها وثب الشاكرية والجند بفارس بعبد الله بن إسحاق بن إبراهيم فانتهبوا منزله وقتلوا محمد بن الحسن بن قارن وهرب عبد الله بن إسحاق.
وفيها وجه محمد بن طاهر [من خراسان] بفيلين وأصنام أتيت من كابل وحج بالناس جعفر بن الفضل بشاشات وهو والي مكة.
وفيها توفي زيادة الله بن محمد بن الأغلب أمير إفريقية وكانت ولايته سنة واحدة وستة أيام ولما مات ملك بعده ابن أخيه محمد بن أبي إبراهيم أحمد بن محمد بن الأغلب.
وفيها توفي محمد بن الفضل الجرجرائي وزير المتوكل والفضل بن مروان وزير المعتصم وكان موته بسر من رأى والخليع الشاعر الحسين
135

بن الضحاك وكان مولده سنة اثنتين وستين ومائة وهو مشهور الأخبار والأشعار.
وفيها توفي الحرث بن مسكين قاضي مصر في ربيع الأول وهو من ولد أبي بكر الثقفي ونصر بن علي بن نصر بن علي الجهضمي الحافظ.
وفيها توفي أبو حاتم سهل بن محمد السختياني اللغوي روى عن أبي زيد والأصمعي وأبي عبيدة وقيل توفي قبل سنة خمسين والله تعالى بالغيب أعلم.
136

251
ثم دخلت سنة إحدى وخمسين ومائتين
ذكر قتل باغر التركي
وفي هذه السنة قتل باغر التركي قتله وصيف وبغا.
وكان سبب ذلك أن باغر كان أحد قتلة المتوكل فزيد في ارزاقه فأقطع قطائع فكان مما أقطع قرى بسواد الكوفة فتضمنها رجل من أهل باروسما بألفي دينار فوثب رجل من أهل تلك الناحية يقال له ابن مارية بوكيل لباغر وتناوله فحبس ابن مارية وقيد ثم تخلص وسار إلى سامرا فلقي دليل بن يعقوب النصراني وهو يومئذ صاحب أمر بغا الشاربي والحاكم في الدولة وكان ابن مارية صديقا له وكان باغر أحد قواد بغا فمنعه دليل من ظلم أحمد بن مارية فانتصف له منه فغضب باغر وباين دليلا.
وكان باغر شجاعا يتقيه بغا وغيره فحضر عند بغا في ذي الحجة من سنة خمسين [ومائتين] وهو سكران، وبغا في الحمام، فدخل إليه وقال:
137

من قتل دليلا يقتل به فقال له بغا لو أردت ولدي ما منعتك منه ولكن اصبر فإن أمور الخلافة بيد دليل وأقيم غيره ثم افعل به ما تريد.
وأرسل بغا إلى دليل يأمره أن لا تركب وعرفه الخبر وأقام في كتابته غيره وتوهم باغر أنه قد عزله فسكن باغر ثم أصلح بينهما بغا وباغر يتهدده ولزم باغر خدمنة المستعين.
فقيل ذلك للمستعين فلما كان يوم نوبة بغا في منزله قال المستعين أي شيء كان إلى إيتاخ من الخدمة فأخبره وصيف فقال ينبغي أن تجعل هذه الأعمال إلى باغر وسمع دليل ذلك فركب إلى بغا فقال له أنت في بيتك وهم في تدبير عزلتك فإذا عزلت قتلت.
فركب بغا إلى دار الخليفة في يومه وقال لوصيف أردت أن تعزلني فحلف أنه ما علم ما أراد الخليفة فتعاقدا على تنحية باغر من الدار والحيلة عليه فأرجفوا له أنه يؤمر ويخلع عليه ويكون موضع بغا ووصيف؛ فأحس باغر ومن معه الشر فجمع إليه الجماعة الذين كانوا بايعوه على قتل المتوكل ومعهم غيرهم فجدد العهد عليهم في قتل المستعين وبغا ووصيف وقالوا نبايع علي بن المعتصم أو ابن الواثق ويكون الأمر لنا كما هو لهذين،
138

فأجابوه إلى ذلك.
وانتهى الخبر إلى المستعين فبعث إلى بغا ووصيف وقال لهما أنتما جعلتماني خليفة ثم تريدان قتلي فحلفا أنهما ما علما بذلك فأعلمهما الخبر فاتفق رأيهم على أخذ باغر ورجلين من الأتراك معه وحبسهم فأحضروا باغر فأقبل في عدة فعدل به إلى حمام وحبس فيه.
وبلغ الخبر الأتراك فوثبوا على اصطبل الخليفة فانتهبوه وركبوا ما فيه وحصروا الجوسق بالسلاح فأمر بغا ووصيف بقتل باغر فقتل.
ذكر مسير المستعين إلى بغداد
فلما قتل باغر وانتهى خبر قتله إلى الأتراك المشغبين أقاموا على ما هم عليه فانحدر المستعين وبغا ووصيف وشاهك الخادم وأحمد بن صالح بن شيرزاد ودليل إلى بغداد في حراقة فركب جماعة من قواد الأتراك إلى هؤلاء المشغبين فسألهم الانصراف فلم يفعلوا فلما علموا بانحدار المستعين وبغا ووصيف ندموا ثم قصدوا دار دليل ودور أهله وجيرانه فنهبوها حتى صاروا إلى أخذ الخشب وعليف الدواب فلما قدموا بغداد مرض ابن مارية فعاده دليل فقال له ما سبب علتك؟ قال انتقض عقر القيد فقال دليل لئن عقرك القيد لقد نقضت الخلافة وبغيت الفتنة ومات ابن مارية في تلك
139

الأيام وقال بعض الشعراء في ذلك:
(لعمري لئن قتلوا باغرا * لقد هاج باغر حربا طحونا)
(وفر الخليفة والقائدا * ن بالليل يلتمسان السفينا)
(وصاحوا بميسان ملاحهم * فوافاهم يسبق الناظرينا)
(فالزمهم بطن حراقة * وصوت مجاذيفهم سائرينا)
(وما كان قد ابن مارية * فتكسب فيه الحروب الديونا)
(ولكن دليل سعى سعيه * فأجرى الإله بها العالمينا)
(فحل ببغداد قبل الشروق * فحل بها منه ما يكرهونا)
(فليت السفينة لم تأتنا * وغرقها الله والراكبينا)
(وأقبلت الترك والمعربون * وجاء الفراغنة الدارعينا)
(تيسر كراديسهم في السلاح * يرجون خيلا ورجلا بنينا)
(فقام بحربهم عالم * بأمر الحروب تولاه حينا)
(فجدد سورا على الجانبي * ن حتى أحاطهم أجمعينا)
140

(وأحكم أبوابها المصمتات * على السور يحمى بها المستعينا)
(وهيا مجانيق خطارة * تفت النفوس وتحمي العرينا)
ومنع الأتراك الناس من الانحدار إلى بغداد وأخذوا ملاحا قد أكرى سفينته فضربوه وصلبوه على دقلها فامتنع أصحاب السفن إلا سرا.
وكان وصول المستعين إلى بغداد لخمس خلون من المحرم من هذه السنة فنزل على محمد بن عبد الله بن طاهر في داره ثم وافى بغداد القواد سوى جعفر الخياط وسليمان بني يحيى بن معاذ وقدمها جلة الكتاب والعمال وبني هاشم وجماعة من أصحاب بغا ووصيف.
ذكر البيعة للمعتز بالله
وفي هذه السنة بويع المعتز بالله وكان سبب البيعة له أنه لما استقر المستعين ببغداد أتاه جماعة من قواد الأتراك المشغبين فدخلوا عليه وألقوا أنفسهم بين يديه وجعلوا مناطقهم في أعناقهم تذللا وخضوعا وسألوه الصفح عنهم والرضا.
141

قال لهم أنتم أهل بغي وفساد واستقلال للنعم ألم ترفعوا إلي في أولادكم فالحقتهم بكم وهم نحو من ألفي غلام وفي بناتكم فأمرت بتصييرهن في عداد المتزوجات وهن نحو من أربعة آلاف، وغير ذلك كله أجبتكم إليه وأدركت عليكم الأرزاق فعملتم آنية الذهب والفضة ومنعت نفسي لذتها وشهوتها إرادة لصلاحكم ورضاكم وأنتم تزدادون بغيا وفسادا فعادوا وتضرعوا وسألوه العفو فقال المستعين قد عفوت عنكم ورضيت.
فقال له أحدهم، واسمه بابي بك: فإن كنت قد رضيت فقم فاركب معنا إلى سامرا فإن الأتراك ينتظرونك فأمر محمد بن عبد الله بعض أصحابه فقام إليه فضربه وقال محمد هكذا يقال لأمير المؤمنين قم فاركب معنا فضحك المستعين وقال هؤلاء قوم عجم لا يعرفون حدود الكلام وقال لهم المستعين ترجعون إلى سامرا فإن أرزاقكم دراة عليكم وأنظر أنا في أمري فانصرفوا آيسين منه وأبغضهم ما كان من محمد بن عبد الله إلى بابي بك وأخبروا من وراءهم خبرهم وزادوا وحرضوا تحريضا لهم على خلعه فاجتمع رأيهم على إخراج المعتز وكان هو والمؤيد في حبس الجوسق وعليهم من يحفظهم فأخرجوا المعتز من الحبس وأخذوا من شعره فكان قد كثر وبايعوا له بالخلافة وأمر للناس برزق عشرة أشهر
142

للبيعة فلم يتم المال فأعطوا شهرين لقلة المال عندهم.
وكان المستعين خلف بيت المال بسامرا فيه نحو خمسمائة ألف دينار وفي بيت مال أم المستعين قيمة ألف ألف دينار وفي بيت مال العباس قيمة ستمائة ألف دينار، وكان فيمن أحضر للبيعة أبو أحمد بن الرشيد وبه نقرس في محفة محمولا فأمر بالبيعة فامتنع وقال للمعتز خرجت إلينا طائعا فخلعتها وزعمت أنك لا تقوم بها فقال المعتز أكرهت على ذلك وخفت السيف فقال أبو أحمد ما علمنا أنك أكرهت وقد بايعنا هذا الرجل فتريد أن تطلق نساءنا وتخرج عن أموالنا ولا ندري ما يكون إن تركتني على أمري حتى يجتمع الناس وإلا فهذا السيف فتركه المعتز.
وكان ممن بايع إبراهيم الديرج وعتاب بن عتاب فأما عتاب فهرب إلى بغداد وأما الديرج فأقر على الشرط واستعمل على الدواوين وبيت المال والكتابة وغير ذلك.
ولما اتصل بمحمد بن عبد الله خبر بيعة المعتز وتوجيه العمال أمر بقطع الميرة عن أهل سامرا وكتب إلى مالك بن طوق في المسير إلى بغداد وأهل بيته وجنده وكتب إلى نجويه بن قيس وهو على الأنبار في الاحتشاد والجمع إلى سليمان بن عمران الموصلي في منع السفن والميرة عن سامرا فأخذت سفينة ببغداد فيها أرز وغيره فهرب الملاح وبقيت السفينة حتى غرقت.
وأمر المستعين محمد بن عبد الله بتحصين بغداد فتقدم في ذلك فأدير عليها السور من دجلة من باب الشماسية إلى سوق الثلاثاء حتى أورده دجلة وأمر بحفر الخنادق من الجانبين جميعا وجعل على كل باب قائدا فبلغت النفقة على ذلك جميعه ثلاثمائة ألف وثلاثين ألف دينار ونصب على الأبواب
143

المنجنيقات والعرادات وشحن الأسوار، وفرض فرضا للعيارين وجعل عليهم عريفا اسمه يبنويه وعمل لهم تراسا من البواري المقيرة وأعطاهم المخالي ليجعلوا فيها الحجارة للرمي وفرض أيضا لقوم من خراسان قدموا حجاجا فسئلوا المعونة فأعانوا.
وكتب المستعين إلى عمال الخراج بكل بلدة أن يكون حملهم الخراج والأموال إلى بغداد لا يحمل منها إلى سامرا شيء وكتب إلى الأتراك والجند الذين بسامرا يأمرهم بنقض بيعة المعتز ومراجعة الوفاء له ويذكرهم أياديه عندهم وينهاهم عن المعصية والنكث.
ثم جرت بين المعتز ومحمد بن عبد الله مكاتبات ومراسلات يدعو المعتز محمدا إلى المبايعة ويذكره ما كان من المتوكل أخذ له عليه من البيعة بعد المنتصر ومحمد يدعو المعتز إلى الرجوع إلى طاعة المستعين واحتج كل واحد منهما على صاحبه.
وأمر محمد بكسر القناطر وشق المياه بسطوح الأنبار وبادوريا ليقطع الأتراك عن الأنبار وكتب المستعين والمعتز إلى موسى بن بغا كل واحد منهما يدعوه إلى نفسه وكان بأطراف الشام كان خرج لقتال أهل حمص فانصرف إلى المعتز وصار معه وقدم عبد الله بن بغا الصغير من سامرا إلى المستعين وكان قد تخلف بعد أبيه فاعتذر وقال لأبيه إنما قدمت لأموت تحت ركابك فأقام ببغداد أياما ثم هرب إلى سامرا فاعتذر إلى المعتز وقال إنما سرت إلى بغداد لأعلم أخبارهم وآتيك بها فقبله المعتز ورده إلى خدمته.
144

وورد الحسن بن الأفشين بغداد، فخلع عليه المستعين، وضم إليه جمع من الأشروسنية وغيرهم.
ذكر حصار المستعين ببغداد
ثم إن المعتز عقد لأخيه أبي أحمد بن المتوكل وهو الموفق لسبع بقين من المحرم على حرب المستعين ومحمد بن عبد الله وولاه ذلك وضم إليه الجيش وجعل إليه الأمور
كلها وجعل التدبير إلى كلباتكين فسار في خمسين ألفا من الأتراك والفراغنة وألفين من المغاربة فلما بلغ عكبرا صلى بها وخطب للمعتز وكتب بذلك إلى المعتز فذكر أهل عكبرا أنهم كانوا على خوف شديد من مسير محمد بن عبد الله إليهم ومحاربتهم فانتهبوا القرى ما بين عكبرا وبغداد فخربت الضياع وأخذ الناس في الطريق.
ولما وصل أبو أحمد إلى عكبرا هرب إليه جماعة كبيرة من أصحاب بغا الصغير ووصل أبو أحمد وعسكره باب الشماسية لسبع خلون من صفر فقال بعض البصريين ويعرف بباذنجانة:
(يا بني الطاهر أتتكم جنود ال * له والموت بينها منثور)
(وجيوش أمامهم أبو أح‍ * ‍مد نعم المولى ونعم النصير)
ولما نزل أبو أحمد باب الشماسية ولى المستعين باب الشماسية الحسين
145

ابن إسماعيل، وجعل من هناك إلى القواد تحت يده، فلم يزل هناك مدة الحرب إلى أن ساروا إلى الأنبار؛ فلما كان عاشر صفر وافت طلائع الأتراك إلى باب الشماسية فوقفوا بالقرب منه فوجه محمد بن عبد الله الحسين بن إسماعيل والشاه بن ميكال وبندار الطبري فيمن معهم وعزم على الركوب لقتالهم فأتاه الشاه فأعلمه أن الأتراك لما عاينوا الأعلام والرايات قد أقلت نحوهم رجعوا إلى معسكرهم فترك محمد الركوب.
فلما كان الغد عزم محمد على توجيه الجيوش إلى القفص ليعرضهم هناك وليرهب الأتراك وركب معه وصيف وبغا في الدروع ومضى معه الفقهاء والقضاة وبعث إليهم يدعوهم إلى الرجوع عما هم عليه من الطغيان والعصيان ويبذل لهم الأمان على أن يكون المعتز ولي العهد بعد المستعين فلم يجيبوا ومضى نحو باب قطربل فنزل على شاطئ دجلة هو ووصيف وبغا ولم يمكنه التقدم لكثرة الناس فانصرف.
فلما كان من الغد أتاه رسل وجه الفلس وغيره من القواد يعلمونه أن الترك قد دنوا وضربوا مضاربهم برقة الشماسية وأرسل إليهم لا تبدؤوهم بقتال وإن قاتلوكم فلا تقاتلوهم وادفعوهم اليوم فوافى باب الشماسية منهم اثنا عشر فارسا فرموا بالسهام ولم يقاتلهم أحد فلما طال مقامهم رماهم المنجنيقي بحجر فقتل منهم رجلا فأخذوه ورجعوا.
وقدم عبيد الله بن سليمان خليفة وصيف التركي من مكة في ثلاثمائة رجل فخلع عليه محمد بن عبد الله ووافى الأتراك في هذا اليوم باب الشماسية فخرج الحسن بن إسماعيل ومن معه من القواد لمحاربتهم فاقتتلوا وقتل من
146

الفريقين، وجرح وكانوا في القتلى والجرحى على السواء وانهزم أهل بغداد وثبت أصحاب البواري ثم انصرفوا وأحضر الأتراك منجنيقا فغلبهم عليه العامة فأخذوه.
ثم سار جماعة من الأتراك إلى ناحية النهروان فوجه محمد بن عبد الله قائدين من أصحابه وأمرهما بالمقام بتلك الناحية وحفظها من الأتراك فسار إليهم الأتراك فقاتلوهم فانهزم أصحاب محمد إلى بغداد وأخذت دوابهم فدخلوا بغداد منهزمين، ووجه الأتراك برؤوس القتلى إلى سامرا واستولوا على طريق خراسان وانقطع الطريق عن بغداد.
ووجه المعتز عسكرا في الجانب الغربي فساروا إلى بغداد وجازوا قطربل فضربوا عسكرهم هناك وذلك لاثنتي عشرة ليلة خلت من صفر فلما كان من الغد وجه محمد بن عبد الله عسكرا إليهم فلقيهم الشاه بن ميكال فتحاربوا فانهزم أصحاب المعتز خرج عليهم كمين لمحمد بن عبد الله فانهزموا ووضع أصحاب محمد فيهم السيف فقتلوهم أكثر قتل ولم يفلت منهم إلا القليل ونهب عسكرهم جميعه ومن سلم من القتل ألقى نفسه في دجلة ليعبر إلى عسكر أبي أحمد فأخذه أصحاب السفن وحملوا الأسرى والرؤوس في الزواريق فنصب بعضها ببغداد.
وأمر محمد لمن أبلى في هذا اليوم بالأسورة والخلع والأموال وطلبت المنهزمة فبلغ بعضهم أوانا وبعضهم بلغ سامرا وكان عسكر المعتز أربعة آلاف فقتل منهم ألفان وغرق منهم جماعة وأسر جماعة فخلع محمد على جميع القواد على كل قائد أربع خلع وطوق وسوار من ذهب،
147

وكان عود أهل بغداد عنهم مع المغرب وكان أكثر العمل في هذا اليوم للعيارين.
وركب محمد بن عبد الله بن طاهر لاثنتي عشرة ليلة بقيت من صفر إلى الشماسية فأمر بهدم ما وراء سورها من الدور والحوانيت والبساتين من باب الشماسية إلى ثلاثة أبواب ليتسع على من يحارب.
وقدم مال من فارس والأهواز من منكجور الأشروسني فوجه أبو أحمد الأتراك لأخذه فوجه محمد بن عبد الله جماعة لحفظ المال فعدلوا به عن الأتراك فقدموا به بغداد فلما علم الأتراك بذلك عدلوا نحو النخروان فقتلوا وأحرقوا سفن الجسر وهي عشرون سفينة ورجعوا إلى سامرا.
وقدم محمد بن خالد بن يزيد بن مزيد وكان المستعين قلده امرة الثغور الجزرية كان بمدينة بلد ينتظر الجنود والمال ليسير إلى الثغور فلما كان من أمر المستعين والأتراك ما ذكرنا سار من بلد إلى بغداد على طريق الرقة في أصحابه وخاصته وهم زهاء أربعمائة فخلع عليه محمد بن عبد الله خمس خلع ثم وجهه في جيش كثيف لمحاربة أيوب بن محمد فأخذ على طريق الفرات فحاربه في نفر يسير فهزم محمد وصار إلى ضيعته بالسواد فلما سمع محمد بهزيمته قال لا يفلح أحد من العرب إلا أن يكون معه نبي ينصره الله به.
وكانت للأتراك وقعة بباب الشماسية فقاتلوا عليه قتالا شديدا حتى كشفوا من عليه ورموا به المنجنيق بالنار والنفط فلم يحرقه ثم كثر الجند على الباب فأزالهم عن موقفهم بعد قتلى وجرحى ووجه محمد العرادات في السفن فرموهم بها رميا شديدا فقتلوا منهم نحو مائة وكان بعض المغاربة قد صار إلى السور فرمي بكلاب فتعلق به فأخذه
الموكلون
148

بالسور ورفعوه فقتلوه وألقوا رأسه إلى الأتراك فرجعوا إلى معسكرهم.
وأراد بعض الموكلين بالسور أن يصيح يا مستعين يا منصور فصاح يا معتز يا منصور فظنوه من المغاربة فقتلوه.
وتقدم الأتراك، في بعض الأيام إلى باب الشماسية فرمي الدرغمان مقدم المغاربة بحجر منجنيق فقتله وكان شجاعا وكان بعض المغاربة يجيء فيكشف استه ويصيح ويضرط ثم يرجع فرماه بعض أصحاب محمد بسهم في دبره فخرج من حلقه فخر ميتا.
واجتمعت العامة بسامرا ونهبوا سوق الجوهريين والصيارفة وغيرهما فشكا التجار ذلك إلى إبراهيم المؤيد فقال لهم كان ينبغي أن تحولوا متاعكم إلى منازلكم ولم يصنع شيئا ولا أنكر ذلك.
وقدم لثمان بقين من صفر جماعة من أهل الثغور يشكون بلكاجور ويزعمون أن بيعة المعتز وردت عليه فدعا الناس إلى بيعته وأخذ الناس بذلك فمن امتنع ضربه وحبسه وانهم امتنعوا وهربوا فقال وصيف ما أظنه إلا ظن أن المستعين مات وقام المعتز فقالوا ما فعله إلا عن عمد فورد كتاب بلكاجور لأربع بقين من صفر يذكر أنه كان بايع المعتز فلما ورد كتاب المستعين بصحة الأمر جدد له البيعة وأنه على السمع والطاعة فأراد موسى بن بغا أن يسير إلى المستعين فامتنع أصحابه الأتراك من موافقته على ذلك وحاربوه فقتل بينهم قتلى.
وقدم من البصرة عشر سفائن بحرية في كل سفينة خمسة وأربعون رجلا ما بين نفاط وغيره فمرت إلى ناحية الشماسية فرمى من فيها بالنيران إلى عسكر أبي أحمد فانتقلوا إلى موضع لا ينالهم شيء من النار.
149

ولليلة بقيت من صفر تقدم الأتراك إلى أبواب بغداد فقاتلوا عليها فقتل من الفريقين جماعة كثيرة ودام القتال إلى العصر.
وفي ربيع الأول عمل محمد بن عبد الله كافركونات وفرقها على العيارين فخرجوا بها إلى أبواب بغداد، وقتلوا من الأتراك نحوا من خمسين رجلا ولأربع عشرة خلت من ربيع الأول قدم مزاحم بن خاقان من ناحية الرقة فتلقاه الناس ومعه زهاء ألف رجل فلما وصل خلع عليه سبع خلع وقلد سيفا.
ووجه المعتز عسكرا يبلغون ثلاثة آلاف فعسكروا بإزاء عسكر أبي أحمد باب قطربل، وركب محمد بن عبد الله في عسكره وخرج من النظارة خلق كثير فحاذى عسكر أبي أحمد فكانت بينهم في الماء جولة وقتل من أصحاب أبي أحمد أكثر من خمسين رجلا ومضى النظارة فجاوزوا العسكر بنصف فرسخ فعبرت إليهم سفن لأبي أحمد فنالت منهم ورجع محمد بن عبد الله وأمر ابن أبي عون برد الناس فأمرهم بالعود فأغلظوا له فشتمهم وشتموه وضرب رجلا منهم فقتله فحلمت عليه العامة فانكشف من بين أيديهم فأخذ أصحاب أبي أحمد أربع سفائن وأحرقوا سفينة فيها عرادة لأهل بغداد.
وسار العامة إلى دار ابن أبي عون لينهبوها وقالوا مايل الأتراك فانهزم أصحابه وكلموا محمدا في صرفه فصرفه ومنعهم من أخذ ماله.
ولإحدى عشرة خلت من ربيع الأول وصل عسكر المعتز الذي سيره إلى مقابل عسكر أخيه أبي أحمد بن عكبرا فأخرج إليهم ابن طاهر عسكار فمضوا حتى بلغوا قطربل وبها كمين الأتراك فأوقع بهم ونشبت
150

الحرب بينهم، وقتل بينهما جماعة، واندفع أصحاب محمد قليلا إلى باب قطربل والأتراك معهم فخرج الناس إليهم فدفعوا الأتراك حتى نحوهم ثم رجعوا إلى أهل بغداد فقتلوا منهم خلقا كثيرا وقتل من الأتراك أيضا خلق كثير ثم تقدم الأتراك إلى باب القطيعة فنقبوا السور فقتل أهل بغداد أول خارج منه وكان القتل ذلك اليوم أكثره في الأتراك والجراح بالسهام في أهل بغداد.
وندب عبد الله بن عبد الله بن طاهر الناس فخرجوا معه وأمر الموكل بباب قطربل أن لا يدع منهزما يدخله ونشبت الحرب فانهزم أصحاب عبد الله وثبت أسد بن داود حتى قتل وكان إغلاق الباب على المنهزمين أشد من الأتراك فأخذوا منهم الأسرى وقتلوا فأكثروا وحملوا الأسرى والرؤوس إلى سامرا فلما قربوا منها غطوا رؤوس الأسرى فلما رآهم أهل سامرا بكوا وضجوا وارتفعت أصواتهم وأصوات نسائهم فبلغ ذلك المعتز فكره أن تغلظ قلوب الناس عليه فأمر لكل أسير بدينار وأمر بالرؤوس فدفنت.
وقدم أبو الساج من طريق مكة لأربع بقين من ربيع الأول وفي سلخ ربيع الأول جاء نفر من الأتراك إلى باب الشماسية ومعهم كتاب من المعتز إلى محمد بن عبد الله فاستأذنه أصحابه في أخذه فأذن لهم فإذا فيه يذكره ما يجب عليه من حفظ العهد القديم وأن الواجب
151

عليه أنه كان أول من يسعى في أمره ويؤكد خلافته فما ورد عليه محمد جواب الكتاب، وكانت وقعة بينهم لسبع خلون من ربيع الآخر قتل من الأتراك سبعمائة ومن أصحاب محمد ثلاثمائة.
وفي منتصف ربيع الآخر أمر أبو الساج وعلي بن فراشة وعلي بن حفص بالمسير إلى المدائن فقال أبو الساج لمحمد بن عبد الله إن كنت تريد الجد مع هؤلاء القوم فلا تفرق قوادك واجمعهم حتى تهزم هذا العسكر المقيم بإزائك فإذا فرغت منهم فما أقدرك على من بعدهم فقال إن لي تدبيرا ويكفي الله إن شاء الله فقال أبو الساج السمع والطاعة وسار إلى المدائن وحفر خندقها وأمده محمد بثلاثة آلاف فارس وألفي راجل وكتب المعتز إلى أخيه أبي أحمد يلومه لتقصير في قتال أهل بغداد، فكتب إليه في الجواب:
(لأمر المنايا علينا طريق * وللدهر فينا اتساع وضيق)
(وأيامنا عبرة للأنام * فمنها البكور ومنها الطروق)
(ومنها هنات تشيب الوليد * ويخذل فيها الصديق الصدوق)
(وفتنة دين لها ذروة * تفوق العيون وبحر عميق)
(قتال متين وسيف عتيد * وخوف شديد وحصن وثيق)
(وطول صياح لداعي الصباح ال‍ * سلاح السلاح فما يستفيق)
(فهذا طريح وهذا جريح * وهذا حريق وهذا غريق)
(وهذا قتيل وهذا تليل * وآخر يشدخه المنجنيق)
152

(هناك اغتصاب وثم انتهاب * ودور خراب وكانت تروق)
(إذا ما شرعنا إلى مسلك * وجدناه قد سد عنا الطريق)
(فبالله نبلغ ما نرتجي * وبالله ندفع ما لا نطيق)
وهذه الأبيات لعلي بن أمية في فتنة الأمين والمأمون.
ذكر حال الأنبار
وسير محمد بن عبد الله إلى الأنبار نجوبة بن قيس فأقام بها وجمع بها نحوا من ألفي رجل وأمده محمد بن عبد الله بألف وخمسمائة وشق الماء من الفرات إلى خندقها ففاض على الصحارى فصار بطيحة واحدة وقطع القناطر وسير المعتز جندا مع علي الإسحاقي نحو الأنبار فوصلوا ساعة وصلها مدد محمد وقد نزلوا ظاهرها فاقتتلوا أشد قتال فانهزم مدد محمد بن عبد الله ورجعوا في الطريق الذي جاؤوا فيه إلى بغداد.
وكان نجوبة بالأنبار لم يخرج منها فلما بلغه هزيمة مدده ومسير الأتراك إليبه عبر إلى الجانب الغربي وقطع الجسر وسار نحو بغداد فاختار محمد بن عبد الله انفاذ الحسين بن إسماعيل بن إبراهيم إلى الأنبار في جماعة من القواد والجند فجهزهم وأخرج لهم رزق أربعة أشهر وخرج الجند،
153

وعرضهم الحسين وسار عن بغداد يوم الخميس لسبع بقين من جمادى الأولى وتبعه الناس والقواد وبنو هاشم إلى الياسرية.
وكان أهل الأنبار لما دخلها الأتراك قد أمنوهم ففتحوا دكاكينهم وأسواقهم ووافاهم سفن من الرقة تحمل الدقيق والزيت وغير ذلك فانتهبها الأتراك وحملوها إلى منازلهم بسامرا ووجهوا بالأسرى وبالرؤوس معها.
وسار الحسين حتى نزل دمما ووافته طلائع الأتراك فوق دمما فصف أصحابه مقابل الأتراك بينهما نهر وكان عسكره عشرة آلاف رجل وكان الأتراك زهاء ألف رجل فتراموا بالسهام فجرح بينهم عدد وعاد الأتراك إلى الأنبار وتقدم الحسين فنزل بمكان يعرف بالقطيعة واسع يحمل العسكر فأقام فيه يومه ثم عزم على الرحيل إلى قرب الأنبار فأشار عليه القواد أن ينزل عسكره بهذا المكان بالقطيعة لسعته وحصانته ويسير هو وجنده جريدة فإن كان الأمر له كان قادرا على نقل عسكره وإن كان عليه رجع إلى عسكره وعاود عدوه فلم يقبل منهم وسار من مكانه.
فلما بلغ المكان الذي يريد النزول به أمر الناس بالنزول فأتت الأتراك جواسيسهم وأعلموهم بمسيره وضيق مكانه فأتاهم الأتراك والناس يحطون أثقالهم فثار أهل العسكر وقاتلوهم فقتل بينهم قتلى من الفريقين وحمل أصحاب الحسين عليهم فكشفوهم وقتلوا منهم مقتلة عظيمة وغرق
154

منهم خلق كثير وكان الأتراك قد كمنوا لهم كمينا فخرج الكمين على بقية العسكر فلم يكن منهم لهم ملجأ إلا الفرات وغرق من أصحابه خلق كثير وقتل جماعة وأسر جماعة.
وأما الفرسان فهربوا لا يلوون على شيء والقواد ينادونهم الرجعة فلم يرجع أحد فخافوا على نفوسهم فرجعوا يحمون أصحابهم وأخذ الأتراك عسكر الحسين بما فيه من الأموال والخلع التي كانت معه وسلم ما كان معه من سلاح في السفن لأن الملاحين حذروا السفن فسلم ما معهم من سلاح وغير ذلك ووصل المنهزمون إلى الياسرية لست خلون من جمادى الآخرة ولقي الحسين رجل من التجار ممن ذهبت أموالهم فقال الحمد لله الذي بيض وجهك أصعدت في اثني عشر يوما وانصرفت في يوم واحد فتغافل عنه.
ولما اتصل خبر الهزيمة لمحمد بن عبد الله بن طاهر منع المنهزمين من دخول بغداد ونادى من وجدناه ببغداد من عسكر الحسين بعد ثلاثة أيام ضرب ثلاثمائة سوط وأسقط من الديوان فخرج الناس إلى الحسين بالياسرية وأخرج إليهم [ابن] عبد الله جندا آخر، وأعطاهم الأرزاق، وأمر بعض الناس ليعلم من قتل ومن غرق ومن سلم ففعلوا ذلك.
وأتاهم كتاب بعض عيونهم من الأنبار يخبرهم أن القتلى كانت من الترك أكثر من مائتين والجرحى نحو أربعمائة وأن جميع من أسره الأتراك مائتان وعشرون رجلا وأنه عد رؤوس القتلى فكانت سبعين رأسا، وكانوا
155

أخذوا جماعة من أهل الأسواق فأطلقوهم فرحل الحسين لاثنتي عشرة بقيت من جمادى الآخرة وسار حتى عبر نهر أريق فلما كان السبت لثمان خلون من رجب أتاه إنسان فأعلمه أن الأتراك يريدون العبور إليه في عدة مخاضات فضربه ووكل بمواضع المخاض رجلا من قواده يقال له الحسين بن علي بن يحيى الأرمني في مائتي رجل فأتى الأتراك المخاضة فرأوا الموكل بها فتركوها إلى مخاضة أخرى فقاتلوهم وصبر الحسين بن علي وبعث إلى الحسين بن إسماعيل أن الأتراك قد وافوا المخاضة فقيل
للرسول الأمير نائم فأرسل آخر فقيل [له]: الأمير المخرج فأرسل آخر فقيل الأمير قد عاد نام فعبر الأتراك فقعد الحسين بن علي في زورق وانحدر وهرب أصحابه منهزمين وقتل الأتراك منهم وأسروا نحو مائتين وانحدرت عامة السفن فسلمت ووضع الأتراك السيف وغرق خلق كثير من الناس فوصل المنهزمون بغداد نصف الليل ووافى بقيتهم في النهار واستولى الأتراك على أثقالهم وأموالهم وقتل عدة من قواد الحسين فقال الهندواني في الحسين:
(يا أحزم الناس رأيا في تخلفه * عن القتال خلطت الصفو بالكدر)
(لما رأيت سيوف الترك مصلتو * علمت ما في سيوف الترك من قدر)
(فصرت مضجرا ذلا ومنقصة * والنجح يذهب بين العجز والضجر)
ولحق فيها جماعة من الكتاب والوقاد وبني هاشم بالمعتز فمن بني هاشم علي ومحمد ابنا الواثق وغيرهما، ثم كانت بينهم عدة وقعات وقتل فيها من الفريقين جماعة ودخل الأتراك في بعض تلك الحروب إلى بغداد ثم
156

تكاثر الناس عليهم فأخرجوهم منها.
وجرى بين أبي الساج وجماعة من الأتراك وقعة هزمهم أبو الساج ثم واقعوه أخرى فتخلى عنه بعض أصحابه فانهزم ودخل الأتراك المدائن وخرجت الأتراك الذين بالأنبار في سواد بغداد من الجانب الغربي حتى بلغوا صرصر وقصر ابن هبيرة.
وفي ذي القعدة كانت وقعة عظيمة خرج محمد بن عبد الله بن طاهر في جميع القواد والعسكر ونصب له قبة وجلس فيها واقتتل الناس قتالا شديدا وانهزمت الأتراك ودخل أهل بغداد عسكرهم وقتلوا منهم خلقا كثيرا وهربوا على وجوههم لا يلوون على شيء فكلما جيء برأس يقول بغا ذهبت الموالي وساء ذلك من مع بغا ووصيف من الأتراك.
ووقف أبو أحمد بن المتوكل يرد الأتراك ويخبرهم أنهم إن لم يرجعوا لم يبق لهم بقية وتبعهم أهل بغداد إلى سامرا فتراجعوا إليه وإن بعض أهل بغداد رجعوا عن المنهزمين فرأى أصحابهم أعلامهم فظنوها أعلام الأتراك قد عادت فانهزموا نحو بغداد مزدحمين وتراجع الأتراك إلى عسكرهم ولم يعلم بهزيمتهم أهل بغداد فتحملوا عليهم.
وفي ذي الحجة وجه أبو أحمد خمس سفائن مملوءة طعاما ودقيقا إلى ابن طاهر؛ وفي ذي الحجة علم الناس بما عليه ابن طاهر من خلع المستعين والبيعة للمعتز ووجه قواده إلى أبي أحمد فبايعوه للمعتز وكانت العامة تظن أن الصلح جرى على أن الخليفة المستعين والمعتز ولي عهده.
157

وفي ذي الحجة أيضا خرج رشيد بن كاوس أخو الأفشين وكان موكلا بباب السلامة إلى الأتراك وسار معهم إلى أبي حامد ثم عاد إلى أبواب بغداد يقول للناس إن أمير المؤمنين المعتز وأبا أحمد يقرآن عليكم السلام ويقولان من أطاعنا وصلناه ومن أبى فهو أعلم.
فشتمه الناس، وعلموا بما عليه محمد بن عبد الله بن طاهر فعبرت العامة إلى الجزيرة التي حذاء داره فشتموه أقبح شتم ثم ساروا إلى باب داره ففعلوا به مثل ذلك وقاتلوا من على بابه حتى كشفوهم ودخلوا دهليز داره وأرادوا إحراق داره فلم يجدوا نارا وبات منهم بالجزيرة جماعة يشتمونه وهو يسمع فلما ذكروا اسم أمه ضحك وقال ما أدري كيف عرفوه وقد كان أكثر جواري أبي لا يعرفون اسمها فلما كان الغد فعلوا مثل ذلك فسار محمد إلى المستعين وسأله أن يطلع إليهم ويسكنهم ففعل وقال لهم إن محمدا لم يخلع ولم أتهمه ووعدهم أن يصلي بهم الجمعة فانصرفوا.
ثم ترددت الرسل بين محمد بن عبد الله وبين أبي أحمد مع حماد بن إسحاق بن حماد بن يزيد وثار قوم من رجالة الجند وكثير من العامة فطلب الجند أرزاقهم وشكت العامة سوء الحال وغلاء السعر وقالوا إما خرجت فقابلت وإما تركتنا فوعدهم الخروج أو فتح باب الصلح ثم جعل على الجسور وبالجزيرة وبباب داره الرجال والخيل فحضر الجزيرة بشر كثير فطردوا من كان بها وقاتلوا الناس.
وأرسل محمد بن عبد الله إلى الجند يعدهم رزق شهرين وأمرهم بالنزول،
158

فأبوا وقالوا: لا نفعل حتى نعلم نحن والعامة على أي شيء نحن فخرج إليهم بنفسه فقالوا له إن العامة قد اتهموك في خلع المستعين والبيعة للمعتز وتوجيهك القواد بعد القواد ويخافون دخول الأتراك والمغاربة إليهم فإن يفعلوا بهم كما عملوا في المدائن والأنبار فهم يخافون على أنفسهم وأولادهم وأموالهم وسألوا إخراج الخليفة إليهم ليروه ويكذبوا ما بلغهم، فلما رأى محمد ذلك سأل المستعين الخروج إليهم فخرج إلى دار العامة ودخل إليه جماعة من الناس فنظروا إليه وخرجوا فأعلموا الناس الخبر فلم يقتنعوا بذلك فأمر المستعين بإغلاق الأبواب وصعد سطح دار العامة ومحمد بن عبد الله معه فرآه الناس وعليه البردة وبيده القضيب فكلم الناس وأقسم عليهم بحق صاحب البردة إلا انصرفوا فإنه آمن لا بأس عليه من محمد فسألوه الركوب معهم والخروج من دار محمد لأنهم لا يأمنوه عليه فوعدهم ذلك.
فلما رأى ابن طاهر فعلهم عزم على النقلة عن بغداد إلى المدائن فأتاه وجوه الناس وسألوه الصفح واعتذروا بأن ذلك فعل الغوغاء والسفهاء فرد عليهم ردا جميلا وانتقل المستعين عن داره في ذي الحجة وأقام بدار رزق الخادم بالرصافة وسار بين يديه محمد بن عبد الله بالحربة، فلما كان من الغد اجتمع الناس بالرصافة فأمروا القواد وبني هاشم بالمسير إلى دار محمد بن عبد الله والعود معه إذا ركب ففعلوا ذلك فركب محمد في جمع وتعبية ووقف للناس وعاتبهم وحلف أنه ما يريد للمستعين،
159

ولا لولي له ولا لأحد من الناس سوءا وأنه ما يريد إلا إصلاح أحوالهم حتى بكى الناس ودعوا له.
وسار إلى المستعين وكان ابن طاهر مجدا في أمر المستعين حتى غيره عبد الله بن يحيى بن خاقان وقال له إن هذا الذي تنصره وتجد في أمره من أشد الناس نفاقا وأخبثهم
دينا والله لقد أمر وصيفا وبغا بقتلك، فاستعظما ذلك ولم يفعلاه وإن كنت شاكا في قول فسل تخبره وإن من ظاهر نفاقه أنه كان بسامرا لا يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في صلاته فلما صار إليك جهر بها مراءاة لك وتترك نصرة وليك وصهرك وتربيتك ونحو ذلك من كلام كلمه به فقال محمد أخزى الله هذا ما يصلح لدين ولا لدنيا ثم ظاهر عبيد الله بن يحيى بأحمد بن إسرائيل والحسن بن مخلد.
فلما كان يوم الأضحى صلى المستعين بالناس ثم حضر محمد بن عبد الله عند المستعين وعنده الفقهاء والقضاة فقال له قد كنت فارقتني على أن تنفذ أمري في كل ما أعزم عليه وخطك عندي بذلك فقال المستعين أحضر الرقعة فأحضرها فإذا فيها ذكر الصلح وليس فيها ذكر الخلع فقال نعم امض الصلح، فخرج محمد إلى ظاهر باب الشماسية فضرب له مضرب فنزل إليه ومعه جماعة من أصحابه وجاء أبو أحمد في سمرية،
160

فصعد إليه، فتناظرا طويلا ثم خرجا فجاء ابن طاهر إلى المستعين فأخبره أنه بذل له خمسين ألف دينار ويقطع عليه ثلاثين ألف دينار وعلى أن يكون مقامه بالمدينة يتردد منها إلى مكة ويخلع نفسه من الخلافة وأن يعطي بغا ولاية الحجاز جميعه ويولي وصيفا الجبل وما والاه ويكون ثلث ما يجبي من المال لمحمد بن عبد الله وجند بغداد والثلثان للموالي والأتراك فامتنع المستعين من الإجابة إلى الخلع وظن أو وصيفا وبغا معه يكاشفانه فقال النطع والسيف فقال له ابن طاهر أما أنا فأقعد ولا بد لك من خلعها طائعا أو مكرها! فأجاب إلى الخلع.
وكان سبب إجابته إلى الخلع أن محمدا وبغا ووصيفا لما ناظروه في الخلع أغلظ عليهم فقال وصيف أنت أمرتنا بقتل باغر فصرنا إلى ما نحن فيه وأنت أمرتنا بقتل أتامش وقلت إن محمدا ليس بناصح وما زالوا يفزعونه وقال محمد وقد قلت لي إن أمرنا لا يصلح إلا باستراحتنا من هذين الاثنين فلما رأى ذلك أذعن بالخلع وكتب بما أراد لنفسه من الشروط وذلك لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي الحجة. وجمع محمد الفقهاء والقضاء وأدخلهم على المستعين وأشهدهم عليه أنه قد صير أمره إلى محمد بن عبد الله ثم أخذ منه جوهر الخلافة.
وبعث ابن طاهر إلى قواده ليوافوه ومع كل قائد عشرة نفر من وجوه أصحابه فأتوهم فمناهم وقال لهم ما أردت ما فعلت إلا صلاحكم وحقن
161

الدماء. وأمرهم بالخروج إلى المعتز في الشروط التي شرطها المستعين لنفسه ولقواده ليوقع المعتز عليها بخطه ثم أخرجهم إلى المعتز فمضوا إليه فأجاب إلى ما طلبوا ووقع عليه بخطه وشهدوا على إقراره وخلع عليهم ووجه معهم من يأخذ البيعة على المستعين وحمل إلى المستعين أمه وعياله بعد ما فتشوا وأخذوا ما معهم وكان دخول الرسل بغداد من عند المعتز لست خلون من المحرم سنة اثنتين وخمسين ومائتين.
ذكر غزو الفرنج بالأندلس
في هذه السنة سير محمد بن عبد الرحمن الأموي صاحب الأندلس جيشا مع ابنه المنذر إلى بلاد المشركين في جمادى الآخرة فساروا وقصدوا الملاحة وكانت أموال لذريق بناحية ألية والقلاع فلما عم المسلمون بلدهم بالخراب والنهب جمع لذريق عساكره وسار يريدهم فالتقوا بموضع يقال له فج المركوين وبه تعرف هذه الغزاة فاقتتلوا فانهزم المشركون إلا أنهم لم يبعدوا واجتمعوا بهضبة بالقرب من موضع المعركة فتبعهم المسلمون وحملوا عليهم واشتد القتال فولى الفرنج منهزمين لا يلوون على شيء وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون وكانت هذه الوقعة ثاني عشر رجب وكان عدد ما أخذ من رؤوس
162

المشركين ألفين وأربعمائة واثنين وتسعين رأسا وكان فتحا عظيما وعاد المسلمون.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة رجع سليمان بن محمد صرفه عبد الله بن طاهر إلى طبرستان من جرجان بجمع كثير وخيل وسلاح فتنحى الحسن بن زيد عن طبرستان ولحق بالديلم ودخلها سليمان وقصد سارية وأتاه ابنان لقارن بن شهريار وأتاه أهل آمل وغيرهم منيبين مظهرين الندم يسألون الصفح فلقيهم بما أرادوا ونهى أصحابه عن القتل والنهب والأذى.
وورد كتاب أسد بن جندان إلى محمد بن عبد الله يخبره أنه لقي علي بن عبد الله الطالبي المسمى بالمرعشي فيمن معه من رؤساء الجبل فهزمه ودخل مدينة آمل.
وفيها ظهر بأرمينية رجلان فقاتلهما العلاء بن أحمد عامل بغا الشرابي، فهزمهما فصعدا قلعة هناك فحصرهما ونصب عليها المجانيق فهزما منها وخفى أمرهما عليه وملك القلعة.
وفيها حارب عيسى بن الشيخ الموفق الخارجي فهزمه وأسر الموفق.
وفيها ورد كتاب محمد بن طاهر بن عبد الله بخبر الطالبي الذي ظهر بالري، وما أعد له من العساكر المسيرة إليه وظفر به واسمه محمد بن جعفر
163

فأخذه أسيرا، ثم سار إلى الري بعد أسر محمد بن جعفر بن أحمد بن عيسى بن الحسين الصغير بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام وإدريس بن موسى بن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام.
وفيها انهزم الحسن بن زيد من محمد بن طاهر وكان لقيه في ثلاثين ألفا وقتل من أصحابه أعيان الحسن ثلاثمائة وأربعين رجلا.
وفيها خرج إسماعيل بن يوسف العلوي ابن أخت موسى بن عبد الله الحسني.
وفيها كانت وقعة بين محمد بن خالد بن يزيد وأحمد المولد وأيوب بن أحمد بالكسير من أرض بني تغلب فقتل بينهما جماعة كثيرة فانهزم محمد ونهب متاعه.
وفيها غزا بلكاجور الروم ففتح مطمورة وغنم غنيمة كثيرة وأسر جماعة من الروم.
وفيها ظهر بالكوفة رجل من الطالبيين اسمه الحسين بن أحمد بن حمزة بن عبد الله بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام واستخلف بها حمد بن جعفر بن حسن بن
جعفر بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام يكنى أبا أحمد فوجه إليه المستعين مزاحم بن خاقان وكان العلوي بسواد الكوفة في جماعة من بني أسد ومن الزيدية وأجلى عنها عامل الخليفة وهو أحمد بن نصير بن حمزة بن مالك الخزاعي إلى قصر ابن هبيرة واجتمع مزاحم وهشام بن أبي دلف العجلي فسار مزاحم إلى الكوفة فحمل أهل الكوفة العلوية على قتالهما، ووعدهم النصرة، فتقدم مزاحم
164

وقاتلهم، وكان قد سير قائدا معه جماعة فأتى أهل الكوفة من ورائهم فأطبقوا عليهم فلم يفلت منهم أحد ودخل الكوفة فرماه أهلها بالحجارة فأحرقها بالنار فاحترق منها سبعة أسواق حتى خرجت النار إلى السبيع ثم هجم على الدار التي فيها العلوي فهرب وأقام المزاحم بالكوفة فأتاه كتاب المعتز يدعوه إليه فسار إليه.
وفيها ظهر إنسان علوي بناحية نينوى من أرض العراق فلقيه هشام بن أبي دلف في شهر رمضان فقتل من أصحاب العلوي جماعة وهرب فدخل الكوفة.
وفيها ظهر الحسين بن أحمد بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الأرقط بن محمد بن علي بن الحسين بن علي المعروف بالكوكبي بناحية قزوين وزنجان فطرد عمال طاهر عنها.
وفيها قطعت بنو عقيل طريق جدة فحاربهم جعفر بشاشات فقتل من أهل مكة نحو ثلاثمائة رجل فغلت الأسعار بمكة وأغارت الأعراب على القرى.
وفيها ظهر إسماعيل بن يوسف بن إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب بمكة فهرب جعفر بشاشات وانتهب إسماعيل منزله ومنازل أصحاب السلطان وقتل الجند وجماعة من أهل مكة وأخذ ما كان حمل لاصلاح القبر من المال وما في الكعبة وخزائنها من الذهب والفضة وغير ذلك وأخذ كسوة الكعبة وأخذ من الناس نحوا من مائتي ألف دينار وخرج منها بعد أن نهبها وأحرق بعضها في ربيع الأول بعد خمسين يوما
165

وسار إلى المدينة فتوارى عاملها ثم رجع إسماعيل إلى مكة في رجب فحصرهم حتى تماوت أهلها جوعا وعطشا وبلغ الخبز ثلاثة أواق بدرهم واللحم رطل بأربعة دراهم وشربة ماء بثلاثة دراهم ولقي أهل مكة منه كل بلاء.
ثم سار إلى جدة بعد مقام سبعة وخمسين يوما فحبس عن الناس الطعام وأخذ الأموال التي للتجار وأصحاب المراكب ثم وافى إسماعيل عرفة وبها محمد بن أحمد بن عيسى بن المنصور الملقب بكعب البقر وعيسى بن محمد المخزومي صاحب جيش مكة كان المعتز وجههما إليه فقاتلهما إسماعيل وقتل من الحاج نحو ألف ومائة وسلب الناس وهربوا إلى مكة ولم يقفوا بعرفة ليلا ولا نهارا ووقف إسماعيل وأصحابه ثم رجع إلى جدة فأفنى أموالها.
وفيها مات سري السقطي الزاهد وإسحاق بن منصور بن بهرام أبو يعقوب الكوسج الحافظ النيسابوري توفي في جمادى الأولى وله مسند يروى عنه.
166

252
ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين ومائتين
ذكر خلع المستعين
في هذه السنة خلع المستعين أحمد بن محمد بن المعتصم نفسه من الخلافة وبايع للمعتز بالله بن المتوكل وخطب للمعتز ببغداد يوم الجمعة لأربع خلون من المحرم وأخذ له البيعة على كل من بها من الجند.
وكان ابن طاهر قد دخل على المستعين ومعه سعيد بن حميد وقد كتب شروط الأمان فقال له يا أمير المؤمنين قد كتب سعيد كتاب الشروط فأكده غاية التوكيد فتقرأه عليك لتسمعه فقال المستعين لا حاجة لي إلى توكيدها فما القوم بأعلم بالله منك ولقد أكدت على نفسك قبلهم بمكان ما علمت فما رد عليه محمد شيئا.
فلما بايع المستعين للمعتز وأشهد عليه بذلك نقل من الرصافة إلى قصر الحسن بن سهل بالمحرم ومعه عياله وأهله جميعا ووكل بهم وأخذ منه البردة والقضيب والخاتم ووجه مع عبد الله بن طاهر ومنع المستعين من الخروج إلى مكة فاختار المقام بالبصرة فقيل له إن البصرة وبيئة فقال هي أوبأ أو ترك الخلافة!
ولست خلون من المحرم دخل بغداد أكثر من مائتي سفينة فيها صنوف
167

التجارات وغنم كثير.
وفيها سير المستعين إلى واسط واستوزر المعتز أحمد بن إسرائيل وخلع عليه ورجع أبو أحمد إلى سامرا لاثنتي عشرة خلت من المحرم فقال بعض الشعراء في خلع المستعين:
(خلع الخليفة أحمد بن محمد * وسيقتل التالي له أو يخلع)
(ويزول ملك بني أبيه ولا نرى * أحدا بملك منهم يتمتع)
(إيها بني العباس إن سبيلكم * في قتل أعبدكم سبيل مهيع)
(رقعتم دنياكم فتمزقت * بكم الحياة تمزقا لا يرقع)
وقال الشعراء في خلعه كالبحتري ومحمد بن مروان بن أبي الجنوب وغيرهما فأكثروا.
وفيها لسبع بقين من المحرم انصرف أبو الساج ديوداد بن ديودست إلى بغداد فقلده محمد بن عبد الله معاون ماء سقي الفرات من السواد فسير نوابه إليها لطرد الأتراك والمغاربة عنها ثم سار أبو الساج إلى الكوفة.
ذكر حال وصيف وبغا
وفيها كتب المعتز إلى محمد بن عبد الله في اسقاط اسم وصيف وبغا ومن معهما من الدواوين وكان محمد بن أبي عون وهو أحد قواد محمد بن عبد الله قد وعد أبا أحمد أن يقتل بغا ووصيفا فعقد له المعتز على اليمامة والبحرين والبصرة فكتب قوم من أصحاب بغا ووصيف إليهما بذلك،
168

وحذروهما محمد بن عبد الله، فركبا إلى محمد، وعرفاه ما ضمنه ابن أبي عون من قتلهما وقال بغا إن القوم قد غدروا أو خالفوا ما فارقونا عليه والله لو أرادوا أن يقتلونا ما قدروا عليه.
فكفه وصيف وقال: نحن نقعد في بيوتنا حتى يجيء من يقتلنا ورجعا إلى منازلهما وجمعا جندهما ووجه وصيف أخته سعاد إلى المؤيد وكان في حجرها فكلم المؤيد المعتز في الرضا عنه فرضي عن وصيف وكتب إليه بذلك وتكلم أبو أحمد بن المتوكل في بغا فكتب إليه بالرضا عنه وهما ببغداد ثم تكلم الأتراك بإحضارهما إلى سامرا فكتب إليهما بذلك وكتب إلى محمد بن عبد الله ليمنعهما من ذلك فأتاهما كتاب إحضارهما فأرسلاه إلى محمد بن عبد الله يستأذنانه وخرج وصيف وبغا وفرسانهما وأولادهما في نحو أربعمائة إنسان وخلقا الثقل والعيال فوجه ابن طاهر إلى باب الشماسية من يمنعهم فمضوا إلى باب خراسان وخرجوا منه ووصلا سامرا ورجعا إلى منزلهما من الخدمة وخلع عليهما وعقد لهما على أعمالهما ورد البريد إلى موسى بن بغا الكبير.
كر الفتنة بين جند بغداد ومحمد بن عبد الله
وفي هذه السنة كانت وقعة بين جند بغداد وأصحاب محمد بن عبد الله بن طاهر.
وكان سبب ذلك أن الشاكرية وأصحاب القروض اجتمعوا إلى دار محمد يطلبون أرزاقهم في رمضان فقال لهم إني كتبت إلى أمير المؤمنين
169

في إطلاق أرزاقكم فكتب في الجواب إن كنت تريد الجند لنفسك فأعطهم أرزاقهم وإن كنت تريدهم لنا فلا حاجة لنا فيهم فشغبوا عليه وأخرج لهم ألفي دينار ففرقت فيهم فسكتوا.
ثم اجتمعوا في رمضان أيضا ومعهم الأعلام والطبول وضربوا الخيام على باب حرب وعلى باب الشماسية وغيرهما وبنوا بيوتا من بواري وقصب وباتوا ليلتهم فلما أصبحوا كثر جمعهم وأحضر محمد أصحابه فباتوا في داره وشحن داره بالرجال واجتمع إلى أولئك المشغبين خلق كثير بباب حرب بالسلاح والأعلام والطبول ورئيسهم أبو القاسم عبدون بن الموفق وكان من نواب عبيد الله بن يحيى بن خاقان فحثهم على طلب أرزاقهم وفائتهم.
فلما كان يوم الجمعة أرادوا أن يمنعوا الخطيب من الدعاء للمعتز فعلم الخطيب بذلك فاعتذر بمرض لحقه ولم يخطب فمضوا يريدون الجسر فوجه إليهم ابن طاهر عدة من قواده في جماعة من الفرسان والرجال فاقتتلوا فقتل منهم قتلى ودفعوا أصحاب ابن طاهر عن الجسر فلما رأى الذين بالجانب الشرقي أن أصحابهم أزالوا أصحاب ابن طاهر عن الجسر حملوا يريدون العبور إلى أصحابهم، وكان ابن طاهر قد أعد سفينة فيها شوك وقصب فألقى بها النار وأرسلها إلى الجسر الأعلى فأحرقت سفنه وقطعته وصارت إلى الجسر الآخر فأدركها أهل الجانب الغربي فغرقوها وعبر من [في] الجانب الشرقي إلى الغربي ودفعوا أصحاب ابن طاهر إلى باب داره وقتل بينهم نحو
170

عشرة أنفس ونهب العامة مجلس الشرط وأخذوا منه شيئا كثيرا من أصناف المتاع.
ولما رأى ابن طاهر أن الجند قد ظهروا على أصحابه أمر بالحوانيت التي على باب الجسر أن تحرق فاحترق للتجار متاع كثير فحالت النار بين الفريقين ورجع الجند إلى معسكرهم بباب حرب وجمع ابن طاهر عامة أصحابه وعباهم تعبية الحرب خوفا من رجعة الجند فلم يكن لهم عودة فأتاه في بعض الأيام رجلان من الجند فولاه على عورة القوم فأمر لهما بمائتي دينار وأمر الشاه ابن ميكال وغيره من القواد في جماعة بالمسير إليهم فسار إلى تلك الناحية وكان أبو القاسم وابن الخليل وهما المقدمان على الجند قد خافا بمضي ذينك الرجلين وقد تفرق الناس عنهما فسار كل واحد منهما إلى ناحية فأما ابن الخليل فإنه لقي الشاه بن ميكال ومن معه فصاح بهم وصاح به أصحاب محمد وصار في وسطهم فقتل وأما أبو القاسم فإنه اختفى فدل عليه فأخذ وحمل إلى ابن طاهر وتفرق الجند من باب حرب ورجعوا إلى منازلهم وقيد أبو القاسم وضرب ضربا مبرحا فمات منه في رمضان.
ذكر خلع المؤيد وموته
في رجب خلع المعتز أخاه المؤيد من ولاية العهد بعده وكان سببه أن العلاء بن أحمد عامل أرمينية بعث إلى المؤيد بخمسة آلاف دينار ليصلح بها
171

أمره، فبعث عيسى بن فرخانشاه إليها فأخذها فأغرى المؤيد الأتراك بعيسى وخالفهم المغاربة فبعث المعتز إلى المؤيد وأبي أحمد فأخذهما وحبسهما وقيد المؤيد وأدر العطاء للأتراك والمغاربة.
وقيل إنه ضربه أربعين مقرعة وخلعه بسامرا وأخذ خطه بخلع نفسه وكانت وفاته أيضا في رجب لثمان بقين من الشهر.
وكان سبب موته أن امرأة من نساء الأتراك أعلمت محمد بن راشد أن الأتراك يريدون إخراج المؤيد من الحبس فأنهى ذلك إلى المعتز فذكر موسى بن بغا عنه فقال ما أرادوه إنما أرادوا أن يخرجوا أبا أحمد بن المتوكل لأنسهم به وكان في الحرب التي كانت فلما كان من الغداة دعا بالقضاة والفقهاء والوجوه فأخرج المؤيد إليهم ميتا لا أثر به ولا جرح وحمل إلى أمه ومعه كفنه وأمرت بدفنه فقيل إنه أدرج في لحاف سمور وأمسك طرفاه حتى مات وقيل إنه أقعد في الثلج وجعل على رأسه منه كثير فجمد بردا ولما مات المؤيد نقل أخوه أبو أحمد إلى محبسه وكانا لأب وأم.
ذكر قتل المستعين
ولما أراد المعتز قتل المستعين أحمد بن محمد بن المعتصم كتب إلى محمد بن عبد الله يأمره بتسليم المستعين إلى سيما الخادم فكتب محمد بن الموكلين
172

بالمستعين بواسط في تسليمه وأرسل أحمد بن طولون في تسليمه فأخذه أحمد وسار به إلى القاطول فسلمه إلى سعيد بن صالح فأدخله سعيد منزله وضربه حتى مات.
وقيل: بل جعل في رجله حجرا وألقاه في دجلة وقيل كان قد حمل معه داية له تعادله فلما أخذه سعيد ضربه بالسيف فصاح وصاحت دايته ثم قتل وقتلت الامرأة معه وحمل رأسه إلى المعتز وهو يلعب بالشطرنج فقيل هذا رأس المخلوع فقال ضعوه حتى أفرغ من الدست فلما فرغ نظر إليه وأمر بدفنه وأمر لسعيد بخمسين ألف درهم وولاه معونة البصرة.
ذكر الفتنة بين الأتراك والمغاربة
وفي هذه السنة مستهل رجب كانت الفتنة بين الأتراك والمغاربة.
وسببها أن الأتراك وثبوا بعيسى بن فرخانشاه فضربوه وأخذوا دابته واجتمعت المغاربة مع محمد بن راشد ونصر بن سعد وغلبوا الأتراك على الجوسق وأخرجوهم منه وقالوا لهم كل يوم تقتلون خليفة وتخلعون آخر وتعملون وزيرا.
وصار الجوسق وبيت المال في أيدي المغاربة وأخذوا الدواب التي كان تركها الأتراك فاجتمع الأتراك وأرسلوا إلى من بالكرخ والدور منهم فاجتمعوا
173

وتلاقوا هم والمغاربة، وأعان الغوغاء والشاكرية المغاربة فضعف الأتراك وانقادوا فأصلح جعفر بن عبد الواحد بينهم على أن لا يحدثوا شيئا وكل موضع يكون فيه رجل من الفريقين يكون فيه رجل من الفريق الآخر فمكثوا مدة مديدة ثم اجتمع الأتراك وقالوا نطلب هذين الرأسين فإن ظفرنا بهما فلا أحد ينطق فبلغ الخبر باجتماع الأتراك إلى محمد بن راشد ونصر بن سعد فخرجا إلى منزل محمد بن غرون ليكونا عنده حتى يسكن الأتراك ثم يرجعا إلى جمعهما فغمز بهما إلى الأتراك فأخذوهما فقتلوهما فبلغ ذلك المعتز فأراد قتل ابن غرون فكلم فيه فنفاه إلى بغداد.
ذكر خروج مساور بالبوازيج
في هذه السنة في رجب خرج مساور بن عبد الحميد بن مساور الشاري البجلي الموصلي بالبوازيج وإلى جده ينسب فندق مساور بالموصل وكان سبب خروجه أن شرطة الموصل كان يتولاها هو لبني عمران وأمراء الموصل لزموا إنسانا اسمه حسين بن بكير فأخذ ابنا لمساور هذا اسمه حوثرة فحبسه بالحديثة وكان حوثرة جميلا فكان حسين هذا يخرجه من الحبس ليلا ويحضر عنده ويرده إلى الحبس نهارا فكتب حوثرة إلى أبيه مساور وهو بالبوازيج يقول له أنا بالنهار محبوس وبالليل
174

عروس فغضب لذلك وقلق وخرج وبايعه جماعة وقصد الحديثة فاختفى حسين بن بكير وأخرج مساور ابنه حوثرة من الحبيس وكثر جمعه من الأكراد والأعراب وسار إلى الموصل فنزل بالجانب الشرقي.
وكان الوالي عليها عقبة بن محمد بن جعفر بن محمد بن الأشعث بن أهبان الخزاعي وأهبان يقال إنه مكلم الذئب وله صحبة فوافقه عقبة من الجانب الغربي فعبر دجلة رجلان من أهل الموصل إلى مساور فقاتلا فقتلا وعاد مساور وكره القتال وكان حوثرة بن مساور معهم فسمع يقول:
(أنا الغلام البجلي الشاري * أخرجني جوركم من داري)
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة حمل محمد بن علي بن خلف العطار وجماعة من الطالبيين إلى سامرا فيهم أبو أحمد محمد بن جعفر بن الحسن بن جعفر بن حسن بن علي بن أبي طالب وأبو هاشم داود بن القاسم الجعفري في شعبان.
وكان سبب ذلك أن رجلا من الطالبيين سار من بغداد في جماعة من الشاكرية إلى ناحية الكوفة وكانت من أعمال أبي الساج وكان يقيما ببغداد فأمر محمد بن عبد الله بالمسير إلى كوفة فقدم بين يديه خليفته عبد الرحمن إلى الكوفة فلما صار إليها رمي بالحجارة وظنوه جاء لحرب العلوي،
175

فقال: لست بعامل إنما أنا رجل وجهت لحرب الأعراب فكفوا عنه.
وكان أبو أحمد الطالبي المذكور قد ولاه المعتز الكوفة بعدما هزم مزاحم بن خاقان العلوي الذي كان وجه لقتاله بها وقد تقدم ذكره فعاث أبو أحمد فيها وآذى الناس وأخذ أموالهم وضياعهم فلما أقام عبد الرحمن بالكوفة لاطفه واستماله حتى خالطه أبو أحمد وآكله وشاربه حتى سار به ثم خرج متنزها إلى بستان فأمسى وقد عبأ له عبد الرحمن أصحابه فقيده وسيره إلى بغداد في ربيع الآخر ووجدت مع ابن أخ لمحمد بن علي بن خلف العطار كتب من الحسن بن زيد فكتب بخبره إلى المعتز فكتب إلى محمد بن عبد الله بحمله وحمل الطالبيين المذكورين إلى سامرا فحملوا جميعا.
وفيها ولي الحسين بن أبي الشوارب قضاة القضاة.
وفيها توجه أبو الساج إلى طريق خراسان من قبل محمد بن عبد الله.
وفيها عقد لعيسى بن الشيخ على الرملة وأنفذ خليفته أبا المغراء إليها وعيسى هذا شيباني وهو عيسى بن الشيخ بن السليل من ولد جساس بن مرة بن ذهل بن شيبان واستولى على فلسطين جميعها فلما كان من الأتراك ببغداد ما ذكرناه تغلب على دمشق وأعمالها وقطع ما كان يحمل من الشام إلى الخليفة واستبد بالأموال.
وفيها كتب وصيف إلى عبد العزيز بن أبي دلف العجلي بتوليته الجبل وبعث إليه بخلع فتولى ذلك من قبله.
وفيها قتل محمد بن عمرو الشاري بديار ربيعة قتله خليفة لأيوب بن
176

أحمد في ذي القعدة.
وفيها أغار جستان صاحب الديلم مع عيسى بن أحمد العلوي والحسن بن أحمد الكوكبي على الري فقتلوا وسبوا وكان بها عبد الله بن عزيز فهرب منها فصالحهم أهل الري على ألفي ألف درهم فارتحلوا عنها وعاد ابن عزيز فأخذ أحمد بن عيسى وبعث به إلى نيسابور.
وفيها مات إسماعيل بن يوسف الطالبي الذي كان فعل بمكة ما فعل.
وفيها حج بالناس محمد بن أحمد بن عيسى بن المنصور.
وفيها سير محمد بن [عبد الرحمن] صاحب الأندلس جيشا إلى بلاد العدو فقصدوا ألية والقلاع ومدينة مانة وقتلوا من أهلها عددا كثيرا ثم قفل الجيش سالمين.
وفيها توفي محمد بن بشار بندار وأبو موسى محمد بن المثنى الزمن البصريان وهما من مشايخ البخاري ومسلم في الصحيح وكان مولده بندار سنة سبع وستين ومائة.
177

253
ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين ومائتين
ذكر أخذ كرج من أبي دلف
فيها عقد المعتز لموسى بن بغا الكبير في رجب على الجبل فسار على مقدمته مفلح فلقيه عبد العزيز بن أبي دلف خارج همذان فتحاربا وكان مع عبد العزيز أكثر من عشرين ألفا من الصعاليك وغيرهم فانهزم عبد العزيز وقتل أصحابه.
فلما كان في رمضان سار مفلح نحو الكرج وجعل له كمينين ووجه عبد العزيز عسكرا فيه أربعة آلاف فقاتلهم مفلح وخرج الكمينان على أصحاب عبد العزيز فانهزموا وقتلوا وأسروا وأقبل عبد العزيز ليعين أصحابه فانهزم بانهزامهم وترك كرج ومضى إلى قلعة له يقال لها زر فتحصن بها ودخل مفلح كرج فأخذ أهل عبد العزيز وفيهم والدته.
ذكر قل وصيف
وفيها قتل وصيف؛ وكان سبب قتله أن الأتراك والفراغنة والأشروسنية شغبوا وطلبوا أرزاقهم لأربعة أشهر فخرج إليهم بغا ووصيف وسيما،
178

فكلمهم وصيف فقال لهم خذوا التراب ليس عندنا مال وقال بغا نعم نسأل أمير المؤمنين ونتناظر في دار أشناس فدخلوا دار أشناس.
ومضى سيما وبغا إلى المعتز وبقي وصيف في أيديهم فوثب عليه بعضهم فضربه بالسيف ووجأه آخر بسكين ثم ضربوه بالطبرزينات حتى قتلوه وأخذوا رأسه ونصبوه على محراك تنور وجعل المعتز ما كان إلى وصيف إلى بغا الشاربي وهو بغا الصغير وألبسه التاج والوشاحين.
ذكر قتل بندار الطبري
وفيها قتل بندار الطبري، وكان سبب قتله أن مساور بن عبد الحميد الموصلي الخارجي لما خرج بالبوازيج كما ذكرنا وكان طريق خراسان إلى بندار ومظفر بن سيسل وكان بالدسكرة فأتى الخبر إلى بندار بمسير مساور إلى كرخ جدان فقال المظفر في المسير إليه فقال للمظفر قد أمسينا وغدا العيد فإذا قضينا العيد سرنا إليه فهم بندار طمعا في أن يكون الظفر له فسار ليلا حتى أشرف على عسكر مساور فأشار عليه بعض أصحابه أن يبيتهم فأبى وقال حتى أراهم ويروني فأحس به الخوارج فركبوا واقتتلوا.
وكان مع بندار ثلاثمائة فارس ومع الخوارج سبعمائة فاشتد القتال بينهم وحمل الخوارج حملة اقتطعوا من أصحاب بندار أكثر من مائة،
179

فصبروا لهم، وقاتلوهم حتى قتلوا جميعا فانهزم بندار وأصحابه وجعل الخوارج يقطعونهم قطعة بعد قطعة فقتلوهم.
وأمعن بندار في الهرب فطلبوه فلحقوه فقتلوه ونصبوا رأسه ونجا من أصحابه نحو من خمسين رجلا وقتل مائة.
وأتى الخبر إلى المظفر فرحل نحو بغداد وسار مساور نحو حلوان فقاتله أهلها فقتل منهم أربعمائة إنسان وقتلوا من أصحابه جماعة وقتل عدة من حجاج خراسان كانوا بحلوان وأعانوا أهلها ثم انصرفوا عنه.
وقال ابن مساور في ذلك:
(فجعت العراق ببندارها * وحزت البلاد بأقطارها)
(وحلوان صبحتها غارة * فقبلت أغرار غرارها)
(وعقبة بالموصل أحجرته * وطوقته الذل في كارها)
ذكر موت محمد بن عبد الله بن طاهر
وفي ليلة أربع عشرة من ذي الحجة انخسف القمر جميعه ومع انتهاء خسوفه مات محمد بن عبد الله بن طاهر بن الحسين وكانت علته التي مات بها قروحا أصابته في حلقه ورأسه فذبحته وكانت تدخل فيها الفتائل.
ولما اشتد مرضه كتب إلى عماله وأصحابه بتفويض ما اليه من الولاية إلى
180

أخيه عبيد الله بن طاهر فلما مات تنازع ابنه طاهر وأخوه عبيد الله الصلاة عليه فصلى عليه ابنه وتنازع عبيد الله وأصحاب طاهر حتى سلوا السيوف ورموا بالحجارة ومالت العامة مع أصحاب طاهر وعبر عبيد الله إلى داره بالجانب الشرقي فعبر معه القواد لاستخلاف محمد وكان وصاه على أعماله ثم وجه المعتز بعد ذلك الخلع إلى
عبيد الله فأمر عبيد الله للذي أتاه بالخلع بخمسين ألف درهم.
ذكر الفتنة بأعمال الموصل
في هذه السنة كانت حرب بين سليمان بن عمران الأزدي وبين عنزة.
وسببها أن سليمان اشترى ناحية من المرج فطلب منه إنسان من عنزة اسمه برهونة الشفعة فلم يجبه إليها فسار برهونة إلى عنزة وهم بين الزابين فاستجار بهم وببني شيبان واجتمع معه جمع كثير فنهبوا الأعمال وأسرفوا.
وجمع سليمان لهم بالموصل وسار إليهم فعبر الزاب وكانت بينهم حرب شديدة قتل فيها كثير وكان الظفر لسليمان فقتل منهم بباب شمعون مقتلة وادخل من رؤوسهم إلى الموصل أكثر من مائتي رأس،
181

فقال حفص بن عمرو الباهلي قصيدة يذكر فيها الوقعة أولها:
(شهدت مواقفنا نزار فأخمدت * كرات كل سميدع قمقام)
(جاؤوا وجئنا لا نفيتم صلنا * ضربا يطيح جماجم الأجسام)
وهي طويلة.
وفيها كان أيضا بأعمال الموصل فتنة وحرب قتل فيها الحباب بن بكير التليدي وسبب ذلك أن محمد بن عبد الله بن السيد بن أنس التليدي الأزدي اشترى قريتين [كان] رهنهما محمد بن علي التليدي عنده وكره صاحبهما أن يشتريهما فشكا ذلك إلى الحباب بن بكير فقال الحباب له ائتني بكتاب من بغا لأمنع عنهما وأعطاه دواب ونفقة وانحدر إلى سر من رأى وأحضر كتابا من بغا إلى الحباب يأمره بكف يد محمد بن عبد الله بن السيد عن القريتين ففعل ذلك وأرسل إليهما من منع عنهما محمد فجرت بينهم مراسلات واصطلحوا.
فبينما محمد بن عبد الله بن السيد والحباب بالبستان على شراب لهما ومعهما قينة فقال لها الحباب غني بهذا الشعر:
(متى تجمع القلب الذكي وصارما * وانفا حميا تجتنبك المظالم)
فغنت الجارية فغضب محمد بن عبد الله وقال لها بل غني:
182

(كذبتم وبيت الله لا تأخذونها * مراغمة ما دام للسيف قائم)
(ولا صلح حتى تقرع البيض بالقنا * ويضرب بالبيض الخفاف الجماجم)
وافترقا وقد حقد كل واحد منهما على صاحبه وأعاد الحباب التوكيل بالقريتين فجمع محمد جمعا وترددت الرجل في الصلح وأجابا إلى ذلك وفرق محمد جمعه فأبلغ محمد أن الحباب قال لو كان مع محمد أربعة لما أجاب إلى الصلح فغضب لذلك وجمع جمعا كثيرا وسار مبادرا إلى الحباب فخرج إليه الحباب غير مستعد فاقتتلوا فقتل الحباب ومعه ابن له وجمع من أصحابه وكان ذلك في ذي القعدة من هذه السنة.
ذكر عدة حوادث
فيها نفي أبو أحمد بن المتوكل إلى البصرة ثم رد إلى بغداد فأنزل في الجانب الشرقي بقصر دينار ونفي أيضا علي بن المعتصم إلى واسط ثم رد إلى بغداد.
وفيها مات مزاحم بن خاقان بمصر في ذي الحجة وحج بالناس عبد الله بن محمد بن سليمان الزينبي.
وفيها غزا محمد بن معاذ من ناحية ملطية فانهزم وأسر.
183

وفيها التقى موسى بت بغا والكوكبي العلوي عند قزوين فانهزم الكوكبي ولحق بالديلم وكان سبب الهزيمة أنهم لما اصطفوا للقتال جعل أصحاب الكوكبي تروسهم في وجوههم فيتقون بها سهام أصحاب موسى فلما رأى موسى أن سهام أصحابه لا تصل إليهم مع فعلهم أمر بما معه من النفط أن يصب في الأرض ثم أمر أصحابه بالاستطراد لهم ففعلوا ذلك فظن الكوكبي وأصحابه أنهم قد انهزموا فتبعهم فلما توسطوا النفط أمر موسى بالنار فألقيت فيه فالتهب من تحت أقدامهم فجعلت تحرقهم فانهزموا فتبعهم موسى ودخل قزوين.
وفيها في ذي الحجة لقي مساور الخارجي عسكرا للخليفة مقدمهم حطرمس بناحية جلولاء فهزمه مساور.
وفيها سار جيش المسلمين من الأندلس إلى بلاد المشركين فافتتحوا حصون جرنيق وحاصروا فوتب (؟) وغلب على أكثر أسوارها.
ذكر ابتداء دولة يعقوب الصفار وملكه هراة وبوشنج
كان يعقوب بن الليث وأخوه عمرو يعملان الصفر بسجستان ويظهران الزهد والتقشف وكان في أيامهما رجل من أهل سجستان يظهر التطوع بقتال الخوارج يقال له صالح المطوعي فصحبه يعقوب وقاتل معه فحظي عنه فجعله صالح مقام الخليفة عنه ثم هلك صالح وقام مقامه
184

إنسان آخر اسمه درهم فصار يعقوب مع درهم كما كان مع صالح قبله.
ثم إن صاحب خراسان احتال لدرهم لما عظم شأنه وكثر أتباعه حتى ظفر به وحمله إلى بغداد فحبسه بها ثم أطلق وخدم الخليفة ببغداد.
وعظم أمر يعقوب بعد أخذ درهم وصار متولي أمر المتطوعة مكان درهم وقام بمحاربة الشراة فظفر بهم وأكثر القتل فيهم حتى كاد يفنيهم وهرب قراهم وأطاعه أصحابه
بمكره وحسن حاله ورأيه طاعة لم يطيعوها أحدا كان قبله واشتدت شوكته فغلب على سجستان وأظهر التمسك بطاعة الخليفة وكاتبه وصدر عن أمره وأظهر أنه هو أمره بقتال الشراة وملك سجستان وضبط الطرق وحفظها وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر فكثر أتباعه فخرج عن حد طلب الشراة وصار يتناول أصحاب أمير خراسان للخليفة.
ثم سار من سجستان إلى هراة من خراسان هذه السنة ليملكها وكان أمير خراسان محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر بن الحسين وعامله على هراة محمد بن أوس الأنباري فخرج منها لمحاربة يعقوب في تعبية وبأس شديد وزي جميل فتحاربا واقتتلا قتالا شديدا فانهزم ابن أوس وملك يعقوب هراة وبوشنج وصارت المدينتان في يده فعظم أمره حينئذ وهابه أمير خراسان وغيره من أصحاب الأطراف.
185

254
ثم دخلت سنة أربع وخمسين ومائتين
ذكر مقتل بغا الشرابي
فيها قتل بغا الشاربي؛ وكان سبب قتله أنه كان يحرض المعتز على المسير إلى بغداد والمعتز يأبى ذلك ويكرهه فانفق أن بغا اشتغل بتزويج ابنته من صالح بن وصيف فركب المعتز ومعه أحمد بن إسرائيل إلى كرخ سامرا إلى بابكيال التركي ومن معه من المنحرفين عن بغا.
وكان سبب انحرافه عنه أنهما كانا على شراب لهما فعربد أحدهما على الآخر فاختفى بابكيال من بغا فلما أتاه المعتز اجتمع معه أهل الكرخ وأهل الدور ثم أقبلوا مع المعتز إلى الجوسق بسامرا وبلغ ذلك بغا فخرج في غلمانه وهم زهاء خمسمائة إنسان من ولده وقواده فسار إلى السن فشكا أصحابه بعضهم إلى بعض ما هم فيه من العسف وأنهم خرجوا بغير مضارب ولا ما يلبسونه في البرد وأنهم في شتاء فأتاه بعض أصحابه وأخبره بقولهم فقال دعني حتى أنظر الليلة.
فلما جن عليه الليل ركب في زورق ومعه خادمان وشئ من المال الذي صحبه وكان قد صحبه تسع عشرة بدرة دنانير ومائة بدرة دراهم ولم يحمل معه سلاحا ولا سكينا ولا شيئا لم يعلم به أحد من عسكره.
186

وكان المعتز في غيبة بغا لا ينام إلا في ثيابه وعليه السلاح فسار بغا إلى الجسر في الثلث الأول من الليل فبعث الموكلون بالجسر ينظرون من هو فصاح الغلام فرجع وخرج بغا في البستان الخاقاني فلحقه عدة من الموكلين فوقف لهم بغا وقال أنا بغا إما أن تذهبوا معي إلى صالح بن وصيف وإما أن تصيروا معي حتى أحسن إليكم فتوكل به بعضهم وأرسلوا إلى المعتز بالخبر فأمر بقتله فقتل وحمل رأسه إلى المعتز ونصب بسامرا وببغداد وأحرقت المغاربة جسده وكان أراد أن يختفي عند صالح بن وصيف فإذا اشتغل الناس بالعيد وكان قد قرب خرج هو وصالح ووثبوا بالمعتز.
ذكر ابتداء حال أحمد بن طولون
كانت ديار مصر قد أقطعها بابكيال وهو من أكابر قواد الأتراك وكان مقيما بالحضرة واستخلف بها من ينوب عنه بها.
وكان طولون والد أحمد بن طولون أيضا من الأتراك وقد نشأ هو بعد والده على طريقة مستقيمة وسيرة حسنة فالتمس بابكيال من يستخلفه بمصر فأشير عليه بأحمد بن طولون لما ظهر عنه من حسن السيرة فولاه وسيره إليها.
وكان بها ابن المدبر على الخراج وقد تحكم في البلد فلما قدمها أحمد كف يد ابن المدبر واستولى على البلد وكان بابكيال قد استعمل أحمد بن طولون على مصر وحدها سوى باقي الأعمال كالاسكندرية وغيرها فلما قتل المهتدي بابكيال وصارت مصر لياركوج التركي وكان بينه وبين أحمد
187

ابن طولون مودة متأكدة استعمله على ديار مصر جميعها فقوي أمره وعلا شأنه ودامت أيامه، (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم).
ذكر وقعة بين مساور الخارجي وبين عسكر الموصل
كان مساور بن عبد الحميد قد استولى على أكثر أعمال الموصل وقوي أمره فجمع له الحسن بن أيوب بن أحمد بن عمر بن الخطاب العدوي التغلبي وكان خليفة أبيه بالموصل عسكرا كثيرا منهم حمدون بن حمدون جد الأمراء الحمداينة وغيره وسار إلى مساور وعبر إليه نهر الزاب فتأخر عنه مساور عن موضعه ونزل بموضع يقال له وادي الذيات وهو واد عميق فسار الحسن في طلبه فالتقوا في جمادى الأولى واقتتلوا واشتد القتال فانهزم عسكر الموصل وكثر القتل فيهم وسقط كثير منهم في الوادي فهلك فيه أكثر من القتلى ونجا الحسن فوصل إلى حرة من أعمال أربل اليوم ونجا محمد بن علي بن السيد فظن الخوارج أنه الحسن فتبعوه وكان فارسا شجاعا فقاتلهم فقتل واشتد أمر مساور وعظم شأنه وخافه الناس.
188

ذكر عدة حوادث
في هذه السنة توفي أبو أمد بن الرشيد وهو عم الواثق والمتوكل وعم أبي المنتصر والمستعين والمعتز وكان معه من الخلفاء أخواه الأمين والمأمون والمعتصم وابنا أخيه الواثق والمتوكل ابنا المعتصم وأبناء ابني أخيه وهم المنتصر والمستعين والمعتز.
وفيها في جمادى الآخرة توفي علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام بسامرا وهو أحد من يعتقد الأمامية إمامته وصلى عليه أبو أحمد بن المتوكل وكان مولده سنة اثنتي عشرة ومائتين.
وفيها عقد صالح بن وصيف لديوداد على ديار مصر وقنسرين والعواصم.
وفيها أوقع مفلح بأهل قم فقتل منهم مقتلة عظيمة.
وفيها عاود أهل ماردة من بلاد الأندلس الخلاف على محمد بن عبد الرحمن صاحب الأندلس، وسبب ذلك أنهم خالفوا قديما على أبيه فظفر بهم وتفرق كثير من أهلها فلما كان الآن تجمع إليها من كان فارقها فعادوا إلى الخلاف والعصيان فسار محمد إليهم وحصرهم وضيق عليهم فانقادوا إلى التسليم والطاعة فنقلهم وأموالهم إلى قرطبة وهدم سور ماردة وحصن بها الموضع الذي كان يسكنه العمال دون غيرهم.
189

وفيها هلك أردون بن ردمير صاحب جليقية من الأندلس وولي مكانه ادفونش وهو ابن اثنتي عشرة سنة.
وفيه انكسف القمر كسوفا كليا لم يبق منه شيء ظاهر.
وفيها كان ببلاد الأندلس قحط شديد تتابع عليهم من سنة إحدى وخمسين [ومائتين] إلى سنة خمس وخمسين [ومائتين]، وكشف الله عنهم.
وفيها وصل دلف بن عبد العزيز بن أبي دلف العجلي إلى الأهواز وجند يسابور وتستر فجبى بها مائتي ألف دينار ثم انصرف وكان والده أمر بذلك.
وفي رمضان سار نوشرى إلى مساور الشاري فلقيه فهزمه وقتل من أصحابه جماعة كثيرة.
وحج بالناس علي بن الحسين بن إسماعيل بن عباس بن محمد.
وفيها توفي أبو الوليد بن عبد الملك بن قطن النحوي القيرواني بها وكان إماما في النحو واللغة وإماما بالعربية قيل مات سنة خمس وخمسين [ومائتين] وهو أصح.
190

255
ثم دخلت سنة خمس وخمسين ومائتين
ذكر استيلاء يعقوب بن الليث الصفار على كرمان
فيها استولى يعقوب بن الليث الصفار على كرمان وسبب ذلك أن علي بن الحسين بن شبل كان على فارس فكتب إلى المعتز يطلب كرمان ويذكر عجز الطاهرية وأن يعقوب قد غلبهم على سجستان وكان علي بن الحسين قد تباطأ بحمل خراج فارس فكتب إليه المعتز بولاية كرمان وكتب إلى يعقوب بن الليث بولايتها أيضا يلتمس إغراء كل واحد منهما بصاحبه ليسقط مؤنة الهالك عنه وينفرد بالآخر.
وكان كل واحد منهما يظهر طاعة لا حقيقة لها والمعتز يعلم ذلك منهما فأرسل علي بن الحسين طوق بن المغلس إلى كرمان وسار يعقوب إليها فسبقه طوق واستولى عليها وأقبل يعقوب حتى بقي بينه وبين كرمان مرحلة فأقام بها شهرين لا يتقدم إلى طوق ولا طوق يخرج إليه فلما طال ذلك عليه أظهر الارتحال إلى سجستان فارتحل مرحلتين وبلغ طوقا ارتحاله فظن أنه قد بدا له في حربه وترك كرمان فوضع آلة الحرب وقعد للأكل والشرب والملاهي.
واتصل بيعقوب إقبال طوق على الشرب فكر راجعا فطوى المرحلتين
191

في يوم واحد، فلم يشعر طوق إلا بغبرة عسكره فقال ما هذا فقيل غبرة المواشي فلم يكن بأسرع من موافاة يعقوب فأحاط به وأصحابه فذهب أصحابه يريدون المناهضة والدفع عن أنفسهم فقال يعقوب لأصحابه أفرجوا للقوم فمروا هاربين وخلوا كل ما لهم وأسر يعقوب طوقا.
وكان علي بن الحسين قد سير مع طوق في صناديق قيودا ليقيد بها من يأخذه من أصحاب يعقوب وفي صناديق أطوقة وأسورة ليعطيها أهل البلاء من أصحاب نفسه فلما غنم يعقوب عسكرهم رأى ذلك فقال ما هذا يا طوق فأخبره الأطوقة والأسورة فأعطاها أصحابه وأخذ القيود والأغلال فقيد بها أصحاب علي ولما خرج يد طوق ليضع فيها الغل رآها يعقوب وعليها عصابة فسأله عنها فقال أصابني حرارة فقصدتها فأمر بنزع خف نفسه فتساقط منه كسر خبز يابسة فقال يا طوق هذا خفي لم أنزعه منذ شهرين من رجلي وخبزي في خفي منه آكل وأنت جالس في الشرب ثم دخل كرمان وملكها مع سجستان.
ذكر ملك يعقوب فارس
وفيها رابع جمادى الأولى، ملك يعقوب بن الليث فارس ولما بلغ علي بن الحسين بن شبل بفارس ما فعله يعقوب بطوق أيقن بمجيئه إليه وكان علي بشيراز فجمع جيشه وسار إلى مضيق خارج شيراز، من أحد جانبيه
192

جبل لا يسلك ومن الجانب الاخر نهر لا يخاض فأقام على رأس المضيق وهو مضيق ممره لا يسلكه إلا واحد بعد واحد وهو على طرف البر وقال إن يعقوب لا يقدر على الجواز إلينا فرجع.
وأقبل يعقوب حتى دنا من ذلك المضيق فنزل على ميل منه وسار وحده ومعه رجل آخر فنظر إلى ذلك المضيق والعسكر وأصحاب [علي بن] الحسين يسبونه وهو ساكت ثم رجع إلى أصحابه فلما كان الغد الظهر سار بأصحابه حتى صار إلى طرف المضيق مما يلي كرمان فأمر أصحابه بالنزول وحط الأثقال ففعلوا وركبوا دوابهم عريا وأخذ كلبا كان معه فألقاه في الماء، فجعل يسبح إلى جانب عسكر [علي بن] الحسين وكان علي بن الحسين وأصحابه قد ركبوا ينظرون إلى فعله ويضحكون منه.
وألقى يعقوب نفسه وأصحابه في الماء على خيلهم وبأيديهم الرماح يسيرون خلف الكلب فلما رأى علي بن الحسين أن يعقوب قد قطع عامة النهر تحير في أمره وانتقض عليه تدبيره وخرج أصحاب يعقوب من وراء أصحاب علي فلما خرج أوائلهم هرب أصحابه إلى مدينة شيراز لأنهم كانوا يصيرون إذا خرج يعقوب وأصحابه بين جيش يعقوب والمضيق ولا يجدون ملجأ فانهزموا فسقط علي بن الحسين عن دابته كبا به الفرس فأخذ أسيرا وأتي به إلى يعقوب فقيده وأخذ كل ما في عسكره ثم رحل من موضعه ودخل شيراز ليلا فلم يتحرك أحد فلما أصبح نهب أصحابه دار علي ودور أصحابه وأخذ ما في بيوت الأموال وجبي الخراج ورجع إلى سجستان.
وقيل إنه جرى بين يعقوب الصفار وبين علي بن الحسين بعد عبوره
193

النهر حرب شديدة وذلك أن عليا كان قد جمع عنده جمعا كثيرا من الموالي والأكراد وغيرهم، بلغت عدتهم خمسة عشر ألفا بين فارس وراجل فعبأ أصحابه ميمنة وميسرة وقلبا ووقف هو في القلب وأقبل الصفار فعبر النهر فلما صار مع علي على أرض واحدة حمل هو وعسكره حملة واحدة على عسكر علي فثبتوا لهم ثم حمل ثانية فأزالهم عن مواقفهم وصدقهم في الحرب فانهزموا على وجوههم لا يلوي أحد على أحد.
وتبعهم علي يصيح بهم ويناشدهم الله ليرجعوا أو ليقفوا فلم يلتفت إليه أحد وقتل الرجالة قتلا ذريعا وأقبل المنهزمون إلى باب شيراز مع العصر فازدحموا في الأبواب فتفرقوا في نواحي فارس وبلغ بعضهم في هزيمته إلى الأهواز.
فلما رأى الصفار ما لقوا من القتل أمر بالكف عنهم ولولا ذلك لقتلوا عن آخرهم وكان القتلى خمسة آلاف قتيل وأصاب علي بن الحسين ثلاث جراحات ثم أخذ أسيرا لما عرفوه ودخل الصفار إلى شيراز وطاف بالمدينة ونادى بالأمان فاطمأن الناس وعذب عليا بأنواع العذاب وأخذ من أمواله ألف بدرة وقيل أربعمائة بدرة من السلاح والأفراس وغير ذلك ما لا يحد وكتب إلى الخليفة بطاعته وأهدى له هدية جليلة منها عشر بيزان بيض وباز أبلق صيني ومائة من مسك وغيرها من الطرائف،
194

وعاد إلى سجستان ومعه علي، وطوق، تحت الاستظهار، فلما فارق بلاد فارس أرسل الخليفة عماله إليها.
ذكر خلع المعتز وموته
وفيها في يوم الأربعاء لثلاث بقين من رجب خلع المعتز ولليلتين خلتا من شعبان ظهر موته.
وكان سبب خلعه أن الأتراك لما فعلوا بالكتاب ما ذكرناه ولم يحصل منهم مال ساروا إلى المعتز يطلبون أرزاقهم وقالوا أعطنا أرزاقنا حتى نقتل صالح بن وصيف فلم يكن عنده ما يعطيهم فنزلوا معه إلى خمسين ألف دينار فأرسل المعتز إلى أمه يسألها أن تعطيه مالا ليعطيهم فأرسلت إليه ما عندي شيء.
فلما رأى الأتراك أنهم لا يحصل لهم من المعتز شيء ولا من أمه وليس في بيت المال شيء اتفقت كلمتهم وكلمة المغاربة والفراغنة على خلع المعتز فساروا إليه وصاحوا فدخل إليه صالح ومحمد بن بغا المعروف بأبي نصر وبابكيال في السلاح فجلسوا على بابه وبعثوا إليه أن اخرج إلينا فقال قد شربت أمس دواء وقد أفرط في العمل فإن كان أمر لا بد منه فليدخل بعضكم وهو يظن أن أمره واقف على حاله فدخل إليه جماعة منهم فجروه برجله إلى باب الحجرة وضربوه بالدبابيس وخرقوا قميصه وأقاموه في الشمس في الدار فكان يرفع رجلا ويضع أخرى
195

لشدة الحر، وكان بعضهم يلطمه وهو يتقي بيده وأدخلوه حجرة وأحضروا ابن أبي الشوارب وجماعة أشهدوهم على خلعه وشهدوا على صالح بن وصيف أن للمعتز وأمه وولده وأخته الأمان.
وكانت أمه قد اتخذت في دارها سربا فخرجت منه هي وأخت المعتز وكانوا قد أخذوا عليها الطريق ومنعوا أحدا يجوز إليها وسلموا المعتز إلى من يعذبه فمنعه الطعام والشراب ثلاثة أيام فطلب حسوة من ماء البئر فمنعوه ثم أدخلوه سردابا وجصصوا عليه فمات فلما مات أشهدوا على موته بني هاشم والقواد وأنه لا أثر فيه ودفنوه مع المنتصر.
وكانت خلافته من لدن بويع إلى أن خلع أربع سنين وستة أشهر وثلاثة وعشرين يوما وكان عمره كله أربعا وعشرين سنة وكان أبيض أسود الشعر كثيفة حسن العينين والوجه أحمر الوجنتين حسن الجسم طويلا وكان مولده بسر من رأى وكان فصيحا.
فمن كلامه لما سار المستعين إلى بغداد وقد أحضر جماعة للرأي فقال لهم أما تنظرون إلى هذه العصابة التي ذاع نفاقهم الهمج العصاة الأوغاد الذي لا مسكة بهم ولا اختيار لهم ولا تمييز معهم قد زين لهم تقحم الخطأ سوء أعمالهم فهم الأقلون وإن كثروا والمذمومون إذا ذكروا وقد علمت أنه لا يصلح لقود الجيوش وسد الثغور وإبرام الأمور وتدبير الأقاليم إلا رجل قد تكاملت فيه خصال أربع حزم يتقي به عند موارد الأمور حقائق مصادرها،
196

وعلم يحجزه عن التهور والتغرير في الأشياء إلا مع إمكان فرصتها، وشجاعة لا ينقصها الملمات مع تواتر حوائجها وجود يهون تبذير الأموال عند سؤالها وأما الثلاث فسرعة مكافأة الاحسان إلى صالح الأعوان وثقل الوطأة على أهل الزيغ والعدوان والاستعداد للحوادث إذ لا تؤمن حوادث الزمان.
وأما الاثنتان فاسقاط الحجاب عن الرعية والحكم بين القوي والضعيف بالسوية.
وأما الواحدة فالتيقظ للأمور وقد اخترت لهم رجلا من موالي أحدهم شديد الشكيمة ماضي العزيمة لا تبطره السراء ولا تدهشه الضراء ولا يهاب ما وراءه ولا يهوله ما يلقاه فهو كالحريش في أصل السلام إن حرك حمل وإن نهش قتل عدته عتيدة ونقمته شديدة يلقى الجيش في النفر القليل بقلب أشد من الحديد طالب للثار لا تفله العساكر باسل الباس ومقتضب الأنفاس لا يعوزه ما طلب ولا يفوته من هرب وارى الزناد مضطلع العماد لا تشرهه الرغائب ولا تعجزه النوائب إن ولي كفى وإن قال وفى وإن نازل فبطل وإن قال فعل،
197

ظله لوليه ظليل وبأسه في الهياج عليه دليل يفوق من ساماه ويعجز من ناواه ويتعب من جاره وينعش من والاه.
ذكر خلافة المهتدي
وفي يوم الأربعاء لليلة بقيت من رجب بويع لمحمد بن الواثق ولقب بالمهتدي بالله وكان يكنى أبا عبد الله وأمه رومية وكانت تسمى قرب ولم يقبل بيعته أحد فأتى بالمعتز فخلع نفسه وأقر بالعجز عما أسند إليه وبالرغبة في تسليمها إلى ابن الواثق فبايعه الخاصة والعامة.
ذكر الشغب ببغداد
في هذه السنة شغبت العامة ببغداد سلخ رجب ووثبوا بسليمان بن عبد الله.
وكان سببه أن كتاب المهتدي ورد سلخ رجب إلى سليمان يأمره بأخذ البيعة له وكان أبو أحمد بن المتوكل ببغداد كان المعتز قد سيره إليها كما تقدم فأرسل سليمان إليه فأخذه إلى داره.
198

وسمع من ببغداد من الجند والعامة بأمر المعتز فاجتمعوا إلى باب دار سليمان فقاتلهم أصحابه وقيل لهم ما يرد علينا من سامرا خبر فانصرفوا.
ورجعوا الغد وهو يوم الجمعة على ذلك وخطب للمعتز ببغداد فانصرفوا وبكروا يوم السبت فهجموا على دار سليمان ونادوا باسم أبي أحمد ودعوا إلى بيعته وسألوا سليمان أن يريهم أبا أحمد فأظهره لهم ووعدهم أن يصير إلى محبتهم إن تأخر عنهم ما يحبون فانصرفوا بعد أن أكدوا عليه في حفظ أبي أحمد.
ثم أرسل إليهم من سامرا مال ففرق فيهم فرضوا وبايعوا للمهتدي لسبع خلون من شعبان وسكنت الفتنة.
ذكر ظهور قبيحة أم المعتز
قد ذكرنا استتارها عند قتل ابنها؛ وكان السبب في هربها وظهورها أنها كانت قد واطأت النفر من الكتاب الذي أوقع بهم صالح على الفتك بصالح فلما أوقع بهم وعذبهم علمت أنهم لا يكتمون عنه شيئا فأيقنت بالهلاك فعملت في الخلاص وأخرجت ما في الخزائن إلى خارج الجوسق من الأموال والجواهر وغيرها فأودعته واحتالت فحفرت سربا في حجرة لها إلى موضع يفوت التفتيش فلما خرجت الحادثة على المعتز بادرت فخرجت في ذلك السرب، فلما فرغوا من المعتز طلبوها فلم يجدوها ورأوا السرب فخرجوا منه فلم يقفوا على خبرها وبحثوا عنها فلم يظفروا بها.
ثم إنها فكرت فرأت أن ابنها قتل وأن الذي تختفي عنده يطمع في
199

مالها وفي نفسها، ويتقرب بها إلى صالح فأرسلت امرأة عطارة إلى صالح بن وصيف فتوسطت الحال بينهما وظهرت في رمضان، وكانت لها أموال ببغداد فأحضرتها وهي مقدار خمسمائة ألف دينار وظفروا لها بخزائن تحت الأرض فيها أموال كثيرة ومن جملتها دار تحت الأرض وجدوا فيها ألف ألف دينار وثلاثمائة ألف دينار ووجدوا في سفط قد مكوك زمرد لم ير الناس مثله وفي سفط آخر مقدار مكوك من اللؤلؤ الكبار وفي سفط مقدار كيلجة من الياقوت الأحمر الذي لم يوجد مثله فحمل الجميع إلى صالح فسبها وقال عرضت ابنها للقتل في خمسين ألف دينار وعندها هذه الأموال كلها!
ثم سارت قبيحة إلى مكة فسمعت وهي تدعو بصوت عال على صالح بن وصيف وتقول اللهم اخز صالحا كما هتك ستري وقتل ولدي وشتت شملي وأخذ مالي وغربني عن بلدي وركب الفاحشة مني وأقامت بمكة.
وكان المتوكل سماها قبيحة لحسنها وجمالها كما يسمى الأسود كافورا قال وكانت أم المهدي قد ماتت قبل استخلافه وكانت تحت المستعين فلما قتل جعلها المعتز في قصر الرصافة فماتت فلما ولي المهتدي قال أما أنا فليس لي أم أحتاج لها إلى غلة عشرة آلاف دينار في كل سنة لجواريها وخدمها والمتصلين بها وما أريد إلا القوت لنفسي وولدي وما أريد فضلا إلا لاخوتي فإن الضائقة قد مستهم.
200

ذكر قتل أحمد بن إسرائيل وأبي نوح
وفيها قتل أحمد بن إسرائيل وكان صالح قد عذبه بعد أن أخذه وأخذ ماله ومال الحسن بن مخلد ثم أمر بضربه وضرب أبي نوح ضرب التلف كل واحد منهما خمسمائة سوط فماتا ودفنا وبقي الحسن بن مخلد [في الخميس].
ولما بلغ المهتدي ضربهما قال أما عقوبة إلا السوط والقتل أما يكفي الحبس إنا لله وإنا إليه راجعون يكرر ذلك مرارا.
ذكر ولاية سليمان بن عبد الله بن طاهر بغداد وشغب الجند والعامة بها
وفي رمضان وثب عامة بغداد وجندها بمحمد بن أوس البلخي.
وكان السبب في ذلك أن محمد بن أوس قدم من خراسان مع سليمان بن عبد الله بن طاهر على الجيش القادمين من خراسان وعلى الصعاليك الذين معهم ولم يكن أسماؤهم في ديوان العراق وكانت العادة أن يقام لمن يقدم من خراسان بالعراق ما كان لهم بخراسان ويكون وجه ذلك من دخل ضياع
201

ورثة طاهر بن الحسين ويكتب إلى خراسان ليعطى الورثة من بيت المال عوضه.
فلما سمع عبيد الله بن عبد الله بقدوم سليمان إلى العراق ومصير الأمر إليه أخذ ما في بيت مال الورثة وأخذ نجوما لم تحل وسار فأقام بالجويب في شرقي دجلة ثم انتقل إلى غربيها فقدم سليمان فرأى بيت مال الورثة فارغا فضاقت عليه الدنيا وأعطى أصحابه من أموال جند بغداد وتحرك الجند والشاكرية في طلب الأرزاق.
وكان الذين قدموا مع محمد بن أوس من خراسان قد أساؤوا مجاورة أهل بغداد وجاهروا بالفاحشة وتعرضوا للحرم والغلمان بالقهر فامتلأ عليهم غيظا وحنقا فاتفق العامة مع الجند وثاروا وأتوا سجن بغداد عند باب الشام فكسروا بابه وأطلقوا من فيه.
وجرى حرب بين القادمين مع ابن أوس وبين أهل بغداد فعبر ابن أوس وأصحابه وأولاده إلى الجزيرة وتصايح الناس من أراد النهب فليلحق بنا فقيل إنه عبر إلى الجزيرة من العامة أكثر من مائة ألف نفس وأتاهم الجند في السلاح فهرب ابن أوس إلى منزله فتبعه الناس فتحاربوا نصف نهار حربا شديدة وجرح ابن أوس وانهزم هو وأصحابه وتبعهم الناس حتى أخرجوهم من باب الشماسية وانتهبوا منزله وجميع ما كان فيه فقيل كان قيمة ذلك ألفي ألف درهم وأخذوا له من الأمتعة ما لا حد عليه ونهب أهل
بغداد منازل الصعاليك من أصحابه.
فأرسل سليمان بن عبد الله إلى ابن أوس يأمره بالمسير إلى خراسان ويعلمه
202

أنه لا طريق له إلى العود إلى بغداد فرحل إلى النهروان فنهب وأفسد، ثم أتى بابكيال التركي كتب إليه ولاية طريق خراسان في ذي القعدة وكان مساور بن عبد الحميد قد استخلف رجلا اسمه موسى بالدسكرة ونواحيها في ثلاثمائة رجل واليه ما بين حلوان والسوس على طريق خراسان وبطن جوخى.
وفيها أمر المهتدي بإخراج القيان والمغنين من سامرا ونفاهم عنها وأمر بقتل السباع التي كانت بدار السلطان وطرد الكلاب ورد المظالم وجلس للعامة ولما ولي كانت الدنيا كلها بالفتن منسوخة.
ذكر استيلاء مفلح على طبرستان وعوده عنها
في هذه السنة سار مفلح إلى طبرستان فحارب الحسن بن زيد العلوي فانهزم الحسن ولحق بالديلم ودخل مفلح البلد وأحرق منازل الحسن وسار إلى الديلم في طلبه ثم عاد عن طبرستان بعد أن دخلها وهزم الحسن بن زيد العلوي وعاد موسى بن بغا من الري.
وسبب ذلك أن قبيحة أم المعتز لما رأت اضطراب الأتراك كتبت إلى موسى تسأله القدوم عليهم وأملت أن يصل قبل أن يفرط في ولدها فارط فعزم موسى على الانصراف وكتب إلى مفلح يأمره بالانصراف عن طبرستان
203

إليه بالري، فورد كتابه إلى مفلح وهو قد توجه إلى أرض الديلم في طلب الحسن بن زيد العلوي فلما أتاه الكتاب رجع فأتاه من كان هرب من الحسن من أهل طبرستان ورجوا العود إلى بيوتهم وقالوا له ما سبب عودك فأخبرهم بكتاب الأمير إليه يعزم عليه ولم يتهيأ لموسى المسير عن الري حتى أتاه خبر قتل المعتز والبيعة للمهتدي فبايعوا المهتدي.
ثم إن الموالي الذين مع موسى بلغهم ما أخذ صالح بن وصيف من أموال الكتاب وأسلاب المعتز فحسدوا المقيمين بسامرا فدعوا موسى بن بغا بالانصراف وقدم عليهم مفلح وهو بالري فسار نحو سامرا فكتب إليه المهتدي يأمره بالعود إلى الري ولزوم ذلك الثغر فلم يفعل فأرسل إليه رجلين من بني هاشم يعرفانه ضيق الأموال عنده ويحذرانه غلبة العلويين على ما يجعله خلفه فلم يسمع ذلك.
وكان صالح بن وصيف يعظم على المهتدي انصرافه وينسبه إلى المعصية والخلاف ويتبرأ إلى المهتدي من فعله ولما أتى الرسل موسى ضج الموالي وكادوا أن يثبوا بالرسل ورد موسى الجواب يعتذر بتخلف من معه عن الرجوع إلى قوله دون ورود باب أمير المؤمنين ويحتج بما عاين الرسل وأنه إن تخلف عنهم قتلوه وسير مع الرسل جماعة من أصحابه فقدموا سامرا سنة ست وخمسين ومائتين.
204

ذكر استيلاء مساور على الموصل
لما انهزم عسكر الموصل من مساور الخارجي كما ذكرناه قوي أمره وكثر أتباعه فسار من موضعه وقصد الموصل فنزل بظاهرها عند الدير الأعلى فاستتر أمير البلد منه وهو عبد الله بن سليمان لضعفه عن مقاتلته ولم يدفعه أهل الموصل أيضا لميلهم إلى الخلاف فوجه مساور جمعا إلى دار عبد الله أمير البلد فأحرقها ودخل مساور الموصل بغير حرب فلم يعرض لأحد.
وحضرت الجمعة فدخل المسجد الجامع وحضر الناس أو من حضر منهم فصعد المنبر وخطب عليه فقال في خطبته اللهم أصلحنا وأصلح ولاتنا ولما دخل في الصلاة جعل إبهاميه في أذنيه ثم كبر ست تكبيرات ثم قرأ بعد ذلك ولما خطب جعل على درج المنبر من أصحابه من يحرسه بالسيوف وكذلك في الصلاة لأنه خاف من أهل الموصل ثم فارق الموصل ولم يقدر على المقام بها لكثرة أهلها وسار إلى الحديثة لأنه كان اتخذها دار هجرته.
ذكر أول خروج صاحب الزنج
وفي شوال خرج في فرات البصرة رجل، وزعم أنه علي بن محمد بن أمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام وجمع الزنج الذي كانوا يسكنون السباخ وعبر دجلة فنزل الديناري.
205

قال أبو جعفر وكان اسمه فيما ذكر علي بن محمد بن عبد الرحيم ونسبه في عبد القيس وأمه ابنة علي بن رحيب بن محمد بن حكيم من بني أسد بن خزيمة من قرى الري وكان يقول جدي محمد بن حكيم من أهل الكوفة أحد الخارجين على هشام بن عبد الملك مع زيد بن علي بن الحسين فلما قتل زيد هرب فلحق بالري فجاء إلى قرية ورزنين وأقام بها إن أبا أبيه عبد الرحيم رجل من عبد القيس كان مولده بالطالقان وقدم العراق واشترى جارية سندية وأولدها محمدا أباه وكان متصلا قبل بجماعة من حاشية المنتصر منهم غانم الشطرنجي وسعيد الصغير وكان معاشه منهم ومن أصحاب السلطان وكان يمدحهم ويستميحهم بشعره منهم ومن غيرهم.
ثم إنه شخص من سامرا سنة تسع وأربعين ومائتين إلى البحرين فادعى بها أنه على عبد الله بن محمد بن الفضل بن الحسن بن عبيد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب ودعا الناس بهجر إلى طاعته فاتبعه جماعة كثيرة من أهلها ومن غيرهم فجرى بين الطائفتين عصبية قتل فيها جماعة.
وكان أهل البحرين قد أحلوه بمحل نبي وجبى الخراج ونفذ فيهم حكمه وقاتلوا أصحاب السلطان بسببه فوتر منهم جماعة فتنكروا له فانتقل عنهم إلى الأحساء ونزل على قوم من بني سعد بن تميم يقال لهم بنو الشماس وأقام فيهم وفي صحبته جماعة من البحرين منهم يحيى بن محمد الأزرق البحراني وسليمان بن جامع وهو قائد جيشه.
وكان ينتقل بالبادية فذكر عنه أنه قال أوتيت في تلك الأيام بالبادية آيات من آيات إمامتي ظاهرة للناس منها أني لقنت سورا من القرآن
206

فجرى بها لساني في ساعة، وحفظتها في دفعة واحدة منها سبحان والكهف وصاد ومنها أني فكرت في الموضع الذي أقصده حيث نبت بي البلاد فأظلتني غمامة وخوطبت منها فقيل لي اقصد البصرة.
وقيل عنه إنه قال لأهل البادية إنه يحيى بن عمر العلوي أبو الحسن المقتول بناحية الكوفة فخدع أهلها فأتاه منهم جماعة كثيرة فزحف بهم إلى موضع يقال له الردم من البحرين فكانت بينهم وقعة عظيمة وكانت الهزيمة عليه وعلى أصحابه قتلوا قتلا كثيرا فتفرقت العرب عنه.
فلما تفرقت عنه سار فنزل البصرة في بني ضبيعة فاتبعه منهم جماعة كثيرة منهم علي بن أبان المهلبي وكان قدومه البصرة سنة أربع وخمسين ومائتين ومحمد بن رجاء الحضاري عاملها ووافق ذلك فتنة أهل البصرة بالبلالية والسعدية وطمع في إحدى الطائفتين أن تميل إليه فأرسل إليهم يدعوهم فلم يجبه أحد من أهل البلد وطلبه ابن رجاء فهرب فحبس رجاء جماعة ممن كانوا يميلون إليه منهم ابنه وزوجته وابنة له وجارية حامل منه.
وسار يريد بغداد ومعه من أصحابه محمد بن سلم ويحيى بن محمد وسليمان بن جامع ومرقس القريعي فلما سار بالبطيحة نذر بهم
207

رجل كان يلي أمرها اسمه عمير بن عمار فحملهم إلى محمد بن أبي عون عامل واسط فخلص منه هو أصحابه فدخل بغداد فأقام بها حولا فانتسب إلى محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد فزعم بها أنه ظهر له آيات عرف بها ما في ضمائر أصحابه وما يفعل كل واحد منهم فاستمال جماعة من أهل بغداد منهم جعفر بن محمد الصوحاني من ولد يزيد بن صوحان ومحمد بن القاسم ومشرق ورقيق غلاما ليحيى بن عبد الرحمن فسمى مشرقا حمزة وكناه أبا أحمد وسمى رقيقا جعفرا وكناه أبا الفضل.
وعزل محمد بن رجاء عن البصرة فوثب رؤوساء البلالية والسعدية فأخرجوا من في الحبوس فخلص أهله فيهم فلما بلغه خلاص أهله رجع إلى البصرة وكان رجوعه إليها في رمضان سنة خمس وخمسين ومائتين ومعه علي بن ابان ويحيى بن محمد وسليمان ومشرق ورقيق فوافوا البصرة فنزل بقصر القرشي على نهر يعرف بعمود ابن المنجم وأظهر أنه وكيل لولد الواثق في بيع السباخ فأقام هنالك.
وذكر ريحان أحد غلمان السورجيين وهو أول من صحبه منهم أنه قال كنت موكلا بغلمان مولاي أنقل لهم الدقيق فأخذني أصحابه فساروا بي إليه وأمروني أن أسلم عليه بالأمرة ففعلت فسألني عن الموضع الذي جئت منه فأخبرته وسألني عن أخبار البصرة فقلت لا علم لي وسألني عن غلمان السورجيين وعن أحوالهم وما يجري لهم فأعلمته فدعاني إلى ما هو عليه فأجبته فقال احتل فيمن قدرت عليه من الغلمان وأقبل بهم إلي ووعدني أن يقودني على من آتيه به واستحلفني أن لا أعلم
208

أحدا بموضعه، وأن أرجع إليه وخلى سبيلي.
وعدت إليه من الغداة وقد أتاه جماعة من غلمان الدباشين فكتب في حريرة: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة) الآية وجعلها في رأس مردي وما زال يدعو غلمان أهل البصرة ويقبلون إليه للخلاص من الرق والتعب فاجتمع عنده منهم خلق كثير فخطبهم ووعدهم أن يقودهم ويملكهم الأموال وحلف لهم بالأيمان أن لا يغدر بهم ولا يخذلهم ولا يدع شيئا من الاحسان إلا أتى به إليهم فأتاه مواليهم وبذلوا له على كل عبد خمسة دنانير ليسلم إليه عبده فبطح أصحابهم وأمر كل من عنده من العبيد فضربوا مواليهم أو وكيلهم كل سيد خمسمائة سوط ثم أطلقهم فمضوا نحو البصرة.
ثم ركب في سفن هناك فعبر دجيلا إلى نهر ميمون فأقام هناك ولم يزل هذا دأبه يتجمع إليه السودان فلما كان يوم الفطر خطبهم وصلى بهم وذكرهم ما كانوا فيه من الشقاء وسوء الحال وأن الله تعالى أبعدهم من ذلك وأنه يريد أن يرفع أقدارهم ويملكهم العبيد والأموال.
فلما كان بعد يومين رأى أصحابه الحميري فقاتلوه حتى أخرجوه من دجلة واستأمن إلى صاحب الزنج رجل من رؤساء الزنج يكنى بأبي
209

صالح ويعرف بالقصير في ثلاثمائة من الزنج فلما كثروا جعل القواد فيهم منهم وقال لهم كل من أتى منكم برجل فهو مضموم إليه.
وكان ابن أبي عون قد نقل من واسط إلى ولاية الأبلة وكور دجلة، وسار قائد الزنج إلى المحمدية فلما نزلها وافاه أصحاب ابن أبي عون فصاح الزنج السلاح وقاموا وكان فيهم فتح الحجام فقام وأخذ طبقا كان بين يديه فلقيه رجل من السورجيين يقال له بلبل فلما رآه فتح حمل عليه وحذفه بالطبق الذي بيديه فرمى سلاحه وولى هاربا وانهزم أصحابه وكانوا أربعة آلاف وقتل منهم جماعة ومات بعضهم عطشا وأسر منهم وأمر بضرب أعناقهم.
ثم سار إلى القادسية فنهبها أصحابه بأمره وما زال يتردد إلى أنهار البصرة فوجد بعض السودان دارا لبعض بني هاشم فيها سلاح بالسيب فانتهبوه فصار معهم ما يقاتلون به فأتاه وهو بالسيب جماعة من أهل البصرة يقاتلونه فوجه يحيى بن محمد في خمسمائة رجل فلقوا البصريين فانهزم البصريون منهم وأخذوا سلاحهم ثم قاتل طائفة أخرى عند قرية تعرف بقرية اليهود فهزمهم أيضا وأثبت أصحابه في الصحراء.
ثم أسرى إلى الجعفرية، فوضع في أهلها السيف فقتل أكثرهم وأتى منهم بأسرى فأطلقهم، ولقي جيشا كبيرا للبصريين مع رئيس اسمه عقيل فهزمهم وقتل منهم خلقا كثيرا وكان معهم سفن فهبت عليها ريح فألقتها إلى الشط فنزل الزنج وقتلوا من وجدوا فيها وغنموا ما فيها وكان مع الرئيس سفن فركبها ونجا فأنفذ صاحب الزنج فأخذها
210

ونهب ما فيها ثم نهب القرية المعروفة بالمهلبية وأحرقها وأفسد في الأرض وعاث.
ثم لقيه قائد من قواد الأتراك يقال له أبو هلال في أربعة آلاف مقاتل على نهر الريان فاقتتلوا وحمل السودان عليه حملة صادقة فقتلوا صاحب علمه فانهزم هو وأصحابه وتبعهم السودان فقتلوا من أصحاب أبي هلال أكثر من ألف وخمسمائة رجل وأخذوا منهم أسرى فأمر بقتلهم.
ثم إنه أتاه من أخبره أن الزينبي قد أعد له الخيول والمتطوعة والبلالية والسعدية وهم خلق كثير وقد أعدوا الحبال ليكتف من يأخذونه من السودان والمقدم عليهم أبو منصور وأخذ موالي الهاشميين فأرسل علي بن أبان في مائة أسود ليأتيه بخبرهم فلقي طائفة منهم فهزمهم، وصار من معهم من العبيد إلى علي بن أبان.
وأرسل طائفة أخرى من أصحابه، فأتوا إلى موضع فيه ألف وتسعمائة سفينة ومعها من يحفظها فلما رأوا الزنج هربوا عنها فأخذ الزنج السفن وأتوا بها إلى صاحبهم فلما أتوه قعد على نشز من الأرض.
وكان في السفن قوم حجاج أرادوا أن يسلكوا طريق البصرة فناظرهم فصدقوه على قوله وقالوا له لو كان معنا فضل نفقة لأقمنا معك فأطلقهم، وأرسل طليعة تأتيه بخبر ذلك المعسكر فأتاه خبرهم أنه قد أتوه في خلق كثير فأمر محمد بن سالم وعلي بن أبان أن يقعد لهم بالنخل وقعد هو على جبل مشرف فلم يلبث أن طلعت الأعلام والرجال فأمر الزنج فكبروا،
211

وحملوا عليهم، وحملت الخيول، فتراجع الزنج حتى بلغوا الجبل الذي هو عليه ثم حملوا فثبتوا لهم وقتل من الزنج فتح الحجام وصدق الزنج الحملة فأخذوهم بين أيديهم وخرج محمد بن سالم وعلي بن ابان وحملوا عليهم فقتلوا منهم وانهزم الناس وذهبوا كل مذهب وتبعهم السودان إلى نهر بيان فوقعوا في الوحل فقتلهم السودان وغرق كثير منهم.
وأتى الخبر إلى الزنوج بأن لهم كمينا فساروا إليه فإذا الكمين في أكثر من ألف من المغاربة فقاتلهم قتالا شديدا ثم حمل السودان عليهم فقتلوهم أجمعين وأخذوا سلاحهم.
ثم وجه أصحابه فرأوا مائتي سفينة فيها دقيق فأخذوه ومتاعا فنهبوه ونهب المعلى بن أيوب ثم سار فرأى مسلحة الزينبي فقاتلوا فقتلهم أجمعين فكانوا مائتين ثم سار فنهب قرية ميزران ورأى فيها جمعا من الزنج ففرقهم على قواده ثم سار فلقيه ستمائة فارس مع سليمان ابن أخي الزينبي ولم يقاتله فأرسل من بنهب فأتوه بغنم وبقر فذبحوا وأكلوا وفرق أصحابه في انتهاب ما هناك.
ثم إن صاحب الزنج سار يريد البصرة حتى إذا قابل النهر المعروف بالرياحي أتاه قوم من السودان فأعلموه أنهم رأوا في الرياحي بارقة فلم يلبث إلا يسيرا حتى تنادى السودان السلاح السلاح وأمر علي بن أبان بالعبور إليهم فعبر في ثلاثمائة رجل وقال له إن احتجت إلى مدد
212

فاستمدني فلما مضى علي صاح الزنج السلاح السلاح لحركة رأوها في جهة أخرى فوجه محمد بن سالم فرأى جمعا فقاتلهم من وقت الظهر إلى آخر وقت العصر ثم حمل الزنوج حملة صادقة فهزموهم وقتلوا من أهل البصرة والأعراب زهاء خمسمائة ورجعوا إلى صاحبهم.
ثم أقبل علي بن أبان في أصحابه وقد هزموا من بإزائهم وقتلوا منهم ومعه رأس ابن أبي الليث البلالي القواريري من أعيان البلالية ثم سار من الغد عن ذلك المكان ونهى أصحابه عن دخول البصرة فتسرع بعضهم فلقيهم أهل البصرة في جمع عظيم وانتهى الخبر إليه فوجه محمد بن سالم وعلي بن أبان ومشرقا وخلقا كثيرا وجاء هو يسايرهم فلقوا البصريين فأرسل إلى أصحابه ليتأخروا عن المكان الذي هم فيه فتراجعوا فأكب عليهم أهل البصرة فانهزموا وذلك عند العصر ووقع الزنوج في نهر كبير ونهر شيطان وقتل منهم جماعة وغرق جماعة وتفرق الباقون وتخلف صاحبهم عنهم وبقي في نفر يسير فنجاه الله تعالى.
ثم لقيهم وهم متحيرون لفقده وسأل عن أصحابه فإذا ليس معه إلا خمسمائة رجل فأمر بالنفخ في البوق الذي يجتمعون لصوته فلم يأته أحد وكان أهل البصرة قد انتهبوا السفن التي كانت للزنوج وبها متاعهم فلما أصبح رأى أصحابه في ألف رجل وأرسل محمد بن سالم إلى أهل البصرة يعظهم ويعلمهم ما الذي دعاه إلى الخروج فقتلوه.
فلما كان يوم الاثنين لأربع خلون من ذي القعدة جمع أهل البصرة
213

وحشدوا لما رأوا من ظهورهم عليه وانتدب لذلك رجل يعرف بحماز الساجي وكان من غزاة البحر وله علم في ركوب السفن فجمع المتطوعة ورماة الأهداف وأهل المسجد الجامع ومن خف معه من البلالية والسعدية ومن أحب النظر من غيرهم وشحن ثلاثة مراكب وشذوات مقابلة وجعلوا يزدحمون ومضى جمهور الناس رجالة منهم من معه سلاح ومنهم نظارة فدخلت المراكب في المد والرجالة على شاطئ النهر.
فلما علم صاحب الزنج بذلك وجه طائفة من أصحابه مع زريق الأصبهاني في شرقي النهر كمينا وطائفة مع شبل وحسين الحمامي في غربيه كمينا وأمر علي بن ابان أن يلقى أهل البصرة وأن يستتر هو ومن معهم بتراسهم ولا يقاتل حتى تظهر أصحابه وتقدم إلى الكمينين إذا جاوزهم أهل البصرة أن يخرجوا ويصيحوا بالناس وبقي هو في نفر يسير من أصحابه وقد هاله ما رأى من كثرة الجمع فسار أصحابه إليهم وظهر الكمينان من جانبي النهر ومن وراء السفن والرجالة فضربوا من ولي من الرجالة والنظارة فغرقت طائفة وقتلت طائفة وهرب الباقون إلى الشط فأدركهم السيف فمن ثبت قتل ومن ألقى نفسه في الماء غرق فهلك أكثر ذلك الجمع فلم ينج إلا الشريد وكثر المفقودون من أهل البصرة وعلا العويل من نسائهم وهذا يوم البيداء الذي أعظمه الناس.
214

وكان فيمن قال جماعة من بني هاشم وغيرهم في خلق كثير لا يحصى وجمعت للخبيث الرؤوس فأتاه جماعة من أولياء المقتولين فأعطاهم ما عرفوا وجمع الرؤوس التي لم تطلب وجعلها في خزينة فأطلقها فوافت البصرة فجاء الناس وأخذوا كل ما عرفوه منها وقوي عدو الله بعد هذا اليوم وتمكن الرعب في قلوب أهل البصرة منه وأمسكوا عن حربه.
وكتب الناس إلى الخليفة بخبر ما كان فوجه إليهم جعلان التركي مددا وأمر أبا الأحوص الباهلي بالمسير إلى الأبلة واليا وأمده بقائد من الأتراك يقال له جريح وأما الخبيث صاحب الزنج فإنه انصرف بأصحابه إلى سبخة في آخر النهار وهي سبخة أبي قرة وبث أصحابه يمينا وشمالا للغارة والنهب فهذا ما كان منه في هذه السنة.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة كانت وقعة بين عسكر الخليفة وبين مساور الشاري فانهزم عسكر الخليفة.
وفيها مات المعلى بن أيوب.
وفيها ولي سليمان بن عبد الله بن طاهر بغداد والسواد في ربيع الأول وكان قدومه من خراسان فيه أيضا فسار إلى المعتز فخلع عليه وسار إلى بغداد فقال ابن الرومي:
(من عذيري من الخلائق ضلوا * في سليمان عن سواء السبيل)
215

(عوضوه بعد الهزيمة بغدا * د كأن قد أتى بفتح جليل)
(من يخوض الردى إذا كان من ف‍ * ‍ر أنابوه بالجزاء الجميل)
يعني هزيمة سليمان من الحسن بن زيد العلوي.
وفيها أخذ صالح بن وصيف أحمد بن إسرائيل والحسن بن مخلد وأبا نوح عيسى بن إبراهيم فقيدهم وطالبهم بالأموال وكان سببه أن الأتراك طلبوا أرزاقهم فقال صالح للمعتز هؤلاء يطلبون أرزاقهم وليس في بيت المال شيء وقد ذهب هؤلاء الكتاب بالأموال وكان أحمد وزير المعتز والحسين وزير أم المعتز وقال له أحمد بن إسرائيل يا عاصي ابن العاصي فتراجعا الكلام فسقط صالح مغشيا عليه فرش على وجهه الماء وبلغ ذلك أصحابه وهم بالباب فصاحوا صيحة واحدة واخترطوا سيوفهم ودخلوا على المعتز مصلتين فدخل وتركهم وأخذ صالح أحمد بن إسرائيل وابن مخلد وعيسى فأثقلهم بالحديد وحملهم إلى داره فقال المعتز لصالح قبل أن يحملهم هب لي أحمد فإنه كاتبي وقد رباني فلم يفعل ثم ضربهم وأخذ خطوطهم بمال جزيل قسط عليهم ولم يحصل منهم شيء وقام جعفر بن محمود بالأمر والنهي.
وفيها في رجب ظهر عيسى بن جعفر وزيد بن علي الحسنيان بالكوفة فقتلا بها عبد الله بن محمد بن داود بن عيسى.
216

وفيها في ذي القعدة حبس الحسن بن محمد بن أبي الشوارب القاضي وولي عبد الرحمن بن نائل البصري قضاء سامرا في ذي الحجة؛ وحج بالناس علي بن الحسين بن العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس.
وفيها ظهر بمصر إنسان علوي ذكر أنه أحمد بن محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن طباطبا وكان ظهوره بين برقة والإسكندرية وسار إلى الصعيد وكثر أتباعه وادعى الخلافة فسير إليه أحمد بن طولون جيشا فقاتلوه وانهزم أصحابه عنه وثبت هو فقتل وحمل رأسه إلى مصر.
وفيها توفي خفاجة بن سفيان أمير صقلية في رجب وولى بعده ابنه محمد وتقدم ذكر ذلك سنة سبع وأربعين ومائتين ولما ولي محمد سير عمه عبد الله بن سفيان إلى سرقوسة فأهلك زرعها وعاد.
وفيها توفي أبو أحمد عمر بن شمر بن حمدويه الهروي اللغوي وكان إماما في الأشعار وروى عن ابن الأعرابي والرياشي وغيرهما وفيها توفي محمد بن كرام بن عراف بن خزانة بن البراء صاحب المقالة المشهورة في التشبيه وكان موته بالشام وهو من سجستان.
وفيها توفي الزبير بن بكار بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير قاضي مكة وكان سقط من سطح فمكث يومين ومات وكان عمره أربعا وثمانين سنة وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي صاحب المسند توفي في ذي الحجة وعمره خمس وسبعون سنة وأبو عمران عمرو بن بحر الجاحظ وهو من متكلمي المعتزلة وعلي بن المثنى بن يحيى بن عيسى الموصلي والد أبي يعلى صاحب المسند.
وفيها توفي محمد سحنون الفقيه المالكي القيرواني بها.
217

256
ثم دخلت سنة ست وخمسين ومائتين
ذكر وصول موسى بن بغا إلى سامرا واختفاء صالح
وفيها في ثاني عشر المحرم دخل موسى بن بغا إلى سامرا وقد عبأ أصحابه واختفى صالح بن وصيف وسار موسى إلى الجوسق والمهتدي جالس للمظالم فأعلم بمكان موسى فأمسك ساعة عن الإذن ثم أذن له ولمن معه فدخلوا فتناظروا وأقاموا المهتدي من مجلسه وحملوه على دابة من دواب الشاكرية وانتهبوا ما كان في الجوسق وأدخلوا المهتدي دار ياجور وكان سبب أخذه أن بعضهم قال إنما سبب هذه المطاولة حيلة عليكم حتى يكسبكم صالح بجيشه فخافوا من ذلك فأخذوه فلما أخذوه قال موسى بن بغا اتق الله ويحك فإنك قد ركبت أمرا عظيما فقال له موسى وتربة المتوكل ما نريد إلى خيرا ولو أراد به خيرا لقال وتربة المعتصم والواثق ثم أخذوا عليه العهود أن لا يمايل صالحا ولا يضمر لهم إلا مثل ما يظهر ثم جددوا له البيعة ثم أصبحوا وأرسلوا إلى صالح ليحضر
218

ويطالبوه بدماء الكتاب والأموال التي للمعتز وأسبابه فوعدهم فلما كان الليل رأى أن أصحابه قد تفرقوا ولم يبق إلا بعضهم فهرب واختفى.
ذكر قتل صالح بن وصيف
وفيها قتل صالح بن وصيف لثمان بقين من صفر؛ وكان سببه أن المهتدي لما كان لثلاث بقين من المحرم أظهر كتابا زعم أن امرأة دفعته إلى سيما الشرابي وقالت إن فيه نصيحة وإن منزلها بمكان كذا فإن طلبوني فأنا فيه وطلبت المرأة فلم توجد وقيل إنه لم يدر من ألقى الكتاب.
ودعا المهتدي القواد وسليمان بن وهب فأراهم الكتاب فزعم سليمان أنه خط صالح فقرأه على القواد فإذا فيه أنه مستخف بسامرا وإنما استتر طلبا للسلامة وابقاء الموالي وطلبا لانقطاع الفتن وذكر ما صر إليه من أموال الكتاب وأم المعتز وجهة خروجها ويدل فيه على قوة نفسه فلما فرغوا من قراءته وصله المهتدي بالحث على الصلح والاتفاق والنهي عن التباغض والتباين فاتهمه الأتراك بأنه يعرف مكان صالح ويميل إليه وطال الكلام بينهم في ذلك.
فلما كان الغد اجتمعوا بدار موسى بن بغا داخل الجوسق واتفقوا على خلع المهتدي فقال لهم بابكيال إنكم قتلتم ابن المتوكل وهو حسن
219

الوجه، سخي الكف فاضل النفس وتريدون قتل هذا وهو مسلم يصوم ولا يشرب النبيذ من غير ذنب والله لئن قتلتم هذا لألحقن بخراسان لأشيع أمركم هناك.
فاتصل الخبر بالمهتدي فتحول من مجلسه متقلدا سيفا وقد لبس ثيابا نظافا وتطيب ثم أمر بإدخالهم عليه فدخلوا فقال لهم بلغني ما أنتم عليه ولست كمن تقدمني مثل المستعين والمعتز والله ما خرجت إليكم إلا وأنا متحنط وقد أوصيت إلى أخي بولدي وهذا سيفي والله لأضربن به ما استمسك قائمة بيدي والله لئن سقط مني شعرة ليهلكن وليذهبن أكثركم.
كم هذا الخلاف على الخلفاء والإقدام والحراءة على الله سواء عليكم من قصد الإبقاء عليكم ومن كان إذا بلغه هذا منكم دعا بالنبيذ فشربه مسرورا بمكروهكم حتى تعلموا أنه وصل إلى شيء من دنياكم أما إنكم لتعلمون أن بعض المتصلين بكم أيسر من جماعة من أهلي وولدي سوأة لكم يقولون إني أعلم بمكان صالح وهل هو إلا رجل من الموالي فكيف الإقامة معه إذا ساء رأيكم فيه وإذا أبرمتم الصلح فيه كان لكم ما أنفذه لجميعكم وإن أبيتم الإقامة على ما أنتم عليه فشأنكم واطلبوا صالحا وأما أنا
220

فما أعلم مكانه.
قالوا: فاخلف لنا على ذلك قال أما اليمين فنعم ولكنها تكون بحضرة بني هاشم والقضاة غدا إذا صليت الجمعة ثم قال لبابكيال ولمحمد بن بغا قد حضرتما ما عمله صالح في أموال الكتاب وأم المعتز فإن أخذ منه شيئا فقد أخذتما مثله فاحفظهما ذلك ثم أرادوا خلعه وإنما منعهم خوف الاضطراب وقلة الأموال فأتاهم مال من فارس عشرة آلاف ألف درهم وخمسمائة ألف درهم.
فلما كان سلخ المحرم انتشر الخبر في العامة أن القوم قد اتفقوا على خلع المهتدي والفتك به وأنهم قد أرهقوه وكتبوا الرقاع ورموها في الطرق والمساجد مكتوب فيها يا معشر المسلمين ادعوا الله لخليفتكم العدل الرضا المضاهي لعمر بن الخطاب أن ينصره الله على عدوه ويكفيه مؤنة ظالمة ويتم النعمة عليه وعلى هذه الأمة ببقائه فإن الأتراك قد أخذوه بأن يخلع نفسه وهو يعذب منذ أيام وصلى الله على محمد.
فلما كان يوم الأربعاء لأربع خلون من صفر تحرك الموالي بالكرخ والدور وبعثوا إلى المهتدي وسألوه أن يرسل إليهم بعض إخوته ليحملوه رسالة فوجه إليهم أخاه أبا القاسم عبد الله فذكروا له أنهم سامعون مطيعون وأنهم بلغهم أن موسى وبابكيال وجماعة معهما يريدونه على الخلع وأنهم يبذلون دماءهم دون ذلك، وشكوا تأخر أرزاقهم وما صار من الاقطاع والزيادات والرسوم إلى قوادهم التي قد أجحفت والضياع وما قد أخذوا النساء والدخلاء، فكتبوا بذلك كتابا فحمله إلى المهتدي وكتب جوابه بخطه قد فهمت كتابكم وسرني ما ذكرتم من طاعتكم فأحسن الله جزاءكم وأما ما ذكرتم من خلتكم وحاجتكم
221

فعزيز علي ذلك ولوددت والله أن صلاحكم يهيأ بأن لا آكل ولا أشرب ولا أطعم ولدي إلا القوت ولا أكسوه إلا ستر العورة وأنتم تعلمون ما صار إلى من الأموال وأما ما ذكرتم من الاقطاعات وغيرها فأنا أنظر في ذلك وأصرفه إلى محبتكم إن شاء الله تعالى.
فقرؤوا الكتاب وكتبوا، بعد الدعاء، يسألون أن يرد الأمور في الخاص والعام إلى أمير المؤمنين لا يعترض عليه معترض وأن يرد رسومهم إلى ما كانت عليه أيام المستعين وهو أن يكون على كل تسعة عريف وعلى كل خمسين خليفة وعلى كل مائة قائد وأن يسقط النساء والزيادات ولا يدخل مولى في ماله ولا غيره وأن يوضع لهم العطاء كل شهرين وأن تبطل الاقطاعات وذكروا أنهم سائرون إلى بابه ليقضي حوائجهم وان بلغهم أن أحدا اعترض عليه أخذوا رأسه وإن سقط من رأس أمير المؤمنين شعرة قتلوا بها موسى بن بغا وبابكيال وياجور وغيرهم.
وأرسلوا الكتاب مع أبي القاسم وتحولوا إلى سامرا وقام القواد في مراتبهم فدخل أبو القاسم إليه بالكتاب فقرأه للقواد قراءة ظاهرة وفيهم موسى وكتب جوابه بخطه فأجابهم إلى ما سألوا ودفعه إلى أبي القاسم، فقال أبو القسام لموسى بن بغا وبابكيال ومحمد بن بغا وجهوا معي رسلا يعتذرون إليهم عنكم فوجهوا معه رسلا فوصلوا إلى الأتراك وهم زهاء ألف فارس وثلاثة آلاف راجل وذلك لخمس خلون من صفر
222

فأوصل الكتاب، وقال إن أمير المؤمنين قد أجابكم إلى ما سألتم وقال لهم هؤلاء رسل القواد إليكم يعتذرون من شيء إن كان بلغكم عنهم، وهم يقولون إنما أنتم أخوة وأنتم منا وإلينا واعتذر عنهم.
فكتبوا إلى المهتدي يطلبون خمس توقيعات توقيعا بخط الزيادات وتوقيعا برد الإقطاعات وتوقيعا بإخراج الموالي البرانيين من الخاصة إلى البرانيين وتوقيعات برد الرسوم إلى ما كانت عليه أيام المستعين وتوقيعات برد البلاجي ثم يجعل أمير المؤمنين الجيش إلى أحد إخوته أو غيرهم ممن يرى ليرفع إليه أمورهم ولا يكون رجلا من الموالي وأن يحاسب صالح بن وصيف وموسى بن بغا عما عندهما من الأموال ويجعل لهم العطاء كل شهرين لا يرضيهم إلا ذلك ودفعوا الكتاب إلى أبي القاسم، وكتبوا كتابا آخر إلى القواد موسى وغيره [ذكروا فيه] أنهم كتبوا إلى أمير المؤمنين بما كتبوا وأنه لا يمنعهم شيئا مما طلبوا إلا أن يعترضوا عليه وأنهم إن فعلوا ذلك لم يوافقوهم وأن أمير المؤمنين إن شاكه شوكة وأخذ من رأسه شعرة أخذوا رؤوسهم جميعا ولا يقنعهم إلا أن يظهر صالح ويجتمع هو وموسى بن بغا حتى ينظر أين الأموال.
فلما قرأ المهتدي الكتاب أمر بإنشاء التوقيعات الخمس على ما سألوا وسيرها إليهم مع أبي القاسم وقت المغرب وكتب إليهم بإجابتهم إلى ما طلبوا وكتب إليهم موسى بن بغا كذلك وأذن في ظهور صالح
223

وذكر أنه أخوه وابن عمه وأنه ما أراد ما يكرهون فلما قرؤوا الكتابين قالوا قد أمسينا وغدا نعرفكم رأينا فافترقوا.
فلما كان الغد ركب موسى من دار الخليفة ومعه من عسكره ألف وخمسمائة رجل فوقف على طريقهم وأتاهم أبو القاسم فلم يعقل منهم جوابا إلا كل طائفة يقولون شيئا فلما طال الكلام انصرف أبو القاسم فاجتاز بموسى بن بغا وهو في أصحابه فانصرف معه.
ثم أمر المهتدي محمد بن بغا أن يسير إليهم مع أخيه أبي القاسم فسار في خمسمائة فارس ورجع موسى إلى مكانه بكرة وتقدم أبو القاسم ومحمد بن بغا فوعداهم عن المهتدي وأعطياهم توقيعا فيه أمان صالح بن وصيف مؤكدا غاية التوكيد فطلبوا أن يكون موسى في مرتبة بغا الكبير وصالح في مرتبة أبيه ويكون الجيش في يد من هو في يده وأن يظهر صالح بن وصيف ويوضع لهم العطاء ثم اختلفوا فقال قوم قد رضينا وقال قوم لم نرض فانصرف أبو القاسم ومحمد بن بغا على ذلك وتفرق الناس إلى الكرخ والدور وسامرا.
فلما كان الغد ركب بنو وصيف في جماعة معهم وتنادوا السلاح ونهبوا دواب العامة وعسكروا بسامرا وتعلقوا بأبي القاسم وقالوا نريد صالحا وبلغ ذلك المهتدي فقال لموسى يطلبون صالحا مني كأني أنا أخفيته إن كان عندهم فينبغي لهم أن يظهروه.
ثم ركب موسى ومن معه من القواد فاجتمع الناس إليه فبلغ عسكره أربعة آلاف فارس وعسكروا وتفرق الأتراك ومن معهم ولم يكن للكرخيين
224

ولا للدوريين في هذا اليوم حركة وجد موسى ومن معه في طلب ابن وصيف واتهموا جماعة به فلم يكن عندهم، ثم إن غلاما دخل دارا وطلب ماء ليشربه فسمع قائلا يقول أيها الأمير تنح فإن غلاما يطلب ماء فسمع الغلام الكلام فجاء إلى عند عيار فأخبره فأخذ معه ثلاثة نفر وجاء إلى صالح وبيده مرآة ومشط وهو يسرح لحيته فأخذه فتضرع إليه فقال لا يمكنني تركك ولكني أمر بك على ديار أهلك وقوادك وأصحابك فإن اعترضك منهم اثنان أطلقتك.
فأخرج حافيا ليس على رأسه شيء والعامة تعدو خلفه وهو على برذون بأكاف فأتوا به نحو الجوسق فضربه بعض أصحاب موسى على عاتقه ثم قتلوه وأخذوا رأسه وتركوا جثته ووافوا به دار المهتدي قبل المغرب فقالوا له في ذلك فقال واروه ثم حمل رأسه وطيف له على قناة ونودي عليه هذا جزاء من قتل مولاه.
ولما قتل أنزل رأس بغا الصغير وسلم إلى أهله ليدفنوه ولما قتل صالح قال السلولي لموسى بن بغا:
(ونلت وترك من فرعون حين طغى * وحيث إذ جئت يا موسى على قدر)
(ثلاثة كلهم باغ أخو حسد * يرميك بالظلم والعدوان عن وتر)
(وصيف في الكرخ ممثول به وبغا * بالجسر محترق بالنار والشرر)
(وصالح بن وصيف بعد منعفر * بالحير جثته والروح في سقر)
225

ذكر اختلاف الخوارج على مساور
في هذه السنة خالف إنسان من الخوارج اسمه عبيدة من بني زهير العمروي على مساور.
وسبب ذلك أنه خالفه في توبة الخاطئ فقال مساور تقبل توبته وقال عبيدة لا تقبل فجمع عبيدة جمعا كثيرا وسار إلى مساور وتقدم إليه مساور من الحديثة فالتقوا بنواحي جهينة بالقرب من الموصل في جمادى الأولى سنة سبع وخمسين [ومائتين]، واقتتلوا أشد قتال فترجل من عتده ومعه جماعة من أصحابه وعرقبوا دوابهم فقتل عبيدة وانهزم جمعه فقتل أكثرهم واستولى مساور على كثير من العراق ومنع الأموال عن الخليفة فضاقت على الجند أرزاقهم فاضطرهم ذلك إلى أن سار إليه موسى بن بغا وبابكيال وغيرهما في عسكر عظيم فوصوا إلى السن فأقاموا به ثم عادوا إلى سامرا لما نذكره من خلع المهتدي.
فلما ولي المعتمد الخلافة سير مفلحا إلى قتال مساور في عسكر كبير حسن العدة فلما قارب الحديثة فارقها مساور وقصد جبلين يقال لأحدهما زيني وللآخر عامر وهما بالقرب من الحديثة فتبعه مفلح فعطف عليه مساور وهو في أربعة آلاف فارس فاقتتل هو ومفلح.
وكان مساور قد انصرف عن حرب عبيدة وقد جمع كثيرا من أصحابه
226

فلقوا مفلحا بجبل زيني فلم يصل مفلح منه إلى ما يريده فصعد رأس الجبل فاحتمى به ونزل مفلح في أصل الجبل وجرى بينهما وقعات كثيرة ثم أصبحوا يوما وطلبوا مساورا فلم يجدوه وكان قد نزل ليلا من غير الوجه الذي فيه مفلح لما أيس من الظفر لضعف أصحابه من الجراح فحيث لم يره مفلح سار إلى الموصل فسار منها إلى ديار ربيعة سنجار ونصيبين والخابور فنظر في أمرها ثم عاد إلى الموصل فأحسن السيرة في أهلها ورجع عنها في رجب متأهبا للقاء مساور.
فلما قارب الحديثة فارقها مساور وكان قد عاد إليها عند غيبة مفلح فتبعه مفلح فكان مساور يرحل عن المنزل فينزله مفلح فلما طال الأمر على مفلح وتوغل في الجبال والشعاب والمضايق وراء مساور ولحق الجيش الذي معه مشقة ونصب فعاد عنه فتبعه مساور يقفو أثره ويأخذ كل من ينقطع عن ساقه العسكر فرجع إليه طائفة منهم فقاتلوه ثم عادوا ولحقوا مفلحا ووصلوا الحديثة فأقام بها مفلح أياما وانحدر أول شهر رمضان إلى سامرا فاستولى حينئذ مساور على البلاد وجبى خراجها وقويت شوكته واشتد أمره.
227

ذكر خلع المهتدي وموته
في رجب الخامس عشر منه خلع المهتدي وتوفي لاثنتي عشرة ليلة بقيت منه.
وكان السبب في ذلك أن أهل الكرخ والدور من الأتراك الذين تقدم ذكرهم تحركوا في أول رجب لطلب أرزاقهم فوجه المهتدي إليهم أخاه أبا القاسم وكيغلغ وغيرهما فسكنوهم فرجعوا وبلغ أبا نصر محمد بن بغا أن المهتدي قال للأتراك إن الأموال عند محمد وموسى ابني بغا فهرب إلى أخيه وهو بالسن مقابل مساور الشاري فكتب المهتدي إليه أربعة كتب يعطيه الأمان فرجع هو وأخوه حيسون فحبسهما ومعهما كيغلغ وطولب أبو نصر محمد بن بغا بالأموال فقبض من وكيله خمسة عشر ألف دينار وقتل لثلاث خلون من رجب ورمي به في بئر فأنتن فأخرجوه إلى منزله وصلى عليه الحسن بن المأمون.
وكتب المهتدي إلى موسى بن بغا لما حبس أخاه أن يسلم العسكر إلى بابكيال والرجوع إليه وكتب إلى بابكيال أن يتسلم العسكر ويقوم بحرب مساور الشاري وقتل موسى بن بغا ومفلح فسار بابكيال بالكتاب إلى موسى فقرأه عليه وقال لست أفرح بهذا فإنه تدبير علينا جميعنا فما ترى فقال موسى أرى أن تسير إلى سامرا وتخبره أنك في طاعته ونصرته
228

علي وعلى مفلح فهو يطمئن إليك ثم تدبر في قتله.
فأقبل إلى سامرا فوصلها ومعه ياركوج واسارتكين وسيما الطويل وغيرهم فدخلوا دار الخلافة لاثنتي عشرة مضت من رجب فحبس بابكيال وصرف الباقين فاجتمع أصحاب بابكيال وغيرهم من الأتراك وقالوا لم حبس قائدنا ولم قتل أبو نصر بن بغا؟
وكان عند المهتدي صالح بن علي بن يعقوب بن المنصور فشاوره فيه فقال له انه لم يبلغ أحدا من آبائك ما بلغته من الشجاعة وقد كان أبو مسلم أعظم شأنا عند أهل خراسان من هذا عند أصحابه وقد كان فيهم من يعبده فما كان إلا أن طرح رأسه حتى سكتوا فلو فعلت مثل ذلك سكتوا.
فركب المهتدي وقد جمع له جميع المغاربة والأتراك والفراغنة فصير في الميمنة مسرورا البلخي وفي الميسرة ياركوج ووقف هو في القلب مع اسارتكين وطبايغو وغيرهما من القواد فأمر بقتل بابكيال وألقى رأسه إليهم عتاب بن عتاب فحملوا على عتاب فقتلوه وعطفت ميمنة المهتدي وميسرته بمن فيها من الأتراك فصاروا مع اخوانهم الأتراك فانهزم الباقون عن المهتدي وقتل جماعة من الفريقين فقيل قتل سبعمائة وثمانون رجلا. وقيل قتل من الأتراك نحو أربعة آلاف وقيل ألفان وقيل ألف.
وقتل من أصحاب المهتدي خلق كثير وولى منهزما وبيده السيف،
229

وهو ينادي: يا معشر المسلمين! أنا أمير المؤمنين قاتلوا عن خليفتكم فلم يجبه أحد من العامة إلى ذلك فسار إلى باب السجن فأطلق من فيه وهو يظن أنهم يعينونه فهربوا ولم يعنه أحد فسار إلى دار أحمد بن جميل صاحب الشرطة فدخلها وهم في أثره فدخلوا عليه وأخرجوه وساروا به إلى الجوسق على بغل فحبس عند أحمد بن خاقان وقبل المهتدي يده فيما قيل مرارا عديدة وجرى بينهم وبينه وهو محبوس كلام كثير أرادوه فيه على الخلع فأبى واستسلم للقتل فقالوا إنه كتب بخطه رقعة لموسى بن بغا وبابكيال وجماعة من القواد أنه لا يغدر بهم ولا يغتالهم ولا يفتك بهم ولا يهم بذلك وأنه متى فعل ذلك فهم في حل من بيعته والأمر إليهم يقعدون من شاؤوا.
فاستحلوا بذلك نقض أمره فداسوا خصيتيه وصفعوه فمات وأشهدوا على موته أنه سليم ليس به أثر ودفن بمقبرة المنتصر.
وقيل كان سبب خلعه وموته أن أهل الكرخ والدور اجتمعوا وطلبوا أن يدخلوا إلى المهتدي ويكلموه بحاجاتهم فدخلوا الدار وفيها أبو نصر محمد بن بغا وغيره من القواد فخرج أبو نصر منها ودخل أهل الكرخ والدور وشكوا حالهم إلى المهتدي وهم في أربعة آلاف وطلبوا منه أن
230

يعزل عنهم أمراءهم وأن يصير الأمر إلى إخوته وأن يأخذ القواد وكتابهم بالمال الذي صار إليهم فوعدهم بإجابتهم إلى ما سألوه فأقاموا يومهم في الدار فحمل المهتدي إليهم ما يأكلون.
وسار محمد بن بغا إلى المحمدية وأصبحوا من الغد يطلبون ما سألوه فقيل لهم إن هذا الأمر صعب وإخراج الأمر عن يد هؤلاء القواد ليس بسهل فكيف إذا جمع إليه مطالبتهم بالأموال فانظروا في أموركم فإن كنتم تصبرون على هذا الأمر إلى أن نبلغ غايته وإلا فأمر المؤمنين يحسن لكم النظر فأبوا إلا ما سألوه فدعوا إلى أيمان البيعة على أن يقيموا على هذا القول وأن يقاتلوا من قاتلهم وينصحوا أمير المؤمنين فأجابوا إلى ذلك فأخذت عليهم أيمان البيعة.
ثم كتبوا إلى أبي نصر عن أنفسهم وعن المهتدي ينكرون خروجه عن الدار بغير سبب وأنهم إنما قصدوا ليشكوا حالهم ولما رأوا الدار فارغة أقاموا فيها فرجع فحضر عند المهتدي فقبل رجله ويده ووقف فسأله عن الأموال وما يقوله الأتراك فقال وما أنا والأموال قال وهل هي إلا عندك وعند أخيك وأصحابكما ثم أخذوا بيد محمد وحبسوه وكتبوا إلى موسى بن بغا ومفلح بالانصراف إلى سامرا وتسليم العسكر إلى قواد ذكروهم وكتبوا إلى الأتراك الصغار في تسليم العسكر منهما وذكروا ما جرى لهم وقالوا إن أجاب موسى ومفلح إلى ما أمرا به من الإقبال إلى سامرا وتسليم العسكر وإلا فشدوهما وثاقا واحملوهما إلى الباب.
231

وأجرى المهتدي على من أخذت عليه البيعة كل رجل درهمين فلما وصلت الكتب إلى عسكر موسى أخذها موسى وقرئت عليه وعلى الناس وأخذوا عليهم البيعة بالنصرة لهم وساروا نحو سامرا فنزلوا عند قنطرة الرقيق لإحدى عشرة ليلة خلت من رجب وخرج المهتدي وعرض الناس وعاد من يومه، وأصبح الناس من الغد وقد دخل من أصحاب موسى زهاء ألف فارس منهم كوبكين وغيره وعاد وخرج المهتدي فصف أصحابه وفيهم من أتى من أصحاب موسى وترددت الرسل بينهم وبين موسى يريد أن يولي ناحية ينصرف إليها وأصحاب المهتدي يريدون أن يجيء إليه ليناظرهم على الأموال فلم يتفقوا على شيء.
وانصرف عن موسى خلق كثير من أصحابه فعدل هو ومفلح يريدان طريق خراسان وأقبل بابكيال وجماعة من القواد فوصلوا إلى المهتدي فسلموا وأمرهم بالانصراف وحبس بابكيال وقتله ولم يتحرك أحد ولا تغير شيء إلا تغيرا يسيرا وكان ذلك يوم السبت.
فلما كان الأحد أنكر الأتراك مساواة الفراغنة لهم في الدار ودخولهم معهم ورفع أن الفرغنة إنما تم لهم هذا بعدم رؤساء الأتراك فخرجوا من الدار بأجمعهم وبقيت الدار على الفراغنة والمغاربة فأنكر الأتراك ذلك وأضافوا إليه طلب بابكيال فقال المهتدي للفراغنة والمغاربة ما جرى من الأتراك وقال لهم إن كنتم تظنون فيكم قوة فيما أكره قربكم وإلا فأرضيناهم من قبل تفاقم الأمر فذكروا أنهم يقومون به فخرج بهم المهتدي وهم في سنة آلاف منهم من الأتراك نحو الف وهم أصحاب صالح بن وصيف وكان الأتراك في عشرة آلاف فلما التقوا انهزم أصحاب
232

صالح وخرج إليهم كمين للأتراك فانهزم أصحاب المهتدي وذكر نحو ما تقدم إلا أنه قال انهم لما رأوا المهتدي بدار أحمد بن جميل قاتلهم فأخرجوه وكان به أثر طعنة فلما
رأى الجرح ألقى بيده إليهم وأرادوه على الخلع فأبى أن يجيبهم فمات يوم الأربعاء وأظهروه للناس يوم الخميس وصلى عليه جعفر بن عبد الواحد.
وكانوا قد خلعوا أصابع يديه من كفيه ورجليه من كعبيه حتى ورمت كفاه وقدماه وفعلوا به غير شيء حتى مات وطلبوا محمد بن بغا فوجدوه ميتا فكسروا على قبره ألف سيف.
وكانت مدة خلافة المهتدي أحد عشر شهرا وخمس عشرة ليلة وكان عمرة ثمانيا وثلاثين سنة وكان واسع الجبهة أسمر رقيقا أشهل جهم الوجه عريض البطن عريض المنكبين قصيرا طويل اللحية ومولده بالقاطول.
ذكر بعض سيرة المهتدي
كان المهتدي بالله من أحسن الخلفاء مذهبا وأجملهم طريقة وأظهرهم ورعا وأكثرهم عبادة.
قال عبد الله بن إبراهيم الإسكافي جلس المهتدي للمظالم فاستعداه رجل على ابن له فأمر بإحضاره فأحضر وأقامه إلى جانب خصمه ليحكم بينهما فقال الرجل للمهتدي والله يا أمير المؤمنين ما أنت إلا كما قيل:
233

(حكمتوه قاضيا بينكم * أبلج مثل القمر الزاهر)
(لا يقبل الرشوة في حكمه * ولا يبالي غبن الخاسر)
فقال المهتدي أما أنت أيها الرجل فأحسن الله مقالتك وأما أنا فما جلست حتى قرأت: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة) الآية قال فما رأيت باكيا أكثر من ذلك اليوم.
قال أبو العباس بن هاشم بن القاسم الهاشمي كنت عند المهتدي بعض عشايا شهر رمضان فقمت لأنصرف فأمرني بالجلوس فجلست حتى صلى المهتدي بنا المغرب وأمر بالطعام فأحضر وأحضر طبق خلاف عليه رغيفان وفي إناء ملح وفي آخر زيت وفي آخر خل فدعاني إلى الأكل وأكلت مقتصرا ظنا مني أنه يحضر طعاما جيدا فلما رأى أكلي كذلك قال أما كنت صائما؟ قلت بلى قال أفلست تريد الصوم غدا قلت وكيف لا وهو شهر رمضان؟ فقال كل واستوف عشاءك فليس ههنا غير ما ترى فعجبت من قوله وقلت ولم يا أمير المؤمنين قد أسبغ الله عليك النعمة ووسع رزقه! فقال إن الأمر على ما وصفت والحمد لله ولكني فكرت في أنه كان من بني أمية عمر بن عبد العزيز فغرت لبني هاشم أن لا يكون في خلفائهم مثله وأخذت نفسي بما رأيت.
قال إبراهيم بن مخلد بن محمد بن عرفة عن بعض الهاشميين إن المهتدي وجدوا له سفطا فيه جبة صوف وكساء وبرنس كان يلبسه
234

بالليل ويصلي فيه ويقول أما تستحي بنو العباس أن يكون فيهم مثل عمر بن عبد العزيز وكان قد اطرح الملاهي وحرم الغناء والشراب ومنع أصحاب السلطان عن الظلم رحمه الله تعالى ورضي عنه.
ذكر خلافة المعتمد على الله
لما أخذ المهتدي بالله وحبس أحضر أبو العباس أحمد بن المتوكل وهو المعروف بابن فتيان وكان محبوسا بالجوسق فبايعه الناس فبايعه الأتراك وكتبوا بذلك إلى موسى بن بغا وهو بخانقين فحضر إلى سامرا فبايعه ولقب المعتمد على الله ثم إن المهتدي مات ثاني يوم بيعة المعتمد وسكن الناس واستوزر عبيد الله بن يحيى بن خاقان.
ذكر أخبار صاحب الزنج
في هذه السنة سير جعلان لحرب صاحب الزنج بالبصرة فلما وصل إلى البصرة نزل بمكان بينه وبين صاحب الزنج فرسخ وخندق عليه وعلى أصحابه وأقام سنة أشهر في خندقه وجعل يوجه الزينبي وبني هاشم ومن خف لحربهم هذا اليوم الذي تواعدهم جعلان للقائه فلم يكن بينهم إلا الرمي بالحجارة والنشاب ولا يجد جعلان إلى لقائه سبيلا لضيق المكان عن مجال الخيل وكان أكثر أصحاب جعلان خيالة.
235

فلما طال مقامه في خندقه أرسل صاحب الزنج أصحابه إلى مسالك الخندق فبيتوا جعلان وقتلوا من أصحابه جماعة وخاف الباقون خوفا شديدا.
وكان الزينبي قد جمع البلالية والسعدية ووجه بهم من مكانين وقاتلوا الخبيث فظفر بهم وقتل منهم مقتلة عظيمة فترك جعلان خندقه وانصرف إلى البصرة وظهر عجزه للسلطان فصرفه عن حرب الزنج وأمر سعيدا الحاجب بمحاربتهم.
وتحول صاحب الزنج بعد ذلك من السبخة التي كان فيها ونزل بنهر أبي الخصيب وأخذ أربعة وعشرين مركبا من مراكب البحر وأخذوا منها أموالا كثيرة لا تحصى وقتل من فيها ونهبها أصحابه ثلاثة أيام وأخذ لنفسه بعد ذلك من النهب.
ذكر دخول الزنج الأبلة
وفيها دخل الزنج الأبلة فقتلوا فيها خلقا كثيرا وأحرقوها.
وكان سبب ذلك أن جعلان لما تنحى عن خندقه إلى البصرة ألح شنا صاحب الزنج بالغارات على الأبلة وجعلت سراياه تضرب إلى ناحية معقل ولم يزل يحارب إلى يوم الأربعاء لخمس بقين من رجب فافتتحها وقتل أبو الأحوص وعبيد الله بن حميد بن الطوسي وأضرمها نارا،
236

وكانت مبنية بالساج فأسرعت النار فيها وقتل من أهلها خلق كثير وحووا الأموال العظيمة وكان ما أحرقت النار أكثر من الذي نهب.
ذكر أخذ الزنج عبادان
وفيها أرسل أهل عبادان إلى صاحب الزنج فسلموا إليه حصنهم.
وكان الذي حملهم على ذلك أنه لما فعل بأهل الأبلة ما فعل خاف أهل عبادان على أنفسهم وأهليهم وأموالهم فكتبوا إليه يطلبون الأمان على أن يسلموا إليه البلد فأمنهم وسلموه إليه فأنفذ أصحابه إليهم وأخذوا ما فيه من العبيد والسلاح ففرقه في أصحابه.
ذكر أخذهم الأهواز
ولما فرغ العلوي البصري من الأبلة وعبادان طمع في الأهواز فاستنهض أصحابه نحو جبى فلم يلبث أهلها وهربوا منهم فدخلها الزنج وقتلوا من رأوا بها وأخرقوا ونهبوا وأخربوا ما وراءها إلى الأهواز فلما بلغوا الأهواز هرب من فيها من الجند ومن أهلها ولم يبق إلا القليل فدخلوها وأخربوها وكان بها إبراهيم ابن المدبر متولي الخراج فأخذوه أسيرا بعد أن جرح ونهب جميع ماله وذلك لاثنتي عشرة ليلة خلت من رمضان فلما فعل ذلك بالأهواز وعبادان والأبلة خافه أهل البصرة وانتقل كثير من أهلها في البلدان.
237

ذكر عزل عيسى بن الشيخ عن الشام وولايته أرمينية
لما استولى ابن الشيخ على دمشق وقطع الحمل عن بغداد اتفق أن ابن المدبر حمل مالا من مصر إلى بغداد مقدار سبعمائة ألف دينار فأخذها عيسى بن الشيخ.
فأرسل من بغداد إليه حسين الخادم يطالبه بالمال فذكر أنه أخرجه على الجند فأعطاه حسين عهده على أرمينية ليقيم الدعوة للمعتمد وكان قد امتنع من ذلك فأخذ العهد وأقام الدعوة للمعتمد ولبس السواد ظنا منه أن الشام تكون بيده.
فأنفذ المعتمد أماجور وقلده دمشق وأعمالها فسار إليها في ألف رجل فلما قرب منها أنهض عيسى إليه ولده منصورا في عشرين ألف مقاتل فلما التقوا انهزم عسكر منصور وقتل منصور فوهن عيسى وسار إلى أرمينية على طريق الساحل وولي أماجور دمشق.
ذكر ابن الصوفي العلوي وخروجه بمصر
وفيها ظهر بصعيد مصر إنسان علوي ذكر أنه إبراهيم بن محمد بن يحيى بن عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب عليه السلام ويعرف بابن الصوفي وملك مدينة إسنا ونهبها وعم شره البلاد.
فسير إليه أحمد بن طولون جيشا فهزمه العلوي وأسر المقدم على
238

الجيش، فقطع يديه ورجليه وصلبه فسير إليه ابن طولون جيشا آخر فالتقوا بنواحي أخميم فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزم العلوي وقتل كثير من رجاله وسار هو حتى دخل الواحات وسيرد ذكره سنة تسع وخمسين ومائتين إن شاء الله تعالى.
ذكر ظهور علي بن زيد على الكوفة وخروجه عنها
في هذه السنة ظهر علي بن زيد العلوي بالكوفة واستولى عليها وأزال عنها نائب الخليفة واستقر بها.
فسير إليه الشاه بن ميكال في جيش كثيف فالتقوا واقتتلوا فانهزم الشاه وقتل جماعة كثيرة من أصحابه ونجا الشاه.
ثم وجه المعتمد إلى محاربة كيجور التركي وأمره أن يدعوه إلى الطاعة ويبذل له الأمان فسار كيجور فنزل بشاهي وأرسل إلى علي بن زيد يدعوه إلى الطاعة وبذل له الأمان فطلب علي أمورا لم يجبه إليها كيجور فتنحى علي بن زيد عن الكوفة إلى القادسية فعسكر بها ودخل كيجور إلى الكوفة ثالث شوال من السنة ومضى علي بن زيد إلى خفان ودخل بلاد بني أسد وكان قد صاهرهم وأقام هناك ثم سار إلى جنبلاء.
وبلغ كيجور خبره فأسرى إليه من الكوفة سلخ ذي الحجة من السنة فواقعه فانهزم علي بن زيد وطلبه كيجور ففاته وقتل نفرا من
239

أصحابه وأسر آخرين وعاد كيجور إلى الكوفة فلما استقامت أمورها عاد إلى سر من رأى بغير أمر الخليفة فوجه إليه الخليفة نفرا من القواد فقتلوه بعكبرا في ربيع الأول سنة سبع وخمسين ومائتين.
ذكر عدة حوادث
وفيها تقدم سعيد بن صالح الحاجب لحرب صاحب الزنج من قبل السلطان.
وفيها تحارب مساور الخارجي وأصحاب موسى بن بغا بناحية خانقين وكان مساور في جمع كثير وكان أصحاب موسى بن بغا نحو مائتين فالتقوا بمساور وقتلوا من أصحابه جماعة كثيرة.
وفيها وثب ابن واصل بن إبراهيم التميمي وهو من أهل فارس ورجل من أكرادها يقال له أحمد بن الليث بالحرث بن سيما عامل فارس فحارباه وقتلاه وغلب محمد بن واصل على فارس.
وفيها وجه مفلح لحرب مساور.
وفيها غلب الحسن بن زيد الطالبي على الري في رمضان. فسار موسى بن بغا إلى الري في شوال وشيعه المعتمد.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بن أحمد بن عيسى بن أبي جعفر المنصور.
وفيها توفي الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري الجعفي صاحب المسند الصحيح وكان مولده سنة أربع وتسعين ومائة.
240

257
ثم دخلت سنة سبع وخمسين ومائتين
ذكر عودة أبي أحمد الموفق من مكة إلى سر من رأى
لما اشتد أمر الزنج وعظم شرهم وأفسدوا في البلاد أرسل المعتمد على الله إلى أخيه أبي أحمد الموفق فأحضره من مكة فلما حضر عقد له على الكوفة وطريق مكة والحرمين واليمن ثم عقد له على بغداد والسواد وواسط وكور دجلة والبصرة والأهواز وفارس وأمر أن يعقد لياركوج على البصرة وكور دجلة والبحرين واليمامة مكان سعيد بن صالح فاستعمل ياركوج منصور بن جعفر الخياط على البصرة وكور دجلة إلى ما يلي الأهواز.
ذكر انهزام الزنج من سعيد الحاجب
وفيها في رجب أوقع سعيد الحاجب بجماعة من الزنج فهزمهم واستنقذ ما معهم من النساء والنهب وجرح سعيد عدة جراحات.
وبلغه الخبر بجمع آخر منهم فسار إليهم فلقيهم فهزمهم أيضا واستنقذ
241

ما معهم فكانت المرأة من تلك الناحية تأخذ الزنجي فتأتي به عسكر سعيد فلا يمتنع عليها.
وعسكر سعيد بهطة ثم عبر إلى غرب دجلة فأوقع بصاحب الزنج عدة وقعات ثم عاد إلى معسكره بهطة فأقام إلى باقي رجب وعامة شعبان.
ذكر خلاص ابن المدبر من الزنج
وفيها تخلص إبراهيم بن محمد بن المدبر من حبس الزنج وكان سبب خلاصه أنه كان محبوسا في بيت يحيى بن محمد البحراني ووكل به رجلين منزلهما ملاصق المنزل الذي فيه إبراهيم فضمن لهما مالا ورغبهما فعملا سربا إلى البيت الذي فيه إبراهيم فخرج هو وابن أخ له يقال له أبو غالب ورجل هاشمي.
ذكر انهزام سعيد من الزنج وولاية منصور بن جعفر البصرة
وفيها أوقع العلوي صاحب الزنج بسعيد وكان يسير إليه جيشا فأقعوا به ليلا وأصابوا منه فقتلوا من أصحاب سعيد خلقا كثيرا وأحرقوا عسكره فضعف هو ومن معه فأمر بالمسير إلى باب الخليفة.
242

ونزل بفراج بالبصرة فسار سعيد عن البصرة وأقام بها بفراج يحمي أهلها فرد السلطان أمرها إلى منصور بن جعفر الخياط بعد سعيد الحاجب وكان منصور يبذرق السفن ويحميها وسيرها إلى البصرة فضاقت الميرة على الزنج فجمع منصور الشذوات فأكثر منها وسار نحو صاحب الزنج فكمن له صاحب الزنج فلما أقبل خرجوا عليه فقتلوا في أصحابه مقتلة عظيمة وغرق منهم خلق كثير وحملوا من رؤوس أصحابه إلى البحراني ومن معه من الزنوج بنهر معقل.
ذكر انهزام جيش الزنج بالأهواز
وفيها أرسل صاحب الزنج جيشا مع علي بن أبان لقطع قنطرة أربك فلقيهم إبراهيم بن سيما منصرفا من فارس فأوقع بجيش العلوي فهزمهم وقتل منهم وجرح علي بن أبان.
ثم إن إبراهيم سار قاصدا نهر جبى فأمر كاتبه شاهين بن بسطام بالمسير على طريق آخر ليوافيه بنهر جبى بعد الوقعة مع علي بن أبان وكان علي بن أبان قد سار من الوقعة فنزل بالخيزرانية فأتاه رجل فأخبره بإقبال شاهين إليه فسار نحوه فالتقيا وقت العصر بموضع بين جبى ونهر موسى واقتتلوا قتالا شديدا ثم صدمهم الزنج صدمة صادقة فهزموهم وقتلوا شاهين وابن عم له وقتل معه خلق كثير.
فلما فرغ الزنج منهم أتاهم الخبر بقرب إبراهيم بن سيما منهم فسار
243

علي نحوه فوافاه وقت العشاء الآخرة فأوقع بإبراهيم دفعة أخرى شديدة قتل فيها جمعا كثيرا.
قال علي بن أبان وكان أصحابي قد تفرقوا بعد الوقعة مع شاهين ولم يشهد معي حرب إبراهيم غير خمسين رجلا وانصرف علي إلى جي.
ذكر أخذ الزنج البصرة وتخريبها
لما سار سعيد إلى البصرة ضم السلطان عمله إلى منصور بن جعفر الخياط وكان منه ما ذكرنا ولم يعد منصور لقتاله واقتصر على تخفير القيروانات والسفن فامتنع أهل البصرة فعظم ذلك على العلوي فتقدم إلى علي بن أبان بالمقام بالخيزرانية ليشغل منصورا عن تسيير القيروانات فكان بنواحي جبى والخيزرانية وشغل منصورا فعاد أهل البصرة إلى الضيق وألح أصحاب الخبيث عليهم بالحرب صباحا ومساء.
فلما كان في شوال أزمع الخبيث على جمع أصحابه لدخول البصرة والجد في اخرابها لضعف أهلها وتفرقهم وخراب ما حولها من القرى ثم أمر محمد بن يزيد الدارمي وهو أحد من صحبه بالبحرين أن يخرج إلى الأعراب ليجمعهم فأتاه منهم خلق كثير فأناخوا بالقندل ووجه إليهم العلوي سليمان بن موسى الشعراني وأمرهم بتطرق البصرة والإيقاع بها ليتمرن الأعراب على ذلك ثم انهض علي بن أبان وضم إليه طائفة من الأعراب وأمره بإتيان البصرة من ناحية بني سعيد وأمر يحيى بن محمد
244

البحراني بإتيانها مما يلي نهر عدي وضم إليه سائر الأعراب فكان أول من واقع أهل البصرة علي بن أبان وبفراج يومئذ بالبصرة في جماعة من الجند فأقام يقاتلهم يومين ومال الناس نحوه.
وأقبل يحيى بن محمد فيمن معه نحو الجسر فدخل علي بن أبان وقت صلاة الجمعة لثلاث عشرة بقيت من شوال فأقام يقتل ويحرق يوم الجمعة وليلة السبت ويوم السبت وغادى يحيى البصرة يوم الأحد فتلقاه بفراج وبرية في جمع فردوه فرجع فأقام يومه ذلك.
ثم غاداهم اليوم الآخر فدخل وقد تفرق الجند وهرب برية وانحاز بفراج ومن معه ولقيه إبراهيم بن يحيى المهلبي فاستأمنه لأهل البصرة فأمنهم فنادي منادي إبراهيم من أراد الأمان فليحضر دار إبراهيم فحضر أهل البصرة قاطبة حتى ملأوا الرحاب فلما رأى اجتماعهم انتهز الفرصة لئلا يتفرقوا فغدر بهم وأمر أصحابه بقتلهم فكان السيف يعمل فيهم وأصواتهم مرتفعة بالشهادة فقتل ذلك الجمع كله ولم يسلم إلا النادر منهم ثم انصرف يومه ذلك إلى الحربية.
ودخل علي بن أبان الجامع فأحرقه وأحرقت البصرة في عدة مواضع منها المربد وزهران وغيرهما واتسع الحريق من الجبل إلى الجبل وعظم الخطب وعمها القتل والنهب والإحراق وقتلوا كل من رأوه بها فمن كان من أهل اليسار أخذوا ماله وقتلوه ومن كان فقيرا قتلوه
245

لوقته، وبقوا كذلك عدة أيام.
ثم أمر يحيى أن ينادي بالأمان ليظهروا فلم يظهر أحد ثم انتهى الخبر إلى الخبيث فصرف علي بن أبان عنها وأقر يحيى عليها لموافقته هواه في كثرة القتل وصرف عليا لإبقائه على أهلها فهرب الناس على وجوههم وصرف الخبيث جيشه عن البصرة.
فلما أخرب البصرة انتسب إلى يحيى بن زيد وذلك لمصير جماعة من العلويين إليه وكان فيهم علي بن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد وجماعة من نسائهم فترك الانتساب إلى عيسى بن زيد وانتسب إلى يحيى بن زيد قال القاسم بن الحسن النوفلي كذب إن يحيى لم يعقب غير بنت ماتت وهي ترضع.
ذكر مسير المولد لحرب الزنج
وفيها في ذي القعدة أمر المعتمد محمدا المولد بالمسير إلى البصرة لحرب الزنج فسار فنزل الأبلة وجاء برية فنزل البصرة واجتمع إليه من أهلها خلق كثير فسير العلوي إلى حرب المولد يحيى بن محمد فسار إليه فقاتله عشرة أيام ثم وطن المولد نفسه على المقام فكتب العلوي إلى يحيى يأمره بتبييت المولد ووجه إليه الشذوات مع أبي الليث الأصفهاني، فبيته،
246

ونهض المولد فقاتله تلك الليلة ومن الغد إلى العصر ثم انهزم عنه.
ودخل الزنج عسكره فغنموا ما فيه فاتبعه يحيى إلى الجامدة فأوقع بأهلها ونهب تلك القرى جميعها وسفك ما قدر عليه من الدماء ثم رجع إلى نهر معقل.
ذكر قصد يعقوب فارس وملكه بلخ وغيرها
وفي هذه السنة سار يعقوب بن الليث إلى فارس فأرسل إليه المعتمد ينكر ذلك عليه فكتب إليه الموفق بولاية بلخ وطخارستان وسجستان والسند فقبل ذلك وعاد وسار إلى بلخ.
وطخارستان فلما وصل إلى بلخ نزل بظاهرها وخرب نوشاد وهي أبنية كان بناها داود بن العباس بن مابنجور خارج بلخ ثم سار يعقوب من بلخ إلى كابل واستولى عليها وقبض على زنبيل وأرسل رسولا إلى الخليفة ومعه هدية جليلة المقدار وفيها أصنام أخذها من كابل وتلك البلاد وسار إلى بست فأقام بها سنة.
وسبب إقامته أنه أراد الرحيل فرأى بعض قواده قد حمل بعض أثقاله فغضب وقال أترحلون قبلي وأقام سنة ثم رجع إلى سجستان ثم عاد إلى هراة وحاصر مدينة كروخ حتى أخذها ثم سار إلى بوشنج وقبض على الحسين بن طاهر بن الحسين الكبير وأنفذ إليه محمد بن طاهر بن عبد الله فسأله اطلاقه وهو عم أبيه الحسين بن طاهر فلم يفعل وبقي في يده.
247

ذكر ملك الحسن بن زيد العلوي جرجان
وفي هذه السنة قصد الحسن بن زيد العلوي صاحب طبرستان جرجان واستولى عليها وكان محمد بن طاهر أمير خراسان ولما بلغه ذلك من عزم الحسن على قصد جرجان قد جهز العساكر فأنفق عليها أموالا كثيرة وسيرها إلى جرجان لحفظها فلما قصدها الحسن لم يقوموا له وظفر بهم وملك البلد وقتل كثيرا من العساكر وغنم هو وأصحابه ما عندهم.
وضعف حينئذ محمد بن طاهر وانتقض عليه كثير من الأعمال التي كان يجبي خراجها إليه فلم يبق في يده إلا بعض خراسان وأكثر ذلك مفتون منتقض بالمتغلبين في نواحيها والشراة الذي يعيثون في عمله فلا يمكنه دفعهم فكان ذلك سبب تغلب يعقوب الصفار على خراسان كما نذكره سنة تسع وستين ومائتين إن شاء الله تعالى.
ذكر عدة حوادث
وفيها أخذ محمد المولد سعيد بن أحمد بن سعيد الباهلي وكان قد تغلب على البطائح وأفسد الطريق وحمل إلى سامرا فضرب ستمائة سوط فمات وصلب ميتا.
وحج بالناس الفضل بن إسحاق بن الحسن بن إسماعيل بن العباس بن محمد بن علي وفيها وثب بسيل المعروف بالصقلبي، وإنما قيل له الصقلبي، وهو من
248

بيت المملكة، لأنه أمه صقلبية، على ميخائيل بن توفيل ملك الروم فقتله وكان ملك ميخائيل أربعا وعشرين سنة وملك بسيل الروم.
وفيها أقطع المعتمد مصر وأعمالها لياركوج التركي فأقر عليها أحمد بن طولون.
وفيها فارق عبد العزيز بن أبي دلف الري من غير خوف وأخلاها فأرسل إليها الحسن بن زيد العلوي صاحب طبرستان القاسم بن علي بن القاسم بن علي العلوي المعروف بدليس فغلب عليها فأساء السيرة في أهلها جدا وقلعوا أبواب المدينة وكانت من حديد وسيرها إلى الحسن بن زيد وبقي كذلك نحو ثلاث سنين.
وفيها خرج علي بن مساور الخارجي وخارجي آخر اسمه طوق من بني زهير فاجتمع إليه أربعة آلاف فسار إلى اذرمة فحاربه أهلها فظفر بهم فدخلها بالسيف وأخذ جارية بكرا فجعلها فيئا وافتضها في المسجد فجمع عليه الحسن بن أيوب بن أحمد العدوي جمعا كثيرا فحاربه فقتله وقطع رأسه وأنفذه إلى سامرا.
وفيها قتل محمد بن خفاجة أمير صقلية قتله خدمه نهارا وكتموا قتله فلم يعرف إلا من الغد وكان الخدم الذين قتلوه قد هربوا فطلبوا فأخذوا وقتل بعضهم ولما قتل استعمل محمد بن أحمد بن الأغلب على صقلية أحمد بن يعقوب بن المضاء بن سلمة فلم تطل أيامه ومات سنة ثمان وخمسين ومائتين.
249

وفيها توفي الحسن بن عمر العبدي وكان مولده سنة خمسين ومائة بسر من رأى.
وفيها توفي أبو الفضل العباس بن الفرج الرياشي اللغوي من كبارهم وروى عن الأصمعي وغيره.
وفيها توفي محمد بن الخطاب الموصلي وكان من أهل العلم والزهد.
250

258
ثم دخلت سنة ثمان وخمسين ومائتين
ذكر قتل منصور بن جعفر الخياط
في هذه السنة قتل منصور بن جعفر بن زياد الخياط، وكان سبب قتله أن العلوي البصري لما فرغ من أمر البصرة أمر علي بن أبان بالمسير إلى جبى لحرب منصور بن جعفر وهو يلي يومئذ الأهواز وأقام بإزائه شهرا وكان منصور في قلة من الرجال فأتى عسكر علي وهو بالخيزرانية.
ثم ان الخبيث صاحب الزنج وجه إلى علي باثنتي عشرة شذاة مشحونة بجلة أصحابه وولى أمرهم أبا الليث الأصبهاني وأمره بطاعة علي فلما صار إليه الخليفة واستبد عليه وجاء منصور كما كان يجئ للحرب فتقدم إليه أبو الليث عن غير إذن علي فظفر به منصور وبالشذاوت التي معه وقتل فيها من البيض والزنج خلقا كثيرا وأفلت أبو الليث ورجع إلى الخبيث.
251

ثم إن عليا وجه طلائع يأتونه بخبر منصور وأسرى إلى وال كان لمنصور على كرنبي فقتله وقتل أكثر أصحابه وغنم ما كان معهم ورجع.
وبلغ الخبر منصورا فأسرى إلى الخيزرانية وخرج إليه علي فتحاربوا إلى الظهر ثم انهزم منصور وتفرق عنه أصحابه وانقطع عنهم وأدركته طائفة من الزنج فحمل عليهم وقاتلهم حتى تكسر رمحه وفني نشابه ثم حمل حصانه ليعبر النهر فوقع في النهر ولم يعبره.
وكان سبب وقوعه أن بعض الزنج رآه حين أراد أن يعبر النهر فألقى نفسه في النهر قبل منصور وتلقى الفرس حين وثب فنكص فلما سقط في النهر قتله الأسود وأخذ سلبه وقتل معه أخوه خلف بن جعفر وغيره فولى ياركوج ما كان إلى منصور بن جعفر من العمل.
ذكر مسير أبي أحمد إلى الزنج وقتل مفلح
وفيها في ربيع الأول عقد المعتمد لأخيه أبي أحمد على ديار مصر وقنسرين والعواصم وخلع عليه وعلى مفلح في ربيع الآخر وسيرهما إلى حرب الزنج بالبصرة وركب المعتمد معه يشيعه وسار نحو البصرة ونازل العلوي وقاتله.
وكان سبب تسييره ما فعله بالبصرة وأكثر الناس ذلك وتجهزوا إليه وساروا في عدة حسنة كاملة وصحبه من سوقة بغداد خلق كثير.
252

وكان علي بن أبان بجبى على ما ذكرنا وسار يحيى بن محمد البحراني إلى نهر العباس ومعه أكثر الزنوج فبقي صاحبهم في قلة من الناس وأصحابه يغادون البصرة ويراوحونها لنقل ما نالوه منها فلما نزل عسكر أبي أحمد بنهر معقل احتفل من فيه من الزنوج إلى صاحبهم مرعوبين وأخبروه بعظم الجيش وأنهم لم يرد عليهم مثله وأحضر رئيسين من أصحابه فسألهما عن قائد الجيش فلم يعرفاه فجزع وارتاع.
ثم أرسل إلى علي بن أبان يأمره بالمسير إليه فيمن معه فلما كان يوم الأربعاء لاثنتي عشرة بقيت من جمادى الأولى أتاه بعض قواده فأخبره بمجيء العسكر وتقدمهم وأهم ليس في وجوههم من يردهم من الزنوج وكذبه وسبه وأمر فنودي في الزنوج بالخروج إلى الحرب فخرجوا فرأوا مفلحا قد أتاهم في عسكر لحربهم فقاتلهم فبينما مفلح يقاتلهم إذ أتاه سهم غرب لا يعرف من رمى به فأصابه فرجع وانهزم أصحابه وقتلوا فيهم قتلا ذريعا وحملوا الرؤوس إلى العلوي واقتسم الزنج لحوم القتلى.
وأتي بالأسرى فسألهم عن قائد الجيش فأخبروه أنه أبو أحمد ومات مفلح من ذلك السهم فلم يلبث العلوي إلا يسيرا حتى وافاه علي بن أبان ثم إن أبا أحمد رحل نحو الأبلة ليجمع ما فرقته الهزيمة ثم سار إلى نهر أبي الأسد ولما علم الخبيث كيف قتل مفلح ولم ير أحدا يدعي قتله زعم أنه هو الذي قتله وكذب فإنه لم يحضره.
253

ذكر قتل يحيى بن محمد البحراني
وفيها أسر يحيى بن محمد البحراني قائد صاحب الزنج، وكان سبب ذلك أنه لما سار نحو نهر العباس لقيه معسكر أصعجور عامل الأهواز بعد منصور وقاتلهم وكان أكثر منهم عددا فنال ذلك العسكر من الزنج بالنشاب وجرحوهم فعبر يحيى النهر إليهم فانحازوا عنه وغنم سفنا كانت مع العسكر فيها الميرة وساروا بها إلى عسكر صاحب الزنج على غير الوجه الذي فيه علي بن أبان لتحاسد كان بينه وبين يحيى.
ووجه يحيى طلائعه إلى دجلة فلقيهم جيش أبي أحمد الموفق سائرين إلى نهر أبي الأسد فرجعوا إلى علي فأخبروه بمجيء الجيش فرجع من الطريق الذي كان سلكه وسلك نهر العباس وعلى فم النهر شذاوة لحمية من عسكر الخليفة فلما رآهم يحيى راعه ذلك وخاف أصحابه فنزلوا السفن وعبروا النهر ولقي يحيى ومن معه بضعة عشر رجلا فقاتلهم هو وذلك النفر اليسير فرموهم بالسهام فجرح ثلاث جراحات فلما جرح تفرق أصحابه عنه ولم يعرف حتى يؤخذ فرجع حتى دخل بعض السفن وهو مثخن بالجراح.
وأخذ أصحاب السلطان الغنائم وأخذوا السفن وعبروا إلى سفن كانت للزنج فأحرقوها وتفرق الزنج عن يحيى بقية نهارهم فلما رأى تفرقهم
254

ركب سميرية وأخذ معه طبيبا لأجل الجراح وسار فيها فرأى الملاحون سميريات السلطان فخافوا فألقوا يحيى ومن معه على الأرض فمشى وهو مثقل وقام الطبيب الذي معه أصحاب السلطان فأخبرهم خبره فأخذوه وحملوه إلى أبي أحمد فحمله أبو أحمد إلى سامرا فقطعت يداه ورجلاه ثم قتل فجزع الخبيث والزنوج عليه جزعا كثيرا وقال لهم لما قتل يحيى اشتد جزعي عليه فخوطبت ان قتله كان خيرا لك انه كان شرها.
ذكر عود أبي أحمد إلى واسط
وفيها انحاز أبو أحمد من موضعه إلى واسط وكان سبب ذلك أنه لما سار إلى نهر أبي الأسد كثرت الأمراض في أصحابه وكثر فيهم الموت فرجع إلى باذاورد فأقام به وأمر بتجديد الآلات وإعطاء الجند أرزاقهم واصلاح السميريات والشذوات وشحنها بالقواد وعاد إلى عسكر صاحب الزنج وأمر جماعة من قواده بقصد مواضع سماها من نهر أبي الخصيب وغيره وبقي معه جماعة فمال أكثر الخلق حين التقى الناس ونشبت الحرب إلى نهر أبي الخصيب وبقي أبو أحمد في قلة من أصحابه فلم يزل عن موضعه خوفا أن يطمع الزنج.
ولما رأى الزنج قلة من معه طمعوا فيه وكثروا عليه واشتدت الحرب عنده وكثر القتل والجراح وأحرق أصحاب أبي أحمد منازل الزنوج واستنقذوا من النساء جمعا كثيرا ثم ألقى الزنج جدهم نحوه فلما رأى أبو
255

أحمد ذلك علم أن الحزم في المحاجزة فأمر أصحابه بالرجوع إلى سفنهم على مهل وتؤدة.
واقتطع الزنج طائفة من أصحابه فقاتلوهم فقتلوا من الزنج خلقا كثيرا ثم قتلوا جميعهم وحملت رؤوسهم إلى قائد الزنج وهي مائة رأس وعشرة أرؤس فزاد ذلك في عتوه.
ونزل أبو حامد في عسكره بباذاورد فأقام يعبي أصحابه للرجوع على الزنج فوقعت نار في أطراف عسكره في يوم ريح عاصف فاحترق كثير منه فرحل منها إلى واسط فلما نزل واسط تفرق عنه عامة أصحابه فسار منها إلى سامرا واستخلف على واسط لحرب العلوي محمد بن المولد.
ذكر عدة حوادث
وفيها وقع الوباء في كور دجلة فهلك منها خلق كثير ببغداد وواسط وسامرا وغيرها.
وفيها قتل سرسجارس ببلاد الروم مع جماعة كثيرة من أصحابه.
وفيها كانت هدة عظيمة هائلة بالصيمرة ثم سمع من غد ذلك اليوم هدة أعظم من الأولى فانهدم أكثر المدينة وتساقطت الحيطان وهلك من
256

أهلها زهاء عشرين ألفا.
وفيها مات ياركوج التركي في رمضان وصلى عليه أبو عيسى بن المتوكل وكان صاحب مصر ومقطعها ويدعى له فيها قبل أحمد بن طولون فلما توفي استقل أحمد بمصر.
وفيها كانت وقعة بين أصحاب موسى بن بغا وأصحاب الحسن بن زيد العلوي فانهزم أصحاب الحسن وفيها أسر مسرور البلخي جماعة من أصحاب مساور الشاري وسار مسرور إلى البوازيج فلقي مسرورا هناك فكان فيهخا بينهما وقعة أسر فيها من أصحاب مسرور جماعة ثم انصرف في ذي الحجة إلى سامرا واستخلف على عسكره بحديثة الموصل جعلان وفيها رجع أكثر الناس من القرعاء خوف العطش وسلم من سار إلى مكة وحج بالناس الفضل بن إسحاق بن الحسن.
وفيها أوقع بأعراب بتكريت كانوا أعانوا مساورا الشاري.
وفيها أوقع مسرور البلخي بالأكراد اليعقوبية فهزمهم وأصاب فيها.
وفيها صار محمد بن واصل في طاعة السلطان وسلم فارس إلى محمد بن الحسن بن أبي الفياض.
وفيها أسر جماعة من الزنج كان فيهم قاض كان يقضي لهم بعبادان فحملوا إلى سامرا فضربت أعناقهم.
257

وفيها توفي محمد بن يحيى بن عبد الله بن خالد الذهلي النيسابوري وله مع البخاري حادثة ظلمه بها حسدا له ليس هذا مكان ذكرها وفيها توفي يحيى بن معاذ الرازي الواعظ في جمادى الأولى وكان عابدا صالحا صحب أبا يزيد وغيره.
258

259
ثم دخلت سنة تسع وخمسين ومائتين
ذكر دخول الزنج الأهواز
وفيها في رجب دخلت الزنج الأهواز.
وكان سببه أن العلوي أنفذ علي بن أبان المهلبي وضم إليه الجيش الذي كان مع يحيى بن محمد البحراني وسليمان بن موسى الشعراني وسيره إلى الأهواز.
وكان المتولي لها بعد منصور بن جعفر رجلا يقال له اصعجور فبلغه خبر الزنج فخرج إليهم والتقى العسكران بدشت ميسان فانهزم اصعجور وقتل معه ثيرك وجرح خلق كثير من أصحابه وغرق اصعجور وأسر خلق كثير فيهم الحسن بن هرثمة والحسن بن جعفر وحملت الرؤوس والأعلام والأسرى إلى الخبيث فأمر بحبس الأسرى ودخل الزنج الأهواز فأقاموا يفسدون فيها ويعيثون إلى أن قدم موسى بن بغا.
ذكر مسير موسى بن بغا لحرب الزنج
وفيها في ذي القعدة أمر المعتمد موسى بن بغا بالمسير إلى حرب صاحب الزنج فسير إلى الأهواز عبد الرحمن بن مفلح والي البصرة إسحاق بن
259

كنداجيق، وإلى باذاورد إبراهيم بن سيما وأمرهم بمحاربة صاحب الزنج.
فلما ولي عبد الرحمن الأهواز سار إلى محاربة علي بن أبان فتواقعا فانهزم عبد الرحمن ثم استعد وعاد إلى علي فأوقع به وقعة عظيمة قتل فيها من الزنج قتلا ذريعا وأسر خلقا كثيرا وانهزم علي بن أبان والزنج ثم أراد ردهم فلم يرجعوا من الخوف الذي دخلهم من عبد الرحمن فلما رأى ذلك أذن لهم بالانصراف فانصرفوا إلى مدينة صاحبهم.
ووافى عبد الرحمن حصن مهدي ليعسكر به فوجه إليه صاحب الزنج علي بن أبان فواقعه فلم يقدر عليه ومضى يريد الموضع المعروف بالدكة، وكان إبراهيم بن سيما بباذاورد فواقعه علي بن أبان فهزمه علي بن أبان ثم واقع ثانية فهزمه إبراهيم فمضى علي في الليل ومعه الأدلاء في الآجام حتى انتهى إلى نهر يحيى.
وانتهى خبره إلى عبد الرحمن فوجه إليه طاشتمر في جمع من الموالي فلم يصل إليه لامتناعه بالقصب والحلافي فأضرمه عليهم نارا فخرجوا منها هاربين فأسر منهم أسرى وانصرف أصحاب عبد الرحمن بالأسرى والظفر.
ثم سار عبد الرحمن نحو علي بن أبان بمكان نزل فيه فكتب علي إلى صاحب الزنج يستمده فأمده بثلاثة عشر شذاة ووافاه عبد الرحمن فتوافقا يومهما فلما كان الليل انتخب علي من أصحابه جماعة ممن يثق بهم وسار وترك عسكره ليخفي أمره وأتى عبد الرحمن من ورائه
260

فبيته فنال منه شيئا يسيرا وانحاز عبد الرحمن فأخذ علي منهم أربع شذارات وأتى عبد الرحمن دولاب فأقام به.
وسار طاشتمر إلى علي فوافاه وقاتله فانهزم علي إلى نهر السدرة وكتب يستمد عبد الرحمن فأخبره بانهزام علي عنه فأتاه عبد الرحمن وواقع عليا بنهر السدرة وقعة عظيمة فانهزم علي إلى الخبيث وعسكر عبد الرحمن ببيان فكان هو وإبراهيم بن سيما يتناوبان المسير إلى عسكر الخبيث فيوقعان به وإسحاق بن كنداجيق بالبصرة وقد قطع الميرة عن الزنج فكان صاحبهم يجمع أصحابه يوم محاربة عبد الرحمن وإبراهيم فإذا انتقضى الحرب سير طائفة منهم إلى البصرة يقاتل بهم إسحاق فأقاموا كذلك بضعة عشر شهرا إلى أن صرف موسى بن بغا عن حرب الزنج ووليها مسرور البلخي فانتهى الخبر بذلك إلى الخبيث.
ذكر ملك يعقوب نيسابور
وفيها في شوال دخل يعقوب بن الليث نيسابور، وكان سبب مسيره إليها أن عبد الله السجزي كان ينازع يعقوب بسجستان فلما قوي عليه يعقوب هرب منه إلى محمد بن طاهر فأرسل يعقوب يطلب من ابن طاهر أن يسلمه إليه فلم يفعل فسار نحوه إلى نيسابور فلما قرب منها، وأراد دخولها،
261

وجه محمد بن طاهر يستأذنه في تلقيه فلم يأذن له فبعث بعمومته وأهل بيته فتلقوه.
ثم دخل نيسابور في شوال فركب محمد بن طاهر فدخل إليه في مضربه فسأله ثم وبخه على تفريطه في عمله وقبض على محمد بن طاهر وأهل بيته واستعمل على نيسابور وأرسل إلى الخليفة يذكر تفريط محمد بن طاهر في عمله وأن أهل خراسان سألوه المسير إليهم ويذكر غلبة العلويين على طبرستان وبالغ في هذا المعنى فأنكر عليه ذلك وأمر بالاقتصار على ما أسند إليه وأن لا يسلك معه مسلك المخالفين.
وقيل كان سبب ملك يعقوب نيسابور ما ذكرناه سنة سبع وخمسين [ومائتين] من ضعف محمد بن طاهر أمير خراسان فلما تحقق يعقوب ذلك وأنه لا يقدر على الدفع سار إلى نيسابور وكتب إلى محمد بن طاهر يعلمه أنه قد عزم على قصد طبرستان ليمضي ما أمره الخليفة في الحسن بن زيد المتغلب عليها وأنه لا يعرض لشيء من عمله ولا إلى أحد من أسبابه.
وكان بعض خاصة محمد بن طاهر وبعض أهله لما رأوا ادبار أمره وقد مالوا إلى يعقوب فكاتبوه واستدعوه وهونوا على محمد أمر يعقوب من نيسابور فأعلموه أنه لا خوف عليه منه وثبطوه عن التحرز منه فركن محمد إلى قولهم حتى قرب يعقوب من نيسابور فوجه إليه قائدا من قواده يطيب قلبه وأمره بمنعه عن الانتزاح عن نيسابور إن أراد ذلك.
ثم وصل يعقوب إلى نيسابور رابع شوال وأرسل أخاه عمرو بن الليث
262

إلى محمد بن طاهر فأحضره عنده فقبض عليه وقيده وعنفه على إهماله وعجزه عن حفظه ثم قبض على جميع أهل بيته وكانوا نحوا من مائة وستين رجلا وحملهم إلى سجستان واستولى على خراسان ورتب في الأعمال نوابه.
وكانت ولاية محمد بن طاهر إحدى عشرة سنة وشهرين وعشرة أيام.
ذكر ظهور ابن الصوفي بمصر ثانيا
وفيها عاد ابن الصوفي العلوي وظهر بمصر وقد ذكرنا سنة ست وخمسين [ومائتين] ظهوره وهربه إلى الواحات فأحم نفسه ودعا الناس إلى نفسه فتبعه خلق كثير وسار بهم إلى الأشمونين فوجه إليه جيش عليهم قائد يعرف بابن أبي الغيث فوجده قد أصعد إلى لقاء أبي عبد الرحمن العمي وسنذكره بعد هذا.
فلما وصل العلوي إلى العمري التقيا فكان بينهما قتال شديد أجلت الوقعة من انهزام العلوي فولى منهزما إلى أسوان فعاث فيها وقطع كثيرا من نخلها.
فسير إليه ابن طولون جيشا وأمرهم بطلبه أين كان فسار الجيش في
263

طلبه، فولى هاربا إلى عيذاب وعبر البحر إلى مكة وتفرق أصحابه فلما وصل إلى مكة بلغ خبره إلى واليها فقبض عليه وحبسه ثم سيره إلى ابن طولون فلما وصل إلى
مصر أمر به فطيف به في البلد ثم سجنه مدة وأطلقه ثم رجع إلى المدينة فأقام بها إلى أن مات.
ذكر حال أبي عبد الرحمن العمري
قد تقدم ذكر أبي عبد الرحمن العمري واسمه عبد الحميد بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب.
وكان سبب ظهوره بمصر أن البجاة أقبلت يوم العبد فنهبوا وقتلوا وعادوا غانمين وفعلوا ذلك مرات فخرج هذا العمري غضبا لله وللمسلمين وكمن لهم في طريقهم فلما عادوا خرج عليهم وقتل مقدمهم ومن معه ودخل بلادهم فنهبها وقتل فيهم فأكثر ونهبوا ما لا يحصى وتابع عليهم الغارات حتى أدوا إليه الجزية ولم يفعلوها قبل ذلك.
واشتدت شوكة العمري وكثر أتباعه فلما بلغ خبره ابن طولون سير إليه جيشا كثيفا فلما التقوا تقدم العمري وقال لمقدم الجيش ان ابن طولون لا يعرف خبري لا شك على حقيقته فإني لم أخرج للفساد ولم يتأذ بي مسلم ولا ذمي وإنما خرجت طلبا للجهاد فاكتب إلى الأمير أحمد عرفه كيف حالي فإن أمرك بالانصراف فانصرف وإلا فإن أمرك بغير ذلك كنت معذورا فلم يجبه إلى ذلك وقاتله فانهزم جيش ابن طولون فلما وصلوا إليه أخبروه بحال العمري فقال كنتم أنهيتم حاله إلي فإنه نصر
264

عليكم ببغيكم. وتركه.
فلما كان مدة وثب على العمري غلامان له فقتلاه وحملا رأسه إلى أحمد بن طولون فلما حضرا عنده سألهما عن سبب قتله فقالا أردنا التقرب إليك بذلك فقتلهما وأمر برأس العمري فغسل وكفن ودفن.
ذكر ما كان هذه السنة بالأندلس
في هذه السنة سار محمد بن عبد الرحمن الأموي صاحب الأندلس إلى طليطلة فنازلها وحصرها وكان أهلها قد خالفوا عليه وطلبوا الأمان فأمنهم وأخذ رهائنهم.
وفيها خرج أهل طليطلة إلى حصن سكيان وكان فيه سبعمائة رجل من البربر وكان أهل طليطلة في عشرة آلاف فلما التحمت بينهم الحرب انهزم أحد مقدمي أهلها وهو عبد الرحمن بن حبيب فتبعه أهل طليطلة في الهزيمة وإنما انهزم لعداوة كانت بينه وبين مقدم آخر اسمه طريشة من أهل طليطلة فأراد أن يوهنه بذلك فلما انهزموا قتلوا البرقيل (؟).
وفيها عاد عمرو بن عمروس إلى طاعة محمد بن عبد الرحمن وكان مخالفا عليه عدة سنين فولاه مدينة أمشقة وحصر محمد حصون بني موسى ثم تقدم إلى بنبلونة فوطئ أرضها وعاد.
265

ذكر عدة حوادث
وفيها سارت سرية للمسلمين إلى مدينة سرقوسة فصالحه أهلها على أن يطلقوا الأسرى الذين كانوا عندهم من المسلمين ثلاثمائة وستين أسيرا فلما أطلقوهم عاد عنهم.
وفيها قتل كيجور وكان سبب قتله أنه كان على الكوفة فسار عنها إلى سامرا بغير إذن فأمر بالرجوع فأبى فحمل إليه مال ليفرقه في أصحابه فلم يقنع به وسار حتى عكبرا فوجه إليه من سامرا عدة من القواد فقتلوه وحملوا رأسه إلى سامرا.
وفيها غلب شركب الحمار على مرو وناحيتها ونهبها.
وفيها انصرف يعقوب بن الليث عن بلخ فأقام بقهستان وولى عماله هراة وبوشنج وباذغيس وانصرف إلى سجستان وفيها فارق عبد الله السجزي يعقوب وحاصر نيسابور وبها محمد بن طاهر قبل أن يملكها يعقوب بن الليث فوجه محمد بن طاهر إليه الرسل والفقهاء فاختلفوا بينهما ثم ولاه الطبسين وقهستان وفيها غلب الحسن بن زيد على قومس ودخلها أصحابه.
266

وفيها كانت وقعة بين محمد بن الفضل بن بيان ووهسوذان بن جستان الديلمي وانهزم وهسوذان.
وفيها نزلت الروم على سميساط ثم نزلوا على ملطية وقاتلهم أهلها فانهزمت الروم وقتل بطريق البطارقة.
وحج بالناس إبراهيم بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن سليمان بن علي بن عبد لله بن عباس المعروف ببرية.
وفيها مات محمد بن يحيى بن موسى أبو عبد الله بن أبي زكريا الأسفرايني المعروف بابن حيويه ومحمد بن عمروس بن يونس بن عمران بن دينار الكوفي الثعلبي وكان شيعيا ضعيف الحديث.
وفيها توفي أبو الحسن بن علي بن حرب الطائي الموصلي وكان محدثا وممن روى عنه أبوه علي بن حرب.
267

260
ثم دخلت سنة ستين ومائتين
ذكر دخول يعقوب طبرستان
وفيها واقع يعقوب بن الليث الحسن بن زيد العلوي فهزمه ودخل طبرستان.
وكان سبب ذلك أن عبد الله السجزي [كان] ينازع يعقوب الرياسة بسجستان فقهره يعقوب فهرب منه عبد الله إلى نيسابور فلما سار يعقوب إلى نيسابور كما ذكرنا هرب عبد الله إلى الحسن بن زيد بطبرستان فسار يعقوب في أثره فلقيه الحسن بن زيد بقرية سارية.
وكان يعقوب قد أرسل إلى الحسن يسأله أن يبعث إليه عبد الله ويرجع عنه فإنه إنما جاء لذلك لا لحربه فلم يسلمه الحسن فحاربه يعقوب فانهزم الحسن ومضى نحو الشرز
وأرض الديلم ودخل يعقوب سارية وآمل وجبى أهلها خراج سنة ثم سار في طلب الحسن فسار إلى بعض جبال طبرستان وتتابعت عليه الأمطار نحوا من أربعين يوما فلم يتخلص إلا بمشقة شديدة وهلك عامة ما معه من الظهر.
ثم أراد الدخول خلف الحسن فوقف على الطريق الذي يريد [أن] يسلكه، وأمر أصحابه بالوقوف ثم تقدم وحده وتأمل الطريق ثم رجع
268

إليهم فأمرهم بالانصراف فقال لهم إن لم يكن طريق غير هذا وإلا لا طريق إليه.
وكان نساء أهل تلك الناحية قلن للرجال دعوه يدخل فإنه إن دخل كفيناكم أمره وعلينا أسره لكم فلما خرج من طبرستان عرض رجاله ففقد منهم أربعون ألفا وذهب أكثر ما كان معه من الخيل والإبل والبغال والأثقال وكتب إلى الخليفة بما فعله مع الحسن من الهزيمة وسار إلى الري في طلب عبد الله لأنه كان سار إليها بعد هزيمة الحسن فلما قاربها يعقوب كتب إلى الصلاني واليها يخيره بين تسليم عبد الله إليه وينصرف عنه وبين المحاربة فسلم إليه عبد الله فرحل عنه وقتل عبد الله.
ذكر الفتنة بالموصل وإخراج عاملهم
كان الخليفة المعتمد على الله قد استعمل على الموصل اساتكين وهو من أكابر قواد الأتراك فسير إليها ابنه اذكوتكين في جمادى الأولى سنة تسع وخمسين ومائتين فلما كان يوم النيروز من هذه السنة وهو الثالث عشر من نيسان فغيره المعتضد بالله ودعا إلى اذكوتكين ووجوه أهل الموصل إلى قبة في الميدان وأحضر أنواع الملاهي وأكثر الخمر وشرب ظاهرا وتجاهر أصحابه بالفسوق وفعل المنكرات وأساء السيرة في الناس.
وكان تلك السنة برد شديد أهلك الأشجار والثمار، والحنطة والشعير،
269

وطالب الناس بالخراج على الغلات التي هلكت فاشتد ذلك عليهم وكان لا يسمع بقرس جيد عند أحد إلا أخذه وأهل الموصل صابرون إلى أن وثب رجل من أصحابه على امرأة فأخذها في الطريق فامتنعت واستغاثت فقام رجل اسمه إدريس الحميري وهو من أهل القرآن والصلاح فخلصها من يده فعاد الجندي إلى أذكوتكين فشكى من الرجل فأحضره وضربه ضربا شديدا من غير أن يكشف الأمر فاجتمع وجوه أهل الموصل إلى الجامع وقالوا قد صبرنا على أخذ الأموال وشتم الأعراض وابطال السنن والعسف وقد أفضى الأمر إلى أخذ الحريم فأجمع رأيهم على إخراجه والشكوى منه إلى الخليفة.
وبلغه الخبر فركب إليهم في جنده وأخذ معه النفاطين فخرجوا إليه وقاتلوه قتالا شديدا حتى أخرجوه عن الموصل ونهبوا داره وأصابه حجر فأثخنه ومضى من يومه إلى بلده وسار منها إلى سامرا.
واجتمع الناس إلى يحيى بن سليمان وقلدوه أمرهم ففعل فبقي كذلك إلى أن انقضت سنة ستين؛ فلما دخلت سنة إحدى وستين كتب اساتكين إلى الهيثم بن عبد الله بن المعمر التغلبي ثم العدوي في أن يتقلد الموصل وأرسل إليه الخلع واللواء وكان بديار ربيعة فجمع جموعا كثيرة وسار إلى الموصل ونزل بالجانب الشرقي وبينه وبين البلد دجلة فقاتلوه فعبر إلى الجانب الغربي وزحف إلى باب البلد فخرج إليه يحيى بن سليمان في أهل الموصل فقاتلوه فقتل بينهم قتلى كثيرة وكثرت الجراحات وعاد الهيثم عنهم.
فاستعمل اساتكين على الموصل إسحاق بن أيوب التغلبي فخرج في جمع
270

يبلغون عشرين ألفا منهم حمدان بن حمدون التغلبي وغيره فنزل عند الدير الأعلى فقاتله أهل الموصل ومنعوه فبقوا كذلك مدة فمرض يحيى بن سليمان الأمير فطمع إسحاق في البلد وجد في الحرب فانكشف الناس بين يديه فدخل إسحاق ووصل إلى سوق الأربعاء وأحرق سوق الحشيش فخرج بعض العدول اسمه زياد بن عبد الواحد وعلق في عنقه مصحفا واستغاث بالمسلمين فأجابوه وعادوا إلى الحرب وحملوا على إسحاق وأصحابه وأخرجوهم من المدينة.
وبلغ يحيى بن سليمان الخبر فأمر فحمل في محفة وجعل أمام الصف فلما رآه أهل الموصل قويت نفوسهم واشتد قتالهم ولم يزل الأمر كذلك وإسحاق يراسل أهل الموصل ويعدهم الأمان وحسن السيرة فأجابوه إلى أن يدخل البلد ويقيم بالربض الأعلى فدخل وأقام سبعة أيام.
ثم وقع بين بعض أصحابه وبين قوم من أهل الموصل شر فرجعوا إلى الحرب وأخرجوه عنها واستقر يحيى بن سليمان الموصل.
ذكر الحرب بين أهل طليطلة وهوارة
وفي هذه السنة ظهر موسى بن ذي النون الهواري بشنت برية، وأغار على أهل طليطلة ودخل حصن وليد من شنت برية فخرج أهل طليطلة إليه في نحو عشرين ألفا فلما التقوا بموسى واقتتلوا انهزم محمد بن طريشة في أصحابه وهو من أهل طليطلة فتبعه أهل طليطلة في الهزيمة وأنهزم
271

معهم مطرف بن عبد الرحمن فعمل ذلك محمد مكافأة لمطرف حين انهزم بالناس في العام الماضي فقتل من أهل طليطلة خلق كثير وقوي موسى بن ذي النون وهابه من حاذره.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة قتل رجل من أصحاب مساور الشاري محمد بن هارون بن المعمر رآه وهو يريد سامرا فقتله وحمل رأسه إلى مساور فطلبت ربيعة بثاره فندب مسرور البخلي وغيره إلى أخذ الطرق على مساور.
وفيها اشتد الغلاء في عامة بلاد الاسلام فانجلى من أهل مكة كثير ورحل عنها عاملها وهو برة وبلغ الكر [من] الحنطة ببغداد عشرين ومائة دينار ودام ذلك شهورا.
وفيها قتلت الأعراب منجورا والي حمص واستعمل عليها بكتمر.
وفيها قتل العلاء بن أحمد الأزدي عامل أذربيجان وكان سبب قتله أنه فلج فاستعمل الخليفة مكانه أبا الرديني عمر بن علي فلما قاربها خرج إليه العلاء فتحاربا فقتل العلاء
وانهزم أصحابه وأخذ أبو الرديني ما خلفه العلاء وكان مبلغه ألفي ألف وسبعمائة ألف درهم.
وحج بالناس إبراهيم بن محمد بن إسماعيل المعروف ببرية وهو أمير مكة.
272

وفيها ظهر بمصر إنسان يكنى أبا روح واسمه سكن وكان من أصحاب ابن الصوفي واجتمع له جماعة فقطع الطريق وأخاف السبيل فوجه إليه ابن طولون جيشا فوقف أبو روح في أرض كثيرة الشقوق وقد كان بها قمح فحصد وبقي من تبنه على الأرض ما يستر الشقوق وقد ألقوا المشي على مثل هذه الأرض فلما جاءهم الجيش لقوهم ثم انهزم أصحاب أبي روح فتبعهم عسكر ابن طولون فوقعت حوافر خيولهم في تلك الشقوق فسقط كثير من فرسانها عنها وتراجع أصحاب أبي روح عليهم فقتلوهم شر قتلة وانهزم الباقون أسوأ هزيمة.
فسير أحمد جيشا إلى طريقهم إلى الواحات وجيشا في طلبه فلقيه الجيش الذي في طلبه وقد تحصن في مثل تلك الأرض فحذرها عسكر أحمد فحين بطلت حيلهم انهزموا وتبعهم العسكر فلما خرجوا إلى طريق الواحات رأى أبو روح الطريق قد ملكت عليه فراسل يطلب الأمان فبذل له وبطلت الحرب وكفي المسلمون شره.
وفيها توفي علي بن محمد بن جعفر العلوي الحماني وكان يسكن الحمان فنسب إليها.
وفيها قتل علي بن يزيد صاحب الكوفة قتله صاحب الزنج.
وفيها كان بإفريقية وبلاد المغرب والأندلس غلاء شديد وعم غيرها من البلاد وتبعه وباء وطاعون عظيم هلك فيه كثير من الناس.
وفيها توفي محمد بن إبراهيم بن عبدوس الفقيه المالكي صاحب المجموعة
273

في الفقه، وهو من أهل إفريقية.
وفيها مات مالك بن طوق التغلبي بالرحبة وهو بناها وإليه تنسب.
وفيها توفي الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام.
وهو أبو محمد العلوي العسكري وهو أحد الأئمة الاثني عشر على مذهب الامامية، وهو والد محمد الذي يعتقدونه المنتظر بسرداب سامرا وكان مولده سنة اثنتين وثلاثين ومائتين.
وفيها توفي أبو علي الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني الفقيه الشافعي وهو من أصحاب الشافعي البغداديين.
وفيها توفي حسين بن إسحاق الحكيم الطبيب وهو الذي نقل كتب الحكماء اليونانيين إلى العربية وكان عالما بها.
274

261
ثم دخلت سنة إحدى وستين ومائتين
ذكر الحرب بين محمد بن واصل وابن مفلح
وفيها تحارب ابن واصل وعبد الرحمن بن مفلح وطاشتمر.
وكان سبب ذلك أن ابن واصل كان قتل الحرث بن سيما وتغلب على فارس فأضاف المعتمد فارس إلى موسى بن بغا والأهواز والبصرة والبحرين واليمامة مع ما كان إليه فوجه موصى عبد الرحمن بن مفلح وهو شاب عمره إحدى وعشرون سنة إلى الأهواز وولاه إياها مع فارس وأضاف إليه طاشتمر فلما علم ذلك ابن واصل وأن ابن مفلح قد سار نحوه من الأهواز زحف إليه من فارس فالتقيا برامهرمز وانضم أبو داود الصعلوك إلى ابن واصل فاقتتلوا فانهزم عبد الرحمن وأخذ أسيرا وقتل طاشتمر واصطلم عسكرهما وغنم ما فيه من الأموال والعدة وغير ذلك.
وأرسل الخليفة إلى ابن واصل في إطلاق عبد الرحمن فلم يفعل وقتله وأظهر أنه مات وسار ابن واصل من رامهرمز من بعد هذه الوقعة مظهرا أنه يريد واسط لحرب موسى بن بغا فانتهى إلى الأهواز وفيها إبراهيم بن سيما في جمع كثير فلما رأى موسى شدة الأمر بهذه الناحية وكثرة المتغلبين عليها وأنه يعجز عنهم سأل أن يعفى فأجيب إلى ذلك.
275

ذكر ولاية أبي الساج الأهواز
وفيها ولي أبو الساج الأهواز بعد مسير عبد الرحمن عنها إلى فارس وأمر بمحاربة الزنج فسير صهره عبد الرحمن لمحاربة الزنج فلقيه علي بن أبان بناحية دولاب فقتل عبد الرحمن وانحاز أبو الساج إلى ناحية عسكر مكرم ودخل الزنج الأهواز فقتلوا أهلها وسبوا وأحرقوا.
ثم انصرف أبو الساج عما كان إليه من الأهواز وحرب الزنج وولاها إبراهيم بن سيما فلم يزل بها حتى انصرف عنها مع موسى بن بغا.
وفيها ولي محمد بن أوس البلخي طريق خراسان.
ذكر عود الصفار إلى فارس والحرب بينه وبين ابن واصل
لما كان من الوقعة بين عبد الرحمن بن مفلح وبين ابن واصل ما ذكرناه اتصل خبرهما إلى يعقوب الصفار وهو بسجستان فتجدد طمعه في ملك بلاد فارس وأخذ الأموال والخزائن والسلاح التي غنمها ابن واصل من ابن مفلح فسار مجدا.
وبلغ ابن واصل خبر قربه منه وأنه نزل البيضاء من أرض فارس وهو بالأهواز فعاد عنها لا يلوي على شيء وأرسل خاله أبا بلال مرداسا إلى الصفار فوصل إليه
وضمن له طاعة ابن واصل فأرسل يعقوب الصفار إلى ابن واصل كتبا ورسلا في المعنى فحبسهم ابن واصل وسار يطلب
276

الصفار والرسل معه يريد أن يخفي خبره وأن يصل إلى الصفار بغتة لم يعلم به فينال منه غرضه ويوقع به.
فسار في يوم شديد الحر في أرض صعبة المسلك وهو يظن أن خبره قد خفي عن الصفار فلما كان الظهر تعبت دوابهم فنزلوا ليستريحوا فمات من أصحاب ابن واصل من الرجالة كثير جوعا وعطشا وبلغ خبرهم الصفار فجمع أصحابه وأعلمهم الخبر وسار وقال لأبي بلال إن ابن واصل قد غدر بنا وحسبنا الله ونعم الوكيل ومضى الصفار إلى ابن واصل فلما قاربهم وعلموا به انخذلوا وضعفت نفوسهم عن مقاومته ومقاتلته، ولم يتقدموا خطوة، فلما صار بين الفريقين رمية سهم انهزم أصحاب ابن واصل من غير قتال وتبعهم عسكر الصفار وأخذوا منهم جميع ما غنموه من ابن مفلح واستولى على بلاد فارس ورتب بها أصحابه وأصلح أحوالها.
ومضى ابن واصل منهزما فأخذ أمواله من قلعته وكانت أربعين ألف ألف درهم وأوقع يعقوب بأهل زم لأنهم أعانوا ابن واصل وحدث نفسه بالاستيلاء على الأهواز وغيرها.
ذكر تجهز أبي أحمد للمسير إلى البصرة
وفيها في شوال جلس المعتمد في دار العامة فولى ابنه جعفرا العهد ولقبه المفوض إلى الله وضم إليه موسى بن بغا فولاه أفريقية ومصر،
277

والشام، والجزيرة والموصل وأرمينية وطريق خراسان ومهرجانقذق وولى أخاه أبا أحمد العهد بعد جعفر ولقبه الناصر لدين الله الموفق وولاه المشرق وبغداد والسواد والكوفة وطريق مكة والمدينة واليمن وكسكر وكور دجلة والأهواز وفارس وأصبهان وقم وكرج، ودينور والري وزنجان وعقد لكل وأحد منهما لواءين أسود وأبيض وشرط إن حدث به الموت وجعفر لم يبلغ أن يكون الأمر للموفق ثم لجعفر من بعده وأخذت البيعة بذلك.
فعقد جعفر لموسى على المغرب وأمر الموفق أن يسير إلى حرب الزنج فولى الموفق الأهواز والبصرة وكور دجلة مسرورا البلخي وسيره في مقدمته في ذي الحجة وعزم على المسير بعده فحدث من أمر يعقوب الصفار ما منعه عن المسير وسنذكره أول سنة اثنتين وستين ومائتين.
وفيها فارق محمد بن زيدويه يعقوب بن الليث وسار إلى أبي الساج وأقام معه بالأهواز وخلع عليه المعتمد وسأل أن يوجه الحسين بن طاهر بن عبد الله بن طاهر إلى خراسان.
وحج بالناس فيها الفضل بن إسحاق بن الحسن بن إسماعيل بن العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ومات الحسن بن محمد بن أبي الشوارب بمكة بعد ما حج.
278

ذكر ولاية نصر بن أحمد الساماني ما وراء النهر
في هذه السنة استعمل نصر بن أحمد بن أسد بن سامان خداه بن جثمان بن طمغاث بن نوشرد بن بهرام جوبين بن بهرام خشنش وكان بهرام خشنش من الري فجعله كسرى هرمز بن أنو شروان مرزبان أذربيجان وقد تقدم ذكر بهرام جوبين عند ذكر كسرى هرمز.
ولما ولي المأمون خراسان واصطلح أولاد أسد بن سامان وهم نوح وأحمد ويحيى وإلياس بنو أسد بن سامان فقربهم ورفع منهم واستعملهم ورعى حق سلفهم فلما رجع المأمون إلى العراق استخلف على خراسان غسان بن عباد فولى غسان نوح بن أسد في سنة أربع ومائتين سمرقند وأحمد بن أسد فرغانة ويحيى بن أسد الشاش وأشروسنة وإلياس بن أسد هراة.
فلما ولي طاهر بن الحسين خراسان ولاهم هذه الأعمال ثم توفي نوح بن أسد وأقر طاهر بن عبد الله أخويه على عمله يحيى وأحمد وكان أحمد بن أسد عفيف الطعمة مرضي السيرة لا يأخذ رشوة ولا أحد من أصحابه ففيه قيل أو في ابنه نصر:
(ثوى ثلاثين حولا في ولايته * فجاع يوم ثوى في قبره حشمه)
279

وكان إلياس يلي هراة وله بها عقب وآثار كثيرة فاستقدمه عبد الله بن طاهر وكان رسمه فيمن يستقدمه أن يعد أيامه فأبطأ إلياس فكتب إليه بالمقام حيث يلقاه كتابه فبلغه الكتاب وقد سار عن بوشنج فأقام بها سنة تأديبا له ثم أذن له في القدوم عليه فلما مات إلياس بهراة أقر عبد الله ابنه أبا إسحاق محمد بن إلياس على عمله فأقام بهراة.
وكان لأحمد بن أسد سبعة بنين وهم نصر وأبو يوسف يعقوب وأبو زكريا يحيى وأبو الأشعث أسد وإسماعيل وإسحاق وأبو غانم حميد، ولما توفي أحمد بن أسد استخلف ابنه نصرا على أعماله بسمرقند وما وراءها فبقي عاملا عليها إلى آخر أيام الطاهرية وبعد زوال أمرهم إلى أن مضى لسبيله.
وكان إسماعيل بن أحمد يخدم أخاه نصرا فولاه نصر بخارى سنة إحدى وستين ومائتين. ومعنى قول أبي جعفر وفي سنة إحدى وستين [ومائتين] ولي نصر بن أحمد ما وراء النهر أنه ولاه من جانب الخليفة وإنما كان يتولاه من قبل من عمال خراسان وإلا فالقوم تولوا قبل هذا التاريخ.
وكان سبب استعماله إسماعيل أنه لما استولى يعقوب بن الليث على خراسان أنفذ نصر جيشا إلى شط جيحون ليأمن عبور يعقوب فقتلوا مقدمهم ورجعوا إلى بخارى فخافهم أحمد بن عمر نائب نصر على نفسه فتغيب عنهم فأمروا عليهم أبا هاشم محمد بن المبشر بن رافع بن الليث بن نصر بن سيار،
280

ثم عزلوه وولوا أحمد بن محمد بن ليث والد أبي عبد الله بن جنيد ثم صرفوه وولوا الحسن بن محمد بن ولد عبدة بن حديد ثم صرفوه وبقيت بخارى بغير أمير فكتب رئيسها وفقيهها أبو عبد الله بن أبي حفص إلى نصر يسأله توجيه من يضبط بخارى فوجه أخاه إسماعيل ثم أن إسماعيل كاتب رافع بن هرثمة حين ولي خراسان فتعاقدا على التعاون والتعاضد فطلب منه إسماعيل أعمال خوارزم فولاه إياها.
وكان إسماعيل يؤمره في المكاتبة، ثم سعت السعاة بين نصر وإسماعيل فأفسدوا ما بينهما فقصده نصر سنة اثنتين وسبعين ومائتين فأرسل إسماعيل حمويه بن علي إلى
رافع بن هرثمة يستنجده فسار إليه في جيش كثيف فوافى بخارى قال حمويه ففكرت في نفسي وقلت إن ظفر إسماعيل بأخيه فما يؤمنني أن يقبض رافع على إسماعيل ويتغلب على ما وراء النهر.
وإن لم يفعل ذلك ووفى لإسماعيل فلا يزال إسماعيل معترفا بأنه فقيد رافع وجريحه ويحتاج [أن] يتصرف على أمره ونهيه.
فاجتمعت برافع خلوة وقلت له نصيحتك واجبة علي وقد ظهر لي من نصر وإسماعيل ما كان خفيا عني ولست آمنهما عليك والري أن لا تشاهد الحرب وتحملهما على الصلح فقبل ذلك فتصالحا وانصرف عنهما.
قال حمويه ثم إنني أعلمت إسماعيل بعد ذلك الحال كيف كان،
281

فعذر رافعا في إلزامه بالصلح واستصوب فعل حمويه وبقي نصر وإسماعيل مدة ثم عادت السعاة ففسد ما بينهما حتى تحاربا سنة خمس وسبعين ومائتين فظفر إسماعيل بأخيه نصر فلما حمل إليه ترجل له إسماعيل وقبل يديه ورده من موضعه إلى سمرقند وتصرف على النيابة عنه ببخارى.
وكان إسماعيل خيرا يحب أهل العلم والدين ويكرمهم وببركتهم دام ملكه وملك أولاده وطالت أيامهم.
حكى أبو الفضل محمد بن عبد الله البلغمي قال سمعت الأمير أبا إبراهيم إسماعيل بن أحمد يقول كنت بسمرقند فجلست يوما للمظالم وجلس أخي إسحاق إلى جانبي فدخل أبو عبد الله محمد بن نصر الفقيه الشافعي فقمت له إجلالا لعلمه ودينه، فلما خرج عاتبني أخي إسحاق وقال أنت أمير خراسان يدخل عليك رجل من رعيتك فتقوم له فتذهب السياسة بهذا.
قال: فبت تلك الليلة فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وكأني واقف وأخي إسحاق فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بعضدي فقال لي يا إسماعيل تبث ملكك وملك بيتك لإجلالك لمحمد بن نصر ثم التفت إلى إسحاق وقال ذهب ملك إسحاق وملك بيته باستخفافه بمحمد بن نصر.
وكان هذا محمد بن نصر من العلماء بالفقه على مذهب الشافعي العاملين بعلمهم المصنفين فيه وسافر إلى البلاد في طلب العلم وأخذ العلم بمصر من أصحاب الشافعي يونس بن عبد الأعلى والربيع بن سليمان ومحمد بن عبد الله بن الحكم وصحب الحرث المحاسبي وأخذ عنه علم المعاملة وبرز فيه أيضا.
282

ذكر عصيان أهل برقة
وفي هذه السنة عصي أهل برقة على أحمد بن طولون وأخرجوا أميرهم محمد بن الفرج الفرغاني فبعث ابن طولون جيشا عليهم غلامه لؤلؤة وأمره بالرفق بهم واستعمال اللين فإن انقادوا وإلا السيف.
فسار العسكر حتى نزلوا على برقة وحصروا أهلها وفعلوا ما أمرهم من اللين فطمع أهل برقة وخرجوا يوما على بعض العسكر وهم نازلون على باب البلد فأوقعوا بهم وقتلوا منهم.
فأرسل لؤلؤة إلى صاحبه أحمد يعرفه الخبر، فأمره بالجد في قتالهم، فنصب عليهم المجانيق وجد في قتالهم وطلبوا الأمان فأمنهم ففتحوا له الباب فدخل البلد وقبض على جماعة من رؤسائهم وضربهم بالسياط وقطع أيدي بعضهم وأخذ معه جماعة منهم وعاد إلى مصر واستعمل على برقة عاملا.
ولما وصل لؤلؤة إلى مصر خلع عليه أحمد خلعة فيها طوقان فوضعها في رقبته وطيف بالأسرى في البلد.
ذكر ولاية إبراهيم بن أحمد إفريقية
في هذه السنة توفي محمد بن أحمد بن الأغلب صاحب إفريقية سادس جمادى الأولى وكانت ولايته عشر سنين وخمسة أشهر وستة عشر يوما.
283

ولما حضره الموت عقد لابنه أبي عقال العهد واستخلف أخاه إبراهيم لئلا ينازعه وأشهد عليه آل الأغلب ومشايخ القيروان وأمره أن يتولى الأمر إلى أن يكبر ولده، فلما مات أتى أهل القيروان إبراهيم وسألوه أن يتولى أمرهم لحسن سيرته وعدله فلم يفعل ثم أجاب وانتقل إلى قصر الإمارة وباشر الأمور وأقام فيها قياما مرضيا.
وكان عادلا حازما في أموره أمن البلاد وقتل أهل البغي والفساد، وكان يجلس للعدل في جامع القيروان يوم الخميس والاثنين يسمع شكوى الخصوم ويصبر عليهم وينصف بينهم.
وكانت القوافل والتجار يسيرون في الطرق آمنين.
وبنى الحصون والمحارس على سواحل البحر حتى كان يوقد النار من ستة فيصل الخبر إلى الإسكندرية في الليلة الواحدة.
وبنى على سوسة سورا وعزم على الحج فرد المظالم وأظهر الزهد والنسك وعلم أنه إن جعل طريقه إلى مكة على مصر منعه صاحبها ابن طولون فتجري بينهما حرب فيقتل المسلمون فجعل طريقه على جزيرة صقلية ليجمع بين الحج والجهاد ويفتح ما بقي من حصونها، فأخرج جميع ما ادخره من المال والسلاح وغير ذلك وسار إلى سوسة فدخلها وعليه فرو مرقع في زي الزهاد أول سنة تسع وثمانين ومائتين وسار منها في الأسطول إلى صقلية.
284

وسار إلى مدينة يرطينوا فملكها سلخ رجب وأظهر العدل وأحسن إلى الرعية وسار إلى طبرمين فاستعد أهلها لقتاله، فلما وصل خرجوا إليه والتقوا فقرأ القارئ: (إنا فتحنا لك فتحا مبينا) فقال الأمير اقرأ: (هذان خصمان اختصموا في ربهم) فقرأ فقال اللهم إني أختصم أنا والكفار إليك في هذا اليوم! وحمل ومعه أهل البصائر فهزم الكفار وقتلهم المسلمون كيف شاؤوا ودخلوا معهم المدينة عنوة فركب بعض من بها من الروم مراكب فهربوا فيها.
والتجأ بعضهم إلى الحصن وأحاط بهم المسلمون وقاتلوهم، فاستنزلوهم قهرا وغنموا أموالهم وسبوا ذراريهم وذلك لسبع بقين من شعبان، وأمر بقتل المقاتلة وبيع السبي
والغنيمة.
ولما اتصل الخبر بفتح طبرمين إلى ملك الروم عظم عليه وبقي سبعة أيام لا يلبس التاج وقال لا يلبس التاج محزون. وتحركت الروم وعزموا على المسير إلى صقلية لمنعها من المسلمين فبلغهم أنه سائر إلى القسطنطينية فترك الملك بها عسكرا عظيما وسير جيشا كبيرا إلى صقلية.
وأما الأمير إبراهيم فإنه لما ملك طبرمين بث السرايا في مدن صقلية التي بيد الروم وبعث سرية إلى ميقش وسرية إلى دمنش فوجدوا أهلها قد أجلوا عنها فغنموا ما وجدوا بها.
وبعث طائفة إلى رمطة وطائفة إلى الباج فأذعن القوم جميعا إلى أداء الجزية فلم يجبهم إلى ذلك ولم يقبل منهم غير تسليم الحصون، ففعلوا،
285

فهدمها، وسار إلى كسنتة فجاءته الرسل منها يطلبون الأمان فلم يجبهم.
وكان قد ابتدأ به المرض وهو علة الذرب فنزلت العساكر على المدينة فلم يجدوا في قتالها لغيبة الأمير عنهم فإنه تزل منفردا لشدة مرضه وامتنع منه النوم وحدث به الفواق وتوفي ليلة السبت لإحدى عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة سنة تسع وثمانين ومائتين فاجتمع أهل الري من العسكر أن يولوا أمرهم أبا مضر بن أبي العباس عبد الله ليحفظ العساكر والأموال إلى أن يصلوا إلى ابنه بأفريقية، وجعلوا الأمير إبراهيم وحملوه إلى إفريقية ودفنوه بالقيروان رحمه الله.
وكانت ولايته خمسا وعشرين سنة وكان عاقلا حسن السيرة محبا للخير والاحسان، تصدق بجميع ما يملك ووقف أملاكه جميعها، وكان له فطنة عظيمة بإظهار خفايا العملات، فمن ذلك أن تاجرا من أهل القيروان كانت له امرأة جميلة صالحة عفيفة فاتصل خبرها بوزير الأمير إبراهيم فأرسل إليها فلم تجبه فاشتد غرامه بها وشكا حاله إلى عجوز كانت تغشاه، وكانت أيضا له من الأمير منزلة ومن والدته منزلة كبيرة وهي موصوفة عندهم بالصلاح يتبركون بها ويسألونها الدعاء، فقالت للوزير أنا أتلطف بها وأجمع بينكما.
وراحت إلى بيت المرأة فقرعت الباب وقالت قد أصاب ثوبي نجاسة أريد تطهيرها؛ فخرجت المرأة ولقيتها فرحبت بها وأدخلتها وطهرت ثوبها وقامت العجوز تصلي فعرضت المرأة عليها الطعام فقالت:
286

إني صائمة ولا بد من التردد إليك ثم صارت تغشاها ثم قالت لها عندي يتيمة أريد أن أحملها إلى زوجها. فإن خف عليك إعارة حليك أجملها بها فعلت.
فأحضرت جميع حليها وسلمته إليها فأخذته العجوز وانصرفت، وغابت أياما وجاءت إليها، فقالت له أين الحلي فقالت هو عند الوزير عبرت عليه وهو معي فأخذه مني وقال لا يسلمه إلا إليك. فتنازعتا وخرجت العجوز، وجاء التاجر زوج المرأة فأخبرته الخبر فحضر دار الأمير إبراهيم وأخبره بالخبر، فدخل الأمير إلى والدته وسألها عن العجوز فقالت هي تدعو لك فأمر بإحضارها ليتبرك بها فأحضرتها والدته فلما رآها أكرمها وأقبل عليها وانبسط معها.
ثم أنه أخذ خاتما من إصبعها وجعل يقلبه ويعبث به ثم إنه أحضر خصيا له وقال له انطلق إلى بيت العجوز وقل لابنتها تسلم الحق الذي في الحلى وصفته كذا وهو كذا وكذا وهذا الخاتم علامة منها.
فمضى الخادم وأحضر الحق فقال للعجوز ما هذا فلما رأت الحق سقط في يدها وقتلها ودفنها في الدار، وأعطى الحق لصاحبه وأضاف إليه شيئا آخر وقال له أما الوزير فإن انتقمت منه الآن ينكشف الأمر ولكن سأجعل له ذنبا آخذه به؛ فتركه مدة يسيرة وجعل له جرما آخذه به فقتله.
287

ذكر عدة حوادث
في هذه السنة استعمل المعتمد على الله الخليفة على أذربيجان محمد بن عمر بن علي بن مر الطائي الموصلي فسار إليها وجمع معه جموعا كثيرة من خوارج وغيرهم، وكان على أذربيجان العلاء بن أحمد الأزدي وهو مفلوج فخرج في محفة ليمنع محمد بن عمر فقاتله فانهزم عسكر العلاء وأخذ أسيرا واستولى محمد بن عمر بن علي على قلعة العلاء وأخذ منها ثلاثة آلاف ألف درهم ومات العلاء في يده.
وفيها استعمل المعتمد على الله على الموصل الخضر بن أحمد بن عمر بن الخطاب التغلبي الموصلي.
وفيها رجع الحسن بن زيد إلى طبرستان وأحرق شالوس لممالأة أهلها ليعقوب وأقطع ضياعهم للديالمة.
وفيها أمر المعتمد بجمع حاج خراسان والري وطبرستان وجرجان، وأعلمهم أنه لم يول يعقوب خراسان ولم يكن دخوله خراسان وأسره محمد بن طاهر بأمره.
وفيها قتل مساور الشاري يحيى بن جعفر الذي كان يلي خراسان، فسار مسرور البلخي في طلبه وتبعه أبو أحمد وهو الموفق بن المتوكل فسار مساور بين أيديهما فلم يدركاه.
وفيها هرب ابن مروان الجليقي من قرطبة فقصد قلعة الحنش فملكها وامتنع بها فسار إليه محمد صاحب الأندلس فحصره ثلاثة أشهر،
288

فضاق به الأمر حتى أكل دوابه فطلب الأمان فأمنه محمد فسار إلى مدينة بطليوس.
وفيها عصى أهل تاكرنا مع أسد بن الحرث بن رافع فغزاهم جيش محمد صاحب الأندلس وقاتلهم فعادوا إلى الطاعة.
وفيها توفي أبو هاشم داود بن سليمان الجعفري والحسن بن محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قاضي القضاة وكان موته في رمضان وأبو الحسن مسلم بن الحجاج النيسابوري صاحب الصحيح وعبد العزيز بن حيان الموصلي وكان كثير الحديث والنضر بن الحسن الفقيه الحنفي وكان من الموصل أيضا.
289

262
ثم دخلت سنة اثنتين وستين ومائتين
ذكر الحرب بين الموفق والصفار
في هذه السنة، في المحرم، سار الصفار من فارس إلى الأهواز، فلما بلغ المعتمد إقباله أرسل إليه إسماعيل بن إسحاق وبفراج وأطلق من كان في حبسه من أصحاب يعقوب. فإنه كان حبسهم لما أخذ يعقوب محمد بن طاهر بن الحسين وعاد إسماعيل برسالة من عند يعقوب، فجلس أبو أحمد ببغداد وكان قد أخر مسيره إلى الزنج لما بلغه من خبر يعقوب، وأحضر التجار وأخبرهم بتولية يعقوب خراسان وجرجان وطبرستان والري وفارس والشرطة ببغداد، وكان بمحضر من درهم صاحب يعقوب، كان يعقوب قد أرسله يطلب لنفسه ما ذكرنا، وأعاده أبو أحمد إلى يعقوب ومعه عمر بن سيما بما أضيف إليه من الولايات.
فعاد الرسل من عند يعقوب يقولون إنه لا يرضيه ما كتب به إليه دون أن يسير إلى باب المعتمد! وارتحل يعقوب من عسكر مكرم وسار إليه أبو الساج وصار معه، فأكرمه، وأحسن إليه ووصله.
فلما سمع المعتمد رسالة يعقوب خرج من سامرا في عساكره وسار إلى بغداد ثم إلى الزعفرانية فنزلها وقدم أخاه الموفق.
وسار يعقوب من
290

عسكر مكرم إلى واسط فدخلها لست بقين من جمادى الآخرة.
وارتحل المعتمد من الزعفرانية إلى سيب بني كوما فوافاه هناك مسرور البلخي عائدا من الوجه الذي كان فيه، وسار يعقوب من واسط إلى دير العاقول وسير المعتمد أخاه الموفق في العساكر لمحاربة يعقوب فجعل الموفق على ميمنته موسى بن بغا وعلى ميسرته مسرورا البلخي، وقام هو في القلب.
والتقيا فحملت ميسرة يعقوب على ميمنة الموفق فهزمتها وقتلت منها جماعة من قوادهم منهم إبراهيم بن سيما وغيره، ثم تراجع المنهزمون وكشف أبو أحمد الموفق رأسه وقال أنا الغلام الهاشمي! وحمل معه سائر عسكره على عسكر يعقوب فثبتوا وتحاربوا حربا شديدة وقتل من أصحاب يعقوب جماعة منهم الحسن الدرهمي وأصابت يعقوب ثلاثة أسهم في حلقه ويديه ولم تزل الحرب إلى آخر وقت العصر، ثم توفي أبا أحمد الموفق الديراني ومحمد بن أوس فاجتمع جميع من بقي من عسكره، وقد ظهر من أصحاب يعقوب كراهة للقتال معه إذ رأوا الخليفة يقاتله فحملوا على يعقوب ومن قد ثبت معه للقتال، فانهزم أصحاب يعقوب وثبت يعقوب في خاصة أصحابه حتى مضوا وفارقوا موضع الحرب، وتبعهم أصحاب الموفق فغنموا ما في عسكرهم وكان فيه من الدواب والبغال أكثير من عشرة آلاف، ومن الأموال ما يكل عن حمله ومن جرب المسك أمر عظيم، وتخلص محمد بن طاهر وكان مثقلا بالحديد وخلع عليه الموفق وولاه الشرطة ببغداد بعد ذلك.
وسار يعقوب من الهزيمة إلى خوزستان فنزل جنديسابور وراسله العلوي البصري يحثه على الرجوع إلى بغداد ويعده المساعدة، فقال لكاتبه:
291

اكتب إليه: (قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون) السورة وسير الكتاب إليه.
وكانت الوقعة لإحدى عشرة خلت من رجب؛ وكتب المعتمد إلى ابن واصل بتولية فارس. وكان قد سار إليها وجمع جماعة فغلب عليها فسير إليه يعقوب عسكرا عظيما عليهم ابن عزيز بن السري إلى فارس واستولى عليها ورجع المعتمد إلى سامرا.
وأما أبو أحمد الموفق فإنه سار إلى واسط ليتبع الصفار وأمر أصحابه بالتجهز لذلك فأصابه مرض فعاد إلى بغداد ومعه مسرور وقبض ما لأبي الساج من الضياع والمنازل واقطعها مسرورا البلخي وقدم محمد بن طاهر بغداد.
ذكر أخبار الزنج
وفيها نفذ قائد الزنج جيوشه إلى ناحية البطيحة ودست ميسان.
وكان سبب ذلك أن تلك النواحي لما خلت من العساكر السلطانية بسبب عود مسرور لحرب يعقوب بث صاحب الزنج سراياه فيها تنهب وتخرب.
وأتته الأخبار بخلو البطيحة من جند السلطان، فأمر سليمان بن جامع وجماعة من أصحابه بالمسير إلى الحوانيت وسليمان بن موسى بالمسير إلى القادسية.
292

وقدم ابن التركي في ثلاثين شذاة يريد عسكر الزنج فنهب وأحرق، فكتب الخبيث إلى سليمان بن موسى يأمره بمنعه من العبور فأخذ سليمان عليه الطريق فقاتلهم شهرا حتى تخلص، وانحاز إلى سليمان بن جامع من مذكوري البلالية وإنجادهم جمع كثير في خمسين ومائة سميرية، وكان مسرور قد وجه قبل مسيره عن واسط إلى المعتمد جماعة من أصحابه إلى سليمان في شذوات، فظفر بهم سليمان وهزمهم وأخذ منهم سبع شذوات وقتل من أسر منهم.
وأشار الباهليون على سليمان أن يتحصن في عقر ما وراء بطهثا والأدغال التي فيها، وكرهوا خروجه عنهم لموافقته في فعله وخافوا السلطان فسار إليه فنزل بقرية مروان بالجانب الشرقي من نهر طهشا، وجمع إليه رؤساء الباهلين وكتب إلى الخبيث يعلمه بما صنع، فكتب إليه يصوب رأيه ويأمره بإنفاذ ما عنده من ميرة ونعم فأنفذ ذلك إليه.
وورد على سليمان أن أغرتمش وحشيشا قد أقبلا في الخيل والرجال والسميريات والشذوات يريدون حربه فجزع جزعا شديدا.
فلما أشرفوا عليه رآهم أخذ جمعا من أصحابه وسار راجلا واستدبر أغرتمش، وجد أغرتمش في المسير إلى عسكر سليمان.
وكان سليمان قد أمر الذي استخلفه من جيشه أن لا يظهر منهم أحد لأصحاب أغرتمش وأن يخفوا أنفسهم ما قدروا إلى أن يسمعوا أصوات طبولهم، فإذا سمعوها خرجوا عليه.
وأقبل أغرتمش إليهم فجزع أصحاب سليمان جزعا عظيما فتفرقوا، نهض شرذمة منهم فواقعوهم وشغلوهم عن دخول العسكر.
وعاد
293

سليمان من خلفهم وضرب طبولهم وألقوا أنفسهم في الماء للعبور إليهم، فانهزم أغرتمش وظهر من كان من السودان بطهثا.
ووضعوا السيوف فيهم وقتل حشيش وانهزم أغرتمش وتبعه الزنوج إلى عسكره فنالوا حاجاتهم منه وأخذوا منهم شذوات فيها مال وغيره، فعاد أغرتمش فانتزعها من أيديهم فعاد سليمان وقد ظفر وغنم وكتب إلى صاحب الزنج بالخبر وسير إليه رأس حشيش فسيره إلى علي بن أبان وهو بنواحي الأهواز، وسير سليمان سرية فظفروا بإحدى عشرة شذاة وقتلوا أصحابها.
ذكر وقعة للزنج عظيمة انهزموا فيها
وفيها كانت وقعة للزنوج مع أحمد بن ليثويه وكان سببها أن مسرورا البلخي وجه أحمد بن ليثويه إلى كور الأهواز فنزل السوس، وكان يعقوب الصفار قد قلد محمد بن عبيد الله بن هزارمرد الكردي كور الأهواز، فكاتب محمد قائد الزنج يطمعه في الميل إليه وأوهمه أنه يتولى له كور الأهواز.
وكان محمد يكاتب قديما وعزم على مداراة الصفار وقائد الزنج حتى يستقيم له الأمر فيها، فكاتبه صاحب الزنج يجيبه إلى ما طلب على أن يكون علي بن أبان المتولي للبلاد ومحمد بن عبيد الله يخلفه عليها، فقبل محمد ذلك فوجه إليه علي بن أبان جيشا كبيرا وأمدهم محمد بن عبيد الله، فساروا نحو السوس فمنعهم أحمد بن ليثويه ومن معه من جند الخليفة عنها وقاتلهم
294

فقتل منهم خلقا كثيرا وأسر جماعة.
وسار أحمد حتى نزل جندي سابور وسار علي بن أبان من الأهواز ممدا محمد بن عبيد الله على أحمد بن ليثويه فلقيه محمد في جيش كثير من الأكراد والصعاليك ودخل محمد تستر فانتهى إلى أحمد بن ليثويه الخبر بتضافرهما على قتاله فخرج على جند يسابور إلى السوس.
وكان محمد قد وعد علي بن أبان أن يخطب لصاحبه قائد الزنج يوم الجمعة على منبر تستر، فلما كان يوم الجمعة خطب للمعتمد وللصفار فلما علم علي بن أبان ذلك انصرف إلى الأهواز وهدم قنطرة كانت هناك لئلا يلحقه الخيل، فانتهى أصحاب علي إلى عسكر مكرم فنهبوها وكانت داخلة في سلم الخبيث، فغدروا بها وساروا إلى الأهواز.
فلما علم أحمد ذلك أقبل إلى تستر فواقع محمد بن عبيد الله ومن معه فانهزم محمد بن عبيد الله ودخل احمد تستر، وأتت الأخبار علي بن أبان بن أحمد على قصدك، فسار إلى لقائه ومحاربته، فالتقيا واقتتل العسكران فستأمن جماعة من الأعراب إلى أحمد من الأعراب الذين مع علي بن أبان، فانهزم باقي أصحاب علي وثبت معه جماعة يسيرة واشتد القتال، وترجل علي بن أبان وباشر القتال راجلا فعرفه بعض أصحاب أحمد فأنذر الناس به، فلما عرفوه انصرف هاربا وألقى نفسه في المسرقان فأتاه بعض أصحابه بسميرية فركب فيها ونجا مجروحا وقتل من أبطال أصحابه جماعة كثيرة.
295

ذكر أخبار أحمد بن عبد الله الخجستاني
كان أحمد بن عبد الله الخجستاني من خجستان وهي من جبال هراة من أعمال باذغيس وكان من أصحاب محمد بن طاهر.
فلما استولى يعقوب بن الليث على نيسابور على ما ذكرناه ضم أحمد إليه وإلى أخيه علي بن الليث، وكان بنو شركب ثلاثة أخوة إبراهيم وأبو حفص يعمر وأبو طلحة منصور بنو مسلم، وكان أسنهم إبراهيم وكان قد أبلى بين يدي يعقوب عند مواقعة الحسن بن زيد بجرجان فقدمه فدخل عليه يوما نيسابور وهو يوم فيه برد شديد فخلع عليه يعقوب وبرسمور كان على كتفه، فحسده عليه الخجستاني فقال له إن يعقوب يريد الغدر بك لأنه لا يخلع على أحد من خاصته خلعة إلى غدر به.
فغم ذلك إبراهيم وقال كيف الحيلة في الخلاص قال الحيلة أن نهرب جميعا إلى أخيك يعمر فإني خائف عليه أيضا، وكان يعمر قد حاصر أبا داود الناهجوزي ببلخ ومعه نحو من خمسة آلاف رجل فاتفقا على الخروج ليلتهم فسبقه إبراهيم إلى الموعد فانتظره ساعة فلم يره، فسار نحو سرخس وذهب الخجستاني إلى يعقوب فأعلمه فأرسله في أثره فلحقوه بسرخس فقتلوه ومال يعقوب إلى الخجستاني.
296

فلما أراد يعقوب العودة إلى سجستان استخلف على نيسابور عزيز بن السري وولي أخاه عمرو بن الليث هراة، فاستخلف عمرو عليها طاهر بن حفص الباذغيسي، وسار يعقوب إلى سجستان سنة إحدى وستين ومائتين وأحب الخجستاني التخلف لما كان يحدث به نفسه فقال لعلي بن الليث إن أخويك قد اقتسما خراسان وليس لك بها من يقوم بشغلك فيجب أن تردني إليها لأقوم بأمورك، فاستأذن أخاه يعقوب في ذلك فأذن له، فلما حضر أحمد يودع يعقوب أحسن له القول ورده وخلع عليه، فلما ولي عنه قال يعقوب أشهد أن قفاه قفا مستعص وأن هذا آخر عهدنا بطاعته، فلما فارقهم جمع نحوا من مائة رجل فورد بهم بشت نيسابور، فحارب عاملها وأخرجه عنها وجباها، ثم خرج إلى قومس فقتل ببسطام مقتلة عظيمة وتغلب عليها وذلك سنة إحدى وستين ومائتين.
وسار إلى نيسابور وبها عزيز بن السري فهرب عزيز وأخذ أحمد أثقاله واستولى على نيسابور يدعو إلى الطاهرية وذلك أول سنة اثنتين وستين ومائتين، وكتب إلى رافع بن هرثمة يستقدمه فقدم عليه فجعله صاحب جيشه، وكتب إلى يعمر بن شركب وهو يحاصر بلخ يستقدمه ليتفقا على تلك البلاد فلم يثق إليه يعمر لفعله بأخيه، وسار يعمر إلى هراة فحارب طاهر بن حفص فقتله واستولى على أعمال طاهر، فسار إليه أحمد فكانت بينهما مناوشات.
297

وكان أبو طلحة بن شركب غلاما من أحسن الغلمان وكان عبد الله بن بلال يميل إليه وهو أحد قواد يعمر فراسل الخجستاني وأعلمه أنه يعمل ضيافة ليعمر وقواده ويدعوهم
إليه يوما ذكره ويأمره بالنهوض إليهم فيه فإنه يساعده وشرط عليه أن يسلم إليه أبا طلحة فأجابه أحمد إلى ذلك، فصنع ابن بلال طعاما ودعا يعمر وأصحابه وكبسهم أحمد وقبض على يعمر وسيره إلى نائبه بنيسابور فقتله، واجتمع إلى أبي طلحة جماعة من أصحاب أخيه فقتلوا ابن بلال وساروا إلى نيسابور وكان بها الحسين بن طاهر أخو محمد بن طاهر قد وردها من أصبهان طمعا أن يخطب لهم أحمد كما كان يظهره من نفسه، فلم يفعل فخطب له أبو طلحة بها وأقام معه، فسار إليه الخجستاني من هراة في اثنتي عشرة ألف عنان فأقام على ثلاثة مراحل من نيسابور، ووجه أخاه العباس إليها فخرج إليه أبو طلحة فقاتله فقتل العباس وانهزم أصحابه.
فلما بلغ خبرهم إلى أحمد عاد إلى هراة ولم يعلم لأخيه خبرا فبذل الأموال لمن يأتيه بخبره فلم يقدم أحد على ذلك، وأجابه رافع بن هرثمة إليه فاستأمن إلى أبي طلحة فأمنه وقربه ووثق إليه، وتحقق رافع خبر العباس فأنهاه إلى أخيه أحمد وأنفذه أبو طلحة إلى بيهق وبست ليجبي أموالهما لنفسه، وضم إليه قائدين فجبى رافع الأموال وقبض على القائدين وسار إلى الخجستاني إلى قرية من قرى خواف فنزلها وبها حلي بن يحيى الخارجي،
298

فنزل ناحية عنه.
فبلغ الخبر إلى أبي طلحة فركب مجدا فوصل إليهم ليلا فأوقع بحلي وأصحابه وهو يظنه رافعا، وهرب رافع سالما وعلم أبو طلحة بحال حلي بعد حرب شديدة فكف عنه وأحسن إليه وإلى أصحابه.
ثم وجه أبو طلحة جيشا إلى جرجان وبها ثابت بن الحسن بن زيد ومعه الديلم وكان جيش أبي طلحة إسحاق الشاري فحاربوا الديلم بجرجان وقتلوا منهم مقتلة عظيمة وأجلوهم عنها، وذلك في رجب سنة ثلاث وستين ومائتين.
ثم عصي إسحاق على أبي طلحة فسار إليه أبو طلحة واشتغل في طريقه باللهو والصيد فكبسه إسحاق وقتل أصحابه وانهزم أبو طلحة إلى نيسابور فاستضعفه أهلها فأخرجوه منها، فنزل على فرسخ عنها وجمع جمعا وحاربهم ثم افتعل كتابا عن أهل نيسابور إلى إسحاق يستقدمونه إليهم ويعدونه المساعدة على أبي طلحة فاغتر إسحاق بذلك، وكتب أبو طلحة عن إسحاق كتابا إلى أهل نيسابور يعدهم أنه يساعدهم على أبي طلحة ويأمرهم بحفظ الدروب وترك مقاربة البلد إلى ان يوافيهم فاغتروا بذلك وظنوه كتابه ففعلوا ما أمرهم.
وسار إسحاق مجدا فلما قارب نيسابور لقيه أبو طلحة فغافصه فطعنه أبو طلحة فألقاه عن فرسه في بئر هناك، فلم يعلم له خبر وانهزم أصحابه ودخل بعضهم إلى نيسابور وضيق عليهم أبو طلحة فكاتبوا الخجستاني واستقدموه من هراة فأتاهم في يومين وليلتين، وورد عليهم ليلا ففتحوا له الأبواب ودخلها وسار عنها أبو طلحة إلى الحسن بن زيد فأمده
299

بجنود فعاد إلى نيسابور فلم يظفر بشيء، فسار إلى بلخ وحصر أبا داود الناهجوزي واجتمع معه خلق كثير وذلك سنة خمسين وقيل ست وستين ومائتين.
وسار الخجستاني إلى محاربة الحسن بن زيد لمساعدته أبا طلحة فاستعان الحسن بأهل جرجان فأعانوه فحاربهم الخجستاني فهزمهم وأغار عليهم وجباهم أربعة آلاف ألف درهم، وذلك في رمضان سنة خمس وستين [مائتين].
واتفق أن يعقوب بن الليث توفي سنة خمس وستين [مائتين] أيضا، وولي مكانه أخوه عمرو فعاد إلى سجستان وقصد هراة فعاد الخجستاني من جرجان إلى نيسابور ووافاه عمرو بن الليث فاقتتلا وانهزم عمرو ورجع إلى هراة وأقام أحمد بنيسابور.
وكان كيكان وهو يحيى بن محمد بن يحيى الذهلي وجماعة من المتطوعة والفقهاء بنيسابور يميلون إلى عمرو لتولية السلطان إياه، فرأى الخجستاني أن يوقع بينهم ليشتغل بعضهم ببعض وأحضر منهم جماعة من الفقهاء القائلين بمذاهب أهل العراق.
فأحسن إليهم وقربهم وأكرمهم وأظهروا الخلاف على كيكان ونابذوه.
وكان كيكان يقول بمذهب أهل المدينة فكفى شرهم وسار إلى هراة فحصر بها عمرو بن الليث سنة سبع وستين [مائتين]، فلم يظفر بشيء فسار نحو سجستان فحصر في طريقه رمل (سي) فلم يظفر بشيء منها، فاحتال حتى استمال رجلا قطانا كانت داره إلى جانب السور ووعده أن ينقب إلى العسكر من داره ويخرج أصحابه إلى البلد، فاستأمن رجلان إلى البلد من أصحاب
300

الخجستاني وذكرا الخبر لصاحبه فأخذ القطان وأخربت داره وبطل ما كان الخجستاني عزم عليه.
وكان خليفة الخجستاني بنيسابور قد أساء السيرة وقوي العيارين وأهل الفساد، فاجتمع الناس إلى كيكان فثار على نائبه وأعانهم عمرو بن الليث بجنده فقبضوا على خليفة الخجستاني وأقام أصحاب عمرو بنيسابور فبلغ الخبر إلى أحمد فوافى نيسابور فخرج عنها كيكان وغيره فردهم أصحاب أحمد الخجستاني فقتل منهم جماعة وغيب كيكان فلم يظهر إلا بعد مدة ميتا وقد بنى عليه حائطا فمات فيه.
وأقام أحمد بنيسابور تمام سنة سبع وستين ومائتين؛ ثم أن عمرا كاتب أبا طلحة وهو يحاصر بلخ يستقدمه إلى هراة فأتاه فأكرمه وأعطاه مالا عظيما ووعده وتركه بخراسان وعاد إلى سجستان؛ فسار أحمد إلى سرخس وبها عامل عمرو فأتاه أبو طلحة فقاتله فانهزم أبو طلحة ومر على وجهه وسار أحمد خلفه فلحقه بخلم فحاربه فهزمه أيضا، وسار نحو سجستان وأقام أحمد بطخارستان.
وكان ناسرار عباس القطان قد أتى طلحة فسار نحو نيسابور فأعانه أهلها فأخذوا والدة الخجستاني وما كان معها وأقام بنيسابور ولحق به أبو طلحة فمنعه أهل نيسابور من دخولها.
301

واتصل الخبر بالخجستاني وهو بطايكان من طخارستان فسار مجدا نحو نيسابور.
ولما أيس الطاهرية من الخجستاني، وكان أحمد بن محمد بن طاهر بخوارزم واليا عليها فأنفذ أبا العباس النوفلي في خمسة آلاف رجل ليخرج أحمد من نيسابور فبلغ خبره أحمد فأرسل إليه ينهاه عن سفك الدماء فأخذ النوفلي الرسل فأمر بضربهم وحلق لحاهم وأراد قتلهم فبينما هم يطلبون الجلادين والحلاقين ليحلق لحاهم أتاهم الخبر بقرب جيش أحم منهم فاشتغلوا وتركوا الرسل فهربوا إلى أحمد وأعلموه الخبر فعبأ أصحابه وحملوا على النوفلي حملة رجل واحد فأكثروا فيهم القتل وقبضوا على النوفلي وأحضروه عنده فقال له إن الرسل لتختلف إلى بلاد الكفار فلا تتعرض لهم أفلا استحيت أن تأمر في رسلي بما أمرت فقال النوفلي أخطأت فقال لكني سأصيب في أمرك ثم أمر به فقتل.
وبلغه أن إبراهيم بن محمد بن طلحة بمرو قد جبى أهلها في سنتين خمسة عشر خراجا فسار إليه في أبيورد في يوم وليلة فأخذه من على فراشه وأقام بمرو فجبى خراجها ثم ولاها موسى البلخي ثم وافاها الحسين بن طاهر فأحسن فيهم السيرة ووصل إليه نحو عشرين ألف ألف درهم.
302

ذكر قتل الخجستاني
لما كان الخجستاني بطخارستان وافاه خبر أخذ والدته من نيسابور وسار مجدا فلما قارب هراة أتاه غلام لأبي طلحة يعرف بينال ده هزار مستأمنا فأتاه خبره قبل وصوله، وكان للخجستاني غلام اسمه رامجور على خزائنه فقال له كالممازح له إن سيدك ينال ده هزار قد استأمن إلي كما علمت فانظر كيف يكون برك به. فحقدها عليه رامجور وخاف أن يقدم ذلك الغلام عليه ويطلب الفرصة ليقتله.
وكان لأحمد غلام [يدعى] قتلغ وهو على شرابه فسقاه يوما فرأى في الكوز شيئا فأمر به فقلعت إحدى عينيه فتواطأ قتلغ ورامجور على قتله فشرب يوما بنيسابور عند وصوله من طايكان فسكر ونام، فتفرق عنه أصحابه فقتله رامجور وقتلغ.
وكان قتله في شوال سنة ثمان وستين ومائتين، وأخذ رامجور خاتمه فأرسله إلى الإصطبل يأمرهم بإسراج عدة دواب ففعلوا.
فسير عليها جماعة إلى أبي طلحة وهو بجرجان يعلمه الحال ويأمره بالقدوم، ثم أغلق رامجور الباب على أحمد واختفى.
وبكر القواد إلى باب أحمد فوجدوا باب حجرته مغلقا فانتظروه ساعة طويلة فرابهم الأمر ففتحوا الباب فرأوه مقتولا فبحثوا عن الحال وأخبرهم صاحب الإصطبل خبر رامجور في إنفاذ الخاتم فطلبوه فلم يجدوه ثم وجدوه بعد مدة.
وكان سبب إطلاعهم عليه أن صبيا من أهل تلك الدار التي هو بها طلب
303

نارا، فقيل له: ما تعملون بالنار في اليوم الحار فقيل نتخذ طعاما للقائد قيل ومن القائد قال رامجور؛ فأنهوا خبره إلى بعض القواد فأخذوه وقتلوه.
واجتمع أصحاب أحمد بعد قتله على رافع بن هرثمة، وسنذكر أخبار رافع سنة ثمان وستين ومائتين.
وكان أحمد بن عبد الله لما عاد من طايكان بعد قتل والدته نصب رمحا طويلا في صحن داره وقال يحتاج أهل نيسابور أن يضعوا الدر حتى يغمروا هذا الرمح فخافوا منه، واستخفى جمع من الرؤساء والتجار وفزع الناس إلى الدعاء وسألوا أبا عثمان وغيره من أصحاب أبي حفص الزاهد أن يتضرعوا إلى الله تعالى ليفرج عنهم، وفعلوا فتداركهم الله بحرمته فقتل تلك الليلة وفرج الله عنهم.
وكان أحمد كريما جوادا شجاعا حسن العشيرة كثير البر لإخوانه الذين صحبوه قبل إمارته والإحسان إليهم ولم يتغير لهم عما كان يفعله من التواضع والآداب.
ذكر عدة حوادث
فيها ولي القضاء علي بن محمد [بن] أبي الشوارب.
وفيها سار الحسين بن طاهر بن عبد الله بن طاهر إلى الجبل في صفر.
304

وفيها مات الصلاني والي الري ووليها كيغلغ.
وفيها نهب ابن زيدويه الطبيب، ومات صالح بن علي بن يعقوب بن المنصور وولي إسماعيل بن إسحاق قضاء الجانب الشرقي من بغداد فصار له قضاء الجانبين.
وفيها تنافر أبو أحمد الموفق وأحمد بن طولون أمير ديار مصر وصار به بينهما وحشة مستحكمة، وتطلب الموفق من يتولى الديار المصرية فلم يجد أحدا لأن ابن طولون كان خدمه وهداياه متصلة إلى القواد بالعراق وأرباب المناصب فلهذا لم يجد من يتولاها، فكتب إلى ابن طولون يهدده بالعزل فأجابه جوابا فيه بعض الغلظة، فسير إليه الموفق موسى بن بغا في جيش كثيف فسار إلى الرقة.
وبلغ الخبر ابن طولون فحصن الديار المصرية، وأقام ابن بغا عشرة أشهر بالرقة لم يمكنه المسير لقلة الأموال معه وطالبه الجنود بالعطاء فلم يكن معه ما يعطيهم فاختلفوا عليه وثاروا بوزيره عبد الله بن سليمان فاستتر، واضطر ابن بغا إلى العودة إلى العراق وكفى الله أحمد بن طولون شره فتصدق بأموال كثيرة.
وفيها قتل محمد بن عتاب وكان سائرا إلى السيبين وهي في ولايته فقتله الأعراب.
305

وفيها قتل القطان صاحب مفلح وكان عاملا بالموصل فانصرف عنها فقتل بالرقة.
وفيها عقد لكفتمر علي بن الحسين بن داود على طريق مكة.
وفيها وقع بين الخياطين والجزارين بمكة قتال يوم التروية حتى خاف الناس أن يبطل الحج ثم تحاجزوا إلى أن يحج الناس وقد قتل منهم سبعة عشر رجلا وحج بالناس
الفضل بن إسحاق بن الحسن بن العباس بن محمد.
وفيها سير محمد صاحب الأندلس ابنه المنذر في جيش إلى الجليقي وكان بمدينة بطليوس فلما سمع خبرهم فارقها ودخل حصن كركر فحوصر فيه وكثر القتل في أصحابه في شوال.
وفيها مات عمرو بن شبة النميري الأخباري وكان مولده ثلاث وسبعين ومائة.
306

263
ثم دخلت سنة ثلاث وستين ومائتين
ذكر وقعة الزنج
لما انهزم علي بن أبان جريحا كما ذكرناه وعاد إلى الأهواز لم يقم بها ومضى إلى عسكر صاحبه يداوي جراحه واستخلف على عسكره بالأهواز، فلما برأ جرحه عاد إلى الأهواز ووجه أخاه الخليل بن أبان في جيش كثيف إلى أحمد بن ليثويه.
وكان أحمد بعسكر مكرم فكمن لهم أحمد وخرج إلى قتالهم فالتقى الجمعان واقتتلوا أشد قتال وخرج الكمين على الزنج فانهزموا وتفرقوا وقتلوا، ووصل المنهزمون إلى علي بن أبان فوجه مسلحة إلى المسرقان فوجه إليهم أحمد ثلاثين فارسا من أصحابه من أعيانهم فقتلهم الزنج جميعهم.
ذكر استيلاء يعقوب على الأهواز وغيرها
وفيها أقبل يعقوب بن الليث من فارس فلما بلغ النوبندجان انصرف أحمد بن الليث عن تستر فلما بلغ يعقوب جند يسابور ونزلها ارتحل عن تلك الناحية كل من بها من عسكر الخليفة، ووجه إلى الأهواز رجلا من
307

أصحابه يقال [له] الخضر بن العنبر. فلما قاربها خرج عنها علي بن أبان ومن معه من الزنج فنزل نهر السدرة ودخل الخضر الأهواز، وجعل أصحابه وأصحاب علي بن أبان يغير بعضهم على بعض ويصيب بعضهم من بعض إلى أن استعد علي بن أبان وسار إلى الأهواز فأوقع بالخضر ومن معه وقعة قتل فيها من أصحاب الخضر خلقا كثيرا وأصاب الغنائم الكثيرة، وهرب الخضر ومن معه إلى عسكر مكرم.
وأقام علي بالأهواز ليستخرج ما كان فيها ورجع إلى نهر السدرة وسير طائفة إلى دورق وأوقعوا بمن كان هناك من أصحاب يعقوب وأنفذ يعقوب إلى الخضر مددا وأمره بالكف عن قتال الزنج والاقتصار على المقام بالأهواز، فلم يجبهم علي إلى ذلك دون نقل طعام كان هناك فأجابه يعقوب إليه فنقله وترك العلف الذي كان بالأهواز وكف بعضهم عن بعض.
ذكر ملك الروم لؤلؤة
وفيها سلمت الصقالبة لؤلؤة إلى الروم؛ وكان سبب ذلك أن أحمد بن طولون قد أدمن الغزو بطرسوس قبل أن يلي مصر فلما ولي مصر كان يؤثر أن يلي طرسوس ليغزو منها أميرا فكتب إلى أبي أحمد الموفق يطلب ولايتها فلم يجبه إلى ذلك، واستعمل عليها محمد بن طولون التغلبي فركب في سفينة في دجلة فألقتها الريح إلى الشاطئ فأخذه أصحاب مساور الشاري فقتلوه واستعمل عوضه محمد بن علي الأرمني وأضيف إليه أنطاكية فوثب به أهل طرسوس فقتلوه، فاستعمل عليها أرخوز بن يولغ بن
308

طرخان التركي فسار إليها، وكان غرا جاهلا فأساء السيرة وأخر عن أهل لؤلؤة أرزاقهم وميرتهم فضجوا من ذلك وكتبوا إلى أهل طرسوس يشكون منه ويقولون إن لم ترسلوا إلينا أرزاقنا وميرتنا وإلا سلمنا القلعة إلى الروم.
فأعظم ذلك أهل طرسوس وجمعوا من بينهم خمسة عشر ألف دينار ليحملوها إليهم فأخذها أرخوز ليحملها إلى أهل لؤلؤة فأخذها لنفسه.
فلما أبطأ عليهم المال سلموا القلعة إلى الروم، فقامت على أهل طرسوس القيامة لأنها كانت شبحا في حلق العدو ولم يكن يخرج الروم في بر أو بحر إلا رأوه وأنذروا به واتصل الخبر بالمعتمد فقلدها أحمد بن طولون واستعمل عليها من يقوم بغزو الروم ويحفظ ذلك الثغر.
ذكر عدة حوادث
وفي هذه السنة مات مساور بن عبد الحميد الشاري، وكان قد رحل من البوازيج يريد لقاء عسكر قد سار إليه من عند الخليفة.
فكتب أصحابه إلى محمد بن خرزاد وهو بشهرزور ليولوه أمرهم فامتنع وكان كثير العبادة فبايعوا أيوب بن حيان الوارقي البجلي، فأرسل إليهم محمد بن خرزاد ليذكر لهم أنه نظر في أمره فلم يسعه إهمال الأمر لأن مساورا عهد إليه فقالوا له قد بايعنا هذا الرجل ولا نغدر به؛ فسار إليهم فيمن بايعه فقاتلهم فقتل أيوب بن حيان، فبايعوا بعده محمد بن عبد الله بن يحيى الوارقي المعروف بالغلام فقتل أيضا،
309

فبايع أصحابه هارون بن عبد الله البجلي فكثر أتباعه وعاد عنه ابن خرزاد واستولى هارون على أعمال الموصل وجبى خراجه.
وفيها كانت وقعة بين موسى والأعراب فوجه الموفق ابنه أبا العباس المعتضد في جماعة من قواده في طلب الأعراب.
وفيها وثب الديراني بابن أوس فكبسه ليلا فتفرق عسكره ونهبه ومضى ابن أوس إلى واسط.
وفيها ظفر أصحاب يعقوب بن الليث بمحمد بن واصل فأسروه.
وفيها مات عبيد الله بن يحيى بن خاقان وزير المعتمد سقط عن دابته بالمديان من صدمة خادم له فسال دماغه من منخريه وأذنه فمات لوقته، وصلى عليه الموفق ومشى
في جنازته واستوزر من الغد الحسن بن مخلد فقدم موسى بن بغا سامرا فاختفى الحسن واستوزر مكانه سليمان بن وهب ودفعت دار عبيد الله إلى كيغلغ.
وفيها أخرج أخو شركب الحسين بن طاهر عن نيسابور وغلب عليها وآخذ أهله بإعطائه ثلث أموالهم وسار الحسين إلى مرو وبها ابن خوارزم شاه يدعو لمحمد بن طاهر.
وفيها سير محمد صاحب الأندلس ابنه المنذر في جيش كثير وجعل طريقه على ماردة فلما جاز ماردة إلى أرض العدو تبعه المنذر في جيش كثير وجعل طريقه على ماردة فلما جاز ماردة إلى أرض العدو تبعه تسعمائة فارس من العسكر فخرج عليه جمع كثير من المشركين قد استظهر فاقتتلوا قتالا
310

كثيرا صبروا فيه وقتل من المشركين عدد كثير ثم استظهر ابن الجليقي ومن معه من المشركين على التسعمائة فوضعوا السيف فيهم فقتلوهم عن آخرهم أكرمهم الله بالشهادة.
وفيها ابتدأ إبراهيم أمير أفريقية ببناء مدينة رقادة.
وفيها توفي أحمد بن حرب الطائي الموصلي أخو علي بن حرب توفي بأذنة من بلد الثغر.
311

264
ثم دخلت سنة أربع وستين ومائتين
ذكر أسر عبد الله بن كاوس
في هذه السنة أسرت الروم عبد الله بن رشيد بن كاوس.
وكان سبب ذلك أنه دخل بلد الروم في أربعة آلاف من أهل الثغور الشامية فغنم وقتل فلما رحل عن البدندون خرج عليه بطريق سلوقية وبطريق قرة كوكب وخرشنة فأحدقوا بالمسلمين فنزل المسلمون وعرقبوا دوابهم وقاتلوا فقتلوا إلا خمسمائة فإنهم حملوا حملة رجل واحد ونجوا على دوابهم، وقتل الروم وأسروا عبد الله بن رشيد بعد ضربات أصابته وحمل إلى ملك الروم.
ذكر أخبار الزنج هذه السنة ودخولهم واسط
قد ذكرنا سنة اثنتين وستين ومائتين مسير سليمان بن جامع إلى البطائح وما كان منه مع أغرتمش فلما أوقع به كتب إلى صاحبه يستأذنه في المسير إليه ليحدث به عهدا ويصلح أمور منزله فأذن له في ذلك، فأشار عليه
312

الحياتي أن يتطرق إلى عسكر تكين البخاري وهو بيزدود فقبل قوله وسار إلى تكين، فلما كان على فرسخ منه قال له الحياتي الرأي أن تقيم أنت ههنا وأمضي أنا في السميريات وأجر القوم إليك فيأتونك وقد تعبوا فتنال منهم حاجتك.
ففعل سليمان ذلك، وجعل بعض أصحابه كمينا ومضى الحياتي إلى تكين فقاتله ساعة ثم تطارد لهم فتبعوه فأرسل إلى سليمان يعلمه ذلك، وقال لأصحابه وهو بين يدي أصحاب تكين شبه المنهزم ليسمع أصحاب تكين قوله فيطمعوا فيه غررتموني وأهلكتموني وكنت نهيتكم عن الدخول ههنا فأبيتم ولا أرانا ننجو منه.
وطمع أصحاب تكين وجدوا في طلبه وجعلوا ينادون بلبل في قفص، فما زالوا كذلك حتى جازوا موضع الكمين وقاربوا عسكر سليمان وقد كمن أيضا خلف جدار هناك، فخرج سليمان إليهم في أصحابه فقاتلهم، وخرج الكمين من خلفهم وعطف الحياتي على من في النهر فاشتد القتال فانهزم أصحاب تكين من الوجوه كلها وركبهم الزنج يقتلونهم ويسلبونهم أكثر من ثلاثة فراسخ وعادوا عنهم.
فلما كان الليل عاد الزنج إليهم وهم في معسكرهم فكبسوه فقاتلهم تكين وأصحابه فانكشف سليمان، ثم عبأ أصحابه فأمر طائفة أن تأتيهم من جهة ذكرها لهم وطائفة في الماء وأتى هو في الباقين فقصدوا تكين من جهاته كلها فلم يقف من أصحابه أحد وانهزموا وتركوا عسكرهم فغنم الزنج ما فيه وعادوا بالغنيمة واستخلف سليمان الحياتي على عسكره،
313

وسار إلى صاحبه وكان ذلك سنة ثلاث وستين ومائتين.
فلما سار سليمان إلى الخبيث خرج الحياتي بالعسكر الذي خلفه سليمان معه إلى مازوران لطلب الميرة فاعترضه جعلان فقاتله فانهزم الحياتي وأخذت سفنه، وأتته الأخبار أن منجورا ومحمد بن علي بن حبيب اليشكري قد بلغا الحجاجية فكتب إلى صاحبه بذلك فسير إليه سليمان فوصل إلى طهثا مجدا وأظهر أنه يريد قصد جعلان وقدم الحياتي وأمره أن يأتي جعلان ويقف بحيث يراه ولا يقاتله.
ثم سار سليمان نحو محمد بن علي بن حبيب مجدا فأوقع به وقعه عظيمة وغنم غنائم كثيرة وقتل أخا لمحمد بن علي ورجع وكان ذلك في رجب من هذه السنة أيضا.
ثم سار في شعبان إلى قرية حسان وبها قائد يقال له حسن بن خمار تكين فأوقع به فهزمه ونهب القرية وأحرقها وعاد ثم سار في شعبان أيضا إلى مواضع فنهبها وعاد.
ثم سار في رمضان وأظهر أنه يريد جعلان بمازوران فبلغت الأخبار إلى جعلان بذلك فضبط عسكره فتركه سليمان وعدل إلى أبا فأوقع به وهو غار وغنم منه ست شذاوات، ثم أرسل الحياتي في جماعة لينتهب فصادفهم جعلان فأخذ سفنهم وغنم منهم فأتاه سليمان في البر فهزمه واستنقذ سفنهم وغنم شيئا آخر وعاد.
ثم سار سليمان إلى الرصافة في ذي القعدة فأوقع بمطر بن جامع وهو بها فغنم غنائم كثيرة وأحرق الرصافة واستباحها وحمل أعلاما
314

وانحدر إلى مدينة الخبيث وأقام ليعيد هناك بمنزله، فسار مطر إلى الحجاجية فأوقع بأهلها وأسر جماعة وكان بها قاض لسليمان فأسره مطر وحمله إلى واسط، وسار مطر إلى قريب طهثا ورجع فكتب الحياتي إلى سليمان بذلك فسار نحوه فوافاه لليلتين من ذي الحجة سنة ثلاث وستين [مائتين]، ثم صرف جعلان ووافى أحمد بن ليثويه
فأقام بالشديدية.
ومضى سليمان إلى نهر أبان وبه قائد من قواد أحمد فأوقع به فقتله، ثم سار سليمان إلى تكين في خمس شذوات سنة أربع وستين [مائتين] فواقعه تكين بالشديدة.
وكان أحمد بن ليثويه حينئذ قد سار إلى الكوفة وجنبلاء، فظهر تكين على سليمان وأخذ الشذوات بما فيها وكان بها صناديد سليمان وقواده فقتلهم ثم أن أحمد عاد إلى الشديدية وضبط تلك الأعمال حتى وافاه محمد بن المولد وقد ولاه الموفق مدينة واسط فكتب سليمان إلى الخبيث يستمده فأمده بالخليل بن أبان في زهاء ألف وخمسمائة فارس فلما أتاه المدد قصد إلى محاربة محمد بن المولد ودخل سليمان مدينة واسط فقتل فيها خلقا كثيرا ونهب وأحرق وكان بها ابن منكجور البخاري فقاتله يومه إلى العصر ثم قتل وانصرف سليمان عن واسط إلى جنبلاء ليعبث ويخرب فأقام هناك تسعين ليلة وعسكرهم بنهر الأمير.
315

ذكر وزارة سليمان بن وهب للخليفة
ووزارة الحسن بن مخلد وعزله
وفيها خرج سليمان بن وهب من بغداد إلى سامراء وشيعه الموفق والقواد، فلما صار إلى سامراء غضب عليه المعتمد وحبسه وقيده وانتهب داره وداري ابنيه وهب وإبراهيم واستوزر الحسن بن مخلد في ذي القعدة فسار الموفق من بغداد إلى سامراء ومعه عبد الله بن سليمان بن وهب فما قرب من سامراء تحول المعتمد إلى الجانب الغربي فعسكر به مغاضبا للموفق، واختلف الرسل بينه وبين الموفق واتفقا وخلع على الموفق ومسرور وكيغلغ وأحمد بن موسى بن بغا وأطلق سليمان بن وهب وعاد إلى الجوسق وهرب الحسن بن مخلد وأحمد بن صالح بن شيرزاد فكتب بقبض أموالهما وقبض أحمد بن أبي الأصبغ وهرب القواد الذين كانوا سامراء مع المعتمد خوفا من الموفق فوصلوا إلى الموصل وجبوا الخراج.
ذكر وفاة أماجور وملك ابن طولون الشام وطرسوس
وقتل سيما الطويل
وفي هذه السنة توفي أماجور مقطع دمشق وولي انه مكانه فتجهز ابن طولون ليسير إلى الشام فيملكه، فكتب إلى ابن أماجور يذكر له أن الخليفة قد أقطعه الشام والثغور، فأجابه بالسمع والطاعة، وسار أحمد واستخلف بمصر ابنه العباس فلقيه ابن أماجور بالرملة فأقره عليها وسار إلى دمشق فملكها وأقر قواد أماجور على أقطاعهم، وسار إلى حمص فملكها
316

وكذلك حماة، وحلب.
وأرسل سيما الطويل بأنطاكية يدعوه إلى طاعته ليقره على ولايته فامتنع فعاوده فلم يطعه فسار إليه أحمد بن طولون فحصره بأنطاكية وكان سئ السيرة مع أهل البلد، فكاتبوا أحمد بن طولون ودلوه على عورة البلد فنصب عليه المجانيق وقاتله فملك البلد عنوة والحصن الذي له وركب سيما وقاتل قتالا شديدا حتى قتل ولم يعلم به أحد، فاجتاز به بعض قواده فرآه قتيلا فحمل رأسه إلى أحمد فساءه قتله.
ورحل عن أنطاكية إلى طرسوس فدخلها وعزم على المقام بها وملازمة الغزاة فغلا السعر بها وضاقت عنه وعن عساكره، فركب أهلها إليه بالمخيم وقالوا له قد ضيقت بلدنا وأغليت أسعارنا فإما أقمت في عدد يسير وإما ارتحلت عنا؛ وأغلظوا له في القول وشغبوا عليه فقال أحمد لأصحابه لتنهزموا من الطرسوسيين وترحلوا عن البلد ليظهر للناس وخاصة العدو أن ابن طولون على بعد صيته وكثرة عساكره لم يقدر على أهل طرسوس وانهزم عنهم ليكون أهيب في قلب العدو وعاد إلى الشام.
فأتاه خبر ولده العباس وهو الذي استخلفه بمصر أنه قد عصي عليه وأخذ الأموال وسار إلى برقة مشاقا لأبيه فلم يكترث بذلك ولم ينزعج له، وثبت وقضى أشغاله وحفظ أطراف بلاده وترك بحران عسكرا وبالرقة
317

عسكرا مع غلامة لؤلؤ، وكانت حران لمحمد بن أتامش وكان شجاعا فأخرجه عنها وهزمه هزيمة قبيحة.
واتصل خبره بأخيه موسى بن أتامش وكان شجاعا بطلا فجمع عسكرا كثيرا وسار نحو حران وبها عسكر ابن طولون ومقدمهم أحمد بن جيعويه، فلما اتصل به خبر مسير موسى أقلقه ذلك وأزعجه ففطن له رجل من الأعراب يقال له أبو الأغر فقال له أيها الأمير أراك مفكرا منذ أتاك خبر ابن أتامش وما هذا محله فإنه طياش قلق ولو شاء الأمير أن آتيه به أسيرا لفعلت، فغاظه قوله وقال قد شئت أن تأتي به أسيرا قال فاضمم إلي عشرين رجلا أختارهم قال افعل، فاختار عشرين رجلا وسار بهم إلى عسكر موسى فلما قاربهم كمن بعضهم وجعل بينه وبينهم علامة إذا سمعوها ظهروا.
ثم دخل العسكر في الباقين في زي الأعراب وقارب مضارب موسى وقصد خيلا مربوطة فأطلقها وصاح هو وأصحابه فيها فنفرت وصاح هو ومن معه من الأعراب وأصحاب موسى غارون وقد تفرق بعضهم في حوائجهم وانزعج العسكر وركبوا وركب موسى فانهزم أبو الأغر من بين يديه فتبعه حتى أخرجه من العسكر وجاز به الكمين فنادى أبو الأغر بالعلامة التي بينهم، فثاروا من النواحي وعطف أبو الأغر على موسى فأسروه فأخذوه وساروا حتى وصلوا إلى ابن جيعويه فعجب الناس من ذلك وحاروا فسيره ابن جيعويه إلى ابن طولون فاعتقله وعاد إلى مصر وكان ذلك في سنة خمس وستين ومائتين.
318

ذكر الفتنة ببلاد الصين
وفي هذه السنة ظهر ببلاد الصين إنسان لا يعرف فجمع جمعا كثيرا من أهل الفساد والعامة فأهمل الملك أمره استصغارا لشأنه فقوي وظهر حاله وكثف جمعه وقصده أهل الشر من كل ناحية فأغار على البلاد وخربها ونزل على مدينة خانقوا وحصرها وهي حصينة ولها نهر عظيم وبها عالم كثير من المسلمين والنصارى واليهود والمجوس
وغيرهم من أهل الصين فلما حصر البلد اجتمعت عساكر الملك وقصدته فهزمها وافتتح المدينة عنوة وبذل السيف فقتل منهم ما لا يحصى كثرة.
ثم سار إلى المدينة التي فيها الملك وأراد حصرها فالتقاه ملك الصين ودامت الحرب بينهم نحو سنة ثم انهزم الملك وتبعه الخارجي إلى أن تحصن منه في مدينة من أطراف بلاده واستولى الخارجي على أكثر البلاد والخزائن وعلم أنه لا بقاء له في الملك إذ ليس هو من أهله فأخرب البلاد ونهب البلاد وسفك الدماء.
فكاتب ملك الصين ملوك الهند يستمدهم فأمدوه بالعساكر فسار إلى الخارجي فالتقوا واقتتلوا نحو سنة أيضا وصبر الفريقان ثم إن الخارجي أعدم، فقيل إنه قتل وقيل بل غرق وظفر الملك بأصحابه وعاد إلى مملكته ولقب ملوك الصين يعفور ومعناه ابن السماء تعظيما لشأنه وتفرق الملك عليه وتغلب كل طائفة على طرف من البلاد وصار الصين على ما كان عليه ملوك الطوائف يظهرون له الطاعة وقنع منهم بذلك وبقي على ذلك مدة طويلة.
319

ذكر ملك المسلمين مدينة سرقوسة
وفي هذه السنة رابع عشر رمضان ملك المسلمون سرقوسة وهي من أعظم [مدن] صقلية.
وكان سبب ملكها أن جعفر بن محمد أمير صقلية غزاها فأفسد زرعها وزرع قطانية وطبرمين ورمطة وغيرها من بلاد صقلية التي بيد الروم ونازل سرقوسة وحصرها برا وبحرا وملك بعض أرباضها ووصل مراكب الروم نجدة لها فسير إليها أسطولا فأصابوها فتمكنوا حينئذ من حصرها، فأقام العسكر محاصرا لها تسعة أشهر وفتحت وقتل من أهلها عدة ألوف وأصيب فيها من الغنائم ما لم يصب بمدينة أخرى ولم ينج من رجالها إلا الشاذ الفذ.
وأقاموا فيها بعد فتحها شهرين ثم هدموها ثم وصل بعد هدمها من القسطنطينية أسطول فالتقوا هم والمسلمون فظفر بهم المسلمون وأخذوا منهم أربع قطع فقتلوا من فيها وانصرف المسلمون إلى بلدهم آخر ذي القعدة.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة سير محمد بن عبد الرحمن صاحب الأندلس ابنه المنذر في جيش إلى مدينة بنبلونة وجعل طريقه على سرقسطة فقاتل أهلها،
320

ثم انتقل إلى تطيلة، وجال في مواضع بني موسى ثم دخر بنبلونة فخرب كثيرا من حصونه وأذهب زروعه وعاد سالما.
وفيها سار جمع من العرب إلى مدينة جليقية فكان بينهم وقعة عظيمة قتل فيها من الطائفتين كثير.
وفيها فرغ إبراهيم بن محمد بن الأغلب صاحب أفريقية من بناء رقادة وكان ابتداء عمارتها سنة ثلاث وستين ومائتين ولما فرغت انتقل إبراهيم إليها.
وفيها وجه يعقوب بن الليث جيشا إلى الصيمرة مقدمة إليها وأخذوا صعون فأحضروه عنده فمات.
وفيها ماتت قبيحة أم المعتز.
وفيها وقع الطاعون بخراسان جميعها وقومس فأفنى خلقا كثيرا؛ وحج بالناس هذه السنة هارون بن محمد بن إسحاق بن موسى الهاشمي.
وفيها توفي أبو زرعة الرازي واسمه عبيد الله بن عبد الكريم وكان حافظا للحديث ثقة ومحمد بن إسماعيل بن علية وكان موته بدمشق.
وفيها مات أبو إبراهيم المزني صاحب الشافعي وكان موته بمصر وعلي بن حرب الطائي وكان إماما في الحديث.
321

265
ثم دخلت سنة خمس وستين ومائتين
ذكر أخبار الزنج
في هذه السنة كانت وقعة بين أحمد بن ليثويه وبين سليمان بن جامع والزنج بناجية جنبلاء.
وكان سببها أن سليمان كتب إلى الخبيث يخبره بحال نهر يسمى الزهري ويسأله أن يأذن في عمله فإنه متى أنفذه تهيأ له حمل ما في جنبلاء وسواد الكوفة، فأنفذ إليه نكرويه لذلك وأمره بمساعدته والنفقة على عمل النهر، فمضى سليمان فيمن معه وأقام بالشريطة نحوا من شهر وشرعوا في عمل النهر.
وكان أصحاب سليمان في أثناء ذلك يتطرقون ما حولهم فواقعه أحمد بن ليثويه وهو عامل الموفق بجنبلاء فقتل من الزنوج نيفا وأربعين قائدا ومن عامتهم ما لا يحصى كثرة وأحرق سفنهم، فمضى سليمان مهزوما إلى طهثا.
وفيها سار جماعة من الزنوج في ثلاثين سميرية إلى جبل فأخذوا أربع سفن فيها طعام وانصرفوا.
وفيها دخل الزنج النعمانية فأحرقوها وسبوا فساروا إلى جرجرايا ودخل أهل السواد بغداد.
322

ذكر استعمال مسرور البلخي على الأهواز وانهزام الزنج منه
وفيها استعمل الموفق مسرورا البلخي على كور الأهواز فولى مسرور ذلك تكين البخاري فسار إليها تكين وكان علي بن أبان والزنج قد أحاطوا بتستر فخاف أهلها وعزموا على تسليمها إليهم فوافاهم في تلك الحال تكين البخاري فواقع علي بن أبان قبل أن ينزع ثيابه فانهزم علي والزنج وقتل منهم كثير وتفرقوا، ونزل تكين بتستر وهذه الوقعة تعرف بوقعة باب كورك وهي مشهورة.
ثم إن عليا قدم عليه جماعة من قواد الزنج فأمرهم بالمقام بقنطرة فارس فهرب منهم غلام رومي إلى تكين وأخبره بمقامهم بالقنطرة وتشاغلهم بالنبيذ وتفرقهم في جمع الطعام، فسار تكين إليهم ليلا فأوقع بهم وقتل من قوادهم جماعة فانهزم الباقون.
وسار تكين إلى علي بن أبان فلم يقف له علي وانهزم وأسر غلام له يعرف بجعفرويه، ورجع علي إلى الأهواز ورجع تكين إلى تستر، وكتب علي إلى تكين يسأله الكف عن قتل غلامه فحبسه، ثم تراسل علي وتكين وتهاديا، فبلغ الخبر مسرورا بميل تكين إلى الزنج فسار حتى وافى تكين وقبض عليه وحبسه عند إبراهيم بن جعلان حتى مات وتفرق أصحاب تكين ففرقة سارت إلى الزنج وفرقة إلى محمد بن عبيد الله الكردي فبلغ ذلك مسرورا فأمنهم فجاءه منهم الباقون؛ وكان بعض ما ذكرناه من أمر مسرور سنة خمس وستين وبعضه سنة ست وستين ومائتين.
323

ذكر عصيان العباس بن أحمد بن طولون على أبيه
وفيها عصي العباس بن أحمد بن طولون على أبيه وسبب ذلك أن أباه كان قد خرج إلى الشام واستخلف ابنه العباس كما ذكرناه، فما أبعد عن مصر حسن للعباس جماعة كانوا عنده أخذ الأموال والانشراح إلى برقة ففعل ذلك وأتى برقة في ربيع الأول.
وبلغ الخبر أباه فعاد إلى مصر وأرسل إلى ابنه ولاطفه واستعطفه فلم يرجع إليه، وخاف من معه فأشاروا عليه بقصد أفريقية فسار إليها وكاتب وجوه البربر فأتاه بعضهم وامتنع بعضهم، وكتب إلى إبراهيم بن الأغلب يقول إن أمير المؤمنين قد قلدني أمر أفريقية وأعمالها ورحل حتى أتى حصن لبدة ففتحه أهله له فعاملهم أسواء معاملة ونهبهم فمضى أهل الحصن إلى إلياس بن منصور النفوسي رئيس الأباضية هناك فاستعانوا به فغضب لذلك وسار إلى العباس ليقاتله.
وكان إبراهيم بن الأغلب قد أرسل إلى عامل طرابلس جيشا وأمره بقتال العباس فالتقوا واقتتلوا قتالا شديدا قاتل العباس فيه بيده، فلما كان الغد وافاهم إلياس بن منصور الأباضي في اثنتي عشر ألفا من الأباضية فاجتمع هو وعامل طرابلس على قتال العباس فقتل من أصحابه خلق كثير وانهزم أقبح هزيمة وكاد يؤسر فخلصه مولى له ونهبوا سواده وأكثر ما حمله
324

من مصر وعاد إلى برقة أقبح عود.
وشاع بمصر أن العباس انهزم فاغتنم والده حتى ظهر عليه وسير إليه العساكر لما علم سلامته فقاتلوه قتالا صبر فيه الفريقان فانهزم العباس ومن معه وكثر القتلى في أصحابه، وأخذ العباس أسيرا وحمل إلى أبيه فحبسه في حجرة في داره إلى أن قدم باقي الأسرى من أصحابه، فلما قدموا أحضرهم أحمد عنده والعباس معهم فأمره أبوه أن يقطع أيدي أعيانهم وأرجلهم ففعل.
فما فرغ منه وبخه أبوه وذمه وقال له هكذا يكون الرئيس والمقدم كان الأحسن أنك كنت ألقيت نفسك بين يدي وسألت الصفح عنك وعنهم فكان أعلى لمحلك وكنت قضيت حقوقهم فيما ساعدوك وفارقوا أوطانهم لأجلك ثم أمر به فضرب مائة مقرعة ودموعه تجري على خده رقة لولده ثم رده إلى الحجرة واعتقله وذلك سنة ثمان وستين ومائتين.
ذكر موت يعقوب وولاية أخيه عمرو
وفيها مات يعقوب بن الليث الصفار تاسع شوال بجنديسابور من كور الأهواز، وكانت علته القولنج فأمره الأطباء بالاحتفال بالدواء فلم يفعل واختار الموت.
وكان المعتمد قد أنفذ إليه رسولا وكتابا يستميله ويترضاه ويقلده أعمال فارس فوصل الرسول ويعقوب مريض فجلس له وجعل عنده سيفا ورغيفا من الخبز الخشكار ومعه بصل، وأحضر الرسول فأدى الرسالة فقال له قل للخليفة أنني عليل فإن مت فقد استرحت منك
325

واسترحت مني. وإن عوفيت فليس بيني وبينك إلا هذا السيف حتى آخذ بثأري أو تكسرني وتعقرني وأعود إلى هذا الخبز والبصل وأعاد الرسول فلم يلبث يعقوب أن مات.
وكان الحسن بن زيد العلوي يسمى يعقوب بن الليث السندان لثباته، وكان يعقوب قد افتتح الرخج وقتل ملكها وأسلم أهلها على يده وكانت مملكته واسعة الحدود وكان اسم ملكها كبتير وكان يحمل على سرير من ذهب يحمله اثنا عشر رجلا وابتنى على جبل عال بيتا وسماه مكة وكان يدعي الإلهية فقتله يعقوب وافتتح الخلجية وزابل وغير ذلك، ولم أعلم أي سنة كان ذلك حتى أذكره فيها.
وكان يعقوب عاقلا حازما وكان يقول من عاشرته أربعين يوما فلم تعرف أخلاقه فلا تعرفها في أربعين سنة؛ وقد تقدم من سيرته ما يدل على عقله.
ولما مات قام بالأمر بعده أخوه عمرو بن الليث وكتب إلى الخليفة بطاعته فولاه الموفق خراسان وفارس وأصبهان وسجستان والسند وكرمان والشرطة ببغداد وأشهد بذلك وسيره إليه مع الخلع.
326

ذكر عدة حوادث
وفي هذه السنة وثب القاسم بن مهاة بدلف بن عبد العزيز بن أبي دلف بأصبهان فقتله، ووثب جماعة من أصحاب أبي دلف بالقاسم فقتلوه وريسوا عليهم أحمد بن عبد العزيز.
وفيها لحق محمد المولد بيعقوب بن الليث فأكرمه يعقوب وأحسن إليه فأمر الخليفة بقبض أمواله وعقاره.
وفيها قتلت الأعراب جعلان المعروف بالعيار بدمما وكان خرج يسير قافلة فقتلوه فوجه في طلبهم فلم يلحقوا.
وفيها حبس الموفق سليمان بن وهب وابن عبيد الله وعدة من أصحابهما وقبض أموالهم وضياعهم خلا أحمد بن سليمان ثم صالح سليمان وابنه عبيد الله على تسعمائة ألف دينار وجعلا في موضع يصل إليهما من أرادوا، وعسكر موسى بن أتامش وإسحاق بن كنداجيق والفضل بن موسى بن بغا وعبروا جسر بغداد ومنعهم الموفق فلم يرجعوا
ونزلوا صرصر فاستكتب أبو أحمد الموفق صاعد بنت مخلد فمضى إلى أولئك القواد فردهم من صرصر فخلع عليهم.
وفيها خرج خمسة بطارقة [من] الروم إلى أذنة فقتلوا وأسروا، وكان أرجوز والي الثغور فعزل عنها فأقام مرابطا وأسروا نحوا من أربعمائة وقتلوا نحوا من ألف وأربعمائة وذلك في جمادى الأولى.
327

وفيها غلب أحمد بن عبد الله الخجستاني على نيسابور وسار الحسن بن طاهر بن عبد الله إلى مرو وهو عامل أخيه محمد بن طاهر وأخربت طوس.
وفيها استوزر أبو الصقر إسماعيل بن بلبل.
وفيها وثب جماعة من الأعراب من بين أسد على علي بن مسرور البلخي قبل وصوله إلى المغيثة بطريق مكة وكان الموفق ولاه الطريق.
وفيها بعث ملك الروم إلى أحمد بن طولون بعبد الله بن رشيد بن كاوس وعدة أسرى وأنفذ معهم عدة مصاحف منه هدية إليه وحج بالناس هارون بن محمد بن إسحاق بن موسى بن عيسى الهاشمي.
وفيها كانت موافاة أبي المغيرة عيسى بن محمد المخزومي إلى مكة لصاحب الزنج.
وفيها توفي أبو بكر أحمد بن منصور الزنادي وعمره ثلاث وثمانون سنة وإبراهيم بن هانئ أبو إسحاق النيسابوري، وكان من الإبدال قد صحب أحمد بن حنبل وعلي بن حرب بن محمد الطائي الموصلي ومولده سنة خمس وسبعين ومائة وقيل غير ذلك وقد تقدم وعلي بن موفق الزاهد.
وفيها قتل أبو الفضل العباس بن الفرج الرياشي، قتله الزنج بالبصرة أخذ العلم عن أبي عبيدة والأصمعي.
328

266
ثم دخلت سنة ست وستين ومائتين
ذكر أخبار الزنج مع أغرتمش
في هذه السنة ولى أغرتمش ما كان يتولاه تكين البخاري من أعمال الأهواز، فدخل تستر في رمضان ومعه أبا ومطر بن جامع، وقتل مطر بن جامع جعفرويه غلام علي بن أبان وجماعه معه كانوا مأسورين وساروا إلى عسكر مكرم وأتاهم الزنج هناك مع علي بن أبان فاقتتلوا فلما رأوا كثرة الزنج قطعوا الجسر وتحاجزوا ورجع علي إلى الأهواز وأقام أخوه الخليل بالمسرقان في جماعة كثيرة من الزنج.
وسار أغرتمش ومن معه نحو الخليل ليعبروا إليه من قنطرة إربك، فكتب إلى أخيه علي فوافاه في النهر وأخاف أصحابه الذين خلفهم بالأهواز، فارتحلوا إلى نهر السدرة وتحارب علي وأغرتمش يومهم، ثم انصرف علي إلى الأهواز فلم يجد أصحابه الذين خلفهم بالأهواز، فوجه من يردهم من نهر السدرة فعسر عليهم ذلك فتبعهم وأقام معهم، ورجع أغرتمش فنزل عسكر مكرم واستعد علي لقتالهم.
وبلغ ذلك أغرتمش ومن معه من عسكر الخليفة فساروا إليه فكمن لهم علي وقدم الخليل إلى قتالهم فاقتتلوا فكان أول النهار لأصحاب الخليفة،
329

ثم خرج عليهم الكمين، فانهزموا وأسر مطر بن جامع وعدة من القواد فقتله علي بغلامه جعفرويه، وعاد إلى الأهواز وأرسل رؤوس القتلى إلى الخبيث العلوي.
وكان علي وأغرتمش بعد ذلك في حروبهم على السواء، وصرف صاحب الزنج أكثر جنوده إلى علي بن أبان؛ فما رأى ذلك أغرتمش وادعه وجعل علي يغير على النواحي، فمن ذلك أنه أغار على قرية بيروذ فنهبها ووجه الغنائم إلى صاحبه.
ذكر دخول الزنج رامهرمز
وفيها دخل علي بن أبان والزنج رامهرمز.
وسبب ذلك أن محمد بن عبيد الله كان يخاف علي بن أبان لما في نفس علي منه لما ذكرناه، فكتب إلى انكلاي بن العلوي وسأله أن يسأل أباه ليرفع يد علي عنه ويضمه إلى نفسه، فزاد ذلك غيظ علي منه وكتب إلى الخبيث بالإيقاع بمحمد ويجعل ذلك الطريق إلى مطالبته بالخراج فأذن له، فكتب إلى محمد يطلب منه حمل الخراج فمطله ودافعه، فسار إليه علي وهو برامهرمز، فهرب محمد عنها ودخلها علي والزنج فاستباحها ولحق محمد بأقصى معاقله وانصرف علي غانما.
وخاف محمد فكتب إليه بطلب المسالمة فأجابه إلى ذلك على ما يؤديه إليه، فحمل إليه مائتي ألف درهم فأنفذها إلى صاحب الزنج وأمسك عن محمد بن عبيد الله وأعماله.
330

وفيها كانت وقعة للزنج انهزموا فيها، وكان سببها أن محمد بن عبيد الله كتب إلى علي بن أبان بعد الصلح يسأله المعونة على الأكراد الدارنان على أن يجعل له ولأصحابه غنائمهم، فكتب علي إلى صاحبه يستأذنه فكتب إليه أن وجه إليه جيشا وأقم أنت ولا تنفذ أحدا حتى تستوثق منه بالرهائن ولا يأمن غزوه والطلب بثأره، فكتب علي إلى محمد يطلب منه اليمين والرهائن فبذل له اليمين ومطله الرهائن فلحرص علي على الغنائم أنفذ إليه جيشا، فسير محمد معهم طائفة من أصحابه إلى الأكراد فخرج إليهم الأكراد فقاتلوهم، ونشبت الحرب فتخلى أصحاب محمد عن الزنج فانهزموا وقتلت الأكراد منهم خلقا كثيرا.
وكان محمد قد أعد لهم من يتعرضهم إذا انهزموا فصادفوهم وأوقعوا بهم وسلبوهم وأخذوا دوابهم ورجعوا بأسوأ حال، فكتب علي إلى الخبيث بذلك فعنفه وقال ضيعت أمري في ترك الرهائن؛ وكتب إلى محمد يتهدده فخاف محمد وكتب [إليه] يخضع ويذل، ورد بعض الجواب وقال إنني كبست من كانت عندهم خلصت هذه منهم. فاظهر الخبيث الغضب عليه، فأرسل محمد إلى بهبود ومحمد بن يحيى الكرماني وكانا أقرب الناس إلى علي فضمن لهما مالا أن أصلحا له عليا وصاحبه ففعلا ذلك، فأجابهما الخبيث إلى الرضا عن محمد علي أن يخطب له على منابر بلاده، وأعلما محمدا ذلك فأجابهما إلى كل ما طلبا وجعل يراوغ في الدعاء له على المنابر.
ثم أن عليا استد لمتوث وسار إليها فلم يظفر بها، فرجع، وعمل السلاليم والآلات التي يصعد بها إلى السور، واستعد لقصدها فعرف
331

ذلك منصور البلخي، وهو يومئذ بكور الأهواز فلما سار علي إليها سار إليه مسرور فوافاه قبل المغرب وهو نازل عليها، فلما عاين الزنج أوائل خيل مسرور انهزموا أقبح هزيمة وتركوا جميع ما كانوا أعدوه وقتل منهم خلق كثير وانصرف علي مهزوما فلم يلبث إلا أن يسيرا حتى أتته الأخبار باقبال الموفق، ولم يكن لعلي بعد متوث وقعة حتى فتحت سوق الخميس وطهثا على الموفق، فكتب إليه صاحبه بالعودة إليه ويستحثه حثا شديدا.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة ولي عمرو بن الليث عبيد الله بن عبد الله بن طاهر خلافته على الشرطة ببغداد وسر من رأى في صفر، وخلع عليه الموفق وعمرو ابن الليث.
وفيها في صفر غلب اساتكين على الشرطة وهي الآن من أعمال سجستان وعلى الري وأخرج منها حظلخجور العامل عليها.
ثم مضى إلى قزوين وعليها أخو كيغلغ فصالحه ودخل أساتكين قزوين ثم رجع إلى الري.
وفيها وردت سرية من سرايا الروم إلى تل يسهى من ديار ربيعة فأسرت نحو من مائتين وخمسين إنسانا ومثلت بالمسلمين فنقر إليهم
332

أهل الموصل ونصيبين فرجعت الروم.
وفيها مات أبو الساج بجنديسابور منصرفا من عسكر عمرو بن الليث إلى بغداد ومات قبله سليمان بن عبد الله بن طاهر، وولى عمرو بن الليث فيها أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف أصبهان؛ وولى محمد بن أبي الساج طريق مكة والحرمين.
وفيها فارق إسحاق بن كنداج أحمد بن موسى بن بغا، وكان سبب ذلك أن أحمد لما سار إلى الجزيرة وولى موسى بن أتامش ديار ربيعة فأنكر ذلك إسحاق بن كنداج وفارق عسكره وسار إلى بلد فأوقع بالأكراد اليعقوبية فهزمهم وأخذ أموالهم، ثم لقي ابن مساور الخارجي فقتله، وسار إلى الموصل فقاطع أهلها على مال قد أعدوه.
وكان قائد كبير بمعلثايا اسمه علي بن داود وهو المخاطب له عن أهل الموصل والمدافع فسار ابن كنداج إليه فلما بلغه الخبر فارق معلثايا وعبر دجلة ومعه حمدان بن حمدون إلى إسحاق بن أيوب بن أحمد التغلبي العدوي، فاجتمعوا كلهم فبلغت عدتهم نحو خمسة عشر ألفا، وسمع ابن كنداج باجتماعهم فعبر إلى بلد وعبر دجلة إليه وهو في ثلاث آلاف وسار إلى نهر أيوب فالتقوا بكراثا وهي التي تعرف اليوم بتل موسى وتصافوا للحرب، فأرسل مقدم ميسرة بن أيوب إلى ابن كنداج يقول
333

له: إنني في الميسرة فاحمل علي لأنهزم؛ ففعل ذلك. فانهزمت ميسرة ابن أيوب وتبعها الباقون، فسار حمدان بن حمدون وعلي بن داود إلى نيسابور وأخذ ابن أيوب نحو نصيبين فاتبعه ابن كنداج، فسار ابن أيوب عن نصيبين إلى آمد واستولى ابن كنداج على نصيبين وديار ربيعة، واستجار ابن أيوب بعيسى بن الشيخ الشيباني وهو بآمد فأنجده، وطلب النجدة من أبي المعز بن موسى بن زرارة وهو بأرزن فأنجده أيضا، وعاد ابن كنداج إلى الموصل ووصل إليه من الخليفة المعتمد عهد بولاية الموصل فعاد إليها، فأرسل إليه ابن الشيخ وابن زرارة وغيرهم بذلوا له مائتي ألف دينار ليقرهم على أعمالهم فلم يجبهم فاجتمعوا على حربه، فلما رأى ذلك أجابهم إلى ما طلبوا وعاد عنهم وقصدوا بلادهم.
وفيها أمر محمد بن عبد الرحمن بانشاء مراكب بنهر قرطبة وحملها إلى البحر المحيط، وكان سبب عملها أنه قيل له أن جليقية ليس لها مانع من جهة البحر المحيط وأن ملكها من هناك سهل، فأمر بعمل المراكب فلما فرغت وكملت برجالها وعدتها سيرها إلى البحر المحيط، فلما دخلته المراكب تقطعت ولم يجتمع منها مركبان ولم يرجع منها إلا اليسير.
وفيها التقى أسطول المسلمين وأسطول الروم عند صقلية، فجرى بينهم قتال شديد فظفر الروم بالمسلمين وأخذوا مراكبهم وانهزم من سلم منهم إلى مدينة بلرم بصقلية.
وفيها كان بأفريقية غلاء شديد وقحط عظيم كادت الأقوات تعدم.
334

وفيها قتل أهل حمص عاملهم عيسى الكرخي.
وفيها أسرى لؤلؤ غلام أحمد بن طولون من رابية بني تميم إلى موسى بن أتامش وهو برأس عين فأخذه أسيرا وسيره إلى الرقة، ثم لقي لؤلؤ أحمد بن موسى بن أتامش ومن معه من الأعراب، فانهزم لؤلؤ ورجع الأعراب إلى عسكر أحمد لينهبوه فعطف عليه لؤلؤ وأصحابه فانهزموا، فبلغت هزيمتهم قرقيسيا ثم ساروا إلى بغداد وسامرا، وقد ذكرت فيما تقدم أن الذي أسر موسى غير لؤلؤ على ما ذكره مؤرخو مصر.
وفيها كانت بين أحمد بن عبد العزيز وبكتمر وقعة فانهزم بكتمر وسار إلى بغداد.
وفيها أوقع الخجستاني بالحسن بن زيد بجرجان وهو غار فلحق بآمل وغلب الخجستاني على جرجان وأطراف طبرستان.
فكان الحسن لما سار عن طبرستان إلى جرجان استخلف بسارية الحسن بن محمد بن حعفر بن عبد الله بن حسين الأصغر العقيقي، فما انهزم الحسن بن زيد أظهر العقيقي بسارية أنه قتل ودعا إلى البيعة لنفسه فبايعه قوم ووافاه الحسن بن زيد فحاربه ثم ظفر به فقتله.
وفيها كانت وقعة بين الخجستاني وعمرو بن الليث انهزم فيها عمرو ودخل الخجستاني نيسابور وأخرج منها عامل عمرو ومن كان يميل إليه.
وفيها كانت فتنة بالمدينة ونواحيها بين العلويين والجعفرية.
وفيها وثب الأعراب على كسوة الكعب فانتهبوها وصار بعضها إلى صاحب الزنج وأصاب الحجاج فيها شدة شديدة.
335

وفيها خرجت الروم على ديار ربيعة فاستنفر الناس فنفروا في برد شديد لا يمكن فيه دخول الدرب.
وفيها غزا سيما خليفة أحمد بن طولون على الثغور الشامية في ثلاثمائة رجل من أهل طرسوس فخرج عليهم نحو من أربعة آلاف من بلاد هرقلة، فاقتتلوا قتالا شديدا وقتل المسلمون خلقا كثيرا من العدو وأصيب من المسلمين جماعة.
وفيها كانت بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم حرب بين العلويين والجعفريين وغلا السعر حتى تعذرت الأقوات وعم الغلاء سائر البلاد من الحجاز والعراق والموصل والجزيرة والشام وغير ذلك إلا أنه لم يبلغ الشدة التي بالمدينة.
وفيها كان الناس في البلاد التي تحت حكم الخليفة جميعها في شدة عظيمة بتغلب القواد وأمراء الأجناد على الأمر وقلة المراقبة والأمن من إنكار ما يأتونه ويفعلونه لاشتغال الموفق بقتال صاحب الزنج ولعجز الخليفة المعتمد واشتغاله بغير ذلك.
وفيها اشتد الحر في تشرين الثاني ثم اشتد فيه البرد حتى جمد الماء.
وفيها تقدم محمد بن أبي الساج مكة فحاربه المخزومي فهزمه محمد، واستباح ماله، وذلك يوم التروية.
وفيها سار كيغلغ إلى الجبل وبكتمر راجعا إلى الدينور. وحج بالناس
336

في هذه السنة هارون بن محمد بن إسحاق بن موسى بن عيسى الهاشمي.
وفيها توفي محمد بن شجاع أبو بكر الثلجي وكان من أصحاب الحسن بن زياد اللؤلؤي صاحب أبي حنيفة الثلجي بالثاء المعجمة بثلاث والجيم.
وفيها توفي صالح بن أحمد بن حنبل وكان مولده سنة ثلاث وثلاثين ومائتين.
337

267
ثم دخلت سنة سبع وستين ومائتين
ذكر أخبار الزنج
وفيها غلب أبو العباس بن الموفق على عامة ما كان بيد سليمان بن جامع والزنج من أعمال دجلة، وهذا أبو العباس هو الذي صار خليفة بعد المعتمد فلقب المعتضد بالله.
وكان سبب مسيره أن الزنج لما دخلوا واسط وعملوا بأهلها ما ذكرنا فبلغ ذلك الموفق فأمر ابنه بتعجيل المسير بين يديه إليهم.
فسار في ربيع الآخر سنة ست وستين ومائتين وشيعه أبوه وسير معه عشرة آلاف من الرجالة والخيالة في العدة الكاملة، وأخذ معه الشذوات والسميريات والمعابر للرجالة فسار حتى وافى دير العاقول.
وكان على مقدمته في الشذوات نصير المعروف بأبي حمزة، فكتب إليه نصير يخبره أن سليمان بن جامع قد وافى في خيله ورجله في شذوات وسميريات والحياتي على مقدمته حتى نزل الجزيرة بحضرة بردرويا وأن سليمان بن موسى الشعراني قد وافى نهر أبا بخيله ورجله في سميريات،
338

فركب أبو العباس حتى وافى الصلح ووجه طلائعه ليعرف أخبارهم فعادوا وأعلموه بموافاة الزنج وجيشهم وأن أولهم بالصلح وآخرهم ببستان موسى بن بغا أسفل واسط.
وكان سبب جمع الزنج وحشدهم أنهم قالوا إن أبا العباس فتى حدث غر بالحرب، والرأي لنا أن نرميه بحدنا كله ونجبهه في أول مرة نلقاه في إزالته فلعل ذلك يروعه فينصرف عنا، فجمعوا، وحشدوا، فلما علم أبو العباس قربهم عدل عن سنن الطريق واعترض في مسيره ولقى أصحابه أوائل الزنج فتطاردوا لهم حتى طمعوا فيهم واغتروا واتبعوهم وجعلوا يقولون اطلبوا أمير المؤمنين للحرب فإن أميركم قد اشتغل بالصيد.
فلما قربوا منه خرج عليهم فيمن معه من الخيل والرجل وصاح بنصير إلى أين تتأخر عن هذه الأكلب! فرجع نصير وركب أبو العباس سميرية وحف به أصحابه من جميع الجهات، فانهزمت الزنج، وكثر القتل فيهم وتبعوهم إلى أن وصلوا قرية عبد الله وهي على ستة فراسخ من الموضع الذي لقوهم به وأخذوا منهم خمس شذوات وعدة سميريات وأسر جماعة واستأمن جماعة فكان هذا أول الفتح، فسار سليمان بن جامع إلى نهر الأمير وسار سليمان بن موسى الشعراني إلى سوق الخميس وانحدر أبو العباس فأقام بالعمر وهو على فرسخ من واسط وأصلح شذواته وجعل يراوح القوم القتال ويغاديهم.
ثم إن سليمان استعد وحشد وجعل أصحابه في ثلاثة أوجه وقالوا إنه
339

حدث غر يغرر بنفسه وكمنوا له كمناء، فبلغ الخبر أبا العباس فحذروا وأقبلوا وقد كمنوا الكمناء ليغتر بأتباعهم فيخرج الكمين عليه، فمنع أبو العباس أصحابه أن يتبعوهم، فلما علموا أن كيدهم لم يتم خرج سليمان في الشذوات والسميريات فأمر أبو العباس نصيرا أن يبرز إليهم وركب هو شذاة من شذواته سماها الغزال ومعه جماعة من خاصته وأمر الخيالة بالمسير بإزائه على شاطئ النهر إلى أن ينقطع، فعبر دوابهم ونشبت الحرب بين الفريقين فوقعت الهزيمة على الزنج وغنم أبو العباس منهم أربع عشرة شذاة وأفلت سليمان والحياتي بعد أن أشفيا على الهلاك وبلغوا طهثا وأسلموا ما كان معهم.
ورجع أبو العباس إلى معسكره وأمر بإصلاح ما أخذ منهم من الشذوات والسميريات، وأقام الزنج عشرين يوما لا يظهر منهم أحد وجعلوا على طريق الخيل آبارا وجعلوا فيها سفافيد حديد وجعلوا على رؤوسها البواري والتراب ليسقط فيها المجتازون.
فاتفق أنه سقط فيها رجل من الفراغنة ففطنوا لها وتركوا ذلك الطريق.
واستمد سليمان صاحب الزنج فأمده بأربعين سميرية بآلاتها ومقاتلتها فعادوا للتعرض للحرب فلم يكونوا يثبتون لأبي العباس.
ثم سير إليهم عدة سميريات فأخذها الزنج فبلغه الخبر وهو يتغدى فركب في سميرية ولم ينتظر أصحابه وتبعه منهم من خف.
فأدرك الزنج فانهزموا وألقوا أنفسهم في الماء فاستنقذ سميرياته ومن كان فيها، وأخذ معهم إحدى وثلاثين سميرية ورمى أبو العباس يومئذ عن قوس حتى دميت إبهامه؛ فلما رجع أمر لمن معه بالخلع وأمر بإصلاح السميريات المأخوذة من الزنج.
ثم أن أبا العباس رأى أن يتوغل [في] مازروان حتى يصير إلى
340

الحجاجية ونهر الأمير ويعرف ما هناك فقدم نصيرا في أول السميريات وركب أبو العباس في سميرية ومعه محمد بن شعيب ودخل مازروان وهو يظن أن نصيرا أمامه فلم يقف له على خبر، وكان قد سار على غير طريق أبي العباس وخرج من مع أبي العباس من الملاحين إلى غنم رأوها ليأخذوها فبقي هو ومحمد بن شعيب فأتاهما جمع من الزنج من جانبي النهر فقاتلهم أبو العباس بالنشاب ووافاه زيرك في باقي الشذوات فسلم أبو العباس وعاد إلى عسكره.
ورجع نصير وجمع سليمان بن جامع أصحابه وتحصن بطهثا وتحصن الشعراني وأصحابه بسوق الخميس وجعلوا يحملون الغلات إليها، وكذلك اجتمع بالصينية جمع كثير فوجه أبو العباس جماعة من قواده على الخيل إلى ناحية الصينية وأمرهم بالمسير في البر وإذا عرض لهم نهر عبروه وركب هو في الشذوات والسميريات، فلما أبصرت الزنج الخيل خافوا ولجأوا إلى الماء والسفن فلم يلبثوا أن وافتهم الشذوات مع أبي العباس فلم يجدوا ملجأ فاستسلموا فقتل منهم فريق وأسر فريق وألقى نفسه في الماء فريق وأخذ أصحاب أبي العباس سفنهم وهي مملوءة أرزا وأخذ الصينية وأزاح الزنج عنها فانحازوا إلى طهثا وسوق الخميس.
وكان قد رأى أبو العباس كركيا فرماه بسهم فسقط في عسكر الزنج فعرف الزنج السهم فزاد ذلك في خوفهم، ورجع أبو العباس إلى عسكره وقد فتح الصينية.
341

وبلغه أن جيشا عظيما للزنج مع ثابت بن أبي دلف ولؤلؤ الزنجيين، فسار إليهم وأوقع بهم وقعة عظيمة وقت السحر فقتل منهم خلقا كثيرا منهم لؤلؤ وأسر ثابتا فمن عليه وجعله مع بعض قواده واستنقذ من النساء خلقا كثيرا فأمر بإطلاقهن وردهن إلى أهلهن وأخذ كل ما كان الزنج جمعوه وأمر أصحابه أن يستريحوا للمسير إلى سوق الخميس، وأمر نصيرا بتعبية أصحابه للمسير فقال له إن نهر سوق الخميس ضيق فأقم أنت ونسير نحن فأبى عليه فقال له محمد بن شعيب إن كنت لا بد فاعلا فلا تكثر من الشذوات ولا من الرجال فإن النهر ضيق.
فسار إليه ونصير بين يديه إلى فم نهر مساور فوقف أبو العباس وتقدمه نصير في خمسة عشر شذاة في نهر براطق وهو الذي يؤدي إلى مدينة الشعراني التي سماها المنيعة في سوق الخميس، فلما غاب عنه نصير خرج جماعة كثيرة في البر على أبي العباس فمنعوه من الوصول إلى المدينة وقاتلوه قتالا شديدا من أول النهار إلى الظهر وخفي عليه خبر نصير وجعل الزنج يقولون قد قتلنا نصيرا واغتم أبو العباس لذلك وأمر محمد بن شعيب بتعرف خبره فسار فرآه عند عسكر الزنج وقد أحرقه وأضرم النار في مدينتهم وهو يقاتلهم قتالا شديدا فعاد إلى أبي العباس فأخبره فسر بذلك.
وأسر نصير من الزنج جماعة كثيرة ورجع حتى وافى أبا العباس
342

فأخبره، ووقف أبو العباس يقاتلهم فرجعوا عنه وكمن بعض شذواته وأمر أن يظهر واحدة منها فطمعوا فيها وتبعوها حتى أدركوها فعلقوا بسكانها فخرجت عليهم السفن المكمنة وفيها أبو العباس فانهزم الزنج وغنم أبو العباس منهم ست سميريات وانهزموا لا يلوون على شيء من الخوف ورجع إلى عسكره سالما وخلع على الملاحين وأحسن إليهم.
ذكر وصول الموفق إلى قتال الزنج وفتح المنيعة
وفيها في صفر سار الموفق عن بغداد إلى واسط لحرب الزنج؛ وكان سبب ذلك تأخره عن ابنه أبي العباس هذه المدة أنه [كان] يجمع ويحشد الفرسان والرجالة ويستكثر من العدة التي يقوى بها على حرب الزنج، ويسد الجهات التي يخاف فيها لئلا يبقى له ما يشغل قلبه.
إلا أن الخبيث رئيس الزنج قد أرسل إلى علي بن أبان المهلبي يأمره بالاجتماع مع سليمان بن جامع على حرب أبي العباس فخاف وهنا يتطرق إلى ابنه أبي العباس فسار عن بغداد في صفر فوصل إلى واسط في ربيع الأول فلقيه ابنه وأخبره بحال جنده وقواده فخلع عليه وعليهم ورجع أبو العباس إلى معسكره بالعمر ثم نزل الموفق على نهر شداد بإزاء قرية عبد الله وأمر ابنه فنزل شرقي دجلة بإزاء فوهة بردودا وولاه مقدمته وأعطى
343

الجيش أرزاقهم وأمر ابنه أن يسير بما معه من آلات الحرب إلى فوهة نهر مساور فرحل في نخبة أصحابه، ورحل الموفق بعده فنزل فوهة ابن مساور فأقام يومين.
ثم رحل إلى المدينة التي سماها صاحب الزنج المنيعة من سوق الخميس يوم الثلاثاء لثمان خلون من ربيع الآخر من هذه السنة، وسلك بالسفن في نهر مساور وسارت الخيل بإزائه شرقي ابن مساور حتى جاوزوا برطق الذي يوصل إلى المنيعة وأمر بتعبير الخيل وتصييرها من الجانبين وأمر انه أبا العباس بالتقدم بالشذا بعامة الجيش ففعل فلقيه الزنج فحاربوه حروبا شديدة، ووافاهم أبو أحمد الموفق والخيل من جانبي النهر فلما رأوا ذلك انهزموا وتفرقوا وعلا أصحاب أبي العباس السور ووضعوا السيوف فيمن لقيهم ودخلوا المدينة فقتلوا فيها خلقا كثيرا وأسروا عالما عظيما وغنموا ما كان فيها، وهرب الشعراني ومن معه وتبعه أصحاب الموفق إلى البطائح فغرق منهم خلق كثير ولجأ الباقون إلى الآجام.
ورجع أبو أحمد إلى معسكره من يومه وقد استنقذ من المسلمات زهاء خمسة آلاف امرأة سوى من ظفر به من الزنجيات وأمر أبو أحمد بحفظ النساء وحملهن إلى واسط ليدفعن إلى أهلهن ثم بكر إلى المدينة فأمر الناس بأخذ ما فيها، فأخذ جميعه وأمر بهدم سورها وطم خندقها وإحراق ما بقي فيها من السفن وأخذوا من الطعام والشعير والأرز وغير ذلك ما لا حد عليه فأمر ببيع ذلك وصرفه إلى الجند.
344

ولما انهزم سليمان لحق بالمراز وكتب إلى الخائن صاحب الزنج بذلك فورد الكتاب عليه وهو يتحدث فانحل بطنه فقام إلى الخلاء دفعات، وكتب إلى سليمان بن جامع
يحذره مثل الذي نزل بالشعراني ويأمره بالتيقظ.
وأقام الموفق بنهر مساور يومين يتعرف أخبار الشعراني وسليمان بن جامع فأتاه من أخبره أن سليمان بن جامع بالجوانيت فسار حتى وافى الصينية وأمر ابنه أبا العباس بالتقدم بالشذا والسميريات إلى الجوانيت متخفيا فسار أبو العباس إليها فلم ير سليمان بها، ورأى هناك جمعا من الزنج مع قائدين لهم خلفهم سليمان بن جامع هناك لحفظ غلات كثيرة لهم فيها فحاربهم أبو العباس ودامت الحرب إلى أن حجز بينهم الليل، واستأمن إلى أبي العباس رجل فسأله عن سليمان بن جامع فأخبره أنه مقيم بطهثا، بمدينته التي سماها المنصورة فعاد أبو العباس إلى أبيه بالخبر فأمره بالمسير إليه فسار حتى نزل بردودا فأقام بالإصلاح ما يحتاج إليه واستكثر من الآلات التي يسد بها الأنهار ويصلح بها الطرق للخيل وخلف ببردودا بفراج التركي.
ذكر استيلاء الموفق على طهثا
لما فرغ الموفق من الذي يحتاج إليه سار عن بردودا إلى طهثا لعشر بقين من ربيع الآخر سنة سبع وستين ومائتين، وكان مسيره على الظهر في خيله وانحدرت السفن والآلات فنزل بقرية الجوزية وعقد جسرا ثم غدا فعبر خيله عليه ثم عبر بعد ذلك فسار حتى نزل معسكرا على ميلين من
345

طهثا فأقام هنالك يومين.
ومطرت السماء مطرا شديدا فشغل عن القتال ثم ركب لينظر موضعا للحرب فانتهى إلى قريب من سور مدينة سليمان بطهثا وهي التي سماها المنصورة فتلقاه خلق كثير وخرج عليهم كمناء من مواضع شتى، واشتدت الحرب وترجل جماعة من الفرسان وقاتلوا حتى خرجوا عن المضيق الذي كانوا فيه وأسروا من غلمان الموفق جماعة.
ورمى أبو العباس بن الموفق أحمد بن هندي الحيامي بسهم خالط دماغه فسقط وحمل إلى العلوي صاحب الزنج فلم يلبث أن مات، فحضره الخبيث وصلى عليه وعظمت لديه المصيبة بموته إذ كان أعظم أصحابه عناء عنه.
وانصرف الموفق إلى عسكره وقت المغرب وأمر أصحابه بالتحارس ليلتهم والتأهب للحرب. فلما أصبحوا، وذلك يوم السبت لثلاث بقين من ربيع الآخر عبأ الموفق أصحابه وجعلهم كتائب يتلو بعضهم بعضا فرسانا ورجالة، وأمر بالشذا والسميريات أن يسار بها إلى النهر الذي يشق مدينة سليمان وهو النهر المعروف بنهر المنذر ورتب أصحابه في المواضع التي يخاف منها ثم نزل فصلى أربع ركعات وابتهل إلى الله تعالى في النصر، ثم لبس سلاحه وأمر ابنه أبا العباس أن يتقدم إلى السور فتقدم إليه فرأى خندقا فأحجم الناس عنه، فحرضهم قوادهم وترجلوا معهم فاقتحموه وعبروه وانتهوا إلى الزنج وهم على سورهم.
346

فلما رأى الزنج تسرعهم إليهم ولوا منهزمين واتبعهم أصحاب أبي العباس فدخلوا المدينة، وكان الزنج قد حصنوها بخمسة خنادق وجعل أمام كل خندق سورا، فجعلوا يقفون عند كل سور وخندق، فكشفهم أصحاب أبي العباس ودخلت الشذوات والسميريات المدينة من النهر فجعلت تغرق كل ما مرت لهم به من سميرية وشذاة، وقتلوا من بجانبي النهر وأسروا حتى أجلوهم عن المدينة وعما اتصل بها، وكان مقدار العمارة فيها فرسخا.
وحوى الموفق ذلك كله، وأفلت سليمان بن جامع ونفر من أصحابه وكثر القتل فيهم والأسر، واستنقذ أبو أحمد من نساء أهل واسط والكوفة والقرى وغيرها وصبيانهم أكثر من عشرين ألفا فأمر أبو أحمد بحملهم إلى واسط ودفعهم إلى أهليهم، وأخذ ما كان فيها من الذخائر والأموال وأمر بصرفه إلى الأجناد، وأسر من نساء سليمان وأولاده عدة وتخلص من كان أخذ من أصحاب الموفق، ونجا جمع كثير إلى الآجام، فأمر أصحابه بطلبهم فأقام سبعة عشر يوما وهدم سور المدينة وطم خنادقها، وجعل لكل من أتاه برجل منهم جعلا فكان إذا أتى بالواحد منهم عفا عنه وضمه إلى قواده وغلمانه لما كان دبره من استمالتهم.
وأرسل في طلب سليمان بن جامع حتى بلغوا دجلة العوراء فلم يظفروا به وأمر زيرك بالمقام بطهثا ليتراجع إلى تلك الناحية أهلها ويأمنوا.
347

ذكر مسير الموفق إلى الأهواز وإجلاء الزنج عنها
فلما فرغ أبو أحمد الموفق من المنصور رحل نحو الأهواز لإصلاحها وإجلاء الزنج عنها، فأمر ابنه أبا العباس أن يتقدمه فأمر بإصلاح الطريق للجيوش، واستخلف على من ترك من عسكره بواسط ابنه هارون ولحقه زيرك فأخبره بعود أهلها طهثا إليها وأمن الناس فأمره الموفق بالانحدار في الشذوات والسميريات مع نصير، وتتبع المنهزمين والإيقاع بهم وبمن ظفروا به من الزنج حتى ينتهي إلى مدينة الخبيث بنهر أبي الخصيب، وسار.
وارتحل الموفق مستهل جمادى الآخرة من واسط حتى أتى السوس وأمر مسرورا بالقدوم عليه وهو عامله هناك فأتاه.
وكان الخبيث لما بلغه ما عمل الموفق بسليمان بن جامع والزنج خاف أن يأتيه وهو على حال تفرق أصحابه عنه وكتب إلى علي بن أبان بالقدوم عليه وكان بالأهواز في ثلاثين ألفا فترك جميع ما كان عنده من طعام ودواب وأغنام وغير ذلك، واستخلف عليه محمد بن يحيى الكرنبائي فلم يقم واتبع عليا.
وكتب صاحب الزنج أيضا إلى بهبود بن عبد الوهاب وهو بالفيدم والباسيان وما اتصل بهما يأمره بالقدوم عليه فترك ما كان عنده من الذخائر وسار نحوه فحوى ذلك جميعه الموفق وقوي به على حرب الخبيث.
348

ولما سار علي بن أبان عن الأهواز تخلف بها جمع من أصحابه زهاء ألف رجل فأرسلوا إلى الموفق يطلبون الأمان فأمنهم فقدموا عليه فأجرى عليهم الأرزاق ثم رحل عن السوس إلى جنديسابور وتستر وجبى الأموال، ووجه إلى محمد بن عبيد الله الكردي وكان خائفا منه فأمنه وعفا عنه فطلب منه الأموال والعساكر فحضر عنده فأحسن إليه.
ثم رحل إلى عسكر مكرم ووافى الأهواز ثم رحل عنها إلى نهر المبارك من فرات البصرة، وكتب إلى ابنه هارون ليوافيه بجميع الجيش إلى نهر المبارك فلقيه الجيش
بالمبارك منتصف رجب.
وكان زيرك ونصير لما خلفهما الموفق ليتتبعا الزنج انحدروا حتى وافيا الأبلة فاستأمن إليهما رجل أخبرهما أن الخبيث قد أنفذ إليهما عددا كثيرا في الشذوات والسميريات إلى دجلة ليمنع عنها من يريدها، فإنهم يريدون عسكر نصير وكان عسكره بنهر المرأة فرجع نصير إلى عسكره من الأبلة لما بلغه ذلك وسار زيرك من طريق آخر لأنه قدر أن الزنج يأتي عسكر نصير من ذلك الوجه فكان كذلك فلقيهم في طريقهم فظفر بهم وانهزموا منه وكانوا قد جعلوا كمينا فدل زيرك عليه فتوغل حتى أتاه فقتل من الكمناء جماعة وأسر جماعة.
وكان ممن ظفر به مقدم الزنج وهو أبو عيسى محمد بن إبراهيم البصري وهو من أكابر قوادهم وأخذ منهم ما يزيد على ثلاثين سميرية فجزع لذلك جميع الزنج فاستأمن إلى نصير منهم زهاء ألفي رجل فكتب بذلك إلى الموفق فأمره بقبولهم والإقبال إليه بالنهر المبارك فوافاه هناك.
349

وأمر الموفق ابنه أبا العباس بالمسير إلى محاربة العلوي بنهر أبي الخصيب فسار إليه فحاربه من بكرة إلى الظهر فاستأمن إليه قائد من قواد العلوي ومعه جماعة فكسر ذلك الخبيث وعاد أبو العباس بالظفر، وكتب الموفق إلى العلوي كتابا يدعوه إلى التوبة والإنابة إلى الله تعالى مما ركب من سفك الدماء وانتهاك المحارم وإخراب البلدان واستحلال الفروج والأموال وادعاء النبوة والرسالة ويبذل له الأمان، فوصل الكتاب إليه فقرأه ولم يكتب جوابه.
ذكر محاصرة مدينة صاحب الزنج
لما أنفذ الموفق الكتاب إلى العلوي ولم يرد جوابه عرض عسكره وأصلح آلاته ورتب قواده ثم سار هو وابنه أبو العباس في العشرين من رجب إلى مدينة الخبيث التي سماها المختارة وأشرف عليها وتأملها ورأى حصانتها بالأسوار والخنادق وغور الطريق إليها وما أعد من مجانيق والعرادات والقسي وسائر الآلات على سورها مما لم ير مثله لمن تقدم من منازعي السلطان ورأى من كثرة عدد المقابلة ما استعظمه.
فلما عاين الزنج أصحاب الموفق ارتفعت أصواتهم حتى ارتجت الأرض فأمر الموفق ابنه بالتقدم إلى سور المدينة والرمي لمن عليه بالسهام فتقدم حتى الصق شذواته بمسناة قصر الخبيث، فكثر الزنج وأصحابهم على أبي العباس ومن معه وتتابعت سهامهم وحجارة مجانيقهم ومقاليعهم،
350

ورمى عوامهم بالحجارة عن أيديهم حتى ما يقع الطرف إلا على سهم أو حجر.
وثبت أبو العباس فرأى العلوي من صبره وثبات أصحابه ما لا رأى مثله من أحد [ممن] حاربهم، ثم أمرهم الموفق بالرجوع ففعلوا، واستأمن إلى الموفق مقاتلة في سميريتين فأمنهم على من فيهما من المقاتلة والملاحين على أقدارهم ووصلهم وأمر بإدنائهم إلى موضع يراهم فيه نظراؤهم وكان ذلك من أنجع المكايد فلما رآهم الباقون رغبوا في الأمان وتنافسوا فيه وابتدروا إليه فصار إلى الموفق عدد كثير ذلك اليوم من أصحاب السميريات فعمهم بالخلع والصلات.
فلما رأى صاحب الزنج ذلك أمر برد أصحاب السميريات إلى نهر أبي الخصيب ووكل بفوهة النهر من يمنعهم من الخروج وأمر بهبود وهو نم أشرس قواده أن يخرج في الشذوات فخرج وبرز إليه أبو العباس في شذواته وقاتله واشتدت الحرب فانهزم بهبود إلى فناء قصر الخبيث وأصابته طعنتان وجرح بالسهام وأوهنت أعضاؤه بالحجارة فأولجوه نهر أبي الخصيب وقد أشفى على الموت فقتل ممن كان معه قائد ذو بأس يقال له عميرة وظفر أبو العباس بشذاة فقتل أهلها ورجع هو ومن معه سالمين، فاستأمن إلى أبي العباس أهل شذاة منهم فأمنهم وأحسن إليهم وخلع عليهم.
ورجع الموفق ومن معه إلى عسكره بالنهر المبارك واستأمن إليه عند
351

منصرفه خلق كثير فأمنهم وخلع عليهم ووصلهم وأثبت أسماءهم مع أبي العباس وأقام في عسكره يومين ثم نقل عسكره لست بقين من رجب إلى نهر جطى فنزله وأقام به إلى منتصف شعبان لم يقاتل.
ثم ركب منتصف شعبان في الخيل والرجال وأعد الشذوات والسميريات وكان من معه من الجند والمتطوعة زهاء خمسين ألفا وكان من مع الخبيث أكثر من ثلاثمائة ألف إنسان كلهم من يقاتل بسيف أو رمح أو قوس أو مقلاع أو منجنيق وأضعفهم رماة الحجارة من أيديهم وهم بالنظارة والنساء تشركهم في ذلك، فأقام أبو أحمد ذلك اليوم ونودي بالأمان للناس كافة إلا الخبيث، وكتب الأمان في رقاع ورماها في السهام ووعد فيها الإحسان فمالت قلوب أصحاب الخبيث واستأمن ذلك اليوم خلق كثير فخلع عليهم ووصلهم ولم يكن ذلك اليوم حرب.
ثم رحل من نهر جطى من الغد فعسكر قرب مدينة الخبيث ورتب قواده وأجناده وعين لكل طائفة موضعا يحافظون عليه ويضبطونه، وكتب الموفق إلى البلاد في عمل السميريات والشذوات والزواريق والإكثار منها ليضبط بها الأنهار ليقطع الميرة عن الخبيث وأسس في منزلته مدينة سماها الموفقية وكتب إلى عماله في النواحي بحمل الأموال والميرة في البر والبحر إلى مدينته وأمرهم بإنفاذ من يصلح للإثبات في الديوان وأقام ينتظر ذلك شهرا، فوردت عليه الميرة متتابعة وجهز التجار صنوف التجارات إلى
352

الموفقية واتخذت فيها الأسواق وردتها مراكب البحر، وبنى الموفق بها المسجد الجامع وأمر الناس بالصلاة فيه، فجمعت هذه المدينة من المرافق وسيق إليها من صنوف الأشياء ما لم يكن في مصر من الأمصار القديمة وحملت الأموال وأدرت الأرزاق.
وعبرت طائفة من الزنج فنهبوا أطراف عسكر نصير وأوقعوا به فأمر الموفق نصيرا بجمع عسكره وضبطهم، وأمر الموفق ابنه أبا العباس بالمسير إلى طائفة من الزنج كانوا خارج المدينة فقاتلهم فقتل منهم خلقا كثيرا وغنم ما كان معهم، فصار إليه طائفة منهم في الأمان فأمنهم وخلع عليهم ووصلهم، وأقام أبو أحمد يكايد الخبيث ببذل
الأموال لمن صار إليه ومحاصرة الباقين والتضييق عليهم.
وكانت قافلة قد أتت من الأهواز وأسرى إليها بهبود في سميريات فأخذها وعظم ذلك على الموفق وغرم لأهلها ما أخذ منهم وأمر بترتيب الشذوات على مخارج الأنهار، وقلد ابنه أبا العباس الشذوات وحفظ الأنهار بها من البحر إلى المكان الذي هم به.
وفي رمضان عبر طائفة من أصحاب الخبيث يريدون الإيقاع بنصير فنذر بهم الناس فخرجوا إليهم فردوهم خائبين، وظفروا بصندل الزنجي وكان يكشف رؤوس المسلمات ويقلبهن تقليب الإماء، فلما أتى به أمر الموفق أن يرمى بالسهام ثم قتله.
واستأمن إلى الموفق من الزنج خلق كثير فبلغت عدة من استأمن إليه
353

في آخر رمضان خمسين ألفا.
وفي شوال انتخب صاحب الزنج من عسكره خمسة آلاف من شجعانهم وقوادهم، وأمر علي بن أبان المهلبي بالعبور لكبس عسكر الموفق فكان فيهم أكثر من مائتي قائد فعبروا ليلا واختفوا في آخر النخل وأمرهم إذا ظهر أصحابهم وقاتلوا الموفق من بين يديه ظهروا وحملوا على عسكره وهم غارون مشاغيل بحرب من أمامهم، فاستأمن منهم إنسان من الملاحين فأخبر الموفق فسير ابنه أبا العباس لقتالهم وضبط الطرق التي يسلكونها فقاتلوا قتالا شديدا وأسر أكثرهم وغرق منهم خلق كثير وقتل بعضهم ونجا بعضهم، فأمر أبو العباس أن يحمل الأسرى والرؤوس والسميريات ويعبر بهم على مدينة الخبيث ففعلوا ذلك.
وبلغ الموفق أن الخبيث قال لأصحابه إن الأسرى من المستأمنة وأن الرؤوس تمويه عليهم، فأمر بإلقاء الرؤوس في منجنيق إليهم، فلما رأوها عرفوها فأظهروا الجزع والبكاء وظهر لهم كذب الخبيث.
وفيها أمر الخبيث باتخاذ شذوات فعملت له فكانت له خمسون شذاة فقسمها بين ثلاثة من قواده وأمرهم بالتعرض لعسكر الموفق وكانت شذوات الموفق يومئذ قليلة لأنه لم يصل إليه ما أمر بعمله، والتي كانت عنده منها فرقها على أفواه الأنهار لقطع الميرة عن الخبيث، فخافهم أصحاب الموفق فورد عليهم شذوات كان الموفق أمر بعملها فسير ابنه أبا العباس ليوردها خوفا عليها من الزنج، فلما أقبل بها رآها الزنج فعارضوها بشذواتهم فقصدهم غلام لأبي العباس ليمنعهم وقاتلهم فانكشفوا بين يديه، وتبعهم حتى أدخلهم نهر أبي الخصيب وانقطع عن أصحابه فعطفوا عليه فأخذوه ومن
354

معه بعد حرب شديدة فقتلوا، وسلمت الشذوات مع أبي العباس وأصلحها ورتب فيها من يقاتل.
ثم أقبلت شذوات العلوي على عادتها فخرج إليهم أبو العباس في أصحابه فقاتلهم فهزمهم وظفر منهم بعدة شذوات، فقتل منهم من ظفر به فيها، فمنع الخبيث أصحابه من الخروج عن فناء قصره، وقطع أبو العباس الميرة عنهم فاشتد جزع الزنج، وطلب جماعة من وجوه أصحابه الأمان فأمنوا، وكان منهم محمد بن الحرث القمي وكان إليه ضبط السور مما يلي عسكر الموفق، فخرج ليلا فأمنه الموفق ووصله بصلات كثيرة له ولمن خرج معه وحمله على عدة دواب بآلاتها وحليتها، وأراد إخراج زوجته فلم يقدر فأخذها الخبيث فباعها؛ ومنهم أحمد اليربوعي وكان من أشجع رجال العلوي وغيرهما، فخلع عليهم ووصلهم بصلات كثيرة.
ولما انقطعت النيرة والمواد عن العلوي أمر شبلا وأبا البذي وهما من رؤساء قواده [الذين] يثق بهم، بالخروج إلى البطيحة في عشرة آلاف من ثلاث وجوه للغارة على المسلمين، وقطع الميرة عن الموفق فسير الموفق إليهم زيرك في جمع من أصحابه فلقيهم بنهر ابن عمر، فرأى كثرتهم فراعه ذلك ثم استخار الله تعالى في قتالهم، فحمل عليهم وقاتلهم فقذف الله تعالى الرعب في قلوبهم فانهزموا ووضع فيهم السيف وقتل منهم مقتلة عظيمة وغرق منهم مثل ذلك وأسر خلقا كثيرا، وأخذ من سفنهم ما أمكنه وغرق ما أمكنه تغريقه، وكان ما أخذه من سفنهم نحو أربعمائة سفينة وأقبل بالأسارى والرؤوس إلى مدينة الموفق.
355

ذكر عبور الموفق إلى مدينة صاحب الزنج
وفيها عبر الموفق إلى مدينة الخبيث لست بقين من ذي الحجة؛ وكان سبب ذلك أن جماعة من قواد الخبيث لما رأوا ما حل بهم من البلاء من قبل من يظهر منهم وشدة الحصار على من لزم المدينة، وحال من خرج بالأمان جعلوا يهربون من كل وجه ويخرجون إلى الموفق بالأمان.
فلما رأى الخبيث ذلك جعل على الطرق التي يمكنهم الهرب منها من يحفظها؛ فأرسل جماعة من القواد إلى الموفق يطلبون الأمان وأن يوجه لمحاربة الخبيث جيشا ليجدوا طريقا إلى المسير إليه، فأمر ابنه أبا العباس بالمسير إلى النهر الغربي وبه علي بن أبان يحميه، فنهض أبو العباس ومعه الشذوات والسميريات والمعابر فقصده وتحارب هو وعلي بن أبان واشتدت الحرب واستظهر أبو العباس على الزنج، وأمد الخبيث أصحابه بسليمان بن جامع في جمع كثير، فاتصلت الحرب من بكرة إلى العصر، وكان الظفر لأبي العباس، وصار إليه القوم الذين كانوا طلبوا الأمان.
واجتاز أبو العباس بمدينة الخبيث عند نهر الأتراك فرأى قلة الزنج هناك فطمع فيهم فقصدهم أصحابه وقد انصرف أكثرهم إلى الموفقية، فدخلوا ذلك المسلك وصعد جماعة منهم السور وعليه فريق من الزنج فقتلوهم، وسمع العلوي فجهز أصحابه لحربهم، فلما رأى أبو العباس اجتماعهم وحشدهم لحربه مع قلة أصحابه رحل فأرسل إلى الموفق يستمده فأتاه من خف من الغلمان فظهروا على الزنج فهزموهم.
356

وكان سليمان بن جامع لما رأى ظهور أبي العباس سار في النهر مصعدا في جمع كبير ثم أتى أصحاب أبي العباس من خلفهم وهم يحاربون من بإزائهم، وخفقت طبوله فانكشف أصحاب أبي العباس ورجع عليهم من كان انهزم عنهم من الزنج فأصيب جماعة من غلمان الموفق وغيرهم، فأخذ الزنج عدة أعلام وحامى أبو العباس عن أصحابه فسلم أكثرهم ثم انصرف.
وطمع الزنج بهذه الوقعة وشدت قلوبهم فاجمع الموفق على العبور إلى مدينتهم بجيوشه أجمع، وأمر الناس بالتأهب وجمع المعابر والسفن وفرقها عليهم، وعبر يوم الأربعاء لست بقين من ذي الحجة وفرق أصحابه على المدينة ليضطر الخبيث إلى تفرقه أصحابه. وقصد الموفق إلى ركن من أركان المدينة وهو أحصن ما فيها وقد أنزله الخبيث ابنه وهو انكلاي وسليمان بن جامع وعلي بن أبان وغيرهما وعليه من المجانيق والآلات للقتال ما لا حد [له].
فلما التقى الجمعان أمر الموفق غلمانه بالدنو من ذلك الركن وبينهم وبين ذلك السور نهر الأتراك وهو نهر عريض كثير الماء فلما انتهوا إليه أحجموا عنه، فصاح بهم الموفق وحرضهم على العبور فعبروا سباحة والزنج ترميهم بالمجانيق والمقاليع والحجارة والسهام، فصبروا حتى جاوزوا النهر وانتهوا إلى السور، ولم يكن عبر معهم من الفعلة من كان أعد لهدم السور فتولى الغلمان تشعيث السور بما كان معهم من السلاح وسهل الله تعالى ذلك، وكان معهم بعض السلاليم فصعدوا على ذك الركن ونصبوا علما من أعلام الموفق، فانهزم الزنج عنه وأسلموه بعد قتال شديد، وقتل من الفريقين خلق كثير، ولما علا أصحاب الموفق السور أحرقوا ما كان عليه من منجنيق وقوس وغير ذلك.
357

وكان أبو العباس قصد ناحية أخرى فمضى علي بن أبان إلى مقاتلته فهزمه أبو العباس وقتل جمعا كثيرا من أصحابه ونجا علي، ووصل أصحاب أبي العباس إلى السور فثلموا في ثلمة ودخلوه فلقيهم سليمان بن جامع فقاتلهم حتى ردهم إلى مواضعهم.
ثم أن الفعلة وافوا السور فهدموه في عدة مواضع فعملوا على الخندق جسرا فعبر عليه الناس من ناحية الموفق فانهزم الزنج عن سور باب كانوا قد اعتصموا به وانهزم الناس معهم وأصحاب الموفق يقتلونهم حتى انتهوا إلى نهر ابن سمعان، وقد صارت دار ابن سمعان في أيدي أصحاب الموفق فأحرقوها وقاتلهم الزنج هناك ثم انهزموا حتى بلغوا ميدان الخبيث، فركب في جمع من أصحابه فانهزم أصحابه عنه وقرب منه بعض رجالة الموفق، فضرب وجه فرسه بترسه وكان ذلك مع مغيب الشمس، فأمر الموفق الناس بالرجوع فرجعوا ومعهم من رؤوس أصحاب الخبيث شيء كثير.
وكان قد استأمن إلى أبي العباس أول النهار نفر من قواد الخبيث فتوقف عليهم حتى حملهم في السفن وأظلم الليل وهبت الريح ريح عاصف وقوي الجزر فلصق أكثر السفن بالطين، فخرج جماعة من الزنج فنالوا منها وقتلوا فيها نفرا وكان بهبود بإزاء مسرور البلخي، فأوقع أصحاب مسرور وقتل منهم جماعة وأسر جماعة فكسر ذلك من نشاط أصحاب الموفق.
وكان بعض أصحاب الخبيث قد انهزم على وجهه نحو نهر الأمير والقندل وعبادان، وهرب جماعة من الأعراب إلى البصرة وأرسلوا يطلبون
358

الأمان فأمنهم الموفق وخلع عليهم وأجرى الأرزاق عليهم، وكان ممن رغب في الأمان من قواد الفاجر ريحان بن صالح المغربي، وكان من رؤساء أصحابه أرسل يطلب الأمان وأن يرسل جماعة إلى مكان ذكره ليخرج إليهم، ففعل الموفق فصار إليه فخلع عليه وأحسن إليه ووصله وضمه إلى أبي العباس، واستأمن من بعده جماعة من أصحابه وكان خروج ريحان لليلة بقيت من ذي الحجة من السنة.
ذكر الحرب بين الخوارج ببلد الموصل
في هذه السنة كان بين هارون الخارجي وبين محمد بن خرزاد وهو من الخوارج أيضا وقعة ببعدرى من أعمال الموصل.
وسبب ذلك إنا قد ذكرنا سنة ثلاث وستين ومائتين الحرب الحادثة بين هارون ومحمد بعد موت مساور، فلما كان الآن جمع محمد بن خرزاد أصحابه وسار إلى هارون محاربا له، فنزل واسط وهي محلة بالقرب من الموصل وكان يركب البقر لئلا يفر من القتال ويلبس الصوف الغليظ ويوقع ثيابه، وكان كثير العبادة والنسك ويجلس على الأرض ليس بينها وبينه حائل.
فلما نزل واسط خرج إليه وجوه من أهل الموصل، وكان هارون بمعلثايا
359

يجمع لحرب محمد، فلما سمع بنزول محمد عند الموصل سار إليه ورحل ابن خرزاد نحوه فالتقوا بالقرب من قرية شمراخ واقتتلوا قتالا شديدا كان فيه مبارزة وحملات كثيرة، فانهزم هارون وقتل من أصحابه نحو مائتي رجل منهم جماعة من الفرسان المشهورين، ومضى هارون منهزما فعبر دجلة إلى العرب قاصدا بني تغلب فنصروه واجتمعوا إليه، ورجع ابن خرزاد من حيث أقبل، وعاد هارون إلى الحديثة فاجتمع عليه خلق كثير، وكاتب أصحاب ابن خرزاد واستمالهم فأتاه منهم الكثير ولم يبق مع ابن خرزاد إلا عشيرته من الشمردلية وهم من أهل شهرزور، وإنما فارقه أصحابه لأنه كان خشن العيش وهو ببلد شهرزور وهو بلد كثير الأعداء من الأكراد وغيرهم.
وكان هارون ببلد المصول قد صلح حاله وحال أصحابه، فلما رأى أصحاب ابن خرزاد ذلك مالوا إليه وقصدوه وواقع ابن خرزاد بنواحي شهرزور الأكراد الجلالية وغيرهم، فقتل وتفرد هارون بالرياسة على الخوارج وقوي وكثير أتباعه وغلبوا على القرى والرساتيق، وجعلوا على دجلة من يأخذ الزكاة من الأموال المنحدرة والمصعدة وبثوا نوابهم في الرساتيق يأخذون الأعشار من الغلات.
360

ذكر عدة حوادث
في هذه السنة ابتدر ابن حفصون بالأندلس بالخلاف على محمد بن عبد الرحمن صاحب الأندلس بناحية الرية، فخرج إليه جيش من تلك الناحية مع عاملها فقاتله فانهزم الجيش وقوي أمر عمر بن حفصون وشاع ذكره وأتاه من يريد الشر والفساد فسير محمد صاحب الأندلس عاملا آخر في جيش فصالحه عمر فطلب العامل كل من كان له أثر في مساعدة عمر فأهلكه، وفيهم من أبعده فاستقامت تلك الناحية.
وفيها كانت زلزلة عظيمة بالشام ومصر وبلاد الجزيرة وإفريقية والأندلس، وكان قبلها هدة عظيمة قوية.
وفيها ولي جزيرة صقلية الحسن بن العباس فبث السرايا إلى كل ناحية وخرج إلى قطانية فأفسد زرعها وزرع طبرمين وقطع أشجارها وسار إلى بقارة فأفسد زرعها وانصرف إلى بلرم، وأخرجت الروم سرايا فأصابوا من المسلمين كثيرا وذلك أيام الحسن بن العباس.
وفيها حبس السلطان محمد بن عبد الله بن طاهر وعدة من أهل بيته بعد ظفر الخجستاني بعمرو بن الليث، وكان عمرو اتهمه بمكاتبة الخجستاني والحسين بن طاهر حيث كان يذكر أنه على منابر خراسان.
وفيها كانت بين كيغلغ التركي وبين أصحاب أحمد بن عبد العزيز
361

بن أبي دلف حرب انهزم فيها أصحاب أحمد، وسار كيغلغ إلى همذان فوافاه أحمد بن عبد العزيز فيمن اجتمع إليه من أصحابه فانهزم كيغلغ وانحاز إلى الصيمرة.
وفيها في ربيع الآخر ماتت أم حبيب بنت الرشيد.
وفيها كانت وقعة بين إسحاق بن كنداجيق وإسحاق بن أيوب وعيسى بن الشيخ وأبي المغراء وحمدان بن حمدان ومن اجتمع إليهم من ربيعة وتغلب وبكر واليمن، فهزمهم ابن كنداجيق إلى نصيبين وتبعهم إلى آمد وخلف على آمد من حصر عيسى، فكانت بينهم وقعات عند آمد.
وفيها دخل الخجستاني في نيسابور وانهزم عمرو بن الليث وأصحابه فأساء السيرة في أهلها وهدم دور معاذ بن مسلم وضرب من قدر عليه منهم وترك ذكر محمد بن طاهر ودعا للمعتمد ولنفسه.
وفيها في شوال كانت لأصحاب أبي الساج وقعة بالهيصم العجلي قتلوا فيها مقدمته وغنموا عسكره.
وفيها أقبل أحمد بن عبد الله الخجستاني يريد العراق فبلغ سمنان وتحصن منه أهل الري فرجع إلى خراسان.
وفيها رجع خلق كثير من الحجاج من طريق مكة لشدة الحر ومضى خلق كثير فمات منهم عالم عظيم من الحر والعطش، وذاك كله في البيداء،
362

وأوقعت فزارة فيها بالتجار فأخذ فيما قيل سبعمائة حمل بز.
وفيها نفي الطباع من سامراء، وفيها ضرب الخجستاني لنفسه دنانير ودراهم وحج بالناس هارون بن محمد بن إسحاق بن موسى بن عيسى الهاشمي.
وفيها توفي محمد بن حماد بن بكر بن حماد أبو بكر المقرئ صاحب خلف بن هشام في ربيع الآخر ببغداد.
363

268
ثم دخلت سنة ثمان وستين ومائتين
ذكر أخبار الزنج
في هذه السنة في المحرم خرج إلى الموفق من قواد الخبيث جعفر بن إبراهيم المعروف بالسحان وكان من ثقات الخبيث فارتاع لذلك، وخلع عليه الموفق وأحسن إليه وحمله في سميرية إلى إزاء قصر الخبيث، فكلم الناس من أصحابه وأخبرهم أنهم في غرور من الخبيث، وأعلمهم بما وقف عليه من كذب الخبيث وفجوره، فاستأمن في ذلك اليوم خلق كثير من قواد الزنج وغيرهم، فأحسن إليهم الموفق وتتابع الناس في طلب الأمان.
ثم أقام الموفق لا يحارب ليريح أصحابه إلى شهر ربيع الآخر فلما انتصف ربيع الآخر قصد الموفق إلى مدينة الخبيث وفرق قواده على جهاتها وجعل مع كل طائفة منهم من النقابين جماعة لهدم السور، وتقدم إلى جميعهم أن لا يزيدوا على هدم السور ولا يدخلوا المدينة، وتقدم إلى الرماة أن يحموا بالسهام من يهدم السور وينقبه فتقدموا إلى المدينة من جهاتها وقابلوها فوصلوا إلى السور وثلموه في مواضع كثيرة.
ودخل أصحاب الموفق من جميع تلك الثلم، وجاء أصحاب الخبيث
364

يحاربونهم، فهزمهم أصحاب الموفق وتبعوهم حتى أوغلوا في طلبهم، فاختلف بهم طرق المدينة فبلغوا أبعد من الموضع الذي وصلوا إليه في المرة الأولى، وأحرقوا وأسروا، وتراجع الزنج عليهم وخرج الكمناء من مواضع يعرفونها ويجهلها والآخرون فتحيروا ودافعوا عن أنفسهم وتراجعوا نحو دجلة بعد أن قتل منهم جماعة وأخذ الزنج أسلابهم.
ورجع الموفق إلى مدينته وأمر بجمعهم فلامهم على مخالفة أمره والإفساد عليه من راية وتدبيره، وأمر بإحصاء من فقد وأقر ما كان لهم من رزق على أولادهم وأهليهم، فحسن ذلك عندهم وزاد في صحة نياتهم.
ذكر الوقعة بين المعتضد والأعراب
في هذه السنة أوقع أبو العباس أحمد بن الموفق وهو المعتضد بالله بقوم من الأعراب كانوا يحملون الميرة إلى عسكر الخبيث فقتل منهم جماعة وأسر الباقين، وغنم ما كان معهم وأرسل إلى البصرة من أقام بها لأجل قطع الميرة.
وسير الموفق رشيقا مولى أبي العباس فأوقع بقوم من بين تميم كانوا يجلبون الميرة إلى الخبيث فقتل أكثرهم وأسر جماعة منهم، فحمل الأسرى والرؤوس إلى الموفقية فأمر بهم الموفق فوقفوا بإزاء عسكر الزنج، وكان فيهم رجل يسفر بين صاحب الزنج والإعراب بجلب الميرة، فقطعت
365

يده ورجله، ألقي في عسكر الخبيث وأمر بضرب أعناق الأسارى، وانقطعت الميرة بذلك عن الخبيث بالكلية فأضر بهم الحصار وأضعف أبدانهم، فكان يسأل الأسير والمستأمن عن عهده بالخبز فيقول عهدي به منذ زمان طويل.
فلما وصلوا إلى هذا الحال رأى الموفق أن يتابع عليهم الحرب ليزيدهم ضرا وجهدا، فكثر المستأمنون في هذا الوقت وخرج كثير من أصحاب الخبيث فتفرقوا في القرى والأنهار البعيدة في طلب القوت، فبلغ ذلك الموفق فأمر جماعة من قواد غلمانه السودان بقصد تلك المواضع ويدعون من بها إليه فمن أبى قتلوه، فقتلوا منهم خلقا كثيرا وأتاه أكثر منهم.
فلما كثر المستأمنون عند الموفق عرضهم فمن كان ذا قوة وجلد أحسن إليه وخلطهم بغلمانه ومن كان منهم ضعيفا أو شيخا أو جريحا قد أزمنته الجراحة كساه وأعطاه الدراهم وأمر به أن يحمل إلى عسكر الخبيث فيلقى هناك ويأمره بذكر ما رأى من إحسان الموفق إلى ما صار إليه وأن ذلك رأيه فيهم. فتهيأ له بذلك ما أراد من استمالة أصحاب الخبيث.
وجعل الموفق وابنه أبو العباس يلازمان قال الخبيث تارة هذا وتارة هذا وجرح أبو العباس ثم برأ.
366

وكان من جملة من قتل من أعيان قواد الخبيث بهبود بن عبد الوهاب وكان كثير الخروج في السميريات، وكان ينصب عليها أعلاما تشبه أعلام الموفق فإذا رأى من يستضعفه أخذه وأخذ من ذلك مالا جزيلا فواقعه في بعض خرجاته أبو العباس فأفلت بعد أن أشفى على الهلاك، ثم أنه خرج مرة أخرى فرأى سميرية فيها بعض أصحاب أبي العباس فقصدها طامعا في أخذها فحاربه أهلها فطعنه غلام من غلمان أبي العباس في بطنه فسقط في الماء فأخذه أصحابه فحملوه إلى عسكر الخبيث فمات قبل وصوله فأراح الله المسلمين من شره.
وكان قتله من أعظم الفتوح وعظمت الفجيعة على الخبيث وأصحابه واشتد جزعهم عليه، وبلغ الخبر الموفق بقتله فأحضر ذلك الغلام فوصله وكساه وطوقه وزاد في أرزاقه وفعل بكل من كان معه في تلك السميرية بنحو ذلك؛ ثم ظفر الموفق بالدوابني وكان ممايلا لصاحب الزنج.
ذكر أخبار رافع بن هرثمة
لما قتل أحمد بن عبد الله الخجستاني على ما ذكرناه وكان قتله هذه السنة اتفق أصحابه على رافع بن هرثمة فولوه أمرهم.
وكان رافع هذا من أصحاب محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر، فلما استولى يعقوب بن الليث على نيسابور وأزال الطاهرية صار رافع في جملته،
367

فلما عاد يعقوب إلى سجستان صحبه رافع وكان طويل اللحية كريه الوجه قليل الطلاقة، فدخل يوما على يعقوب فلما خرج من عنده قال أنا لا أميل إلى هذا الرجل فليلحق بما شاء من البلاد؛ فقيل له ذلك ففارقه وعاد إلى منزله بتامين وهي من باذغيس وأقام به إلى أن استقدمه الخجستاني على ما ذكرناه وجعله صاحب جيشه.
فلما قتل الخجستاني اجتمع الجيش عليه وهو بهراة فأمروه كما ذكرنا وصار رافع من هراة إلى نيسابور وكان أبو طلحة بن شركب قد وردها من جرجان فحصره فيها رافع وقطع الميرة عنه وعن نيسابور فاشتد الغلاء بها ففارقها أبو طلحة ودخلها رافع فأقام بها وذلك سنة تسع وستين ومائتين، فسار أبو طلحة إلى مرو وولى محمد بن مهتدى هراة وخطب لمحمد بن طاهر بمرو وهراة فقصده عمرو بن الليث فحاربه فهزمه واستخلف عمرو بمرو محمد بن سهل بن هاشم وعاد عنها، وخرج شركب إلى بيكند واستعان بإسماعيل بن أحمد الساماني فأمده بعسكره فعاد إلى مرو فأخرج عنها محمد بن سهل وأغار على أهل البلد وخطب لعمرو بن الليث وذلك في شعبان سنة إحدى وسبعين [ومائتين].
وقلد الموفق تلك السنة أعمال خراسان محمد بن طاهر وكان ببغداد فاستخلف محمد على أعماله رافع بن هرثمة ما خلا ما وراء النهر فإنه أقر عليه نصر بن أحمد، ووردت كتب الموفق إلى خراسان بذلك وبعزل عمرو بن الليث ولعنه، فسار رافع إلى هراة وبها محمد بن مهتدي خليفة أبي طلحة شركب فقتله يوسف بن معبد وأقام بهراة، فلما وافاه رافع استأمن إليه يوسف فأمنه وعفا عنه، فاستعمل على هراة مهدي بن محسن،
368

فاستمد رافع إسماعيل بن أحمد فسار إليه بنفسه في أربعة آلاف فارس، واستقدم رافع أيضا علي بن الحسين المروروذي فقدم عليه فساروا بأجمعهم إلى شركب وهو بمرو فحاربوه فهزموه وعاد إسماعيل إلى محازل (؟) وذلك سنة اثنتين وسبعين ومائتين، فسار شركب إلى هراة فطابقه مهدي وخالف رافعا فقصدهما رافع فهزمهما.
وأما شركب فإنه لحق بعمرو بن الليث وأما مهدي فإنه اختفى في سرب فدل عليه رافع فأخذه وقال له تبا لك يا قليل الوفاء ثم عفا عنه وخلى سبيله وسار رافع إلى خوارزم سنة اثنتين وسبعين [ومائتين]، فجبى أموالها ورجع إلى نيسابور.
ذكر الحوادث بالأندلس وبإفريقية
في هذه السنة سير محمد بن عبد الرحمن صاحب الأندلس جيشا مع ابنه المنذر إلى المخالفين عليه، فقصد مدينة سرقسطة فأهلك زرعها وخرب بلدها، وافتتح حصن روطة فأخذ منه عبد الواحد الروطي وهو من أشجع أهل زمانه وتقدم إلى دير تروجة وبلد محمد بن مركب بن موسى فهتكهما بالغارة، وقصد مدينة لاردة، وقرطاجنة فكان فيها إسماعيل بن موسى فحاربه فأذعن إسماعيل بالطاعة وترك الخلاف وأعطى رهائنه على ذلك،
369

وقصد مدينة أنقرة (؟) وهي للمشركين فافتتح هنالك حصونا وعاد.
وفيها أوقع إبراهيم بن أحمد بن الأغلب بأهل بلد الزاب وكان قد حضر وجوههم عنده فأحسن إليهم ووصلهم وكساهم وحملهم ثم قتل أكثرهم حتى الأطفال وحملهم على العجل إلى حفرة فألقاهم فيها.
وفيها سارت سرية بصقلية مقدمها رجل يعرف بأبي الثور فلقيهم جيش الروم فأصيب المسلمون كلهم غير سبعة نفر وعزل الحسن بن العباس عن صقلية ووليها محمد بن الفضل، فبث السرايا في كل ناحية من صقلية وخرج هو في حشد وجمع عظيم، فسار إلى مدينة قطانية فأهلك زرعها ثم رحل إلى أصحاب الشلندية فقاتلهم فأصاب فيهم
فأكثر القتل، ثم رحل إلى طبرمين فأفسد زرعها ثم رحل فلقي عساكر الروم فاقتتلوا فانهزم الروم وقتل أكثرهم فكانت عدة القتلى ثلاثة آلاف قتيل ووصلت رؤوسهم إلى بلرم.
ثم سار المسلمون إلى قلعة كان الروم بنوها عن قريب، وسموها مدينة الملك فملكها المسلمون عنوة وقتلوا مقاتلتها وسبوا من فيها.
ذكر عدة حوادث
فيها سار عمرو بن الليث إلى فارس لحرب عاملها محمد بن الليث عليها فهزمه عمرو واستباح عسكره ونجا محمد ودخل عمرو إصطخر فنهبها وأصحابه ووجه في طلب محمد فظفر به وأخذه أسيرا، ثم سار إلى شيراز فأقام بها.
370

وفيها زلزلت بغداد في ربيع الأول ووقع بها أربع صواعق.
وفيها زحف العباس بن أحمد بن طولون لحرب أبيه فخرج إليه أبوه إلى الإسكندرية فظفر به ورده إلى مصر فرجع معه إليها وقد تقدم خبره سابقا.
وفيها أوقع أخو شركب بالخجستاني وأخذ أمه.
وفيها وثب ابن شبث بن الحسين فأسر عمر بن سيما عامل حلوان.
وفيها انصرف أحمد بن أبي الأصبغ من عند عمرو بن الليث وكان عمرو قد أنفذه إلى أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف فقدم معه بمال فأرسل عمرو إلى الموفق من المال ثلاثمائة ألف دينار وخمسين منا مسكا وخمسين منا عنبرا ومائتي من عودا وثلاثمائة ثوب وشي وآنية ذهب وفضة ودواب وغلمان بقيمة مائتي ألف دينار.
وفيها ولي كيغلغ الخليل بن رمال حلوان فنالهم بالمكاره بسبب عمر بن سيما وأخذهم بجريرة ابن شبث وضمنوا له خلاص عمر واصلاح ابن شبث.
وفيها كانت وقعة بين أدكوتكين بن أساتكين وبين أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف فهزمه اذكوتكين وغلبه على قم.
371

وفيها وجه عمرو بن الليث قائدا بأمر أبي أحمد إلى محمد بن عبيد الله الكردي فأسره القائد وحمله إليه.
وفيها في ذي القعدة خرج بالشام رجل من ولد عبد الملك بن صالح الشامي يقال له بكار بين سلمية وحلب وحمص فدعا لأبي أحمد فحاربه ابن عباس الكلابي، فانهزم الكلابي فوجه إلي لؤلؤا صاحب ابن طولون قائدا يقال له بوذر في عسكر فرجع وليس معه كبير أمر.
وفيها أظهر لؤلؤ الخلاف على مولاه أحمد بن طولون.
وفيها قتل أحمد بن عبد الله الخجستاني في ذي الحجة قتله غلام له.
وفيها قتل أصحاب أبى الساج محمد بن علي بن حبيب اليشكري بالقرية بناحية واسط ونصب رأسه ببغداد.
وفيها حارب محمد بن كيجور علي بن الحسين كفتمر فأسر كغتمر ثم أطلقه وذلك في ذي الحجة.
وفيها سار أبو المغيرة المخزومي إلى مكة وعاملها هارون بن محمد الهاشمي، فجمع هارون جمعا نحوا من ألفين احتمى بهم فسار المخزومي إلى عين مشاش فغور ماءها، وإلى جدة فنهب الطعام وأحرق بيوت أهلها فصار الخبز بمكة أوقيتان بدرهم.
وفيها خرج ملك الروم المعروف بابن الصقلبية فنازل ملطية فأعانهم أهل مرعش والحدث فانهزم ملك الروم.
372

وغزا الصائفة من ناحية الثغور الشامية الفرغاني عامل ابن طولون فقتل من الروم بضعة عشر ألفا وغنم الناس فبلغ السهم أربعين دينارا.
وحج بالناس فيها هارون بن محمد بن إسحاق الهاشمي وابن أبي الساج على الأحداث والطريق.
وفيها مات محمد بن عبد الله بن عبد الحكم البصري الفقيه المالكي، وكان قد صحب الشافعي وأخذ عنه العلم.
373

269
ثم دخلت سنة تسع وستين ومائتين
ذكر أخبار الزنج
وفي هذه السنة رمي الموفق بسهم في صدره؛ وكان سبب ذلك أن بهبود لما هلك طمع العلوي فيما له من الأموال وكان قد صح عنده أن ملكه قد حوى مائتي ألف دينار وجوهرا وفضة، فطلب ذلك وأخذ أهله وأصحابه فضربهم وهدم أبنيته طمعا في المال.
فلم يجد شيئا فكان فعله مما أفسد قلوب أصحابه عليه ودعاهم إلى الهرب منه، فأمر الموفق بالنداء بالأمان في أصحاب بهبود فسارعوا إليه فألحقهم في العطاء بمن تقدم.
ورأى الموفق ما كان يتعذر عليه من العبور إلى الزنج في الأوقات التي تهب فيها الرياح لتحرك الأمواج، فعزم على أن يوسع لنفسه ولأصحابه موضعا في الجانب الغربي فأمر بقطع النخل وإصلاح المكان أن يعمل له الخنادق والسور ليأمن البيات، وجعل حماية العاملين فيه نوبا على قواده.
فعلم صاحب الزنج وأصحابه أن الموفق إذا جاورهم قرب على من يريد اللحاق به المسافة مع ما يدخل قلوب أصحابه من الخوف وانتقاض تدبيره عليه فاهتموا بمنع الموفق من ذلك وبذلوا الجهد فيه وقاتلوا أشد قتال، فاتفق أن الريح عصفت في بعض تلك الأيام وقائد من القواد هناك، فانتهز
374

الخبيث الفرصة في إنفاذ هذا القائد وانقطاع المدد عنه، فسير إليه جميع أصحابه فقاتلوه فهزموه، وقتلوا كثيرا من أصحابه، ولم يجد الشذوات التي لأصحاب الموفق سبيلا إلى القرب منهم خوفا من الزنج أن تلقيها على الحجارة فتنكسر، فغلب الزنج عليهم وأكثروا القتل والأسر، ومن سلم منهم ألقى نفسه في الشذوات وعبروا إلى
الموفقية فعظم ذلك على الناس.
ونظر الموفق فرأى أن نزوله بالجانب الغربي لا يأمن عليه حيلة الزنج وصاحبهم وانتهاز الفرصة لكثرة الأدغال وصعوبة المسالك وأن الزنج أعرف بتلك المضايق وأجرا عليها من أصحابه فترك ذلك وجعل قصده إلى هدم سور الفاسق وتوسعة الطريق والمسالك، فأمر بهدم السور من ناحية النهر المعروف بمكني وباشر الحرب بنفسه واشتد القتال وكثر القتل والجراح من الجانبين ودام ذلك أياما عدة.
وكان أصحاب الموفق لا يستطيعون الولوج لقنطرتين كانتا في نهر مكنى كان الزنج يعبرون عليهما وقت القتال فيأتون أصحاب الموفق من وراء ظهورهم فينالون منهم فعمل الحيلة في إزالتهما، فأمر أصحابه بقصدهما عند اشتغال الزنج وغفلتهم من حراستهما وأمرهم أن يعدوا الفؤوس والمناشير وما يحتاجون إليه من الآلات فقصدوا القنطرة الأولى نصف النهار فأتاهم الزنج لمنعهم فاقتتلوا فانهزم الزنج وكان مقدمهم أبو الندى فأصابه سهم في صدره فقتله وقطع أصحاب الموفق القنطرتين ورجعوا.
وألح الموفق على الخبيث بالحرب وهدم أصحابه من السور ما أمكنهم، ودخلوا المدينة وقاتلوا فيها وانتهوا إلى دار ابن سمعان وسليمان بن جامع،
375

فهدموهما ونهبوا ما فيهما، وانتهوا إلى سويقة للخبيث سماها الميمونة فهدمت وأخربت، وهدموا دار الحياتي وانتهبوا ما كان فيها من خزائن الفاسق، وتقدموا إلى الجامع ليهدموه فاشتد محاماة الزنج عنه، فلم يصل إليه أصحاب الموفق لأنه كان قد خلص مع الخبيث نخبة أصحابه وأرباب البصائر، فكان أحدهم يقتل أو يجرح فيجذبه الذي إلى جنبه ويقف مكانه.
فلما رأى الموفق ذلك أمر أبا العباس بقصد الجامع من أحد أركانه بشجعان أصحابه وأضاف إلى الفعول للهدم ونصب السلاليم.
ففعل ذلك وقاتل عليه أشد قتال فوصلوا إليه فهدموه فأخذ منبره فأتى به الموفق؛ ثم عاد الموفق لهدم السور فأكثر منه، وأخذ أصحابه دواوين الخبيث وبعض خزائنه فظهر للموفق أمارات الفتح، فإنهم لعلى ذلك إذ وصل سهم إلى الموفق فأصابه في صدره رماه به رومي كان مع صاحب الزنج اسمه قرطاس، وذلك لخمس بقين من جمادى الأولى فستر الموفق ذلك وعاد إلى مدينته وبات ثم عاد إلى الحرب على ما به من ألم الجراح ليشتد بذلك قلوب أصحابه، فزاد في علته وعظم أمرها حتى خيف عليه.
واضطرب العسكر والرعية وخافوا، فخرج من مدينة جماعة وأتاه الخبر وهو في هذه الحال بحادث في سلطانه، فأشار عليه أصحابه وثقاته بالعود إلى بغداد ويخلف من يقوم مقامه فأبى ذلك وخاف أن يستقيم
376

من حال الخبيث ما فسد، واحتجب عن الناس مدة ثم برأ من علته وظهر لهم ونهض لحرب الخبيث وكان ظهوره في شعبان من هذه السنة.
ذكر إحراق قصر صاحب الزنج
لما صح الموفق من جراحه عاد إلى ما كان عليه من محاربة العلوي، وكان قد أعاد [بناء] بعض الثلم في السور، فأمر الموفق بهدم ذلك وهدم ما يتصل به.
وركب في بعض العشايا وكان القتال ذلك اليوم متصلا مما يلي نهر مكنى والزنج مجتمعون فيه قد شغلوا أنفسهم بتلك الجهة وظنوا أنهم لا يأتون إلا منها فأتى الموفق ومعه الفعلة وقرب من نهر منكي وقاتلهم، فلما اشتدت الحرب أمر الذين بالشذوات بالمسير إلى أسفل نهر أبي الخصيب وهو فارغ من المقاتلة والرجالة، فقدم أصحاب الموفق وأخرجوا الفعلة فهدموا السور من تلك الناحية، وصعد المقاتلة فقتلوا في النهر مقتلة عظيمة وانتهوا إلى قصور من قصور الزنج فأحرقوها وانتهبوا ما فيها واستنقذوا عددا كثيرا من النساء اللواتي كن فيها وغنموا منها.
وانصرف الموفق عند غروب الشمس بالظفر والسلامة، وبكر إلى حربهم وهدم السور فأسرع الهدم حتى اتصل بدار الكلابي وهي متصلة بدار الخبيث فلما أعيت الخبيث الحيل أشار عليه علي بن أبان بإجراء الماء
377

على السباخ، التي يسلكها أصحاب الموفق لئلا يجدوا إلى سلوكها سبيلا وأن يحفر خنادق في مواضع عدة يمنعهم عن دخول المدينة ففعل ذلك؛ فرأى الموفق أن يجعل قصده لطم الخنادق والأنهار والمواضع المغورة فدام ذلك فحامى عنه الخبثاء، ودامت الحرب ووصل إلى الفريقين من القتل والجراح أمر عظيم وذلك لتقارب ما بين الفريقين.
فلما رأى شدة الأمر من هذه الناحية قصد لإحراق دار الخبيث والهجوم عليها من دجلة، فكان يعوق عن ذلك كثرة ما أعد الخبيث لها من المقاتلة والحماة عن داره، فكانت الشذا إذا قربت من قصره رميت من فوق القصر بالسهام والحجارة من المجانيق والمقلاع وأذيب الرصاص وأفرغ عليهم فتعذر إحراقها لذلك، فأمر الموفق أن تسقف الشذا بالأخشاب ويعمل عليها الجبس ويطلى بالأدوية التي تمنع النار من إحراقها، ففرغ منها ورتب فيها أنجاد أصحابه ومن النفاطين جمعا كثيرا.
واستأمن إلى الموفق محمد بن سمعان كاتب الخبيث وكان أوثق أصحابه في نفسه، وكان سبب استئمانه أن الخبيث أطلعه على أنه عازم على الخلاص وحده بغير أهل ولا مال، فلما رأى ذلك من عزمه أرسل يطلب الأمان فأمنه الموفق وأحسن إليه وقيل كان سبب خروجه أنه كان كارها لصحبة الخبيث مطلعا على كفره وسوء باطنه ولم يمكنه التخلص منه إلا الآن ففارقه، وكان خروجه عاشر شعبان.
فلما كان الغد بكر الموفق إلى محاربة الخبثاء فأمر أبا العباس بقصد دار محمد الكرنابي وهي بإزاء دار الخبيث وإحراقها وما يليها من منازل قواد الزنج ليشغلهم بذلك عن حماية دار الخبيث، وأمر المرتبين في الشذا المطلية
378

بقصد دار الخبيث وإحراقها ففعلوا ذلك، وألصقوا شذواتهم بسور قصره وحاربهم الفجرة أشد حرب ونضحوهم بالنيران فلم تعمل شيئا، وأحرق من القصر الرواشين
والأبنية الخارجية وعملت النار فيها وسلم الذين كانوا في الشذا مما كان الخبثاء يرسلونه عليهم بالظلال التي كانت بالشذا، وكان ذلك سببا لتمكينهم من قصره.
وأمر الموفق الذين في الشذا بالرجوع فرجعوا، فأخرج من كان فيها من الغلمان ورتب غيرهم وانتظر إقبال المد وعلوه فلما أقبل عادت الشذا إلى قصره وأحرقوا بيوتا منه كانت تشرع على دجلة وأضرمت النار فيها واتصلت وقويت فأعجلت الخبيث ومن معه عن التوقف على شيء مما كان له من الأموال والذخائر وغير ذلك، فخرج هاربا وتركه كله.
وعلا غلمان الموفق قصره مع أصحابهم فانتهبوا ما لم تأت النار عليه من الذهب والفضة والحلي وغير ذلك، واستنقذوا جماعة من النساء اللواتي كان الخبيث يأنس بهن ممن كان استرقهن، ودخلوا دوره ودور ابنه انكلاي فأحرقوها جميعا، وفرح الناس بذلك وتحاربوا هم وأصحاب الخبيث على باب قصره فكثر القتل في أصحابه والجراح والأسر، وفعل أبو العباس في دار الكرنابي من النهب والهدم والاحراق مثل ذلك، وقطع أبو العباس يومئذ سلسلة عظيمة كان الخبيث قطع بها نهر أبي الخصيب ليمنع الشذا من دخوله فحازها أبو العباس وأخذها معه.
379

وعاد الموفق بالناس مع المغرب مظفرا وأصيب الفاسق في ماله ونفسه وولده ومن كان عنده من نساء المسلمين مثل الذي أصاب المسلمين منه من الذعر والجلاء وتشتت الشمل والمصيبة، وجرح ابنه انكلاي في بطنه جراحة أشفى منها على الهلاك.
ذكر غرق نصير
وفي يوم الأحد لعشر بقين من شعبان غرق أبو حمزة نصير وهو صاحب الشذوات.
وكان سبب غرقه أن الموفق بكر إلى القتال وأمر نصيرا بقصد قنطرة كان الخبيث عملها في نهر أبي الخصيب دون الجسرين اللذين كان اتخذهما على النهر وفرق أصحابه من الجهات، فعجل نصير فدخل نهر أبي الخصيب في أول المد في عدة من شذواته فحملها الماء فألصقها بالقنطرة. ودخلت عدة من شذوات الموفق مع غلمانه [ممن] لم يأمرهم بالدخول، فصكت شذوات نصير وصك بعضها بعضا ولم يبق للملاحين فيها عمل.
ورأى الزنج ذلك فاجتمعوا على جانبي النهر وألقى الملاحون أنفسهم في الماء خوفا من الزنج، ودخل الزنج الشذوات فقتلوا بعض المقاتلة وغرق
380

أكثرهم وصابرهم نصير حتى خاف الأسر فقذف نفسه في الماء فغرق، وأقام الموفق يومه يحاربهم وينهبهم ويحرق منازلهم ولم يزل يومه مستعليا عليهم.
وكان سليمان بن جامع ذلك اليوم من أشد الناس قتالا لأصحاب الموفق وثبت مكانه حتى خرج عليه كمين للموفق فانهزم أصحابه وجرح سليمان جراحة في ساقه وسقط لوجهه في موضع كان فيه حريق وفيه بعض الجمر فاحترق بعض جسده وحمله أصحابه بعد أن كان يؤسر؛ وانصرف الموفق سالما ظافرا وأصاب الموفق مرض المفاصل فبقي به شهر شعبان وشهر رمضان وأياما من شوال، وأمسك عن حرب الزنج ثم برأ وتماثل فأمر بإعداد آلة الحرب.
ذكر إحراق قنطرة العلوي صاحب الزنج
ولما اشتغل الموفق بعلته أعاد الخبيث القنطرة التي غرق عندها نصير وزاد فيها وأحكمها ونصب دونها أدقال ساج وألبسها الحديد وسكر أمام ذلك سكرا من حجارة ليضيق المدخل على الشذا وتحتد جرية الماء في النهر فندب الموفق أصحابه وسير طائفة من شرقي نهر أبي الخصيب وطائفة من غربيه وأرسل معهما النجارين والفعلة لقطع القنطرة وما جعل
381

أمامها. وأمر بسفن مملوءة من القصب أن يصب عليها النفط وتدخل النهر ويلقي فيها النار ليحترق الجسر، وفرق جنده على الخبثاء ليمنعوهم عن معاونة من عند القنطرة.
فسار الناس إلى ما أمرهم به عاشر شوال وتقدمت الطائفتان إلى الجسر فلقيهما انكلاي بن الخبيث وعلي بن أبان وسليمان بن جامع، واشتبكت الحرب ودامت وحامى أولئك عن القنطرة لعلمهم بما عليهم في قطعها من المضرة وأن الوصول إلى الجسرين العظيمين اللذين يأتي ذكرهما يسهل.
ودامت الحرب على القنطرة إلى العصر، ثم أن غلمان الموفق أزالوا الخبثاء عنها وقطعها النجارون ونقضوها وما كان عمل من الادقال الساج، وكان قطعها قد تعذر عليهم فأدخلوا تلك السفن التي فيها القصب والنفط وأضرموها نارا فوافت القنطرة فأحرقوها، فوصل النجارون بذلك إلى ما أرادوا وأمكن أصحاب الشذوات دخول النهر فدخلوه وقتلوا الزنج حتى أجلوهم عن موقفهم إلى الجسر الأول الذي يتلو هذه القنطرة وقتل من الزنج خلق كثير واستأمن بشر كثير، وصل أصحاب الموفق إلى جسر المغرب فكره أن يدركهم الليل فأمرهم بالرجوع فرجعوا، وكتب إلى البلدان أن يقرأ على المنابر أن يؤتى المحسن على قد إحسانه ليزدادوا جدا في حرب عدوه، وأخرب من الغد برجين من حجارة كانوا عملوهما ليمنعوا
382

الشذا من الخروج منه إذا دخلته فلما أخربهما سهل له ما أراد من دخول النهر والخروج منه.
ذكر انتقال صاحب الزنج إلى الجانب الشرقي وإحراق سوقه
لما أحرقت دوره ومساكن أصحابه ونهبت أموالهم انتقلوا إلى الجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب وجمع عياله حوله ونقل أسواقه إليه فضعف أمره بذلك ضعفا شديدا ظهر للناس، فامتنعوا من جلب الميرة إليه فانقطعت عنه كل مادة، وبلغ الرطل من خبز البر عشرة دراهم، فأكلوا الشعير وأصناف الحبوب.
ثم لم يزل الأمر بهم إلى أن كان أحدهم يأكل صاحبه إذا انفرد به والقوي يأكل الضعيف، ثم أكلوا أولادهم.
ورأى الموفق أن يخرب الجانب الشرقي كما أخرب الغربي، فأمر أصحابه بقصد دار الهمذاني ومعهم الفعلة وكان هذا الموضع محصنا بجمع كثير وعليه عرادات
ومنجنيقات وقسي، فاشتبكت الحرب وكثرت القتلى فانتصر أصحاب الموفق عليهم، وقتلوهم وهزموهم وانتهوا إلى الدار فتعذر عليهم الصعود إليها لعلو سورها، فلم تبلغه السلاليم الطوال، فرمى بعض غلمان الموفق بكلاليب كانت معهم فعلقوها في أعلام الخبيث وجذبوها فتساقطت الأعلام منكوسة، فلم يشك المقاتلة عن الدار في أن أصحاب الموفق قد ملكوها، فانهزموا لا يلوي أحد منهم على صاحبه، فأخذها أصحاب الموفق وصعد النفاطون وأحرقوها وما كان عليها من المجانيق والعرادات، ونهبوا ما كان فيها من المتاع والأثاث وأحرقوا ما كان حولها
383

من الدور، واستنقذوا ما كان فيها من النساء، وكن عالما كثيرا من المسلمات فحملن إلى الموفقية، وأمر الموفق بالاحسان إليهن.
واستأمن يومئذ من أصحاب الخبيث وخاصته الذي يلون خدمته جماعة كثيرة فأمنهم الموفق وأحسن إليهم، ودلت جماعة من المستأمنة الموفق على سوق عظيمة كانت للخبيث متصلة بالجسر الأول تسمى المباركة وأعلموه إن أحرقها لم يبق لهم سوق غيرها، وخرج عنهم تجارهم الذين كان بهم قوامهم، فعزم الموفق على إحراقها وأمر أصحابه بقصد السوق من جانبيها فقصدوها، وأقبلت الزنج إليهم فتحاربوا أشد حرب تكون، واتصلت أصحاب الموفق إلى طرف من أطراف السوق وألقوا فيه النار فاحترق واتصلت النار.
وكان الناس يقتتلون والنار محيطة بهم، واتصلت النار بظلال السوق فاحترقت وسقطت على المقاتلة واحترق بعضهم، فكانت هذه حالهم إلى مغيب الشمس ثم تحاجزوا ورجع أصحاب الموفق إلى عسكرهم، وانتقل تجار السوق إلى أعلى المدينة وكانوا قد نقلوا معظم أمتعتهم وأموالهم من هذه السوق خوفا من مثل هذه.
ثم إن الخبيث فعل بالجانب الشرقي من حفر الخنادق وتغوير الطرق، مثل ما كان فعل الجانب الغربي بعد هذه الوقعة واحتفر خندقا عريضا حصن به منازل أصحابه التي كان على النهر الغربي، فرأى الموفق باقي السور إلى النهر الغربي، ففعل ذلك بعد حرب طويلة في مدة بعيدة.
384

وكان للخبيث في الجانب الغربي جمع من الزنج قد تحصنوا بالسور وهو منيع وهم أشجع أصحابه فكانوا يحمون عنه وكانوا يخرجون على أصحاب الموفق عند محاربتهم على حرى كور وما يليه، وأمر الموفق أن يقصد هذا الموضع ويخرب سوره ويخرج من فيه، فأمر أبا العباس والقواد بالتأهب لذلك وتقدم إليهم، وأمر بالشذا أن تقرب من السور ونشبت الحرب ودامت إلى الظهر وهدم مواضع وأحرق ما كان عليه من العرادات، وتحاجز الفريقان وهما على السواء سوى هدم السور وإحراق عرادات كانت عليه فنال الفريقين من الجراح أمر عظيم.
وعاد الموفق فوصل أهل البلاء والمجروحين على قدر بلائهم، وهكذا كان عمله في محاربتهم، وأقام الموفق بعد هذه الوقعة أياما ثم رأى معاودة هذا الموضع لما رأى من حصانته وشجاعة من فيه وأنه لا يقدر على ما بينه وبين حرى كور إلا بعد إزالة هؤلاء، فأعد الآلات ورتب أصحابه وقصده وقاتل من فيه وأدخلت الشذا النهر واشتدت الحرب ودامت.
وأمد الخبيث أصحابه بالمهلبي وسليمان بن جامع في جيشهما فحملوا على أصحاب الموفق حتى ألحقوهم بسفنهم وقتلوا منهم جماعة، فرجع الموفق ولم يبلغ منهم ما أراد، وتبين له أنه كان ينبغي أن يقاتلهم من عدة وجوه لتخف وطأتهم على من يقصد هذا الموضع، ففعل ذلك وفرق أصحابه على جهات أصحاب الخبيث وسار هو إلى جهة النهر الغربي وقاتل من فيه.
وطمع الزنج بما تقدم من تلك الوقعة فصدقهم أصحاب الموفق القتال،
385

فهزموهم فولوا منهزمين وتركوا حصنهم في أيدي أصحاب الموفق فهدموه وغنموا ما فيه وأسروا وقتلوا خلقا لا تحصى وخلصوا من هذا الحصن خلقا كثيرا من النساء والصبيان، ورجع الموفق إلى عسكره بما أراد.
ذكر استيلاء الموفق على مدينة صاحب الزنج الغربية
لما هدم الموفق دور الخبيث أمر بإصلاح المسالك لتتسع على المقاتلة الطريق للحرب، ثم رأى قلع الجسر الأول الذي على نهر أبي الخصيب لما في ذلك من منع معاونة بعضهم بعضا، وأمر بسفينة كبيرة أن تملأ قصبا ويجعل فيها النفط ويوضع وسطها دقل طويل يمنعها من مجاورة الجسر إذا التصقت به، ثم أرسلها عند غفلة الزنج وقوة المد فوافت الجسر، وعلم بها الزنج فأتوها وطموها بالحجارة والتراب، ونزل بعضهم في الماء فنقبها فغرقت وكان قد احترق من الجسر شيء يسير فأطفأه الزنج.
فعند ذلك اهتم الموفق بالجسر فندب أصحابه وأعد النفاطين والفعلة والفؤوس وأمرهم بقصده من غربي النهر وشرقيه، وركب الموفق في أصحابه وقصد فوهة نهر أبي الخصيب وذلك منتصف شوال سنة تسع وستين [مائتين]، فسبق الطائفة التي في غرب النهر فهزم الموكلين على الجسر وهم سليمان بن جامع وانكلاي ولد الخبيث وأحرقوه.
386

وأتى بعد ذلك الطائفة الأخرى ففعلوا بالجانب الشرقي مثل ذلك وأحرقوا الجسر وتجاوزوه إلى جانب حظيرة كانت تعمل في سميريات الخبيث وآلاته واحترق ذلك عن آخره إلا شيئا يسيرا من الشذوات والسميريات كانت في النهر، وقصدوا سجنا للخبيث فقاتلهم الزنج عليه ساعة من النهار ثم غلبهم أصحاب الموفق عليه فأطلقوا من فيه وأحرقوا كل ما مروا به إلى دار مصلح وهو من قدماء أصحابه فدخلوها فنهبوها وما فيها وسبوا النساء وولده واستنقذوا خلقا كثيرا، وعاد الموفق وأصحابه سالمين.
وانحاز الخبيث وأصحابه من هذا الجانب إلى الجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب واستولى الموفق على الجانب الغربي غير طريق يسير على الجسر الثاني، فأصلحوا الطرق فزاد ذلك في رعب الخبيث وأصحابه، فاجتمع كثير من أصحابه وقواده وأصحابه الذين كان يرى أنهم لا يفارقونه على طلب الأمان فبذل لهم فخرجوا إرسالا فأحسن الموفق إليهم وألحقهم بأمثالهم.
ثم أن الموفق أحب أن يتمرن أصحابه بسلوك النهر ليحرق الجسر الثاني فكان يأمرهم بإدخال الشذوات فيه وإحراق ما على جانبه من المنازل، فهرب إليه بعض الأيام قائد للزنج ومعه قاض كان لهم ومنبر ففت ذلك في أعضاد الخبثاء، ثم إن الخبيث وكل بالجسر الثاني من يحفظه وشحنه بالرجال، فأمر الموفق بعض أصحابه بإحراق ما عند الجسر من سفن ففعلوا حتى أحرقوها، فزاد ذلك في احتياط الخبيث وفي حراسته للجسر لئلا يحرق ويستولي الموفق على الجانب الغربي فيهلك.
وكان قد تخلف من أصحابه جمع في منازلهم المقاربة للجسر الثاني وكان أصحاب الموفق يأتونهم ويقفون على الطريق الخفية.
فلما عرفوا ذلك عزموا
387

على إحراق الجسر الثاني، فأمر الموفق ابنه أبا العباس والقواد بالتجهز لذلك، وأمرهم أن يأتوا من عدة جهات ليوافوا الجسر وأعد معهم الفؤوس والنفط والآلات، ودخل هو في النهر بالشذوات ومعه إنجاد غلمانه ومعهم الآلات أيضا، واشتبكت الحرب في الجانبين جميعا بين الفريقين واشتد القتال.
وكان في الجانب الغربي بإزاء أبي العباس ومن معه انكلاي بن الخبيث وسليمان بن جامع، وفي الجانب الشرقي بإزاء راشد مولى الموفق ومن معه الخبيث والمهلبي في باقي الجيش، فدامت الحرب مقدار ثلاث ساعات ثم انهزم الخبثاء لا يلوون على شيء، وأخذت السيوف منهم مأخذها ودخل أصحاب الشذوات النهر ودنوا من الجسر فقاتلوا من يحميه بالسهام، وأضرموا نارا.
وكان من المنهزمين سليمان وإنكلاي وكانا قد أثخنا بالجراح فوافيا الجسر والنار فيه فحالت بينهما وبين العبور وألقيا أنفسهما في النهر ومن معهما، فغرق منهم خلق كثير، وأفلت انكلاي وسليمان بعد أن أشفيا على الهلاك وقطع الجسر وأحرق، وتفرق الجيش في مدينة الخبيث في الجانبين فأحرقوا من دورهم وقصورهم وأسواقهم شيئا كثيرا، واستنقذوا من النساء والصبيان ما لا يحصى، ودخلوا الدار التي كان الخبيث سكنها بعد إحراق قصره وأحرقوها ونهبوا ما كان فيها مما كان سلم معه، وهرب الخبيث ولم يقف ذلك اليوم على مواضع أمواله.
واستنقذ في هذا اليوم نسوة من العلويات كن محبسات في موضع قريب من داره التي كان يسكنها، فأحسن الموفق إليهن وحملهن، وفتح سجنا
388

كان له وأخرج منه خلقا كثيرا ممن كان يحارب الخبيث، ففك الموفق عنهم الحديد، وأخرج ذلك اليوم كل ما كان في نهر أبي الخصيب من شذوات ومراكب بحرية وسفن صغار وكبار وحراقات وغير ذلك من أصناف السفن إلى دجلة فأباحها الموفق أصحابه مع ما فيها من السلب وكانت له قيمة عظيمة.
وأرسل انكلاي بن الخبيث يطلب الأمان، وسأل أشياء فأجابه الموفق إليها فعلم أبوه بذلك فعذله ورده عما عزم عليه فعاد إلى الحرب ومباشرة القتال.
ووجه سليمان بن موسى الشعراني وهو أحد رؤساء الخبيث يطلب الأمان فلم يجبه الموفق إلى ذلك لما كان قد تقدم منه سفك الدماء الفساد فاتصل به أن جماعة من رؤساء أصحاب الخبيث قد استوحشوا المنعة فأجابه إلى الأمان فأرسل الشذوات إلى موضع ذكره فقاتلهم ووصل إلى الموفق فزاد في الإحسان إليه وخلع عليه وعلى من معه وأمر بإظهاره لأصحاب الخبيث ليزدادوا ثقة، فلم يبرح من مكانه حتى استأمن جماعة من قواد الزنج منهم شبل بن سالم، فأجابه الموفق وأرسل إليه شذوات فركب فيها هو وعياله وولده وجماعة من قواده، فلقيهم قوم الزنج فقاتلهم ونجا ووصل إلى الموفق فأحسن إليه ووصله بصلة جليلة وهو من قدماء أصحاب الخبيث فعظم ذلك عليه وعلى أوليائه لما رأوا من رغبة
389

رؤسائهم في الأمان.
ولما رأى الموفق مناصحة شبل وجودة فهمه أمره أن يكفيه بعض الأمور، فسار ليلا في جمع من الزنج لم يخالطهم غيرهم إلى عسكر الخبيث يعرف مكانهم وأوقع بهم وأسر منهم وقتل وعاد، فأحسن إليه الموفق وإلى أصحابه.
وصار الزنج بعد هذه الوقعة لا ينامون الليل ولا يزالون يتحارسون للرعب الذي دخلهم، وأقام الموفق ينفذ السرايا إلى الخبيث ويكيده ويحول بينه وبين القوت وأصحاب الموفق يتدربون في سلوك تلك المضايق التي في أرضه ويوسعونها.
ذكر استيلاء الموفق على مدينة الخبيث الشرقية
لما علم الموفق أن أصحابه قد تمرنوا على سلوك تلك الأرض وعرفوها صمم العزم على العبور إلى محاربة الخبيث من الجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب فجلس مجلسا عاما وأحضر قواد المستأمنة وفرسانهم فوقفوا بحيث يسمعون كلامه، ثم كلمهم فعرفهم ما كانوا عليه من الضلالة والجهل وانتهاك المحارم ومعصية الله عز وجل، وإن ذلك قد أحل له دماءهم وأنه غفر لهم زلتهم ووصلهم وإن ذلك يوجب عليهم حقه وطاعته وأنهم لن يرضوا ربهم وسلطانهم بأكثر من الجد في مجاهدة الخبيث.
وأنهم يعرفون مسالك العسكر ومضايق مدينته ومعاقلها التي أعدها فهم أولى
390

أن يجتهدوا في الولوج على الخبيث والوغول إلى حصونه حتى يمكنهم الله منه فإذا فعلوا ذلك فلهم الاحسان والمزيد ومن قصر منهم فقد أسقط منزلته وحاله.
فارتفعت أصواتهم بالدعاء له والاعتراف بإحسانه وبما هم عليه من المناصحة والطاعة وإنهم يبذلون دماءهم في كل ما يقربهم منه، وسألوه أن يفردهم بناحية ليظهر من نكايتهم في العدو ما يعرف به اخلاصهم وطاعتهم، فأجابهم إلى ذلك وأثنى عليهم ووعدهم، وكتب في جمع السفن والمعابر من دجلة والبطيحة ونواحيها ليضيفها إلى ما في عسكره إذ كان ما عنده يقصر عن الجيش لكثرته، وأحصى من في الشذوات والسميريات وأنواع السفن، فكانوا زهاء عشرة آلاف ملاح ممن يجري عليه الرزق من بيت المال مشاهرة سوى سفن أهل العسكر التي يحمل فيها الميرة ويركبها الناس في حوائجهم وسوى ما كان لكل قائد من السميريات والحربيات والزواريق.
فلما تكاملت السفن تقدم إلى ابنه أبي العباس وقواده بقصد مدينة الخبيث الشرقية من جهاتها فسير ابنه أبا العباس إلى ناحية دار المهلبي أسفل العسكر، وكان قد شحنها
بالرجال والمقاتلين، وأمر جميع أصحابه بقصد دار الخبيث وإحراقها فإن عجزوا عنها اجتمعوا على دار المهلبي وسار هو في الشذوات وهي مائة وخمسون قطعة فيها إنجاز غلمانه وانتخب من الفرسان والرجالة عشرة آلاف وأمرهم أن يسيروا على جانبي النهر معه إذا سار وأن يقفوا معه إذا وقف ليتصرفوا بأمره.
وبكر الموفق لقتال الفاسقين يوم الثلاثاء لثمان خلون من ذي القعدة
391

سنة تسع وستين ومائتين، وكانوا قد تقدموا إليهم يوم الاثنين وواقعهم وتقدم كل طائفة إلى الجهة التي أمرهم بها فلقيهم الزنج واشتدت الحرب وكثر القتل والجراح في الفريقين، وحامى الفسقة عن الذي اقتصروا عليه من مدينتهم واستماتوا وصبروا فنصر الله أصحاب الموفق، فانهزم الزنج وقتل منهم خلق كثير وأسر من أنجادهم وشجعانهم جمع كثير، فأمر الموفق بضرب أعناق الأسرى في المعركة، وقصد بجمعه الدار التي يسكنها الخبيث وكان قد لجأ إليها وجمع أبطال أصحابه للمدافعة عنها فلم يغنوا عنها شيئا وانهزموا عنها وأسلموها، ودخلها أصحاب الموفق وفيها بقايا ما كان سلم للخبيث من ماله وولده وأثاثه، فنهب ذلك أجمع وأخذوا حرمه وأولاده وكانوا عشرين ما بين صبية وصبي، وسار الخبيث هاربا نحو دار المهلبي لا يلوي على أهل ولا مال واحترقت داره، وأتى الموفق بأهل الخبيث وأولاده فسيرهم إلى بغداد.
وكان أصحاب أبي العباس قد قصدوا دار المهلبي وقد لجأ إليها خلق كثير من المنهزمين فغلبوهم عليها واشتغلوا بنهبها وأخذوا ما فيها من حرم المسلمين وأولادهم، وجعل من ظفر منهم بشيء حمله إلى سفينته فعلوا في الدار ونواحيها، فلما رآهم الزنج كذلك رجعوا إليهم فقتلوا فيهم مقتلة يسيرة.
وكان جماعة من غلمان الموفق الذين قصدوا دار الخبيث تشاغلوا بحمل الغنائم إلى السفن أيضا فأطمع ذلك الزنج فيهم فأكبوا عليهم فكشفوهم،
392

واتبعوا آثارهم، وثبت جماعة من أبطال الموفق فردوا الزنج حتى تراجع الناس إلى مواقفهم ودامت الحرب إلى العصر.
فأمر الموفق غلمانه بصدق الحملة عليهم ففعلوا فانهزم الخبيث وأصحابه وأخذتهم السيوف حتى انتهوا إلى داره أيضا.
فرأى الموفق عند ذلك أن يصرف أصحابه إلى إحسانهم فردهم وقد غنموا واستنقذوا جمعا من النساء المأسورات كن يخرجن ذلك اليوم إرسالا فيحملن إلى الموفقية.
وكان أبو العباس قد أرسل في ذلك اليوم قائدا، فأحرق ثم بيادر كانت ذخيرة للخبيث، وكان ذلك مما أضعف به الخبيث وأصحابه، ثم وصل إلى الموفق كتاب لؤلؤ غلام ابن طولون في القدوم عليه فأمره بذلك وأخر القتال إلى أن يحضر.
ذكر خلاف لؤلؤ على مولاه أحمد بن طولون
وفيها خالف لؤلؤ غلام أحمد بن طولون صاحب مصر على مولاه أحمد بن طولون وفي يده حمص وقنسرين وحلب وديار مضر من الجزيرة، وسار إلى بالس فنهبها، وكاتب الموفق في المسير إليه واشترط شروطا فأجابه أبو أحمد إليها وكان بالرقة فسار إلى الموفق فنزل قرقيسيا وبها ابن صفوان العقيلي فحاربه وأخذها منه وسلمها إلى أحمد بن مالك بن طوق، وسار إلى الموفق فوصل إليه وهو يقاتل الخبيث العلوي.
393

ذكر مسير المعتمد إلى الشام وعوده من الطريق
وفيها سار المعتمد نحو مصر، وكان سبب ذلك أنه لم يكن له من الخلافة غير اسمها ولا ينفذ له توقيع لا في قليل ولا كثير وكان الحكم كله للموفق والأموال تجبى إليه، فضجر المعتمد من ذلك وأنف منه، فكتب إلى أحمد بن طولون يشكو إليه حاله سرا من أخيه الموفق فأشار عليه أحمد باللحاق به بمصر ووعده النصرة، وسير عسكرا إلى الرقة ينتظر وصول المعتمد إليهم، فاغتنم المعتمد غيبة الموفق عنه فسار في جمادى الأولى ومعه جماعة من القواد، فأقام بالكحيل يتصيد.
فلما سار إلى عمل إسحاق بن كنداجيق وكان عامل الموصل وعامة الجزيرة وثب ابن كنداجيق بمن مع المعتمد من القواد فقبضهم وهم نيزك وأحمد بن خاقان، وخطارمش فقيدهم وأخذ أموالهم ودوابهم، وكان قد كتب إليه صاعد بن مخلد وزير الموفق عن الموفق، وكان سبب وصوله إلى قبضهم أنه أظهر أنه معهم في طاعة المعتمد إذ هو الخليفة ولقيهم لما صاروا إلى عمله وسار معهم عدة مراحل، فلما قارب عمل ابن طولون ارتحل الاتباع والغلمان الذين مع المعتمد وقواده، ولم يترك ابن كنداجيق أصحابه يرحلون، ثم خلا بالقواد عند المعتمد وقال لهم إنكم قاربتم عمل ابن طولون والأمر أمره وتصيرون من جنده وتحت يده، أفترضون بذلك، وقد علمتم أنه كواحد منكم؟
وجرت بينهم في ذلك مناظرة حتى تعالى النهار ولم يرحل المعتمد ومن معه، فقال ابن كنداجيق قوموا بنا نتناظر في غير حضرة أمير المؤمنين؛ فأخذ
394

بأيديهم إلى خيمته لأن مضاربهم كانت قد سارت، فلما دخلوا خيمته قبض عليهم وقيدهم وأخذ سائر من مع المعتمد من القواد فقيدهم، فلما فرغ من أمورهم مضى إلى المعتمد فعذله في مسيره من دار ملكه وملك آبائه وفراق أخيه الموفق على الحال التي هو بها من حرب من يريد قتله وقتل أهل بيته وزوال ملكهم ثم حمله والذين كانوا معه حتى أدخلهم سامراء.
ذكر الحرب بين عسكر ابن طولون وعسكر الموفق بمكة
وفيها كانت وقعة بمكة بين جيش لأحمد بن طولون وبين عسكر الموفق في ذي القعدة.
وكان سببها أن أحمد بن طولون سير جيشا مع قائدين إلى مكة فوصلوا إليها وجمعوا الحناطين والجزارين وفرقوا فيهم مالا وكان عامل مكة هارون بن محمد إذ ذاك ببستان ابن عامر قد فارقها خوفا منهم، فوافى مكة جعفر الناعمودي في ذي الحجة في عسكر وتلقاه هارون بن محمد في جماعة فقوي بهم جعفر والتقوا هم وأصحاب ابن طولون فاقتتلوا وأعان أهل خراسان جعفرا فقتل ن أصحاب ابن طولون مائتي رجل وانهزم الباقون في الجبال وسلبوا وأخذ أموالهم، وأخذ جعفر من القائدين نحو مائتي
ألف دينار وأمن المصريين والجزارين والحناطين وقرأ كتاب في المسجد الجامع بلعن ابن طولون وسلم الناس وأموال التجار.
395

ذكر عدة حوادث
في المحرم من هذه السنة قطع الأعراب الطريق على قافلة من الحاج بين ثور وسميراء فسلبوهم وساقوا نحوا من خمسة آلاف بعير بأحمالها وأناسا كثيرا.
وفيها انخسف القمر وغاب منخسفا وانكسفت الشمس فيه أيضا آخر النهار وغابت منكسفة فاجتمع في المحرم كسوفان.
وفيها في صفر وثبت العامة ببغداد بإبراهيم الخليجي فانتهبوا داره، وكان سبب ذلك أن غلاما له رمى امرأة بسهم فقتلها فاستعدى السلطان عليه فامتنع ورمى غلمانه الناس فقتلوا جماعة وجرحوا جماعة، فثارت بهم العامة فقتلوا فيهم رجلين من أصحاب السلطان ونهبوا منزله ودوابه وخرج هاربا، فجمع محمد بن عبيد الله بن عبد الله بن طاهر وكان نائب أبيه دواب إبراهيم وما أخذ له فرده عليه.
وفيها وجه إلى أبي الساج جيش بعد ما انصرف من مكة فسيره إلى جده فأخذ للمخزومي مركبين فيهما مال وسلاح.
وفيها وثب خلف صاحب أحمد بن طولون بالثغور الشامية وعامله عليها بازمار الخادم مولى الفتح بن خاقان فحبسه فوثب به جماعة من أهل الثغر فاستنقذوا بازمار وهرب خلف وتركوا الدعاء لابن طولون، فسار إليهم ابن طولون ونزل أذنة فاعتصم أهل طرسوس بها ومعهم بازمار فرجع عنهم ابن طولون إلى حمص ثم إلى دمشق فأقام بها.
396

وفيها قام رافع بن هرثمة بما كان الخجستاني غلب عليه من مدن خراسان فاجتبى عدة من كور خراسان خراجها لبضع عشرة سنة فأفقر أهلها وأخربها.
وفيها كانت وقعة بين الحسنيين والحسينيين بالحجاز والجعفريين فقتل من الجعفريين ثمانية نفر وخلصوا الفضل بن العباس العباسي عامل المدينة.
وفيها في جمادى الآخرة عقد هارون بن الموفق لابن أبي الساج على الأنبار وطريق الفرات والرحبة وولى محمد بن أحمد الكوفة وسوادها فلقي محمد الهيصم العجلي فانهزم الهيصم.
وفيها توفي عيسى بن الشيخ بن السليل الشيباني وبيده أرمينية وديار بكر.
وفيها لعن المعتمد أحمد بن طولون في دار العامة وأمر بلعنه على المنابر وولى إسحاق بن كنداجيق على أعمال ابن طولون وفوض إليه من باب الشماسية إلى أفريقية وولى شرطة الخاصة.
وكان سبب هذا اللعن أن ابن طولون قطع خطبة الموفق وأسقط اسمه من الطرز فتقدم الموفق إلى المعتمد بلعنه ففعل مكرها لأن هوى المعتمد كان مع ابن طولون.
397

وفيها كانت وقعة بين ابن أبي الساج والأعراب فهزموه ثم بيتهم فقتل منهم وأسر، ووجه بالرؤوس والأسرى إلى بغداد.
وفيها في شوال دخل ابن أبي الساج رحبة مالك بن طوق بعد أن قاتله أهلها [فغلبهم] وقتلهم وهرب أحمد بن مالك بن طوق إلى الشام، ثم سار ابن أبي الساج إلى قرقيسيا فدخلها وحج بالناس هارون بن محمد بن إسحاق الهاشمي.
وفيها خرج محمد بن الفضل أمير صقلية في عسكر إلى ناحية رمطة وبلغ العسكر إلى قطانية فقتل كثيرا من الروم وسبى وغنم ثم انصرف إلى بلرم في ذي الحجة.
وفيها توفي أحمد بن مخلد مولى المعتصم وهو من دعاة المعتزلة وأخذ الكلام عن جعفر بن مبشر.
وفيها توفي سليمان بن حفص بن أبي عصفور الأفريقي وكان معتزليا يقول بخلق القرآن وأراد أهل القيروان فسلم لذلك وصحب بشر المريسي وأبا الهذيل وغيرهما من المعتزلة.
398

270
ثم دخلت سنة سبعين ومائتين
ذكر قتل الخبيث صاحب الزنج
قد ذكرنا من حرب الزنج وعود الموفق عنهم مؤيدا بالظفر، فلما عاد من قتالهم إلى مدينة الموفقية عزم على مناجزة الخبثاء فأتاه كتاب لؤلؤ غلام ابن طولون يستأذنه في المسير إليه فأذن له وترك القتال ينتظره ليحضر القتال فوصل إليه ثالث المحرم من هذه السنة في جيش عظيم فأكرمه الموفق وأنزله وخلع عليه وعلى أصحابه ووصلهم وأحسن إليهم وأمر لهم بالأرزاق على قدر مراتبهم وأضعف ما كان لهم، ثم تقدم إلى لؤلؤ بالتأهب لحرب الخبثاء.
وكان الخبيث لما غلب على نهر أبي الخصيب، وقضت القناطر والجسور التي عليه أحدث سكرا في النهر من جانبيه وجعل في وسط النهر بابا ضيقا لتحتد جرية الماء فيه فتمتنع الشذوات من دخوله في الجزر ويتعذر خروجها منه في المد، فرأى الموفق أن جريه لا يتهيأ إلا بقلع هذا السكر فحاول ذلك فاشتد محاماة الخبثاء عليه وجعلوا يزيدون كل يوم فيه وهو متوسط دورهم والمروية تسهل عليهم وتعظم على من أراد قلعه، فشرع في محاربتهم بفريق بعد فريق من أصحاب لؤلؤ ليتمرنوا على قتالهم ويقفوا على
399

المسالك والطرق في مدينتهم، فأمر لؤلؤا أن يحضر في جماعة من أصحابه للحرب على هذا السكر ففعل فرأى الموفق من شجاعة لؤلؤ وإقدامه وشجاعة أصحابه ما سره، فأمر لؤلؤا بصرفهم اشفاقا عليهم ووصلهم الموفق وأحسن إليهم.
وألح الموفق على هذا السكر وكان يحارب المحامين عليه بأصحابه وأصحاب لؤلؤ وغيرهم والفعلة يعملون في قلعة ويحارب الخبيث وأصحابه في عدة وجوه فيحرق
مساكنهم ويقتل مقاتليهم واستأمن إليه جماعة، وكان قد بقي للخبيث وأصحابه بقية من أرضين بناحية النهر الغربي لهم فيها مزارع وحصون وقنطرتان وبه جماعة يحفظونه فسار إليهم أبو العباس وفرق أصحابه من جهاتهم وجعل كمينا ثم أوقع بهم فانهزموا فكلما قصدوا جهة خرج عليهم من يقاتلهم فيها فقتلوا عن آخرهم ولم يسلم منهم إلا الشريد، فأخذوا من أسلحتهم ما أثقلهم حمله وقطع القنطرتين، ولم يزل الموفق يقاتلهم على سكرهم حتى تهيأ له فيه ما أحبه في خرقه.
فلما فرغ منه عزم على لقاء الخبيث فأمر بإصلاح السفن والآلات للماء والظهر، وتقدم إلى أبي العباس ابنه أن يأتي الخبيث من ناحية دار المهلبي وفرق العساكر من جميع جهاته وأضاف المستأمنة إلى شبل وأمره بالجد في قتال الخبيث، وأمر الناس أن لا يزحف أحد حتى يحرك علما أسود كان نصبه على دار الكرماني وحتى ينفخ في بوق بعيد الصوت.
وكان عبوره يوم الاثنين لثلاث بقين من المحرم فعجل بعض الناس وزحف نحوهم فلقيه الزنج فقتلوا منهم وردوهم إلى مواقفهم ولم
400

يعلم سائر العسكر بذلك لكثرتهم، وبعد المسافة فيما بين بعضهم البعض، وأمر الموفق بتحريك العلم الأسود والنفخ في البوق فزحف الناس في البر والماء يتلو بعضهم بعضا، فلقيهم الزنج وقد حشدوا واجترؤا بما تهيأ لهم على من كان يسرع إليهم فلقيهم الجيش بنيات صادقة وبصائر نافذة، واشتد القتال وقتل من الفريقين جمع كثير فانهزم أصحاب الخبيث وتبعهم أصحاب الموفق يقتلون ويأسرون، واختلط بهم ذلك اليوم أصحاب الموفق فقتل منهم ما لا يحصى عددا وغرق منهم مثل ذلك، وحوى الموفق المدينة بأسرها فغنمها أصحابه واستنقذوا من كان بقي من الأسرى من الرجال والنساء والصبيان، وظفروا بجميع عيال علي بن أبان المهلبي وبأخويه الخليل ومحمد وأولادهما وعبر بهما إلى المدينة الموفقية.
ومضى الخبيث في أصحابه ومعه ابن انكلاي وسليمان بن جامع وقواد من الزنج وغيرهم هربا عامدين إلى موضع كان الخبيث قد أعده ملجأ إذا غلب على مدينته وذلك المكان على النهر المعروف بالسفياني، وكان أصحاب الموفق قد اشتغلوا بالنهب والإحراق، وتقدم الموفق في الشذوات نحو نهر السفياني ومعه لؤلؤ أصحابه فظن أصحاب الموفق أنه رجع إلى مدينتهم الموفقية فانصرفوا إلى سفنهم بما قد حووا، وانتهى الموفق ومن معه إلى عسكر الخبيث وهم منهزمون واتبعهم لؤلؤ في أصحابه حتى عبر السفياني فاقتحم لؤلؤ بفرسه واتبعه أصحابه حتى انتهى إلى النهر المعروف بالفربري، فوصل إليه لؤلؤ وأصحابه فأوقعوا به ومن معه،
401

فهزمهم حتى عبر النهر السفياني ولؤلؤ في أثرهم فاعتصموا بجبل وراءه وانفرد لؤلؤ وأصحابه باتباعهم إلى هذا المكان في آخر النهار، فأمر الموفق بالانصراف فعاد مشكورا محمودا لفعله، فحمله الموفق معه وجدد له من البر والكرامة ورفعة المنزلة ما كان مستحقا له، ورجع الموفق فلم ير أحدا من أصحابه بمدينة الزنج فرجع إلى مدينته واستبشر الناس بالفتح وهزيمة الزنج وصحابهم.
وكان الموفق قد غضب على أصحابه بمخالفتهم أمره وتركهم الوقوف حيث أمرهم فجمعهم جميعا ووبخهم على ذلك وأغلظ لهم فاعتذروا بما ظنوه من انصرافه وإنهم لم يعلموا بمسيره ولو علموا ذلك لأسرعوا نحوه، ثم تعاقدوا وتحالفوا بمكانهم على أن لا ينصرف أحد إذا توجهوا نحو الخبيث حتى يظفروا به فإن أعياهم أقاموا بمكانه حتى يحكم الله بينهم وبينه، وسألوا الموفق أن يرد السفن التي يعبرون فيها إلى الخبيث لينقطع الناس عن الرجوع فشكرهم وأثنى عليهم وأمرهم بالتأهب.
وأقام الموفق بعد ذلك إلى الجمعة يصلح ما يحتاج الناس إليه، وأمر الناس عشية الجمعة بالمسير إلى حرب الخبثاء بكرة السبت وطاف عليهم هو بنفسه يعرف كل قائد مركزه والمكان الذي يقصده وغدا الموفق يوم السبت لثلاثين خلت من صفر، فعبر بالناس وأمر برد السفن فردت وسار يقدمهم إلى المكان الذي قدر أن يلقاهم فيه.
وكان الخبيث وأصحابه قد رجعوا إلى مدينتهم بعد انصراف الجيش عنهم،
402

وأملوا أن تتطاول بهم الأيام وتندفع عنهم المناجزة، فوجد الموفق المتسرعين من فرسان غلمانه والرجالة قد سبقوا الجيش فأوقعوا بالخبيث وأصحابه وقعة هزموهم بها، وتفرقوا لا يلوي بعضهم على بعض وتبعهم أصحاب الموفق يقتلون ويأسرون من لحقوا منهم، وانقطع الخبيث في جماعة من حماة أصحابه وفيهم المهلبي وفارقه ابنه انكلاي وسليمان بن جامع فقصد كل فريق منهم جمعا كثيفا من الجيش.
وكان أبو العباس قد تقدم، فلقي المنهزمين في الموضع بعسكر ريحان، فوضع أصحابه فيهم السلاح، ولقيهم طائفة أخرى فأوقعوا بهم أيضا وقتلوا منهم جماعة وأسروا سليمان بن جامع فاتوا به الموفق من غير عهد ولا عقد، فاستبشر الناس بأسره وكثر التكبير وأيقنوا بالفتح إذ كان أكثر أصحاب الخبيث عتا عنه؛ وأسر من بعده إبراهيم بن جعفر الهمذاني وكان أحد أمراء جيوشه، فأمر الموفق بالاستيثاق منهم وجعلهم في شذاة لأبي العباس.
ثم أن الزنج الذين انفردوا مع الخبيث حملوا على الناس حملة أزالوهم عن مواقفهم ففتروا فأحس الموفق بفتورهم فجد في طلب الخبيث وأمعن فتبعه أصحابه، وانتهى الموفق إلى آخر نهر أبي الخصيب فلقيه البشير بقتل الخبيث وأتاه بشير آخر ومعه كف، ذكر أنها كفه فقوي الخبر عنده، ثم أتاه غلام من أصحاب لؤلؤ يركض ومعه رأس الخبيث فأدناه منه وعرضه على جماعة من المستأمنة فعرفوه فخر لله ساجدا وسجد معه الناس، وأمر الموفق برفع رأسه على قناة فتأمله الناس فعرفوه وكثر الضجيج بالتحميد.
وكان مع الخبيث لما أحيط به المهلبي وحده فولى عنه هاربا وقصد
403

نهر الأمير فألقى نفسه فيه يريد النجاة؛ وكان انكلاي قد فارق أباه قبل ذلك وسار نحو الديناري.
ورجع الموفق ورأس الخبيث بين يديه وسليمان معه وأصحابه إلى مدينته وأتاه من الزنج عالم كبير يطلبون الأمان فأمنهم وانتهى إليه خبر إنكلاي والمهلبي ومكانهما ومن معهما من مقدمي الزنج فبث الموفق أصحابه في طلبهم وأمرهم بالتضييق عليهم، فلما أيقنوا أن لا ملجأ أعطوا بأيديهم فظفر بهم وبمن معهم وكانوا زهاء خمسة آلاف،
فأمر بالاستيثاق من المهلبي، وإنكلاي وكان ممن هرب قرطاس الرومي الذي رمى الموفق بالسهم في صدره فانتهى إلى رامهرمز فعرفه رجل فدل عليه عامل البلد فأخذه وسيره إلى الموفق فقتله أبو العباس.
وفيها استأمن درمويه الزنجي إلى أبي أحمد وكان درمويه من أنجاد الزنج وأبطالهم، وكان الخبيث قد وجهه قبل هلاكه بمدة إلى موضع كثير الشجر والأدغال والآجام متصل بالبطيحة، فكان هو ومن معه يقطعون الطريق هنالك على السابلة في زواريق خفاف فإذا طلبوا دخلوا الأنهار الصغار الضيقة واعتصموا بالأدغال وإذا تعذر عليهم مسلك لضيقه حملوا سفنهم ولجأوا إلى الأمكنة الوسيعة ويعبرون على قرى البطيحة ويقطعون الطريق فظفر بهم بجماعة من عسكر الموفق معهم نساء قد عادوا إلى منازلهم فقتل الرجال وأخذ النساء، فسألهن عن الخبر فأخبرته بقتل الخبيث وأسر أصحابه وقواده ومصير كثير منهم إلى الموفق بالأمان وإحسانه إليهم فسقط في يده ولم ير لنفسه ملجأ إلا طلب الأمان والصفح عن جرمه فأرسل
404

يطلب الأمان فأجابه الموفق إليه فخرج وجميع من معه حتى وافى بعسكره الموفق فأحسن إليهم وأمنهم.
فلما اطمأن درمويه أظهر ما كان في يده من الأموال والأمتعة وردها إلى أربابها ردا ظاهرا فعلم بذلك حسن نيته فازداد إحسان الموفق إليه وأمر أن يكتب إلى أمصار المسلمين بالنداء في أهل النواحي التي دخلها الزنج بالرجوع إلى أوطانهم فسار الناس إلى ذلك؛ وأقام الموفق بالمدينة الموفقية ليأمن الناس بمقامه وولى البصرة والأبلة وكور دجلة رجلا من قواده قد حمد مذهبه وعلم حسن سيرته يقال له العباس بن تركس وأمره بالمقام بالبصرة وولي قضاء البصرة والأبلة وكور دجلة محمد بن حماد.
وقدم ابنه العباس إلى بغداد ومعه رأس الخبيث ليراه الناس فبلغها لاثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى من هذه السنة.
وكان خروج صاحب الزنج يوم الأربعاء لأربع بقين من شهر رمضان سنة خمس وخمسين ومائتين، وقتل يوم السبت لليلتين خلتا من صفر سنة سبعين ومائتين، وكانت أيامه أربع عشرة سنة وأربعة أشهر وستة أيام، وقيل في أمر الموفق وأصحاب الزنج أشعار كثيرة، فمن ذلك قول يحيى بن محمد الأسلمي:
(أقول وقد جاء البشير بوقعة * أعزت من الإسلام ما كان واهيا)
(جزى الله خير الناس للناس بعدما * أبيح حماهم خير ما كان جازيا)
405

(تفرد، إذ لم ينصر الله ناصر * بتجديد دين كان أصبح باليا)
(وتجديد ملك قد وهي بعده عزه * وأخذ بثارات تبين الأعاديا)
(ورد عمارات أزيلت وأخربت * ليرجع فيء قد تخزم وافيا)
(وترجع أمصار أبيحت وأحرقت * مرارا فقد أمست قواء عوفيا)
(ويشفي صدور المسلمين بوقعة * يقر بها منها العيون البواكيا)
(ويتلى كتاب الله في مسجد * ويلقى دعاء الطالبين خاسيا)
(فأعرض عن جناته ونعيمه * وعن لذة الدنيا وأصبح عاريا)
وهي قصيدة طويلة، وقال غيره في هذا المعنى أيضا شعرا كثيرا وقد انقضى أمر الزنج.
ذكر الظفر بالروم
وفي هذه السنة خرجت الروم في مائة ألف فنزلوا على قلمية وهي على ستة أميال من طرسوس فخرج إليهم بازمار فبيتهم في ربيع الأول، فقتل منهم فيما يقال سبعين ألفا، وقتل مقدمهم وهو بطريق
406

البطارقة وقتل أيضا بطريق الفنادين وبطريق الناطليق، وأفلت بطريق قرة وبه عدة جراحات، وأخذ لهم سبع صلبان من ذهب وفضة وصليبهم الأعظم من ذهب مكلل بالجوهر، وأخذ خمسة عشر ألف دابة وبغل، ومن السروج وغير ذلك وسيوفا محلاة وأربع كراسي من ذهب ومائتي كرسي من فضة وآنية كثيرة ونحوا من عشرة آلاف علم ديباج وديباجا كثيرا وبزيون (؟) وغير ذلك.
ذكر وفاة الحسن بن زيد وولاية أخيه محمد
وفيها توفي الحسن بن زيد العلوي صاحب طبرستان في رجب وكانت ولايته تسع عشرة سنة وثمانية أشهر وستة أيام، وولى مكانه أخوه محمد ابن زيد.
وكان الحسن جوادا امتدحه رجل فأعطاه عشرة آلاف درهم، وكان متواضعا لله تعالى.
حكي عنه أنه امتدحه شاعر فقال الله فرد وابن زيد فرد، فقال بفيك الحجر يا كذاب هلا قلت الله فرد وابن زيد عبد، ثم نزل عن مكانه وخر ساجدا لله تعالى وألصق خده بالتراب وحرم الشعر.
وكان عالما بالفقه والعربية، مدحه شاعر فقال:
407

(لا تقل بشرى ولكن بشريان * غرة الداعي ويوم المهرجان)
فقال له: كان الواجب أن تفتتح الأبيات بغير لا فإن الشاعر المجيد يتخير لأول القصيدة ما يعجب السامع ويتبرك به ولو ابتدأت بالمصراع الثاني لكان أحسن؛ فقال له الشاعر: ليس في الدنيا كلمة أجل من لا إله إلا الله وأولها لا فقال أصبت وأجازه.
وحكى عنه أنه غنى عنده مغن بأبيات الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب التي أولها:
(وأنا الأخضر من يعرفني * أخضر الجلدة من بيت العرب)
فلما وصل إلى قوله:
(برسول الله وابن عمه * وبعباس بن عبد المطلب)
غير البيت فقال:
(لا بعباس بن عبد المطلب *)
فغضب الحسن وقال يا ابن اللخناء تهجو بني عمنا بين يدي وتحرف ما مدحوا به لئن فعلتها مرة ثانية لأجعلنها آخر غنائك.
ذكر وفاة أحمد بن طولون وولاية ابنه خمارويه
في هذه السنة توفي أحمد بن طولون صاحب مصر والشام والثغور الشامية.
وكان سبب موته أن نائبة بطرسوس وثب عليه بازمار الخادم وقبض
408

عليه وعصي على أحمد وأظهر الخلاف، فجمع أحمد العساكر وسار إليه، فلما وصل أذنة كاتبه وراسله يستميله فلم يلتفت إلى رسالته فسار إليه أحمد ونازله وحصره فخرق بازمار نهر البلد على منزلة العسكر فكاد الناس يهلكون، فرحل أحمد مغيظا حنقا، وكان الزمان شتاء، وأرسل بازمار إنني لم أرحل إلا خوفا أن تخترق حرمة هذا الثغر فيطمع فيه العدو.
فلما عاد إلى أنطاكية أكل لبن الجواميس فأكثر منه فأصابه منه هيضة واتصلت حتى صار منها ذرب وكان الأطباء يعالجونه وهو يأكل سرا فلم ينجع الدواء فتوفي رحمه الله.
وكانت امارته نحو ست وعشرين سنة، وكان عاقلا حازما كثير المعروف والصدقة متدينا يحب العلماء وأهل الدين، وعمل كثيرا من أعمال البر ومصالح المسلمين وهو الذي بنى قلعة يافا وكانت المدينة بغير قلعة، وكان يميل إلى مذهب الشافعي ويكرم أصحابه.
وولى بعده ابنه خمارويه وأطاعه القواد وعصي عليه نائب أبيه بدمشق فسير إليه العساكر فأجلوه وساروا من دمشق إلى شيزر.
ذكر مسير إسحاق بن كنداجيق إلى الشام
لما توفي أحمد بن طولون كان إسحاق بن كنداجيق على الموصل والجزيرة فطمع هو وابن أبي الساج في الشام واستصغرا أولاد أحمد وكاتبا الموفق
409

بالله في ذلك واستمداه، فأمرهما بقصد البلاد ووعدهما إنفاذ الجيوش، فجمعا وقصدا ما يجاورهما من البلاد فاستوليا عليه وأعانهما النائب بدمشق لأحمد بن طولون ووعدهما الانحياز إليهما، فتراجع من بالشام من نواب أحمد بأنطاكية وحلب وحمص وعصى متولي دمشق واستولى إسحاق على ذلك.
وبلغ الخبر إلى أبي الجيش خمارويه بن أحمد فسير الجيوش إلى الشام فملكوا دمشق وهرب النائب الذي كان بها، وسار عسكر خمارويه من دمشق إلى شيزر لقتال إسحاق بن إسحاق كنداجيق وابن أبي الساج فطاولهم إسحاق ينتظر المدد من العراق.
وهجم الشتاء على الطائفتين وأضر بأصحاب ابن طولون فتفرقوا في المنازل بشيزر.
ووصل العسكر العراقي إلى كنداجيق وعليهم أبو العباس أحمد بن الموفق وهو المعتضد بالله فلما وصل سار مجدا إلى عسكر خمارويه بشيزر فلم يشعروا حتى كبسهم في المساكن ووضع السيف فيهم فقتل منهم مقتلة عظيمة، وسار من سلم إلى دمشق على أقبح صورة، فسار المعتضد إليهم فجلوا عن دمشق إلى الرملة وملك هو دمشق ودخلها في شعبان سنة إحدى وسبعين ومائتين، وأقام عسكر ابن طولون بالرملة فأرسلوا إلى خمارويه يعرفونه الحال فخرج من مصر في عساكره قاصدا الشام.
410

ذكر عدة حوادث
وفيها في جمادى الأولى توفي هارون بن الموفق ببغداد.
يوم الخميس لليلتين خلتا من جمادى الأولى وفيها كان فداء أهل سندية على يد بازمار.
وفيها في شعبان شغب أصحاب أبي العباس بن الموفق على صاعد بن مخلد وهو وزير الموفق وطلبوا الأرزاق وقاتلهم أصحاب صاعد وكان بينهم حرب شديدة قتل فيها جماعة وأسر من أصحاب أبي العباس جماعة، ولم يكن أبو العباس حاضرا كان قد خرج متصيدا ودامت الحرب إلى بعد المغرب ثم كف بعضهم عن بعض ثم وضع الغطاء من الغد واصطلحوا.
وفيها كانت وقعة بين إسحاق بن كنداجيق وبين ابن دعباش وكان ابن دعباش بالرقة عاملا عليها وعلى الثغور والعواصم لابن طولون وابن كنداجيق على الموصل للخليفة.
وفيها ابتدأ إسماعيل بن موسى بناء مدينة لاردة من الأندلس وكان مخالفا لمحمد صاحب الأندلس ثم صالحه في العام الماضي.
فلما سمع صاحب برشلونة الفرنجي جمع وحشد وسار يريد منعه من ذلك، فسمع به إسماعيل فقصده وقاتله فانهزم المشركون وقتل أكثرهم وبقي أكثر القتلى في تلك الأرض دهرا طويلا.
وفيها توفي محمد بن إسحاق بن جعفر الصاغاني الحافظ ومحمد بن مسلم بن عثمان المعروف بابن وارة الرازي وكان إماما في الحديث وله فيه مصنفات.
411

وفيها توفي داود بن علي الأصبهاني الفقيه إمام أصحاب الظاهر وكان مولده سنة اثنتين ومائتين.
وفيها توفي مصعب بن أحمد بن مصعب أبو أحمد الصوفي الزاهد وهو من أقران الجنيد.
وفيها مات ملك الروم وهو ابن صقلبية، وحج بالناس هارون بن محمد بن محمد بن إسحاق بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله ابن العباس.
وفيها توفي خالد بن أحمد بن خالد السدوسي الذهلي الذي كان أمير خراسان ببغداد وكان قد قصد الحج فقبض عليه الخليفة المعتمد وحبسه فمات بالحبس، وهو الذي أخرج البخاري صاحب الصحيح من بخارى وخبره معه مشهور فدعا عليه البخاري فأدركته الدعوة.
412

271
ثم دخلت سنة إحدى وسبعين ومائتين
ذكر خلاف محمد وعلي العلويين
في هذه السنة دخل محمد وعلي ابنا الحسين بن جعفر بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب المدينة وقتلا جماعة من أهلها وأخذا من قوم مالا، ولم يصل أهل المدينة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع جمع لا جمعة ولا جماعة فقال الفضل بن العباس العلوي في ذلك:
(أخربت دار هجرة المصطفى الب‍ * ر فأبكى خرابها المسلمينا)
(عين فأبكى مقام جبريل والقب‍ * ر فبكى والمنبر الميمونا)
(وعلى المسجد الذي أسه التق‍ * وى خلاء أمسى من العابدينا)
(وعلى طيبة التي بارك الل‍ * ه عليها بخاتم المرسلينا)
413

ذكر عزل عمرو بن الليث عن خراسان
وفيها أدخل المعتمد إليه حاج خراسان وأعلمهم أنه قد عزل عمرو بن الليث عما كان قلده ولعنه بحضرتهم وأخبرهم أنه قلد خراسان محمد بن طاهر وأمر أيضا بلعن عمرو على المنابر فلعن، فسار صاعد بن مخلد إلى فارس لحرب عمرو فاستخلف محمد بن طاهر رافع بن هرثمة على خراسان فلم يغير السامانية عما وراء النهر.
ذكر وقعة الطواحين
وفي هذه السنة كانت وقعة الطواحين بين أبي العباس المعتضد وبين خمارويه بن أحمد بن طولون.
وسبب ذلك أن المعتضد سار من دمشق بعد أن ملكها نحو الرملة إلى عساكر خمارويه فأتاه الخبر بوصول خمارويه إلى عساكره وكثرة من معه من الجموع، فهم بالعود فلم يمكنه من معه من أصحاب خمارويه الذين صاروا معه.
وكان المعتضد قد أوحش ابن كنداجيق وابن أبي الساج ونسبهما إلى الجبن حيث انتظراه ليصل إليهما ففسدت نياتهما معه.
ولما وصل خمارويه إلى الرملة نزل على الماء الذي عليه الطواحين فملكه فنسبت الوقعة إليه؛ ووصل المعتضد وقد عبأ أصحابه وكذلك أيضا فعل خمارويه وجعل عليهم سعيدا الأيسر، وحملت ميسرة المعتضد على
414

ميمنة خمارويه فانهزمت، فلما رأى ذلك خمارويه ولم يكن رأى مصافا قبله ولى منهزما في نفر من الأحداث الذي لا علم لهم بالحرب ولم يقف دون مصر.
ونزل المعتضد إلى خيام خمارويه وهو لا يشك في تمام النصر فخرج الذين عليهم سعيد الأيسر وانضاف إليه من بقي من جيش خمارويه ونادوا بشعارهم وحملوا على عسكر المعتضد وهم مشغلون بنهب السواد ووضع المصريون السيف فيهم.
وظن المعتضد أن خمارويه قد عاد فركب فانهزم ولم يلو على شيء فوصل إلى دمشق ولم يفتح له أهلها بابها فمضى منهزما حتى بلغ طرسوس، وبقي العسكران يضطربان بالسيوف وليس لواحد منهما أمير.
وطلب سعيد الأيسر خمارويه فلم يجده فأقام أخاه أبا العشائر وتمت الهزيمة على العراقيين وقتل منهم خلق كثير وأسر كثير.
وقال سعيد للعساكر إن هذا أخو صاحبكم وهذه الأموال تنفق فيكم؛ ووضع العطاء فاشتغل الجند عن الشغب بالأموال، وسيرت البشارة إلى مصر ففرح خمارويه بالظفر وخجل للهزيمة غير أنه أكثر الصدقة وفعل مع الأسرى فعلة لم يسبق إلى مثلها قبله فقال لأصحابه إن هؤلاء أضيافكم فأكرموهم ثم أحضرهم بعد ذلك وقال لهم نم اختار المقام عندنا فله الإكرام والمواساة ومن أراد الرجوع جهزناه وسيرناه فمنهم من أقام ومنهم من سار مكرما وعادت عساكر خمارويه إلى الشام ففتحته أجمع فاستقر ملك خمارويه له.
415

ذكر الحرب بين عسكر الخليفة وعمرو الصفار
في هذه السنة عاشر ربيع الأول كانت وقعة بين عساكر الخليفة وفيها أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف وبين عمرو بن الليث الصفار، ودامت الحرب من أول النهار إلى الظهر فانهزم عمرو وعساكره وكانوا خمسة عشر ألفا بين فارس وراجل، وجرح الدرهمي مقدم جيش عمرو بن الليث وقتل مائة رجل من حماتهم وأسر ثلاثة آلاف أسير واستأمن منهم ألف رجل، وغنموا من معسكر عمرو من الدواب والبقر والحمير ثلاثين ألف رأس وما سوى ذلك فخارج عن الحد.
ذكر حرب الأندلس وأفريقية
في هذه السنة سير محمد صاحب الأندلس جيشا مع ابنه المنذر إلى مدينة بطليوس فزال عنها ابن مروان الجليقي وكان مخالفا كما ذكرنا وقصد حصن أشير غرة فتحصن فأحرق المنذر بطليوس، وسير محمد أيضا جيشا مع هاشم بن عبد العزيز إلى مدينة سرقسطة وبها محمد بن لب بن موسى فملكها هاشم وأخرج منها محمدا وكان معه عمر بن حفصون الذي ذكرنا خروجه على صاحب الأندلس فصالحه.
416

فلما عادوا إلى قرطبة هرب عمر بن حفصون وقصد بربشتر مخالفا، فاهتم صاحب الأندلس به على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وفيها سارت سرية للمسلمين عظيمة بصقلية إلى رمطة فخربت وغنمت وسبت وأسرت كثيرا وعادت.
وتوفي أمير صقلية وهو الحسين بن أحمد فولى بعده سوادة بن محمد بن خفاجة التميمي وقدم إليها فسار عسكر كبير إلى مدينة قطانية فأهلك ما فيها وسار إلى طبرمين فقاتل أهلها وأفسد زرعها، وتقدم فيها فأتاه رسول بطريق الروم يطلب الهدنة والمفاداة فهادنه ثلاثة أشهر وفاداه ثلاثمائة أسير من المسلمين فرجع سوادة إلى بلرم.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة عقد لأحمد بن محمد الطائي على المدينة وطريق مكة فوثب يوسف بن أبي الساج وهو والي مكة على بدر غلام الطائي وكان أميرا على الحاج فحاربه واسره فثار الجند والحاج بيوسف فقاتلوه واستنقذوا بدرا وأسروا يوسف وحملوه إلى بغداد وكانت الحرب بينهم على أبواب المسجد الحرام. وفيها خربت العامة الدير العتيق الذي وراء نهر عيسى وانتهبوا ما فيه وقلعوا أبوابه فسار إليهم الحسين بن إسماعيل صاحب شرطة بغداد من قبل محمد بن طاهر فمنعهم من هدم ما بقي منه وكان يتردد هو والعامة إليه أياما حتى كاد أن يكون بينهم حرب، ثم بنى ما هدم بعد أيام وكانت إعادة بنائه بقوة عبدون أخي صاعد بن مخلد.
وحد بالناس هارون بن محمد بن إسحاق. وفيها توفي عبد الرحمن بن محمد بن منصور البصري.
417

272
ثم دخلت سنة اثنتين وسبعين ومائتين
ذكر الحرب بين اذكوتكين ومحمد بن زيد العلوي
في هذه السنة منتصف جمادى الأولى كانت حرب شديدة بين اذكوتكين وبين محمد بن زيد العلوي صاحب طبرستان، ثم سار اذكوتكين من قزوين إلى الري ومعه أربعة آلاف فارس، وكان مع محمد بن زيد من الديلم والطبرية والخراسانية عالم كبير فاقتتلوا فانهزم عسكر محمد بن زيد وتفرقوا وقتل منهم ستة آلاف وأسر ألفان، وغنم اذكوتكين وعسكره من أثقالهم وأموالهم ودوابهم شيئا لم يروا مثله، ودخل اذكوتكين الري فأقام بها وأخذ من أهلها مائة ألف ألف دينار وفرق عماله في أعمال الري.
ذكر عدة حوادث
فيها وقع بين أبي العباس بن الموفق وبين بازمار بطرسوس فثار أهل طرسوس بأبي العباس فأخرجوه فسار إلى بغداد في النصف من المحرم.
وفيها توفي سليمان بن وهب في جيش الموفق في صفر.
418

وفيها خرج خارجي بطريق خراسان وسار إلى دسكرة الملك فقتل.
وفيها دخل حمدان بن حمدون وهارون الشاري مدينة الموصل وصلى بهم الشاري في جامعها.
وفيها نقب المطبق من داخله وأخرج منه الدوباني العلوي، وفتيان معه فركبوا دواب أعدت لهم وهربوا فأغلقت أبواب بغداد فأخذ الدوباني ومن معه، فأمر الموفق وهو بواسط أن تقطع يده ورجله من خلاف فقطع.
وفيها قدم صاعد بن مخلد من فارس إلى واسط فأمر الموفق جميع قواده أن يستقبلوه فاستقبلوه وترجلوا له وقبلوا يده وهو لا يكلمهم كبرا وتيها، ثم قبض الموفق عليه وعلى جميع أهله وأصحابه ونهب منازلهم بعد أيام، وكان قبضه في رجب، وقبض أباه أبو عيسى وصالح وأخوه عبدون ببغداد، واستكتب مكانه أبا الصقر إسماعيل بن بلبل واقتصر به على الكتابة دون غيرها.
وفيها نزل بنو شيبان ومن معهم بين الزانين من أعمال الموصل وعاثوا في البلد وأفسدوا، وجمع هارون الخارجي على قصدهم وكتب إلى حمدان بن حمدون التغلبي في المجيء إليه إلى الموصل، فسار هارون نحو الموصل وسار حمدان ومن معه إليه فعبروا إليه بالجانب الشرقي من دجلة وساروا جميعا إلى نهر الخازر وقاربوا حلل بني شيبان فوافقه طليعة لبني شيبان على طليعة هارون فانهزمت طليعة هارون وانهزم هارون وجلا أهل نينوى
419

عنها إلا من تحصن بالقصور.
وفيها زلزلت مصر في جمادى الآخرة زلزلة شديدة أخربت الدور والمسجد الجامع وأحصي بها في يوم واحد ألف جنازة.
وفيها غلا السعر ببغداد وكان سببه أن أهل سامراء منعوا من انحدار السفن بالطعام ومنع الطائي أرباب الضياع من الدياس لتغلو الأسعار، ومنع أهل بغداد عن سامراء الزيت والصابون وغير ذلك، واجتمعت العامة ووثبوا بالطائي فجمع أصحابه وقاتلهم فجرح بينهم جماعة وركب محمد بن طاهر وسكن الناس وصرفهم عنه.
وفيها توفي إسماعيل بن برية الهاشمي في شوال وعبيد الله بن عبد الله الهاشمي.
وفيها تحركت الزنج بواسط وصاحوا انكلاي يا منصور وكان هو والمهلبي وسليمان بن جامع وجماعة من قوادهم في حبس الموفق ببغداد، وكتب الموفق بقتلهم فقتلوا، وأرسلت رؤوسهم إليه وصلبت أبدانهم ببغداد.
وفيها صلح أمر مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتراجع الناس إليها.
وفيها غزا الصائفة بازمار وحج بالناس هارون بن محمد بن إسحاق.
وفيها سير صاحب الأندلس إلى ابن مروان الجليقي وهو بحصن أشير غرة فحصروه وضيقوا عليه، وسير جيشا آخر إلى محاربة عمر بن
420

حفصون بحصن بربشتر.
فيها انقضت الهدنة بين سوادة أمير صقلية والروم فأخرج سوادة السرايا إلى بلد الروم بصقلية فغنمت وعادت.
وفيها قدم من القسطنطينية بطريق يقال له أنجفور في عسكر كبير فنزل على مدينة سبرينة فحصرها وضيق على من بها من المسلمين فسلموها على أمان ولحقوا بأرض صقلية.
ثم وجه أنجفور عسكرا إلى مدينة منتية فحصروها حتى سلمها أهلها بأمان إلى بلرم من صقلية.
وفيها مات أبو بكر محمد بن صالح بن عبد الرحمن الأنماطي المعروف بكنجلة وهو أصحاب يحيى بن معين وهو لقبه.
وفيها توفي أحمد بن عبد الجبار بن محمد بن عطارد العطاردي التميمي وهو يروي مغازي ابن إسحاق عن يونس عن ابن إسحاق ومن طريقه سمعناه.
وفيها توفي إبراهيم بن الوليد بن الخشخاش.
وفيها توفي شعيب بن بكار الكاتب وله حديث عن أبي عاصم النبيل.
421

273
ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين ومائتين
ذكر الاختلاف بين ابن أبي الساج وابن كنداج
والخطبة بالجزيرة لابن طولون
في هذه السنة فسد الحال بين محمد بن أبي الساج وإسحاق بن كنداج وكانا متفقين في الجزيرة.
وسبب ذلك أن ابن أبي الساج نافر إسحاق في الأعمال وأراد التقدم وامتنع عليه إسحاق، فأرسل ابن أبي الساج إلى خمارويه بن أحمد بن طولون صاحب مصر وأطاعه وصار معه وخطب له بأعماله وهي قنسرين وسير ولده ديوداد إلى خمارويه رهينة، فأرسل إليه خمارويه مالا جزيلا ولقواده.
وسار خمارويه إلى الشام فاجتمع هو وابن أبي الساج ببالس، وعبر ابن أبي الساج الفرات إلى الرقة فلقيه ابن كنداج وجرى بينهما حرب انهزم فيها ابن كنداج واستولى ابن أبي الساج على ما كان لابن كنداج، وعبر خمارويه الفرات ونزل الرافقة ومضى إسحاق منهزما إلى قلعة ماردين فحصره ابن أبي الساج وسار عنها إلى سنجار فأوقع بها بقوم من الأعراب، وسار ابن كنداج من ماردين نحو الموصل فلقيه ابن أبي الساج ببرقعيد
422

فكمن كمينا فخرجوا على ابن كنداج وقت القتال فانهزم عنها وعاد إلى ماردين فكان فيها؛ وقوي ابن أبي الساج وظهر أمره واستولى على الجزيرة والموصل وخطب لخمارويه فيها ثم لنفسه بعده.
ذكر الوقعة بين عسكر ابن أبي الساج والشراة
لما استولى ابن أبي الساج على الموصل أرسل طائفة من عسكره مع غلامه فتح وكان شجاعا مقداما عنده إلى المرج من أعمال الموصل فساروا إليها وجبوا الخراج منها.
وكان اليعقوبية الشراة بالقرب منه فأرسل إليهم فهادنهم وقال إنما مقامي بالمرج مدة يسيرة ثم ارحل عنه فسكنوا إلى قوله وتفرقوا فنزل بعضهم بالقرب من سوق الأحد، فأسرى إليهم فتح في السحر فكبسهم وأخذ أموالهم وانهزم الرجال عنه.
وكان باقي اليعقوبية قد خرجوا إلى أصحابهم الذين أوقع بهم فتح من غير أن يعلموا بالوقعة فلقيهم المنهزمون من أصحابهم فاجتمعوا وعادوا إلى فتج فقاتلوه وحملوا حملة رجل واحد فهزموه وقتلوا من أصحابه ثمانمائة رجل، وكان أصحابه ألف رجل فأفلت في نحو مائة رجل وتفرق مائة في القرى واختفوا وعادوا إلى الموصل متفرقين وأقاموا بها.
423

ذكر وفاة محمد بن عبد الرحمن ولاية ابنه المنذر
في هذه السنة توفي محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام الأموي صاحب الأندلس سلخ صفر، وكان عمره نحوا من خمس وستين سنة، وكانت ولايته أربعا وثلاثين سنة وأحد عشر شهرا، وكان أبيض مشربا بحرة ربعة أوقص يخضب بالحناء والكتم وخلف ثلاثة وثلاثين ولدا ذكورا، وكان ذكيا فطنا بالأمور المشتبهة متعاينا منها.
ولما مات ولى بعده ابنه المنذر بن محمد بويع له بعد موت أبيه بثلاث ليال وأطاعه الناس وأحسن إليهم.
ذكر عدة حوادث
وفيها أيضا كانت وقعة بالرقة في جمادى الأولى بين إسحاق بن كنداجيق وبين محمد بن أبي الساج انهزم إسحاق ثم كانت بينهما وقعة أخرى في ذي الحجة فانهزم إسحاق أيضا.
وفي هذه السنة وثب أولاد ملك الروم على أبيهم فقتلوه وملك أحدهم بعده.
424

وفيها قبض الموفق على لؤلؤ غلام ابن طولون الذي كان قدم عليه بالأمان حين كان يقاتل الزنج بالبصرة، ولما قبضه قيده وضيق عليه وأخذ منه أربعمائة ألف دينار فكان لؤلؤ يقول ليس لي ذنب إلا كثرة مالي ولم تزل أموره في أدبار إلى أن افتقر ولم يبق له شيء ثم عاد إلى مصر في آخر أيام هارون بن خمارويه فريدا وحيدا بغلام واحد، فكان هذا ثمرة العقل السخيف وكفر الإحسان.
وحج بالناس فيها هارون بن محمد بن إسحاق.
وفيها ثار السودان بمصر وحصروا صاحب الشرطة فسمع خمارويه بن أحمد بن طولون الخبر فركب وفي يده سيف مسلول وقصد دار صاحب الشرطة وقتل كل من لقيه من السودان فانهزموا منه وأكثر القتل وسكنت مصر وأمن الناس.
وفيها مات أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني صاحب كتاب السنن ومحمد بن زيد بن ماجة القزويني وله أيضا كتاب السنن وكان عاقلا إماما عالما؛ وتوفي الفتح بن شحرق أبو داود الكشي الصوفي وكان موته ببغداد وهو من أصحاب الأحوال الشريفة وتوفي حنبل بن إسحاق.
425

274
ثم دخلت سنة أربع وسبعين ومائتين
ذكر الحرب بين عسكر عمرو بن الليث وبين عسكر الموفق.
في هذه سار الموفق إلى فارس لحرب عمرو بن الليث الصفار فبلغ الخبر إلى عمرو فسير العباس بن إسحاق في جمع كبير من العسكر إلى سيراف، وأنفذ ابنه محمد بن عمرو إلى أرجان، وسير أبا طلحة شركب صاحب جيشه على مقدمته فاستأمن أبو طلحة إلى الموفق وسمع عمرو ذلك فتوقف عن قصد الموفق.
ثم أن أبا طلحة عزم على العود إلى عمرو فبلغ الموفق خبره فقبض عليه بقرب شيراز وجعل ماله لابنه المعتضد أبي العباس، وسار يطلب عمرا فعاد عمرو إلى كرمان ومنها إلى سجستان على المفازة فتوفي ابنه محمد بالمفازة، ولم يقدر الموفق على أخذ كرمان وسجستان من عمرو فعاد عنه.
426

ذكر عدة حوادث
في هذه السنة غزا بازمار فأوغل في أرض الروم فأوقع فيها بكثير من أهلها وقتل وغنم وسبى وأسر وعاد سالما إلى طرسوس.
وفيها دخل صديق الفرغاني دور سامرا فنهبها، وأخذ أموال التجار منها وأفسد وكان صديق هذا يخفر الطريق ويحميه ثم صار يقطعها.
وحج بالناس هارون بن محمد.
وفيها توفي أبو العباس بن الكبش بن المتوكل وكان قد حبسه أخوه المعتمد ثم أطلقه.
وفيها توفي الحسن بن مكرم وعلي بن عبد الحميد الواسطي.
وفيها جمع إسحاق بن كنداج جمعا كثيرا وسار نحو الشأم فبلغ الخبر خمارويه فسار إليه وقد عبر الفرات فالتقيا وجرى بين الطائفتين قتال شديد انهزم فيه إسحاق هزيمة عظيمة لم يرده شيء حتى عبر الفرات وتحصن بها، وسار خمارويه إلى الفرات فعمل جسرا، فلما علم إسحاق بذلك سار من هناك إلى قلاع له قد أعدها وحصنها، وأرسل إلى خمارويه يخضع له ويبذل الطاعة في جميع ولايته وهي الجزيرة وما والاها فأجابه إلى ذلك.
427

وصالحه ابن أبي الساج وجمع جمعا كثيرا وسار نحو الشأم قاصدا منازعة خمارويه حيث كان أبعد إلى مصر فبلغ الخبر خمارويه فخرج عن مصر في عساكره فالتقيا في البثنية من أعمال دمشق، فاقتتلا قتالا عظيما انهزم ابن أبي الساج وعاد منهزما حتى عبر الفرات فأحضر خمارويه ولد ابن أبي الساج وكان رهينة عنده فخلع عليه وأطلقه وسيره إلى أبيه وعاد إلى مصر.
428

275
ثم دخلت سنة خمس وسبعين ومائتين
ذكر الاختلاف بين خمارويه وابن أبي الساج
قد ذكرنا اتفاق ابن أبي الساج وخمارويه بن طولون وطاعة ابن أبي الساج له فلما كان الآن خالف ابن أبي الساج على خمارويه، فسمع خمارويه الخبر فسار عن مصر في عساكره نحو الشام فقدم إليه آخر سنة أربع وسبعين فسار ابن أبي الساج إليه فالتقوا عند ثنية العقاب بقرب دمشق، واقتتلوا في المحرم من هذه السنة وكان القتال بينهما، فانهزمت ميمنة خمارويه وأحاط باقي عسكره بابن أبي الساج ومن معه، فمضى منهزما واستبيح معسكره وأخذت الأثقال والدواب وجميع ما فيه.
وكان قد خلف بحمص شيئا كثيرا، فسير إليه خمارويه قائدا في طائفة من العسكر جريدة فسبقوا ابن أبي الساج إليها ومنعوه من دخولها والاعتصام بها واستولوا على ماله فيها، فمضى ابن أبي الساج منهزما إلى حلب ثم منها إلى الرقة فتبعه خمارويه ففارق الرقة فعبر فعبر خمارويه الفرات وسار في أثر ابن أبي الساج فوصل خمارويه إلى مدينة بلد وكان قد سبقه ابن
429

أبي الساج إلى الموصل.
فلما سمع ابن أبي الساج بوصوله إلى بلد سار عن الموصل إلى الحديثة، وأقام خمارويه ببلد وعمل له سريرا طويل الأرجل فكان يجلس عليه في دجلة هكذا ذكر أبو
زكريا يزيد بن إياس الأزدي الموصلي صاحب تاريخ الموصل أن خمارويه وصل إلى بلد وكان إماما فاضلا عالما بما يقول وهو يشاهد الحال.
ذكر الحرب بين ابن كنداج وابن أبي الساج
لما انهزم ابن كنداج من ابن أبي الساج كما ذكرناه أقام إلى أن انهزم ابن أبي الساج من خمارويه، فلما وافى خمارويه بلدا أقام بها وسير مع إسحاق بن كنداج جيشا كثيرا وجماعة من القواد ورحل يطلب ابن أبي الساج فمضى بين يديه وابن كنداج يتبعه إلى تكريت، فعبر ابن أبي الساج دجلة وأقام ابن كنداج وجمع السفن ليعمل جسرا يعبر عليه، وكان يجري بين الطائفتين مراماة.
وكان ابن أبي الساج في نحو ألفي فارس وابن كنداج في عشرين ألفا، فلما رأى ابن أبي الساج اجتماع السفن سار عن تكريت إلى الموصل ليلا فوصل إليها في اليوم الرابع فنزل بظاهرها عند الدير الأعلى، وسار ابن كنداج يتبعه فوصل إلى العزيق.
فلما سمع ابن أبي الساج خبره سار إليه فالتقوا،
430

واقتتلوا عند قصر حرب فاشتد القتال بينهم وصبر محمد بن أبي الساج صبرا عظيما لأنه كان في قلة فنصره الله وانهزم ابن كنداج وجميع عسكره ومضى منهزما.
وكان أعظم الأسباب في هزيمته بغيه فإنه لما قيل له ان ابن أبي الساج قد أقبل نحوك من الموصل ليقاتلك قال استقبل الكلب.
فعد الناس هذا بغيا وخافوا منه فلما انهزم وسار إلى الرقة وتبعه محمد إليه وكتب إلى أبي أحمد الموفق يعرفه ما كان منه ويستأذنه في عبور الفرات إلى الشام بلاد خمارويه، فكتب إليه الموفق يشكره ويأمره بالتوقف إلى أن يصله الإمداد من عنده.
وأما ابن كنداج فإنه سار إلى خمارويه فسير معه جيشا فوصلوا إلى الفرات، فكان إسحاق بن كنداج على الشام وابن أبي الساج بالرقة ووكل بالفرات من يمنع من عبورها فبقوا كذلك مدة.
ثم إن ابن كنداج سير طائفة من عسكره فعبروا الفرات في غير ذلك الموضع وساروا فلم تشعر طائفة من عسكر ابن أبي الساج، كانوا طليعة إلا وقد أوقعوا بهم فانهزموا من عسكر إسحاق إلى الرقة فلما رأى ابن أبي الساج ذلك سار عن الرقة إلى الموصل، فما وصل إليها طلب من أهلها المساعدة بالمال وقال لهم ليس بالمضطر مروءة، فأقام بها نحو شهر وانحدر إلى بغداد فاتصل بأبي أحمد الموفق في ربيع الأول من سنة ست وسبعين
431

ومائتين، فاستصحبه معه إلى الجبل وخلع عليه ووصل بمال، وأقام ابن كنداج بديار ربيعة وديار مضر من أرض الجزيرة.
ذكر الحرب بين الطائي وفارس العبدي
وفيها ظهر فارس العبدي في جمع فأخاف السبيل وسار إلى دور سامراء ونهب فسار إليه الطائي مقاتلا فهزمه الطائي وأخذ سواده ثم سار الطائي إلى دجلة ليعبرها فدخل طيارة له فأدركه بعض أصحاب فارس فتعلقوا بكوثل الطيارة فرمى الطائي نفسه في الماء وسبح، فلما خرج منه نفض لحيته وقال أيش ظن العبدي أليس أنا أسبح من سمكة ثم نزل الطائي السن والعبدي بإزائه وقال علي بن بسام في الطائي:
(قد أقبل الطائي ما أقبلا * بفتح في الأفعال ما أجملا)
(كأنه من لين ألفاظه * صبية تمضغ جهد البلا)
وجهد البلا ضرب من النافط يتعلك.
وفيها قبض الموفق على الطائي وقيده وختم على كل شيء له، وكان يلي الكوفة وسوادها وطريق خراسان وسامرا والشرطة ببغداد وخراج بادوريا وقطربل ومسكن.
432

ذكر قبض الموفق على ابنه المعتضد بالله
في هذه السنة في شوال قبض الموفق على ابنه المعتضد بالله أبي العباس أحمد.
وسبب ذلك أن الموفق دخل إلى واسط ونزل بها ثم عاد إلى بغداد وتخلف المعتمد على الله بالمدائن، وأمر الموفق ابنه أن يسير إلى بعض الوجوه فقال لا أخرج إلا إلى الشام لأنها الولاية التي ولانيها أمير المؤمنين، فلما امتنع عليه أمر بإحضاره فلما حضر أمر بعض خدمه أن يحبسه في حجرة في داره، فلما قدم المعتضد تقدم إليه الخادم وأمره بدخول تلك الدار فدخل ووكل به فيها.
وثار القواد من أصحابه ومن تبعهم وركبوا واضطربت بغداد لما رأوا السلاح والقواد، فركب الموفق إلى الميدان وقال لهم ما شأنكم؟ أترون أنكم أشفق على ولدي مني وقد احتجت إلى تقويمه فانصرفوا.
وفي هذه السنة سار الطائي إلى سامرا بسبب صديق فراسله وأمنه ودخل سامرا في جماعة من أصحابه فأخذهم الطائي وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وحملهم إلى بغداد.
وفيها غزا بازمار في البحر فغنم من الروم أربع مراكب.
433

ذكر استيلاء رافع بن هرثمة على جرجان
في هذه السنة سار رافع بن هرثمة إلى جرجان فأزال عنها محمد بن زيد، وسار محمد إلى إستراباذ فحصره فيها رافع وأقام عليه نحو سنتين فغلت الأسعار بحيث لم يوجد ما يؤكل وبيع وزن درهم ملح بدرهمين فضة، وفارقها محمد بن زيد ليلا في نفر يسير إلى سارية، فسير إليه رافع عسكرا فتحاربا وسار محمد عن سارية وعن
طبرستان وذلك في ربيع الأول سنة سبع وسبعين ومائتين، واستأمن رستم بن قارن إلى رافع بطبرستان فصاهره ابن قولة.
وقدم على رافع وهو بطبرستان علي بن الليث وكان قد حبسه أخوه عمرو بكرمان فاحتال حتى تخلص هو وابناه المعدل والليث، وأنفذ رافع إلى شالوس محمد بن هارون نائبا عنه فأتاه بها علي بن كالي مستأمنا فأتاهما محمد بن زيد وحصرهما بشالوس وأخذ الطريق عليهما فلم يصل منهم إلى رافع خبر، فلما تأخر خبرهما عنه أرسل جاسوسا يأتيه بأخبارهما فعاد إليه فأخبره بحصر محمد بن زيد أياهما بشالوس فعظم عليه وسار إليهما فرحل عنهما محمد بن زيد إلى أرض الديلم، فدخل رافع خلفه أرض الديلم فخرقها حتى اتصل بحدود قزوين وعاد إلى الري وأقام بها إلى أن توفي الموفق في رجب سنة ست وسبعين ومائتين.
434

ذكر وفاة المنذر بن محمد الأموي
وفيها في المحرم توفي المنذر بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام الأموي صاحب الأندلس، وقيل في صفر وكانت ولايته سنة واحدة وأحد عشر شهرا وعشرة أيام، وكان عمره نحوا من ستة وأربعين سنة وكان أسمر طويلا بوجهه أثر جدري جعدا كث اللحية وخلف ستة ذكور، وكان جوادا يصل الشعراء ويحب الشعر.
ولما توفي بويع أخوه عبد الله بن محمد بويع له يوم موت أخيه، وكنيته أبو محمد أمه أم ولد اسمها عشار توفيت قبل ابنها بسنة، وفي أيامه امتلأت الأندلس بالفتن وصار في كل جهة متغلب ولم تزل كذلك طول ولايته.
ذكر عدة حوادث
وفيها توفي أبو بكر أحمد بن محمد بن الحجاج المروروذي وهو صاحب أحمد بن حنبل وعبد الله بن يعقوب بن إسحاق العطار الموصلي التميمي وكان كثير الحديث والرواية وكان معدلا عند الحكام.
وفيها توفي أبو سعيد الحسن بن الحسين بن عبد الله البكري النحوي اللغوي المشهور صاحب التصانيف وقيل توفي سنة سبعين [ومائتين]، والأول أصح.
435

276
ثم دخلت سنة ست وسبعين ومائتين
في هذه السنة جعلت شرطة بغداد إلى عمرو بن الليث وكتب اسمه على الأعلام والترسة وغيرها، وكان ذلك في شوال ثم ترتب في الشرطة عبيد الله بن عبد الله بن طاهر من قبل عمرو ثم أمره بطرح اسم عمرو عن الأعلام وغيرها في شوال من هذه السنة.
وفيها في منتصف ربيع الأول سار الموفق إلى بلاد الجبل، وسبب مسيره أن الماذرائي كاتب اذكوتكين أخبره أنه له هناك مالا عظيما وأنه إن سار معه أخذه جميعه فسار إليه فلم يجد المال، فلما لم يجد شيئا سار إلى الكرج ثم إلى أصبهان يريد أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف، فتنحى أحمد عن البلد بجيشه وعياله وترك داره بفرشها لينزلها الموفق إذا قدم.
وفيها استعمل الموفق بالله على آذربيجان ابن أبي الساج فسار إليه فخرج إليه عبد الله بن الحسن الهمذاني صاحب مراغة ليصده عنها فحاربه فانهزم عبد الله وحصر وأخذت منه سنة ثمانين ومائتين كما نذكره، واستقر ابن أبي الساج لعمله.
436

وفيها توفي محمد بن حماد بن إسحاق بن حماد بن يزيد القاضي.
وفيها قتل عامل الموصل لابن كنداج إنسانا من الخوارج اسمه نعيم، فسمع هارون مقدم الخوارج بذلك وهو بحديثة الموصل فجمع أصحابه وسار إلى الموصل يريد حرب أهلها فنزل شرقي دجلة، فأرسل إليه أعيانهم ومقدموهم يسألونه ما الذي أقدمه؟ فذكر قتل نعيم فقالوا إنما قتله عامل السلطان من غير اختيار منا وطلبوا منه الأمان ليحضروا عنده يعتذرون ويتبرأون من قتله فأمنهم، فخرج إليه جماعة من أهل الموصل وأعيانهم وتبرأوا من قتله فرحل عنهم.
وفيها عاد حجاج اليمن من مكة فنزلوا واديا فأتاهم السيل فحملهم جميعهم وألقاهم في البحر.
وفيها توفي أبو قلابة عبد الملك بن محمد الرقاشي البصري وكان يسكن بغداد.
وفيها ورد الخبر بإنفراج تل من نهر البصرة يعرف بتل شقيق عن سبعة أقبر فيها سبعة أبدان صحيحة والقبور في شبه الحوض في حجر في لون المسن عليه كتاب لا يدري ما هو وعليهم أكفان جدد ويفوح منها ريح المسك أحدهم شاب له جمة وعلى شفتيه بلل كأنه قد شرب ماء وكأنه قد كحل وبه ضربة في خاصرته.
وحج بالناس هارون بن محمد الهاشمي.
437

وفيها توفي أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة صاحب كتاب أدب الكاتب وكتاب المعارف وهو كوفي وإنما قيل له الدينوري لأنه كان قاضيها وقيل مات سنة سبعين [ومائتين] وأبو سعيد الحسن بن الحسين بن عبد الله اليشكري النحوي الراوية وكان مولده سنة اثنتي عشرة ومائتين.
وفيها توفي محمد بن علي أبو جعفر القصاب الصوفي وهو من أقران السري وصحبه الجنيد كثيرا.
438

277
ثم دخلت سنة سبع وسبعين ومائتين
في هذه السنة دعا بازمار بطرسوس لخمارويه بن أحمد بن طولون.
وسبب ذلك أن خمارويه أنفذ إليه ثلاثين ألف دينار وخمسمائة ثوب وخمسمائة مطرف وسلاحا كثيرا، فلما وصل إليه دعا له ثم وجه إليه بخمسين ألف دينار.
وفيها في ربيع الآخر كان بين وصيف خادم ابن أبي الساج والبرابرة أصحاب أبي الصقر فتنة فاقتتلوا فقتل بينهم جماعة كان ذلك بباب الشام فركب أبو الصقر ففرقهم.
وفيها ولى يوسف بن يعقوب المظالم وأمر من ينادي من كانت له مظلمة قبل الأمير الناصر لدين الله الموفق أو أحد من الناس فليحضر.
وفيها في شعبان قدم بغداد قائد عظيم من قواد خمارويه بن أحمد بن طولون في جيش عظيم؛ وحج بالناس هارون بن محمد بن عيسى الهاشمي.
وفيها توفي أبو جعفر أحمد بن محمد بن أبي المثنى الموصلي، وكان كثير الحديث، وهو من أهل الصدق والأمانة.
وفيها توفي أبو حاتم الرازي واسمه محمد بن إدريس بن المنذر وهو من أقران البخاري ومسلم.
439

ومات فيها يعقوب بن سفيان بن حوان السري وكان يتشيع ويعقوب بن يوسف بن معقل الأموي والد أبي العباس الأصم.
وفيها توفيت عريب المغنية المأمونية وقيل إنها ابنة جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك وكان مولدها سنة إحدى وثمانين ومائة.
وفيها توفي أبو سعيد الخراز واسمه أحمد بن عيسى وقيل سنة ست وثمانين [ومائتين]، والأول أشبه بالصواب.
(الخراز بالخاء المعجمة والراء والزاي).
440

278
ثم دخلت سنة ثمان وسبعين ومائتين
ذكر الفتنة ببغداد
فيها كانت الحرب ببغداد بين أصحاب وصيف الخادم والبربر وأصحاب موسى ابن أخت مفلح أربعة أيام من المحرم ثم اصطلحوا وقد قتل بينهم جماعة، ثم وقع بالجانب الشرقي وقعة بين أصحاب يونس قتل فيها رجل ثم انصرفوا.
ذكر وفاة الموفق
وفيها توفي أبو أحمد الموفق بالله بن المتوكل، وكان قد مرض في بلاد الجبل فانصرف وقد اشتد به وجع النقرس فلم يقدر على الركوب فعمل له سرير عليه قبة فكان يقعد عليه وخادم له يبرد رجله بالأشياء الباردة حتى أنه يضع عليها الثلج، ثم صارت على برجله داء الفيل وهو ورم عظيم يكون في الساق يسيل منه ماء وكان يحمل سريره أربعون رجلا بالنوبة فقال لهم يوما قد ضجرتم من حملي بودي أن أكون كواحد منكم أحمل على رأسي وأكل وأنا في عافية.
وقال في مرضه أطبق ديواني على مائة ألف مرتزق ما أصبح فيهم
441

أسوأ حالا مني فوصل إلى دار لليلتين خلتا من صفر وشاع موته بعد انصراف أبي الصقر من داره وكان تقدم بحفظ أبي العباس فأغلقت عليه أبواب دون أبواب وقوي الإرجاف بموته وكان قد اعترته غشية فوجه أبو الصقر إلى المدائن فحمل منها المعتمد وأولاده فجيء بهم إلى داره ولم يسر أبو الصقر إلى دار الموفق.
فلما رأى غلمان الموفق المائلون إلى أبي العباس والرؤساء من غلمان أبي العباس ما نزل بالموفق كسروا الأقفال والأبواب المغلقة على أبي العباس، فلما سمع أبو العباس ذلك ظن أنهم يريدون قتله وأخذ سيفه بيده وقال لغلام عنده والله لا يصلون إلي وفي شيء من الروح! فلما وصلوا إليه رأى في أولهم غلامه وصيفا موشكير فلما رآه ألقى السيف من يده وعلم أنهم ما يريدون إلا الخير فأخرجوه وأقعدوه عند أبيه فلما فتح عينه رآه فقربه وأدناه إليه.
وجمع أبو الصقر عنده القواد والجند وقطع الجسرين وحاربه قوم من الجانب الشرقي فقتل بينهم قتلى، فلما بلغ الناس أن الموفق حي حضر عنده محمد بن أبي الساج وفارق أبا الصقر وتسلل القواد والناس عن أبي الصقر، فلما رأى أبو الصقر ذلك حضر هو وابنه دار الموفق فما قال له الموفق شيئا مما جرى فأقام في دار الموفق، فلما رأى المعتمد أنه بقي في الدار نزل هو وبنوه وبكتمر فركبوا زورقا فلقيهم طيار لأبي ليلى بن عبد العزيز بن أبي دلف فحمله فيه إلى دار علي بن جهشيار.
442

وذكر أعداء أبي الصقر أنه أراد أن يتقرب إلى المعتمد بمال الموفق وأسبابه وأشاعوا ذلك عنه عند أصحاب الموفق فنهب دار أبي الصقر حتى أخرجت نساؤه منها حفاة بغير أزر ونهب ما يجاوره من الدور وكسرت أبواب السجون وخرج من كان فيها.
وخلع الموفق على ابنه أبي العباس وعلى أبي الصقر وركبا جميعا، فمضى أبو العباس إلى منزله وأبو الصقر إلى منزله وقد نهب، فطلب حصيرة يقعد عليها عارية؛ فولى أبو العباس غلامه بدرا الشرطة واستخلف محمد بن غانم بن الشاه على الجانب الشرقي.
ومات الموفق يوم الأربعاء لثمان بقين من صفر من هذه السنة ودفن ليلة الخميس بالرصافة وجلس أبو العباس للتعزية.
وكان الموفق عادلا حسن السيرة يجلس للمظالم وعنده القضاة وغيرهم فينتصف الناس بعضهم من بعض وكان عالما بالأدب والنسب والفقه وسياسة الملك وغير ذلك. قال يوما إن حدي عبد الله بن العباس قال إن الذباب ليقع على جليسي فيؤذيني ذلك وهذا نهاية الكرم وأنا والله أرى جلسائي بالعين التي أرى بها إخواني، والله لو تهيأ لي أن أغير أسماءهم لنقلتها من الجلساء إلى الأصدقاء والإخوان.
وقال يحيى بن علي دعا الموفق يوما جلساءه فسبقتهم وحدي فلما رآني وحدي أنشد يقول:
(وأستصحب الأصحاب حتى إذا دنوا * وملوا من الإدلاج جئتكم وحدي)
443

فدعوت له واستحسنت إنشاده في موضعه، وله محاسن كثيرة ليس هذا موضع ذكرها
ذكر البيعة للمعتضد بولاية العهد
لما مات الموفق اجتمع القواد وبايعوا ابنه أبا العباس بولاية العهد بعد المفوض ابن المعتمد ولقب المعتضد بالله وخطب له يوم الجمعة بعد المفوض وذلك لسبع ليال بقين من صفر، واجتمع عليه أصحاب أبيه وتولى ما كان أبوه يتولاه.
وفيها قبض المعتمد على أبي الصقر وأصحابه وانتهب منازلهم، وطلب بني الفرات فاختفوا، وخلع على عبيد الله بن سليمان بن وهب وولاه الوزارة، وسير محمد بن أبي الساج إلى واسط ليرد غلامه وصيفا إلى بغداد فمضى وصيف إلى السوس فعاث بها ونهب الطيب وأبى الرجوع إلى بغداد.
وفيها قتل علي بن الليث أخو الصفار قتله رافع بن هرثمة وكان قد يحنق به وترك أخاه.
وفيها غار ماء النيل فغلت الأسعار بمصر.
ذكر ابتداء أمر القرامطة
وفيها تحرك بسواد الكوفة قوم يعرفون بالقرامطة، وكان ابتداء أمرهم فيما ذكر أن رجلا منهم قدم من ناحية خوزستان إلى سواد الكوفة فكان بموضع يقال له النهرين يظهر الزهد والتقشف ويسف الخوص ويأكل
444

من كسب يده، ويكثر الصلاة فأقام على ذلك مدة، فكان إذا قعد إليه رجل ذاكره أمر الدين وزهده في الدنيا وأعلمه أن الصلاة المفروضة على الناس خمسون صلاة في كل يوم وليلة حتى فشا ذلك [عنه] بموضعه، ثم أعلمهم أنه يدعو إلى إمام من آل بيت الرسول فلم يزل على ذلك حتى استجاب له جمع كثير.
وكان يقعد إلى بقال هناك فجاء قوم إلى البقال يطلبون منه رجلا يحفظ عليهم ما صرموا من نخلهم فدلهم عليه وقال لهم ان أجابكم إلى حفظ تمركم فإنه بحيث تحبون فكلموه في ذلك، فأجابهم على أجرة معلومة فكان يحفظ لهم ويصلي أكثر نهاره ويصوم ويأخذ عند إفطاره من البقال رطل تمر فيفطر عليه ويجمع نوى ذلك التمر ويعطيه البقال، فلما حمل التجار تمرهم حاسبوا أجيرهم عند البقال ودفعوا إليه أجرته، وحاسب الأجير البقال على ما أخذ منه من التمر وحط ثمن النوى، فسمع أصحاب التمر محاسبته للبقال بثمن النوى فضربوه وقالوا له لم ترض بأكل تمرنا حتى بعت النوى، فقال لهم البقال لا تفعلوا، وقص عليهم القصة فندموا على ضربه واستحلوا منه ففعل وازداد بذلك عند أهل القرية لما وقفوا عليه من زهده.
ثم مرض فمكث على الطريق مطروحا وكان في القرية رجل أحمر العينين يحمل على أثوار له يسمونه كرميتة لحمرة عينيه وهو بالنبطية أحمر العين فكلم البقال الكرميتة في حمل المريض إلى منزله والعناية به ففعل وأقام عنده حتى برا، ودعا أهل تلك الناحية إلى مذهبه فأجابوه، وكان يأخذ من الرجل إذا أجابه دينارا ويزعم أنه للإمام واتخذ منهم
445

اثني عشر نقيبا أمرهم أن يدعوا الناس إلى مذهبهم وقال أنتم كحواري عيسى ابن مريم، فاشتغل أهل كور تلك الناحية عن أعمالهم بما رسم لهم من الصلوات.
وكان للهيصم في تلك الناحية ضياع فرأى تقصير الأكرة في عمارتها فسأل عن ذلك فأخبر بخبر الرجل فأخذه وحبسه وحلف أن يقتله لما اطلع على مذهبه وأغلق باب البيت وجعل مفتاح البيت تحت وسادته واشتغل بالشرب، فسمع بعض من في الدار من الجواري بحبسه فرقت للرجل فلما نام الهيصم أخذت المفتاح وفتحت الباب وأخرجته ثم أعادت المفتاح إلى مكانه، فلما أصبح الهيصم فتح الباب ليقتله فلم يجده.
وشاع ذلك في الناس فافتتن أهل تلك الناحية وقالوا رفع، ثم ظهر في ناحية أخرى ولقي جماعة من أصحابه وغيرهم وسألوه عن قصته فقال لا يمكن أحد أن ينالني بسوء فعظم في أعينهم، ثم خاف على نفسه فخرج إلى ناحية الشام فلم يوقف له على خبر، وسمي باسم الرجل الذي كان في داره كرميتة صاحب الأثوار ثم خفف فقيل قرمط،
446

هكذا ذكره بعض أصحاب زكرويه عنه.
وقيل إن قرمط لقب رجل كان بسواد الكوفة يحمل غلة السواد على أثوار له واسمه حمدان؛ ثم فشا مذهب القرامطة بسواد الكوفة، ووقف الطائي أحمد بن محمد على أمرهم فجعل على الرجل منهم في السنة دينارا وكان يجبي من ذلك مالا جليلا فقدم قوم من الكوفة فرفعوا أمر القرامطة والطائي إلى السلطان وأخبروه أنهم قد أحدثوا دينا غير دين الإسلام وأنهم يرون السيف على أمة محمد إلا من بايعهم فلم يلتفت إليهم ولم يسمع قولهم.
وكان فيما حكى عن القرامطة من مذهبهم أنهم جاؤوا بكتاب فيه بسم الله الرحمن الرحيم! يقول الفرج بن عثمان وهو من قرية يقال لها نصرانة داعية المسيح وهو عيسى وهو الكلمة وهو المهدي وهو أحمد بن محمد ابن الحنفية وهو جبريل، وذكر أن المسيح تصور له في جسم إنسان وقال له إنك الداعية وإنك الحجة وإنك الناقة وإنك الدابة وإنك يحيى بن زكريا وإنك روح القدس.
وعرفه أن الصلاة أربع ركعات ركعتان قبل طلوع الشمس وركعتان بعد غروبها، وأن الأذان في كل صلاة أن يقول المؤذن الله أكبر الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله مرتين أشهد أن آدم رسول الله أشهد أن نوحا رسول الله أشهد أن إبراهيم رسول الله أشهد أن موسى رسول الله أشهد أن عيسى رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن أحمد بن محمد بن الحنفية رسول الله.
وأن يقرأ في كل ركعة الاستفتاح وهي من المنزل على أحمد بن محمد بن الحنفية، والقبلة إلى بيت المقدس والحج إلى بيت المقدس، [والحج
447

إلى بيت المقدس]، وأن الجمعة يوم الاثنين لا يعمل فيه شيء والسورة الحمد لله بكلمته وتعالى باسمه المتخذ لأوليائه بأوليائه.
قل إن الأهلة مواقيت للناس ظاهرها ليعلم عدد السنين والحساب والشهور والأيام وباطنها أوليائي الذين عرفوا عبادي سبيلي اتقوني يا أولي الألباب وأنا الذي لا أسأل عما أفعل وأنا العليم الحكيم وأنا الذي أبلو عبادي وامتحن خلقي فمن صبر على بلائي ومحنتي واختباري ألقيته في جنتي وأخلدته في نعمتي ومن زال عن أمري وكذب رسلي
أخذته مهانا في عذابي وأتممت أجلي وأظهرت أمري على ألسنة رسلي.
وأنا الذي لم يعل علي جبار إلى وضعته ولا عزيز إلا أذللته وليس الذي أصر على أمري ودام على جهالته وقالوا لن نبرح عليه عاكفين وبه موقنين أولئك هم الكافرون.
ثم يركع ويقول في ركوعه سبحان ربي رب العزة وتعالى عما يصفون الظالمون يقولها مرتين، فإذا سجد قال الله أعلى الله أعلى الله أعظم الله أعظم.
ومن شريعته أن يصوم يومين في السنة وهما المهرجان والنيروز، وأن النبيذ حرام والخمر حلال، ولا غسل من جنابة إلا الوضوء كوضوء الصلاة، وأن من حاربه وجب قتله ومن لم يحاربه ممن يخالفه أخذ منه
448

الجزية، ولا يأكل من كل ذي ناب ولا كل ذي مخلب.
وكان مصير قرمط إلى سواد الكوفة قبل قتل صاحب الزنج فسار قرمط إليه وقال له إني على مذهب ورأي ومعي مائة ألف ضارب سيف فتناظرني فإن اتفقنا على المذهب ملت إليك بمن معي وإن تكن الأخرى انصرفت عنك فتناظرا فاختلف آراؤهما فانصرف قرمط عنه.
ذكر غزو الروم ووفاة بازمار
فيها في جمادى الآخرة، دخل أحمد العجيفي طرسوس وغزا مع بازمار الصائفة فبلغوا شكند، فأصابت بازمار شظية من حجر منجنيق في أضلاعه، فارتحل عنها بعد أن أشرف على أخذها، فتوفي في الطريق منتصف رجب وحمل إلى طرسوس فدفن بها.
وكان قد أطاع خمارويه بن أحمد بن طولون فلما توفي خلفه ابن عجيف وكتب إلى خمارويه يخبره بموته فأقره على ولاية طرسوس وأمده بالخيل والسلاح والذخائر وغيرها ثم عزله واستعمل عليها ابن عمه محمد بن موسى بن طولون.
449

ذكر الفتنة بطرسوس
وفيها ثار الناس، بطرسوس بالأمير محمد بن موسى فقبضوا عليه.
وسبب ذلك أن الموفق لما توفي كان له خادم من خواصه يقال له راغب فاختار الجهاد فسار إلى طرسوس على عزم المقام بها.
فلما وصل إلى الشام سير ما معه من دواب وآلات وخيام وغير ذلك إلى طرسوس وسار هو جريدة إلى خمارويه ليزوره ويعرفه عزمه، فلما لقيه بدمشق أكرمه خمارويه وأحبه وأنس به واستحيا راغب أن يطلب المسير إلى طرسوس فطال مقامه عنده فظن أصحابه أن خمارويه قبض عليه فأذاعوا ذلك فاستعظمه الناس وقالوا يعمد إلى رجل قصد الجهاد في سبيل الله فيقبض عليه ثم شغبوا على أميرهم محمد ابن عم خمارويه وقبضوا عليه وقالوا لا يزال في الحبس إلى أن يطلق ابن عمك راغبا.
ونهبوا داره وهتكوا حرمه.
وبلغ الخبر إلى خمارويه فأطلع راغبا عليه وأذن له في المسير إلى طرسوس، فلما بلغ إليها أطلق أهلها أميرهم فلما أطلقوه قال لهم قبح الله جواركم! وسار عنهم إلى البيت المقدس فأقام به، ولما سار عن طرسوس عاد العجيفي إلى ولايتها.
ذكر عدة حوادث
وفيها ظهر كوكب ذو جمة وصارت الجمة ذؤابة.
وحج بالناس هذه السنة هارون بن محمد بن إسحاق الهاشمي.
450

وتوفي فيها عبد الكريم الدير عاقولي.
وفيها توفي إسحاق بن كنداج وولى ما كان إليه من أعمال الموصل وديار ربيعة ابنه محمد.
وتوفي إدريس بن سليم الفقعسي الموصلي وكان كثير الحديث والصلاح.
451

279
ثم دخلت سنة تسع وسبعين ومائتين
ذكر خلع جعفر بن المعتمد وولاية المعتضد
في هذه السنة، في المحرم خرج المعتمد على الله وجلس للقواد والقضاة ووجوه الناس وأعلمهم أنه خلع ابنه المفوض إلى الله جعفر من ولاية العهد وجعل ولاية العهد للمعتضد بالله أبي العباس أحمد بن الموفق وشهدوا على المفوض أنه قد تبرأ من العهد وأسقط اسمه من السكة والخطبة والطرز وغير ذلك، وخطب للمعتضد وكان يوما مشهودا فقال يحيى بن علي يهنئ المعتضد:
(ليهنك عقد أنت فيه المقدم * حباك به رب بفضلك أعلم)
(فإن كنت قد أصبحت والي عهدنا * فأنت غدا فينا الإمام المعظم)
(ولا زال من ولاك فينا مبلغا * مناك ومن عاداك يشجى ويرغم)
(وكان عمود الدين فيه تأود * فعاد بهذا العهد وهو مقوم)
(وأصبح وجه الملك جذلان ضاحكا * يضيء لنا منه الذي كان يظلم)
452

(فدونك فاشدد عقد ما قد حويته * فإنك دون الناس فيه المحكم)
وفيها نودي بمدينة السلام أن لا يقعد على الطريق ولا في المسجد الجامع قاض ولا منجم ولا زاجر، وحلف الوراقون أن لا يبيعوا كتب الكلام والجدل والفلسفة.
وفيها قبض على جراد كاتب أبي الصقر إسماعيل بن بلبل.
وفيها انصرف أبو طلحة منصور بن مسلم من شهرزور وكانت له، فقبض عليه.
ذكر الحرب بين الخوارج وأهل الموصل والأعراب
في هذه السنة اجتمعت الخوارج ومقدمهم هارون ومعهم متطوعة أهل الموصل وغيرهم وحمدان بن حمدون التغلبي على قتال بني شيبان.
وسبب ذلك أن جمعا كثيرا من بني شيبان عبروا الزاب وقصدوا نينوى من أعمال الموصل للإغارة عليها وعلى البلد، فاجتمع هارون الشاري وحمدان بن حمدون وكثير من المتطوعة المواصلة وأعيان أهلها على قتالهم ودفعهم.
وكان بنو شيبان نزلوا على باعشيقا ومعهم هارون بن سليمان مولى أحمد بن عيسى بن الشيخ الشيباني صاحب ديار بكر، وكان قد أنفذه محمد بن إسحاق بن كنداج واليا على الموصل فلم يمكنه أهلها من المقام عندهم وطردوه فقصد بني شيبان معاونا على الخوارج وأهل الموصل، فالتقوا،
453

وتصافوا، واقتتلوا فانهزمت بنو شيبان وتبعهم حمدان والخوارج وملكوا بيوتهم واشتغلوا بالنهب.
وكان الزاب لما عبر بنو شيبان [زائدا]، فلما انهزموا علموا أن لا ملجأ ولا منجى غير الصبر فعادوا إلى القتال والناس مشغولون بالزاب فأوقعوا بهم وقتل كثير من أهل الموصل ومن معهم وعاد الظفر للأعراب.
وكتب هارون بن سيما إلى محمد بن إسحاق بن كنداج يعرفه أن البلد خارج عن يده إن لم يحضر هو بنفسه، فسار في جيش كثيف يريد الموصل فخافه أهلها فانحدر بعضهم إلى بغداد يطلبون إرسال وال إليهم وإزالة ابن كنداج عنهم فاجتازوا في طريقهم بالحديثة وبها محمد بن يحيى المجروح يحفظ الطريق قد ولاه المعتضد ذلك وقد وصل إليه عهد بولايته الموصل فحثوه على تعجيل السير وأن يسبق محمد بن كنداج إليها وخوفوه من ابن كنداج إن دخل الموصل قبله فسار فسبق محمد إليها، ووصل محمد بن كنداج إلى بلد فبلغه دخول المجروح الموصل فندم على التباطؤ وكتب إلى خمارويه بن طولون يخبره الخبر فأرسل أبا عبد الله بن الحصاص بهدايا كثيرة إلى المعتضد ويطلب أمورا منها إمرة الموصل كما كانت له قبل فلم يجب إلى ذلك وأخبره كراهة أهل الموصل من عماله فأعرض عن ذكرها.
وبقي المجروح بالموصل يسيرا وعزله المعتضد واستعمل بعده علي بن داود بن رهزاد الكردي، فقال شاعر يقال له العجيني:
454

(ما رأى الناس لهذا الد * هر مذ كانوا شبيها)
(ذلت الموصل حتى * أمر الأكراد فيها)
(العجيني بالنون).
ذكر وفاة المعتمد
وفيها توفي المعتمد على الله ليلة الاثنين لإحدى عشرة ليلة بقيت من رجب ببغداد، وكان قد شرب على الشط في الحسني ببغداد يوم الأحد شرابا كثيرا وتعشى فأكثر فمات ليلا، وأحضر المعتضد القضاة وأعيان الناس فنظروا إليه وحمل إلى سامرا فدفن بها، وكان عمره خمسين سنة وستة أشهر وكان أسن من الموفق بستة أشهر.
وكانت خلافته ثلاثا وعشرين سنة وستة أشهر.
وكان في خلافته محكوما عليه قد تحكم عليه أخوه أبو أحمد الموفق وضيق عليه حتى أنه احتاج في بعض الأوقات إلى ثلاثمائة دينار فلم يجدها ذلك الوقت، فقال:
(أليس من العجائب أن مثلي * يرى ما قل ممتنعا عليه)
(وتؤخذ باسمه الدنيا جميعا * وما من ذاك شيء في يديه)
(إليه تحمل الأموال طرا * ويمنع بعض ما يجبى عليه)
وكان أول الخلفاء انتقل من سر من رأى مذ بنيت ثم لم يعد إليها أحد منهم.
455

ذكر خلافة أبي العباس المعتضد
وفي صبيحة الليلة التي مات فيها المعتمد بويع لأبي العباس المعتضد بالله أحمد بن الموفق أبي أحمد طلحة بن المتوكل بالخلافة فولى بدرا الشرطة وعبيد الله بن سليمان الوزارة ومحمد بن الشاه بن مالك الحرس، ووصله في شوال رسول عمرو بن الليث ومعه هدايا كثيرة وسأله أن يوليه خراسان فعقد له عليها وسير إليه الخلع واللواء والعهد فنصب اللواء في داره ثلاثة أيام.
ذكر وفاة نصر الساماني
وفيها مات نصر بن أحمد الساماني وقام بما كان إليه من العمل بما وراء النهر أخوه إسماعيل بن أحمد، وكان نصر دينا عاقلا له شعر حسن منه ما قاله في رافع بن هرثمة:
(أخوك فيك على خبر ومعرفة * إن الذليل ذليل حيثما كانا)
(لولا زمان خؤن في تصرفه * ودولة ظلمت ما كنت إنسانا)
456

ذكر عزل رافع بن هرثمة عن خراسان وقتله
وفيها عزل المعتضد رافع بن هرثمة عن خراسان.
وسبب ذلك أن المعتضد كتب إلى رافع بتخلية السلطان بالري فلم يقبل فأشار على رافع أصحابه برد القرى لئلا يفسد حاله بكتاب فلم يقبل أيضا، وكتب المعتضد إلى أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف يأمره بمحاربة رافع وإخراجه من الري.
وكتب إلى عمرو بن الليث بتولية خراسان.
ثم أن أحمد بن عبد العزيز لقي رافعا فقاتله فانهزم عن الري وسار إلى جرجان، ومات أحمد بن عبد العزيز سنة ثمانين ومائتين، فعاد رافع إلى الري فلاقاه عمرو وبكر ابنا عبد العزيز فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزم عمرو وبكر وقتل من أصحابهما مقتلة عظيمة ووصلوا إلى أصبهان وذلك في جمادى الأولى سنة ثمانين [ومائتين].
وأقام رافع بالري باقي سنته، ومات علي بن الليث معه في الري، ثم إن عمرو بن الليث وافى نيسابور في جمادى الأولى سنة ثمانين [ومائتين] واستولى عليها وعلى خراسان فبلغ الخبر إلى رافع فجمع أصحابه واستشارهم فيما يفعل وقال لهم إن الأعداء قد أحدقوا بنا ولا آمن أن يتفقوا علينا، هذا محمد بن زيد بالديلم ينتظر فرصة لينتهزها وهذا عمرو بن عبد العزيز قد فعلت به ما فعلت فهو يتربص الدوائر وهذا عمرو بن الليث قد وافى خراسان بجموعه؛ وقد رأيت أن أصالح محمد بن زيد وأعيد إلى طبرستان،
457

وأصالح ابن عبد العزيز ثم أسير إلى عمرو فأخرجه عن خراسان، فوافقوه على ذلك وأرسل إلى ابن عبد العزيز فصالحه واستقر بينهما في شعبان سنة ثمانين [ومائتين].
ثم سار إلى طبرستان فوردها في شعبان سنة إحدى وثمانين [ومائتين]، وكان قد أقام بجرجان فأحكم أمورها، ولما استقر بطبرستان راسل محمد بن زيد وصالحه، ووعده محمد بن زيد أن ينجده بأربعة آلاف رجل من شجعان الديلم، وخطب لمحمد بطبرستان وجرجان في ربيع الآخر سنة اثنتين وثمانين ومائتين.
وبلغ خبر مصالحة محمد بن زيد ورافع إلى عمرو بن الليث فأرسل إلى محمد يذكر ما فعل به ويحذره منه و [من] غدره إن استقام أمره فعاد عن إنجاده بعسكر.
فلما قوي عمرو وعرف لمحمد بن زيد ذلك وخلى عليه طبرستان، ولما أحكم رافع أمر محمد بن زيد سار إلى خراسان فورد نيسابور في ربيع الآخر سنة ثلاث وثمانين ومائتين، وجرى بينه وبين عمرو حرب شديدة فانهزم فيها رافع إلى أبيورد وأخذ عمرو منه المعدل والليث ولدي أخيه علي بن الليث، وكانا عنده بعد موت أخيه علي.
ولما ورد رافع أبيورد أراد المسير إلى هراة أو مرو فعلم عمر بذلك فأخذ عليه الطريق بسرخس فلما علم رافع بمسير عمرو عن نيسابور سار على مضايق وطرق غامضة غير طريق الجيش إلى نيسابور فدخلها، وعاد إليه عمرو من سرخس فحصره فيها وتلاقيا، واستأمن بعض قواد
458

رافع إلى عمرو فانهزم رافع وأصحابه وسير أخاه محمد بن هرثمة إلى محمد بن زيد يستمده ويطلب ما وعده من الرجال فلم يفعل ولم يمده برجل واحد، وتفرق عن رافع أصحابه وغلمانه وكان له أربعة آلاف غلام ولم يملك أحد من ولاة خراسان قبله مثله، وفارقه محمد بن هارون إلى إسماعيل بن أحمد الساماني ببخارى وخرج رافع منهزما إلى خوارزم على الجمازات وحمل ما بقي معه من مال آلة وهو في شرذمة قليلة وذلك في رمضان سنة ثلاثة وثمانين ومائتين.
فلما بلغ رباط جبوه وجه إليه خوارزمشاه أبا سعيد الدرغاني ليقيم له الأنزال ويخدمه إلى خوارزم فرماه أبو سعيد في قلة من رجالة وغدر به وقتله لسبع خلون من شوال سنة ثلاث وثمانين ومائتين، وحمل رأسه إلى عمرو بن الليث وهو بنيسابور.
وأنفذ عمرو الرأس إلى المعتضد بالله فوصل إليه سنة أربع وثمانين [ومائتين]، فنصب ببغداد وصفت خراسان إلى شاطئ جيحون لعمرو.
ذكر عدة حوادث
وفيها قدم الحسين بن عبد الله المعروف بابن الجصاص من مصر بهدايا عظيمة من خمارويه فتزوج المعتضد ابنة خمارويه.
459

وفيها ملك أحمد بن عيسى بن الشيخ قلعة ماردين وكانت بيد محمد بن إسحاق بن كنداجيق.
وحج بالناس هذه السنة هارون بن محمد وهي آخر حجة حجها، وأول حجة حجها بالناس سنة أربعة وستين ومائتين إلى هذه السنة.
وفيها توفي أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي السلمي بترمذ في رجب وكان إماما حافظا له تصانيف حسنة منها الجامع الكبير في الحديث وهو أحسن الكتب وكان ضريرا وتوفي إبراهيم بن محمد المدبر في شوال [وكان يلي ديوان الضياع].
460

280
ثم دخلت سنة ثمانين ومائتين
ذكر حبس عبد الله بن المهتدي
في هذه السنة أخذ المعتضد عبد الله بن المهتدي ومحمد بن الحسين المعروف بشميلة وكان شميلة هذا مع صاحب الزنج إلى آخر أيامه ثم لحق بالموفق في الأمان فأمنه.
وكان سبب أخذه إياهما أن بعض المستأمنة سعى به إلى المعتضد وأعلمه أنه يدعو لرجل لا يعرف اسمه وأنه قد أفسد جماعة من الجند وغيرهم، فأخذه المعتضد فقرره فلم يقر بشيء وقال لو كان الرجل تحت قدمي ما رفعتهما عنه، فأمر فشد على خشبة من خشب الخيم ثم أوقدت نار عظيمة وأدير على النار حتى تقطع جلده ثم ضربت
عنقه وصلب عند الجسر وحبس عبد الله بن المهتدي إلى أن علم براءته وأطلقه، وكان المعتضد قال لشميلة بلغني أنك تدعو إلى ابن المهتدي؟ فقال المشهور عني أنني أتولى آل أبي طالب.
461

ذكر قصد المعتضد بني شيبان وصلحه معهم
وفيها في أول صفر سار المعتضد من بغداد يريد بني شيبان بالموضع الذي يجتمعون به من أرض الجزيرة، فلما بلغهم قصده جمعوا إليهم أموالهم وعيالاتهم وأغار المعتضد على أعواب عند السن فنهب أموالهم وقتل منهم مقتلة عظيمة وغرق منهم في الزاب مثل ذلك، وعجز الناس عن حمل ما غنموه فبيعت الشاة بدرهم والبعير بخمسة دراهم.
وسار إلى الموصل وبلد فلقيه بنو شيبان يسألونه العفو وبذلوا له رهائن فأجابهم إلى ما طلبوا وعاد إلى بغداد، وأرسل إلى أحمد بن عيسى بن الشيخ يطلب منه ما أخذه من أموال ابن كنداجيق بآمد فبعثه إليه ومعه هدايا كثيرة.
ذكر خروج محمد بن عباده على هارون وكلاهما خارجيان
في هذه السنة خرج محمد بن عبادة ويعرف بأبي حوزة وهو من بني زهير من أهل قبراثا من البقعاء على هارون وكلاهما من الخوارج، وكان أول أمره فقيرا وكان هو وابنان له يلتقطان الكمأة ويبيعانها إلى غير ذلك من الأعمال، ثم إنه جمع جماعة وحكم فاجتمع إليه أهل تلك النواحي من الأعراب وقوى أمره وأخذ عشر الغلات وقبض الزكاة،
462

وسار إلى معلثايا فقاطعه أهلها على خمسمائة دينار وجبى تلك الأعمال وعاد وبنى عند سنجار حصنا وحمل إليه الأمتعة والميرة وجعل فيه ابنه أبا هلال ومعه مائة وخمسون رجلا من وجوه بني زهير وغيرهم.
ووصل خبرهم إلى هارون الشاري فاجتمع رأيه ورأي وجوه أصحابه على قصد الحصن أولا فإذا فرغوا منه ساروا إلى محمد بن عبادة فجمع أصحابه فبلغوا مائة راجل وألف ومائتي فارس وسار إليه مبادرا وأحدق به وحصره ومحمد بن عبادة في قبراثا لا يعلم بذلك.
وجد هارون في قتال الحصن وكان معه سلاليم قد أخذها وزحف إليه، وكان أصحابه قد منعوا أحد يخرج رأسه من أعلى السور، فلما رأى من معه من بني تغلب تغلبه على الحصن أعطوا من فيه من بني زهير الأمان بغير أهل هارون، فشق عليه ولم يقدر على تغيير ذلك إلا أنه قتل أبا هلال بن محمد بن عبادة ونفرا معه قبل الأمان وفتحوا الحصن وملكوا ما فيه.
وساروا إلى محمد وهو بقبراثا فلقوه وهو في أربعة آلاف رجل فاقتتلوا فانهزم هارون ومن معه، فوقف بعض أصحابه ونادى رجلا بأسمائهم فاجتمعوا نحو أربعين رجلا وحملوا على ميمنة محمد بن عبادة فانهزمت الميمنة وعادت الحرب فانهزم محمد ومن معه ووضعوا السيف فيهم فقتل منهم ألف وأربعمائة رجل وحجز بينهم الليل، وجمع هارون
463

مالهم فقسمه بين أصحابه وانهزم محمد إلى آمد فأخذه صاحبها أحمد بن عيسى بن الشيخ بعد حرب فظفر به فأخذه أسيرا وسيره إلى المعتضد فسلخ جلده كما يسلخ الشاة.
ذكر عدة حوادث
لما افتتح محمد بن أبي الساج مراغة بعد حرب شديدة وحصار عظيم أخذ عبد الله بن الحسين بعد أن أمنه وأصحابه وقيده وحبسه وقرره بجميع أمواله ثم قتله.
وفيها مات أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف وقام بعده أخوه عمر بن عبد العزيز.
وفيها افتتح محمد بن ثور عمان وبعث برؤوس جماعة من أهلها.
وفيها توفي جعفر بن المعتمد في ربيع الآخر وكان ينادم المعتضد.
وفيها دخل عمرو بن لليث نيسابور في جمادى الأولى.
وفيها وجه محمد بن أبي الساج ثلاثين نفسا من الخوارج من طريق الموصل فضربت أعناق أكثرهم وحبس الباقون.
وفيها دخل أحمد بن أبا طرسوس للغزاة من قبل خمارويه بن أحمد بن طولون ودخل بعده بدر الحمامي فغزوا جميعا مع العجيني أمير طرسوس حتى بلغوا البلقسون.
وفيها غزا إسماعيل بن أحمد الساماني بلاد الترك وافتتح مدينة ملكهم،
464

وأسر أباه وامرأته خاتون ونحوا من عشرة آلاف وقتل منهم خلقا كثيرا، وغنم من الدواب ما لا يعلم عددا وأصاب الفارس من الغنيمة ألف درهم.
وفيها توفي راشد مولى الموفق بالدينور وحمل في تابوت إلى بغداد في رمضان وفي شوال مات مسرور البلخي.
وفيها غارت المياه بالري وطبرستان حتى بلغ الماء ثلاثة أرطال بدرهم وغلت الأسعار.
وفي شوال انكسف القمر وأصبح أهل دبيل والدنيا مظلمة ودامت الظلمة عليهم، فلما كان عند العصر هبت ريح سوداء فدامت إلى ثلث الليل فلما كان ثلث الليل زلزلوا فخربت المدينة ولم يبق من منازلهم إلا قدر مائة دار وزلزلوا بعد ذلك خمس مرار.
وكان جملة من أخرج من تحت الردم مائة ألف وخمسون ألفا كلهم موتى.
وحج بالناس هذه السنة أبو بكر محمد بن هارون بن إسحاق المعروف بابن ترنجة.
وفيها توفي محمد بن إسماعيل بن يوسف أبو إسماعيل الترمذي في رمضان وله تصانيف حسنة وأحمد بن سيار بن أيوب الفقيه المروزي وكان زاهدا عالما وأبو جعفر أحمد بن أبي عمران الفقيه الحنفي بمصر.
465

281
ثم دخلت سنة إحدى وثمانين ومائتين
ذكر مسير المعتضد إلى ماردين وملكه إياها
وفيها خرج المعتضد الخرجة الثانية إلى الموصل قاصدا لحمدان بن حمدون لأنه بلغه أن حمدان مال إلى هارون الشاري ودعا له، فلما بلغ الأعراب الأكراد مسير المعتضد تحالفوا أنهم يقتلون على دم واحد واجتمعوا وعبوا عسكرهم، وسار المعتضد إليهم في خيله جريدة فأوقع بهم وقتل منهم وغرق منهم في الزاب خلق كثير.
وسار المعتضد إلى الموصل يريد قلعة ماردين وكانت لحمدان بن حمدون فهرب حمدان منها وخلف ابنه بها فنازلها المعتضد وقاتل من فيها يومه ذلك، فلما كان من الغد ركب المعتضد فصعد إلى باب القلعة وصاح بابن حمدون! فأجابه، فقال: افتح الباب، ففتحه فقعد المعتضد في الباب وأمر بنقل ما في القلعة وهدمها ثم وجه خلف حمدان بن حمدون وطلب أشد طلب وأخذت أموال له ثم ظفر به المعتضد بعد عوده إلى بغداد.
وفي عوده قصد الحسنية وبها رجل كردي يقال له شداد في جيش كثير قيل كانوا عشرة آلاف رجل وكان له قلعة في المدينة فظفر به المعتضد وهدم قلعته.
466

ذكر عدة حوادث
وفيها ورد ترك بن العباس عامل المعتضد على ديار مضر من الجزيرة إلى بغداد ومعه نيف وأربعون من أصحاب ابن الأغر صاحب سميساط على جمال عليهم برانس ودراريع حرير، فمضى بهم إلى الحبس وعاد إلى داره.
وفيها كانت وقعة لوصيف خادم ابن أبي الساج لعمر بن عبد العزيز فهزمه ثم سار وصيف إلى مولاه محمد بن أبي الساج.
وفيها دخل طغج بن جف طرسوس لغزو الصائفة من قبل خمارويه بن أحمد بن طولون فبلغ طرابزون وفتح بلدوية في جمادى الآخرة.
وفيها مات أحمد بن محمد الطائي بالكوفة في جمادى.
وفيها غارت المياه بالري وطبرستان.
وفيها سار المعتضد إلى ناحية الجبل وقصد الدينور وولى ابنه عليا وهو المكتفي الري وقزوين وزنجان وأبهر وقم وهمذان والدينور وجعل على كتابته أحمد بن الأصبغ وقلد عمر بن عبد العزيز بن أبي دلف أصبهان ونهاوند والكرج وعاد إلى بغداد لأجل غلاء السعر.
وفيها استأمن الحسن بن علي كوره عامل رافع على الري إلى علي بن المعتضد [في زهاء ألف رجل]، فوجهه ومن معه إلى أبيه.
467

وفيها دخل الأعراب سامرا فقتلوا ابن سيما في ذي القعدة.
وفيها غزا المسلمون الروم فدامت الحرب بينهم اثنى عشر يوما فظفر المسلمون وغنموا غنيمة كثيرة وعادوا.
وفيها توفي عبيد الله بن محمد بن عبيد الله بن أبي الدنيا صاحب التصانيف الكثيرة المشهورة.
468

ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين ومائتين
ذكر النيروز المعتضدي
فيها أمر المعتضد بالكتابة إلى الأعمال كلها والبلاد جميعها بترك افتتاح الخراج في النيروز العجمي وتأخير ذلك إلى الحادي عشر من الحزيران سماه النيروز المعتضدي وأنشئت الكتب بذلك من الموصل والمعتضد بها وأراد بذلك الترفيه على الناس والرفق بهم.
ذكر قصد حمدان وانهزامه وعوده إلى الطاعة
في هذه السنة كتب المعتضد إلى إسحاق بن أيوب وحمدان بن حمدويه بالمسير إليه وهو في الموصل فبادر إسحاق وتحصن حمدان بقلاعه وأودع أمواله وحرمه، فسير المعتضد الجيوش نحوه مع وصيف موشكير ونصر القشوري وغيرهما فصادفا الحسن بن علي كوره وأصحابه متحصنين بموضع يعرف بدير الزعفران من أرض الموصل.
469

وفيها وصل الحسين بن حمدان بن حمدون، فلما رأى الحسين أوائل العسكر طلب الأمان فأمن وسير إلى المعتضد وسلم القلعة فأمر المعتضد بهدمها، وسار وصيف في طلب حمدان وكان بباسورين فواقعه وصيف وقتل من أصحابه جماعة وانهزم حمدان في زورق كان له في دجلة وحمل معه مالا كان له وعبر إلى الجانب الغربي من دجلة فصار في ديار ربيعة وعبر نفر من الجند فاقتصوا أثره حتى أشرفوا على دير قد نزله فلما رآهم هرب وترك ماله فأخذ وأتي به المعتضد وسار أولئك في طلب حمدان فضاقت عليه الأرض فقصد خيمة إسحاق بن أيوب وهو مع المعتضد واستجار به فأحضره إسحاق عند المعتضد فأمر بالاحتفاظ به وتتابع رؤساء الأكراد في طلب الأمان وكان ذلك في المحرم.
ذكر انهزام هارون الخارجي من عسكر الموصل
كان المعتضد بالله قد خلف بالموصل نصر القشوري يجبي الأموال ويعين العمال على جبايتها، فخرج عامل معلثايا إليها ومعه جماعة من أصحاب نصر فوقع عليهم طائفة
من الخوارج فاقتتلوا إلى أن أدركهم الليل وفرق بينهم، وقتل من الخوارج إنسان اسمه جعفر وهو من أعيان أصحاب هارون فعظم عليه قتله وأمر أصحابه بالإفساد في البلاد.
فكتب نصر القشوري إلى هارون الخارجي كتابا يتهدده بقرب الخليفة،
470

وإنه إن هم به أهلكه وأهلك أصحابه وأنه لا يعثر بمن سار إلى حربه فعاد عنه بمكر وخديعة، فكتب إليه هارون كتابا منه أما ما ذكرت ممن أراد قصدي ورجع عني فإنهم لما رأوا جدنا واجتهادنا كانوا بإذن الله فرشا متتابعا وقصبا أجوف ومن صبر لنا منهم ما زاد على الاستتار بالحيطان ونحن على فرسخ منهم وما عرك إلا ما أصبت به صاحبنا فظننت أن دمه مطلول أو أن وتره متروك لك كلا إن الله تعالى من ورائك وآخذ بناصيتك ومعين على إدراك الحق منك ولم تعيرنا بغيرك وتدع أن يكون مكان ذلك إبداء صفحتك وإظهار عداوتك وأنا وإياك كما قيل:
(فلا توعدونا باللقاء وأبرزوا * إلينا سوادا نلقيه بسواد)
ولعمر الله ما ندعو إلى البراز ثقة بأنفسنا ولا عن ظن أن الحول والقوة لنا لكن ثقة بربنا واعتمادا على جميل عوائده عندنا.
وأما ما ذكرت من أمر سلطانك فإن سلطانك لا يزال منا قريبا وبحالنا عالما فلا قدم أجلا ولا أخره ولا بسط رزقا ولا قبضه قد بعثنا على مقابلتك وستعلم عن قريب إن شاء الله تعالى.
فعرض نصر كتاب هارون على المعتضد فجد في قصده وولى الحسن بن علي كوره الموصل وأمره بقصد الخوارج وأمر كافة مقدمي الولايات والأعمال بطاعته، فجمعهم، وسار إلى أعمال الموصل، وخندق على نفسه،
471

وأقام إلى أن رفع الناس غلاتهم ثم سار إلى الخوارج وعبر الزاب إليهم فلقيهم قريبا من المغلة وتصافوا للحرب فاقتتلوا قتالا شديدا، وانكشف الخوارج عنه ليفرقوا جمعيته ثم يعطفوا عليه، فأمر الحسن أصحابه بلزوم مواقفهم ففعلوا فرجع الخوارج وحملوا عليهم سبع عشرة حملة، فانكشفت ميمنة الحسن وقتل من أصحابه وثبت هو فحمل الخوارج عليه حملة رجل واحد فثبت لهم وضرب على رأسه عدة ضربات فلم يؤثر فيه.
فلما رأى أصحابه ثباته تراجعوا إليه وصبر فانهزم الخوارج أقبح هزيمة وقتل منهم خلق كثير وفارقوا موضع الحركة ودخلوا آذربيجان.
وأما هارون فإنه تحير في أمره وقصد البرية، ونزل عند بني تغلب ثم عاد إلى معلثايا ثم عاد إلى البرية ثم رجع وعبر دجلة إلى حرة وعاد إلى البرية.
وأما وجوه أصحابه فإنهم لما رأوا إقبال دولة المعتضد وقوته وما لحقهم في هذه الوقعة راسلوا المعتضد يطلبون الأمان فأمنهم فأتاه كثير منهم يبلغون ثلاثمائة وستين رجلا، وبقي معه بعضهم يجول بهم في البلاد إلى أن قتل سنة ثلاث وثمانين [ومائتين] على ما نذكره.
472

ذكر عدة حوادث
في هذه السنة في ربيع الأول قبض على بكتمر بن طاشتمر وقيد وأخذ ماله وضياعه ودوره وكان أميرا على الموصل واستعمل بعده عليها الحسن بن علي الخراساني ويعرف بكوره.
وفيها قدم ابن الجصاص بابنة خمارويه زوجة المعتضد ومعها أحد عمومتها وكان المعتضد بالموصل.
وفيها عاد المعتضد إلى بغداد وزفت إليه ابنة خمارويه في ربيع الآخر، وفيها سار المعتضد إلى الجبل فبلغ الكرج وأخذ أموالا لابن أبي دلف وكتب إلى عمر بن عبد العزيز يطلب جوهرا كان عنده فوجه به إليه وتنحى من بين يديه.
وفيها أطلق لؤلؤ غلام ابن طولون وحمل على دواب وبغال.
وفيها وجه يوسف بن أبي الساج إلى الصيمرة مددا لفتح الفلانسي غلام الموفق فهرب يوسف فيمن أطاعه إلى أخيه محمد بمراغة ولقي مالا للمعتضد فأخذه فقال في ذلك عبيد الله بن عبد الله بن طاهر:
(إمام الهدى أنصاركم آل طاهر * بلا سبب يجنون والدهر يذهب)
(وقد خلطوا شكرا بصبر ورابطوا * وغيرهم يعطى ويحبى ويهرب)
473

وفيها وجه المعتضد وزيره عبيد الله بن سليمان إلى ابنه بالري وعاد منها.
وفيها وجه محمد بن زيد العلوي من طبرستان إلى محمد بن ورد العطار باثنين وثلاثين ألف دينار ليفرقها على أهل بيته ببغداد والكوفة والمدينة، فسعى به إلى المعتضد فأحضر محمد عند بدر وسئل عن ذلك فأقر أنه يوجه إليه كل سنة مثل ذلك ففرقه وأنهى بدر إلى المعتضد ذلك فقال له المعتضد أما تذكر الرؤيا التي أخبرتك بها قال لا يا أمير المؤمنين قال رأيت في المنام كأني أريد ناحية النهروان وأنا في جيشي إذ مررت برجل واقف على تل يصلي ولا يلتفت إلي فعجبت منه فلما فرغ من صلاته قال لي أقبل فأقبلت إليه فقال لي أتعرفني قلت لا قال أنا علي بن أبي طالب خذ هذه فاضرب بها الأرض بمسحاة بين يديه فأخذتها فضربت بها ضربات فقال لي انه سيلي من ولدك هذا الأمر بعدد الضربات فأوصهم بولدي خيرا.
وأمر بدرا بإطلاق المال والرجل وأمره أن يكتب إلى صاحبه بطبرستان أن يوجه ما يريد ظاهرا وأن يفرق ما يأتيه ظاهرا وتقدم بمعونته على ذلك.
وفيها توفي أبو طلحة منصور بن مسلم في حبس المعتضد.
وفيها ولدت جارية اسمها شغب للمعتضد ولدا سماه جعفرا وهو المقتدر.
وفيها قتل خمارويه بن أحمد بن طولون ذبحه بعض خدمه على فراشه في ذي الحجة بدمشق وقتل من خدمه الذين اتهموا نيف وعشرون نفسا.
474

وكان سبب قتله أنه سعى إليه بعض الناس وقال له إن جواري داره قد اتخذت كل واحدة منهن خصيا من خصيان داره لها كالزوج وقال إن شئت أن تعلم صحة ذلك فأحضر بعض الجواري فأضربها وقررها حتى تعلم صحة ذلك. فبعث من وقته إلى نائبه بمصر يأمره بإحضار عدة من الجواري ليعلم الحال منهن، فاجتمع جماعة من الخدم وقرروا بينهم الاتفاق على قتله خوفا من ظهور ما قيل له وكانوا خاصته فذبحوه ليلا وهربوا.
فلما قتل اجتمع القواد وأجلسوا ابنه جيش بن خمارويه في الامارة وكان معه بدمشق وهو أكبر ولده فبايعوه ففرقت فيهم الأموال وكان صبيا غرا.
وفيها توفي عثمان بن سعيد بن خالد أبو سعيد الداري الفقيه الشافعي أخذ الفقه عن البويطي صاحب الشافعي والأدب عن ابن الأعرابي.
وفيها توفي أبو حنيفة أحمد بن داود الدينوري اللغوي صاحب كتاب النبات وغيره.
وفيها توفي الحرث بن أبي أسامة وله مسند يروى غالبا في زماننا هذا وأبو العيناء محمد بن القاسم وكان يروي عن الأصمعي.
475

283
ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين ومائتين
ذكر الظفر بهارون الخارجي
في هذه السنة سار المعتضد إلى الموصل بسبب هارون الشاري وظفر به.
وسبب الظفر أنه وصل إلى تكريت وأقام بها وأحضر الحسين بن حمدان التغلبي وسيره في طلب هارون بن عبد الله الخارجي في جماعة من الفرسان والرجالة، فقال له الحسين إن أنا جئت به فلي ثلاث حوائج عند أمير المؤمنين، قال اذكرها! قال إحداهن إطلاق أبي وحاجتان بعد مجيئي به، فقال له المعتضد لك ذلك. فانتخب ثلاثمائة فارس وسار بهم ومعهم وصيف بن موشكير، فقال له الحسين تأمره بطاعتي يا أمير المؤمنين. فأمره بذلك.
وسار بهم الحسين حتى انتهى إلى مخاضة في دجلة فقال الحسين لوصيف ولمن معه لتقفوا هناك فإنه ليس له طريق إن هرب غير هذا فلا تبرحن من هذا الموضع حتى يمر بكم فتمنعوه عن العبور وأجئ أنا أو يبلغكم أني قتلت.
ومضى حسين في طلب هارون فلقيه وواقعة وقتل بينهما قتلى وانهزم
476

هارون، وأقام وصيف على المخاضة ثلاثة أيام فقال له أصحابه قد طال مقامنا ولسنا نأمن أن يأخذ حسين الشاري فيكون له الفتح دوننا والصواب أن نمضي في آثارهم. فأطاعهم ومضى.
وجاء هارون منهزما إلى موضع المخاضة فعبر وجاء حسين في أثره فلم ير وصيفا وأصحابه في الموضع الذي تركهم فيه ولا عرف لهم خبرا، فعبر في أثر هارون وجاء إلى حي من أحياء العرب فسأل عنه فكتموه فتهددهم فأعلموه أنه اجتاز بهم فتبعه حتى لحقه بعد أيام وهارون في نحو مائة رجل، فناشده الشاري ووعده وأبى حسين إلا محاربته فحاربه فألقى الحسين نفسه عليه فأخذه أسرا وجاء به إلى المعتضد فانصرف المعتضد إلى بغداد فوصلها لثمان بقين من ربيع الأول.
وخلع المعتضد إلى بغداد الحسين بن حمدان وطوقه بطوق من ذهب وخلع على إخوته وأدخل هارون على الفيل، وأمر المعتضد بحل قيود حمدان بن حمدون والتوسعة عليه والإحسان إليه ووعد بإطلاقه.
ولما أركبوا هارون على الفيل أرادوا أن يلبسوه ديباجا مشهرا فامتنع وقال هذا لا يحل فألبسوه كارها، ولما صلب نادى بأعلى صوته لا حكم إلا لله ولو كره المشركون؛ وكان هارون صفريا.
ذكر عصيان دمشق على جيش خمارويه
وخلاف جنده عليه وقتله
في هذه السنة خرج جماعة من قواد جيش بن خمارويه عليه وجاهروا بالمخالفة وقالوا لا نرضى بك أمير فاعتزلنا حتى نولي عمك الإمارة.
477

وكان سبب ذلك أنه لما ولي وكان صبيا فقرب الأحداث والسفل وأخلد إلى استماع أقوالهم فغيروا نيته على قواده وأصحابه وصار يقع فيهم ويذمهم ويظهر العزم على الاستبدال بهم وأخذ نعمهم وأموالهم؛ فاتفقوا عليه ليقتلوه ويقيموا عمه، فبلغه ذلك فلم يكتمه بل أطلق لسانه فيهم، ففارقه بعضهم وخلعه طغج بن جف أمير دمشق.
وسار القواد الذين فارقوه إلى بغداد وهم محمد بن إسحاق بن كنداجيق وخاقان المفلحي وبدر بن جف أخو طغج وغيرهم من قواد مصر، فسلكوا البرية وتركوا أهاليهم وأموالهم فتاهوا أياما ومات من أصحابهم جماعة من العطش وخرجوا فوق الكوفة بمرحلتين وقدموا على المعتضد فخلع عليهم وأحسن إليهم، وبقي سائر الجند بمصر على خلافهم ابن خمارويه فسألهم كاتبه علي بن أحمد المارداني أن ينصرفوا يومهم ذلك فرجعوا، فقتل جيش عمين له وبكر الجند إليه فرمى بالرأسين إليهم فهجم الجند عليه فقتلوه ونهبوا داره ونهبوا مصر وأحرقوها وأقعدوا أخاه هارون في الإمرة بعده فكانت ولايته تسعة أشهر.
ذكر حصر الصقالبة القسطنطينية
وفي هذه السنة سارت الصقالبة إلى الروم فحصروا القسطنطينية وقتلوا من أهلها خلقا كثيرا وخربوا البلاد، فلما لم يجد ملك الروم منهم خلاصا
478

جمع من عنده من أسارى المسلمين وأعطاهم السلاح وسألهم معونته على الصقالبة ففعلوا وكشفوا الصقالبة وأزاحوهم عن القسطنطينية؛ ولما رأى ملك الروم ذلك خاف المسلمين على نفسه فردهم وأخذ السلاح منهم وفرقهم في البلاد حذرا من جنايتهم عليه.
ذكر الفداء بين المسلمين والروم
في هذه السنة كان الفداء بين المسلمين والروم.
فكان جملة من فدي به من المسلمين الرجال والنساء والصبيان ألفين وخمسمائة وأربعة أنفس.
ذكر الحرب بين عسكر المعتضد وأولاد أبي دلف
وفيها سار عبيد الله بن سليمان إلى عمر بن عبد العزيز بن أبي دلف بالجبل فسار عمر إليه بالأمان في شعبان فأذعن بالطاعة فخلع عليه وعلى أهل بيته.
وكان قبل ذلك قد دخل بكر بن عبد العزيز بالأمان إلى عبيد الله بن سليمان وبدر فولياه عمل أخيه على أن يسير إليه فيحاربه.
فلما دخل عمر في الأمان قالا لبكر إن أخاك قد دخل في الطاعة وإنما وليناك عمله على أنه عاص والمعتضد يفعل في أمركما ما يراه فامضيا إلى بابه.
وولى النوشري أصبهان وأظهر أنه من قبل عمر بن عبد العزيز فهرب
479

بكر بن عبد العزيز في أصحابه فكتب عبيد الله إلى المعتضد بذلك، فكتب إلى بدر ليقيم بمكانه إلى أن يعرف حال بكر.
وسار الوزير إلى علي بن المعتضد بالري ولحق بكر بن عبد العزيز بالأهواز، فسير المعتضد إليه وصيف بن موشكير فسار إليه فلحقه بحدود فارس وباتا متقابلين، وارتحل بكر إلى أصبهان ليلا فلم يتبعه وصيف بل رجع إلى بغداد وسار بكر إلى أصبهان، فكتب المعتضد إلى بدر يأمره بطلب بكر وحربه فأمر بدر عيسى النوشري بذلك فقال بكر:
(عني ملامك ليس حين ملام * هيهات أجدب زائد الأيام)
(طارت عنايات الصبا عن مفرقي * ومضى أوان شراستي وغرامي)
(ألقى الأحبة بالعراق عصيهم * وبقيت نصب حوادث الأيام)
(وتقاذفت بأخي النوى ورمت به * رمي البعيد قطيعة الأرحام)
(فلأقرعن صفاة دهر نابهم * قرعا يهز رواسي الأعلام)
(ولأضربن الهام دون حريمهم * ضرب القدار نقيعة القدام)
(ولأتركن الواردين حياضهم * بقرارة لمواطئ الأقدام)
(يا بدر إنك لو شهدت مواقفي * والموت يلحظ والسيوف دوامي)
(لذممت رأيك في إضاعة حرمتي * ولضاق ذرعك في اطراح ذمامي)
480

(حركتني بعد السكون وإنما * حركت من حصن جبال تهام)
(وعجمتني فعجمت مني من حمى * خشن المناكب كل يوم زحام)
(قل للأمير أبي محمد الذي * يجلو بغرته دجى الأظلام)
(أسكنتني ظل العلا فسكنته * في عيشة رغد وعز نامي)
(حتى إذا خليت عني نابني * نوب أتت وتنكرت أيامي)
(فلأشكرن جميل ما أوليتني * ما غردت في الأيك ورق حمام)
(هذا أبو حفص يدي وذخيرتي * للنائبات وعدتي وسنامي)
(ناديته فأجابني وهززته * فهززت حد الصارم الصمصام)
(من رام أن يغضي الجفون على القذى * أو يستكين يروم غير مرامي)
(ويخيم حين يرى الأسنة شرعا * والبيض مصلتة لضرب الهام)
ثم ان النوشري انهزم عن بكر فقال بكر يذكر هربه ويعير وصيفا بالاحجام عنه ويتهدد بدرا [في أبيات] منها:
481

(قد رأى النوشري حين التقينا * من إذا أشرع الرماح يفر)
(جاء في قسطل لهام فصلنا * صولة دونها الكماة تهر)
(وكوى النوشري آثار نار * رؤيت عند ذاك بيض وسمر)
(غر بدرا حلمي وفضل أناتي * واحتمالي للغر مما يغر)
(سوف يأتيه من خيولي قب * لاحقات البطون جون وشقر)
(يتنادون كالسعالى عليها * من بني وائل أسود تكر)
(لست بكر إن لم أدعهم حديثا * ما سرى كوكب وما كر دهر)
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة أمر المعتضد بالكتابة إلى جميع البلدان أن يرد الفاضل من سهام المواريث إلى ذوي الأرحام وأبطل ديوان المواريث.
وفيها في شوال مات علي بن محمد بن أبي الشوارب القاضي وكانت ولايته للقضاء بمدينة المنصور ستة أشهر.
482

وفيها قدم عمر بن عبد العزيز بن أبي دلف بغداد فأمر المعتضد الناس والقواد باستقباله وقعد له المعتضد فدخل عليه وأكرمه وخلع عليه.
وفيها في رمضان تحارب عمرو بن الليث الصفار ورافع بن هرثمة فانهزم رافع، وكان سبب ذلك أن عمرا فارق نيسابور فخالفه إليها رافع وملكها وخطب فيها لمحمد بن زيد العلوي فرجع عمرو من مرو إلى نيسابور فحصرها فانهزم رافع منها.
ووجه عمرو في طلبه عسكرا فلحقوه بطوس فانهزم منهم إلى خوارزم فلحقوه بها فقتلوه وأرسلوا برأسه إلى المعتضد فوصله سنة أربع وثمانين [مائتين] في المحرم، فأمر بنصبه ببغداد وخلع على القاصد به.
وفيها مات البحتري الشاعر واسمه الوليد بن عبادة بمنبج أو حلب وكان مولده سنة ست ومائتين.
وفيها توفي محمد بن سليمان أبو بكر المعروف بابن الباغندي وأبو الحسن علي بن العباس بن جريج الشاعر المعروف بابن الرومي وقيل توفي سنة أربع وثمانين [مائتين] وديوانه معروف رحمه الله تعالى.
وفيها توفي سهل بن عبد الله بن يونس بن رفيع السري ومولده سنة مائتين وقيل وثلاثين ثم دخلت سنة أربع وثمانين [إحدى] ومائتين.
483

284
ثم دخلت سنة أربع وثمانين ومائتين
في هذه السنة كانت فتنة بطرسوس بين راغب مولى الموفق وبين دميانة.
وكان سبب ذلك أن راغبا مولى الموفق ترك الدعاء لهارون بن خمارويه بن أحمد بن طولون ودعا لبدر مولى المعتضد واختلف هو وأحمد بن طوغان، فلما انصرف أحمد بن طوغان من الفداء الذي كان سنة ثلاث وثمانين [مائتين] ركب البحر ومضى ولم يدخل طرسوس وخلف دميانة بها للقيام بأمرها، وأمده ابن طوغان فقوي بذلك وأنكر ما كان يفعله راغب فوقعت الفتنة فظفر بهم راغب فحمل دميانة إلى بغداد.
وفيها أوقع عيسى بن النوشري بكر بن عبد العزيز بن أبي دلف بنواحي أصبهان فقتل رجاله واستباح عسكره، ونجا بكر في نفر يسير من أصحابه فمضى إلى محمد بن زيد العلوي بطبرستان وأقام عنده إلى سنة خمس وثمانين [مائتين] ومات، ولما وصل خبر موته إلى المعتضد أعطى القاصد به ألف دينار.
وفيها في ربيع الأول قلد أبو عمر يوسف بن يعقوب القضاء بمدينة المنصور مكان علي بن محمد بن أبي الشوارب.
وفيها أخذ خادم نصراني لغالب النصراني وشهد عليه أنه شتم النبي صلى
484

الله عليه وسلم فاجتمع أهل بغداد وصاحوا بالقاسم بن عبيد الله وطالبوه بإقامة الحد عليه فلم يفعل فاجتمعوا على ذلك إلى دار المعتضد فسئلوا عن حالهم فذكروه للمعتضد فأرسل معهم إلى القاضي أبي عمر فكادوا يقتلونه من كثرة ازدحامهم فدخل بابا وأغلقه ولم يكن بعد ذلك للخادم ذكر ولا للعامة ذكر اجتماع في أمره.
وفيها قدم قوم من أهل طرسوس على المعتضد يسألونه أن يولي عليهم واليا وكانوا قد أخرجوا عامل ابن طولون فسير إليهم المعتضد ابن الأخشيد أميرا.
وفيها في ربيع الآخر ظهر بمصر ظلمة وحمرة في السماء شديدة حتى كان الرجل ينظر إلى وجه الآخر فيراه أحمر وكذلك الحيطان فمكثوا كذلك من العصر إلى العشاء الآخرة وخرج الناس من منازلهم يدعون الله تعالى ويتضرعون إليه.
وفيها عزم المعتضد على لعن معاوية بن أبي سفيان على المنابر وأمر بإنشاء كتاب يقرأ على الناس وهو كتاب طويل قد أحسن كتابته إلا أنه قد استدل فيه بأحاديث كثيرة على وجوب لعنه عن النبي لا تصح وذكر في الكتاب يزيد وغيره من بين أمية وعملت به نسخ قرئت بجانبي بغداد ومنع القضاة والعامة من القعود بالجامعين ورحابهما، ونهى الذين
485

يسقون الماء في الجامعين أن يترحموا على معاوية ولا يذكرونه فقال له عبيد الله بن سليمان إنا نخاف اضطراب العامة وإثارة الفتنة فلم يسمع منه، فقال عبيد الله للقاضي يوسف بن يعقوب ليحتال في منعه عن ذلك فكلم يوسف المعتضد وحذره اضطراب العامة فلم يلتفت فقال يا أمير المؤمنين فما نصنع بالطالبيين الذين يخرجون من كل ناحية ويميل إليهم خلق كثير من الناس لقرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا سمع الناس ما في هذا الكتاب من إطرائهم كانوا إليهم أميل وكانوا هم أبسط ألسنة وأظهر حجة فيهم اليوم فأمسك المعتضد ولم يأمر في الكتاب بعد ذلك بشيء وكان عبيد الله من المنحرفة عن علي عليه السلام.
وفيها سير المعتضد إلى عمرو بن الليث الخلع واللواء بولاية الري وهدايا.
وفيها فتحت قرة من بلد الروم على يد راغب مولى الموفق وابن كلوب في رجب.
وفيها في شعبان ظهر بدار المعتضد انسان بيده سيف فمضى إليه بعض الخدم لينظر ما هو فضربه بالسيف فجرحه وهرب الخادم ودخل الشخص في زرع في البستان
فتوارى فيه فطلب باقي ليلته ومن الغد فلم يعرف له خبر فاستوحش المعتضد وكثر الناس في أمره بالظنون حتى قالوا له إنه من الجن وظهر مرارا كثيرة حتى وكل المعتضد بسور داره وأحكمه ضبطا.
ثم أحضر المجانين والمعزمين والمعزمين بسبب ذلك الشخص فسألهم عنه فقال
486

المعزمون نحن نعزم على بعض المجانين، فإذا سقط سئل الجني عنه فأخبر خبره فعزموا على امرأة مجنونة فصرعت والمعتضد ينظر إليهم فلما صرعت أمرهم بالانصراف.
وفيها وجه كرامة بن مر من الكوفة بقوم مقيدين ذكر أنهم من القرامطة فقرروا بالضرب فأقروا على أبي هاشم بن صدقة الكاتب أنه منهم فقبض عليه وحبسه.
وفيها وثب الحرث عبد العزيز بن أبي دلف المعروف بأبي ليلى بشفيع الخادم فقتله، وكان أخوه عمر بن عبد العزيز قد أخذه وقيده وحبسه في قلعة زر ووكل به شفيعا الخادم ومعه جماعة من غلمان عمر، فلما استأمن عمر إلى المعتضد وهرب بكر بقيت القلعة بما فيها من الأموال بيد شفيع، فكلمه أبو ليلى في إطلاقه فلم يفعل وطلب من غلام كان يخدمه مبردا فأدخله في الطعام فبرد مسمار قيده.
وكان شفيع في كل ليلة يأتي إلى أبي ليلى يفتقده ويمضي ينام وتحت رأسه سيف مسلول، فجاء شفيع في ليلة إليه فحادثه فطلب منه أن يشرب معه أقداحا ففعل وقام الخادم لحاجته، فجعل أبو ليلى في فراشه ثيابا تشبه إنسانا نائما وغطاها باللحاف وقال لجارية كانت تخدمه إذا عاد شفيع قولي له هو نائم، ومضى أبو ليلى فاختفى ظاهر الدار وقد أخرج يده من رجله، فلما عاد شفيع قالت له الجارية هو نائم فاغلق الباب ومشى إلى داره ونام فيها، فخرج أبو ليلى وأخذ السيف من عند شفيع وقتله فوثب الغلمان فقال لهم أبو ليلى قد قتلت شفيعا ومن تقدم إلي قتلته فأنتم آمنون!
487

فخرجوا من الدار، واجتمع الناس إليه فكلمهم ووعدهم الإحسان وأخذ عليهم الأيمان وجمع الأكراد وغيرهم وخرج مخالفا على المعتضد وكان قتل شفيع في ذي القعدة.
ولما خرج أبو ليلى على السلطان قصده عيسى النوشري فاقتتلوا فأصاب أبا ليلى في حلقه سهم فنحره فسقط عن دابته وانهزم أصحابه وحمل رأسه إلى أصبهان ثم إلى بغداد.
وفيها كان المنجمون يوعدون بغرق أكثر الأقاليم إلا إقليم بابل فإنه يسلم منه اليسير وأن ذلك يكون بكثرة الأمطار وزيادة الأنهار والعيون، فقحط الناس وقلت الأمطار وغارت المياه حتى احتاج الناس إلى الاستسقاء فاستسقوا ببغداد مرات؛ [وحج بالناس محمد بن عبد الله بن داود الهاشمي المعروف بأترنجة].
وفيها ظهر اختلال هارون بن خمارويه بن أحمد بن طولون بمصر واختلفت القواد وطمعوا فانحل النظام وتفرقت الكلمة، ثم اتفقوا على أن يجعلوا مدبر دولته أبا جعفر بن أبان وكان عند والده وجده مقدما كبير القدر فأصلح من الأحوال ما استطاع وكم جهد الصناع إذا اتسع الخرق، وكان [من] بدمشق من الجند قد خالفوا على أخيه جيش كما ذكرنا فلما تولى أبو جعفر الأمور سير جيشا إلى دمشق عليهم بدر الجمالي والحسين بن أحمد المارداني فأصلحا حالها وقرروا أمور الشام واستعملا على دمشق طغج بن جف واستعملا على سائر الأعمال ورجعا إلى مصر والأمور فيها اختلال،
488

والقواد قد استولى كل واحد منهم على طائفة من الجند وأخذهم إليه، وهكذا يكون انتقاض الدول وإذا أراد الله أمرا فلا مرد لحكمه وهو سريع الحساب.
وفيها توفي إسحاق بن موسى بن عمران أبو يعقوب الأسفرايني الفقيه الشافعي والعتابي واسمه عبد العزيز بن معاوية من ولد عتاب بن أسيد بفتح الهزة وكسر السين.
وفيها أيضا توفي أبو عبد الله محمد بن الوضاح بن ربيع الأندلسي وكان من العلماء المشهورين.
489

285
ثم دخلت سنة خمس وثمانين ومائتين
فيها قطع صالح بن مدرك الطائي الطريق على الحاج بالأجفر في المحرم فحاربه حي الكبير وهو أمير القافلة فلم يقوبه وبمن معه من الأعراب وظفر بالحج ومن معه بالقافلة فأخذوا ما كان فيها من الأموال والتجارات وأخذوا جماعة من النساء والجواري والمماليك، فكان قيمة ما أخذوه ألفي ألف دينار.
وفيها ولي عمرو بن الليث ما وراء النهر وعزل إسماعيل بن أحمد.
وفيها كان بالكوفة ريح صفراء فبقيت إلى المغرب ثم اسودت فتضرع الناس ثم مطروا مطرا شديدا برعود هائلة وبروق متصلة ثم سقط بعد ساعة بقرية تعرف باحمداباذ ونواحيها أحجار بيض وسود مختلفة الألوان في أوساطها طبق وحمل منها إلى بغداد فرآه الناس.
وفيها سار فاتك مولى المعتضد إلى الموصل لينظر في أعمالها وأعمال الجزيرة والثغور الشامية والجزيرة وإصلاحها مضافا إلى ما كان يتقلده من البريد بها.
وفيها كان بالبصرة ريح صفراء ثم عادت خضراء ثم سوداء ثم تتابعت الأمطار بما لم يروا مثله ثم وقع برد كبار وزن البردة مائة وخمسون درهما فيما قيل.
490

وفيها مات الخليل بن رمال بحلوان.
وفيها ولي المعتضد محمد بن أبي الساج أعمال آذربيجان وأرمينية وكان قد تغلب عليها وخالف وبعث إليه بخلع.
وفيها غزا راغب مولى الموفق في البحر فغنم مراكب كثيرة فضرب أعناق ثلاثة آلاف من الروم كانوا فيها وأحرق المراكب وفتح حصونا كثيرة وعاد سالما ومن معه.
وفيها توفي أحمد بن عيسى بن الشيخ وقام بعده ابنه محمد بآمد وما يليها على سبيل التغلب، فسار المعتضد إلى آمد بالعساكر ومعه ابنه أبو محمد علي المكتفي في ذي الحجة وجعل طريقه على الموصل فوصل آمد وحصرها إلى ربيع الآخر من سنة ست وثمانين ومائتين ونصب عليها المجانيق، فأرسل محمد بن أحمد بن عيسى يطلب
الأمان لنفسه ولمن معه ولأهل البلد فأمنهم المعتضد فخرج إليه وسلم البلد فخلع عليه المعتضد وأكرمه وهدم سورها.
ثم بلغه أن محمد بن الشيخ يريد الهرب فقبض عليه وعلى آله.
وفيها وجه هارون بن خمارويه إلى المعتضد ليسأله أن يقاطعه على ما في يده ويدنو به من مصر والشام ويسلم أعمال قنسرين إلى المعتضد ويحمل كل سنة أربعمائة ألف وخمسين ألف دينار فأجابه إلى ذلك، وسار من آمد واستخلف فيها ابنه المكتفي ووصل إلى قنسرين والعواصم فتسلمها من أصحاب هارون وكان ذلك سنة ست وثمانين ومائتين.
وفيها غزا ابن الأخشيد بأهل طرسوس ففتح الله على يديه وبلغ اسكندرون؛ وحج بالناس محمد بن عبد الله بن داود الهاشمي.
491

وفيها توفي إبراهيم بن إسحاق الحربي ببغداد وهو من أعيان المحدثين، وإسحاق بن إبراهيم الدبري صاحب عبد الرزاق بصنعاء وهو آخر من روى عن عبد الرزاق.
(الدبري بفتح الدال المهملة والباء الموحدة وبعدها راء).
وفيها توفي أبو العباس محمد بن يزيد الأزدي اليماني الخوي المعروف بالمبرد وكان قد أخذ النحو عن أبي عثمان المازني.
492

286
ثم دخلت سنة ست وثمانين ومائتين
وفي هذه السنة وجه محمد بن أبي الساج المعروف بأبي المسافر إلى بغداد برهينة بما ضمن للسلطان من الطاعة والمناصحة ومعه هدايا جليلة.
وفيها أرسل عمرو بن الليث هدية إلى المعتضد من نيسابور فكانت قيمتها أربعة آلاف [ألف] درهم.
ذكر ابتداء أمر القرامطة بالبحرين
وفيها ظهر رجل من القرامطة يعرف بأبي سعيد الجنابي بالبحرين فاجتمع إليه جماعة من الأعراب والقرامطة وقوي أمره فقتل من حوله من أهل القرى، ثم سار إلى القطيف فقتل [من] بها وأظهر أنه يريد البصرة، فكتب أحمد بن محمد بن يحيى الواثقي وكان متولي البصرة إلى المعتضد بذلك فأمره بعمل سور على البصرة وكان مبلغ الخراج عليه أربعة عشر ألف دينار.
وكان ابتداء القرامطة بناحية البحرين أن رجلا يعرف بيحيى بن المهدي
493

قصد قطيف فنزل على رجل يعرف بعلي بن المعلى بن حمدان مولى الزياديين، وكان يغالي في التشيع فأظهر له يحيى أنه رسول المهدي وكان ذلك سنة إحدى وثمانين ومائتين وذكر أنه خرج إلى شيعته في البلاد يدعوهم إلى أمره وأن ظهوره قد قرب فوجه علي بن المعلى إلى الشيعة من أهل القطيف فجمعهم وأقرأهم الكتاب الذي مع يحيى بن المهدي إليهم من المهدي فأجابوه وإنهم خارجون معه إذا ظهر أمره، ووجه إلى سائر قرى البحرين بمثل ذلك فأجابوه.
وكان فيمن أجابه أبو سعيد الجنابي وكان يبيع للناس الطعام ويحسب لهم بيعهم، ثم غاب عنهم يحيى بن المهدي مدة ثم رجع ومعه كتاب يزعم أنه من المهدي إلى شيعته فيه قد عرفني رسول يحيى بن المهدي مسارعتكم إلى أمري فليدفع إليه كل رجل منكم ستة دنانير وثلثين ففعلوا ذلك.
ثم غاب عنهم وعاد ومعه كتاب فيه أن ادفعوا إلى يحيى خمس أموالكم فدفعوا إليه الخمس، وكان يحيى يتردد في قبائل قيس ويورد إليهم كتبا يزعم أنها من المهدي وأنه ظاهر فكونوا على أهبة.
وحكى إنسان منهم يقال له إبراهيم الصائغ أنه كان عند أبي سعيد الجنابي وأتاه يحيى فأكلوا طعاما فلما فرغوا خرج أبو سعيد من بيته وأمر امرأته أن تدخل إلى يحيى وأن لا تمنعه إن أراد فانتهى هذا الخبر إلى الوالي فأخذ
494

يحيى فضربه، وحلق رأسه ولحيته وهرب أبو سعيد الجنابي إلى جنابا وسار يحيى بن المهدي إلى بني كلاب وعقيل والخريس فاجتمعوا معه ومع أبي سعيد فعظم أمر أبي سعيد وكان منه ما يأتي ذكره.
ذكر عدة حوادث
وفيها سار المعتضد من آمد بعد أن ملكها كما ذكرناه إلى الرقة فولى ابنه عليا المكتفي قنسرين والعواصم والجزيرة وكاتبه النصراني واسمه حسين بن عمرو فكان ينظر في الأموال فقال الخليع في ذلك:
(حسين بن عمرو عدو القرآ * ن يصنع في العرب ما يصنع)
(يقوم لهيبته المسلمو * ن صفوفا لفرد إذا يطلع)
(فإن قيل قد أقبل الجاثليق * تحفى له ومشى يظلع)
وفيها توفي ابن الأخشيد أمير طرسوس واستخلف أبا ثابت على طرسوس.
وفيها سار إلى الأنبار جماعة أعراب من بني شيبان وأغاروا على القرى وقتلوا من لحقوا من الناس وأخذوا المواشي.
فخرج إليهم أحمد بن محمد بن كمشجور متوليها فلم يطقهم، فكتب إلى المعتضد بذلك فأمده بجيش فأدركوا الأعراب وقاتلوهم فهزمهم الأعراب وقتلوا فيهم وغرق
495

أكثرهم وتفرقوا، وعاث الأعراب في تلك الناحية.
وبلغ خبر الهزيمة إلى المعتضد فسير إليه جيشا آخر فرحل الأعراب إلى عين التمر فأفسدوا وعاثوا وذلك في شعبان ورمضان، فوجه إليهم عسكرا آخر إلى عين التمر فسلكوا البرية إلى نواحي الشام فعاد العسكر إلى بغداد ولم يلقهم.
وفيها استدعى المعتضد راغبا مولى الموفق من طرسوس فقد عليه وهو بالرقة فحبسه وأخذ جميع ما كان له فمات بعد أيام من حبسه وكان في ذلك في شعبان، وقبض على بكنون غلام راغب وأخذ ماله بطرسوس.
وفيها قلد المعتضد ديوان المشرق محمد بن داود بن الجراح وعزل عنه أحمد بن محمد بن الفرات، وقلد ديوان المغرب علي بن عيسى بن داود ابن الجراح.
وفيها توفي أبو جعفر محمد بن إبراهيم الأنماطي المعروف بالمربع صاحب يحيى بن معين وكان حافظا للحديث ومحمد بن يوسف الكريمي البصري.
496

287
ثم دخلت سنة سبع وثمانين ومائتين
ذكر قتل أبي ثابت أمير طرسوس وولاية ابن الأعرابي
في هذه السنة اجتمعت الروم وحشدت في ربيع الآخر ووافت باب قلمية من طرسوس فنفر أبو ثابت أمير طرسوس بعد موت ابن الأخشيد وكان استخلفه عند موته، فبلغ أبو ثابت في نفيره إلى نهر الرجان في طلبهم فأسر أبو ثابت وأصيب الناس معه.
وكان ابن كلوب غازيا في درب السلامة فلما عاد جمع مشايخ الثغر ليتراضوا بأمير فاجمعوا رأيهم على ابن الأعرابي فولوه أمرهم وذلك في ربيع الآخر من هذه السنة.
ذكر ظفر المعتضد بوصيف ومن معه
في هذه السنة هرب وصيف خادم محمد بن أبي الساج من برذعة إلى ملطية من أعمال مولاه، وكتب إلى المعتضد يسأله أن يوليه الثغور فأخذ رسله وقررهم عن سبب مفارقة وصيف مولاه، فذكروا له أنه فارقه على
497

مواطأة منهما أنه متى ولى وصيف الثغور سار إليه مولاه وقصدا ديار مضر وتغلبا عليها.
فسار المعتضد نحوه فنزل العين السوداء وأراد الرحيل في طريق المصيصة فاتته العيون فأخبروه أن وصيفا يريد عين زربة فسأل أهل المعرفة بذلك الطريق وسألهم عن أقرب الطرق إلى لقاء وصيف فأخذوه وساروا به نحوه، وقدم جمعا من عسكره بين يديه فلقوا وصيفا فقاتلوه وأخذوه أسيرا فأحضروه عند المعتضد فحبسه فأمر ونودي في أصحاب وصيف بالأمان وأمر العسكر برد ما نهبوه منهم ففعلوا ذلك.
وكانت الوقعة لثلاث عشرة بقيت من ذي القعدة؛ فلما فرغ منه رحل إلى المصيصة وأحضر رؤوس طرسوس فقبض عليهم لأنهم كاتبوا وصيفا وأمر بإحراق مراكب طرسوس التي كانوا يغزون فيها وجميع آلاتها، وكان من جملتها نحو من خمسين مركبا قديمة قد أنفق عليها من الأموال ما لا يحصى ولا يمكن عمل مثلها فأضر ذلك بالمسلمين وفت في أعضادهم وأمر الروم أن يغزوا في البحر، وكان إحراقها بإشارة دميانة غلام بازمار لشيء كان في نفسه على أهل طرسوس، واستعمل على أهل الثغور الحسن بن علي كوره، وسار المعتضد إلى أنطاكية وحلب وغيرهما وعاد إلى بغداد.
وفيها توفيت ابنة خمارويه زوج المعتضد.
ذكر أمر القرامطة وانهزام العباس الغنوي منهم
في هذه السنة في ربيع الآخر عظم أمر القرامطة بالبحرين وأغاروا على نواحي هجر وقرب بعضهم من نواحي البصرة فكتب أحمد الواثقي يسأل
498

المدد فسير إليه سميريات فيها ثلاثمائة رجل، وأمر المعتضد باختيار رجل ينفذه إلى البصرة، وعزل العباس بن عمرو الغنوي عن بلاد فارس وأقطعه اليمامة والبحرين وأمره بمحاربة القرامطة وضم إليه زهاء ألفي رجل، فسار إلى البصرة واجتمع إليه جمع كثير من المتطوعة والجند والخدم.
ثم سار منها إلى أبي سعيد الجنابي فلقوه مساء وتناوشوا القتال وحجز بينهم الليل، فلما كان الليل انصرف عن العباس من كان معه من أعراب بني ضبة وكانوا ثلاثمائة إلى البصرة وتبعهم متطوعة البصرة، فلما أصبح العباس باكر الحرب فاقتتلوا قتالا شديدا ثم حمل نجاح غلام أحمد بن عيسى بن الشيخ من ميسرة العباس في مائة رجل على ميمنة أبي سعيد فوغلوا فيهم فقتلوا عن آخرهم وحمل الجنابي ومن معه على أصحاب العباس فانهزموا وأسر العباس واحتوى الجنابي على ما كان في عسكره.
فلما كان من الغد أحضر الجنابي الأسرى فقتلهم جميعا وحرقهم وكانت الوقعة آخر شعبان.
ثم سار الجنابي إلى هجر بعد الوقعة فدخلها وأمن أهلها، وانصرف من سلم من المنهزمين وهم قليل والبصرة بغير زاد فخرج إليهم من البصرة نحو أربعمائة رجل على الرواحل ومعهم الطعام والكسوة والماء فلقوا بها المنهزمين فخرج عليهم بنو أسد وأخذوا الرواحل وما عليها وقتلوا من سلم من المعركة، فاضطربت البصرة لذلك وعزم أهلها على الانتقال منها فمنعهم الواثقي.
499

وبقي العباس عند الجنابي أياما ثم أطلقه وقال له امض إلى صاحبك وعرفه ما رأيت؛ وحمله على رواحل فوصل إلى بعض السواحل وركب البحر فوافى الأبلة ثم سار منها إلى بغداد فوصلها في رمضان، فدخل على المعتضد فخلع عليه.
بلغني أن عبيد الله بن عبد الله بن طاهر قال عجائب الدنيا ثلاث جيش العباس بن عمرو يؤسر وحده وينجو وحده ويقتل جميع جيشه وجيش عمرو بن الصفار يؤسر وحده ويسلم جميع جيشه وأنا أنزل في بيتي وتولى ابني أبو العباس الجسرين ببغداد.
ولما أطلق أبو سعيد العباس أعطاه درجا ملصقا وقال له أوصله إلى المعتضد فإن لي فيه أسرارا. فلما دخل العباس على المعتضد عابته المعتضد فأوصل إليه العباس الكتاب فقال والله ليس فيه شيء وإنما أراد أن يعلمني أني أنفذتك إليه في العدد الكثير فردك فردا وفتح الكتاب وإذ ليس فيه شيء.
وفيها، في ذي القعدة أوقع بدر غلام الطائي بالقرامطة على غرة منهم بنواحي ميسان وغيرها وقتل منهم مقتلة ثم تركهم خوفا أن تخرب السواد وكانوا فلاحية وطلب رؤساءهم فقتل من ظفر به منهم.
ذكر أسر عمرو الصفار وملك إسماعيل خراسان
في هذه السنة في ربيع الأول أسر عمرو بن الليث الصفار؛ وكان سبب ذلك أن عمرا أرسل إلى المعتضد برأس رافع بن هرثمة وطلب منه أن
500

يوليه ما وراء النهر فوجه إليه الخلع واللواء بذلك وهو بنيسابور، فوجه لمحاربة إسماعيل بن أحمد الساماني صاحب ما وراء النهر محمد بن بشير وكان خليفته وحاجبه وأخص أصحابه بخدمته وأكبرهم عنده وغيره من قواده إلى آمل فعبر إليهم إسماعيل جيحون فحاربهم فهزمهم وقتل محمد بن بشير في نحو ستة آلاف رجل.
وبلغ المنهزمون إلى عمرو وهو بنيسابور وعاد إسماعيل إلى بخارى فتجهز عمرو لقصد إسماعيل فأشار إليه أصحابه بإنقاذ الجيوش ولا يخاطر بنفسه فلم يقبل منهم وسار عن نيسابور نحو بلخ فأرسل إليه إسماعيل إنك قد وليت دنيا عريضة وإنما في يدي ما وراء النهر وأنا في ثغر فاقنع بما في يدك واتركني مقيما في هذا الثغر. فأبى. فذكر لعمرو وأصحابه شدة العبور بنهر بلخ فقال لو شئت أن أسكره ببدر الأموال وأعبره لفعلت.
فسار إسماعيل نحوه وعبر النهر إلى الجانب الغربي، وجاء عمرو فنزل بلخ وأخذ إسماعيل عليه النواحي لكثرة جمعه وصار عمرو كالمحاصر وندم على ما فعل وطلب المحاجزة فأبى إسماعيل عليه فاقتتلوا فلم يكن بينهم كثير قتال حتى انهزم عمرو فولى هاربا، ومر بأجمة في طريقه فقال له إنها أقرب الطرق فقال لعامة من معه امضوا في الطريق الواضح؛ وسار هو في نفر يسير فدخل الأجمة فوحلت به دابته فلم يكن له في
501

نفسه حيلة، ومضى من معه ولم يعرجوا عليه، وجاء أصحاب إسماعيل فأخذوه أسيرا، فسيره إسماعيل إلى سمرقند.
ولما وصل الخبر إلى المعتضد ذم عمرا ومدح إسماعيل، ثم إن إسماعيل خير عمرو بين مقامه عنده أو إنفاذه إلى المعتضد فاختار المقام عند المعتضد فسيره إليه فوصل إلى بغداد سنة ثمان وثمانين ومائتين، فلما وصل ركب على جمل وأدخل بغداد ثم حبس فبقي محبوسا حتى قتل سنة تسع وثمانين [ومائتين] على ما نذكره.
وأرسل المعتضد إلى إسماعيل بالخلع وولاه ما كان بيد عمرو وخلع على نائبه بالحضرة المعروف بالمرزباني واستولى إسماعيل على خراسان وصارت بيده.
وكان عمرو أعور شديد السمرة عظيم السياسة قد منع أصحابه وقواده أن يضرب أحد منهم غلاما إلا بأمر أو يتولى عقوبة الغلام نائبه أو أحد حجابه، وكان يشتري المماليك الصغار ويرميهم ويهبهم لقواده ويجري عليهم الجرايات الحسنة سرا ليطالعوه بأحوال قواده ولا ينكتم عنه من أخبارهم شيء ولم يكونوا يعلمون من ينقل إليه عنهم، فكان أحدهم يحذره وهو وحده.
حكي عنه أنه كان له عامل بفارس يقال له أبو حصين فسخط عليه عمرو وألزمه أن يبيع أملاكه ويوصل ثمنها إليه ففعل ذلك.
ثم طلب منه مائة
502

ألف درهم فإن أداها في ثلاثة أيام وإلا قتله فلم يقدر على شيء منها، فأرسل إلى أبي سعيد الكاتب يطلب منه أن يجتمع به فأذن له فاجتمع به وعرفه ضيق يده وسأله أن يضمنه فيخرج من محبسه ويسعى في تحصيل المبلغ المطلوب منه ففعل وأخرجه فلم يفتح عليه بشيء، فعاد إلى أبي سعيد الكاتب فبلغ خبره عمرا فقال والله ما أدري من أيهما أعجب من أبي سعيد فيما فعل من بذل مائة ألف درهم أم في أبي حصين كيف عاد وقد علم أنه القتل ثم أمر بإطلاق ما عليه ورده إلى منزلته.
وحكي عنه أنه كان يحمل أحمالا كثيرة من الجرب ولم يعلم أحد ما مراده فاتفق في بعض السنين أنه قصد طائفة من العصاة عليه للايقاع بهم فسلك طريقا لا تظن العصاة عليه انهم يؤتون منه وكان في طريقه واد فأمر بتلك الجرب فملئت ترابا وأحجارا ونضد بعضها إلى بعض وجعلها طريقا في الوادي فعبر أصحابه عليها وأتاهم وهم آمنون فأثخن فيهم وبلغ منهم ما أراد.
وحكي أيضا أن أكبر حجابه كان اسمه محمد بن بشير وكان يخلفه في كثير من أموره العظام، فدخل عليه يوما وأخذ يعدد عليه ذنوبه فحلف محمد بالله والطلاق والعتق أنه لا يملك إلا خمسين بدرة وهو يحملها إلى الخزانة ولا يجعل له ذنبا لم يعلمه فقال عمرو ما أعقلك من رجل احملها إلى الخزانة فحملها فرضي عنه، وما أقبح هذا من فعل وشره إلى أموال من أذهب عمره في خدمته!
503

ذكر قتل محمد بن زيد العلوي
في هذه السنة قتل محمد بن زيد العلوي صاحب طبرستان والديلم.
وكان سبب قتله أنه لما اتصل به أسر عمرو بن الليث الصفار خرج من طبرستان نحو خراسان ظنا منه أن إسماعيل الساماني لا يتجاوز عمله ولا يقصد خراسان وأنه لا دافع له عنها.
فلما سار إلى جرجان أرسل إليه إسماعيل وقد استولى على خراسان يقول له الزم عملك ولا تتجاوز علمه ولا تقصد خراسان.
وترك جرجان له فأبى ذلك محمد، فندب إليه إسماعيل بن أحمد محمد بن هارون وهذا محمد كان يخلف رافع بن هرثمة أيام ولايته خراسان فجمع محمد جمعا كثيرا من فارس وراجل وسار نحو محمد بن زيد فالتقوا على باب جرجان فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزم محمد بن هارون أولا ثم رجع وقد تفرق أصحاب محمد بن زيد في الطلب فلما
رأوه قد رجع إليه ولوا هاربيين، وقتل منهم بشر كثير وأصابت ابن زيد ضربات وأسر ابنه زيد وغنم ابن هارون عسكره وما فيه، ثم مات محمد بن زيد بعد أيام من جراحاته التي أصابته فدفن على باب جرجان.
وحمل ابنه زيد بن محمد إلى إسماعيل بن أحمد فأكرمه ووسع في الإنزال عليه وأنزله بخارى وسار محمد بن هارون إلى طبرستان.
وكان محمد بن زيد فاضلا أديبا شاعرا عارفا حسن السيرة، قال أبو عمر الأستراباذي كنت أورد على محمد بن زيد أخبار العباسيين،
504

فقلت له: إنهم قد لقبوا أنفسهم فإذا ذكرتهم عندك أسميهم أو ألقبهم؟ فقال: الأمر موسع عليك، سمهم ولقبهم بأحسن ألقابهم وأسمائهم، وأحبها إليهم.
وقيل: حضر عنده خصمان أحدهما اسمه معاوية والآخر اسمه علي فقال الحكم بينكما ظاهر فقال معاوية إن تحت هذين الأسمين خبرا قال محمد وما هو؟ قال أن أبي كان من صادقي الشيعة فسماني معاوية ليكفني شر النواصب وإن أبا هذا كان ناصبيا فسماه عليا خوفا من العلوية والشيعة فتبسم إليه محمد وأحسن إليه وقربه.
وقيل استأذن عليه جماعة من أضراء الشيعة وقرائهم فقال أدخلوا فإنه لا يحبنا إلا كل كسير وأعور.
ذكر ولاية أبي العباس صقلية
كان إبراهيم بن الأمير أحمد أمير أفريقية قد استعمل على صقلية أبا مالك أحمد بن عمر بن عبد الله فاستضعفه فولى بعده ابنه أبا العباس بن إبراهيم بن أحمد بن الأغلب فوصل إليها غرة شعبان من هذه السنة في مائة وعشرين مركبا وأربعين حربي وحصر طرابلس.
واتصل خبره بعسكر المسلمين بمدينة بلرم [وهم] يقاتلون أهل جرجنت،
505

فعادوا إلى بلرم، وأرسلوا جماعة من شيوخهم إليه بطاعتهم واعتذروا من قصدهم جرجنت، ووصل إليه جماعة من أهل جرجنت وشكوا منهم وأخبروه أنهم مخالفون عليه وأنهم إنما سير مشايخهم خديعة ومكرا وأنهم لا إيمان لهم ولا عهد وإن شئت أن تعلم مصداق هذا فاطلب إليك منهم فلانا وفلانا.
فأرسل إليهم يطلبهم فامتنعوا من الحضور عنده وخالفوا عليه وأظهروا ذلك فاعتقل الشيوخ الواصلين إليه منهم واجتمع أهل بلرم وساروا إليه منتصف شعبان ومقدمهم مسعود الباجي وأمير السفهاء منهم ركمويه وصحبهم ثم أسطول في البحر نحو ثلاثين قطعة فهاج البحر على الأسطول فعطب أكثره وعاد الباقي إلى بلرم.
وأما العسكر الذين في البر فإنهم وصلوا إليه وهو على طرابلس فاقتتلوا أشد القتال فقتل من الفريقين جماعة وافترقوا، ثم أعادوا القتال في الثاني والعشرين فانهزم أهل بلرم وقت العصر وتبعهم أبو العباس إلى بلرم برا وبحرا فعاودوا قتاله عاشر رمضان من بكرة إلى العصر فانهزم أهل البلد ووقع القتل فيهم إلى المغرب، واستعمل [أبو] العباس على أرباضها، ونهبت الأموال وهرب كثير من الرجال والنساء إلى طبرمين، وهرب ركمويه وأمثاله من رجال الحرب إلى بلا النصرانية كالقسطنطينية وغيرها، وملك أبو العباس المدينة ودخلها وأمن أهلها وأخذ جماعة من وجوه أهلها فوجههم إلى أبي بأفريقية.
506

ثم رحل إلى طبرمين فقطع كرومها وقاتلهم ثم رحل إلى قطانية فحصرها فلم ينل منها غرضا فرجع إلى المدينة وأقام إلى أن دخلت سنة ثمان وثمانين فتجهز للغزو وطاب الزمان وعمر الأسطول وسيره أول ربيع الآخر ونزل على دمنش ونصب عليها المجانيق وأقام أياما.
ثم انصرف إلى مسيني، وجاز في الحربية إلى ريو وقد اجتمع بها كثير من الروم فقاتلهم على باب المدينة وهزمهم وملك المدينة بالسيف في رجب وغنم من الذهب والفضة ما لا يحد وشحن المراكب بالدقيق والأمتعة ورجع إلى مسيني وهدم سورها ووجد بها مراكب قد وصلت من القسطنطينية وأخذ منها ثلاثين مركبا ورجع إلى المدينة، وأقام إلى سنة تسع وثمانين [ومائتين] فأتاه كتاب أبيه إبراهيم يأمره بالعود إلى إفريقية فرجع إليها جريدة في خمس قطع شواني، وترك العسكر مع ولديه أبي مضر وأبي معد.
فلما وصل إلى أفريقية استخلفه أبوه بها وسار هو إلى صقلية مجاهدا عازما على الحج بعد الجهاد فوصلها في رجب سنة سبع وثمانين ومائتين وقد ذكرنا خبره سنة إحدى وستين ومائتين.
507

ذكر عدة حوادث
في هذه السنة جعمت طيء من قدرت عليه من الأعراب وخرجوا على قفل الحاج فواقعوهم بالمعدن وقاتلوهم يومين بين الخميس والجمعة لثلاث بقين من ذي الحجة فانهزم العرب وقتل كثير وسلم الحاج.
وفيها مات إسحاق بن أيوب بن أحمد بن عمر بن الخطاب العدوي عدي ربيعة أمير ديار ربيعة من بلاد الجزيرة فولى مكانه عبد الله بن الهيثم بن عبد الله بن المعتمر.
وفيها توفيت قطر الندى ابنة خمارويه بن أحمد بن طولون صاحب مصر وهي امرأة المعتضد وحج بالناس هذه السنة محمد بن عبد الله بن داود.
وفيها استعمل المعتضد عيسى النوشري وهو أمير أصبهان على بلاد فارس وأمره بالمسير إليه.
وفيها توفي فهد بن أحمد بن فهد الأزدي الموصلي وكان من الأعيان وعلي بن عبد العزيز البغوي توفي بمكة وهو صاحب أبي عبيد القاسم بن سلام بالتشديد.
508

288
ثم دخلت سنة ثمان وثمانين ومائتين
في هذه السنة وقع الوباء بأذربيجان فمات منه خلق كثير إلى أن فقد الناس ما يكفنون به الموتى وكانوا يتركونهم على الطرق غير مكفنين ولا مدفونين.
وفيها توفي محمد بن أبي الساج بأذربيجان في الوباء الكثير المذكور فاجتمع أصحابه فولوا ابنه ديوداد واعتزلهم عمه يوسف بن أبي الساج مخالفا لهم فاجتمع إليه نفر يسير
فأوقع بابن أخيه ديوداد وهو في عسكر أبيه فهزمه، وعرض عليه يوسف المقام معه فأبى وسلك طريق الموصل إلى بغداد وكان ذلك في رمضان.
وفيها في صفر دخل طاهر بن محمد بن عمرو بن الليث بلاد فارس في عسكره وأخرجوا عنها عامل الخليفة، فكتب الأمير إسماعيل بن أحمد الساماني إلى طاهر يذكر له أن الخليفة المعتضد قد ولاه سجستان وأنه سائر إليها فعاد طاهر لذلك.
وفيها ولى المعتضد مولاه بدرا فارس وأمره بالشخوص إليها لما بلغه أن طاهرا تغلب عليها فسار إليها في جيش عظيم في جمادى الآخرة، فلما قرب من فارس تنحى عنها من كان بها من أصحاب طاهر فدخلها بدر وجبى خراجها، وعاد طاهر إلى سجستان كما ذكرناه من مراسلة إسماعيل الساماني إليه بأنه يريد [أن] يقصد سجستان.
509

وفيها تغلب بعض العلويين على صنعاء فقصده بنو يعفر في جمع كثير فقاتلوه فهزموه ونجا هاربا في نحو خمسين فارسا وأسروا ابنا له، ودخلها بنو يعفر وخطبوا فيها للمعتضد.
وفيها سير الحسين بن علي كوره صاحبه نزار محمد إلى صائفة الروم فغزا وفتح حصونا كثيرة للروم وعاد ومعه الأسرى.
ثم إن ساروا في البر والبحر إلى ناحية كيسوم فأخذوا من المسلمين أكثر من خمسة عشر ألفا وعادوا.
وفيها قرب أصحاب أبي سعيد الجنابي من البصرة، فخاف أهلها وهموا بالهرب منهم فمنعهم من ذلك واليهم.
وفيها في ذي الحجة قتل وصيف خادم ابن أبي الساج وصلبت جثته ببغداد، وقيل إنه مات ولم يقتل، وحج بالناس هذه السنة هارون بن محمد المكنى أبا بكر.
وفيها، توفي في ربيع الآخر توفي عبيد الله بن سليمان الوزير فعظم موته على المعتضد وجعل ابنه أبا الحسين القاسم بن عبيد الله بعد أبيه في الوزارة.
وفيها توفي إبراهيم الحربي وبشر بن موسى الأسدي وهو من الحفاظ للحديث.
وفيها في صفر توفي ثابت بن قرة بن سنان الصابي الطبيب المشهور ومعاذ بن المثنى العنبري.
510

289
ثم دخلت سنة تسع وثمانين ومائتين
ذكر أخبار القرامطة بالشام
في هذه السنة ظهر بالشام رجل من القرامطة وجمع جموعا من الأعراب وأتى دمشق وأميرها طغج بن جف من قبل هارون بن خمارويه بن أحمد بن طولون وكانت بينهما وقعات.
وكان ابتداء حال هذا القرمطي أن ذكرويه بن مهرويه الذي ذكرنا أنه داعية قرمط لما رأى أن الجيوش من المعتضد متتابعة إلى من بسواد الكوفة من القرامطة وأن القتل قد أبادهم سعى في استغواء من قرب من الكوفة من الأعراب أسد وطئ وغيرهم فلم يجبه منهم أحد، فأرسل أولاده إلى كلب بن وبرة فاستغووهم فلم يجبهم منهم إلا الفخذ المعروف ببني القليص بن ضمضم بن عدي بن خباب ومواليهم خاصة فبايعوا في آخر سنة تسع وثمانين ومائتين بناحية السماوة، ابن، ذكرويه المسمى بيحيى المكنى أبا القاسم فلقبوه الشيخ وزعم أنه محمد بن عبد الله بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب،
511

وقيل: لم يكن لمحمد بن إسماعيل ولد اسمه عبد الله، وزعم أن له بالبلاد مائة ألف تابع وأن ناقته التي يركبها مأمورة فإذا تتبعوها في مسيرها نصروا وأظهر عضدا له ناقصة وذكر أنه ابنه وأتاه جماعة من بني الأصبع وسموا الفاطميين ودانوا بدينه، فقصدهم شبل غلام المعتضد من ناحية الرصافة فاغتروه فقتلوه وأحرقوا مسجد الرصافة واعترضوا كل قرية اجتازوا بها حتى بلغوا ولاية هارون بن خمارويه التي قوطع عليها طغج بن جف فأكثروا القتل بها والإغارة فقاتلهم طغج فهزموه غير مرة.
ذكر أخبار القرامطة بالعراق
وفيها انتشر القرامطة بسواد الكوفة فوجه المعتضد إليهم شبلا غلام أحمد بن محمد الطائي وظفر بهم وأخذ رئيسا لهم يعرف بأبي الفوارس فسيره إلى المعتضد فأحضره بين يديه وقال له أخبرني هل تزعمون أن روح الله وأرواح الأنبياء تحل في أجسادكم فتعصمكم من الزلل وتوفقكم لصالح العمل فقال له يا هذا أن حلت روح الله فينا فما يضرك وإن حلت روح إبليس فما ينفعك فلا تسأل عما لا يعنيك وسل عما يخصك.
512

فقال: ما تقول فيما يخصني؟ قال أقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وأبوكم العباس حي فهل طلب بالخلافة أم هل بايعه أحد من أصحابه على ذلك ثم مات أبو بكر فاستخلف عمر وهو يرى موضع العباس ولم يوص إليه ثم مات عمر وجعلها شورى في ستة أنفس ولم يوص إليه ولا أدخله فيهم، فبماذا تستحقون أنتم الخلافة وقد اتفق الصحابة على دفع جدك عنها.
فأمر به المعتضد فعذب، وخلعت عظامه، ثم قطعت يداه ورجلاه ثم قتل.
ذكر وفاة المعتضد
في هذه السنة في ربيع الآخر توفي المعتضد بالله أبو العباس أحمد بن الموفق بن المتوكل ليلة الاثنين لثمان بقين منه، وكان مولده في ذي الحجة من سنة اثنتين وأربعين ومائتين.
ولما اشتد مرضه اجتمع القواد منهم يونس الخادم وموشكير وغيرهما، وقالوا للوزير القاسم بن عبيد الله ليجدد البيعة للمكتفي، وقالوا إنا لا نأمن فتنة فقال إن هذا المال لأمير المؤمنين ولولده من بعده وأخاف [أن] أطلق المال فيبرأ من علته فينكر علي ذلك.
فقال أنا برئ من مرضه فنحن المحتجون والمناظرون وإن صار الأمر إلى ولده فلا يلومنا ونحن نطلب الأمر له.
513

فأطلق المال، وجدد عليه البيعة وأحضر عبد الواحد بن الموفق وأخذ عليه البيعة فوكل به وأحضر ابن المعتز ومضى ابن المؤيد وعبد العزيز بن المعتمد ووكل بهم.
فلما توفي أحضر يوسف بن يعقوب وأبا حازم وأبا عمر بن يوسف بن يعقوب فتولى غسله محمد بن يوسف وصلى عليه الوزير ودفن ليلا في دار محمد بن طاهر وجلس الوزير في دار الخلافة للعزاء وجدد البيعة للمكتفي.
وكانت أم المعتضد واسمها ضرار قد توفيت قبل خلافته، وكانت خلافته سبع سنين وتسعة أشهر وثلاثة عشر يوما؛ وخلف من الولد الذكور عليا وهو المكتفي وجعفرا وهو المقتدر وهارون ومن البنات إحدى عشر بنتا وقيل سبع عشرة ولما حضرته الوفاة أنشد:
(تمتع من الدنيا فإنك لا تبقى * وخذ صفوها ما إن صفت ودع الرنقا)
(ولا تأمنن الدهر إني أمنته * فلم يبق لي خلا ولا يرع لي حقا)
(قتلت صناديد الرجال ولم أدع * عدوا ولم أمهل على طغيه خلقا)
(وأخليت دار الملك من كل نازع * فشردتهم غربا ومزقتهم شرقا)
(فلما بلغت النجم عز ورفعة * وصارت رقاب الخلق أجمع لي رقا)
514

(رماني الردى سهما فأخمد جمرتي * فها أنا ذا في حفرتي عاجلا ألقى)
(ولم يغن عني ما جمعت ولم أجد * لذي الملك والأحياء في حسنها رفقا)
(فيا ليت شعري بعد موتي ما ألقى؟ * إلى نعم الرحمن أم ناره ألقى)
ذكر صفته وسيرته
كان المعتضد أسمر نحيف الجسم معتدل الخلق قد وخطه الشيب وكان شهما شجاعا مقداما وكان ذا عزم وكان فيه شح.
بلغه خبر وصيف خادم ابن أبي الساج وعليه قباء أصفر فسار من ساعته وظفر بوصيف وعاد، فدخل أنطاكية وعليه القباء فقال بعض أهلها الخليفة بغير سواد فقال بعض أصحابه أنه سار فيه ولم ينزعه عنه إلى الآن وكان عفيفا.
حكى القاضي إسماعيل بن إسحاق قال دخلت على المعتضد وعلى رأسه أحداث روم صباح الوجوه فأطلت النظر إليهم فلما قمت أمرني بالقعود فجلست فلما تفرق الناس قال يا قاضي والله ما حللت سراويلي على غير حلال قط.
وكان مهيبا عند أصحابه يتقون سطوته ويكفون عن الظلم خوفا منه.
515

ذكر خلافة المكتفي بالله
ولما توفي المعتضد كتب الوزير إلى أبي محمد علي بن المعتضد وهو المكتفي بالله يعرفه بذلك ويأخذ البيعة له وكان بالرقة.
فلما وصله الخبر أخذ البيعة على من عنده من الأجناد ووضع لهم العطاء وسار إلى بغداد، ووجه إلى النواحي من ديار ربيعة، ومضر ونواحي العرب من يحفظها ودخل بغداد لثمان خلون من جمادى الأول فلما سار إلى منزله أمر بهدم المطامير التي كان أبوه اتخذها لأهل الجرائم.
ذكر قتل عمرو بن الليث الصفار
وفي هذا اليوم الذي دخل فيه المكتفي بغداد قتل عمرو بن الليث بن الصفار ودفن من الغد.
وكان المعتضد بعدما امتنع من الكلام أمر صافيا الخرمي بقتل عمرو بن الليث بالإيماء والإشارة ووضع يده على رقبته وعلى عينه بأن اذبح أعور، وكان عمرو أعور فلم يفعل صافي لعلمه بقرب وفاة المعتضد وكره قتل عمرو، فلما وصل المكتفي بغداد سأل الوزير عنه فقال هو حي فسر بذلك وأراد الإحسان إليه لأنه كان يكثر من الهدية إليه لما كان بالري فكره الوزير ذلك فبعث إليه من قتله.
516

ذكر استيلاء محمد بن هارون على الري
وفي هذه السنة كاتب أهل الري محمد بن هارون الذي كان حارب محمد بن زيد العلوي وتولى طبرستان لإسماعيل بن أحمد.
وكان محمد بن هارون قد خلع طاعة إسماعيل فسأله أهل الري المسير إليهم ليسلموها إليه.
وكان سبب ذلك أن الوالي عليهم كان قد أساء السيرة فيهم، فسار محمد بن هارون إليهم فحاربه واليها وهو الدتمش التركي فقتله محمد وقتل ابنين له وأخا كيغلغ وهو من قواد الخليفة ودخل محمد بن هارون الري واستولى عليها في رجب.
ذكر قتل بدر
وفيها قتل بدر غلام المعتضد؛ وكان سبب ذلك أن القاسم الوزير كان قد هم بنقل الخلافة عن ولد المعتضد بعده فقال لبدر في ذلك في حياة المعتضد بعد أن استحلفه واستكتمه فقال بدر ما كنت لأصرفها عن ولد مولاي وولي نعمتي فلم يمكنه مخالفة بدر إذ كان صاحب الجيش والمستولي على أمره والمطاع في خدمه وغلمانه وحقدها على بدر، فلما مات المعتضد كان بدر بفارس فعقد القاسم البيعة
517

للمكتفي وهو بالرقة.
وكان المكتفي أيضا مباعدا لبدر في حياة أبيه، وعمل القاسم في هلاك بدر خوفا على نفسه أن يذكر ما كان منه للمكتفي.
فوجه المكتفي محمد بن كشتمر برسائل إلى القواد الذين مع بدر يأمرهم بالمسير إليه ومفارقة بدر ففارقه جماعة منهم العباس بن عمرو الغنوي ومحمد بن إسحاق بن كنداج وخاقان المفلحي وغيرهم فأحسن إليهم المكتفي، وسار بدر إلى واسط فوكل المكتفي بداره وقبض على أصحابه وقواده وحبسهم وأمر بمحو اسم بدر من التراس والأعلام، وسير الحسين بن علي كوره في جيش إلى واسط.
وأرسل إلى بدر يعرض عليه أي النواحي شاء فأبى ذلك وقال لا بد لي من المسير إلى باب مولاي؛ فوجد القاسم مساغا للقول وخوف المكتفي غائلته، وبلغ بدرا ما فعل بأهله وأصحابه وأرسل من يأتيه بولده هلال سرا فعلم الوزير بذلك فاحتاط عليه ودعا أبا حازم قاضي الشرقية وأمره بالمسير إلى بدر وتطييب نفسه عن المكتفي وإعطائه الأمان عنه لنفسه وولده وماله.
فقال أبو حازم أحتاج إلى سماع ذلك من أمير المؤمنين؛ فصرفه ودعا أبا عمر القاضي وأمره بمثل ذلك فأجابه وسار ومعه كتاب الأمان، فسار بدر عن واسط نحو بغداد فأرسل إليه الوزير من قتله، فلما أيقن بالقتال سأل أن يمهل حتى يصلي ركعتين فصلاهما ثم ضربت عنقه يوم الجمعة لست خلون من شهر رمضان، ثم أخذ رأسه وتركت جثته هنالك، فوجه عياله من أخذها سرا وجعلوها في تابوت، فلما كان وقت الحج حملوها إلى مكة فدفنوها بها وكان أوصى بذلك واعتق قبل أن يقتل كل مملوك كان له.
ورجع أبو عمر القاضي إلى داره كئيبا حزينا بما كان نمه في ذلك وقال الناس فيه أشعارا،
518

وتكلموا فيه، فمما قيل فيه:
(قل لقاضي مدينة المنصور * بم أحللت أخذ رأس الأمير)
(عند إعطائه المواثيق والعه * د وعقد الايمان في منشور)
(أين أيمانك التي شهد الل‍ * ه على أنها يمين فجور)
(إن كفيك لا تفارق كفي‍ * ه إلى أن ترى عليل السرير)
(يا قليل الحياء يا أكذب الأم * ة يا شاهدا شهادة زور)
(ليس هذا فعل القضاة ولا يح‍ * سن أمثاله ولاة الجسور)
(أي أمر ركبت في الجمعة الزه‍ * راء منه في خير هذي الشهور)
(قد مضى من قتلت في رمضان * صائما بعد سجدة التعفير)
(يا بني يوسف بن يعقوب أضحى * أهل بغداد منكم في غرور)
(بدد الله شملكم وأراني * ذلكم في حياة هذا الوزير)
(فأعدوا الجواب للحكم العد * ل ومن بعد منكر ونكير)
(أنتم كلكم فدا لأبي حا * زم المستقيم كل الأمور)
519

ذكر ولاية أبي العباس عبد الله بن إبراهيم إفريقية
قد ذكرنا سنة إحدى وستين ومائتين أن إبراهيم بن أحمد أمير أفريقية عهد إلى ولده أبي العباس عبد الله سنة تسع وثمانين ومائتين وتوفي فيها، فلما توفي والده قام بالملك بعده وكان أديبا لبيبا شجاعا أحد الفرسان المذكورين مع علمه بالحرب وتصرفها.
وكان عاقلا عالما له نظر حسن في الجدل، وفي أيامه عظم أمر أبي عبد الله الشيعي فأرسل أخاه الأحول ولم يكن أحول وإنما لقب بذلك لأنه كان إذا نظر دائما ربما كسر جفنه فلقب بالأحول إلى قتال أبي عبد الله الشيعي، فلما بلغه حركته خرج إليهم في جموع كثيرة والتقوا عند كموشة فقتل بينهم خلق عظيم وانهزم الأحول إلا أنه أقام في مقابلة أبي عبد الله.
وكان أبو العباس أيام أبيه على خوف شديد منه لسوء أخلاقه واستعمله أبوه على صقلية ففتح فيها مواضع متعددة وقد تقدم ذكر ذلك أيام والده، ولما ولي أبو العباس أفريقية كتب إلى العمال كتابا يقرأ على العامة يعدهم فيه الإحسان والعدل والرفق والجهاد ففعل ما وعد من نفسه، وأحضر جماعة من العلماء ليعينوه على أمر الرعية.
وله شعر فمن ذلك قوله بصقلية وقد شرب دواء:
(شربت الدواء على غربة * بعيدا من الأهل والمنزل)
520

(وكنت إذا ما شربت الدوا * أطيب بالمسك والمندل)
(وقد صار شربي بحار الدما * ونقع العجاجة والقسطل)
واتصل بأبي العباس عن ولده أبي مضر زيادة الله والي صقلية له اعتكافه على اللهو وادمانه شرب الخمر فعزله وولى محمد بن السرقوسي وحبس ولده، فلما كان ليلة
الأربعاء آخر شعبان من سنة تسعين ومائتين قتل أبو العباس قتله ثلاثة نفر من خدمه الصقالبة بوضع من ولده وحملوا رأسه إلى ولده أبي مضر وهو في الحبس فقتل الخدم وصلبهم وكان هو الذي وضعهم.
فكانت إمارته سنة واثنتين وخمسين يوما، وكان سكناه وقتله رحمه الله بمدينة تونس.
وكان كثير العدل أحضر جماعة كثيرة عنده ليعينوه على العدل ويعرفوه من أحوال الناس ما يفعل فيه على سبيل الانصاف.
وأمر الحاكم في بلده أن يقضي عليه وعلى جميع أهله وخواص أصحابه ففعل ذلك؛ ولما قتل ولي ابنه أبو مضر، وكان من أمره ما نذكره سنة ست وتسعين ومائتين.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة منتصف رمضان قتل عبد الواحد بن الموفق وكانت والدته إذا سألت عنه قيل لها إنه في دار المكتفي، فلما مات المكتفي أيست
521

منه، فأقامت عليه مأتما.
وفيها كانت وقعة بين أصحاب إسماعيل بن أحمد وبين جستان الديلمي بطبرستان فانهزم ابن جستان.
وفيها لحق إسحاق الفرغاني وهو من أصحاب بدر بالبادية وأظهر الخلاف على الخليفة المكتفي فحاربه أبو الأغر فهزمه إسحاق وقتل من أصحابه جماعة.
وفيها سير خاقان المفلحي إلى الري في جيش كثيف ليتولاها.
وفيها صلى الناس العصر بحمص وبغداد في الصيف ثم هب هواء من ناحية الشمال فبرد الوقت واشتد البرد حتى احتاج الناس إلى النار ولبس الجباب وجعل البرد يزداد حتى جمد الماء.
وفيها كانت وقعة بين إسماعيل بن أحمد وبين محمد بن هارون بالري فانهزم محمد ولحق بالديلم مستجيرا بهم ودخل إسماعيل الري.
وفيها زادت دجلة قدر خمسة عشر ذراعا.
وفيها خلع المكتفي على هارون بن بدر وغيره من أصحاب أبيه في جمادى الأولى.
وفيها هبت ريح عاصف بالبصرة، فقلعت كثيرا من نخلها، وخسف بموضع منها هلك فيه ستة آلاف نفس وزلزلت بغداد في رجب عدة مرات فتضرع أهلها في الجامع فكشف عنهم.
(وفيها حج بالناس الفضل بن عبد الملك بن عبد الله العباسي)
وفيها مات أبو حمزة بن محمد بن إبراهيم الصوفي وهو من أقران سري السقطي.
522

290
ثم دخلت سنة تسعين ومائتين
ذكر أخبار القرامطة
في هذه السنة في ربيع الآخر سير طغج بن جف جيشا من دمشق إلى القرمطي عليهم غلام له اسمه بشير فهزمهم القرمطي وقتل بشيرا.
وفيها حصر القرمطي دمشق وضيق على أهلها وقتل أصحاب طغج ولم يبق منهم إلا القليل وأشرف أهلها على الهلكة.
فاجتمع جماعة من أهل بغداد وأنهوا ذلك إلى الخليفة فوعدهم النجدة وأمد المصريون أهل دمشق ببدر وغيره من القواد فقاتلوا الشيخ مقدم القرامطة فقتل على باب دمشق رماه بعض المغاربة بمزراق وزرقه نقاط بالنار فاحترق وقتل منهم خلق كثير.
وكان هذا القرمطي يزعم أنه إذا أشار بيده إلى جهة من التي فيها محاربوه انهزموا؛ ولما قتل يحيى المعروف بالشيخ وقتل أصحابه اجتمع من بقي منهم على أخيه الحسين وسمى نفسه أحمد وكناه أبا العباس،
523

ودعا الناس فأجابه أكثر أهل البوادي وغيرهم فاشتدت شوكته وأظهر شامة في وجهه وزعم أنه آيته، فسار إلى دمشق فصالحه أهلها على خراج دفعوه إليه وانصرف عنهم.
ثم سار إلى أطراف حمص فغلب عليها وخطب له على منابرها وتسمى المهدي أمير المؤمنين، وأتاه ابن عمه عيسى بن المهدي المسمى عبد الله بن أحمد بن محمد بن إسماعيل فلقبه المدثر وعهد إليه وزعم أنه المدثر الذي في القرآن ولقب غلاما من أهله المطوق وقلده قتل أسرى المسلمين.
ولما أطاعه أهل حمص وفتحوا له بابها خوفا منه على أنفسهم سار إلى حماة ومعرة النعمان وغيرهما فقتل أهلها وقتل النساء والصبيان، ثم سار إلى بعلبك فقتل عامة أهلها ولم يبق منها إلا اليسير، ثم سار إلى سلمية فمنعه أهلها ثم صالحهم وأعطاهم الأمان ففتحوا له بابها فبدأ بمن فيها من بني هاشم وكانوا جماعة فقتلهم أجمعين ثم قتل البهائم والصبيان بالمكاتب، ثم خرج منها وليس بها عين تطرف.
وسار فيما حولها من القرى يسبي ويقتل ويخيف السبيل، فذكر عن متطبب بباب المحول يدعى أبا الحسين قال جاءتني امرأة بعد ما ادخل القرمطي صاحب الشامة بغداد وقالت أريد أن تعالج جرحا في كتفي فقلت ههنا امرأة تعالج النساء فانتظرتها فقعدت وهي باكية مكروبة فسألتها عن قصتها قال كان لي ولد طالت غيبته عني فخرجت أطوف عليه البلاد فلم أره فخرجت من الرقة في طلبه فوقعت في عسكر القرمطي أطلبه فرأيته فشكوت إليه حالي وحاله أخواته فقال دعيني من هذا،
524

أخبريني ما دينك؟ فقلت: أما تعرف ما ديني فقال ما كنا في باطل والدين ما نحن فيه اليوم فعجبت من ذلك وخرج وتركني ووجه بخبز [ولحم]، فلم أمسه حتى عاد فأصلحه.
وأتاه رجل من أصحابه فسألني هل أحسن من أمر النساء شيئا فقلت نعم فأدخلني دار فإذا امرأة تطلق فقعدت بين يديها وجعلت أكلمها ولا تكلمني حتى ولدت غلاما فأصلحت من شأنه وتلطفت بها حتى كلمتني فسألتها عن حالها فقالت أنا امرأة هاشمية أخذها هؤلاء الأقوام فذبحوا أبي وأهلي جميعا وأخذني صاحبهم فأقمت عنده خمسة أيام ثم أمر بقتلي فطلبني منه أربعة أنفس من قواده فوهبني لهم وكنت معهم فوالله ما أدري ممن هذا الولد منهم.
قالت فجاء رجل فقالت لي هنيه فهنيته فأعطاني سبيكة فضة وجاء آخر، وآخر أهني كل واحد منهم ويعطيني سبيكة فضة ثم جاء الرابع ومعه جماعة فهنيته فأعطاني ألف درهم وبتنا فلما أصبحنا قالت المرأة قد وجب حقي عليك فالله الله خلصيني! قالت ممن أخلصك فأخبرتها خبر ابني فقالت عليك بالرجل الذي جاء آخر القوم فأقمت يومي، فلما أمسيت وجاء الرجل قمت له وقبلت يده ورجله ووعدته أنني أعود بعد أوصل ما معي إلى بناتي فدعا قوما من غلمانه وأمرهم بحملي إلى مكان ذكره وقال اتركوها فيه وارجعوا فساروا بي عشرة فراسخ فلحقنا ابني فضربني بالسيف فجرحني ومنعه القوم،
525

وساروا بي إلى المكان الذي سماه لهم صاحبهم وتركوني وجئت إلى هاهنا.
قالت ولما قدم الأمير بالقرامطة وبالأسارى رأيت ابني فيهم على جمل عليه برنس وهو يبكي فقلت لأخفف الله عنك ولا خلصك.
ثم أن كتب أهل الشام ومصر وصلت إلى المكتفي يشكون ما يلقون من القرمطي من القتل والسبي وتخريب البلاد، فأمر الجند بالتأهب وخرج من بغداد في رمضان وسار إلى الشام وجعل طريقه على الموصل، وقدم بين يديه أبا الأغر في عشرة آلاف رجل فنزل قريبا من حلب فكبسهم القرمطي صاحب الشامة فقتل منهم خلقا كثيرا وسلم أبو الأغر فدخل حلب في ألف رجل وكانت هذه الوقعة في رمضان، وسار القرمطي إلى باب حلب فحاربه أبو الأغر بمن بقي معه وأهل البلد فرجع عنهم.
وسار المكتفي حتى نزل الرقة وسير الجيوش إليه وجعل أمرهم إلى محمد بن سليمان الكاتب.
وفيها في شوال تحارب القرمطي صاحب الشامة وبدر مولى ابن طولون فانهزم القرمطي وقتل من أصحابه خلق كثير ومضى من سلم منهم نحو البادية، فوجه المكتفي في أثرهم الحسين بن حمدان وغيره من القواد.
وفيها كبس ابن بانوا أمير البحرين حصنا للقرامطة فظفر بمن فيه وواقع قرابة أبي سعيد الجنابي فهزمه ابن بانوا، وكان مقام هذا القرمطي بالقطيف وهو ولي عهد أبي سعيد ثم أنه وجد بعدما انهزم أصحابه قتيلا فأخذ رأسه وسار ابن بانوا إلى القطيف فافتتحها.
526

ذكر أسر محمد بن هارون
وفيها أخذ محمد بن هارون أسيرا؛ وكان سبب ذلك أن المكتفي أنفذ عهدا إلى إسماعيل بن أحمد الساماني بولاية الري فسار إليها وبها محمد بن هارون فسار عنها محمد إلى قزوين وزنجان ثم عاد إلى طبرستان فاستعمل إسماعيل بن أحمد على جرجان بارس الكبير وألزمه بإحضار محمد بن هارون قسرا أو صلحا، وكاتبه بارس وضمن هارون له إصلاح حاله مع الأمير إسماعيل فقبل محمد قوله وانصرف عن جستان الديلمي وقصد بخارى، فلما بلغ مرو قيد بها وذلك في شعبان سنة تسعين ومائتين، ثم حمل إلى بخارى فأدخلها على جمل وحبس بها فمات بعد شهرين محبوسا.
وكان ابتداء أمره أنه كان خياطا أم أنه جمع جمعا من الرعاء وأهل الفساد فقطع الطريق بمفازة سرخس مدة، ثم استأمن إلى رافع بن هرثمة وبقي معه إلى أن انهزم عمرو الصفار، فاستأمن إلى إسماعيل بن أحمد الساماني صاحب ما وراء النهر بعد قتل رافع فسيره إسماعيل إلى قتال محمد بن زيد على ما تقدم ذكره وقد ذكره الخوافي في شعره فقال:
(كان ابن هارون خياطا له ابن * وراية سامها عشر بقيراط)
527

(فانسل في الأرض يبغي الملك في عصب * زط ونوب وأكراد وأنباط)
(أنى ينال الثريا كف ملتزق * بالترب عن ذروة العلياء هباط)
(صبرا أميرك إسماعيل منتقم * منه ومن كل غدار وخياط)
(رأيت عيرا سما جهلا على أسد * يا عين ويحك ما أشقاك من شاطئ)
ذكر عدة حوادث
وفيها في ربيع الآخر خلع على أبي العشائر أحمد بن نصر وولي طرسوس وعزل عنها مظفر بن حاج لشكوى أهل الثغور منه.
وفيها قوطع طاهر بن محمد بن عمرو بن الليث على مال يحمله عن بلاد فارس وعقد له المكتفي عليها.
وفيها في جمادى الأولى هرب القائد أبو سعيد الخوارزمي الذي استأمن إلى الخليفة وأخذ نحو طريق الموصل، فكتب إلى عبد الله المعروف بغلام نون بتكريت وهو يتولى تلك النواحي فعارضه عبد الله واجتمع به،
528

فخدعه أبو سعيد وقتله وسار نحو شهرزور واجتمع هو وابن الربيع الكردي وصاهره واجتمعا على عصيان الخليفة.
وفيها أراد المكتفي البناء بسامراء وخرج إليها ومعه الصناع فقدروا له ما يحتاج إليه من المال وكان مالا جليلا وطولوا له مدة الفراغ فعظم الوزير ذلك عليه وصرفه إلى
بغداد.
وحج بالناس هذه السنة الفضل ابن عبد الملك بن عبد الواحد بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس.
وفيها توفي محمد بن علي بن علوية بن عبد الله الفقيه الشافعي الجرجاني وكان قد تفقه على المزني صاحب الشافعي وتوفي عبد الله بن أحمد بن حنبل في جمادى الآخرة وكان مولده سنة ثلاث عشرة ومائتين.
529

291
ثم دخلت سنة إحدى وتسعين ومائتين
ذكر أخبار القرامطة وقتل صاحب الشامة
قد ذكرنا مسير المكتفي إلى الرقة وإرساله الجيوش إلى صاحب الشامة وتولية حرب صاحب الشامة محمد بن سليمان الكاتب فلما كانت هذه السنة أمر محمد بن سليمان بمناهضة صاحب الشامة فسار إليه في عساكر الخليفة حتى لقوه وأصحابه بمكان بينهم وبين حماة اثنا عشر ميلا لست خلون من المحرم، فقدم القرمطي أصحابه إليهم وبقي في جماعة من أصحابه معه مال كان جمعه وسواد عسكره والتحمت الحرب بين أصحاب الخليفة والقرامطة واشتدت وانهزمت القرامطة وقتلوا كل قتلة وأسر من رجالهم بشر كثير وتفرق الباقون في البوادي وتبعهم أصحاب الخليفة.
فلما رأى صاحب الشامة ما نزل بأصحابه حمل أخا له يكنى أبا الفضل مالا وأمره أن يلحق بالبوادي إن أن يظهر بمكان فيسير إليه وركب هو وابن عمه المسمى بالمدثر والمطوق صاحبه وغلام له رومي [وأخذ دليلا] وسار يريد الكوفة عرضا في البرية، فانتهى إلى الدالية من أعمال الفرات وقد
530

نفذ ما معهم من الزاد والعلف، فوجه بعض أصحابه إلى الدالية المعروفة بابن طوق ليشتري لهم ما يحتاجون إليه فأنكروا رأيه فسألوه عن حاله فكتمه فرفعوه إلى متولي تلك الناحية خليفة أحمد بن محمد بن كشمرد فسأله عن خبره فأعلمه أن صاحب الشامة خلف رابية هناك مع ثلاث نفر فمضى إليهم وأخذهم وأحضرهم عند ابن كشمرد، فوجه بهم إلى المكتفي بالرقة ورجعت الجيوش من الطلب بعد أن قتلوا وأسروا، وكان أكثر الناس أثرا في الحرب الحسين بن حمدان، وكتب محمد بن سليمان يثني عليه وعلى بني شيبان فإنهم اصطلوا الحرب وهزموا القرامطة وأكثروا القتل فيهم والأسر حتى لم ينج منهم إلا قليل.
وفي يوم الاثنين لأربع بقين من المحرم أدخل صاحب الشامة الرقة ظاهرا للناس على فالج وهو الجمل ذو السنامين وبين يديه المدثر والمطوق على جملين وسار المكتفي إلى بغداد ومعه صاحب الشامة وأصحابه وخلف العساكر مع محمد بن سليمان وأدخل القرمطي بغداد على قيل وأصحابه على الجمل ثم أمر المكتفي بحبسهم إلى أن تقدم محد بن سليمان فقدم بغداد وقد استقصى في طلب القرامطة فظفر بجماعة من أعيانهم ورؤوسهم، فأمر المكتفي بقطع أيديهم وأرجلهم وضرب أعناقهم بعد ذلك وأخرجوا من الحبس وفعل بهم ذلك، وضرب صاحب الشامة مائتي سوط وقطعت يداه وكوي فغشي عليه وأخذوا خشبا وجعلوا فيه نارا ووضعوه على خواصره فجعل يفتح عينه ويغمضها، فلما خافوا موته ضربوا عنقه ورفعوا رأسه على خشبة فكبر الناس لذلك ونصب على الجسر.
وفيها قدم رجل من بني العليص من وجوه القرامطة يسمى إسماعيل بن النعمان وكان نجا في جماعة لم ينج من رؤسائهم غيره فكاتبه المكتفي
531

وبذل له الأمان فحضر في الأمان هو ونيف مائة وستين نفسا فأمنوا وأحسن إليهم ووصلوا بمال، وصاروا إلى رحبة مالك بن طوق مع القاسم بن سيما وهي من عمله فأقاموا معه مدة، ثم أرادوا الغدر بالقاسم وعزموا على أن يثبوا بالرحبة يوم الفطر عند اشتغال الناس بالصلاة وكان قد صار معهم جماعة كثيرة فعلم بذلك فقتلهم فارتدع من كان بقي من موالي بني العليص وذلوا.
وألزموا السماوة حتى جاءهم كتاب من الخبيث زكرويه يعلمهم أنه مما أوحي إليه أن صاحب الشامة وأخاه المعروف بالشيخ يقتلان وأن إمامه الذي هو حي يظهر بعدهما ويظفر.
ذكر عدة حوادث
وفيها جاءت أخبار أن حوى وما يليها جاءها سيل فغرق نحو من ثلاثين فرسخا وغرق في ذلك خلق كثير وغرقت المواشي والغلات وخربت القرى وأخرج من الغرقى ألف ومائتا نفس سوى من لم يلحق منهم.
وفيها خلع المكتفي على محمد بن سليمان كاتب الجيش وعلى جماعة من القواد وأمرهم بالمسير إلى الشام ومصر لأخذ الأعمال من هارون بن خمارويه لما ظهر من عجزه وذهاب رجاله بقتل من قتل منهم القرمطي فسار عن بغداد في رجب وهو في عشرة آلاف رجل وجد في المسير.
532

وفيها خرجت الترك في خلق كثير لا يحصون إلى ما وراء النهر وكان في عسكرهم سبعمائة قبة تركية ولا تكون إلا للرؤساء منهم فوجه إليهم إسماعيل بن أحمد جيشا كثيرا وتبعهم من المتطوعة خلق كثير فساروا نحو الترك فوصلوا إليهم وهم غارون فكبسهم المسلمون مع الصبح فقتلوا منهم خلقا عظيما لا يحصون وانهزم الباقون واستبيح عسكرهم وعاد المسلمون سالمين غانمين.
وفيها خرج من الروم عشرة صلبان مع كل صليب عشرة آلاف إلى الثغور فقصد جماعة منهم إلى الحدث فأغروا وسبوا وأحرقوا.
وفيها سار المعروف بغلام زرافة من طرسوس نحو بلاد الروم ففتح مدينة أنطاكية وهي تعادل القسطنطينية فتحها بالسيف عنوة فقتل خمسة آلاف رجل وأسر مثلهم واستنقذ من الأسارى خمسة آلاف وأخذ لهم ستين مركبا فحمل فيها ما غنم لهم من الأموال والمتاع والرقيق، وقدر نصيب كل رجل ألف دينار وهذه المدينة على ساحل البحر،
فاستبشر المسلمون بذلك.
وحج بالناس الفضل بن عبد الملك بن عبد الله بن العباس.
وفيها توفي القاسم بن عبد الله وزير الخليفة في ذي القعدة، وكان عمره اثنتين وثلاثين سنة وسبعة أشهر واثنين وعشرين يوما، ولما مات قال ابن سيار:
533

(أمات ليحيا فيما أن حيى * وأفنى ليبقى فما أن بقي)
(وما زال في كل يوم يرى * إمارة حتف وشيك وحي)
(وما زال يسلح من دبره * إلى أن خري النفس فيما خري)
وفيها مات أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن سعيد بن عبد الرحمن الماستواي الفقيه بنيسابور ومحمد بن محمد الجزوعي قاضي الموصل ببغداد.
وفيها توفي أبو العباس أحمد بن يحيى الشيباني النحوي وكان عالما بنحو الكوفيين وكان موته ببغداد.
534

292
ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين ومائتين
ذكر استيلاء المكتفي على الشام ومصر
وانقراض ملك الطولونية
وفي المحرم منها سار محمد بن سليمان إلى حدود مصر لحرب هارون بن خمارويه بن أحمد بن طولون.
وسبب ذلك أن محمد بن سليمان لما تخلف عن المكتفي وعاد عن محاربة القرامطة واستقصى محمد في طلبهم، فلما بلغ ما أراد عزم على العود إلى العراق فأتاه كتاب بدر الحمامي غلام ابن طولون وكتاب فائق وهما بدمشق يدعوانه إلى قصد البلاد بالعساكر ويساعدانه على أخذها، فما عاد إلى بغداد أنهى ذلك إلى المكتفي فأمره بالعود وسير معه الجنود والأموال.
ووجه المكتفي دميانة غلام بازمار، وأمر بركوب البحر إلى مصر ودخول النيل وقطع المواد عن مصر ففعل ذلك وضيق عليهم.
وزحف إليهم محمد بن سليمان في الجيوش في البر حتى دنا من مصر وكاتب من بها من القواد، وكان أول من خرج إليه بدر الحمامي وكان رئيسهم فكسرهم ذلك وتتابع المستأمنة من قواد المصريين، فلما رأى ذلك هارون خرج فيمن معه لقتال محمد بن سليمان فكانت بينهم وقعات، ثم وقع بين أصحاب
535

هارون، في بعض الأيام عصبية فاقتتلوا فخرج هارون يسكنهم فرماه بعض المغاربة بمزراق معه فقتله، فلما قتل قام عمه شيبان بالأمر من بعده وبذل المال للجند فأطاعوه وقاتلوا معه، فأتتهم كتب بدر يدعوهم إلى الأمان فأجابوه إلى ذلك.
فلما علم محمد بن سليمان الخبر سار إلى مصر فأرسل إليه شيبان يطلب الأمان فأجابه فخرج إليه ليلا ولم يعلم به أحد من الجند فلما أصبحوا قصدوا داره ولم يجدوه فبقوا حيارى ولما وصل محمد مصر دخلها واستولى على دور آل طولون وأموالهم وأخذهم جميعا وهم بضعة عشر رجلا فقيدهم وحبسهم واستقصى أموالهم وكان ذلك في صفر، وكتب بالفتح إلى المكتفي فأمره بإشخاص آل طولون وأسبابهم من مصر والشام إلى بغداد ولا يترك منهم أحدا، ففعل ذلك، وعاد إلى بغداد وولى معونة مصر عيسى النوشري.
ثم ظهر بمصر إنسان يعرف بالخلنجي وهو من قوادهم وكان تخلف عن محمد بن سليمان فاستمال جماعة وخالف على وكثر جمعه وعجز النوشري عنه فسار إلى الإسكندرية ودخل إبراهيم الخلنجي مصر، وكتب النوشري إلى المكتفي بالخبر فسير إليه الجنود مع فاتك مولى المعتضد وبدر الحمامي فساروا في شوال نحو مصر.
536

ذكر عدة حوادث
وفيها أخذ بالبصرة رجل ذكروا أنه أراد الخروج وأخذ مع ولده وتسعة وثلاثون رجلا وحملوا إلى بغداد فكانوا يبكون ويستغيثون ويحلفون أنهم براء، فأمر بهم المكتفي فحبسوا.
وفيها أغار أندرونقس الرومي على مرعش ونواحيها فنفر أهل المصيصة وأهل طرسوس فأصيب أبو الرجال ابن أبي بكار في جماعة من المسلمين فعزل الخليفة أبا العشائر عن الثغور واستعمل عليهم رستم بن بردوا.
وفيها كان الفداء على يد رستم فكان جملة من فودي به المسلمين ألف نفس ومائتي نفس.
وحج بالناس الفضل بن عبد الملك بن عبد الله بن عباس بن محمد.
وفيها زادت دجلة زيادة مفرطة حتى تهدمت الدور التي على شاطئها بالعراق.
وفيها في العشرين من أيار طلع كوكب له ذنب عظيم جدا في برج الجوزاء.
وفيها وقع الحريق ببغداد بباب الطلق من الجانب الشرقي إلى طرق الصفارين، فاحترق ألف دكان مملوءة متاعا للتجار.
وفيها توفي أبو مسلم إبراهيم بن عبد الله الكجي ويقال الكشي.
وفيها توفي القاضي عبد الحميد بن عبد العزيز أبو حازم قاضي المعتضد بالله ببغداد وكان من أفاضل القضاة.
537

293
ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين ومائتين
ذكر أول إمارة بني حمدان بالموصل وما فعلوه بالأكراد
في هذه السنة ولى المكتفي بالله الموصل وأعمالها أبا الهيجاء عبد الله بن حمدان بن حمدون التغلبي العدوي، فسار إليها فقدمها أول المحرم فأقام بها يومه وخرج من الغد لعرض الرجال الذي قدموا معه والذين بالموصل، فأتاه الصريخ من نينوى بأن الأكراد الهذبانية ومقدمهم محمد بن بلال قد أغاروا على البلد وغنموا كثيرا منه فسار من وقته وعبر الجسر إلى الجانب الشرقي فلحق الأكراد بالمعروبة على الخازر فقاتلوه فقتل رجل من أصحابه اسمه سيما الحمداني فعاد عنهم، وكتب إلى الخليفة يستدعي النجدة فأتته النجدة بعد شهور كثيرة، وقد انقضت سنة ثلاث وتسعين ودخلت سنة أربع وتسعين.
ففي ربيع الأول منها سار فيمن معه إلى الهذبانية وكانوا قد اجتمعوا في خمسة آلاف بيت فلما رأوا جده في طلبهم ساروا إلى البابة التي في جبل السلق وهو مضيق في جبل عال مشرف على شهر زور فامتنعوا
538

[بها] وأغار مقدمهم محمد بن بلال وقرب من ابن حمدان وراسله في أن يطيعه ويحضر هو وأولاده ويجعلهم عنده يكونون رهنية ويتركون الفساد، فقبل ابن حمدان ذلك، فرجع محمد ليأتي بمن ذكر فحث أصحابه على المسير نحو آذربيجان وإنما أراد في الذي فعله مع ابن حمدان أن يترك الجد في الطلب ليأخذ أصحابه أهبتهم ويسيرون آمنين.
فلما تأخر عود محمد عن ابن حمدان علم مراده فجرد معه جماعة من جملتهم إخوته سليمان وداود وسعيد وغيرهم ممن يثق به وبشجاعته وأمر النجدة التي جاءته من الخليفة أن يسيروا معه فتثبطوا فتركهم وسار يقفو أثرهم وقد تعلقوا بالجبل المعروف بالقنديل فقتل منهم جماعة وصعدوا ذروة الجبل وانصرف ابن حمدان عنهم ولحق الأكراد بأذربيجان. وأنهى ابن حمدان ما كان من حالهم إلى الخليفة والوزير فأنجدوه بجماعة صالحة. وعاد إلى الموصل فجمع رجاله وسار إلى جبل السلق وفيه محمد بن بلال ومعه الأكراد فدخله ابن حمدان والجواسيس بين يديه خوفا من كمين يكون فيه وتقدم من بين يدي أصحابه وهو يتبعونه فلم يتخلف منهم أحد وجاوزوا الجبل وقاربوا الأكراد وسقط عيهم الثلج واشتد البرد وقلت الميرة والعلف عندهم وأقام على ذلك عشرة أيام وبلغ الحمل [من] التبن ثلاثين درهما ثم عدم عندهم وهو صابر.
539

فلما رأى الأكراد صبرهم وأنهم لا حيلة لهم في دفعهم لجأ محمد بن بلال وأولاده ومن لحق به واستولى ابن حمدان على بيوتهم وسوادهم وأهلهم وأموالهم، وطلبوا الأمان فأمنهم وأبقى عليهم وردهم إلى بلد حرة، ورد عليهم أموالهم وأهليهم ولم يقتل منهم غير رجل واحد وهو الذي قتل صاحبه سيما الحمداني، وأمنت البلاد معه وأحسن السيرة في أهلها.
ثم أن محمد بن بلال طلب الأمان من ابن حمدان فأمنه وحضر عنده وأقام بالموصل، وتتابع الأكراد الحميدية وأهل جبل داسن إليه بالأمان فأمنت البلاد واستقامت.
ذكر الظفر بالخلنجي
في هذه السنة في صفر وصل عسكر المكتفي إلى نواحي مصر، وتقدم أحمد ابن كيغلغ في جماعة من القواد فلقيهم الخلنجي بالقرب من العريش فهزمهم أقبح هزيمة، فندب جماعة من القواد إليهم ببغداد وفيهم إبراهيم بن كيغلغ فخرجوا في ربيع الأول وساروا نحو مصر.
واتصلت الأخبار بقوة الخلنجي فبرز المكتفي إلى باب الشماسية ليسير إلى مصر في رجب فوصل إليه كتاب فاتك في شعبان يذكر أنه والقواد رجعوا إلى الخلنجي وكانت بينهم حروب كثيرة قتل بينهم فيها خلق كثير، فإن آخر حرب كانت بينهم قتل فيها معظم أصحاب الخلنجي،
540

وانهزم الباقون، وظفروا بهم وغنموا عسكرهم، وهرب الخلنجي فدخل فسطاط مصر فأستتر بها عند رجل من أهل البلد فدخلنا المدينة فدلونا عليه فأخذناه ومن استتر عنده وهم في الحبس.
فكتب المكتفي إلى فاتك في حمل الخلنجي ومن معه إلى بغداذ، وعاد المكتفي فدخل بغداد وأمر برد خزائنه وكانت قد بلغت تكريت، فوجه فاتك الخلنجي إلى بغداد فدخلها هو ومن معه في شهر رمضان فأمر المكتفي بحبسهم.
ذكر أمر القرامطة
فيها أنفذ زكرويه بن مهرويه بعد قتل صاحب الشامة رجلا كان يعلم الصبيان بالرافوفة من الفلوجة يسمى عبد الله بن سعيد ويكنى أبا غانم فسمى نصرا وقيل كان المنفذ ابن زكرويه فدار على أحياء العرب من كلب وغيرهم يدعوهم إلى رأيه فلم يقبله منهم أحد الأرجل من بني زياد يسمى مقدام بن الكيال واستغوى طائفة من الاصبغيين المنتمين إلى الفواطم وغيرهم من العليصيين وصعاليك من سائر بطون كلب، وقصد ناحية الشام والعامل بدمشق والأردن أحمد بن كيغلغ وهو بمصر يحارب الخلنجي فاغتنم ذلك عبد الله بن سعيد وسار إلى بصرى واذرعات والبثنية فحارب أهلها ثم أمنهم فلما استسلموا إليه قتل مقاتلهم وسبى
541

ذراريهم وأخذ أموالهم.
ثم قصد دمشق فخرج إليهم نائب ابن كيغلغ وهو صالح بن الفضل فهزمه القرامطة وأثخنوا فيهم ثم [أمنوهم] وغدروهم بالأمان وقتلوا صالحا وفضوا عسكره، وساروا إلى دمشق فمنعهم أهلها فقصدوا طبرية وانضاف إليه جماعة من جند دمشق افتتنوا به فواقعهم يوسف بن إبراهيم بن بغامردي وهو خليفة أحمد بن كيغلغ بالأردن فهزموه وبذلوا له الأمان وغدروا به وقتلوه ونهبوا طبرية وقتلوا خلقا كثيرا من أهلها وسبوا النساء.
فأنفذ الخليفة الحسين بن حمدان وجماعة من القواد في طلبهم فورد دمشق فلما علم بهم القرامطة رجعوا نحو السماوة وتبعهم الحسين في السماوة وهم ينتقلون في المياه ويغورونها حتى لجؤوا إلى ماءين يعرف أحدهما بالدمعانة والآخر بالحبالة وانقطع ابن حمدون عنهم لعدم الماء وعاد إلى الرحبة وأسرى القرامطة مع نصر إلى هيت وأهلها غافلون فنهبوا ربضها وامتنع أهل المدينة بسورهم ونهبوا السفن وقتلوا من أهل المدينة مائتي نفس ونهبوا الأموال والمتاع وأوقروا ثلاثة آلاف راحلة من الحنطة.
وبلغ الخبر إلى المكتفي فسير محمد بن إسحاق بن كنداج فلم يقيموا لمحمد ورجعوا إلى الماءين فنهض محمد خلفهم فوجدهم قد غوروا المياه فأنفذ إليه من بغداد الأزواد والدواب، وكتب إلى ابن حمدان بالمسير إليهم
542

من جهة الرحبة ليجتمع هو ومحمد على الإيقاع بهم ففعل ذلك.
فلما أحس الكلبيون بإقبال الجيش إليهم وثبوا بنصر فقتلوه، قتله رجل منهم يقال له الذئب بن القائم وسار برأسه إلى المكتفي متقربا بذلك مستأمنا فأجيب إلى ذلك وأجيز بجائزة سنية وأمر بالكف عن قومه.
واقتتلت القرامطة بعد نصر حتى صارت بينهم الدماء وسارت فرقة كرهت أمورهم إلى بني أسد بنواحي عين التمر واعتذروا إلى الخليفة فقبل عذرهم، وبقي على الماءين بقيتهم ممن له بصيرة في دينه فكتب الخليفة إلى ابن حمدان يأمره بمعاودتهم واجتثاث أصلهم، فأرسل إليهم زكرويه بن مهرويه داعية له يسمى القاسم بن أحمد ويعرف بأبي محمد وأعلمهم إن فعل الذئب قد نفره منهم وأنهم قد ارتدوا عن الدين وأن وقت ظهورهم قد حضر وقد بايع له من أهل الكوفة أربعون ألفا وأن يوم موعدهم الذي ذكره الله في شأن موسى صلى الله عليه وسلم وعدوه فرعون إذ يقول: (إن موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى) ويأمرهم أن يخفوا أمرهم وأن يسيروا حتى يصبحوا الكوفة يوم النحر سنة ثلاث وتسعين ومائتين فأنهم لا يمنعون منها وأنه يظهر لهم وينجز لهم وعده الذي يعدهم إياه وأن يحملوا إليه القاسم بن أحمد.
فامتثلوا رأيه ووافوا باب الكوفة وقد انصرف الناس عن مصلاهم وعاملهم إسحاق بن عمران ووصلوا في ثمانمائة فارس عليهم الدروع والجواشن والآلات الحسنة وقد ضربوا على القاسم بن أحمد قبة وقالوا
543

هذا أثر رسول الله ونادوا: يا لثارات الحسين يعنون الحسين بن زكرويه المصلوب ببغداد وشعارهم يا أحمد يا محمد يعنون ابني زكرويه المقتولين فأظهروا الأعلام البيض وأرادوا استمالة رعاع الناس بالكوفة بذلك فلم يمل إليهم أحد، فأوقع القرامطة بمن لحقوه من أهل الكوفة وقتلوا نحوا من عشرين نفسا.
وبادر الناس الكوفة وأخذوا السلاح ونهض بهم إسحاق، ودخل مدينة الكوفة من القرامطة مائة فارس فقتل منهم عشرين نفسا وأخرجوا عنها، وظهر إسحاق وحاربهم إلى العصر ثم انصرفوا نحو القادسية وكان فيمن يقاتلهم مع إسحاق جماعة من الطالبية.
وكتب إسحاق إلى الخليفة يستمده فأمده بجماعة من قواده منهم وصيف بن صوارتكين التركي والفضل بن موسى بن بغا وبشر الخادم الأفشيني ورائق الخزري مولى أمير المؤمنين، وغيرهم من الغلمان الحجرية، فساروا منتصف ذي الحجة حتى قاربوا القادسية فنزلوا بالصوان فلقيهم زكرويه.
وأما القرامطة فإنهم أنفذوا واستخرجوا زكرويه من جب في الأرض كان منقطعا فيه سنين كثيرة بقرية الدرية وكان على الجب باب حديد محكم العمل، وكان زكرويه إذا خاف الطلب جعل تنورا هنالك على باب الجب وقامت امرأة تسجره فلا يفطن إليه.
وكان ربما أخفي في بيت خلف باب الدار التي كان بها ساكنا فإذا انفتح باب الدار انطبق على باب البيت فيدخل
544

الداخل الدار فلا يرى شيئا، فلما استخرجوه حملوه على أيديهم وسموه ولي الله، ولما رأوه سجدوا له وحضر معه جماعة من دعاته وخاصته، وأعلمهم أن القاسم بن أحمد من أعظم الناس عليهم ذمة ومنة وأنه ردهم إلى الدين بعد خروجهم عنه، وإنهم إن امتثلوا أوامره أنجز موعدهم وبلغوا آمالهم، ورمز لهم رموزا ذكر فيها آيات من القرآن نقلها عن الوجه الذي أنزلت فيه فاعترف له من رسخ حب الكفر في قلبه أنه رئيسهم وكهفهم وأيقنوا بالنصر وبلوغ الأمل.
وسار بهم وهو محجوب منهم يدعونه السيد ولا يبرزونه والقاسم يتولى الأمور، وأعلمهم أن أهل السواد قاطبة خارجون إليه فأقام بسقي الفرات عدة أيام فلم يصل إليه منهم إلا خمسمائة رجل ثم وافته الجنود المذكورة من عند الخليفة فلقيهم زكرويه بالصوان وقاتلهم واشتدت الحرب بينهم وكانت الهزيمة أول النهار على القرامطة وكان زكرويه قد كمن لهم كمينا من خلفهم فلم يشعر أصحاب الخليفة إلا والسيف فيهم من ورائهم فانهزموا أقبح هزيمة، ووضع القرامطة السيف فيهم فقتلوهم كيف شاؤوا وغنموا سوادهم، ولم يسلم من أصحاب الخليفة إلا من دابته قوية أو من أثخن بالجراح فوضع نفسه بين القتلى فتحاملوا بعد ذلك، وأخذ للخليفة في هذا العسكر أكثر من ثلاثمائة جمازة عليها المال والسلاح وخمسمائة بغل، وقتل من أصحاب الخليفة سوى الغلمان ألف وخمسمائة رجل وقوي القرامطة بما غنموا.
ولما ورد خبر هذه الوقعة إلى بغداد أعظمها الخليفة والناس، وندب إلى
545

القرامطة محمد بن إسحاق بن كنداج وضم إليه من الأعراب بني شيبان وغيرهم وأكثر من ألفي رجل وأعطاهم الأرزاق.
ورحل زكرويه من مكانه إلى نهر المثنية لنتن القتلى.
ذكر عدة حوادث
وفيها في ربيع الآخر قدم إلى بغداد قائد من أصحاب طاهر بن محمد بن عمرو بن الليث مستأمنا يعرف بأبي قابوس.
وسبب ذلك أن طاهرا تشاغل باللهو والصيد، ومضى إلى سجستان للصيد والتنزه فغلب على الأمر بفارس الليث بن علي بن الليث وسبكري مولى عمرو بن الليث فوقع بينهما وبين هذا القائد تباعد ففارقهم ووصل إلى بغداد فخلع عليه الخليفة وأحسن إليه، فكتب طاهر بن محمد يسأل رد أبي قابوس ويذكر أنه جبى المال وأخذه ويقول له
إما أن ترد إليه أو تحتسب له بما ذهب معه من المال، من جملة القرار الذي عليه فلم يجبه الخليفة إلى ذلك.
وفيها صارت الداعية التي للقرمطة باليمن إلى مدينة صنعاء فحاربه أهلها فظفر بهم وقتلهم فلم يفلت إلا اليسير وتغلب على سائر مدن اليمن ثم اجتمع أهل صنعاء وغيرها فحاربوا الداعية فهزموه فانحاز إلى موضع من نواحي اليمن، وبلغ الخبر الخليفة فخلع على المظفر بن حاج في شوال وسيره إلى عمله باليمن وأقام بها إلى أن مات.
وفيها أغارت الروم على قورس من أعمال حلب فقاتلهم أهلها قتالا
546

شديدا ثم انهزموا وقتلوا أكثرهم وقتلوا رؤساء بني تميم، ودخل الروم قورس فأحرقوا جامعها وساقوا من بقي من أهلها.
وفيها افتتح إسماعيل بن أحمد الساماني ملك ما وراء النهر مواضع من بلاد الترك ومن بلاد الديلم؛ وحج بالناس محمد بن عبد الملك الهاشمي.
وفيها توفي نصر بن أحمد الحافظ في رمضان وأبو العباس عبد الله بن محمد الشاشي الشاعر الكاتب الأنباري.
547

294
ثم دخلت سنة أربع وتسعين ومائتين
ذكر أخبار القرامطة وأخذهم الحاج
في هذه السنة في المحرم ارتحل زكرويه من نهر المثنية يريد الحاج فبلغ السلمان وأقام ينتظرهم، فبلغت القافلة الأولى واقصة سابع المحرم، فأنذرهم أهلها وأخبروهم بقرب القرامطة فارتحلوا لساعتهم.
وسار القرامطة إلى واقصة فسألوا أهلها عن الحاج فأخبروهم أنهم ساروا فاتهمهم زكرويه فقتل العلافة وأحرق العلف وتحصن أهل واقصة في حصنهم فحصروهم أياما ثم ارتحل عنهم نحو زبالة وأغار في طريقه على جماعة من بني أسد.
ووصلت العساكر المنفذة من بغداد إلى عيون الطف فبلغهم مسير زكرويه من السلمان فانصرفوا، وسار علان ابن كشمرد جريدة فنزل واقصة بعد أن جازت القافلة الأولى، ولقي زكرويه القرمطي قافلة الخراسانية بعقبة الشيطان راجعين من مكة فحاربهم حربا شديدة، فلما رأى شدة حربهم سألهم هل فيكم نائب للسلطان فقالوا ما معنا أحد. قال فلست أريدكم فاطمأنوا وساروا فلما ساروا أوقع بهم وقتلهم عن آخرهم ولم ينج إلا الشريد وسبوا من النساء ما أرادوا وقتلوا منهن.
548

ولقي بعض المنهزمين علان بن كشمرد فأخبروه خبرهم وقالوا له ما بينك وبينهم إلا القليل، ولو رأوك لقويت نفوسهم فالله لله فيهم! فقال لا أعرض أصحاب السلطان للقتل. ورجع هو وأصحابه.
وكتاب من نجا من الحجاج من هذه القافلة الثانية إلى رؤساء القافلة الثالثة من الحجاج يعلمونهم ما جرى من القرامطة ويأمرونهم بالتحذر والعدول عن الجادة نحو واسط والبصرة أو الرجوع إلى فيد والمدينة إلى أن تأتيهم جيوش السلطان فلم يسمعوا، ولم يقيموا.
وسارت القرامطة من العقبة بعد أخذ الحاج وقد طموا الآبار والبرك بالجيف والتراب والحجارة بواقصة والثعلبية والعقبة وغيرها من المناهل في جميع طريقهم، وأقام [زكرويه] بالهبير ينتظر القافلة الثالثة فساروا فصادفوه هناك فقاتلهم زكرويه ثلاثة أيام وهم على غير ماء فاستسلموا لشدة العطش فوضع فيهم السيف وقتلهم عن آخرهم وجمع القتلى كالتل، وأرسل خلف المنهزمين من يبذل لهم الأمان فلما رجعوا قتلهم، وكان في القتلى مبارك القمي وولده أبو العشائر بن حمدان.
وكان نساء القرامطة يطفن بالماء بين القتلى يعرضن عليهم الماء فمن كلمهن قتلنه فقيل إن عدة القتلى بلغت عشرين ألفا ولم ينج إلا من كان بين القتلى فلم يفطن له فنجا بعد ذلك ومن هرب عند اشتغال القرامطة بالقتل والنهب فكان من مات من هؤلاء أكثر ممن سلم ومن استعبدوه، وكان مبلغ ما أخذوه من هذه القافلة ألفي ألف دينار.
وكان في جملة ما أخذوا فيها أموال الطولونية وأسبابهم، فإنهم لما عزموا على الانتقال من مصر إلى بغداد خافوا أن يستصحبوها فتؤخذ منهم فعملوا الذهب والنقرة سبائك وجعلوها في حدائج وجميع ما لهم من الحلى والجوهر، وسيروا الجميع إلى مكة سرا، وسار من مكة في هذه
549

القافلة فأخذت.
وبث زكرويه الطلائع خوفا من عسكر الخليفة الذي كان بالقادسية وأقام ينتظر وصول من كان في الحج من عسكر الخليفة وأصحابه، فكانوا بفيد ينتظرون هل تعرض القرامطة للحاج أم لا فكان معهم جماعة من التجار أرباب الأموال فلما بلغهم ما صنع القرامطة أقاموا ينتظرون وصول عسكر من عند الخليفة فسار زكرويه إليهم وغور الآبار، والمصانع والمياه إلى فيد فاحتمى أهل فيد ومن بها من الحجاج بالحصنين اللذين بفيد، وحصرهم فيهما القرامطة وأرسل زكرويه إلى أهل فيد يأمر بهم بإخراجهم أو بتسليم الحصنين إليه وبذل لهم الأمان على ذلك فلم يجيبوه فتهددهم بالنهب والقتل فازداد امتناعهم، وأقام عليهم عدة أيام ثم سار إلى الساج ثم إلى جعفر أبي موسى.
ذكر قتل زكرويه لعنه الله
لما فعل زكرويه بالحجاج ما ذكرناه عظم ذلك على الخليفة خاصة وعلى كافة المسلمين عامة فجهز المكتفي الجيوش، فلما كان أول ربيع الأول سير
550

وصيف بن صوارتكين مع جماعة من القواد والعساكر إلى القرامطة فساروا على طريق خفان فلقيهم زكرويه ومن معه من القرامطة ثامن ربيع الأول فاقتتلوا يومهم ثم حجز بينهم الليل وباتوا يتحارسون. ثم بكروا إلى القتال فاقتتلوا قتالا شديدا فقتل من القرامطة مقتلة عظيمة.
ووصل عسكر الخليفة إلى عدو الله زكرويه فضربه بعض الجند وهو مول بالسيف على رأسه فبلغت الضربة دماغه وأخذه أسيرا وأخذ خليفته وجماعة من خواصه وأقربائه وفيهم ابنه وكاتبه وزوجته واحتوى الجند على ما في العسكر.
وعاش زكرويه خمسة أيام ومات، فسيرت جيفته والأسرى إلى بغداد، وانهزم جماعة من أصحابه إلى الشام فأوقع بهم الحسين بن حمدان فقتلوهم جميعا وأخذوا جماعة من النساء والصبيان وحمل رأس زكرويه إلى خراسان لئلا ينقطع الحجاج وأخذ الأعراب رجلين من أصحاب زكرويه يعرف أحدهما بالحداد والآخر بالمنتقم وهو أخو امرأة زكرويه كانا قد سارا إليهم يدعوانهم إلى الخروج معهم، فلما أخذوهما سيروهما إلى بغداد، وتتبع الخليفة القرامطة بالعراق فقتل بعضهم وحبس بعضهم ومات بعضهم في الحبس.
551

ذكر عدة حوادث
في هذه السنة غزا ابن كيغلغ الروم من طرسوس فأصاب من الروم أربعة آلاف رأس سبي ودواب ومتاعا؛ ودخل بطريق من بطارقة الروم في الأمان وأسلم.
وفيها غزا ابن كيغلغ الروم فبلغ شكند وافتتح الله عليه وسار إلى الليس فغنموا نحوا من خمسين ألف رأس وقتلوا مقتلة عظيمة من الروم وانصرفوا سالمين.
وكاتب أندرونقس البطريق المكتفي بالله يطلب منه الأمان وكان على حرب أهل الثغور من قبل ملك الروم فأعطاه المكتفي ما طلب فخرج ومعه مائتا أسير من المسلمين كانوا في حصنه، وكان ملك الروم قد أرسل للقبض عليه فأعطى المسلمين سلاحا وخرجوا معه فقبضوا على الذي أرسله ملك الروم ليقبض عليه ليلا فقتلوا ممن معه خلقا كثيرا وغنموا ما في عسكرهم.
فاجتمعت الروم على أندرونقس ليحاربوه فسار إليهم جمع من المسلمين ليخلصوه ومن معه من أسرى المسلمين، فبلغوا قونية فبلغ الخبر إلى الروم فانصرفوا عنه، وسار جماعة من ذلك العسكر إلى أندرونقس وهو بحصنه فخرج ومعه أهله وماله إليهم وسار معهم إلى بغداد وأخرب المسلمون قونية فأرسل ملك الروم إلى الخليفة المكتفي فطلب الفداء.
552

وفيها ظهر بالشام رجل يدعي أنه السفياني فأخذ وحمل إلى بغداد فقيل إنه موسوس.
وفيها كانت وقعة بين الحسين بن حمدان وبين أعراب من بني كأب وطيئ واليمن وأسد وغيرهم.
وفيها حاصر أعراب طيئ وصيف بن صوارتكين بفيد وقد سيره المكتفي أميرا على الموسم فحصروه ثلاثة أيام ثم خرج فواقعهم فقتل منهم قتلى.
ثم انهزمت الأعراب ورحل وصيف بمن معه وحج بالناس هذه السنة الفضل بن عبد الله الهاشمي.
وفيه توفي صالح بن محمد الحافظ الملقب بجزرة البغدادي وأبو عبيد الله محمد بن نصر المروزي الفقيه الشافعي وكان موته بسمرقند وله تصانيف كثيرة.
وفيها قتل محمد بن إسحاق بن إبراهيم المعروف بابن راهويه بطريق مكة قتله القرامطة حين أخذوا الحاج.
تم المجلد السابع
553