الكتاب: فتوح الشام
المؤلف: الواقدي
الجزء: ٢
الوفاة: ٢٠٧
المجموعة: مصادر التاريخ
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة: بيروت - دار الجيل
الناشر: دار الجيل
ردمك:
ملاحظات:

بسم الله الرحمن الرحيم * (إنا فتحنا لك فتحا مبينا) *
ذكر غزوة مرج القبائل داخل الدروب
فقال أبو عبيدة معاشر المسلمين هذا الشام قد ملكتموه وملككم الله إياه واخرج عدوكم منه بالذل والهوان وأورثكم أرضهم وديارهم كما قال الله تعالى في كتابه العزيز فما تشيرون به علي اندخل في هذه الدروب وراء أعدائنا فلم يجبه أحد فأعاد الكلام ثم قال ما هذا السكوت أفشل بكم بعد الشجاعة أم كسل بعد النشاط أم قد انتقيتم من الحسنات ولم يبق عليكم من الذنوب وان الحسنات لكم كثيرة ولم يبق عليكم خطيئة فالرغبة إلى الله ان يعينكم على الجهاد فهو خير لكم من الدنيا وما فيها قال فكان أول من تكلم ميسرة بن مسروق العبسي فقال أيها الأمير أنا لم نسكت لجزع لحقنا ولا لفزع رهقنا وانما بعضنا ينتظر بعضا اجلالا وأدبا وأعلم أيها الأمير انه ما لنا تجارة ولا عمل غير الجهاد في أعداء الله وها نحن لك وبين يديك ومنك الامر ومنا الطاعة لله ولرسوله ولك وأما أنا فلا أملك ألا نفسي فوجهني حيث شئت تجدني طائعا فقال أبو عبيدة معاشر المسلمين من له رأي وحضرته مشورة فليقلها ويظهر ما عنده فقال خالد أيها الأمير ان إقامتنا عن طلب القوم وهن وعجز منا في ديننا وطلبهم هو الغنيمة والنصر من عند الله والذي أشير به أيها الأمير أن تبعث الجيوش في كل درب من هذه الدروب فان ذلك يوهن العدو وتقر به أعين المسلمين قال فجزاه أبو عبيدة خيرا وقال يا ابا أبا سليمان
اني قد رأيت أن أعقد لميسرة عقدا وأسير معه رجالا لأنه هو أول سارع إلى هذا الأمر وأشار به فيفتح الله لهم الدروب ويغير على ما من قرب من البلاد ويرجع فيخبرنا عن خبر البلاد فنعمل على حسب ما نرى
فقال خالد هذا الصواب فعقد لميسرة وانتخب له من القبائل
5

ثلاثة آلاف فارس من الشجعان وألف عبد من السودان وجعل من كل قبيلة نقيبا وجعل على العبيد دامسا ابا الهول قال فلبسوا أكمل السلاح وكل منهم يقول أنه يلقي الكتيبة وحده وجعل أمير القوم ميسرة وقال أبو عبيدة يا ابا الهول كن أنت بجماعتك في أوائل العسكر ولا تخالف ميسرة فيما أشار به فإنه مبارك الطلعة فقال سمعا وطاعة قال وجهز القوم ثم إن خالدا قال أيها الأمير أرسل معهم أدلاء يعرفونهم الطريق ويكونون لهم عيونا على أعدائهم فطلب لهم من أهل حلب من المعاهدين من يكون ناصحا لهم فاختاروا لهم أربعة وأعطاهم أبو عبيدة وأحسن إليهم وطرح عنهم الجزية وقال لهم في أي درب يكون دخول المسلمين في طلب العدو فاجتمع رأيهم على أن يدخلوا في الدرب الأعظم من بلد قورص
ثم إنهم قالوا أيها الأمير ان هذه الدروب ليست كمثل البلاد التي فتحتموها بل هي بلاد شديدة البرد كثيرة الشجر والمدر والحجر وفيها مضايق وشعاب وأودية وكهوف وعقبات فقال أهل اليمن سيروا أنتم أمامنا فإنكم ترون منا عجبا فسار أبو الهول والمعاهدون أمامه وسار ميسرة في أعقابهم بعدما ودعوا الناس ومضوا وهم بالتهليل والتكبير وقراءة القرآن والمسلمون يدعون لهم بالنصر والسلامة قال عطاء بن جعيدة وسرنا والدليل أمامنا حتى أتينا عقبة حنداس فقطعناها وعبرنا نحو الساجور وأتينا قورص فنزلنا فيها وبتنا فلما أصبحنا ودخلنا الدروب وجدنا بها أرضا وعرة وأشجارا ومياها جارية ومضايق ليس للفرس فيها مجال فهالنا وحشة ذلك المكان إذ ليس للعرب فيه مجال ولا فسحة فقلت في خاطري ان طالت علينا هذه الأودية خشيت على المسلمين أن يظفر بهم عدوهم والادلاء أمام المسلمين وقد تعلقوا في جبال شامخة صعبة الصعود فلم يبق أحد الا وترجل عن فرسه قال ومشينا حتى تقطعت نعالنا وسال الدم من أرجلنا فلم نزل على ذلك ثلاثة أيام والادلاء يقولون لنا كونوا على يقظة فان أخذ عليكم المجاز هلكتم فلما كان في اليوم الرابع خرجنا إلى ارض واسعة وكان دخولنا إلى بلاد الروم في أول الصيف ونحن مخففون من الثياب ولما دخلنا إلى تلك الأرض وجدنا بردا كثيرا ونظرنا إلى الثلج وهو على الجبال عن يميننا وشمالنا قال وكان دامس أبو الهول يأخذ معه ثيابا تدفئه فحصل له من البرد فقال يا ابا الهول ما لي أراك ترتعد فقال أخذني البرد وليس معي ما يدفئني فدفع اليه فروة فلبسها فدفىء فقال كساك الله من ثياب الجنة
قال الواقدي وساروا إلى أن وصلوا إلى أرض طيبة كثيرة
6

المياه قليلة الشجر فنزلوا فيها ثم إنهم ساروا فلم يروا أحدا لان الروم كانوا قد نزحوا عن البلاد لحذرهم من المسلمين فلما كان في اليوم الخامس ونحن سائرون إذ لاحت لنا قرية فقصدها المسلمون وإذا هي خالية بل سمعوا أصوات الديوك والغنم فدخلوها فلم يجدوا عندها مانعا ولا دافعا فعرفنا انهم تواروا عنا فصاح ميسرة وقال خذوا حذركم فان القوم قد انهزموا فدخل الناس إلى القرية فأخذوا ما كان فيها من طعام وأثاث ومتاع قال سعيد بن عامر فرأيت أبا الهول وهو يحمل على عاتقه ثلاثة أكسية وقطعتين قال فقلت له يا أبا الهول ما هذا فقال استعد به لبرد هذه البلاد الخبيثة فما أنساها ابدا قال وأخذوا ما كان في القرية من طعام وعلوفة وساروا إلى أن وصلوا إلى مرج يقال له مرج القبائل وهو مرج واسع فانبثت الخيل فيه يمينا وشمالا ونزل الجيش هناك وميسرة يراود نفسه في الرجوع إلى حلب وذلك أن أبا عبيدة كان قد أمره ان لا يبطىء عنه وأن يكون حذرا فبينما هو كذلك والخيل منبثة والناس آمنون من عدو يدهمهه إذ أقبل بعض الخيالة ومعه علج يقوده فلما وصل إلى ميسرة قال له ما شأن هذا ومن أين أخذته فقال اعلم أيها الأمير اني سبقت أصحابي فرأيت شخصا يلوح مرة ويختفي مرة فأسرعت اليه فإذا هو هذا فأتيته وسقته إليك قال فتقدم اليه رجل من المعاهدين فسأله فحدثه فأطال معه الكلام والناس سكوت فلما أطال قال ميسرة ويلك ما الذي يقول هذا العلج
فقال أيها الأمير انه يقول إن الملك هرقل لما ركب البحر وخرج من أنطاكية ووصل إلى قسطنطينية قصدته الروح من كل مكان من المنهزمين وغيرهم وبلغه ان أنطاكية قد فتحت صلحا وانه قتل من كان فيها من المقاتلة فصعب عليه وبكى ثم قال السلام عليك يا أرض سوريا إلى يوم اللقاء وقد تجمع عنده من البطارقة والحجاب وغيرهم خلق كثير فقال لهم أني أخاف من العرب أن ترسل في طلبنا ثم أنه جهز ثلاثين ألفا مع ثلاثة بطارقة وأمرهم ان يحفظوا له الدروب فقال له ميسرة قل له كم بيننا وبينهم
قال يقول لكم فرسخان قال فلما سمع ذلك ميسرة أطرق إلى الأرض لا يرد جوابا ولا يبدي خطابا فقال له رجل من آل سهم يقال له عبد الله بن حذافة السهمي وكان من أبطال الموحدين وشجعانهم وكان له عمود من حديد وكان يقاتل به لا يقله في الحرب سواه وكان ذميم الخلقة فقال لميسرة بن مسروق ما لي أراك أيها الأمير مطرقا إلى الأرض أطراق الحصان لصلصلة اللجام والرجل منا يقابل ألفا من الروم
فقال والله يا عبد الله ما أطرقت خوفا ولا جزعا ولكن خوفا على
7

المسلمين أن يصابوا تحت رايتي وهي أول راية دخلت الدروب فيلومني عمر بن الخطاب وكل راع مسؤول عن رعيته فقال المسلمون والله ما نبالي بالموت ولا نفكر في الفوت لأننا قد بعنا أنفسنا بجنة ربنا ومن يعلم أنه ينقل من دار الفناء إلى دار البقاء فلا يبالي بما وصل اليه من الكفار ثم إنه قال أيها الناس أترون أن نلقاهم في موضعنا هذا أو نسير إليهم فسألوا المعاهد وقالوا ان كان موضعهم افسح من هذا رحنا إليهم فقال ليس من هذه البلاد بعد عمورية أفسح من هذا المكان فان عولتم على لقائهم فاثبتوا مكانكم وان عدتم إلى ورائكم كان خيرا لكم من قبل ان يشرف عليكم عدوكم قال فعرض ميسرة على العلج الاسلام فأبى وكانوا كالجراج المنتشر وكان قد مضى النهار فأضرمت النيران فلما أصبح الصبح صلى ميسرة بالناس صلاة الفجر فلما فرغ قام في الناس خطيبا فقال أيها الناس هذا يوم له ما بعده وان رأيتكم هذه أول راية فضرب عنقه فبينما هم على ذلك إذ أشرفت عليهم الروم فنزلوا بإزائهم ما لا يحصل لغيره فقال قبح الله تلك البلاد فإذا كان هذا البرد عندهم في الصيف فكيف يكون في الشتاء وجعل يرتعد فرآه ميسرة دخلت الدروب واعلموا ان اخوانكم مطاولون لفعلكم واعلموا أن الدنيا دار ممر ولآخرة دار مقر واسهوا ما قال نبينا صلى الله عليه وسلم
الجنة تحت ظلال السيوف ولا تنظروا إلى قلتكم وكثرة أعدائكم فقد قال تعالى كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين فقال المسلمون اركب بنا يا ميسرة على بركة الله والقهم بنا وانا لنرجو من الله النصر عليهم قال فاستبشر بقولهم وركبوا وانفصلت العبيد من العرب ووقفوا تحت راية أبي الهول وأخذوا على أنفسهم قتال عدوهم واستنصروا بربهم وهو يوصيهم وجعل على الميمنة عبد الله بن حذافة السهمي وعلى الميسرة سعد بن أبي سعيد الحنفي وقدم العبيد مع أبي الهول فلم ينطق بكلمة وركب جيش الروم ومدوا سفوفهم ثلاثة صفوف كل صف عشرة آلاف وأمامهم الصلبان وهم في عددهم وعديدهم فلما استوت الصفوف خرج رجل من الروم من المتنصرة وقرب من المسلمين وقال إن الباغي بغية يرديه أما كفاكم ما ملكتموه من الشام العظيم حتى اقتحمتم هذه الجبال وانما ساقتكم الآجال وهنا ثلاثون ألف عنان وقد حلفوا بالصلبان أن كلا منهم لا ينهزم وان وقع ميتا فان أردتم أن نبقي عليكم فاستسلموا للاسر حتى يحكم الملك هرقل فيكم بما يريد فخرج أبو الهول والراية بيده وقال له صدقت في قولك ان الباغي يرديه بغيه وأما قولك انا نلقى إليكم بأيدينا لتبقوا علينا فأنت إذا باغ بقولك هذا إذ نطقت بغير تجربة منكم وها أنا عبد من عبيد العرب لا قدر لي ولا قيمة عند ذوي الرتب فاقرب مني حتى أجندلك صريعا تخور في دمك
8

ثم أن دامسا همز حصانه اليه وطعنه فأرداه عن فرسه قتيلا ثم جال على فلوه وهز رايته وقال الله وأكبر فتح الله ونصر وجاءنا بالظفر ونظرت الروم إلى أبي الهول وقد قتل صاحبهم وكان من شجعانهم فغضبوا لذلك فخرج اليه آخر فما تركه يقرب منه حتى طعنه في نحره فأخرج السنان من ظهره ونظر الروم إلى ذلك فقالوا هذا عبد من عبيد العرب قد فعل ما ترون قال فلم يجسر أحد أن يخرج اليه فأغار عليهم وقتل من القلب واحدا ورجع قال فحمل عليه صف من الصفوف وهم عشرة آلاف ودهموه بالخيل فحملت العبيد وحملت المسلمون والتقى الجمعان قال ميسرة فالله در العبيد لقد ابلوا بلاء حسنا واستنقذوا ابا الهول من عين الهلاك وهم يقولون نحن عبيد العباد الله وضربنا مثل الحريق في سبيل الله ونقتل من كفر بالله قال ولم يزل الحرب بينهم حتى قامت الشمس في قبة الفلك وحمي عليهم الحر وافترق الجمعان قال وان المسلمين موقنون بالظفر والنصر والمشركون قد أيقنوا بالهلاك وقد قتل منهم خلق كثير واسر من الروم تسعمائة وقتل منهم زهاء من ألف فلما أنفصل الجمعان افتقد المسلمون ابا الهول فلم يجدوه فقال ميسرة أن كان أبي الهول قد قتل أو أسر فقد أصبنا به والى الله تعالى اشكو ما أصبنا من فقد أبي الهول واسر من المسلمين عشرة ثم إن ميسرة قال من فيكم يكشف لنا خبرهم وإذا بالروم قد عادوا للقتال وحملوا بأجمعهم فقاتلوا قتالا شديدا فكان الرجل من المسلمين يجتمع عليه العشرة والعشرون والخمسون إلى أن يقتلوه أو يأسروه وكانت العرب في أربعة آلاف والروم في ثلاثين ألفا فعظم بينهم الحرب وهاج الطعن والضرب فلله در ميسرة بن مسروق العبسي لقد جاهد في الله حق جهاده وهو مع ذلك ينادي أيها الناس اذكروا الدار الآخرة واعلموا أنها أقرب لاحدكم من رجوعه لأهله فاستقبلوها استقبال الوالدة لولدها ولا تولوا الادبار عنها فان أصاب القوم منا فاني اخشى أن ذلك وهن بنا ثم إنه نادى أحطموا أجفرة سيوفكم فذلك طريق النجاة
قال زيد بن وهب فلم يبقى أحد من المسلمين حتى رمى بجفير سيفه فلما رأت الروم ذلك فعلوا مثلنا ورمى كل منهم بجفير سيفه وسميت تلك الواقعة باسمين وقعة مرج القبائل ووقعة الحطمة لأجل حطم أغمدة السيوف قال واقتتلوا حتى أن الرجل يقول أن سيفه ما بقي يقطع والمسلمون يبتهلون إلى الله والكفار تعج بكلمة كفرهم قال وان المسلمين يطلبون الفرج من الله والسودان تقاتل قتال الموت وكان شعار العرب في ذلك اليوم النصر النصر وشعار السودان يا محمد يا محمد قال ابن ثابت وكنت قد أخذني القلق على المسلمين ونحن
9

في ركب عظيم إذ سمعت في الروم ضجة هائلة وإذا بهم يقاتلون أناسا من ورائهم وهم في وسط عسكرهم والزعقات منهم قد علت وسمعت قائلا يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله فقلت هذه أصوات الملائكة فاتبعت الصوت فإذا هو صوت دامس أبي الهول وهو بارك تحت حجفته ومعه العشرة المأسورين وهم يقاتلون معه ويحمون بعضهم إلى أن خلصوا من بيتهم وسمعته يقول هذه الأبيات
* يوثقني الأعداء في الحديد
* وناصري وسيدي المبيد
* مهلك عاد وبني ثمود
* أغاثني بعونه الشديد
* محمد الطاهر الرشيد
* فحل عني القيد والحديد
* ذاك رسول الملك المجيد
* صلى عليه الناصر الحميد
* قال فحملت المسلمون وكشفوا عنهم فخرجوا وكأنهم قد غرقوا في بحر دم ووالله ما قتل من المسلمين أكثر من خمسين رجلا بواحد أو باثنين وقتل من المشركين نيف عن ثلاثة آلاف غير ما قتله أبو الهول وأصحابه في وسط عسكر الكفر فلما نظر ميسرة إلى دامس أراد أن يترحل اليه فأقسم عليه أن لا يفعل وافترق الجيشان فضم ميسرة دامسا إلى صدره وقبله بين عينيه وقال له كيف كان أمركم قال اعلم أيها الأمير أن الروم كانوا قد تكاثروا على فرسي فقتلوه ووقعت فأخذوني أسيرا وجعلوني في الحديد وفعلوا بأصحابي مثلي وقد ايسنا من أنفسنا فلما جن الليل رايت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول لا بأس عليك يا دامس اعلم أن منزلتي عند الله عظيمة ثم إنه أمر يده الكريمة على الحديد فسقط مني وفعل ذلك مع أصحابي وقال لنا أبشروا بنصر الله فأنا نبيكم محمد رسول الله وقال لي أقرىء عني ميسرة السلام وقل له جزال الله خيرا ثم غاب عني فانتبهت فوجدت الموكلين بنا نياما مما لحقهم من التعب وقد رموا سلاحهم فأخذنا سيوفهم وطوارقهم وقتلناهم وحملنا فيهم ونصرنا الله عليهم ببركة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلنا منهم من قتلناوخرجنا من بينهم سالمين وهذا حديثنا قال فضج المسلمون بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير
النجدة
قال الواقدي ثم إن بطريق الروم كان اسمه جارس فلما رأى ما قد حل بأصحابه قال وحق المسيح خاب ملك أنتم حماته فإن لم تقاتلوا بعزم وشدة والا قتلتكم قال فتحالفوا أن لا ينهزموا أو يقتلوا عن آخرهم فلما وثق منهم أمر أن تضرم الينران على شواهق الجبال
10

وأمر أن ينفذ النفير إلى البلاد بأسرها قال فأتت اليه الروم من كل جانب فأتى اليه عشرون ألفا ولكن المسلمين لم يكترثوا بذلك فلما كان الغد صلى ميسرة بالمسلمين صلاة الخوف وهو أول من صلاها داخل الدروب وأول راية دخلت كانت رايته فلما فرغ من صلاته قام في الناس خطيبا فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه وقال أيها الناس اثبتوا لما نزال بكم فالصبر عند نزول المصائب وهذه رحمة من الله لنا إذ نحن في صدور الأعداء وقد دارت بنا هذه الجيوش ونحن لا نقاتل الا بنصر الله لنا وان الأمير أبا عبيدة كان قد أمرني أن لا أبعد بكم عنهم ولنا منهم الآن سبعة أيام وما يظن أبو عبيدة أننا نلاقي جيشا
فقال له سعيد بن زيد يا ميسرة ما الذي تريد بهذا الكلام أن كنت تريد أنك تحرضنا فنحن أشوق إلى لقاء الله من الظمآن إلى الماء البارد فقال ميسرة ما أردت بذلك الا مشورتكم وقد رايت أن ننفذ إلى أمير المسلمين رجلا نعلمه بما قد بلينا به وان مدد القوم يزيد فلعله ينجدنا باخواننا فقال سعيد نعم ما قد أشرت به فدعا برجل من الأربعة المعاهدين ووعده بكل خير وأمره أن يأخذ معه آخر وأن يسير إلى أبي عبيدة ويعلمه أن نفير القوم قد لحقنا من الحصون والقرى وسائر البلاد وقد نزلوا بازائنا وان يحدثه بما قد رأى قال فسار المعاهد والرجل إلى حلب وأجهدا نفسيهما في السير في طرق يعرفانها إلى أن وصلا جيش المسلمين فسقطا كأنهما البغال الهرمة من شدة السير والتعب فأمروا أن يرش عليهما الماء فلما افاقا قال لهما ما وراءكما أهلكت الكتيبة قالا لا والله ولكن نفر عليهم العدو من كل مكان وأخبراه بما كان من الحرب والقتال وكيف حطموا أجفرة سيوفهم وكيف أسر أبو الهول وكيف خلص وما هم فيه فقلق أبو عبيدة عند ذلك وقام مسرعا وأتى قبة خالد بن الوليد فوجده يصلح درعه فلما رآه قام اليه قائما وقال له خيرا أيها الأمير فأخذ بيده وسار به إلى أن أتى رحله وقال للرجلين قوما فحدثا الأمير بما عاينتما فحدثاه بما كن من أمر المسلمين فقال خالد ان الله سبحانه وتعالى منذ نصرنا ما خذلنا فله الحمد على ذلك وقد أمرنا بالصبر على الشدائد فقال عز من قال يا أيها الذين آمنوا أصبروا وصابروا ورابطوا وقال إن الله مع الصابرين وأما خالد فقال أحبس على الجهاد في سبيل الله ولا أبخل على الله ورسوله فلعل الله أن ينجيني من النار ويرزقني الشهادة
ثم أسرع إلى خيمته ولبس لامته وقلنسوته المباركة وركب جواده فوقع النفير في الناس قال فاقبلوا من كل جانب فلولا ان منعهم أبو
11

عبيدة كانوا ساروا بأجمعهم فانتخب منهم ثلاثة آلاف فارس واردفهم بألفين آخرين أخبرنا أحمد بن هشام عن عياض عمن حدثه قال لما سار خالد بالجيش لمعونة ميسرة بن مسروق ومن معه رفع خالد يديه إلى السماء وقال اللهم اجعل لنا إليهم سبيلا واطو لنا البعيد ويسر لنا كل صعب شديد وسار نحو الدروب قال وأما ميسرة ومن معه فإنهم دارت بهم الروم من كل جانب وهم يقاتلون في كل يوم أشد القتال إلى أن يقبل الظلام فيفترقون وفي كل يوم يزيد عددهم ومددهم وقد لحق المسلمون من التعب والجراح ما لحقهم ولكن من غير فشل وكأنهم قوم قد حجب عنهم الموت بأذن الله تعالى
قال الواقدي حدثنا عمر بن راشد عن الزبيدي قال لما سار خالد ليلحق ميسرة وينجده إلى داخل الدروب سجد أبو عبيدة سجدة أطال فيها وقال اللهم إني أسألك بمن جعلت اسمه مع اسمك وعرفت فضله لأنبيائك ورسلك الا طويت لهم البعيد وسهلت لهم كل صعب شديد والحقتهم باصحابهم يا قريب يا مجيب قال وميسرة ومن معه منتظرون من الله فرجا يأتيهم ونصرا ينزل عليهم قال عبد الله بن الوليد الأنصاري حدثني ثابت بن عجلان عن أبا سليمان
بن عامر الأنصاري قال كنت مع ميسرة في وقعة مرج القبائل ويوم حطمنا أغمدة السيوف والروم تقبل من كل جانب ومكان إلى المسلمين ونحن بناكر القتال ونروح رواحا قال أبا سليمان
ين عامر فخرج يوما من الأيام بطريق من الروم قد لبس درعين وعليه سواعد من الحديد وعلى رأسه بيضة تلمع فوقها صليب من الجوهر وبيده عمود من الحديد كأنه ذراع بعير فجال بين الصفوف وطلب البراز وكان أحد الثلاثة المقدمين على الثلاثين ألفا قال قال فجعل يدعو إلى البراز ويطمطم فقال ميسرة للترجمان ما يقول هذا الأغلف
قال إنه يذكر انه فارس شديد ويطلب شجعانكم وأبطالكم فقال ميسرة من يبرز اليه فأسرع اليه رجل من المسلمين من قبيلة النخع وعليه درع من دروع الروم وثياب من ثيابهم فقلنا انه من المتنصرة وقد عاد إلى الاسلام فجعل العلج يتكلم وهو يظن أنه يفهم كلامه فلما رآه لا يبرز اليه حمل عليه وضربه بعموده فزاغ النخعي عنها وعطلها عليه فوقع العمود على رأس جواده فصرع الجواد براكبه وسار النخعي على قدميه فناداه ميسرة يا أخا النخع أرجع فرجع القهقري والعج يطلبه والنخعي راجل والعلج فارس فسار اليه عبد الله بن حذافة السهمي وصاح بالعلج فادهشه فالتفت اليه وسار النخعي إلى أن وصل عسكر المسلمين وحمل عبد الله بن حذافة على العلج وحمل العلج عليه
12

وصعب بينهما المجال صار عبد الله كلما ضرب العلج لا يقطع فيه شيئا والعلج كلما ضرب عبد الله يأخذها بحجفته فتوهن ساعده من ثقل العمود وطال بينهما القتال والتقيا بضربتين فبادره عبد الله بالضربة تحت لحيته فطلب بها نحره فلحق راس سيفه رقبة العلج فطار رأسه عن بدنه وأراد الفرس أن يرجع إلى عسكر الروم فاخذه عبد الله ونزل اليه وأخذ سلبه ورجع إلى المسلمين فعظم ذلك على الروم وكان عندهم معظما وعند الملك قال فبرز بطريق آخر وقال هذا صاحب الملك قد قتل ولا بد لي من أخذ ثأره من الذي قتله اما بقتله أو اسره وأبعث به إلى الملك يصنع به ما يريد ثم أنه أتى البطريق المقتول ورأسه طائح عن بدنه فبكى عليه وقال بلسان فصيح معاشر العرب لا شك ان الله سيهلككم ببغيكم علينا وفعالكم بنا فليبرز إلي قاتل هذا البطريق حتى آخذ منه بثاره
فلما سمع عبد الله بن حذافة هم بالخروج فمنعه ميسرة شفقة عليه لأجل راحته فإنه قد تعب وأراد ميسرة أن يلقاه بنفسه فقال عبد الله يدعوني أيها الأمير باسمي وأتخلف أنني إذا لعاجز فقال له ميسرة انني أشفق عليك فقال عبد الله اتشفق علي من تعب الدنيا ولا تشفق علي من حر النار وعيش عاش فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يبرز اليه غيري ثم برز اليه وتحته فرس المقتول وما غير من لامته شيئا وبيده سيفه وحجفته فلما التقيا ورأى البطريق فرس صاحبه علم أنه قاتله فما أمهله حتى نفد اليه وحمل عليه عبد الله كأنه جبل قد انهد من علو وتشبث به وجذبه فاخذه أسيرا وذهب به إلى قومه وقال أوثقوه بالحديد واحملوه على خيل البريد واذهبوا به إلى الملك في هذا الساعة قال ففعلوا ذلك وساروا به ورجع البطريق إلى الميدان وهو يفتخر بما صنع فاراده ثلاثة من المسلمين كل منهم يريد أن يخرج اليه فقال ميسرة ما يخرج لهذا اللعين غيري واستدعى سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وسلم الراية اليه وقال له كن للراية حافظا حتى أخرج إلى هذا اللعين فان عدت أخذتها وان قتلني فأجري على الله فأخذ سعيد الراية وخرج ميسرة إلى البطريق وهو يقول
* قد علم المهيمن الجبار
* بأن قلبي قد كوي بالنار
* على الفتى القائم بالاسحار
* سيعلم العلج أخو الأشرار
* أني منه آخذ بالثار
*
قال وحمل عليه وتجاولا طويلا وعظم الامر بينهما وتدانيا وتقاربا وتباعدا وغابا عن الابصار تحت الغبار وكل فرقة تنظر إلى صاحبها وتدعو له ثم انكشفا وهما للتفرق أقرب منهما للتقارب فقال العلج
13

لميسرة بحق دينك ما هذه الراية التي طلعت من وراء عسكركم فلم يلتفت إلى كلامه بل قال له وما ذلك على الله بعزيز فقال وحق ديني ما قلت لك الا حقا قال وهو يحلف كاذبا فالتفت ميسرة لحرصه ان يأتي الله بالفرج وينظر لحقيق ما قاله اللعين فحمل البطريق عليه ومكن يده منه ليأخذه أسيرا وإذا قد طلعت راية خالد بن الوليد وهي مشرقة بالنور وهي في يد خالد ابن الوليد وكبر المسلمون يدا واحدة فمن عظم تكبيرهم ارتجت يد العلج عن ميسرة والتفت البطريق ليرى ما الخبر فقبض عليه ميسرة وهم ان يقلعه فلم يقدر لأنه كان مرفلا في السرج فجعل يجذبه فلم يقدر وقرب خالد منهم فرفع سيفه يريد أن يضرب به ميسرة ليطلقه من يده فحاد السيف عن ميسرة ووقع على يد العلج الشمال فقطعها وانتخع ميسرة وانثنى البطريق إلى أصحابه ويده مقطوعة وهو يئن فالتقى به غلمانه فأخذوه وكووه وأما خالد فإنه التقى بميسرة وتسالما وحدثه بما وقع له مع الروم وكيف أسروا عبد الله بن حذافة السهمي فتاسف خالد واسترجع وقال يؤسر مثل عبد الله بن حذافة والله لا يفارقهم خالد أو يخلصه أن شاء الله تعالى وأقام خاد بقيد ذلك اليوم فلما كان من الغد أتاهم من جيش الروم شيخ وعليه مسوح السواد حتى وقف بإزائهم وأومأ بالسجود فمنعه خالد وقال ما الذي تريد
قال إن كبير هؤلاء القوم يريد صلحكم ويطلق اسيركم ويدفع ما تريدون وترجعون فقال ما نرجع الا على انفصال وأما الأسير فإذا لم تطلقوه طوعا أطلقتموه كرها قال أنت أمير هؤلاء قال نعم قال أن رايت أن تؤخر القتال بقية يومنا هذا وليلتنا فافعل لندبر ما بيننا وبينكم ويبرد وجع هذا البطريق ونجيبكم إلى ما تريدون قال له أجبناكم إلى ذلك فرجع الشيخ إلى قومه وقال البطريق قد أجابوا ووضعت الحرب أوزارها ونزل خالد والمسلمون بإزائهم في أماكنهم واضرم الروم النيران وزادوا فيها وحملوا أثقالهم وساروا من أول الليل فلما كان الغد ركب المسلمون فلم يجدوا للروم أثرا فعلموا أنهم قد ولوا الادبار فتأسف خالد على ما فاته فأراد أن يتبعهم فمنعه ميسرة وقال له انها
بلادهم وهي وعرة وان الصواب رجوعنا إلى عسكر المسلمين قال فأخذوا ما تركه الروم ورجعوا منصورين ولكنهم حزينون على أسر عبد الله بن حذافة السهمي وساروا حتى أتوا حلب فلقيهم أبو عبيدة وفرح بسلامتهم وأقبل ميسرة يحدثه بما جرى لهم وكيف أسر عبد الله بن حذافة فتأسف عليه وقال اللهم اجعل له من أمره فرجا ومخرجا وكتب إلى عمر بن الخطاب يخبره بما وقع له من أمر السرية إلى الدروب وما كان من المسلمين وأخبره بأسر عبد الله بن حذافة وبعث الكتاب
14

كتاب عمر
فلما وصل إلى عمر بن الخطاب فرح بسلامة المسلمين واغتم على عبد الله بن حذافة واسره لأنه كان يحبه حبا شديدا فقال وعيش رسول الله لاكتبن إلى هرقل بأن يرسل عبد الله بن حذافة فإن لم يفعل والا سرت اليه بالجيوش والعساكر ثم إنه كتب بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولدا وصلى الله على نبيه محمد المؤيد من عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين أما بعد فإذا وصل إليك كتابي هذا فابعث إلي بالأسير الذي عندك وهو عبد الله بن حذافة فان فعلت ذلك رجوت لك الهداية وان أبيت بعثت إليك رجالا وأي رجال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله والسلام على من أتبع الهدى وخشي عواقب الروى ثم إنه طوى الكتاب وبعث به إلى أبي عبيدة وأمره أن ينفذه إلى هرقل فلما وصل الكتاب إلى هرقل قال له من أين كتابك هذا قال من أمير المؤمنين أمير العرب فقرأه فإذا هو من عند عمر بن الخطاب قال فدعا بعبد الله بن حذافة اليه قال عبد الله بن حذافة فدخلت عليه والتاج على رأسه والبطارقة حوله فلما وقفت بين يديه قال لي من أنت
قلت رجل من المسلمين من قريش قال أنت من بيت نبيك قلت لا أنا من بني عمه قال هل لك أن تتبع ديننا وأزوجك ابنة بطريق من بطارقتي وأجعلك من أخصائي فقلت لا والله الذي لا إله إلا هو لا فارقت دين الاسلام أبدا وما جاء به محمد عليه السلام فقال أجب إلى ديننا وأنا أعطيك المال كذا وكذا ومن الغلمان كذا وكذا ومن الجواري كذا وكذا قال عبد الله ثم دعا بسفط من الجوهر وقال إذا دخلت في ديني أعطيتك إياه فقلت لا والله لو أعطيتني ملكك وملك قومك ما فارقت دين الاسلام أبدا ولو أعطيتني كل ما تملكه فقال إذا لم ترجع إلى ديني قتلتك شر قتلة فقلت لست أفعل ولو قطعتني قطعا ولو أحرقتني بالنار لا رجعت عن ديني فاصنع ما أنت صانع قال فغضب من كلامي وقال اسجد لهذا الصليب سجدة وأخلي سبيلك فقلت لست أفعل قال فكل من لحم الخنزير وأنا أطلقك قلت حاشى لله ما كنت بالذي أفعل قال فاشرب من هذا الخمر شربة واحدة وأطلقك قلت لا والله لا أشرب أبدا قال وحق ديني لتأكلن وتشربن قهرا ثم أمر بي فجعلني في بيت وجعل عندي من ذلك اللحم والخمر وقال إذا أضر به الجوع والظمأ أكل وشرب وأغلقوا علي الأبواب
15

قال حدثنا عامر بن سهل عن يوسف بن عمران عن سفيان بن خالد عمن يثق به ان هرقل كان قد مات بعد هزيمته من أنطاكية بأيام قلائل مما دخل على قلبه من القهر ويقال أنه مات مسلما والذي فعل ذلك بعبد الله بن حذافة ولده نسطيوس وكانوا لقبوه باسم هرقل قال فلما كان في اليوم الرابع طلب عبد الله بن حذافة وقال للغلمان ما فعل قالوا لم يأكل شيئا ولم يشرب وهو على حاله فقال له وزيره أيها الملك أعلم ان هذا الرجل شريف في قومه لا يرى الذل فكل ما تفعله في هذا الرجل تفعله المسلمون إذا قبضوا على ملك منا قال فاستدعاه وقال له ما فعلت باللحم قال هو على حاله فقال ما منعك أن تأكل قال فزعا من الله ورسوله وأيضا انه قد حل لي بعد ثلاثة أيام ولكن ما أردت أن تشمت بي الملحدون وورد كتاب عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فلما قرأه أعطى عبد الله مالا كثيرا وثيابا وأعطاه لؤلؤا كثيرا هدية لعمر بن الخطاب وبعث معه خيلا إلى أن أخرجوه من الدروب ووصل إلى حلب ولقي المسلمين ففرحوا به ثم إنه سار إلى عمر بن الخطاب فلما رآه سجد لله شكرا وهنأه بالسلامة وحدثه بما كان من هرقل وأخرج له اللؤلؤ فلما رآه عمر عرضه على التجار فقالت التجار له هذا ما يقوم ومن جاءك به فقالت الصحابة خذه إليك بارك الله لك فيه فقال لا إله إلا الله محمد رسول الله إذا كنتم قد جعلتموني منه في حل فكيف أصنع بمن غاب من المسلمين ومن في بطون الأمهات واصلاب الرجال من أولاد المهاجرين والأنصار والمجاهدين في سبيل الله ولا طاقة لعمر بمطالبتهم يوم القيامة ثم باعه وجعل ثمنه في بيت المال
حدثنا عمر بن سالم عن عبد الله بن غانم عن أبي بكر بن عمر عن عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله قالوا جميعا انه لما فتح أبو عبيدة أنطاكية صلحا وكان من أمر سرية ميسرة بن مسروق ما ذكرناه أقام أبو عبيدة بحلب ينتظر ما يأتي اليه من عمرو بن العاص لما مضى إلى قيسارية في خمسة آلاف من المسلمين فيهم عبادة بن الصامت وعمرو بن ربيعة وبلال بن حمامة وربيعة بن عامر
ذكر فتح قيسارية الشام بساحل البحر قال سبيع بن ضمرة الحراني كنت مع عمرو بن العاص حين سار إلى قيسارية فدخلنا قرية من قرى الشام وكان البرد شديدا ونظرنا إلى كرومها ونظرت إلى كرمة في دار من دور القرية وفيها عناقيد مدلاة أكبر ما يكون فأخذنا منها وأكلنا فبردنا ولحقنا البرد الشديد من شدة برد ذلك العنقود فقلت قبح الله هؤلاء الملاعين بلدهم بارد وعنبهم بارد وماؤهم
16

بارد وأنا أخاف الهلاك من شدة برد بلادهم قال فسمعني رجل من أهل البلد فأراد أن يقرب إلي لاداعبه فقال لي يا أخا العرب ان كنت تجد البرد من العنب فاشرب من مائه قال سبيع ثم إنه دلنا على دن كبير فيه خمر فشربت أنا وجماعة من عرب اليمن فسكرنا فجعلنا نتمايل سكرا فأخبر بذلك عمرو ابن العاص فكتب إلى أبي عبيدة يعلمه بذلك فكتب اليه أبو عبيدة أما بعد فمن شربها فحده عليها وأقم حدود الله كما أمر ولا تخش لومة لائم فلما وصل الكتاب إلى عمرو دعا بسبيع ابن ضمرة وأصحابه فجلدهم بالسياط قال سبيع فلما ضربني عمرو وأوجعني قلت والله لأقتلن العلج الذي دلنا على الخمر حتى شربناها وأكلنا الحد فأخذت سيفي ودخلت القرية أطلب العلج فلما رأيته ووقعت عيني عليه أردت قتله فولى هاربا فتبعته وهو يقول ما ذنبي عندك فقلت أنت دللتني على ما يغضب الله حتى أكلت الضرب فقال والله ما علمت أنه محرم عليكم قال فناداني عبادة بن الصامت وقال يا سبيع إياك أن تقتله فإنه تحت الذمة قال فتركته ومضى العلج وأتى إلي بتين وجوز وزبيب وقال كل هذا بذاك فإنه يدفئك قال فأكلته فوجدته طيبا فقلت لحاك الله أين هذا كان قبل أن أضرب بالسياط
قال الواقدي ثم إن عمرا ارتحل فنزل بموضع يقال له محل وبلغ الخبر فلسطين بن هرقل وكان قد أتاه المنهزمون من عسكر أبيه ولجئوا اليه واكتمل جيشه في ثمانين ألف ثم إنه دعا برجل من المتنصرة وقال له امض واحزر لي عسكر العرب واكشف لي أخبارهم فوصل إليهم لجأ إلى قوم من اليمن وهم يصطلون حول النار فجلس بينهم يسمع حديثهم فلما أراد القيام عثر في ذيله فقال باسم الصليب كلمة أجراها الله على لسانه فلما سمعوا قوله علموا أنه متنصر جاسوس للروم فوثبوا اليه وقتلوه ووقع الصائح في العسكر فسمع عمرو الضجة فقال ما الخبر قيل إن قوما من اليمن وقعوا بجاسوس من الروم فقتلوه قال فغضب عمرو وطلبهم وقال ما حملكم على قتل الجاسوس وهلا أتيتموني به لأستخبره فكم من عين تكون علينا ثم إنها ترجع فتصير لنا لأن القلوب بيد الله يقلبها كيف شاء ثم إنه نادى في جيشه من وقع بغريب أو جاسوس فليات به إلي قال وان فلسطين استبطأ الجاسوس فعلم بقتله فأرسل غيره فأشرف على القوم من فوق شرف عال وحزرهم وعاد اليه فأخبره أنهم في خمسة آلاف الا انهم كالأسود الضارية أو كالعقبان الكاسرة يرون الموت مغنما والحياة مغرما فلما سمع ذلك قال وحق المسيح والقربان لا بد من قتالهم فأما أن
17

أبلغ المراد أو أموت صبرا ثم إنه جمع عسكره واختار منهم عشرة آلاف فارس شدادا وولى عليهم بطريقا اسمه بكلاكون وهو صاحب جيشه وقال سر بهؤلاء فأنت طليعة جيشي فسار من ساعته ثم إنه عقد صليبا آخر وسلمه إلى دمستق العسكر واسمه جرجيس بن باكور وضم اليه عشرة آلاف وقال له الحق بصاحبك فسار في أثره فلما كان في اليوم الثاني خرج فلسطين ببقية الجيش وترك ابن عمه قسطاس في قيسارية يحفظها وترك عنده عشرة آلاف قال بشار بن عوف فبينما نحن نازلون إذ أشرف علينا البطريق الأول في عشرة آلاف فارس فلما قربوا منا رأيناهم فحزرناهم فإذا هم عشرة آلاف قال ففرحنا وقلنا نحن خمسة آلاف وعدونا في عشرة آلاف فكل رجل منا يقاتل اثنين فبينما نحن كذلك إذ أشرف علينا البطريق الثاني في عشرة آلاف فقال عمرو رضي الله عنه اعلموا أن من أراد الله واليوم الآخر فلا يرتاع من كثرة العدو ولو تزايد المدد فان الجهاد أوفر متجر وأعز قدرا وأي فخر عند الله ممن يقتل في سبيل الله وصفوف الكفار ويكون حيا عند الله يرتع في مروج الجنة وينال من الله سابغ النعمة والمنة فقد قال الله تعالى * (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم) * الآية ولو أن الجاسوس الذي قتلتموه لم تعجلوا عليه لأخبرنا بمسير هذا الجيش الينا وكثرته وكنا قد أخذنا حذرنا على أنفسنا واحتطنا ولكن أمر الله لا يرد ثم أنه جمع أبطال الموحدين وقال قد رأيت أن تنفذ إلى أبي عبيدة نعلمه ليمدنا بالخيل والرجال فان هذا جيش عظيم ثم قال أيها الناس من يركب ويسير إلى الأمير أبي عبيدة ويعلمه بما قد صرنا اليه فلعله أن ينجدنا كما أنجد يزيد بن أبي سفيان وهو محاصر قنسرين وأجره على الله
المعارك في فلسطين
فقال له ربيعة بن عامر يا عمرو الق بنا العدو وتوكل على الله فان الذي نصرنا في مواطن كثيرة ونحن في قلة ينصرنا اليوم على بقية القوم الكافرين قال فقنع عمرو بكلام عامر بن ربيعة وقال والله لقد صدقت وأمر الناس بالتأهب إلى لقاء العدو فركب المسلمون ورفعوا أصواتهم بالتهليل والتكبير فأجابتهم الجبال والتلال والأوعار والأشجار والأحجار ومن في تلك الأرض من العمار وقالوا الهنا ومولانا انا نسمع أصواتا موحدة غير مشركة ولا ملحدة في التوحيد وقد أسمعتنا كلام التوحيد وأريتنا وجوه أهل التمجيد التحميد الهنا ما أطيب سماع ذكرك ومن لنا أن نوفي
18

بشكرك قال وضجت الوحوش والسباع إلى مولاها شاكرة لما أعطاها وأولادها ونادت عالم سرها ونجواها يا من جمع الوحوش راضية بما آتاها أخرج رزقها ومرعاها تغدو خماصا وتروح بطانا إلى باب سيدها ومولاها يا من لو توارت دودة تحت الأرضين السبع لرآها ولو كانت في غلس الظلمات تحت اليم المظلم حبة لرزق عبد لبلغه إياها الهنا انا سمعنا أصوات توحيدك في هذه الأرض وما كنا عهدناها ونسمع آيات ما كنا عرفناها ولا سمعناها سبحانك يا من قدرته لا ننساها ويا من احسانه وفضله لا يتناهي قال فهتف بهم هاتف من الجو كم لله من مسبح في الجبال وذراها تحت تخوم الأرض وثراها وفي فلوات البراري المقفرات وفي قعور البحار الزاخرات وماها قال فارتاع عسكر الكفار لما سمعوا في الجو هذه الأصوات وكأنما الأرض وأقطارها وأهلها تجاوبهم وكان فلسطين قد أتى وسمع ذلك ونظر إلى جيش العرب وقد زاد في عينيه أضعافا فقال وحق ديني لما أشرفت على القوم ما كانوا في هذه الكثرة وما كانوا أكثر من خمسة آلاف وقد زاد الآن عددهم وتزايد مددهم ولا شك أن الله قد أمدهم بالملائكة ولقد كان أبي هرقل على بصيرة من أمر هؤلاء العرب وليس جيشي هذا بأعظم من جيش ماهان الأرمني لما لقيهم باليرموك في ألف ألف ولقد ندمت على خروجي إليهم ولكن سوف أدبر حيلة على هؤلاء العرب ثم إنه دعا بقس عظيم القدر عند النصرانية وهو قس قيسارية وعالمها وقال له اركب إلى هؤلاء القوم وكلمهم بالتي هي أحسن وقل لهم ان ابن الملك يسألكم أن تنفذوا اليه أفصحكم لسانا وأجرأكم جنانا فابعثوا به ولا يكون من طغام العرب
قال فركب القس وعليه ثوب من الديباج الأسود وعليه برنس من الشعر فركب بغلة شهباء وأخذ بيده صليبا من الجوهر وسار حتى وصل إلى المسلمين فوقف بحيث يسمعون كلامه فقال يا معشر العرب اني رسول إليكم من الملك فلسطين بن هرقل يسألكم ان تنفذوا اليه أفصحكم لسنا وأجرأكم جنانا وانه والله يريد صلحكم ولا يبغي قتالكم لأنه عالم بدينه بصير بأموره وليس يحب سفك الدماء ولا فساد الصور فلا تبغوا علينا فالباغي مقهور والمبغى عليه منصور وقد قال لنا المسيح لا تقاتلوا الا من بغى عليكم وان الملك يريد أن تبعثوا اليه رجلا من أفصحكم لسانا وأجرئكم جنانا ثم سكت قال فلما سمع عمرو كلامه قال أيها الناس قد سمعتم ما قاله هذا الأغلف فمن منكم يبادر إلى مرضاة الله تعالى ورسوله وينظر ما يتكلم به مع ملك الروم
19

فتقدم اليه بلال بن حمامة مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان غلاما أسود طويلا من الرجال لكأنه النخلة السحوق بصاص من السواد عيناه جمرتان كأنهما العقيق جهوري الصوت فقال يا عمرو أنا أسير اليه فقال يا بلال انك قد حطمك الحزن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيضا انك من جنس الحبش ولست من العرب لأن العرب لهم الكلام الجزل والخطب والفصاحة فقال بلال بحق رسول الله صلى الله عليه وسلم الا تركتني أمضي اليه فقال عمرو لقد أقسمت علي بعظيم اذهب واستعن بالله
ولا تهبه في الخطاب وأفصح في الجواب وعظم شرائع الاسلام فقال بلال ستجدني إن شاء الله حيث تريد قال فخرج بلال نحوهم وهو كالنخلة السحوق عريض المنكبين كأنه من رجال شنوءة وكان من عظم خلقته إذا نظر اليه أحد يهابه وكان لابسا يومئذ قميصا من كرابيس الشام وعلى رأسه عمامة من صوف متقلدا بسيف ومزوده على عاتقه وبيده عصا قال فلما برز بلال من عسكر المسلمين ونظر اليه القس أنكره وقال إن القوم قد هنا عليهم فانا دعوناهم نخاطبهم فبعثوا الينا بعبيدهم لصغر قدرنا عندهم ثم قال أيها العبد أبلغ مولاك وقل له ان الملك يريد أميرا منكم حتى يخاطبه بما يريد فقال بلال أيها القس أنا بلال مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومؤذنه ولست بعاجز عن جواب صاحبك فقال له القس قف مكانك حتى أعلم الملك بأمرك وعاد القس إلى الملك وقال له أيها الملك أنهم قد بعثوا بعبد من عبيدهم يخاطبك وما ذاك إلا استصغارا لأمرنا عندهم وهو عبد أسود قال فأرسل له رجلا يقول له أيها العبد أبلغ مولاك وقل له أن الملك أيما يريد أميرا منكم حتى يخاطبه فقال له بلال أيها الرجل أنا بلال بم حمامة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولست بعاجز عن جواب صاحبكم فقال فلسطين ارجع إليهم وقل لهم بعث إليكم ملك النصرانية أيليق أن تبعثوا له بعبد من عبيدكم فرجع الترجمان إلى بلال وقال له يا أسود ان الملك يقول لك لسنا ممن نخاطب العبيد بل يأتينا صاحب جيشكم أو المؤمر عليكم فرجع بلال وهو منكسر وأخبر عمرا بذلك فقال لشرحبيل أنا أمضي اليه فقال شرحبيل يا عبد الله إذا مضيت أنت فلمن ندع المسلمين فقال عمرو الله لطيف بعباده وهو أرحم الراحمين بخلقه ولكن خذ الراية واخلفني في قومي فان غدر الروم فالله الخليفة عليكم فوقف شرحبيل في مقام عمرو وأخذ الراية وخرج عمرو نحو القوم وعليه درعه ومن فوقه جبة صوف وعلى رأسه عمامة من صنع اليمن مصبوغة صفراء قد أدارها على رأسه كورا وأرخى لها عذبة وفي وسطه منطقة وقد تقلد سيفه واعتقل رمحه وسار
20

عمرو حتى وقف بإزاء الترجمان الذي أرسله فلسطين بن هرقل فلما رآه الترجمان ضحك فقال مم تضحك يا أخا النصرانية قال من دناءة رؤيتك وحملك هذا السلاح ما الذي تصنع به ولم تحمله معك وما نريد حربا فقال عمرو ان العرب حمل السلاح شعارهم ووطاؤهم ودثارهم وانما حملت السلاح معي استظهارا ولعلي أن ألقي عدوا فيكون ذلك حصنا من عدوي وأحامي به عن نفسي قال الترجمان شيمتكم أيها العرب الغدر والمكر فكن مطمئن الجانب ثم عطف الترجمان إلى فلسطين بن هرقل وأخبره بما سمع من مقالة عمرو بن العاص وقال أيها الملك ان أمير العرب قد قدم علينا وعليه من اللباس كذا وكذا فتبسم الملك من قول القس وقال قل له يتقدم الينا قال فلما قدم أخذ الملك في التأهب لقدوم عمرو عليه وزين ملكه وأوقف القسوس عن يمينه وشماله والحجاب بين يديه وأقبل على الترجمان وقال له يا أخا العرب قد أذن لك الملك فسار عمرو على جواده وعسكر قيسارية تتعجب منه ومن زيه إلى أن وقف على قبة الملك ثم ترجل ومشت الحجاب أمامه حتى وقعت عينه على عين فلسطين فأدناه ورحب به وبش في وجهه وقال مرحبا بأمير قومه وأراد أن يجلسه على السرير فامتنع عمرو من ذلك وقال بساط الله أطهر من بساطك لأن الله تعالى جعل الأرض بساطا وأباحنا إياها فنحن فيها سواء وما أريد أن أجلس الا على ما أباحه الله ثم جلس على الأرض باركا وترك رمحه أمامه وسيفه على فخذه الأيسر فقال له فلسطين ما اسمك
قال اسمي عمرو وأنا من العرب الكرام أرباب الحزم المعظمين في القوم قال فلسطين انك لفتى كريم من عرب كرام يا عمرو ان كنت من العرب فنحن من الروم وبيننا قرابة وأرحام متصلة ونحن وأنتم في النسب متصلون ومن يكونون متصلين في النسب ما لهم يسفك بعضهم دم بعض فقال عمرو ان أنسابنا لاحقة من أبينا ونسبنا الأعلى هو دين الاسلام وإذا كان أخوان قد اختلفا في الدين كان حلالا أن يقتل أحدهما أخاه وقد انقطع النسب بيننا وقد ذكرت أن نسبك لاحق بنا فكيف يكون نسبك ونسبنا واحدا ونحن قريش الكرام وأنتم بنو الروم قال يا عمرو أليس أبونا آدم ثم نوحا ثم إبراهيم وعيصو بن إسحاق واسحق أخو إسماعيل وكلاهما ولد إبراهيم ولا ينبغي للأخ أن يبغي على أخيه بل يجود عليه فقال إنك لصادق في قولك الذي قلت وان عيصو ونحن بنو أب واحد وأبونا نحن إسماعيل صلوات الله عليه وان كان نوح عليه السلام قسم الأرض شططا حين غضب على ولده حام وعلم أن أولاد حام لن يرضوا بها فاقتتلوا عليها زمانا وهذه
21

الأرض التي أنتم فيها ليست لكم وهي أرض العمالقة من قبلكم لان نوحا عليه السلام قسم الأرض بين أولاده الثلاثة سام وحام ويافت وأعطى ولده ساما الشام وما حوله إلى اليمن إلى حضرموت والى غسان والعرب كلهم ولد سام وهو قحطان وطسم وحديث وعملاق وهو أبو العمالقة حيث كانوا من البلاد وهم الجبابرة الذين كانوا بالشام فهذه العرب العاربة لان لسانهم الذي جبلوا عليه العربية وأعطى حاما الغرب والساحل وأعطى يافث ما بين المشرق والمغرب وان الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ونريد أن نرد هذه القسمة فنأخذ ما في أيديكم من العمارة والأنهار عوضا عما نحن فيه من الشوك والحجارة والبلد القفر فلما سمع فلسطين كلام عمرو بن العاص علم أنه رجل ماكر فقال له صدقت في قولك الا أن القسمة قد جرت فان نقضتموها كنتم من الباغين علينا واعلم أنه ما حملكم على ذلك وأخرجكم من بلادكم الا الجهد العظيم فقال له عمرو أيها الملك أما زعمت أن الجهد أخرجنا من بلادنا فنعم كنا نأكل خبز الشعير والذرة فإذا رأينا طعامكم واستحسناه فلن نبارحكم حتى نأخذ البلاد من أيديكم وتصيروا لنا عبيدا ونستظل تحت أصول هذه الشجرة العالية والفروع المورقة والأغصان الطيبة الثمار فان منعتمونا مما ذقناه من بلادكم من لذيذ العيش فما عندنا الا رجالا أشوق إلى حربكم من حبكم الحياة لآنهم يحبون القتال كما تحبون أنتم الحياة قال وأفحم فلسطين عن جوابه فرفع رأسه إلى قومه وقال إن هذا العربي صادق في قوله وحق الكنائس والقربان والمسيح والصلبان ما لنا معهم ثبات قال عمرو فوجدت إلى وعظهم سبيلا وقلت معاشر الروم ان الله عز وجل قد قرب عليكم ما كنتم تطلبون ان كنتم تريدون بلدكم فادخلوافي ديننا وصدقوا قولنا فان الدين عند الله الاسلام
قال فلسطين يا عمرو انا لا نفارق ديننا وعليه مات آباؤنا وأجدادنا قال عمرو فان كرهت الاسلام فاعطنا الجزية منك ومن قومك وأنتم صاغرون قال فلسطين لا أجيبك إلى ذلك لأن الروم لا تطاوعني إلى أداء الجزية ولقد قال لهم أبي ذلك من قبل فأرادوا قتله فقال هذا ما عندي من الأعذار ولقد حذرتكم ما استطعت ولم يبق بيننا حكم الا السيف والله يعلم أني دعوتكم إلى أمر فيه النجاة فعصيتموه كما عصى أبوكم عيصو عن أمه فخرج من الرحم قبل أخيه يعقوب وأنتم تزعمون أنكم أقرباؤنا في النسب وأنا لبراء إلى الله عز وجل منكم ومن قرابتكم إذ أنتم تكفرون بالرحيم أنتم من والد عيصو بن إسحاق ونحن من ولدا إسماعيل بن إبراهيم
22

عليه السلام وان الله تعالى اختار لنبينا خير الأنساب من لدن آدم إلى أن أخرج من صلب أبيه عبد الله فجعل خير الناس من ولد إسماعيل فتكلم بالعربية وتكلم اسحق على لسان أبيه فولد إسماعيل العرب ثم جعل خير الناس كنانة ثم جعل خير العرب قريشا وخير قريش بني هاشم ثم جعل خير بني هاشم بني عبد المطلب وخير بني عبد المطلب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فبعثه رسولا واتخذه نبيا وأهبط عليه جبريل بالوحي وقال له طفت مشارق الأرض ومغاربها فلم أر أفضل منك قال فخضعت جوارح القوم حين ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجلت قلوبهم ودخلت الهيبة في قلب فلسطين حين سمع كلام عمرو فقال صدقت في قولك كذلك الأنبياء تبعث من خير بيوت قومها على لسان ربها ثم قال له يا عمرو وهل في أصحابك رجل بين كلامه سريع الجواب إذا سئل فقال له اعلم اني والله أحب أن أمضي وآتيك بهم لتقف على صحة قولي ثم وثب وسار إلى عسكره وركب وأتى جيشه فحمدوا الله المسلمون على سلامته وباتوا يتحادثون فلما صلى عمرو بالناس صلاة الفجر أمرهم بالركوب إلى قتال عدوهم قال فأسرعوا إلى ذلك واستووا على متون خيولهم واصطفوا للحرب والقتال
المعركة
قال الواقدي حدثنا عروة بن زيد عن موسى مولى الحضرميين عن موسى بن عمران وابن الصباح لما كان يوم الحرب صف فلسطين جيشه ثلاثة صفوف وقدم المشاة وعدل الميمنة والميسرة ورفع الصليب أمامه وتقدم أمام الجيش فنظر عمرو إلى فلسطين وقد رتب عساكره وعزم على الحرب فهيأ المسلمين وصفهم صفا واحدا وجعل في الميمنة الحماة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعهم شرحبيل بن حسنة كاتب الوحي وصابوب بن جباية الليثي عن شماله وكان أحد فرسان المسلمين فبينما الناس كذلك إذ خرج فارس من الروم وعليه ديباج ودرع وجوشن وفي عنقه صليب من الذهب فحمل حتى خطى برمحه من الميمنة إلى الميسرة ومن الميسرة إلى الميمنة ثم إلى القلب ثم وقف بإزاء جيش المسلمين وركز رمحه بإزائه وأخذ القوس بيده وفوق سهمها ورمى رجلا من الميمنة فاثبت السهم فيه فجرحه ورمى آخر من الميسرة فقتله فنظر اليه عمرو وما قد صنع فصاح بالمسلمين ألا ترون هذا العلج اللعين وما يصنع بقوسه فمن يكفينا أمره ويزيل عن المسلمين شره فخرج اليه رجل من ثقيف وعليه بردة دنسة وبيده قوس عربية قد فوق سهمها وخرج إلى العلج يريده فنظر اليه العلج وليس عليه شيء من الحديد يستره الا فروة دنسة وما معه من السلاح غير القوس فازدرى به وبلبسه
23

وأطلق سهما من كبد قوسه فوقع سهمه في صدره فاشتبك في الفروة ووقع غير مصيب وكان اللعين أرمى أهل زمانه ما رمى قط شيئا الا نفذ فيه فغضب لذلك وهم أن يرميه بسهم ثان فامتعط الثقفي نبلة ورمى بها نحوه فلم يرها لصغرها وخفاء موقعها فاشتبكت النبله في حلق العلج فخرجت من قفاه فما تمالك العلج الا ان وقع صريعا فأسرع الثقفي إلى جواده فأخذه واستوى على متنه ونزع بيضة المشرك عن رأسه وجعل يسحبه نحو جيش المسلمين فاستقبله ابن عم له وكلمه فلم يجبه من فرحه بما صنع ثم اقبل إلى عمرو فأعطاه إياه فنظرت الروم إلى فعل الثقفي فغاظهم ذلك وجعلوا يشيرون إلى السماء فلعلمنا أنهم يقولون إن الملائكة تنصرنا قال ونظر فلسطين إلى ذلك فعظم عليه وقال لبعض البطارقة اخرج إلى هؤلاء العرب وحام عن دينك فخرج البطريق وعليه ديباجة خضراء ودرع حصين ومن تحت الدرع جوشن منيع وفي عنقه صليب من الذهب الأحمر ومعه غلام من ورائه يجنب جنيبه وعليه سيفه ودرقته فخرج حتى وقف بين الصفين فجعل يسال القتال فلما نظر المسلمون اليه أقبلوا اليه ينظرون ولا يخرج اليه أحد
فقال عمرو معاشر العرب من يخرج اليه ويهب نفسه لله عز وجل فخرج اليه رجل من العرب وهو يقول أنا أكون ذلك فقال عمرو بارك الله فيما تريد وحمل صاحب المسلمين عندما خرج مصمما واستقبله البطريق وجعلا يتجاولان ساعة وهما يتعانقان بالسيوف إلى أن خرجت لهما ضربتان فسبقه البطريق بالضربة فاخذها الرجل بالدرقة فقدها نصفين وكانت جلد بعير بطانة واحدة فلم يصل اليه من الضربة شيء وضربه الرجل ضربة في أثرها فقطعت البيضة وسلكها فتقهقر البطريق إلى ورائه ولم يصل اليه أذى فلما رجعت اليه روحه حمل على المسلم وضربه فجرحه جرحا فاحشا فألوى إلى أصحابه فصاح به رجل من العرب من وهب نفسه لا يرجع من بين يدي عدوه فقال الرجل أما كفاك هذه الضربة حتى توبخني ان الله ليلومني بأن ألقي بيدي إلى التهلكة ثم شد جراحه وعظم عليه ما قال ابن عمه فلما خرج قال له ابن عمه الذي خاطبه ارجع فخذ هذه البيضة واجعلها على رأسك فقال ثقتي بالله أعظم من حديدك ثم دلق نحو البطريق وهو يقول
* يقول لي عند الخروج للقا
* دونك هذا الترس فاجعله وقا
* من علج سوء قد بغى وقد طغى
* أقسمت بالله يمينا صادقا
* لأتركن البيض فوق المرتقى
* وأدخل الجنة دار الملتقى
*
قال فدعا له المسلمون بالنصر وقالوا اللهم أعطه ما تمنى وحمل على
24

البطريق وضربه ضربة هائلة فوقعت على عاتقه وخرجت من علائقه ثم حمل في جيش الروم فقتل رجلا وجندل أبطالا ولم يزل كذلك حتى قتل رحمه الله تعالى فقال عمرو هذا رجل اشترى الجنة من الله بنفسه اللهم أعطه ما تمنى
البطريق قيدمون
قال الواقدي وكان هرقل حين بعث ولده فلسطين إلى قيسارية بعث معه بطريقا من البطارقة وكان اسمه قيدمون وكان من أفرس الروم ويقال انه خال فلسطين وقد كان لقي عسكر الفرس وعسكر الترك وعسكر الجرامقة قال وكان اللعين يحفظ سائر اللغات فقال فلسطين لا بد لي من قتال العرب قال وخرج وعليه لامة وخرج مبارزا فلما رآه المسلمون قد خرج وكأنه جبل قد انهد من أعلاه إلى أسفله وهو يلمع من بريق الجوهر ضج المسلمون بقول لا إله إلا الله فلما وقف في الميدان أقبل يرطن بلغته ويطلب البراز فاقبل العرب يهرعون اليه من كل جانب ومكان يريدون قتاله لأجل ما عليه فقال عمرو ثواب الله خير لكم مما عليه فلا يخرج أحد لطلب سلبه فيكون خروجه لأجل ذلك وان قتل مات في سبيل ما خرج اليه وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر اليه قال فخرج غلام من اليمن ومعه أمه وأخته يريدون الشام وأخته تقول له يا ابن أمي جد بنا في السير لنصل إلى الشام فنأكل من خيره ونعمه فقال لها أخوها انما أذهب لأقاتل لمرضاة الله عز وجل وقد سمعت معاذ بن جبل يقول إن الشهداء عند ربهم يرزقون فقالت له أخته كيف يرزقون وهم أموات قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله تعالى يجعل أرواحهم في حواصل طيور الجنة فتأكل تلك الطيور من ثمار الجنة وتشرب من أنهارها فتغدوا أرواحهم في حواصل تلك الطيور فهو الرزق الذي جعله الله لهم فلما كان قتال قيسارية خرج ذلك الغلام إلى القتال بعد ان ودع أمه وأخته وداع الموت وقال لهم نجتمع على حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خرج وبيده قناة وهي موصولة كثيرة العقد وتحته جواد هجين فلما خرج الغلام حمل على البطريق من ساعته وطعنه بسنانه قال فاشتبك السنان في درع البطريق فلم يقدر على انتزاعه فضرب البطريق قنا الغلام بسيفه فقطعها وحمل على الغلام وضربه على هامته فشطرها فوقع
25

الغلام ميتا رحمه الله وجال قيدمون على مصرعه ثم طلب البراز فخرج اليه ابن قثم فقتله البطريق فلما نظر إلى ذلك شرحبيل بن حسنة رضي الله عنه اقبل يعاتب نفسه ويقول تتفرجين على قتل المسلمين ثم خرج والراية بيده التي عقدها له أبو بكر رضي الله عنه يوم خروجه إلى الشام فلما رآه عمرو قد عول على الخروج قال يا عبد الله اركز الراية لئلا تشغلك فركزها شرحبيل فوقفت كالنخلة وغاصت في حجر كأنها منه فتفاءل بالنصر وخرج إلى لقاء قيدمون والمسلمون يدعون له بالنصر على عدوه فلما رآه البطريق ضحك من زيه وكان للملعون صوت عال وهو ضخم من الرجال وكان شرحبيل نحيف الجسم من كثرة الصيام والقيام بالليل والبطريق في ميدانه فحمل كل واحد منهما على صاحبه واختلفا بضربتين وكان السابق شرحبيل فلم يعمل السيف في لامة البطريق شيئا وثبت السيف في بيضته وحمل قيدمون على شرحبيل فشجه ثم تجاولا على الجوادين قال سعيد بن روح وكان ذلك اليوم كثير البرد والسحاب فبينما هما في المعركة إذ نزل المطر كأفواه القرب قال فنزلا عن الجوادين وجالا يتصارعان في وسط الطين وذلك أن قيدمون حمل على شرحبيل فضرب يده في مراق بطنه فاقتلعه من الأرض ورمى به على ظهره ثم استوى على صدره وهم أن ينحره فنادى شرحبيل يا غيات المستغيثين فما استتم كلامه حتى خرج اليه فارس من الروم وعليه لامة مذهبة ومن تحته جواد من عتاق الخيل فقصد موضع البطريق وشرحبيل فظن قيدمون أنه انما خرج ليعطيه جواده ويعينه فلما قرب منهما ترجل وأمال البطريق برجليه عن صدر شرحبيل وقال يا عبد الله قد أتاك الغوث من غيات المستغيثين فوثب شرحبيل قائما ينظر اليه متعجبا من قوله وفعله وكان الفارس متلثما ثم جرد سيفه وضرب البطريق ضربة قطع رأسه وقال يا عبد الله خذ سلبه فقال شرحبيل والله ما رأيت أعجب من أمرك واني رأيتك جئت من عسكر الروم فقال أنا الشقي المبعد أنا طلحة ابن خويلد الذي ادعى النبوة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذب على الله وزعم أن الوحي كان ينزل عليه من السماء فقلت له يا أخي * (إن رحمة الله قريب من المحسنين) * وقد وسعت رحمته كل شيء ومن تاب وأقلع وأناب قبل الله توبته وغفر له ما كان منه والنبي صلى الله عليه وسلم يقول التوبة تمحو ما قبلها أما علمت يا ابن خويلد ان الله سبحانه وتعالى لما انزل على نبيه * (ورحمتي وسعت كل شيء) * طمع فيها كل شيء حتى إبليس فلما نزل قوله تعالى فسأكتبها للدين يتقون ويؤتون الزكاة قالت اليهود نحن نؤتى الزكاة ونتصدق فلما نزل قوله تعالى والذين هم بآياتنا يؤمنون قالت اليهود نحن مؤمنون بما انزل الله في الصحف
26

والتوراة فأراد الله أن يعلمهم انها خاصة بأمة محمد صلى الله عليه وسلم بقوله الذين يتبعون الرسول النبي الأمي فقال طلحة بن خويلد مالي وجه أرجع إلى الاسلام وهم أن يسير على وجهه فمنعه شرحبيل وقال له يا طلحة لست أدعك تمضى بل ترجع معي إلى العسكر قال ما يمنعني من المسير معك الا الفظ الغليظ خالد بن الوليد واني أخاف أن يقتلني فقلت يا أخي انه ليس معنا وهذا الجيش لعمرو بن العاص قال فرجع معي فلما قربنا من المسلمين تبادروا الينا وقالوا يا شرحبيل من هذا الرجل معك فلقد صنع معك جميلا قال ولم يعرفوه لأنه كان متلثما بفضل عمامته فقلت هذا طلحة بن خويلد الذي ادعى النبوة فقالوا أو تاب ورجع إلى الله فقال أنا تائب إلى الله سبحانه وتعالى قال شرحبيل فاتيت به إلى عمرو بن العاص فسلم عليه وبش في وجهه ورحب به
قال حدثنا حسان بن عمر لربعي عن جده ان طلحة بن خويلد لما ادعى النبوة وجرى له ما جرى من الحرب مع خالد بن الوليد رضي الله عنه وسمع ان خالدا قتل مسيلمة الكذاب وقتل الأسود العنسي أيضا لأنه قال إنه نبي فخاف طلحة على نفسه من خالد فهرب بالليل ومعه زوجته للشام واستجار برجل من آل كلب فأجاره الكلبي وأنزله في داره وكان الكلبي مؤمنا وبقي عنده مدة أيام إلى أن استخبره عن حاله فحدثه طلحة بجميع أحواله مع خالد بن الوليد ووقائعه معه وكيف ادعى النبوة فغضب الكلبي لكلامه وطرده من جواره فأقام طلحة بالشام وقد تاب من أمره فلما بلغه أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قد قبض قال ذهب من جردت السيف في وجهه فمن ولي بعده قالوا عمر بن الخطاب قال الفظ الغليظ وهاب أن يمضي اليه وفزع من خالد بن الوليد أن يراه بالشام فيقتله فقصد قيسارية ليركب في المراكب ويطرح نفسه في بعض جزائر البحر فلما نظر إلى جيش فلسطين قد خرج إلى قتال العرب قال أسير مع هذا الجيش فلعلي انكب نكبة واغسل بها شيئا من أوزاري وتكون لي قربة إلى الله تعالى والى
المسلمين فلما نظر شرحبيل في عين الهلكة قال لا صبر لي عنه فخرج واستنقذه كما ذكرناه فلما وقف بين يدي عمرو بن العاص شكره وبشره بقبول التوبة فقال يا عمرو اني أخاف من خالد بن الوليد أن يراني بالشام فيقتلني فقال عمرو فاني أشير إليك بشيء تصنعه وتأمن به على نفسك في الدنيا والآخرة قال وما هو
قال أكتب معك كتابا بما صنعت وشهادة المسلمين فيه وتنطلق به إلى عمر ابن الخطاب وتدفعه اليه وأظهر التوبة فإنه يقبلها وسيندبك إلى الفتوح
27

وقتال الروم فتمحو عنك ما سلف من خطاياك فأجابه طلحة إلى ذلك فكتب له عمرو كتابا إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بما صنع وأخذ
طلحة ومشى به إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجد عمر في المدينة وقيل له هو بمكة فمضى حتى وردها فوجد عمر متعلقا بأستار الكعبة فتعلق معه وقال يا أمير المؤمنين اتي تائب إلى الله عز وجل وحق رب هذا البيت مما كان مني قال عمر من أنت قال أنا طلحة ابن خويلد قال فنفر عمر عنه وقال
يا ويلك ان أنا عفوت عنك فكيف الامر غدا بين يدي الله عز وجل بدم بن محصن الأسدي قال طلحة يا أمير المؤمنين عكاشة رجل أسعده الله على يدي وشقيت أنا بسببه وأرجو أن يغفر الله لي بما عملته قال عمر وما عملت فأخرج له كتاب عمرو بن العاص فلما قرأه عمر وفهم ما فيه فرح به وقال أبشر فان الله غفور رحيم وأمره عمر أن يقيم بمكة حتى يرجع إلى المدينة فأقام معه أياما فلما رجع عمر إلى المدينة وجه به إلى قتال أهل فارس
قال الواقدي رجعنا إلى الحديث قال لما قتل البطريق قيدمون على يد طلحة ونجا شرحبيل مما كان قد لحقه ورجع إلى عمرو وكان المطر شديدا فقطع الناس القتال ولحق الناس الأذى لان أكثرهم بلا أخبية ولا بيوت والتجئوا إلى الجابية وتستروا بدورها وكان من رحمة الله بالمسلمين أن وقع في قلب فلسطين الفزع والرعب لما قتل قيدمون البطريق وكان ركنه ودعامته فشاور أصحابه في الرجوع إلى قيسارية وقال يا معاشر الروم أنتم تعلمون أن جيوش اليرموك ما ثبتت لهؤلاء العرب وان أبى قد ولى إلى القسطنطينية من خوفهم وقد ملكوا الشام جميعه وما بقي غير هذا الساحل واني أخاف أن ندهي من قبلهم ويملكوا قيسارية والرحيل أوفق من المقام ههنا فأجابوه إلى ذلك فلما كان الليل ارتحل القوم والمطر ينزل قال سعيد بن جابر الأوسي وكان ذلك كله رحمة للمسلمين من الله عز وجل قال فلما كان في اليوم الرابع ارتفع المطر وطلعت الشمس فخرجنا من الجابية نطلب قتال الروم فلم نر لهم أثرا فوالله لقد فرحنا بطلوع الشمس أكثر من فرحنا برحيل الروم فكتب عمرو بذلك إلى أبي عبيدة كتابا يقول فيه بسم الله الرحمن الرحيم من عمرو بن العاص السهمي إلى أمير جيوش المسلمين أبي عبيدة عامر بن الجراح سلام عليك ورحمة الله وبركاته أما بعد فيا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فان فلسطين بن هرقل قد أخرج إلى لقائنا ثمانين ألفا من الروم وكان لقاؤنا معهم على موضع يقال له نخل وأخذ شرحبيل ابن حسنة وكان الذي ملك اسره قيدمون ابن خالة هرقل ثم خلصه الله على يد طلحة بن خويلد الأسدي وقتل قيدمون ابن خاله هرقل ثم وجهته بكتاب إلى عمر بن الخطاب وقد انهزم عدو الله فلسطين وأنا منتظر جوابك والسلام عليك وعلى من معك من المسلمين ورحمة الله وبركاته
28

وبعث الكتاب مع جابر بن سعيد الحضرمي فلما قرأ أبو عبيدة الكتاب فرح بسلامة المسلمين وسير الجواب وقال إذا قرأت كتابي فانزل على قيسارية وأنا في اثر الكتاب معول على السير إلى صور وعكاء وطرابلس والسلام ثم سلم الكتاب إلى جابر بن سعيد وأمره بالرجوع
ذكر فتح صور وعكاء وطرابلس الشام وقيسارية
قال وعول أبو عبيدة على النهوض إلى الساحل فقام اليه عبد الله يوقنا وقال أيها الأمير اعلم أن الله عز وجل قد اباد المشركين ورفع علم الموحدين واني أريد أن أسير قبلك إلى الساحل لعلي أفوز من القوم بغزوة فقال يا عبد الله ان أنت عملت شيئا يقربك إلى الله تجده بين يديك فافعل فوثب يوقنا قائما وأخذ أصحابه وكان قد انضاف اليه من كان يخدمه بحلب وكلهم رجعوا إلى الاسلام وكانوا أربعة آلاف وفي عسكر العرب أيضا ممن اسلم من البطارقة ما يزيد عن ثلاثة آلاف فارس من البطارقة المعدة وعليهم وال يقال له جرفاس ولما انهزم فلسطين إلى قيسارية وتحصن بها بعث إلى أهل طرابلس ان يبعثوا له بنجدة فبعثوا له بثلاثة آلاف فارس قال وساروا يطلبون قيسارية فلما كانوا بالقرب منها نزلوا في مرج ليعلقوا على خيولهم فبينما هم كذلك إذ اشرف عليهم يوقنا وأصحابه وكان قد صحبهم فلنطانوس صاحب رومية وأصحابه وكانوا معولين على زيارة بيت المقدس والمقام بها فلما أشرفوا على المرج وهم بزيهم ما غيروا منه شيئا ورآهم جرفاس ركب بنفسه يختبر حالهم فلما قرب منهم سلم عليهم ورحب بهم وقال من أنتم قالوا نحن الذين لجأنا إلى هؤلاء العرب واستكفينا شرهم وظننا أنهم على شيء فإذا هم طغاة لا دين لهم فهربنا بديننا ونحن أصحاب حلب وقنسرين وعزاز ودارم وأنطاكية ونحن قاصدون إلى الملك هرقل لنكون في جنابه فلما سمع جرفاس من القوم ذلك فرح بهم وأنس لكلامهم وقال انزلوا عندنا كي تستريحوا ساعة من التعب فلا شك انكم سرتم الليل والنهار وخافت أنفسكم من العرب قال يوقنا اين أنتم سائرون قال بعث الينا فلسطين لنكون في طرابلس فقال يوقنا تيقظوا لأنفسكم فان أمير العرب أبا عبيدة تركناه على نية القدوم إلى الساحل فقال جرفاس وماذا ينفع حذرنا ودولتنا قد اضمحلت وأيامنا قد ولت ولسنا نرى الصليب يغني عن أهله شيئا
قال الواقدي فنزلوا عندهم ساعة وقدموا لهم من أزوادهم فاكلوا ثم ركبوا وهم جرفاس أن يركب لركوبهم فقال يوقنا اشتغل بأصحابك والبسهم أفخر ثيابهم فان ذلك مما يظهر الرعب في قلوب أعدائكم قال الواقدي حدثني سليم بن عامر عن نوفل بن عبد الله عن جرير بن البكاء وكان أعرف الناس بفتوح الشام قال ما دخل إلى ساحل البحر حتى
29

أتقن الحيلة وذلك أنه قد نزل فيه الحرث بن سليم من بني عمه يرعون إبلهم وكانوا في مائتي بيت من العرب فأغار عليهم يوقنا وأخذهم وشدهم كتافا ودخل بهم إلى بلاد الساحل فلما جن الليل جمعهم اليه وقال لا تظنوا اني رجعت عن الاسلام وانما فعلت بكم هذا كي تسمع الروم بسواحلها اني غدرت بالعرب وأخذتهم قال فاطمأنت العرب إلى كلامه وقالوا له ان كنت تريد إقامة دين الله فالله ينصرك وبالاعداء يظفرك قال ووكل يوقنا رجالا تسوق الأموال وانما اطمأن جرفاس وأصحابه إلى يوقنا لما رأى الاسرى من العرب والجمال والانعام فلما ركب يوقنا وأصحابه ورأى أنهم طالبون لساحل البحر نكب عن طريق طرابلس وكمن في الليل على طريق القوم قال وان
جرفاس فرق خزائنه التي كانت عنده على أصحابه وقعد حتى جن الليل وأكلت الخيل عليقها ثم ركبوا واستقاموا على الطريق فلما توسطوا أطبق عليهم يوقنا وأصحابه وداروا بهم ولم يمهلوهم بالقتل وأخذوهم أخذا بالكف وانتشرت الخيل في تلك الأرض لئلا يكون قد انفلت من الروم أحد فلما حصلوا في قبضتهم وتحت أسرهم أرادوا أن يطلقوا الحرث بن سليم وأصحابه فقال الحرث اني أرى من الرأي أن تتركونا على حالنا فان ثواب الله قد حصل وصبحوا بنا بلاد العدو فإنكم ما تشرفون على بلد من بلاد الساحل الا فتحه الله لكم قال يوقنا هذا رأي صحيح ثم أمر أصحابه أن يستوثقوا من الأسرى وكمن ألفين من أصحابه وأصحاب فلنطانوس مع الاسرى وهم ثلاثة آلاف فارس وقال إذا جاءتكم رسلي فاقدموا ثم ألبس أصحابه زي الروم مثل أصحاب قيسارية الذين أخذوهم وساروا نحو طرابلس فلما خرج كل من في البلد إلى لقائهم كان كتاب فلسطين قد وصل إليهم اني قد بعثت إليكم بثلاثة آلاف فارس مع جرفاس بن صليبا ودخل يوقنا مع أصحابه حتى استقر قراره في دار الامارة ودخل عليه شيوخ طرابلس والبطارقة وأهل الحشمة منهم فلما حصلوا عنده أمر بهم وقبض عليهم وقال يا أهل طرابلس ان الله سبحانه وتعالى قد نصر الاسلام وأهله وقد كنا في عيش مظلم نسجد للصلبان ونعظم ال والقربان ونجعل لله زوجة وولدا حتى بعث لنا هؤلاء العرب فهدانا وألحقنا بهم ببركة نبيهم صلى الله عليه وسلم وهو النبي المبعوث الذي ذكره الله في التوراة وبشر به عيسى المسيح وان الاسلام حق وقوله الصدق ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وينطقون
30

بالحق ويتبعون الصدق ويوحدون الله وينزهونه عن الصاحبة والولد ويجاهدون في سبيله وهو الذي أمر به أنبياءه ورسله فاما أن ترجعوا إلى دين الاسلام أو تؤدوا الجزية والا بعثتكم عبيدا للعرب وهذا ما عندي والسلام
قال فلما سمعوا كلامه علموا أن يوقنا اجتاز عليهم وأخذ أصحاب الملك في الطريق فقالوا أيها السيد نحن نفعل ما أمرتنا به فمنهم من أسلم ومنهم رضي بالجزية وعدل يوقنا فيهم وبعث إلى أصحاب الكمين فحلوا الاسرى فعرض عليهم الاسلام فأبقوا فأمر بحبسهم وبعث إلى أبي عبيدة بالخبر وما جرى له وبعث الكتاب مع الحرث بن سليم من وادي بني الأحمر وقال يا عبد الله كن للأمير مبشرا بهذا الفتح قال سأفعل ذلك إن شاء الله تعالى وسار بالكتاب حتى وصل إلى أبي عبيدة وسلم عليه وناوله الكتاب فلما قرأه وعلم معناه فرح وقال للحرث بن سليم ألم تستأذني أن تسير أنت وبنو عمك إلى وادي بني الأحمر فمن أوصلك إلى طرابلس قال أوصلني القضاء والقدر وذلك أن يوقنا أغار علينا وأخذنا أسرى وحدثه بحديثهم فعجب من ذلك أبو عبيدة وقال اللهم ثبتهم وأيدهم بنصرك
قال حدثني عامر بن أوس قال أخبرني ابن سالم قال حدثني موسى بن مالك قال إن عمرو بن العاص لما ارتفع المطر رحل من الجابية ونزل على أبواب قيسارية وأما ما كان من أمر يوقنا فإنه لما ملك طرابلس واحتوى عليها واستوثق من سورها وأبوابها ترك أصحابه على الأبواب وقال لا تدعو أحدا يخرج من الأبواب وكان في المرسى مراكب كثيرة فرفع آلاتها وأخذها كل ذلك ولا يعلم أحد من أهل الساحل بما صنع وقال وبعد أيام جاءت مراكب كثيرة زهاء من خمسين مركبا فتركهم يوقنا حتى نزل أكثرهم إلى المدينة فأمر بهم اليه فاستخبرهم عن حالهم وقال من أين جئتم قالوا جئنا من جزيرة قبرص ومن جزيرة أقريطش وقالوا معنا العدد والسلاح مضروبة لملك فلسطين فأراهم الفرح والسرور وسلم عليهم وقال إني أريد أن أسير معكم ثم أمر بهم إلى دار الضيافة وبعث إلى قواد المراكب فأنزلهم وقدم لهم السماط فلما أكلوا قال إني أريد أن أسير إليكم الزاد والعلوفة وعدة السلاح إلى خدمة الملك ولكن تقيمون عندي ثلاثة أيام فقالوا أيها البطريق انا على عجل من أمرنا نخاف من لوم الملك ولسنا نقدر على ذلك ولم يزل بهم حتى اذعنوا له
فقال أريد أن تنزلوا الشراعات والمقاذيف فتكونوا في المدينة ليطمئن قلبي بذلك ففعلوا وألصقوا المراكب بالسور ونزل كل من في المراكب وما بقي في المراكب الا ثلاثة رجال فلما دبر هذا التدبير قبض على الجميع فلما كان
31

الليل سلم طرابلس لبني عمه وللحرث بن سليم وفلنطانوس وعمر المراكب برجاله وهم بالصعود إليها وإذا عند غروب الشمس قد أقبل خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه في ألف فارس من أصحابه فلما رآهم يوقنا سجد لله شكرا وسلم على خالد بن الوليد وسلم له المدينة وحدثه بما جرى له وما قد عزم عليه فقال نصرك الله وأيدك ثم إن يوقنا ركب من ليلته وسار وكان على سور دمشق جيش فلسطين وهو أرمويل بن نشطة ومعه أربعة آلاف فما أصبح يوقنا الا وهو في مدينة صور فأمر بالبوقات فضربت والرايات فنشرت ووقف الدمستق يختبر خبرهم فعاد صاحب البحرالية فقال هؤلاء أهل قبرص وجزيزة اقريطش قد أقبلوا بالعلوفات والطعام والعدد يريدون قيسارية في خدمة الملك ففرح أهل صور بذلك وأمروهم بالنزول فنزل يوقنا وأصحابه وكان جملة من نزل معه تسعمائة رجل وكان قد استخلصهم لنفسه فصنع لهم الدمستق طعاما ومد لهم سماطا عظيما وأحضر لقوادهم الخلع ويوقنا ينتظر الليل حتى يثور بأصحابه وكان جملة من نزل معه تسعمائة رجل كما ذكرنا وترك الباقين في المراكب وقال إن لم يتم لنا ما نريد ولم نظفر بهم فلا تبرحوا من مراكبهم وأنقذ إلى خالد وأخبره بالقصة
قال الواقدي ما سمع بأعجب من هذه القصة ولقد حدثني ابن مزاحم عن الأرقط بن عامر عن عمار بن ياسر الربعي قال لما حصل يوقنا والتسعمائة بمدينة صور وأكلوا سماط الملك وخلع على كبرائهم أقبل عليهم في السر رجل من بني عم يوقنا ممن استحكمت الضلالة في قلبه واحتوى الكفر على أقانيم جسده فأقبل إلى الدمستق وحدثه بأمر يوقنا وما قد عزم عليه وأنه مسلم وأنه يقاتلكم مع العرب وقد فتح طرابلس وأخذ البطريق جرمانس صاحب الملك فلما سمع الدمستق ذلك لم يكذب خبرا دون أن ركب بأصحابه وقبض على يوقنا وأصحابه ووقع الصياح وكثر الضجيج وسمع بذلك أصحاب يوقنا فعلموا أن ذلك بسبب أصحابهم وانه قبض عليهم فاغتموا لذلك غما شديدا وأخذوا على أنفسهم من عدو يقبل عليهم قال فلما استوثق عليهم الدمستق أرمويل بن نشطة وكل بهم ألف رجل وقال سيروا بهم إلى الملك يفعل فيهم ما يريد وأقبلوا يعنفون يوقنا وأصحابه ويقولون لهم ما الذي رأيتم في دين العرب حتى تبعتموهم وتركتم دينكم ودين آبائكم قد طردكم المسيح عن بابه وأبعدكم عن جنانه فلما هموا أن يسيروا بهم وقع الصياح من الأبواب ونفر أهل القرى ومن كان بالقرب من صور فسألوهم عن أخبارهم فقالوا قدمت العرب عليكم قال الواقدي وكان عمرو بن العاص لما نزل على
قيسارية وجه يزيد
32

ابن أبي سفيان في ألفي فارس إلى صور فلما سمع الدمستق أمر بالأبواب فأغلقت وصعدت الرجالة على الاسوار وعمروا الأبراج ونصبوا المجانيق وأدخل الدمستق يوقنا إلى قصر صور واستوثق منهم لئلا يتم عليه أمر منهم وبات القوم يحرسون وأضرموا نيرانهم على الاسوار فأقبلوا يرقصون ويشربون طول ليلتهم فلما كان الغد أشرف عليهم يزيد بن أبي سفيان نظر إليهم الدمستق فلما رآهم قليلا استحقرهم وطمع فيهم وقال وحق المسيح لا بد لي من الخروج إليهم وهزم هذه الشرذمة اليسيرة ثم لبس الدمستق اللباس وأمرهم بالخروج وترك على حفظ يوقنا وأصحابه ابن عمه باسيل قال وكان باسيل هذا من قرأ الكتب السالفة والاخبار الماضية وكان قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم في دير بحيرا الراهب وكان باسيل قد مضى إلى زيارة بحيرا فلما قدمت عير قريش وجمال خديجة بنت خويلد وفيها رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر بحيرا إلى القافلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في وسطها والسحابة على رأسه تظله من حر الشمس فلما تبينه قال والله هذه صفة النبي الذي يبعث من تهامة ثم انتظروا وإذا بالركب قد نزل ورسول الله صلى الله عليه وسلم نزل وحده تحت شجرة يابسة واستلقى إليها فأورقت الشجرة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما عاين بحيرا ذلك صنع طعاما لقريش واستدعاهم فدخلوا الدير وبقي هو مع الإبل ليرعاها فلما نظر بحيرا إليهم ولم يره في جملتهم قال يا معشر قريش هل بقي منكم أحد قالوا نعم بقي فينا من تخلف لحفظ القافلة ورعي الإبل قال ما اسم من يرعى الإبل قالوا محمد بن عبد الله قال هل مات أبوه وأمه قالوا نعم قال هل كفله جده وعمه قالوا نعم قال يا قريش هو والله سيدكم وبه يعظم في الدنيا مجدكم قالوا من أين علمت ذلك قال لما أشرفتم علي من البرية لم يبق صخر ولا مدر الا خر له ساجدا
قال الواقدي فبقي باسيل في حيرة من أمرهم وكتم سره وعلم أن بحيرا لا يتكلم الا بالحق فلما وقع يوقنا وأصحابه ووكله الدمستق على حفظهم قال إن الاسلام هو الحق وقد بشر به بحيرا الراهب ولعل الله يغفر لي إذا حللت هؤلاء القوم
قال الواقدي من حسن تدبير الله لعباده المؤمنين أنه لما خرج الدمستق إلى لقاء يزيد ابن أبي سفيان لم يتأخر أحد من شباب المدينة لا صغير ولا كبير الا وخرج معه وبقيت العوام ينتظرون على الاسوار ما يكون بينهم وبين العرب فلما نظر باسيل إلى المدينة وخلوها واشتغل أهلها بالحرب أخذ رايه على خلاص يوقنا ومن معه فأقبل إليهم بالليل والتفت إلى يوقنا وأصحابه وقال أيها البطريق كيف تركت دين آبائك وأجدادك من قبل وعولت على دين هؤلاء العرب
33

وما الذي رأيت من الحق حتى تبعتهم وقد كانت الروم تتخذك عصدا لها وعونا قال له يوقنا يا باسيل ظهر لي من الحق ما ظهر لك من الحق فعرفته وقد هتف بي هاتف يقول لي ان الذي هداك إلى دينه يخلصك وبشرني بالخلاص على يديك قال فلما سمع زاد ايقانه وتحقق ايمانه وقال ليوقنا لقد انطق الله لسانك بالحق وان الله تعالى كشف حجاب الغفلة عن قلبي منذ رايت نبي هؤلاء القوم بدير بحيرا الراهب وهو في قافلة لأهل مكة ورأيت من دلائله أنه لا يسير على الأرض الا والشجر تسير اليه والسحابة على رأسه تظلله ولقد استند إلى شجرة يابسة فأورقت في الحال وأنبأني بحيرا الراهب أنه وجد في العلم أن جماعة من الأنبياء استندوا إليها وجلسوا حولها فلم تورق فلما استند بظهره إليها أورقت أغصانها وأينعت فعجبت من ذلك وسمعت بحيرا يقول هذا والله الذي بشر به المسيح فطوبى لمن تبعه وآمن به وصدقه فلما عدت من زيارة بحيرا سافرت إلى القسطنطينية بتجارة وطفت في بلاد الروم وأقمت ما شاء الله ثم عدت إلى قيسارية فرأيت الروم في هرج ومرج فسألت عن أحوالهم فقيل قد ظهر نبي في الحجاز اسمه محمد بن عبد الله وقد أخرجه قومه من مكة وقد أتى إلى المدينة التي بناها تبع وقد ظهر على قومه ونصر عليهم فما زلت أسأل عن أخباره وهي في كل يوم تنمو وتزيد حتى مات ثم ولى صاحبه أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وأنفذ جيوشه إلى الشام فلم يلبث الا يسيرا ثم مات وولى هذا الرجل عمر بن الخطاب ففتح بلادنا وهزم جيوشنا وأنا مع ذلك أنتظر قدومهم إلى هذا الساحل حتى أتى الله بهم فقال له يوقنا وما الذي عزمت عليه قال عزمت والله أن أفارق قومي وأتبعكم فان الحق بين ثم حل يوقنا وأصحابه وسلم إليهم العدد والسلاح وقال ليوقنا اعلم أن مفاتيح أبواب المدينة عندي والعسكر خارج المدينة مشتغل بقتال العرب وليس في المدينة من يخاف جانبه فانهض على اسم الله فقال يوقنا جزاك الله خيرا فلقد هداك الله إلى دينه وسلك بطل طريق النجاة وختم لك بخير ويجب الآن علينا أن نظهر أنفسنا ونبعث في المراكب حتى ينزلوا الينا ونكون نحن يدا واحدة
فقال باسيل سأفعل ذلك ثم إنه خرج في حال الخفاء وفتح باب البحر ومعه رجل من بني عم يوقنا وركبا زورقا حتى وصلا إلى البحر والمراكب وحدثاهم بما قد كان فأقبل كل مركب برجاله اليهما وساروا إلى أن نزل الجيمع وحصلوا داخل المدينة أعني مدينة صور وأعمى الله أبصار الكفار فلما هموا أن يثوروا قال يوقنا ليس هذا من الرأي وأين من يهب نفسه لله عز وجل ويخفي أمره ويخرج من الباب ويدور إلى عسكر المسلمين ويتوصل إلى أميرهم ويعلمه بما كان منا ويكون على أهبة وإذا سمع بنا أحد لا يهوله وليصدم جيش العدو
34

فقال رجل من القوم أنا أكون ذلك الرجل ثم خرج متنكرا وأغلق باسيل خلفه ووصل إلى يزيد بن أبي سفيان وحدثه بالامر على حقيقته وبما كان من أمر يوقنا فسجد لله شكرا وبعث من ساعته إلى المسلمين ليأخذوا على أنفسهم في الكبة على القوم ففعلوا ذلك
وأما يوقنا رحمه الله فلما علم أن الخبر وصل إلى المسلمين قال لأصحابه ليصعد منكم خمسمائة رجل إلى السور ويقتلوا من عليه قال باسيل ليس هذا رأيا فان العوام لا اعتبار لهم ولعل الله أن يهديهم إلى الاسلام ولكن مر أصحابك أن يلزموا مطالع السور حتى لا ينزل أحد منهم ويزعقوا بالأمان قال فاستصوب رايه ووكل الرجال بالمطالع ثم زعق يوقنا وأصحابه بصوت مزعج وقالوا لا إله إلا الله محمد رسول الله فسمع كل من في المدينة ومن على السور ذلك فعلموا أن يوقنا وأصحابه تخلصوا من الأسر ووثبوا في المدينة وطارت عقولهم وانزعجت أفئدتهم على أولادهم وأهاليهم فبقوا في حيرة فسمع يزيد بن أبي سفيان الضجة فعلم أن المسلمين قاموا في المدينة فكبر وكبرت المسلمون وهلل الموحدون فسمع الدمستق الضجة من المدينة فعلم أن يوقنا وأصحابه تخلصوا من الأسر وهم الذين فعلوا ذلك فوقع الرعب في قلوبهم ونظروا إلى
النيران قد اشتعلت في عسكر المسلمين وتاهبوا للحملة عليهم فلم يبق لهم صبر وقد انقطعت قلوبهم من أجل أموالهم وأولادهم الذين في داخل المدينة وقيسارية محاصرة وليس لهم مدد من ولد الملك فولوا الادبار واتبع المسلمون آثارهم وملكوا خيامهم وما كان فيها فلما أصبح الصباح فتح يوقنا باب المدينة ودخل يزيد بن أبي سفيان ومن معه من المسلمين واحتووا على أموال الروم ونادى من كان على السور الغوث الغوث فأمنهم المسلمون ونزلوا بأجمعهم فقال لهم يزيد أن الله عز وجل قد فتح لنا مدينتكم عنوة وأنتم الآن لنا عبيد فما شئنا حكمنا فيكم ولكن نحن إذا عاهدنا وفينا وإذا قلنا صدقنا وقد أعطيناكم الأمان من أنفسنا ولكن عليكم الجزية على من لم يدخل في ديننا ومن اسلم منكم فله مالنا وعليه ما علينا فأجاب القوم إلى ذلك وأسلم أكثر القوم وبلغ الخبر إلى فلسطين بأن صور قد فتحت فعلم أنه لا بقاء له فأخذ الفرصة وانهزم وأخذ خزائنه وأمواله وذخائره وخدمه واركبهم في المراكب بالليل وقلع يريد اللحوق إلى قسطنطينية فلما نظر أهل قيسارية إلى ذلك خرجوا إلى عمرو بن العاص وصالحوه على أن يسلموا له المدينة فصالحهم على مائة ألف درهم وما ترك الملك من خزائنه ورجاله فأجابوه إلى ذلك وكتب لهم كتاب الصلح فعندها دخل عمرو بن العاص إلى قيسارية وأخذ بقية ما ترك الملك وضرب الجزية عليهم من السنة الآتية كل رجل أربعة دنانير وبذلك أمرهم عمر بن
35

الخطاب رضي الله تعالى عنه وبعث عمرو جيشا إلى صور مع ياسر بن عمار بن سلمة وكان شيخا كبيرا قد شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا والنضير وقتل أخوه يوم حنين قتله مالك بن عون النضيري فبعثه عمرو إلى صور ومعه رجل من أصحابه وصالح عمرو بن العاص أهل قيسارية على مائة ألف درهم وما خلفه فلسطين من بقية ذخائره قال ودخلها يوم الأربعاء في العشر الأول من رجب الفرد سنة تسع عشرة من الهجرة ووصل الخبر إلى الرملة وعكاء وعسقلان ونابلس وطبرية فعقدوا كلهم صلحا مع المسلمين وكذلك أهل بيروت وجبلة واللاذقية وملك الله الشام كله للمسلمين ببركة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم
ذكر فتوح مصر
بسم الله الرحمن الرحيم وهو حسبي قال زياد بن عامر قال شام بن عبد الله العنبري حدثنا سالم مولي عروة بن نعيم اليشكري قال لما فتح عمرو بن العاص قيسارية صلحا كان لعمر في الخلافة أربعة أعوام وستة اشهر وبلغ الخبر إلى أهل الرملة وعكاء وبلقاء وعسقلان وصيدا وغزة ونابلس وطبرية فأتي كبراؤهم إلى أبي عبيدة وأصلحوا أمرهم معه على مال لا يحصى وكذلك أهل بيروت وجبلة واللاذقية وأنفذ أبو عبيدة لعمرو بن العاص أن يسير إلى مصر بأمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه وملك المسلمون أقاصي البلاد ببركة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعظم وكرم قال وسكنها العرب وتفرقوا في البلاد والمدن ودانت لهم العباد وكل يوم يزدادون فلم يبق في الشام وأعمالها مركز من مراكز الروم الا أخذ المسلمون وتوالدوا وتناسلوا وكثروا ببركة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم
يقال محمد بن إسحاق الأموي رحمه الله تعالى قال حدثنا يونس بن عبد الأعلى قراءة عليه بالخضراء بمدينة عسقلان قال أخبرنا الليث بن سعد قال حدثنا نوفل بن عامر قال أخبرني يحيى بن ساكن المدني قراءة عليه يوم الجمعة ونحن عند منبر يونس بن متى قال لما فتح الله ساحل الشام على المسلمين في سنة تسع عشرة من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم كتبوا بذلك إلى أمير جيوش المسلمين أبي عبيدة عامر بن الجراح بسم الله الرحمن الرحيم من عمرو ابن العاص إلى أمين الأمة أما بعد فاني أحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وان الله جل وعلا قد فتح ما كان قد بقي من الساحل وأخذنا قيسارية صلحا وهرب منها فلسطين بن هرقل بأمواله وعياله ونحن بها ننتظر أمرك والسلام وكتب أيضا يزيد بن أبي سفيان بما تم ليوقنا في صور وان الله قد عضد الدين ووصل الكتابان إلى أبي عبيدة وقد رحل من حلب يريد طبرية فوصل اليه الخبر وهو نازل على
36

الزراعة فلما قرأ الكتابين تهلل وجهه فرحا وضج المسلمون بالتهليل والتكبير وكتب من وقته وساعته إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يبشره بما فتح الله على المسلمين وبما فعله يوقنا ووجه الكتاب مع عرفجة بن مازن فركب ناقته وسار حتى وصل المدينة قال عرفجة بن مازن وعلي من ديباج الروم قباء فاخر وعلى رأسي مطرف خز مذهب قال فلما أتيت المدينة ودخلتها يوم الجمعة أول ليلة من شهر رمضان قبل مغيب الشمس وعمر رضي الله عنه قد أتى يريد المسجد فلما أبركت ناقتي وعقلتها وجئته لأسلم عليه نظر إلي شزرا وقال من الرجل قلت عرفجة بن مازن فقال يا ابن مازن أما كان لك برسول الله أسوة حسنة وان هذه ثياب الجبارين ومن جعل الله لهم الدنيا جنة وهذا الديباج حرام على الرجال منا ولا يصلح الا للنساء وهذا الذي عليك تصدق به على فقراء المدينة أما والله لقد دخلت يوما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نائم على سرير مرمل بشريط وليس بين جلده وبين الشريط شيء وقد أثر الشريط في نعومة جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رايت ذلك بكيت
فقال لي يا عمر ما الذي أبكاك فقلت يا رسول الله ان كسرى وقيصر يعيشان في ملك الدنيا وأنت رسول الله بهذه المثابة
فقال يا عمر أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة قال عرفجة فسلمت اليه الكتاب فلما قرأه تهللت أسارير وجهه قال عرفجة ثم نزلت على خالتي عفراء بنت أبي أيوب الأنصاري وبت عندها ليلتي فلما أصبحت لم أقدر أن أقابل عمر بذلك الزي فأعطيت الثوب والعمامة لخالتي فباعتهما وتصدقت بثمنهما على فقاء المدينة قال وسرت إلى عمر وعلى ثوب من كرابيس الشام كان تحت ثيابي فلما رآني تبسم في وجهي وقال يا ابن مازن ما فعلت بديباجتك قلت يا أمير المؤمنين باعتها خالتي وتصدقت بثمنها على المسلمين فقرأ عمر * (وما تفعلوا من خير يعلمه الله) * ثم إنه كتب إلى أبي عبيدة يقول بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر ابن الخطاب إلى أبي عبيدة عامر بن الجراح أما بعد فأني أحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي علي نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وقد فرحت بما فتح الله على المسلمين وما وعدنا به رسول الله من كنوز قيصر وسيفتح علينا من كنوز كسرى والحمد لله على ذلك كثيرا وقد بلغني أن بادية الاعراب قد استلذوا الدنيا وزينتها وقد نصبت لهم شباك محبتها وقد تمسكوا بذيل غرورها ونسوا نعيم الجنة وقصورها ورفلوا في ثياب الديباج والخز وأكلوا الحلواء وخبز الحنطة لهاهم ذلك عن الآخرة وقد بلغني يا ابن الجراح أنهم قد تهاونوا بالصلاة ونسوا المفترضات فجرد عليهم عتاق الخيل ذوات الهمم وأغلظ عليهم ولا تكن لهم
37

حاملا فيطمعوا فيك ومن أخل منهم بشيء مما فرض عليهم فأقم فيهم حدود الله وأعلم بأنك راع مسؤول عن رعيته قال الله عز وجل الذين ان مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهو عن المنكر وقد قال فيك رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو عبيدة أمين هذه الأمة فأعط الأمانة حقها ومن ترك صلاته فأضربه عليها ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا ونحدثه فإذا حضرت الصلاة فكأنه لم يعرفنا ولم نعرفه اشتغالا بالصلاة وبعظمة الله وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال إن
الله عز وجل يقول إن بيوتي في الأرض المساجد وان زواري فيها عمارها بالعبادة فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني فحق على المزور أن يكرم زائره وقال صلى الله عليه وسلم جميع المفترضات افترضها الله علي في الأرض الا الصلاة فان الله افترضها علي في السماء وإذ قرأت كتابي هذا فأمر عمرو بن العاص أن يتوجه إلى مصر بعسكره ويقدمهم عامر بن ربيعة العامري ومشايخ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفضي بهم عند مشورته وأنفذ من قدرت عليه إلى أرض ربيعة وديار الجد بن صالح والله أسأل أن يكون لكم عونا ومعينا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وسلم الكتاب إلى عرفجة بن مازن وأمر له بنفقة من بيت المال
قال عرفجة فأخذت الكتاب وسرت به على طريق تيماء فلقيت عند بيت لحم ركبا من أهل وادي القرى فسألتهم عن أبي عبيدة فأخبروني أنه على غباغب وهو طالب طبرية قال عرفجة أطلب الغور والجولان وأقصد طبرية قال فالتقيت بأبي عبيدة على الأردن فسلمت عليه وناولته كتاب عمر رضي الله عنه فما قرأه جمع المسلمين وقرأه عليهم فلما فرغ قال ما من رجل ترك الصلاة أو أخل بشيء مما افترضه الله عليه الا جلدته ومن الغد أتى خالد بن الوليد من طرابلس فقرأ عليه الكتاب وأنفذه إلى عمرو بن العاص أرسل يحثه على المسير إلى أرض مصر فلما وصل الكتاب إلى عمرو أخذ على نفسه بالمسير وسار معه يزيد بن أبي سفيان وعامر بن ربيعة العامري وجماعة من الصحابة وسار معه يوقنا في أربعة آلاف من أصحابه وقد وهبوا أنفسهم لله ورسوله فسار عمرو على البيداء من وراء العريش قال وكانت أرض مصر وريفها عامرة بالديور والصوامع وكان دير الزجاج في مملكة القبط وكان ملكهم يومئذ المقوقس ابن راعيل وكان هذا الملك من أهل الرأي والتدبير والفضل والحكمة وكان تلميذ الحكيم أعاشادمون وهو الذي لما غلبت الحيات على أرض مصر واخربتها صنع لها جلجلا وكان ان حركه سمع صوته من مقدار ميل قال فتخرج الحيات من حجرتها فمن هربت نجت ومن وقعت هلكت وكان المقوقس من أعلم أهل زمانه وكانت
38

القبط معه في عيشة مرضية وكان يتوقع ظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان حكيم ذلك الزمان بمصر يقال له عطماوس وهو الذي صنع دواليب الريح ورحى الهواء وكان عمر في الأجيال واطلع على مكنون الحكم والأسرار وعرف عمل صنعة الإكسير وعمل الذهب والفضة والجوهر والحركات المتحركة من نفسها بهبوب الريح وأجناس الأهوية في أجسامها وكان يجد في عمله أن الله يبعث نبيا من أرض تهامة ينشر دينه وتعلو كلمته وتملك أصحابه البلاد فعمل في أيام راعيل أبي المقوقس هيكلا عظيما على أعمدة من نحاس بمكان يعرف بعين شمس وجعل عليه أشخاصا مجوفة وجعل وجهها إلى جهة مصر وكتب عليها بالقبطية إذا دارت هذه الأشخاص إلى جهة الحجاز فقد قرب ملك العرب قال فبينما المقوقس راكب في بعض الأيام للصيد وقت هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد انتهى سيره إلى عين شمس إذ هو سمع أصواتا من الأشخاص قد علت ثم إنها حولت وجهها نحو الحجاز فأيقن بتلف ملكه وزواله فعاد من ركوبه وهو قلق ودخل قصر الشمع وجلس على سريره وجمع القسوس والرهبان وكبراء القبط وقال لهم يا أهل دين النصرانية اعلموا أن زمانكم قد مضى وهذا النبي المبعوث لا شك فيه وهو آخر الأنبياء ولا نبي بعده وقد بعث بالرعب ولا بد لرجل من أصحابه أن يملك ما تحت سريري هذا فانظروا إلى ملككم وأصلحوا ذات بينكم وارفقوا برعيتكم ولا تجوروا في حكمكم وأمنوا ضعفاءكم وإياكم واتباع الظلم فان الظلم وبيل ومرتعه وخيم وأعطوا الحق من أنفسكم ولا يستطل قويكم على ضعيفكم وما دامت الدنيا لأحد من قبلكم حتى تدوم لكم وكما ملكتموها ممن كان قبلكم كذلك يأخذها منكم من كان بعدكم فأصلحوا نياتكم فيما بينكم وبين خالقكم فان فعلتم ذلك رجوت لكم النصر على أعدائكم ومن يريدكم وان اتبعتم أهواءكم تبين هلاككم
قال حدثنا ابن إسحاق عن عبد الملك عن أبيه عن حسان بن كعب عن عبد الواحد بن عوف عن موسى بن عمران عن حميد الطويل عن أبي إسحاق الراوي المغازي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة وبايعه الأوس والخزرج كتب إلى ملوك الأرض وفي الجملة كتابا إلى المقوقس ملك مصر وكان الذي كتب الكتاب اليه أبو بكر الصديق رضي الله عنه ونسخة ى الكتاب بسم الله الرحمن الرحيم من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صاحب مصر أما بعد فان الله أرسلني رسولا وأنزل علي كتابا قرآنا مبينا وأمرني بالانذار والاعذار ومقاتلة الكفار حتى يدينوا بديني ويدخل الناس فيه وقد دعوتك إلى الاقرار بوحدانية الله تعالى فان أنت فعلت سعدت
39

وان أنت أبيت شقيت والسلام ثم طوى الكتاب وختمه بخاتمه قال أنس بن مالك فاستخرجه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصبعه وكان فصه عليه ثلاثة أسطر السطر الأول محمد السطر الثاني رسول السطر الثالث الله ولا نقش أحد على خاتمه كنقشه قال سمرة بن عوف قلت لحميد الطويل أكان لخاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم فص أم لا قال لا أدري قال وسأل رجل جابر بن عبد الله الأنصاري فقال له في أي يد كان يتختم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال في يده اليمنى ويقول اليمنى أحق بالزينة من الشمال وفص الخاتم في يمينه وقال عبد الله بن عباس رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتختم في يمينه ثم حوله إلى يساره
حدثنا أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتختم في يساره وحدثنا جعفر بن محمد عن أبيه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي والحسن والحسين رضي الله عنهم جميعا يتختمون في اليسار قال الراوي فلما طبع الكتاب بخاتمه قال أيها الناس أيكم ينطلق بكتابي هذا إلى صاحب مصر وأجره على الله قال فوثب اليه حاطب بن أبي بلتعة القرشي وقال أنا يا رسول الله فقال له بارك الله فيك يا حاطب قال فأخذت الكتاب من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم وودعته وأصحابه وسرت إلى منزلي وشددت راحلتي وودعت أهلي واستقمت على الطريق إلى نحو مصر فلما بعدت عن المدينة بثلاثة أيام أشرفت على ماء لبني بدر
فأردت أن أورد ناقتي الماء وإذا على الماء رجلان ومعهما ناقتان ومعهما رجل آخر راكب على جواد أدهم فلما رأيتهم وقفت وإذا بالفارس أتى إلي وقال لي من أين أقبلت وأين تريد فقلت يا هذا لا تسأل عما لا يعنيك فتقع فيما يحزنك ويخزيك أنا رجل عابر سبيل وسالك طريق فقال ما إياك أردنا ولا نحوك قصدنا نحن قوم لنا دم وثأر عند محمد بن عبد الله وقد جئت أنا وهذان الرجلان وتحالفنا على أن ندهمه على غفلة فلعلنا نجد منه غرة فنقتله قال حاطب والله لقد أمكنني الله منهم فلأجعلن جهادي فيهم ولو بالخديعة فقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الحرب خدعة
فبينما أنا أخاطب الفارس وإذا بالراكبين قد وصلا إلي وقالا لي بغلظة وفظاظة ويحك لعلك من أصحاب محمد فقلت لهما لقد كاد أن يتبدل لكما الطريق عن سبيل التحقيق واني رجل مثلكما أطلب ما تطلبون وأنا قاصد يثرب وقد عولت علي صحبتكم لأكون معكم ولكن سمعت في طريقي هذا ممن أثق به أن محمدا أنفذ رسولا من أصحابه إلى مصر بكتاب فلعله في هذا الوادي فان وقعنا به قتلناه فقال صاحب الفرس أنا أسير معك ثم إنه
40

تقدم أمامي وتركنا صاحبيه واقفين ينتظران قال حاطب فلما بعدت به عن أصحابه وغبنا عنهما قلت ما اسمك قال اسمي سلاب بن عاصم الهمداني قلت يا سلاب اعلم أنه لا يقدر أن يدخل على يثرب الا من كان له جنان وقلب وغدر ومكر لان بها سادات الأرض وأبطالها مثل عمر وعلي ولكن كيف سيفك قال سيفي ماض قلت أرني إياه فاستله من غمده وسلمه إلي فأخذت السيف من يده وهززته وقلت سيف ماض ثم قلت
* سيوف حداد يالؤي بن غالب
* مواض ولكن أين للسيف ضارب
*
فقال ما معنا هذا الكلام قلت يا ابن عاصم ان سيفك هذا من ضرب قوم عاد من ولد شداد وما ملكت العرب سيفا مثله ولا أمضى من هذا السيف ولكن وجب علي أكرامك وأريد التقرب إليك بحيلة أعلمك إياها تقتل بها عدوك فقال بذمة العرب افعل ذلك فقال حاطب إذا كنت في مقام حرب وقتال وخصمك بين يديك وتريد قتله فهز هذا السيف حتى يهتز هكذا وتلتئم مضاربه واضرب عدوك بحرفه فإنه أسرع للقتل والقطع وملت بالسيف على عنقه وإذا برأسه طائر عن بدنه فنزلت اليه وأمسكت الجواد لئلا ينفلت فينذر أصحابه وتركته مربوطا إلى شجرة وأسرعت إلى صاحبيه وإذا هما ينتظراننا فلما رأياني أقبل أحدهما إلي فقال ما وراءك وأين سلاب فقلت أبشر بأخذ الثأر وكشف العار واعلم بأننا وجدنا رجلين من أصحاب محمد وهما نائمان وقد وجهني سلاب بأن يمضي أحدكما حتى نتمكن منهما ويقف أحدكما ههنا فان هذا الوادي ما خلا ساعة من أصحاب محمد فقال نعم الرأي الذي قد أشرت به وسار معي فلما غيبته عن صاحبه قلت ما اسمك قال عبد اللات قلت كن رجلا وإياك والخوف فإنك إذا رأيتنا وقد هجمنا على الرجلين فاستيقظ فقال لا بد أن أفعل ذلك فقلت له اني أرى غبرة ولا شك أن تحتها قوما ممن صبأ إلى دين محمد فجعل يتأمل كأنه الواله الحيران فعاجلته بضربة على غفلة فرميت رأسه عن بدنه وعدت إلى الثالث فلما رآني وحدي تيقن بالشر فقارعني وقارعته وصدمني وصدمته الا ان الله أعانني عليه فقتلته وأخذت الراحلتين والفرس وأسلابهما ووضعت الجميع عند رجل من أصحابي وكان رفيقا لي من زمن الجاهلية وهو من عبد شمس ثم توجهت أريد مصر ولم أزل إلى أن أتيتها فلما وصلت إلى باب الملك قالوا من اين جئت قلت أنا رسول إلى ملككم فقالوا من عند من قلت من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما سمعوا بذلك أحاطوا بي وأوصلوني إلى قصر الشمع بعد أن استأذنوا لي وأوقفوني
41

على باب الملك فأمرهم باحضاري بين يديه فعقلت راحلتي وسرت معهم عند المقوقس وإذا هو في قبة كثر الجوهر في حافتها ولمع الياقوت من أركانها والحجاب بين يديه فأومأت بتحية الاسلام فقال حاجبه يا أخا العرب أين رسالتك قال فأخرجت الكتاب فأخذه الملك من يدي بيده قال فباسه ووضعه على عينيه وقال مرحبا بكتاب النبي العربي ثم قرأه وزيره الباكلمين فقال له اقرأه جهرا فإنه من عند رجل كريم فقرأه الوزير إلى أن أتى إلى آخره فقال الملك لخادمه الكبير هات السفط الذي عندك فأتى به ففتحه واستخرج نمطا ففتح ذلك النمط وإذا فيه صفة آدم وجميع الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين وفي آخره صفة محمد صلى الله عليه وسلم فقال لي صف صاحبك حتى كأنني أراه قال حاطب ومن يقدر أن يصف عضوا من أعضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لا بد من ذلك قال فوقفت بعدما كنت جالسا وقلت إن صاحبي وسيم قسيم معتدل القامة بعيد الهامة بين كتفيه شامة وله علامة كالقمر إذا برز صاحب خشوع وديانه وعفة وصيانة صادق اللهجة واضح البهجة أشم العرنين واضح الجبين سهل الخدين رقيق الشفتين براق الثنايا بعينيه دعج وبحاجبيه زجج وصدره يترجرج وبطنه كطي الثوب المدبج له لسان فصيح ونسب صحيح وخلق مليح قال والملك ينظر في النمط فلما فرغت قال صدقت يا عربي هكذا صفته فبينما هو يخاطبني إذ نصبت الموائد وأحضروا الطعام فامرني أن أتقدم فامتنعت فتبسم وقال قد علمت ما أحل لكم وحرم عليكم ولم أقدم لك الا لحم الطير فقلت اني لا آكل في هذه الصحاف الذهب والفضة فان الله قد وعدنا بها في الجنة قال فبذلوا طعامي في صحاف فخار فأكلت فقال أي طعام أحب إلى صاحبك فقلت الدباء يعني القرع فإذا كان عندنا شيء منه آثرناه على غيره فقال ففي أي شيء يشرب الماء
فقلت في قعب من خشب قال أيحب الهدية قلت نعم فإنه قال صلى الله عليه وسلم لو دعيت إلى كراع لأجبت ولو أهدى إلي ذراع لقبلت قال أيأكل الصدقة قلت لا بل يقبل الهدية ويأبى الصدقة وقد رأيته إذا أتى بهدية لا يأكل منها حتى يأكل صاحبها فقال الملك ايكتحل قلت نعم في عينه اليمنى ثلاثا وفي اليسرى اثنتين وقال من شاء اكتحل أكثر من ذلك أو أقل وكحله الأثمد وينظر في المرآة ويرجل شعره ويستاك فقال المقوقس إذا ركب ما الذي يحمل على رأسه فقلت راية سوداء ولواء ابيض وعلى اللواء مكتوب لا إله إلا الله محمد رسول الله فقال أله كرسي يجلس عليه أو قبة قلت نعم له قبة حمراء تسع نحو الأربعين قال فما الذي يحب من الخيل قلت
42

الأشقر الأرتم الأغر المحجل في الساق وقد تركت عنده فرسا يقال لها المرعد قال فلما سمع كلامي انتخب من خيله فرسا من أفخر خيول مصر الموصوفة وأمر به
فأسرج وألجم فأعده هدية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فرسه المأمون وأرسل معه حمارا يقال له عفير وبغلة يقال لها دلدل وجارية اسمها بريرة وكانت سوداء وجارية بيضاء من أجمل بنات القبط اسمها مارية وغلام اسمه محبوب وطيب وعود وند ومسك وعمائم وقباطي وأمر وزيره أن يكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا يقول فيه باسمك اللهم من المقوقس إلى محمد أما بعد فقد وصل إلي كتابك وفهمته وأنت تقول ان الله أرسلك رسولا وفضلك تفضيلا وأنزل عليك قرآنا مبينا فكشفنا يا محمد خبرك فوجدناك أقرب داع إلى الله وأصدق من تكلم بالصدق ولولا أنثى ملكت ملكا عظيما لكنت أول من آمن بك لعلمي أنك خاتم النبيين وامام المرسلين والسلام عليك ورحمة الله وبركاته مني إلى يوم الدين قال وسلم الكتاب والهدية إلي وقبلني بين عيني وقال بالله عليك قبل بين عيني محمد عني هكذا ثم بعث معي من يوصلني إلى بلاد العرب والى مأمني قال فوجدنا قافلة من بلاد الشام وهي تريد المدينة فصحبتها إلى أن وردت المدينة فأتيت المسجد وأنخت ناقتي ودخلت وسلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنشأت أقول
* أنعم صباحا يا وسيلة أحمد
* نرجو النجاة غدا بيوم الموقف
* اني مضيت إلى الذي أرسلتني
* أطوي المهامه كالمجد المعنف
* حتى رأيت بمصر صاحب ملكهم
* فبدا إلي بمثل قول المنصف
* فقرا كتابك حين فك ختامه
* فأطل يرعد كاهتزاز المرهف
* قال البطارقة الذين تجمعوا
* ماذا يروعك من كتاب مشرف
* قال اسكتوا يا ويلكم وتيقنوا
* هذا كتاب من نبي المصحف
* قالوا وهمت فقال لست بواهم
* اني قرأت بيان لفظ الأحرف
* وبكل سطر من كتاب محمد
* خط يلوح لناظر متوقف
* هذا الكتاب كتابه لك جامعا
* يا خير مأمول بحبك نكتفي
*
قال الراوي ورجعنا إلى الفتوح قال حدثني أحمد بن عبيد عن عبد الله بن عمر السلمي عن محمد الزهري عن عبد الله بن زيد الهذلي عن أبي إسحاق الأموي وهو المعتمد عليه في فتوح مصر وأرض ربيعة والفرس
حدثنا عمر بن حفص ولم ينفرد بهذه الرواية سواه وكان أصحاب السير قد اشتغلوا بوقائع العراق وفتوحه وما تجدد من سعد بن أبي وقاص
43

وبني كسرى أنوشروان وتركوا فتوح الشام وأرض مصر فيما بعد وكان قد ارتحل عنهم فتركوه لأجل الزيادة والنقصان فيه وانما انفرد ابن إسحاق لأنه انفرد عن مشايخ ثقات قد وثق بهم من آل مخزوم اجتمع بهم في الرملة بعد الفتوح أحدهم نوفل بن ساجع المخزومي وكان عمه خالد بن الوليد وكان من المعمرين شهد تبوك مع النبي صلى الله عليه وسلم وشهد بعدها الحديبية وشهد يوم اليمامة ومسيلمة وكان مع عمرو بن العاص بأرض مصر في جميع فتوحها والثاني فهد بن عاصم بن عمرو بن سهل بن عمرو المخزومي وغيرهما من الثقات ممن شهد فتوح أرض مصر والوقائع كلها قالوا جميعا ومنهم من قال إن عمرو بن العاص لما انفصل من ساحل الشام وكتب الله سلامة المسلمين وسار متوجها يريد أرض مصر فلما كان بمكان يقال له رفح قال له يوقنا يا عمرو أنت تريد أن تدهم مصر على حين غفلة من أهلها وأنا ممن يمكني ذلك لأن ثواب الله أجل غنيمة فان قلبي ملوث بحب الدنيا واني كنت ممن أشرك بالله سواه وأنا أجتهد في الخلاص وأقاتل من كنت انصره على الكفر وعباده الصلبان والسجود للصور من دون الله وقد أخذت الاسلام بنية وقبول لأنه الحق وأريد أن أتقدم إلى أرض مصر فلعلي أجد لكم بالحيلة سبيلا فقال عمرو وفقك الله وأعانك وحفظك وصانك قال فسار يوقنا ليلا من رفح يطلب الفرماء ولم يقرب من العريش ولا القاربا وكلها حصون عامرة وقد سكنها أقوام من العرب المختلطة وكانوا يؤدون المال إلى الملك المقوقس بن راعيل وسنذكر فتوحها فيما بعد إن شاء الله تعالى قال وان يوقنا اشرف على الفرماء وكان بها وال من قبل المقوقس اسمه الرندبان والفرماء على جانب بحيرة تنيس من الشرق فرأى يوقنا خياما منصوبة وقبابا مضروبة فلما رأوا يوقنا وقع الصائح فركب من كان هناك وكانت الأخبار ترد عليهم كل وقت بما صنع الصحابة فلما
بلغهم أن قيسارية فتحت اغتموا لذلك لأنه كان فلسطين بن هرقل قد تزوج بابنة المقوقس ارمانوسة وكان قد جهزها أبوها وأرسلها مع غلمانها وأموالها إلى بلبيس ثم إنها وجهت حاجبها تميلاطوس إلى الفرماء في ألفي فارس لحفظ ذلك المكان
الاستعداد
حدثنا ابن إسحاق أخبرنا موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحرث التيمي عن أسامة ابن زيد بن أسلم قال ابن إسحاق حدثني رجل من القبط رأيته وقد دخل في دين الاسلام فقربت اليه وسألته فأخبرني أنه من قبط مصر من جند المقوقس فقلت له كيف كان من أمركم لما سمعتم بقدوم
44

المسلمين من الشام وكسر جيوش هرقل قال لما بلغنا ذلك بعث المقوقس رسله إلى جميع أطراف بلاده مما يلي الشام بأن لا يتركوا أحدا من الروم ولا غيرهم يدخل أرض مصر كل ذلك لئلا يتحدثوا بما صنع المسلمون بجنود هرقل فيدخل الرعب في قلوب قومه فلأجل ذلك أنه لما دخل يوقنا أرض مصر لم يعلم به أحد فلما ركبوا إلى لقائه ورأوا حشمه وعسكره وكانوا بزي الروم سالوه عن مكانه وكان قد أخبر في طريقه من حصن كيفا وأعلموه بابتعاد فلسطين عن زوجته أرمانوسة وان أباها قد جهزها وهي على مدينة بلبيس فقال يوقنا ومتى تزوجها قالوا تزوجها والمسلمون على حصن حلب
فقال لهم انه قد ركب في البحر وترك قيسارية وقد أرسلني حتى آخذها في المراكب من دمياط ومضى يوقنا يقول أنا قد جئت رسولا من الملك فلسطين إلى الملك المقوقس حتى يرسل معي ابنته إلى زوجها فلما سمعوا كلامه قالوا إن الملكة في بلبيس وقد أنفذها اليه وما منعها من المسير الا خوف العرب وهروب فلسطين من قيسارية فسار يوقنا حتى قرب من بلبيس فنزل هناك وسار حاجبها إليها وعرفها بما قاله يوقنا فقالت علي به فأتى اليه الحاجب وأمره بالمسير فركب وركب أصحابه وهم بأحسن زي وأتوا إلى عسكر أرمانوسة وإذا به عسكر كبير أكثر من عشرة آلاف قال فترجل يوقنا وترجل قومه ووقفوا على باب قصرها واستأذنوا عليها فأذنت لهم بالدخول فلما وقفوا بين يديها خضعوا لها فأمرت لهم بكراسي فوضعت لهم فأمرتهم بالجلوس فجلسوا ووقفت الحجاب والمماليك والخدم فقالت الملكة أرمانوسة له من غير ترجمان كم لكم عن الملك فقال شهر فقالت أكان رحل من المراكب أم قبل رحيله فقال يوقنا بل قبل رحيله وحين ركب منهزما ولما وصلت إلى غزة بلغني أنه سار وقد قال لي في السر بيني وبينه لا طاقة لنا بقتال هؤلاء العرب فان أبي هرقل ترك أنطاكية وذهب وقد قاتلهم بجميع جنوده واستنصر عليهم بجيمع دين النصرانية وأنفذ إليهم ماهان الأرمني إلى اليرموك في ألف ألف فهزموه وقتلوه واني أريد أن آخذ خزائني وأطلب القسطنطينية ثم إنه وجهني إليك أيتها الملكة لتركبي في المركب اليه
قال فلما سمعت ذلك أطرقت برأسها إلى الأرض ثم رفعت رأسها وقالت اني لا أقدر أن أصنع شيئا الا بأمر الملك أبي واني مرسلة اليه قال فقام يوقنا وصقع لها ودعا ثم خرج من عندها فوجد غلمانه قد ضربوا خيامه فنزل بها وأرسلت اليه العلوفة والضيافة قال ابن اسحن الأموي رضي الله عنه ولقد بلغني انه لما جن الليل أتت إليها الجواسيس وأعلموها بفتح قيسارية ومدائن
45

الساحل جميعها وبتوجه عمرو بن العاص إلى مصر وبحديث يوقنا صاحب حلب وحذروها منه وعرفوها بجميع الأخبار مفصلة وانه هو الذي فتح طرابلس وصور وجبلة قال فلما سمعت ذلك دخل في قلبها الرعب وعلمت انه محتال فطلبت حاجبها وقالت له مر العسكر بلبس السلاح وأن يكونوا مستيقظين فقد جرى من الأمر كذا وكذا ثم إنها أوقفت مماليكها وغلمانها وقالت لهم إذا دخل هذا الرجل وخواصه فاقبضوا عليهم فإذا نحن ملكناهم انخذل عسكر المسلمين فلما رتبت هذا أرسلت تطلب يوقنا فذهب حاجبها اليه وقال له أيها البطريق الكبير ان الملكة تطلبك لتوصيك بما تقوله لأبيها فقال له السمع والطاعة ها أنا راكب وأصحابي فذهب القاصد فقال يوقنا لأصحابه اعلموا أن الملكة شعرت بنا والقوم قد عولوا على قتلنا فان حصلنا في أيديهم قتلونا لا محالة وتضرب بنا الأمثال لمن يأتي بعدنا فموتوا كراما ولا تلقوا بأييديكم إلى القتل بأيدي الكفار وكونوا نصرة لدين الاسلام وما عسى نرجو من هذه الدنيا الغدارة التي ما صفت لأحد الا وغيرته بالكدر فاعمروا دار البقاء وجاهدوا في سبيل الله حق جهاده فلعلكم ترضونه بذلك قال فأخذ القوم على أنفسهم واشتدوا وركبوا وتوكلوا على الله في جميع أمورهم
حدثنا ابن إسحاق قال لقد بلغني أن الملكة أقامت تنتظر قدومهم لتقبض عليهم فاستبطأتهم فبعثت رسولا ثانيا تستحثهم فقال له يوقنا ارجع إلى صاحبتك وقل لها ما جرت بذلك عادة الملوك يبعثون يطلبون الرسل الا لأمر يحدث وقد كنت عندها فما الذي تريده نصف الليل مني فعاد الرسول وأخبرها بما قاله فركبت من وقتها وتقدمها حاجبها وأمرت الجيش كله أن يركب ودارت بيوقنا وأصحابه ولم تحدث بشيء إلى الصباح فأقبل صاحب الملكة إليهم وقال ما حملكم أن تركتم دين آبائكم وهجرتم دين المسيح وأمه وقد جئتم تحتالون علينا ألا وان المسيح قد غضب عليكم فقال يوقنا أن المسيح عبد من عبيد الله لا يقدر على شيء لأنه مأمور مكلف وقد أنطقه الله بذلك وهو في المهد فقال * (قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا) * ومن يؤمر بالصلاة والزكاة ويموت فليس باله انما هو عبد الله مكلف بالعبادة مثل واحد منا وان الله لا يتشبه بأحد منا وان الله لا يشبهه شيء ولا يتشبه بأحد ولقد أضلكم من صدكم عن ذلك وزاغ بكم عن طريق الحق بقوله على الله والمسيح ولقد كنا مثلكم نسجد للصلبان ونعظم القربان ونسجد للصور ونجعل مع الله الها آخر إلى أن تبين لنا دين محمد صلى الله عليه وسلم فشفانا بعد العمى وشرح صدورنا للهدى ودين الاسلام هو الدين الواضح وكنا نقول مثل
46

قولكم ان المسيح ابن الله وان إبراهيم واسحق كانا نصرانيين فكذبنا الله بقوله في كتابه ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين وقال سبحانه ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين وها نحن قد جئناكم لنجاهدكم اما أن تقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله واما الجزية واما القتال قال فلما سمع الحاجب كلامه قال لقومه دونكم وهؤلاء فقد جاءوا يريدون قتلكم وأخذ أموالكم وأولادكم وحريمكم قال فحملوا على يوقنا وأصحابه وعمل السيف بينهم بقية يومهم فلما كان من الغد ركبوا وداروا بهم وتصايحت عليهم القبط ودارت بهم الخيل والرجال فبلى يوقنا ومن معه بما لا طاقة لهم به وقتل منهم جماعة وقتلوا هم من
القبط خلقا كثيرا ولكنهم صبروا لأمر الله وقالوا والله لا نسلم أنفسنا أو نموت كلنا فقد حصل لنا ما كنا نطلب من رضا ربنا قال ابن إسحاق
حدثنا سيف بن شريح عن يونس بن زيد عن عبد الله بن عمر بن حفص عن عبد الله بن الحرث قال لما أخرت الجواسيس أرمانوسة بقصة يوقنا أنفذت كتابا إلى أبيها المقوقس تعلمه بذلك وأنها مغلوبة معهم وان العرب متوجهون مع رجل يقال له عمرو بن العاص وأنا منتظرة جوابك قال فلما وصل الكتاب اليه دعا أرباب دولته وقال لهم قد تم من الأمر علي كذا وكذا فما تشيرون به علي قالوا أيها الملك نرى لك من الأمر أن تنفذ جيشا إلى الملكة ينصرها على عدوها وتنفذ إلى جلباب ملك البرية تستنصر به على هؤلاء العرب وتنفذ إلى مازع بن قيس ملك البجاوة ينفذ لك جيشا وتنفذ إلى من بالإسكندرية يأتون والى من بالصعيد يأتون فإذا اجتمعت إليك هذه الأمم فالق بهم العرب ولا تأمن لهم فيطمعوا فيك فقال يا أهل دين النصرانية اعلموا أن الملك محتاج إلى سياسة ومن ملك عقله ملك رأيه ومن ملك رأيه أمن من حوادث دهره وليست الغلبة بالكثرة وانما هي بحسن التدبير والله لقد كان قيصر أكثر مني جندا وأوسع بلادا وأعظم عدة وقد جمع من بلاد الروم إلى اليونانية ومن اقاليمه ومن القسطنطينية ومن سائر البلاد وبلاد الأندلس واستنصر بنا وبغيرنا فما أغنى عنه جمعه شيئا ولا قدر أن يرد القضاء والقدر عنه واعلموا أن العقل أساس الآدمي المخاطب المكلف المفضل به على سائر ما خلق على الأرض فمن ملك أمره ومن لم يجد منه حظا كان بجهله ارضيا ولن تنال الحكمة الا بالعقل قال الحكيم ماسوسي ان الحكمة مرقى جليل وطالبها نبيل وتاركها ذليل لأنها غذاء الأرواح وقوت القلوب واعلموا أني لست أتكلم الا بالصدق
47

وأنتم تعلمون أن محمدا في أيامه بعث الينا يدعونا إلى دينه فاستدليت على صدق قوله بكتابه وما ظهر من معجزاته وقد سمعتم أنه لما بعث ما سمع أحد بذكره الا وخاف منه وقد سمعتم أن القمر انشق له والذراع المسموم كلمه وقال يا رسول الله أني مسموم فلا تأكلني وقد كلمه الضب والحجر والشجر والمدر وعرج به إلى السماء وركب أوج الماء وأول من تغلب عليه قومه وحاربه عشيرته حين أنكروا قوله وفعله فنصر عليهم وقهرهم وقد تبين لهم الحق فاتبعوه ونصروه وهم هؤلاء الذين فتحوا الشام وما أنكرت من أمرهم شيئا فأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون حدود الله التي أمر بها وما في كتابهم شيء الا وفي الإنجيل مثله وقد أضلكم بولس وأغواكم حين غر بكم وبدل شرعكم وسماكم باسم لا يليق بكم وكيف وقد عاد بكم من الطريق الواضح وأحل لكم جيمع ما حرم عليكم من قبل وهذا هو عين المحال وداعية العمى أن تتعدوا ما قال نبيكم وكيف نبغي لروح الله عيسى بن مريم أن يكلمكم بما لم يرسله الله إليكم ثم إن بولص قال لكم انه أحل لكم الخنزير وشرب الخمر وارتكاب المعاصي ما ظهر منها وما بظن فأطعتم أمره وصدقتم قوله وحاشا المسيح أن يفعل ذلك وما كان أحد من الأنبياء الا على ما جاء به محمد وهؤلاء الحكماء الأولون ما منهم الا من يتكلم بوحدانية الله تعالى وهذا الحكيم دمونا الذي صنع في براري اخيم ارصادا وجعلها مثلا للأمم الآتية وذكر فيها من يأتي من الأمم والأجيال إلى آخر الزمان وصور الحكماء منفردة به والنسر يعقد راس الحمل والنسر يقيم في كل برج ثلاثة آلاف سنة كما قدر بالمقدار الحكيمي وكأن قدر صور صورة وكتب على رأسها بقلم اليونانية أربعة أسطر الأول من خاف الوعيد سلم مما يريد الثاني من خاف ما بين يديه صان دموعه بما في يديه الثالث ان كنت تريد الجزيل فلا تنم ولا تقيل الرابع بادر قبل نزول ما تحاذر فمن كان هذا كلامهم فكيف صنع سواهم وهذه فريضة هؤلاء القوم المحمديين قال فأطرقوا برؤوسهم إلى الأرض غيظا على الملك قال وما تلكم المقوقس بهذا الكلام حتى أوقف عنده من مماليكه الف غلام فوق رأسه بالسيف لأنه كان قد سمع ما جرى لقيصر وهرقل مع بطارقته لما جمعهم ونصحهم فوثبوا عليه وأرادوا قتله أما المقوقس فإنه استوثق بمماليكه حتى لا يطمع فيه قال فلما تكلم بذلك قال له وزيره أيها الملك رأيك راجح وأنا أول من يؤمن بما تقول فقال للوزير اكتب إلى ابنتي كتابا تأمرها فيه أن تتلطف بالقوم وتعطيهم الأمان وتنفذهم الينا حتى نخلع عليهم وتطيب قلوبهم ويكونوا معنا يقاتلون من يريد قتالنا وما أراد بذلك الا أن يسلم مثل يوقنا وأصحابه إذ هم على الحق قال فكتب الوزير إلى
48

الملكة كتابا بما قاله أبوها فلما وصل الكتاب إليها وقرئ عليها أمرت أصحابها أن يرجعوا عن قتل يوقنا ومن معه فرجعوا وأرسلت إلى يوقنا تعلمه بكتاب أبيها وأرسلت اليه الكتاب فلما قرأه قال لرسولها امض إليها حتى استخبر الله تعالى في ذلك
فقال يوقنا لأصحابه ان الله قد كشف حجاب الغفلة عن قلب هذا الملك وقد ظهر له ما ظهر لنا من الحق فما الذي ترون من الرأي قالوا نحن نسمع من رأيك فقال دعوني هذه الليلة قال فلما جن عليه الليل قام يصلي وأمر أصحابه أن لا ينزلوا عن خيولهم مخافة من غدر القوم فبينما هو يصلي وإذا بشخص قد دخل عليه فارتاع منه ثم تأمله فإذا هو عمر بن أمية الضمري ساعي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآه يوقنا فرح وكان قد رآه مرارا فقال له مرحبا يا عمرو من أين فقال ان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بعثني إلى عمرو بن العاص لأحثه على المسير إلى مصر فوجدته قد وصل وها هو منك قريب وقد أرسلني إليك لأعرفه خبرك فأخبره بما وقع له وقال له امض يا عمرو ودعه يعجل بالمجيء يعيننا على هؤلاء القوم وحدثه بجميع ما جرى علينا فرجع عمرو مسرعا إلى عمرو بن العاص واعلمه بقصة يوقنا قال فترك عمرو بن العاص الأثقال ومعها من يحفظها وركب وسار بجرائد الخيل وترك مع الأثقال عامر بن ربيعة العامري فما كان قبل طلوع الفجر الا وهو عند يوقنا فدار بالقوم فلما أحس بهم يوقنا كبر هو ومن معه ورفع الجميع أصواتهم بالتهليل والتكبير ووضعوا السيف في القبط فما طلعت الشمس الا وقد قتل من القبط أكثر من ألف وأسر منهم خلق كثير وولى الباقي منهزمين وأخذت ارمانوسة ابنة الملك وجميع ما معها من الأموال والرجال والجواري والغلمان
فقال عمرو بن العاص لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل يزيد بن أبي سفيان وهاشم بن سعيد الطائي والقعقاع بن عمرو التميمي وخالد بن سعيد وعبد الله بن جعفر الطيار وصفوان وأمثالهم أن الله سبحانه وتعالى قد قال * (هل جزاء الإحسان) * الا الاحسان وهذا الملك قد علمتم أنه كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث هدية ونحن أحق بمن كافأ عن نبيه صلى الله عليه وسلم هديته وكان يقبل الهدية ويشكر عليها وقد رأيت أن ننفذ إلى المقوقس ابنته وما أخذنا معها ونحن نتبع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سمعته يقول ارحموا عزيز قوم ذل وغني قوم افتقر فاستصوبوا رأيه فبعث بها مكرمة مع جميع ما معها مع قيس بن سعد رضي الله
عنه
ذكر فتح مدينة مصر قال بن إسحاق الأموي رضي الله عنه لما ورد المهزمون على الملك وأخبروه بما تم عليهم وعلى ابنته ضاق صدره وبقي متفكرا فيما يصنع وليس له
49

نية في القتال مع الصحابة فبينما هو متفكر إذ جاءه البشير بقدوم بنته وما معها فخف عنه بعض ما كان يجده فلما دخل عليه قيس رفع مجلسه فوق الملوك والحجاب وأرباب دولته وكانوا قد اجتمعوا يهنئونه بابنته فلما حضر قيس بن سعد سأله الملك عن أشياء لعل أصحابه أن تلين قلوبهم إلى الاسلام فقال يا أخا العرب أخبرني عن صاحبكم ما الذي كان يركب من الخيل قال الأشقر الارتم المحجل في الساق وكان اسمه المترجل فقال لقد بلغنا أنه كان لا يركب الا الجمال فقال قيس ان الله أكرم الإبل وشرفها قال لها كوني فكانت وأخرج ناقة من الصخر وخص بها العرب من دون غيرهم من بني آدم وكان يركبها لكونها قد جعلها الله مباركة تقنع بما تجد وتصبر على الحمل الثقيل والسير الشديد وتصبر عن الماء أياما وقد ذكرها ربنا في قوله في كتابه العزيز فقال وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق وقال * (والبدن جعلناها لكم من شعائر الله) *
ولما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزواته غزوة بدر كان معه مائة ناضح من الإبل وكان معه فرسان يركب أحدهما المقداد بن الأسود الكندي ويركب الاخر مصعب بن عمير وانا لقينا قريشا في عددها وعديدها فهربوا ببركة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أصحابه يتعاقبون في الطريق وكان عليه الصلاة والسلام وعلي بن أبي طالب ومرثد بن أبي مرثد حليف حمزة بن عبد المطلب وغيرهم يتعاقبون شامخا وكان أيها الملك يركب الحمار الذي أهديته اليه ويردف وراءه معاذ بن جبل وعلى الحمار ركاب من ليف وخطامه ليف واعلم يا ملك القبط أنه كان يخصف نعله ويرقع ثوبه ويقول
من رغب عن سنتي فليس مني وكان قميصه من القطن قصير الطول والكمين ليس له ازرار ولقد أهدى اليه ذويزن حلة اشتراها له قومه بثلاثة وثلاثين بعيرا فلبسها رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة واحدة وأهدى له جبة من الشام فلبسها حتى تخرقت وخفين فلبسهما حتى تخرقا وكان له رداء طوله أربعة أذرع وعرضه ذراعات ونصف وكان له ثوب خز يلبسه للوفد إذا قدموا عليه وكان افصح الناس إذا تكلم بكلمة يرددها ثلاثا وكلما رأى قوما سلم عليهم ورأيته كلما تحدث تبسم في حديثه وكان إذا اجتمع اليه أصحابه وأراد ان ينهض قال
سبحانك اللهم وبحمدك اشهد ان لا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك قلنا يا رسول الله ان هذه الكلمات اتخذتهن عادة قال امرني بهن جبريل وأخرجت لنا زوجته لما قبض كساء وازارا غليظين وقالت قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق هذين فقال المقوقس هذه والله أخلاق الأنبياء فطوبى لمن اتبعه فان أمته هي الأمة الموصوفة في الإنجيل فقال بعض من حضر أيها الملك ما تكون أمة عند
50

الله أفضل من هذه الأمة وهم نحن فغضب الملك من قوله وقال وبأي شيء أنتم أفضل عند الله أبأكلكم الحرام وارتكابكم الآثام وصنعكم المنكرات وتجنبكم الحسنات وظلمكم في الرعية وميلكم إلى الدنيا أين أنتم من قوم عبر عليهم الإسكندر فرآهم ليس بينهم قاض ولا حاكم ولا أمير قائم عليهم ولا فيهم من يختص بالغنى دون أخيه بل هم سواء في كل ما هم فيه أكلهم وشربهم واحد غير متناف ولامتضاد وملبسهم غير متناف ولا متباعد فتعجب الإسكندر منهم وسأل الأكابر منهم عما رآه من أحوالهم فقالوا أيها الملك انا وجدنا جمجمة وعليها مكتوب يا ابن آدم ما خلقت الا من التراب وقد خلوت بما قدمت اما صالحا فيسرك واما طالحا فيضرك فتندم حيث لا ينفعك الندم ولم يكن لك إلى الدنيا مرجع فطوبى للكيس العاقل الذي ليس ببليد ولا غافل يتزود إلى ما اليه يصير ولا يلقي الاتكال على التقصير فبادر إلى الخير قبل الموت واغتنم حياتك قبل الفوت وكأنك بالحي وقد هلك وترك كل ما ملك فلما قرأنا هذا اعتبرنا أيها الملك بهذه الموعظة البالغة ولبسنا أثوابها السابغة فقال ما بال مساجدكم شاسعة نائية وقبوركم دانية فقالوا أما مساجدنا فبعيدة ليكثر الاجر بكثرة الخطا وقبورنا قريبة لنذكر الموت فننتهي عن الخطأ فقال مالي أرى أبوابكم بغير غلاق قالوا لأننا ما فينا خائن ولا سرق فقال ما لي لا أرى فيكم أميرا ولا حاكما فقالوا لأننا ما فينا معتد ولا ظالم فقال ما لي لا أرى فيكم معسرا ولا فقيرا قالوا لان رزق الله فينا الكبير والصغير ثم إنهم أخرجوا له جمجمتين عظيمتين فقالوا أيها الملك هذه جمجمة رجل عادل سالم وهذه جمجمة رجل ظالم وكلاهما صار إلى هذا المصير ولم يغن عنهما الجمع والتدبير أما العادل فمسرور ريان وأما الظالم فنادم حيران فاز المتقي وخسر الشقي فاختر ما تراه قبل الحين أيها الملك لأنك قد ملكت النواصي ونفذ أمرك في الداني والقاصي واستخلفك الله في الأرض وأمرك بالقيام بالنفل والفرض فتذكر مرجعك ورمسك واعمل لنفسك واعلم أنه لا ينفعك جدك إذا قبضت روحك واشتمل عليك لحدك فاترك أوامر الشيطان ودواعيه وخذ بأوامر الرحمن ونواهيه ولا يغرنك النعيم فتبوء بالاثم العظيم اذكر أيها الملك ما فعل الشيطان بأبيك حين نصب له مكيدته وأدار عليه حيلته فنصب له فخ العداوة وغره فيه بحبة البر فقال قيس أيها الملك أتدري من أولئك قال لا قال هم قوم مؤمنون قال الله عنهم في كتابه وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون وقد رآهم نبينا صلى الله عليه وسلم ليلة عرج به فلما عاد أخبر أصحابه بهم قالوا يا رسول الله أهم قوم مؤمنون بما أنزل
51

عليك فأراد أن يعلمهم أن أمة محمد أفضل منهم فأنزل الله * (وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) * فقال المقوقس لقيس بن سعد يا أخا العرب ارجع إلى أصحابك وأخبرهم بما سمعت وبما رايت وانظر فيما يستقر عندكم وبينكم فقال قيس أيها الملك لا بد لنا منكم ولا ينجيكم منا الا الاسلام أو أداء الجزية أو القتال فقال المقوقس أنا اعرض ذلك عليهم واعلم أنهم لا يجيبون لان قلوبهم قاسية من أكل الحرام
حدثنا ابن إسحاق رضي الله عنه حدثنا عبد الله بن سهل عن عدى بن حاطب عن أبا سليمان
ابن يحيى قال إن الملك المقوقس كان من عادته أنه في شهر رمضان لا يخرج إلى رعيته ولا يظهر لأحد من أرباب دولته ولا أحد منهم يعلم ما كان يصنع وكانت مخاطبته لقيس بن سعد في أواخر شعبان سنة عشرين من الهجرة فخرج قيس من عنده ومضى إلى عمرو بن العاص وحدثه بما كان منه قال ابن إسحاق وكان ولي عهد الملك ولده
اسطوليس وكان جبارا عنيدا وانه لما سمع ما تحدث به أبوه رأى ميله إلى الاسلام وعلم أنه لا يقاتلهم وربما أسلم وسلم إليهم ملكه صبر إلى أن دخل أبوه إلى خلوته التي اعتاد أن يدخلها ويختلي فيها كل سنة فجمع أرباب الدولة في الخفية لئلا يدري به أحد فيعلم أباه وقال لهم اعلموا أنكم قد ملكتم هذا الملك وان أبي يريد أن يسلمه إلى العرب لأنني فهمت من كلامه ذلك فقالوا أيها الملك أنت تعلم أن هذا الامر مرجعه إليك وأنت ولي عهده فاعمل أمرا يعود صلاحه عليك وعلينا قال فطلب صاحب شراب أبيه وأعطاه ألف دينار ووعده بكل جميل وأعطاه سما وقال له ضعه في شرابه قال ففعل الساقي ما أمر به وسقي الملك فمات فأتى الساقي إلى أرسطوليس وأعلمه ان أباه قد مات فذهب اليه ودفنه في الخفية وقتل الساقي وجلس على سرير الملك كأنه نائب عن أبيه إذا غاب كعادته في كل عام ولم يعلم أحد بموته هذا ما كان منه وأما عمرو بن العاص فإنه ارتحل من بلبيس ونزل على قليوب وبعث إلى أهل البلاد والقرى وطيب خواطرهم وقال لهم لا يرحل أحد من بلده ونحن نقنع بما توصلونه الينا من الطعام والعلوفة فأجابوا إلى ذلك وارتحل من قليوب ونزل على بحر الحصى فارتجت بنزولهم إليها ووقع التشويش فيهم وعلا الضجيج وأغلقوا الدروب والدكاكين ووقف أهل كل درب على دربهم بالسلاح ليحموا حريمهم قال وأما عمرو بن العاص فإنه أمر أهل اليمن ومن معه من العربان أن يحدقوا بالبلد وأن أهل البلاد أقبلت إليهم بالعلوفة والطعام والخيرات وهم يردون عليهم من كل فج
ثم إن عمرو أراد أن يرسل إلى صاحب مصر رسولا وكان عنده غلام له
52

من أهل الرملة وكان اسمه وردان وكان يعرف سائر الألسن فقال له عمرو يا وردان اني أريد أن أرسلك إلى هؤلاء القبط فإنك تعرف بلسانهم ولا تظهر لهم أنك تعرفه فقال سمعا وطاعة فقال أريد أن أكتب معك كتابا وهم أن يكتب وإذا برسول أرسطوليس قد أقبل وقال يا معاشر العرب ان ولي عهد الملك يريد منكم أن تبعثوا له رجلا منكم ليخاطبه بما في نفسه فلعل الله ان يصلح ذات بينكم فقال عمرو ليزيد بن أبي سفيان ولهاشم الطائي ولعبد الله بن جعفر الطيار وللنعمان بن المنذر ولسعيد بن وائل اعلموا أني قد ضربت على ملوك الروم ولست أرى من يتكلم مثلي وما يسير إلى هؤلاء الا أنا فاني أريد أن أرد القوم وأنظر حالهم وما هم فيه من القوة وأن لا يخفى علي شيء من أمرهم فقالوا يا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قوى الله عزمك وما عندنا الا النصيحة للدين والنظر في مصالح المسلمين فافعل ما أردت تعان فقال لشرحبيل قد قلدتك أمور المسلمين فكن مكاني حتى أمضي إلى القوم وآتيكم بما فيه فقال له شرحبيل الله يوفقك ويسددك قال فلبس عمرو ثوبا من كرابيس الشام وتحته جبة صوف وتقلد بسيفه وركب جواده وسار ومعه غلامه وردان وسار الثلاثة إلى قصر الشمع وإذا هم بالمواكب مصطفة والعساكر واقفة وهم بالدروع والجواشن والعدد وقد أظهروا ما أمكنهم من القوة فلما وصلوا إلى قصر الملك أخبروا ارسطوليس أن رسولك أتى بواحد من العرب فأمرهم باحضاره فدخل عمرو راكبا وهو متقلد بسيفه فأراد الحجاب أن ينزلوه عن جواده فأبى وان يأخذوا سيفه فأبى وقال ما كنت بالذي أنزل عن حصاني ولا أسلم سيفي فان أذن صاحبكم ان أدخل على حالتي والا رجعت من حيث أتيت فإننا قوم قد اعزنا الله بالايمان ونصرنا بالاسلام فما لنا أن ننزل لأهل الشرك والطغيان وأنتم طلبتمونا ونحن لم نطلبكم فأعلموا الملك بما قاله فقال أرسطوليس دعوه يدخل كيف شاء فخرجوا اليه وقالوا له ادخل كيف أردت فدخل عمرو وهو راكب حتى وصل إلى قبة الملك ورأى السريرية والحجاب وقوفا والبطارقة وهم في زينة عظيمة فلما رأى عمرو ذلك تبسم وقرأ * (فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون) * قال وكان قصر الملك قد بناه الريان بن الوليد بن أرسلاووس وهو الذي استخلف يوسف على مصر بعد العزيز ثم خرب وأقام خرابا خمسمائة سنة وما بقي الا اثره فلما بعث عيسى وانتشرت دعوته ورفعه الله اليه وافترقت أمته فرقا وادعوا فيه ما ادعوا من الإلهية وتقول الكذب ولي مصر رجاليس بن مقراطيس فبنى ذلك القصر الخراب وهو في وسط قصر الشمع وانما سمي قصر الشمع لأنه لا يخلو من شمع الملوك فلما بناه أحضر الحكماء الذين كانوا
53

قد بنوا في برية الحميم وكان المقدم عليهم قربانس فقال لهم اني قد قرأت كثيرا من الكتب التي أنزلت على الأنبياء من الله وقرأت صحف موسى ورأيت أن الله يبعث نبيا قوله حق ودينه صدق واخلاقه طاهرة وشريعته ظاهرة وقد بشر به المسيح فما تقولون فيه فقال قربانس الحكيم ان الذي قرأته هو الصحيح قال فثم من يخالف ذلك
قالوا نعم قال الحكيم أريد أن أصنع تمثالا من الحكمة ونجعله بيتا للعبادة ونجعل على هيكلها تماثيل يكون وجوهها مما يلي التمثال بأعلى قصرك فإذا جاء وقت مبعث هذا النبي يحول كل تمثال وجهه عن صاحبه وأما الذي يجعل على الكنيسة فإنه عند مبعث النبي العربي يقع على وجهه ويكون موضع عبادة القوم وإقامة شرعهم قال فأخذوا في عمل الحكمة وأقاموا التماثيل على ما ذكرنا فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم حول كل شخص وجهه عن صاحبه وسقط الذي كان على سطح الكنيسة وهو الجامع اليوم وأما التمثال العالي فبقي على حاله بأعلى القصر فلما دخل عمرو بجواده سمعوا من التمثال صوتا عظيما ثم إنه سقط على وجهه فارتاع له الملك وأرباب دولته وصكوا وجوههم ودخل الرعب في قلوبهم وقالوا بلسانهم ما وقع هذا التماثل إلا عند دخول هذا العربي وما جرى هذا الا لأمر عظيم ولا شك أنه هو الذي يقلع دولتنا ويأخذ ملكنا فامروا عمرا أن ينزل عن جواده فنزل وترجل وجلس حيث انتهى به المجلس وأمسك عنان جواده بيده ويده اليسرى على مقبض سيفه ونظر إلى زينتهم وزخرفة قصرهم فقرأ * (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكؤون وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين) * ثم قال اعلموا أن الدينا دار زوال وفناء والآخرة هي دار البقاء أما سمعتم ما كان من نبيكم عيسى وزهده وورعه كان لباسه الشعر ووساده الحجر وسراجه القمر وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم
ان الله أوحى إلى عيسى أن نح على نفسك في الفلوات وعاتبها في الفلوات وسارع إلى الصلوات واستعمل الحسنات وتجنب السيئات وابك على
نفسك بكاء من ودع الأهل والأولاد وأصبح وحيدا في البلاد وكن يقظان إذا نامت العيون خوفا من الامر الذي لا بد أن يكون فإذا كان روح الله وكلمته خوف بهذا التخويف فكيف يكون المكلف الضعيف وأول من تكلم في المهد قال إني عبد الله فإذا كان أقر لله بالعبودية فلم تنسبون اليه الربوبية تعالى الله ما اتخذ صاحبة ولا ولدا ولا أشرك في
حكمه أحدا جل عن الصاحبة والأولاد والشركاء والأضداد لا صاحبه له ولا ولد ولا شريك له ولا وزير
54

ليس لأوليته ابتداء ولا لآخريته انتهاء ولا يحويه مكان ليس بجسم فيمس ولا بجوهر فيحس لا يوصف بالسكون والحركات ولا بالحلول والكيفيات ولا تحتوي عليه الكميات ولا المنافع ولا المضرات ثم إنه قرأ ان كل من في السماوات والأرض الا آتي الرحمن عبدا لقد احصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا فقال له الوزير أصح عندكم معاشر العرب ان المسيح تكلم في المهد قال نعم قالوا له فهذه فضيلة قد انفرد بها عن جميع الأنبياء فقال عمرو قد تكلم في المهد أطفال منهم صاحب يوسف وصاحب جريج وصاحب الأخدود وغيرهم فقالوا يا عربي أتكلم نبيكم بغير العربية قال لا قال الله في كتابه وما أرسلنا من رسول الا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء قالوا أبعث الله منكم أنبياء غير نبيكم قال نعم قالوا من قال صالح وشعيب ولوط وهود قال فلما سمعوا كلام عمرو وفصاحته وجوابه الحاضر قالوا بالقبطية للملك ان هذا العربي فصيح اللسان جريء الجنان ولا شك أنه المقدم على قومه وصاحب الجيش فلو قبضت عليه لانهزم أصحابه عنا قال وغلام عمرو وردان يسمع ذلك فقال الملك انه لا يجوز لنا أن نغدر برسول لا سيما ونحن استدعيناه الينا فقال وردان بلسان آخر ما قالوه ففهم عمرو كلامه
ثم إن الملك قال يا أخا العرب ما الذي تريدون منا وما قصدنا أحد الا ورجع بالخيبة وانا قد كاتبنا النوبة والبجاوة وكأنكم بهم قد وصلوا الينا فقال عمرو اننا لا نخاف من كثرة الجيوش والأمم وان الله قد وعدنا النصر وأن يورثنا الأرض ونحن ندعوكم إلى خصلة من ثلاث اما الاسلام واما الجزية واما القتال فقالوا انا لا نبرم أمرا الا بمشورة الملك المقوقس وقد دخل خلوته ولكن يا أخا العرب ما نظن أن في أصحابك من هو أقوى منك جنانا ولا افصح منك لسانا فقال عمرو أنا ألكن لسانا ممن في صحابي ومنهم من لو تكلم لعلمت أني أقاس به فقال الملك هذا من المحال أن يكون فيهم مثلك فقال أن أحب الملك أن آتيه بعشرة منهم من يسمع خطابهم فقال الملك ارسل فاطلبهم فقال عمرو لا يأتون برسالة وانما ان أراد الملك مضيت وأتيت بهم فقال الملك لوزرائه إذا حضروا قبضنا عليهم والأحد عشر أحسن من الواحد ووردان يفهم ذلك ثم إن الملك قال لعمرو امض ولا تبطىء علي فوثب عمرو قائما وركب جواده فقال الملك بالقبطية لأقتلنهم أجمعين فلما خرج من مصر قال له وردان ما قاله الملك فلما وصل إلى الجيش أقبلت الصحابة وسلموا عليه وهم يقولون والله يا عمرو لقد ساءت بك الظنون فأقبل يحدثهم بما وقع له معهم وبما قالوه وبما قاله
55

وردان فحمدوا الله على سلامته وكان أقبل الليل فلما أصبح صلى عمرو بالناس صلاة الفجر وأمرهم بالتأهب للقتال وإذا برسول الملك قد أقبل وقال له أن الملك ينتظرك أنت والعشرة فقال عمرو ان الغدر يهلك أصحابه وأهله وان على الباغي تدور الدوائر يا ويلكم ينفذ صاحبكم يطلب منا رسولا فلما أتيته أراد أن يقض علي وقال كذا وكذا فأنت يا ويلك ما الذي يمنعني عنك إذا أردت قتلك ولسنا نحن ممن يخون ويغدر ارجع اليه وقل له اني فهمت ما قاله وما بقي بيننا وبينه الا الحرب قال ابن إسحاق رحمه الله ورضي عنه هكذا وقع له مع القبط وكان عمرو إذا ذكر ذلك يقول لا والذي نجاني من القبط قال وعاد الرسول وأخبر الملك بما قاله عمرو فعند ذلك قال أريد أن أدبر حيلة أدهمهم بها فقال الوزير اعلم أيها الملك ان القوم متيقظون لأنفسهم لا يكاد أحد أن يصل إليهم بحيلة ولكن بلغني أن القوم لهم يوم في الجمعة يعظمونه كتعظيمنا يوم الأحد وهو عندهم يوم عظيم وأرى لهم من الرأي أن تكمن لهم كمينا مما يلي الجبل المقطم فإذا دخلوا في صلاتهم يأتي إليهم الكمين ويضع فيهم السيف قال فأجابه الملك إلى ذلك وأقاموا ينتظرون ليلة الجمعة قال وأما عمرو فإنه ارسل يوقنا إلى القرى التي صالحوها ليأتيه منها بما يأكلونه ويعلفون به خيلهم قال فركب يوقنا إلى القرى التي صالحوها وسار في عسكره وبني عمه إلى ما يأتي به ومضى نحو الجرف وكان معهم جواسيس الملك في عسكرهم فاتوا إلى الملك وأخبروه بما جرى من المسلمين فعندها دعا بابن عمه ماسيوس وهو المقدم على جيوش مصر وقال له اختر من جيوشنا أربعة آلاف وأمض بهم وأكمن وراء عسكر المسلمين من جهة الجبل وإياك أن يظهر عليكم أحد وليكن لكم ديدبان فإذا دخل القوم في صلاتهم فاحملوا عليهم وضعوا فيهم السيف قال ففعل ماسيوس ما أمره به الملك ومضى في الليل من نحو مغارة السودان ولم يعلم بهم أحد فلما كان وقت صلاة الجمعة أتاهم الديدبان وأعلمهم أنهم دخلوا في الصلاة وكانوا قد أخذوا بغالا ودواب وحملوها برا وشعيرا وكان قد قال لهم إذا أردتم أن تحملوا عليهم فقدموا الحمول أمامكم فإنهم يأمنون ويحسبون أنها هي التي مضى صاحبهم يأتي بها قال ففعلوا ذلك
حدثنا ابن إسحاق حدثنا عمارة بن وهب عن سعيد بن عامر أبا سليمان
بن ناقد عن عروة عن جابر عن محمد بن إسحاق قال هكذا دبر عليهم القبط وكان بين القوم وبينهم نصف ميل وليس عند المسلمين خبر ما صنع المشركون وكان سعيد بن نوفل العدوي يقول لعمرو أيها الأمير ما الذي يمسكنا عن قتال هؤلاء القبط فيقول والله ما تأخري جزع وانما قد علمتم
56

قصد هذا الملك المقوقس وما عليه من الدين والعقل وهو مقر بنبوة نبينا وقد دخل إلى خلوته التي سنها لنفسه في هذا الشهر المعظم وقد بقي منه خمسة أيام ويظهر ونبعث اليه رسولا ونرى ما يكون جوابه فاما الصلح واما القتال قال فبينما هم يتحادثون في ذلك إذ أتاهم رسول من عند أرسطوليس بن المقوقس وقال لهم معاشر العرب ان ولي عهد الملك يسلم عليكم ويقول لكم أني لا أقدر أن أحدث أمرا حتى يخرج الملك من خلوته وقد بقي له خمسة أيام وهو يدبر في رعيته بما يشاء فقال له عمرو قد علمنا ذلك ولولا الملك وما نعلم منه أنه يحب نبينا وأنه مؤمن به ما أمهلناكم طرفة عين فمضى الرسول قال ابن إسحاق وما بعث هذا اللعين هذا الرسول الا ليطمئن المسلمون وليقضي الله أمرا كان مفعولا وإذا جاء القدر لا ينفع الحذر وإذا أراد الله أمرا هيأ أسبابه
قال الراوي فكان المسلمون قد أطمأنت قلوبهم بذلك الخبر وقربت الصلاة فقام عمرو وخطبهم خطبة بليغة حذر فيها وأنذر فلما فرغ أقيمت الصلاة وأقاموا مواليهم يرقبون مخافة العدو أن يكبسهم في صلاتهم قال صابر بن قيس ونحن لا نرى أحدا من أهل مصر لا فارسا ولا راجلا قال فاصطففنا خلف عمرو للصلاة وليس بينا لنا عدو نخافه فلما أحرمنا وقرأ عمرو ركعنا وأومأنا للسجود إذ أشرفت الدواب والبغال وعلى ظهورها الأحمال والعسكر من ورائها وهم أهل الكمين الذي أكمنه أعداء الله وهم على عدد أصحابنا الذين مع يوقنا فلما رآهم موالينا ظنوا أنهم أصحابنا وقد أقبلوا بالعلوفة فرفعوا أصواتهم بالفرح وقالوا جاء يوقنا وأصحابه ولم يكلمهم العدو حتى أتونا ونحن في
الصلاة ووضعوا السيف فينا ونحن ساجدون السجدة الأخيرة ونحن بين يدي الله تعالى قال وإذا بالسيوف تقرقع في لحومهم وما أحد منهم قام من سجوده وكان القتل في آخر صف من المصلين والصف الذي يليه وهم من اليمين ومن بجيلة ومن وادي القرى ومن الطائف ومن وادي نخلة ثم قال ابن عتبة وكنت قد شهدت وقائع الشام وحضرموت واليرموك فوالله ما قتل منا في وقعة من الوقائع مثل ما قتل منا يوم بحر الحصى في أرض مصر بالحيلة التي دبرها عدو الله علينا وقال والله ما منا من انحرف عن صلاته ولا حول وجهه عن ربه وقد أيقنا بالهلاك عن آخرنا حتى أشرف علينا يوقنا بأصحابه فلما نظروا ما حل بالمسلمين صاحوا ورموا ما على رؤوسهم من العمائم وقال يوقنا لبني عمه والله من قصر منكم عن عدوه فالله يطالبه به يوم القيامة وما أرى الا أن الأعداء قد غدروا وكبسوا المسلمين فدوروا من حولهم وضعوا السيوف فيهم واحذروا أن ينفلت منهم
57

أحدا فحملوا وأطبقوا على القبط فدفعوهم عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يزل القتال بينهم حتى فرغ عمرو من الصلاة ومن معه وثاروا ثوران الأسد وركب عمرو ومعاذ وسعيد بن زيد وجميع الصحابة وحملوا في العدو وطحنوهم طحنا قال جابر بن أوس وحلنا بينهم وبين الوصول إلى مصر فوالله ما نجا منهم أحدا وبقوا كأنهم طيور وقعت عليهم شبكة صياد فلما وضعت الحرب أوزارها هنأ المسلمون بعضهم بعضا بالسلامة وشكروا الله على ما أولاهم من نصره واثنوا على يوقنا خبرا وافتقدوا قتلاهم فكانوا أربعمائة وستة وثلاثين قد ختم الله لهم بالشهادة قال واتصل الخبر إلى أرسطوليس بقتل ابن عمه ومن معه وانهم لم ينج منهم أحد فصعب عليه ذلك وأيقن بهلاكه فدعا ببطارقته وأرباب دولته وشاورهم في أمره فقالوا أيها الملك أنت تعلم بأن الدنيا ما دامت لأحد ممن كان قبلك حتى تدوم لك وما زالت الملوك تنكسر وتعود وما أنت بأكثر ممن انهزم من ملوك الأرض وقد سمعنا أن داونوس بن اردين بن هرمز بن كنعان بن يزحور الفارسي هزمه الإسكندر الرومي سبعين مرة فأخرج إلى لقاء القوم واضرب معهم مصاف ولا تيأس وهؤلاء القسوس والرهبان والشمامسة والمطران والبترك يدعون لك بالنصر قال فعول على لقاء المسلمين وفتح خزائن أبيه وأنفق على الجند وأعطاهم السلاح وطلب شباب مصر وأمرهم بالخروج وبعث يستنجد بملك النوبة وملك البجاوة وأقام مدة ينتظر قدومهم
قال حدثنا محمد بن إسحاق القرشي عن عقبة بن صفوان عن عبد الرحمن بن جبير عن أبيه قال لما كان من أمر المسلمين ما ذكرنا مما قد قدره الله عليهم من كبسة عدوهم كتب بذلك عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بسم الله الرحمن الرحيم من عمرو ابن العاص إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب سلام عليك واني أحمدج الله إليك وأصلي على نبيه أما بعد فقد وصلت إلى مصر سالما وجرى لنا على بلدة بلبيس مع ابنة المقوقس كذا وكذا ونصرنا الله عليهم ورحلنا إلى بحر الحصى وقد كنا صالحنا قوما من أهل قرى بلاد مصر ببلاد يقال لها الجرف حتى يعينونا بالعلوفة والميرة ويجلبوا الينا الطعام واني أرسلت عبد الله يوقنا ليشتري لنا منهم طعاما ومضى في خيله وسرت بنفسي رسولا إلى مخاطبة القوم فهموا بالقبض علي ونجاني الله منهم وانهم أكمنوا لنا كمينا من الليل واشغلونا برسول والكمين كان من الليل فلما استوت صفوفنا للصلاة كبسوا علينا ونحن في الصلاة فلم نشعر حتى بذلوا فينا السيف وقتلوا منا أربعمائة وستة وثلاثين رجلا والأعيان منهم ستون ختم الله لهم بالشهادة ونحن الآن في بحر متلاطم أمواجه من كثرة القوم والعساكر فانجدنا يا أمير المؤمنين وأدركنا بعسكر ليعيننا على عدونا
58

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وختم الكتاب وأعطاه عبد الله بن قرط فسار من ساعته وجد في السير إلى أن وصل المدينة فقدمها في العشر الأوسط من شوال سنة اثنين وعشرين من الهجرة فأناخ مطيته بباب المسجد ودخل فرأى عمر بن الخطاب عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن قرط فدفعت الكتاب اليه فنظر إلي وقال عبد الله قلت نعم قال من أين أتيت قلت من مصر من عند عمرو بن العاص قال مرحبا بك يا ابن قرط ثم فك الكتاب وقرأه وقال لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم ثم قال من ترك الحزم وراء ظهره تباعدت عنه فسيحات الخطأ ووالله ما علمت عميرا الا حازم الرأي مليح التدبير ضابط الامر حسن السياسة ولكن إذا نزل القضاء عمي البصر ثم إنه كتب كتابا إلى أبي عبيدة وذكر له ما جرى لعمرو بن العاص بمصر وأمره أن ينفذ اليه جيشا عرمرما وانفذ الكتاب مع سالم مولى أبي عبيدة قال عبد الله بن قرط فأقمت في المدينة يومين واستأذنته في المسير فزودني من بيت المال وكتب إلى عمرو يقول بسم الله الرحمن الرحيم من عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص أما بعد فاني أحمد لاله الذي لا إله إلا هو وأصلي وأسلم على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وقد بلغني ما جرى لكم بمصر من غدر عدوكم كما سبق في أم الكتاب وكان يجب عليك يا بن العاص أن لا تطمئن إلى عدوك ولا تسمع منه حيلة وما كنت أعرفك الا حسن الرأي والتدبير ولكن ليقضي الله امرا كان مفعولا فاستعمل النشاط في أمرك ولا تأمن لعدوك واستعمل الحذر فان الامام ما يكون الا على حذر والله يعيننا وإياك على طاعته وقد أنفذت إلى أبي عبيدة أن يرسل إليكم جيشا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وختمه وسلمه لعبد الله ابن قرط قال فأخذته وسرت وأنا أجد السير حتى أتيت مصر ودفعت الكتاب لعمرو بن العاص فقرأه على المسلمين ففرحوا بذلك وأقاموا ينتظرون اخوانهم
كبسة الجيش
حدثني ابن إسحاق حدثني سهل بن عبد ربه عن موسى عبد الرزاق قال لما كبس ابن المقوقس جيش المسلمين ورجعت دائرة السوء عليه وقتلوا عن آخرهم وبلغه الخبر بكى على ابن عمه وحلف بما يعتقده من دينه انه لا بد له أن يأخذ بثأرهم ثم أنه أمر أرباب دولته أن يجتمعوا بالكنيسة المعلقة في داخل قصر الشمع فاجتمعوا فجلس على سرير عند المذبح وقام فيهم خطيبا فقال يا أهل دين النصرانية وبني ماء المعمودية اعلموا أن ملككم عقيم وبلدكم عظيم وهذه بلاد الفراعنة ممن كان قبلكم وقد ملكها عدة ملوك ممن احتوى على الأقاليم وملكها مثل الملك المعظم من آل حمير ومثل مستفان والبستق
59

والملحان وهو يأتي هذه الأهرام ونمرود ابن كنعان ولقمان بن عاد وذي القرنين الملك العظيم وانقضى ملكهم منها ورجع إلى سبأ وأرضها وحضرموت وقصر عمان ثم تولى هذه الأرض القبط من آبائكم وأجدادكم اطسليس وبلينوس والريان بن الوليد وهو الذي استخلص يوسف لنفسه والوليد وهو المكنى بفرعون وبعدهم طبلهاوس ثم جدي
راعيل ثم أبي المقوقس وجميع ملوك الأرض تحسدنا على ملك مصر وهؤلاء العرب الطماعة وليس في العرب أطمع منهم فاني أراكم قد كسلتم وفشلتم عن لقائهم فطمعوا فيكم وفي ملككم كما طمعوا في ملك الشام وانتزعوه من أيدي القياصرة فقاتلوا عن أموالكم وحريمكم وأولادكم وأما أنا فواحد منكم وأعلموا أن الملك المقوقس قد أمرني بلقاء هؤلاء العرب وقال إنه لا يظهر إليهم حتى أرى ما يظهر من قومي وأرباب دولتي فما تقولون وما الذي اجتمع عليه رأيكم فقالوا أيها الملك انما نحن عبيد هذه الدولة وغلمانها فإنها قد استعبدت رقابنا بنعمتها واحسانها ونحن نقاتل لمحبتها فاما ان نرزق النصر من المسيح واما أن نموت فنستريح قال فشكر قولهم وخلع على أكابرهم وقال لهم اخرجوا واضربوا خيامكم ظاهر البلد مع القوم وطاولوهم بالمبادرة إلى أن يأتي الينا نجدة من ملك النوبة والبجاوة فأجابوا إلى ذلك وأمروا غلمانهم بأن يضربوا الخيام خارج البلد فضربوها مما يلي النور والرصد
قال ابن إسحاق وفي ليلتهم تلك جاءتهم الأخبار بأنه وقع بين ملك النوبة وملك البجاوة حرب وأنه ما يجيبكم منهم أحد وأخرجوا للملك ارمطوليس سرادقا معظما وسط جيش القبط قال وأخذ المسلمون على أنفسهم واقبلوا يخرصون بعضهم ويحرسون قومهم بالنوبة فكان عمرو في أول الليل يطوف حول العسكر ومعاذ إذا انتصف الليل ويزيد بن أبي سفيان في آخر الليل والنور على عسكرهم والايمان لائح عليهم وأصواتهم مرتفعة بالقرآن وبذكر الله وبالصلاة على نبيه صلى الله عليه وسلم قال ابن إسحاق فلما وصل كتاب عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة وقرأه على المسلمين قال لخالد بن الوليد يا أبا أبا سليمان
ما ترى من الرأي فقال إذا كان أمير المؤمنين أمرك أن تنجد عمرو بن العاص فانجده فقال أبو عبيدة ان الطريق إلى مصر بعيد وان أنا أرسلت جيشا كبيرا خفت عليه من بعد الطريق ومن المشقة فقال خالد كم جهدك أن ترسل قال أربعة آلاف فارس فقال خالد ان الله كفاك ذلك قال وكيف ذلك يا أبا أبا سليمان
قال إن عزمت على ما ذكرت فابعث أربعة من المسلمين فهم مقام أربعة آلاف فارس فقال أبو عبيدة من الأربعة قال خالد أنا أحد الأربعة والمقداد بن الأسود وعمار بن ياسر ومالك بن الحرث
60

فلما سمع أبو عبيدة ذلك تهلل وجهه وقال يا أبا أبا سليمان
أفعل ما تراه فدعاهم خالد وأعلمهم بما عزم عليه فقالوا سمعا وطاعة فقال خذوا أنفسكم فنحن نسير هذه الليلة قال فلما صلى أبو عبيدة بالناس صلاة المغرب قدم الثلاثة إلى قبة خالد فركبوا وودعوا أبا عبيدة والمسلمين وأخذوا معهم دليلا يدلهم على الطريق إلى وادي موسى والشوبك وأخذوا معهم ما يحتاجون اليه وساروا يريدون مصر فما زالوا يجدون إلى أن قربوا من عقبة أيلة وإذا هم بخيل ومطايا تزيد على الف فارس فأسرعوا إليهم فإذا هم من ثقيف وطي ومرداس قد وجههم عمر بن الخطاب إلى مصر مع رفاعة بن قيس وبشار بن عون قال فلما رأوهم سلموا عليهم ورحبوا بهم واستبشروا بالنصر لما رأوا خالد وعمارا والمقداد ومالكا وارتفعت أصواتهم بالتهليل والتكبير وساروا بأجمعهم
قال حدثنا يوسف بن يحيى عن دارم عن منصور بن ثابت قال كنت في جملة الوفد الذي وجهه عمر رضي الله عنه مع رفاعه وبشار والتقينا بخالد بن الوليد وأصحابه عند عقبة أيلة وسرنا معهم حتى وصلنا أرض مصر وقربنا وبقي بيننا وبينها يومان فبينما نحن نسير في بعض الليالي وكانت ليلة مظلمة لا يكاد الرجل أن يرى من شدة الظلام إذ سمعنا حسا بالبعد منا فوقفنا فقال خالد أيكم يأتينا يا فتيان العرب بخبر هؤلاء الذين في هذا الجيش قال نصر بن ثابت وكنت راكبا فقفزت من ظهر الراحلة وسعيت على قدمي وأخفيت حسي إلى أن تبين لي جيش كثير فتحققت أمرهم فإذا هم جيش من العرب المتنصرة وهم يزيدون على ثلاثة آلاف وهم ركبان المطايا والخيل فقلت والله لاعدت إلى أصحابي الا بالخبر اليقين قال فاتبعت أثرهم لأسمع ما يقولون وما يتحدثون فمشيت معهم قليلا فاسمعهم يقولون أذل الصليب أعداءنا فانا قد أصابنا التعب ولحقنا الجهد ومن وقت خروجنا من مدين لم نجد أحد ومصر قد قربنا منها فانزلوا لنأخذ راحة ونريح مطايانا ونعلق على خيلنا وإذا بمقدمهم يقول وحق المسيح ما بغيتنا الا في الخلع والأموال من ملك مصر ولكن إذ عولتم على الراحة فانزلوا قال فنزل القوم على ماء يعرف بالغدير واقبلوا يجمعون الشيح ويصنعون لهم الزاد وعلقوا على خيولهم وتركوا إبلهم ترعى قال نصر بن ثابت فعلمت أن القوم من متنصرة العرب فتركتهم وأتيت إلى أصحابي وحدثتهم بذلك فحمدوا الله كثيرا واثنوا عليه وقالوا لخالد ما الذي ترى فقال أرى أن تركبوا خيلكم الآن وتستعدوا للحرب ونسير إليهم ونكبسهم فإنهم قد أتوا لنصرة صاحب مصر وما أتوه الا بمكاتبة لهم يستنجد بهم على أصحابنا قال فلبسوا
61

سلاحهم وركبوا الخيل وتركوا مواليهم مع المطايا والرجال وساروا خيلا ورجالا إلى أن قربوا من نيران القوم فصبروا حتى خمدت وناموا فتسللوا عليهم كتسلل القطاة فقال خالد دوروا بالقوم ولا تدعوا أحد منهم ينفلت من أيديكم فيثير عليكم عدوكم قال فداروا بهم كدوران البياض بسواد الحدق وأعلنوا بالتهليل والتكبير ووضعوا فيهم السيف فما استيقظ أعداء الله الا والسيف يعمل فيهم ووقعت الدهشة في القوم وهم في أثر النوم فقتل بعضهم بعضا ووقف ابن قيس ومعه جماعة على البعد منهم وبشار ورفقته وكل من انهزم أخذوه فلما أصبحنا رأينا القتلى منهم ألفا وأسرنا منهم ألفا فعرضوهم على خالد فقال حدثوني من أين جئتم والى أين مقصدكم
فقالوا أنا قوم من المتنصرة العرب وكلنا كنا أصحاب الشام فلما هزمتم الملك هرقل رحلنا من أرض الشام ونزلنا ارض مدين ونحن على خوف منكم وكاتبنا صاحب مصر وهو المقوقس لعله أن يأذن لنا أن نكون من أصحابه ونكون له عونا عليكم فلما أجابنا إلى ذلك بعثنا الخيل العربية إلى ولي عهده وصاحب الامر من بعده فلما كان في هذه الأيام جاءتنا خلعة ورسالة بالدخول إلى مصر فرحلنا إليهم فوقعتم بنا فلما سمع خالد منهم ذلك قال من حفر لمسلم قليبا أوقعه الله فيه قريبا ثم عرض عليهم الاسلام فأبوا فأمر بقتلهم فقتلناهم عن آخرهم وقسمنا رحالهم وما كان معهم ووجدنا معهم الخلع التي وجهها إليهم ابن المقوقس ففرقها خالد على المسلمين وفيها خلعة سنية وكانت لمقدم القوم فأعطاها رفاعة وساروا حتى قربوا من الجبل المقطم فرأوا جيش القبط فأرسل خالد رجلا من قبله وهو نصر بن ثابت وقال له امض إلى هذا الملك وقل له ان
العرب أصحاب مدين قد أتوا لنصرتك قال فمضى الرجل إلى أن وصل إلى عسكر القبط فأخذه الحرس وقالوا له من أنت قال أنا مبشر الملك بقدوم العرب المتنصرة إلى نصرته قال ابن إسحاق فأخذوا نصر بن ثابت وأتوا به إلى سرادق الملك قال فلما وقفت بين يديه ناداني الحجاب أن اسجد للملك ففعلت وأنا أسجد لله تعالى حتى لا ينكروا علي وكان قد صح عندهم أنه من امتنع من السجود فهو مسلم قال فلما رفعت رأسي قال لي الوزير يا أخا العرب أوصل أصحابك إلى نصرة الملك فقلت نعم وها هم في دير الجبل المقطم قال فلما سمع الملك ذلك أمر من حجابه أناسا أن يمضوا إلى لقائهم وسرت في جملتهم وأخذوا معهم الجنائب وأظهروا زي الفراعنة وخلع على نصر بن ثابت عوض بشارته وساروا إلى لقاء المتنصرة
قال حدثنا عسكر بن حسان بن رفاعة بن وس عن موسى بن
62

عون عن جده نعيم بن مرة قال كنت فيمن وجه عمر بن الخطاب من أهل نخلة وكان خالد يحبني ويقربني لان أبي كان يسافر له ببضاعة إلى سوق بصرى قال فلما رأى خالد أصحاب الملك قد أتوا قال لي خالد يا ابن مرة أريد أن أوصيك فقلت بماذا قال اعلم أن العدو قد أرسل يلاقينا وهو يظن أننا من متنصرة العرب ولا شك أن عمرو بن العاص ومن معه تجفل قلوبهم منا وأريد أن تنزل عن فرسك وتكمن خلف هذه الحجارة فإذا خلا لك الطريق فانسل نحو عسكر المسلمين وحدثهم بأمرنا وما قد عزمنا عليه من غدر القوم فان عمر لا يطمئن لغيرك وأقرئه سلامي وقل له يكن على أهبة فإذا سمع تكبيرنا يأمر أصحابه أن يرفعوا أصواتهم بالتهليل والتكبير فان ذلك مما يزيد في رعب أعدائنا فقال نعم قال وفعلت كما أمرني خالد ونزلت عن فرسي وأسلمتها لغلامي دارم ومضيت نحو الجبل وكمنت بين الأحجار
قال الراوي وان خالد أمر أصحابه بلبس الخلع التي أرسلها لهم ابن المقوقس فلبسوها فوق دروعهم ولبس رفاعة بن قيس وبشار بن عون أحسنها وغير خالد زيه والمقداد وعمار ومالك الأشتر قال فلما وصل مقدم جيش القبط قال خالد لرفاعة وبشار ترجلوا له واصقعوا بين يديه وصلبوا على وجوهكم فليس عليكم في ذلك حرج واحلفوا بالمسيح والسيدة مريم وإياكم والغلط بأن تذكروا محمدا صلى الله عليه وسلم فيظن القوم بنا واجعلوا الجهاد نصب أعينكم وتوكلوا على الله في جميع أموركم قال ففعلوا ما قال لهم خالد وترجلوا عند رسول القبط وصقعوا قال حدثنا نصر بن عبد الله عن عامر بن هبار قال يا عم اعلم أن الله إذا أراد أمرا هيأ أسبابه وذلك أننا لما أشرفنا على أول ديار مصر نزلنا على دير يقال له دير مرقص وكان ديرا عامرا بالرهبان فلما نزلنا عليه أشرف علينا أهله وقالوا من أنتم قلنا نحن من أصحاب الملك هرقل ملك الشام وقد جئنا لنصرة صاحبكم فإنه قد أرسل الينا يستنفرنا لأجل هؤلاء العرب قال ففرحوا بنا ودعوا لنا وكان كبيرهم والمقدم عليهم في دينهم شيخا كبيرا وكان من قسوس الشام وكان من أعلم القوم بدينهم وأعرف الناس بآل غسان وكانت الضيحا قد أقطعها هرقل للملك جبلة ابن الأيهم وكان قد جعل على جبايتها ولد هذا القس وكان اسمه نونلس وان المسلمين لما فتحوا بعلبك وحمص هرب هذا القس بأمواله وأولاده إلى طرابلس وركب البحر في مركب وتوصل إلى مصر وبلغ خبره المقوقس فأحضره وسأله عن حاله فحدثه بأمره فخلع عليه وجعله قيما في الكنيسة المعلقة التي في قصر الشمع وصار من أصحاب سكناه في دير مرقص ولا يدخل مصر الا في أمر مهم فلما نزل
63

عمرو بمن معه عليهم وقتل ابن المقوقس أباه احتاج إلى رأي البترك فأرسل اليه وأنزله في الكنيسة وولي البترك مكان هذا القس نونلس بن لوقا فكان في الدير فلما نزل خالد بن الوليد ومن معه على الدير قال عامر بن المبارك الثعلبي فأشرف علينا وتأملنا وكان أعرف الناس بخالد ابن الوليد لأنه رآه في مواطن كثيرة من الشام وكان صاحب حمص قد أرسله رسولا إلى أبي عبيدة ليصالحوهم قال فجعل يتفقدهم وينظر في وجوههم ثم قال وحق المسيح ما أنتم من آل غسان وما أنتم الا من عرب الحجاز وقد جئتم لتحتالوا علينا فاني رأيت أمامكم الذي فتح الشام وقتل ملوكها وسوف أكاتب الملك بقصتكم ليقبض عليكم فقالوا ما عندنا خبر من الذي تقوله وقد خيل لك ذلك أما علمت أن المسلمين ما خلوا لنا حالا وقد نهبونا وأصبحنا بالذل بعد العز والفقر بعد الغنى وقد كتب الينا ملك مصر بأن نجيء اليه فأرسل الينا بالخلع وطيب قلوبنا قال عامر فضحك اللعين من قولي وقال لي ان آل غسان أكثرهم يعرف بكلام الروم وحق ديني ما أنتم منهم وقد صح قولي انكم مسلمون فقلنا له يا ويلك لو كنا من الذين تقول عنهم ما كنا نأتيكم بالنهار وكنا نكمن ونسير في الليل حتى نصل إلى أصحابنا وأنك استحقرت المسيح إذ جعلتنا من أصحاب محمد فقد وقعت في ذنب عظيم ثم اننا بالقرب منهم فقال أصحابه يا أبانا ليس هؤلاء القوم ممن ذكرت فلوا كانوا مسلمين ما جسروا أن يدخلوا أرض مصر في ضوء النهار ولا يقربوا العمران فقال وحق ديني أنا أعرف الناس بهم وانهم مسلمون بلا شك فامتنعوا منهم ولا تخرجوا لهم طعاما ولا ماء وسأنفذ خبرا للملك بذلك فيكون منهم على حذر قال عامر بن هبار وكان من لطف الله بنا أن الرهبان الذين بالدير لما سمعوا كلامه قال بعضهم لبعض يجب علينا أن نأخذ لنا منهم صلحا فنكون آمنين من غائلتهم ولا نبرح من ديرنا هذا فقال أكبرهم ان أنتم فعلتم ذلك فإننا لا نعلم من ينصر من الفريقين أصحابنا أم العرب فإن كان النصر لأصحابنا خفنا من هذا القس أن يعلم بنا الملك أننا صالحنا المسلمين بغير أمره فإنه يقتلنا وان هذا اللعين تعلمون أنه على غير مذهبنا وهو في كل يوم يكفرنا لأنه نسطوري ونحن يعقوبية فان أنتم أردتم صلح هؤلاء العرب فدونكم وهذا القس فاقبضوا عليه وسلموه لهم وخذوا منهم أمانا قال ففعلوا ذلك وقبضوا عليه وأشرفوا علينا وقالوا لنا بحق ما تعتقدون من دينكم أنتم من أصحاب محمد أم لا فانا قد قبضنا على هذا اللعين ونريد أن نسلمه لكم وانكم تعطوننا أمانا فأنا قوم لا نعرف حربا ولا قتالا فقال لهم مالك الأشتر يا هؤلاء اما ما زعمتم
64

من صلحنا فانا نصالحكم وما كان أمرنا بالذي يخفى ولا نرضى بالكذب فإنه أشنع شيء عندنا ولا سيما ان الاسلام يمنعنا من استعماله ولو أن السيف على رأس أحدنا إذا سئل عن دينه أجاب به وتكلم بوحدانية الله تعالى ونحن من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ولكم الأمان وهذا أمان الله ورسوله
قال فلما سمع الرهبان من مالك ذلك نزلوا وفتحوا الباب وسلموا لنا القس فقال له خالد يا عدو الله أردت أمرا وأراد الله خلافه ثم أنه عرض عليه الاسلام فأبى وقال أنا هربت منكم من الشام ثم أوقعني المسيح في أيديكم وما أظن الا أن المسيح مسلم فافعل ما أردت فضربوا عنقه قال عامر بن هبار وخرج الينا أهل الدير بأجمعهم ومعهم
الطعام والعلوفة فأكلنا وأقمنا عندهم إلى الليل فقال شيخهم الذي أشار عليهم بقبض القس الرومي لخالد أيها السيد اني قد تفرست فيك الشجاعة فبالله من أنت من أصحاب محمد فقال أنا خالد بن الوليد المخزومي فقال أنت وحق ديني الذي فتحت بلاد الشام وأذللت ملوكها وبطارقها وان صفتك عندي ثم إنه دخل الدير وأتى ومعه سفط ففتحه وإذا فيه بين أوراقه ورقة وفيها صفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وزيه وصورته وصورة أبي عبيدة وصورة خالد بن الوليد والسيف في يده مشهور قال ما زلت أسمع أخبارك كلها فلم عزلك عمر بن الخطاب وولى غيرك فقال خالد أعلم أن عمر هو الامام وهو الخليفة ومهما أمرنا فلا نخالفه فان الله أمرنا بذلك في كتابه فقال تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى ألامر منكم فطاعته فرض علينا لأنه يحكم بالعدل ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وانا قد وجهنا اليه خمس الغنائم من الفتوح كلها من الأموال فما ازداد في الدنيا الا زهدا ولا آثر الدنيا على الآخرة بل مجلسه على التراب ولباسه المرقعة ويمشي في سوق المدينة متواضعا راجلا فالتواضع لباسه والتقوى أساسه والذكر شعاره والعدل في الرعية دثاره وما زال يعطف على اليتيم ويرفق بالأرملة والمسكين ويرفد أبناء السبيل فظ في دين الله غليظ على أعداء الله قائم بشعائر الله لا يستحي من الحق ولا يداهن الخلق فقال القس أكانت له الهيبة على عهد نبيكم قال خالد نعم سمعت سعد بن أبي وقاص يقول استأذن يوما عمر فأذن له فدخل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك فقال عمر أضحك الله سنك يا رسول الله قال عجبت من هؤلاء اللواتي كن عندي فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب فقال عمر أنت أحق أن يهبنك وقال لهن يا عدوات أنفسكن أتهبنني ولا تهبن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلن نعم أنت فظ غليظ دون رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجا الا سلك فجا
65

غيره قال فلما سمع القس ذلك قال بركة نبيكم عادت على امامكم وعليكم فقال خالد وما يمنعك من الدخول في دينننا فقال حتى يشاء صاحب هذه الخضراء ثم قال لخالد أريد أن أعطيكم من صلبان هذا الدير حتى تكمل حيلتكم قال وأخرج لهم صلبانا كثيرة فأخذها خالد ودفعها لرفاعة بن قيس وبشار بن عون وتزيوا بزي الذين قتلوهم من آل غسان وارتحل خالد بعد ما وكل بالدير عشرة من أهل وادي القرى لئلا يخرج أحد بأخبارهم ويقربوا للملك بذلك قال وعدنا إلى سياق الحديث فلما أشرف أصحاب ابن المقوقس عليهم رأوهم وقد لبسوا خلع الملك وعلقوا الصلبان وشدوا الزنانير ورفعوا صليبا من فضة كان قد أخرجه لهم القس فلما صقعوا للحجاب ركبوا وساروا حتى وصلوا إلى سرادق الملك فترجلوا وقد أخذوا لهم اذنا فأذن لهم فدخلوا ودخل أولهم رفاعة وبشار ومن معه وخدموا الملك وسجدوا له ولم يدخل خالد ومن معه ووقفوا مع بقية العرب خارج السرادق وان الملك لما رآهم قال لهم يا معاشر العرب أنتم تعلمون محبتنا لكم وتقريبنا لكم وقد طلبتم أن تكونوا لنا عونا على هؤلاء العرب فان نصحتم لنا في دولتنا شاركناكم في مملكتنا وقاسمناكم في ملكنا ونعمتنا فقال له رفاعة أبشر أيها الملك سوف ترى ما نبذله في محبتك يوم الحرب قال فخلع عليه وخرج من عنده وأمرلهم بخيام تضرب في عسكرهم
قال حدثنا عامر بن أوس عن جرير بن صاعد عن نوفل بن غانم عن سهل بن مسروق قال لما قدم الجيش الذي وجه عمر بن الخطاب مع رفاعة وبشار وكان من أمرهم ما ذكرناه ونظر إليهم عمرو بن العاص ومن معه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اقبلوا ينظرون إليهم والى زيهم فقال معاذ لعمرو ما هؤلاء من المتنصرة وان نفسي تأبى ذلك فقال عمرو والله يا أبا عبد الرحمن لقد نظرت بنور الله وانني نظرت فيهم واحدا واحدا ورأيتهم بزي وادي القرى وزي الطائف فقال شرحبيل بن حسنة وأنا نظرت أعجب من ذلك أني رأيت خالد بن الوليد في جملتهم ولاحت لي عمامته وقلنسوته وثيابه التي كانت عليه يوم دخول طرابلس فقال يزيد بن أبي سفيان أنا والله رأيت مالكا الأشتر النخعي وعرفته بطول قامته وركبته على فرسه ثم قالوا لا بد أن ينكشف لنا خبرهم على جليته فهم في الحديث إذ قد اتاهم نعيم بن مرة فلما رأوه تهللت وجوههم فرحا وسرورا فلما وصل إليهم وسلم عليهم وحدثهم بالحديث كله سجدوا لله شكرا وقال بعضهم لبعض ايقظوا هممكم وكونوا على يقظة من أمركم فإذا سمعتم التكبير في عسكر العدو فبادروا إليهم قال ابن إسحاق ولله في خلقه تدبير وذلك أنه
66

لما جن الليل جمع أرسطوليس بن المقوقس أرباب دولته وقال لهم قد ضاق صدري من هؤلاء العرب وقال لهم قد غلا السعر عندنا لان أهل البلاد قد أجلت من خوفهم وان خيلهم تضرب إلى الريف من هذا الجانب والى الصعيد من هذا الجانب والنوبة والبجاوة ما يأتينا منهما أحد للفتنة التي هي بينهم والرأي عندي أن نحارب هؤلاء العرب صبيحة عيدهم قالوا أيها الملك هذا هو الرأي فقال أخرجوا السلاح وفرقوه على من ليس معه سلاح هذا ما جرى عنده وليس عنده خبر بما جرى في قصره بعد
نتائج المعركة
قال ابن إسحاق وكان من حسن تدبير الله تعالى لعباده المؤمنين انه كان للمقوقس أخ شقيق واسمه ارجانوس وكانا متحابين وكان المقومس لا يقطع أمرا دونه وكانا إذا ركبا لا يفترقان وإذا جلسا يجلسان معا على السرير وكان المقوقس قد دخل في خلوته التي ذكرنا وكان أخوه من محبته قد رتب هناك من يعرفه لما يخرج من خلوته فلما كان في هذه النوبة استبطأه فأتى إلى ابن أخيه فرآه على السرير فقال له ما فعل الملك فقال إنه في خلوته إلى الآن وقد رأى أن طالعه ضعيف مع هؤلاء العرب وقد أمرني أن أكون مكانه حتى يرى ما يريد من قتالهم أو صلحهم قال فكتم ارجانوس الأمر في نفسه وعلم أن أخاه قد قتل وكان ارجانوس ممن يعتقد نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ويعلم أن دعوته تطوف المشرق والمغرب وان الملوك تضمحل في أيام أصحابه وسينزلون على البلاد فترك أرجانوس الأمر موقوفا ولم يبد ما في نفسه لآحد فلما خرج ابن أخيه مع العسكر جمع ارجانوس الذين تركهم ابن أخيه لحفظ البلد في قصر الشمع وقال لهم اعلموا ان العقل هو عمدة قوى ابن آدم لان الله قد خصه به دون سائر المخلوقات وأن أخي قد قتله ولده لا محالة وقد كان محبا لكم ومشفقا عليكم واعلموا ان هؤلاء العرب قد كان قدامهم من ملكه أعظم من ملككم وما ثبت بين أيديهم وليس بين دولتكم وبين أن تزول وتضمحل الا أن يلتقي هذان الجيشان وان ظفر بكم هؤلاء العرب قتلوكم ونهبوكم وسكنوا في مساكنكم وأيتموا أولادكم فقالوا أيها الملك فما يكون
عندك من الرأي وما تفعل قال إني أرى من الرأي أن تستيقظوا لأنفسكم وتغلقوا أبواب هذا القصر ولا تدعوا أحدا يدخل عليكم من جند الملك ولا هو نفسه فإنهم لا يقدرون أن يقاتلوكم والعرب من ورائهم وانه يعدي إلى الجانب الغربي ويمضي إلي إسكندرية ونعقد لنا صلحا مع هؤلاء العرب على أنفسنا وأولادنا وحريمنا ونسلم لهم بعد ذلك فمن أراد يتبعهم ومن أراد يعطيهم الجزية قال فاستصوبوا رأيه واعلموا أنه نطق
67

بالحق كان أرجانوس له في سرايته ألف مملوك قال فاحتوى على قصر الملك وأخذ الخزائن والأموال وغلق أبواب قصر الشمع وفعل ما فعل وليس عند ابن أخيه خبر إلى أن ذهب من الليل نصفه أو أكثر فجاء اليه بعض خدمه وأخبره بما فعل عمه فأيقن بتلفه وخروج ملك مصر منه قال فبينما هو في حيرة في أمره إذ كبر خالد بن الوليد ومن معه في وسط عسكره فسمع عمرو وأصحابه التكبير فكبروا ووقعت الخذلة على الكفار وحملت فيهم المسلمون ووضعوا فيهم السيوف فلما نظر أرسطوليس إلى ما نزل به والكبسة التي وقعت بعسكره لم يكن له دأب الا أن ركب وأحدقت به مماليك أبيه وأرباب دولته وطلبوا الهزيمة وقصدوا البحر وعدوا الجانب الغربي وطلبوا إسكندرية فحازوا على مدينة مريوط وفيها الموبذان الساقي ومعه ثلاث آلاف من عسكره فلما صاح الصائح في مصر بأن الملك انهزم وما ثبت أحد من عسكر القبط وولوا والسيف يعمل فيهم وغرق منهم في البحر خلق كثير ونصر الله المسلمين وانهزموا
قال ابن إسحاق حدثني من أثق به أنه قتل في تلك الليلة من عسكر القبط خمسة آلاف وغنم المسلمون أثقالهم وما كان فيها من الأموال فلما أقبل الصباح اجتمع خالد بالمسلمين وسلم بعضهم على بعض وهنوهم بالسلامة ودخلوا مصر وملكوا دورها وأحاطوا بقصر الشمع فأشرف عليهم أرجانوس بن راعيل أخو المقوقس وقال لهم يا فتيان العرب اعلموا أن الله قد أمدكم بالنصر وقد فعلت في حقكم كذا وكذا ولولا حيلتي على ابن أخي لما انهزم منكم وقد ظفرتم الآن ونحن نسلم إليكم على شرط أنكم لا تتعرضون لنا ولا تمدون أيديكم لنا بسوء ومن أراد منا أن يبقى على دينه يؤدي الجزية ومن أراد أن يتبعكم يتبعكم فقال له معاذ بن جبل قد نصرنا الله على الكفار بصدق نياتنا وصلح أعمالنا واتباعنا للحق وانا ما قلنا قولا الا وفيناه ولا استعملنا الغدر ولا المكر وأنتم لكم الأمان على أنفسكم وأموالكم وحريمكم وأولادكم ومن بقي منكم على دينه فلن نكرهه ومن اتبع ديننا فله ما لنا وعليه ما علينا فلما سمع أرجانوس ذلك نزل إليهم بالمفاتيح فأمنوه وأمنوا من كان معه في القصر وجمعوا أكابر مصر ومشايخها وقالوا لهم ان الله قد نصرنا عليكم وقد انهزم ملككم منا وأنتم الآن في قبضتنا وقد صرتم مماليكنا ومن أسلم منكم قبلناه ومن أبي استعبدناه فقالوا أيها الملك ما هكذا بلغنا عنكم قال وما الذي بلغكم عنا قالوا سمعنا عنكم أن الله قد أسكن الرحمة في قلوبكم وأنتم تعفون عمن ظلمكم وتحسنون إلى من أساء إليكم وأنت تعلم أننا قوم محكوم علينا ولو كان الأمر الينا لاتبعناكم فارفقوا بنا وانظروا في
68

أحوالنا فقال عمرو لأصحابه وللأمراء ما ترون من الرأي في أمر هؤلاء القوم
فقال شرحبيل ابن حسنة اصنع ما أمر الله به من العدل فيهم وأحسن إليهم وطيب خواطرهم فإننا إذا قصدنا غير هذه المدينة وسمع أيها الأمير عنك أهل المدينة الأخرى بما فعلته مع أهل مصر يسلمون بغير منازعة ولا حرب فقال معاذ بن جبل وخالد بن الوليد والمقداد وعمار ومالك وربيعة ويزيد القول الذي قاله كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المعمول به فقال عمرو لأهل مصر قد أمناكم على أنفسكم وأولادكم وحريمكم منه منا عليكم وقد وضعت عنكم جزية هذه السنة وفي السنة الآتية نأخذ منكم الجزية من كل محتلم أربعة دنانير ومن أسلم منكم قبلناه قال فلما سمع أرجانوس ابن راعيل كلام عمرو قال لقد أنصفت وان الله بهذا نصركم وقد وقفت الآن على صحة دينكم وأنا أشهد أن الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله واشهدوا على أن كل ما تركه أخي من الأموال والأصول والثياب والمتاع هو هبة مني إليكم بما فعلتم مع أهل بلدي قال فلما نظر أهل مصر إلى أرجانوس وقد أسلم دخل أكثرهم في الاسلام وعمد عمرو إلى الكنيسة وعملها جامعا وهو المعروف به إلى يومنا هذا وجمع الأموال التي أخذها من وراء القبط المنهزمين ومن منازلهم وما كان في قصر الملك وأخرج الخمس وأعطى كل ذي حق حقه ثم كتب كتابا إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عليه وبعث الخمس والكتاب مع علم بن سارية وسلم المال والكتاب له وسير معه مائة فارس وأمره بالمسير إلى المدينة فاستلم الخمس وسار حتى قدم المدينة وسلم المال والكتاب لعمر بن الخطاب رضي الله عنه فلما قرأه سجد لله شكرا وأمر بالمال إلى بيت المال فقال علم بن سارية يا أمير المؤمنين ان عمرا يسلم عليك ويقول لك ان القبط كانوا استسنوا سنة في نيلهم في كل سنة وذلك أنهم كانوا إذا أبطأ عليهم الوفاء في النيل يأخذون جارية من أحسن الجواري ويزينونها بأحسن زينة ويرمونها في البحر فيأتي الماء ويفي النيل وقد قرب ميقات ذلك ولا يفعل عمرو شيئا الا باذنك قال فكتب عمر بن الخطاب بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى نيل مصر أما بعد فان كنت مخلوقا لا تملك ضرا ولا نفعا وأنت تجري من قبل نفسك وبأمرك فانقطع ولا حاجة لنا بك وان كنت تجري بحول الله وقوته فاجر كما كنت والسلام وأمره أن يدفعه لعمرو بن العاص يرميه فيه وقت الحاجة اليه ثم إنه كتب بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فالسلام عليك وانى أحمد الله إليك وأصلي على نبيه وإذا وصل إليك كتابي
69

فأطلب أعداء الله حيث كانوا وإياك أن تلين جانبك لهم وانظر في أحوال الرعية واعدل فيهم ما استطعت وأطلب العفو بالعفو عن الناس وأجر الناس على عوائدهم وقوانينهم وقرر لهم واجبا في دواوينهم وأعل رسوم العافية بالعدل فإنما هي أيام تمضي ومدة تنقضي فاما ذكر جميل واما خزي طويل ثم إنه سلم الكتاب إلى علم بن سارية فسار هو ومن معه إلى أن قدموا مصر وسلم الكتاب إلى عمرو فأما كتابه فقرأه على المسلمين وأما كتاب النيل فإنهم قد كانوا عدوا ليالي الوفاء وتوقف النيل عن الوفاء وقد يئس الناس من الوفاء في تلك السنة فمضى عمرو إلى النيل وخاطبه ورمى فيه كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال فلما رماه فيه هاج البحر وزاد فوق الحد ببركة عمر بن الخطاب وانقطعت عن أهل مصر تلك السنة السيئة ببركة عمر رضي الله عنه
حدثنا محمد بن يحيى بن سالم عن عدي بن يحيى بن عوف قال لما بلغنا أن عمرو افتح مصر وأتى إلى الكنيسة المعظمة عندهم وجد في مذبحها بيتا مغلقا وإذا فيه صورة
من الفضة وأمام الصورة شخص آخر وفي يده أعلام وهي على صفة الصورة التي وجدها النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة لما فتح مكة فدعا عمرو بالقسوس وقال لهم ما هذه الصورة قالوا له هذه صورة إبراهيم وأبيه آزر فتبسم عمرو وقال ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين فقال معاذ بن جبل لما قدمت من اليمن سمعت أبا هريرة يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
يلقي إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجهه قترة فيقول له إبراهيم ألم أقل لك لا تعصني فيقول آزر اليوم لا أعصيك فيقول إبراهيم يا رب انك وعدتني أن لا تخزني يوم يبعثون فأي خزي أخزى من هذا فيقول الله حرمت الجنة على الكافرين ثم يقول له يا إبراهيم انظر إلى ما تحت قدميك فينظر إلى الريح وقد أخذت أباه فتلقيه في النار قال ثم أمر عمرو بالصورتين فكسرتا وعبر عسكر المسلمون إلى الجانب الغربي وقد تقدم خالد فترجل إلى نحو الإسكندرية وتقدم على مقدمته عبد الله يوقنا وسار يوما وليلة هو وبنو عمه وهم بزي الروم
ذكر فتوح مدينة مريوط
قال ابن إسحاق وكان قد بلغ المربذان الذي مع الثلاثة آلاف وهم في مدينة مريوط وقد حصنها ما حصل فلما قدم عليه يوقنا قال له الموبذان ما الذي أقدمك علينا فقال يوقنا ان المسلمين وجهوني إليك وهم يحرضونك على خلاص نفسك ويأمرونك بتسليم هذه المدينة إليهم ولك
70

الأمان على نفسك وأهلك ومالك ومن أردت ولك الخيار في المقام تحت يد الاسلام أو الانفصال فان اخترت المقام فلا مانع يمنعك وأن أردت المسير أوصلناك إلى أي موضع أردت فلما سمع الموبذان ذلك قهقه ضاحكا وقال وحق ديني ان الغدر شعاركم والمكر دثاركم فلا فلح من آمن لكم وأما أنا فلا أخون الملك في بلده وأنا وهو في أرض واحدة وسوف أبعث اليه بأن أقدم اليه وأساعده عليكم جزاء بما عملتموه من الخديعة وستعلمون على من تدور الدائرة ومن يكون المغبون في الآخرة وأنت يا معشر الروم قد كفرتم بالمسيح وجحدتم السيدة أم النور وخرجتم من ملة الحواريين وأردتم هؤلاء العرب الجياع الأكباد العراة الأجساد ولن يغنوا عنكم شيئا ووحق المسيح لأبعثن بكم إلى الملك فيقتلكم على كفركم وكان يوقنا قد ترك جماعته ومضى في عشرين رجلا منهم لعله يعمل عليه حيلة فلما دخل عليه أنزله في دار الضيافة فوضعوا سلاحهم فلما أكلوا الطعام وتحادثوا وكان قد فطن بهم وأمر غلمانه أن يكونوا على حذر وأن يهجموا عليهم فيقبضوهم يريد بذلك أن يرسلهم إلى الملك إلى الإسكندرية ورماهم في بيت مظلم في دار امارته وأقام ينتظر غفلة من عسكره وكانوا قد أحاطوا بالبلد ووكل بهم جارية اسمها رينا وهي أخت مارية التي أرسلها المقوقس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
وكانت أختها شقيقتها وسلم إليها المفاتيح لمعزتها عنده وقال لها احفظي عليهم لأرى ما أنظر فيهم قال فلما جن الليل واشتغل عدو الله الموبدان بالشراب قال فصبرت رينا إلى أن غرق في سكره هو ومن معه وناموا وأمنت على نفسها فأتت إلى الباب وفتحت على يوقنا وأصحابه وقالت لهم أبشروا لا خوف عليكم فان الله قد جعل رحمتكم في قلبي وأنا أخت مارية التي أهداها المقوقس لنبيكم واني أريد منكم أن توصلوني عند أختي مارية فقال لها يوقنا أبشري بما يسرك ولكن أخاف عليك من عدو الله فما ترين فقالت والله ما جئتكم حتى سكر ونام فقال يوقنا فعرفينا الطريق التي نسلكها إلى قومنا قالت إن هذا المكان فيه سرب يخرج إلى ظاهر البلد وهو مبني من قديم الزمان وبابه الخارج مبني عليه قبة على أعمده وتحتها قبر بين المقابر فكل من رآه يظن أنه قبر وان الذي بنى هذه المدينة امرأة يقال لها فمعمان بنت عاد وصنعت هذه المقابر التي وراء التل وهي كأنها قصور مشيدة وكان فيها أناس سكنوها فقال يوقنا افعلي بنا ما يقربك إلى الله تعالى ورسوله ولعلك أن تنزلينا من هذا السرب حتى نذهب إلى أصحابنا ونأتي بهم من هذا ما دام الموبذان سكران وهو نائم فقالت سأفعل ذلك أن
71

شاء الله تعالى غير أني أريد أن افتح لكم باب السرب قبله حتى لا تتعوقوا
قال الراوي وقد مضت رينا أخت مارية وأشرفت على الموبذان فإذا هو ومن معه صرعى من الخمر فتركتهم وعادت إلى باب السرب لتفتحه وإذا هي تسمع وراءه حسا ففزعت ووقفت تسمع
قال حدثني عبد الرزاق بن يحيي عن أبا سليمان
بن عبد الحميد عن سفيان الأعمش عن أوس بن ماجد وكان ممن شهد فتوح مصر والإسكندرية قال لما نزل خالد بن الوليد على مريوط بجيشه تفقد يوقنا وقال لأصحابه انه من وقت ان بعثته برسالتي إلى مريوط للموبذان ما عاد قالوا أيها الأمير انه من وقت ما دخل اليه ما خرج ونحن في انتظاره فعلم خالد أن يوقنا مقبوض عليه فبات مهموما من أجله وكان خالد صاحب همة وعزيمة لا ينام من خوفه على المسلمين وكان معه جواسيس قد أخذهم معه من كل أقليم وقد اصطفاهم لنفسه وهو يحسن إليهم وأينما ذهب يكونوا معه ليأتوه بالأخبار فبينما هو في غم بسبب يوقنا وإذا هو بواحد منهم قد دخل عليه وأعلمه أن ولد الموبذان قد أتى من إسكندرية من عند أرسطوليس ومعه خلع وهدايا لأبيه ومعه خمسمائة فارس وقد بلغه أنكم محاصرون أباه فترك العسكر وما معه بالبعد وانفرد ومعه خادمان وأتى وما نعلم ما يريد قال فلما سمع خالد ذلك قام وأخذ معه غلامه هماما وأربعة ممن يعتد بهم وأبعد وقعد على سفح التل من نحو إسكندرية ونظروا إلى التل وإذا بولد المؤبذان ومعه الخادمان قصدوا إلى وراء التل عند تلك المقابر التي وصفتها رينا ليوقنا وقصدوا القبة فمشى خالد وراءهم وفرق جماعته من أربع جهات القبة وكبسهم وإذ هم قد فتحوا طبقا في وسط القبة فأخذهم خالد فلما رآه الموبذان ارتعدت فرائصه وخاف فقال خالد ان صدقتموني أمنتكم وان لم تصدقوني رميت رقابكم فقال الغلام أنا أصدقك أنا ولد الموبذان وكنت عند الملك في إسكندرية وقد أنفذ معي خمسمائة فارس عونا لأبي وحفظا لهذه المدينة فنحن في الطريق وإذ قد جاءتني الجواسيس بأنكم نازلون على البلد فأوقفت العسكر وأتيت إلى هذه القبة فقال له خالد وما الذي تريد من هذه القبة ألكم فيها سلاح أم مطلب فيه مال قال لا قال فما تريد منها قال الغلام ان أمنتني قلت لك الحق
فقال له خالد قد أمنتك على نفسك فقبل يده وقال يا مولاي أريد أمانا لأبي ومن يلوذ به فأعطاه فقال اعلم أن هذه القبة على سرب والسرب ينتهي إلى دار الامارة ودار الامارة في وسط المدينة قال فلما سمع خالد ذلك تهلل وجهه فرحا وسرورا وقبض على الغلام وعلى الخادمين
72

وأمرهما مع واحد آخر ممن معه أن يفتحوا السرب ففتحوه فأرسل هماما إلى العسكر وأمره بأن يأتي بهم في السرب وأن يأتوا معهم بالنار والزيت والقناديل وأن يسرع بذلك وكان ذلك التل عاليا والذين في المدينة لا ينظرون ما وراءه فلما أقبل همام بما طلبه خالد أوقدوا المسارج ونزلوا في السرب وابن الموبذان أمامهم فوصلوا إلى الباب وإذا برينا عند الباب تريد فتحه ليوقنا ومن معه فلما سمعت حسهم قالت من أنتم فقال خالد لابن الموبذان كلمها فقال أنا فلان بن الموبذان افتحي ولا تعلمي أبي قال فلم يبق لها بد أن تفتح الباب ففتحت فصعد خالد ومن معه فقبضوا على رينا فقالت لهم يا قوم دعوني فاني أردت أن أخلص أصحابكم وجئت لأفتح لهم هذا الباب وأنذلهم إليكم وتملكوا هذه المدينة من ههنا وقد أتى بكم رب العالمين وأنا رينا أخت مارية زوجة نبيكم فلما سمع خالد فرح وقال لها وأين أصحابنا فأتت بهم عندهم فحلوا وثاقهم وأتوا إلى دار الامارة فوجدوا الموبذان لا يشعر بنفسه من الخمر فوكل به جماعة وأمر الباقي أن يملكوا السور وقبضوا على الحرس ونزلوا إلى الأبواب وكان لها بابان فكسروا أقفالهما وفتحوهما وأرسل إلى بقية العسكر فدخلوا المدينة والكل في حالك الليل فلما أصبح الصباح استيقظ الموبذان ومن معه وإذا بالمسلمين حولهم وكل من في المدينة قد أسر فقال له خالد يا عبد الله لولا أني أعطيت ولدك الأمان كنت قتلتك شر قتلة ولكن خذ أهلك وانصرف فإننا قوم إذا قلنا قولا نعمل به وفهم الموبذان أن ولده قد دلهم على السرب فلما خرج الموبذان بأهله قال ولده لخالد يا مولاي أن أنا مضيت معه قتلني ولست أريد بغيركم بدلا وأنا أقول أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله فقال له خالد ان قصر أبيك وما فيه لك وعرض خالد الاسلام على أهل مريوط فأسلم أكثرهم ثم إن خالدا قال ليوقنا رحمه الله أبشر من الله بالرضوان والغفران والثواب فبصبرك على الشدائد فتح الله علينا هذه المدينة فقال والله ما فتحها الا بفضله وببركة نبيه صلى الله عليه وسلم فكتب إلى عمرو بن العاص يبشره بفتح مريوط ونحن معولون على الدخول إلى إسكندرية وأرسل الكتاب اليه
قال ابن إسحاق وأقام خالد بمريوط لأجل ذي الكلاع الحميري لأنه مرض معه وكان مرضه شديدا فجلسوا عنده شهرا ولم يفارقه خالد فقدر الله له بالوفاة فحزنوا عليه حزنا شديدا عظيما فكان ذو الكلاع ملك حمير وكان قبل دخوله في الاسلام يركب له اثنا عشر ألف مملوك سود سوى غيرهم قال أبو هريرة الدوسي رضي الله عليهم ولقد رأيته بعد تلك الحشمة يمشي في سوق المدينة وعلى كتفه جلد شاة لما قدم من اليمن إلى الجهاد في أيام أبي بكر
73

الصديق رضي الله عنه فلما مات رثاه ولده تنوخ بما رثى به حمير أباه سبأ بن يشجب في الزمن المتقدم وهو
* عجبت ليومك ماذا فعل
* وسلطان عزك كيف انتقل
* وسلمت ملكك ذا طائعا
* وسلمت للامر لما نزل
* فيومك يوم رفيع النزال
* ودورك في الدهر دور رحل
* فلا يبعدنك فكل امرئ
* سيدركه بالسنين الاجل
* لئن صحبت نائبات الزمان
* وشت مع الدهر وجه الامل
* لقد كنت بالملك ذا قوة
* لك الدهر بالعز عان وجل
* بلغت من الملك أقصى المدى
* نقلت وعزك لم ينتقل
* فطحطحت آفاقه والمدى
* وجئت من العرب حول الدول
*
* حويت من الدهر اطلاقه
* ونلت من الملك ما لم ينل
* وحملت عزمك ثقل الأمور
* فقام بها حازم واستقل
* صحبت الدهور فهنأتها
* وما مر عيشك فيما فعل
* بنيت القصور كمثل الجبال
* ذهبت فلم يبق الا الطلل
* نعمنا بأيامك الصالحات
* ومشربنا بك وبل وطل
* تؤمل في الدهر أقصى المنى
* ولم تدر بالامر حين نزل
* فزالت لعزمك شم الجبال
* ولم يك حزمك فيها هبل
* ذكر فتوح إسكندرية
قال وعول خالد على المسير إلى إسكندرية
حدثنا زياد بن أوس الطائي عن معمر بن الرشيد قال لما نزل خالد بعد رحيله عن مريوط قال له عيونه انه لما انهزم ابن المقوقس وأتى إلى إسكندرية وبلغه فتح مصر صعب عليه قال وكانت إسكندرية عامرة كان فيها الخلق كثيرا والمراكب فأرسل مراكب وعمرها بالرجال وأمرهم أن يكبسوا سواحل بلاد الشام على المسلمين فقالوا سمعا وطاعة ومضوا إلى ساحل الرملة فوجدوا بالليل نيرانا كثيرة فسألوا من كان خبيرا بالبلاد فقالوا هذه نيران المسلمين النازلين ههنا فقالوا هذه حاجتنا التي جئنا في طلبها فنزلوا وقصدوها وإذا بها حلل من حلل دوس بني عم أبي هريرة وكان معهم طائفة من بجيلة وفي جملتهم ضرار بن الأزور وهو مريض وأخته خولة معه تمرضه وكان أبو عبيدة أمرهم بالنزول هناك لأجل كثرة المرعى وهم آمنون مطمئنون من الروم وغيرهم لان دولة الروم قد انصرمت وأيامهم قد ولت فما فطن القوم الا وقد كبسهم القبط في جندس الليل ووضعوا فيهم السيف فقتلوا
74

منهم رجالا وأخذوا منهم أسارى ومن جملتهم ضرار وأخته وأخذوا ما قدروا على حمله وأتوا بهم المراكب وكان جملة من أسروه من الرجال والنساء والأولاد والعبيد ألف ومائة فوضعوهم في المراكب وأقلعوا بهم من ليلتهم وسارا طالبين إسكندرية
قال ابن إسحاق وكان أبو عبيدة قد استوطن طبرية لكونها في وسط البلاد وهي قريبة من الأردن والشام والسواحل وان أبا هريرة قد أتى ليزور قومه في تلك الأيام ويسأل عن حال ضرار وكانوا يحبونه لشجاعته فأتى أبو هريرة ومعه حليف له من بني بجيلة فأصبحنا تلك الليلة في الحي وإذا بهم قد أخذهم القبط وبيوتهم مطروحة والرجال مقتولة وآثارهم منبوذة ووجدوا من الذين انهزموا أناسا مجروحين فسالوهم فقالوا ما عندنا خبر حتى كبسنا قوم نصارى وما نعلم من أي الطوائف هم ولم نفق حتى وقعوا فينا بالسيوف فقتلوا ما ترون وأسروا الباقين وأخذوهم في مراكبهم فقال أبو هريرة لا حول ولا قوة الا بالله العظيم وساروا إلى ساحل البحر فلم يروا لهم أثرا فلما عولوا على الرجوع إذا بلوح من ألواح المراكب تلعب به الأمواج وعليه شخص فوقفوا له حتى أقبل وخرج الرجل وإذا به أمير دوس وحيان ابن عم أبي هريرة فلما رآه ترجل له وعانقه وهنأه بالسلامة وقال له يا ابن عم ما وراءك فقال هجم العدو علينا ليلا وأسرونا وساروا فلما توسطنا البحر بعث الله بريح فغرقت مركبنا وقد نجاني الله على هذا اللوح فقال له ومن أعداؤكم قال من قبط مصر واني سمعتهم يذكرون إسكندرية كثيرا قال فرجع أبو هريرة يطلب طبرية وأتى ابن عمه إلى مكان الحلة حتى يلم شعث الناس ويداوي المجروحين فجمع ما تركوه وأتى بهم إلى الرملة وأما أبو هريرة فأتى أبا عبيدة وأخبره بما جرى فاسترجع وبكى وقال أعوذ بالله من الساعات الرديئة ثم قال والله لئن وصلوا إلى إسكندرية ما يبقيهم صاحبها طرفه عين ويموت ضرار ويمضي دمه هدرا وكتب إلى عمرو بن العاص يعلمه بذلك ويحذره من صاحب الإسكندرية وانه أسر ألفا ومائة من جملتهم ضرار وأخته وكانت تداويه وهي عنده فإذا وصل إليك كتابي هذا فاجتهد في خلاصهم وان وقع في أيديكم أحد من القبط ففادوهم به ودفع الكتاب لزيد الخيل وأمره أن يسير إلى مصر فلما قدم زيد الخيل إلى مصر دفع الكتاب لعمرو بن العاص فلما قرأه صعب عليه وكان يحب ضرارا فأرسل الكتاب إلى خالد بن الوليد وكتب اليه يحثه بالمسير إلى إسكندرية وأنه يفتقد حال الاسرى فلما وصل الكتاب إلى خالد وقرأه صعب عليه أمر ضرار وأخته خولة
حدثنا ابن إسحاق قال حدثنا عاصم بن منصور عن أحمد المروزي عن
75

سلمة عن عبد الله ابن المبارك عن عبد العزيز عن أبيه قال لما أخذت النصارى حلل دوس وضرار وأخته وعصفت عليهم الريح وغرق أحد المراكب ووصل الباقي إلى إسكندرية أوقفوهم أمام ابن المقوقس فأراد قتلهم فقال له أرباب دولته أيها الملك لا تعجل عليهم واعلم أن العرب متوجهة إليك ولا بد لنا من قتالهم فان أسر أحد منا ممن يعز عليك يكون عندنا من نفادي به ولعل أن نصالح العرب فاستصوب رأيهم وقال ادفعوا هؤلاء الاسرى إلى دير الزجاج وأرسل معهم ألفي فارس يوصلونهم إلى الدير فجاءت عيون خالد وأخبروه بما وقع فقام وأخذ معه أصحابه وسار يطلب دير الزجاج فوصل خالد إلى الدير قبل وصول الأسارى ومن معهم فلما أحدقوا بالدير أشرف عليهم راهب كبير السن وكان اسمه مباحا وكان تلميذا لبحيرا راهب بصرى وكان مؤمنا بالله وبأنبيائه فقال له خالد يا راهب كيف ترى الدنيا قال تنحف البدن وتجدد الامل وتقرب المنية وتقطع الأمنية قال فما حال أهلها قال من نال منها شيئا نفضته ومن فاته منها شيء حسرته قال فما خير الأصحاب فيها قال العمل الصالح والتقي قال فما شر
الأصحاب فيها قال اتباع النفس والهوى قال خالد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال الحكمة ضالة المؤمن يأخذها حيث وجدها ثم قال كيف طابت لك الوحدة قال ألفتها قال فهل نلت منها فائدة قال نعم الراحة من مداراة الناس قال فما أحسن هذا الاعتقاد لو كان في دين الاسلام والتوحيد قال فما أعرف غيره قال فما تقول في محمد ابن عبد الله صلى الله عليه وسلم
قال سيد الرسل وخاتم الأنبياء وصفى الأصفياء وحجة الجبار على الورى قال فلم لا تكون في بلاد الاسلام فهي أصلح لك من ههنا قال قلبي ملوث بحب الدنيا قال خالد أعندك خبر بالعرب الاسرى الذين أرسلهم الملك هنا قال لا والله ولكن مر بي البارحة بطريق وأسقف واستقيا ماء من بئر هذا الدير فسألتهما من أين أتيتهما فقالا من الإسكندرية واننا رسل الملك كيماويل صاحب أرض برقة وانه أرسلنا إلى ملك القبط يسأله أن يرسل له اسرى من عرب المسلمين حتى يراهم ويسمع كلامهم فأجاب أنه يرسل منهم جماعة وإنا ماضون نعلم صاحب برقة بذلك فقال لخالد لعلكم من المسلمين الذين فتحوا بلاد الشام قال خالد نحن هم فقال الراهب ان أخباركم عندي في كل وقت وأعلمك أن رأيت نبيكم صلى الله عليه وسلم وهو في قافلة قريش وأنا عند بحيرا فلما مات بحيرا انتقلنا إلى هذا الدير واعلموا أنه ما بقي من أرض الكنائس ولا بأرض العقبة ولا بأرض الرمادة أحد ولا ديار من راهب ولا قس الا وقدم لزيارتي ويسألني عنكم وعن نبيكم ويقولون لي أنت كنت على
76

طريقهم ورأيت نبيهم وشرحت لهم دينكم وأوصلتهم إلى ما ظهر من معجزات نبيكم صلى الله عليه وسلم ولقد جرى بيني وبين راهب منهم بالقرب مناظرة وقال لي ان النبي الذي بشر به عيسى المسيح ابن مريم ليس هذا فقلت له بلى هو والله النبي العربي فقال لي اننا سمعنا في العلم أن الرسول الذي يظهر من أرض الحجاز يعرج به إلى السماء وماسمعنا أن هذا عرج به فقلت بلى والله أنا سمعت بأنه عرج به إلى السماء وخاطب العلي الاعلى وأصبح فأعلم بذلك قريشا ثم قال لخالد اعلم أن في وسط هذا الجبل ديرا يقال له دير المسيح وقد استوى عليه بطريق ومعه جماعة وهو يقطع الطريق على قوافل العرب وانه منذ زمان قطع الطريق على قافلة وفيها شخص من بلادكم وهو مسلم فأخذ القافلة وعرى أهلها وأطلقهم وقبض على ذلك المسلم وأخذ ماله ووضعه عنده في العذاب الشديد والرجل يستجير فلا يجار ويقول له ما أطلقك حتى تكفر بالرحمن وتسجد للصلبان ثم إنه يأتيه بصورة من نحاس وعلى رأسه عمامة سوداء ويقول له هذه صفة نبيكم وينصبه قباله ويصب فضلة كأسه على راس هذه الصورة وذلك الرجل يستجير من فعاله قال فلما سمع خالد ذلك أخذ معه شرحبيل بن حسنة وعامر بن ربيعة ويزيد بن أبي سفيان وهاشم بن سعيد والقعقاع ورفاعة وترك بقية العسكر محيطة بالدير ومضوا إلى وسط الجبل فوجدوا الدير فوصلوا اليه وإذا بالبطريق قد اقبل ومعه وحش مذبوح وقد قصد إلى شجرة بالقرب من الدير وتحتها عين فنزل على العين وصاح بغلمانه فأتوا اليه وأضرموا النار وجعلوا يشوون له وهو يأكل ويشرب الخمر وقال لهم هاتوا المحمدي فاتوه برجل قد ركبه الذل وغلبه القهر فلما رآه قال له أنت قد غلبتني بتجلدك على العذاب وحق ديني لا أرفع عنك العقوبة حتى ترجع عن دينك إلى ديني فقال له اصنع ما بدا لك فاني أعلم أن الكل بمشيئتة الله وبإرادته واني صابر على مر البلاء وما أرجع عن دين محمد المصطفى قال فهم أن يقوم اليه يضربه فصاح به خالد بن الوليد وحمل عيه وطعنه فأخرج السنان من ظهره وقتلوا غلمانه وخلصوا المسلم ونزلوا على العين ولم يكن لأهل الدير شرب الا من تلك العين فأشرف عليهم الرهبان من أهل الدير وقالوا ما نحن أهل سيف حتى نقاتلكم وقد نهاكم نبيكم عن قتل الرهبان فقال خالد سلموا لنا مال هذا البطريق وعياله وأطفاله ونحن نترككم في ديركم ففتحوا لهم وسلموا لهم جميع موجوداته وأخذوا الأسير وساروا وسأله خالد بن الوليد من أين أنت فقال أنا أمية بن حاتم أخو عدى وقد أخذني هذا في أواخر أيام أبي بكر الصديق رضي الله عنه فاني كنت طالب برقة مع قافلة ومعي بضاعة
77

فأخذها وأخذني وكان أمر الله قدرا مقدورا قال فرجعوا عند أصحابهم ولم يأتوا القبط فما لحقوا أن ينزلوا عن خيولهم الا والراهب صاح وقال لهم استعدوا للقاء عدوكم فإنهم قربوا منكم فتجهزوا للقاء العدو وإذا بهم قد أقبلوا وضجيج الأطفال وبكاء الناس وأنين الرجال وصراخ المأسورات وصياح القبط عليهم يسوقونهم من ورائهم وزئير الفرسان وهفيف الصلبان والعربيات تنادي بالويل والهوان وخولة بنت الأزور على مقدمة الأسارى وهي تقول
* جل المصاب وزاد الويل والحرب
* وكل دمع من الأجفان ينسكب
* ومادت الأرض مما قد بليت به
* حتى توهمت أن الأرض تنقلب
* جالت يد القبط فينا عند غفلتنا
* واستحكم القبط لما زالت العرب
* لهفي على بطل قد كان عدتنا
* فيه العفاف وفيه الدين والأدب
* قد كان ناصرنا في وقت شدتنا
* أعني ضرار الذي للحرب ينتدب
* فيه الحمية والاحسان عادته
* فيه التعصب والانصاف والحسب
* لو كان يقدر أن يرقى مراكبه
* كان العدو فني والحرب تلتهب
* أو كان خالد فينا حاضرا وطنا
* لزال عنا الذي نشكو وننتحب
* لو كان يسمع صوتي صاح بي عجلا
* مهلا فقد زال عنك البؤس والعطب
* قال فلما سمع خالد نداءها قال لبيك يا بنت الأزور قد جاءك الفرج وذهب عنك الحرج فاطبقوا على القبط فما كان ببعيد حتى قتلوا منهم سبعمائة وأسروا ألفا وثلمائة وخلصوا الأسرى وسلموا على ضرار وهنئوه بالسلامة وودعوا الراهب بعدما كتب له خالد كتابا بأن له من طعام الإسكندرية صاعا ولكل من سكن الدير من أهله وقبيلته ثم إنهم ساروا طالبين الإسكندرية وهم سائقون الاسرى من القبط بين أيديهم قال وكان الملك أرسطوليس لما سمع بأن العرب قد أتوه أخرج عسكره وضرب خيامه خارج باب السدرة قال فلما قدم المسلمون وقع الصايح بقدومهم ووقع الخوف في قلب الملك وعسكره وقالوا له أيها الملك ما الذي تدبر في أمر هؤلاء العرب قال وما عسى أن أدبر والخوف قد ملأ قلوبكم وهم طمعوا فيكم ورأوا أنكم تنهزمون ولا تخافون العار وإذا قاتلتموهم كانت قلوبكم متفرقة وأهواؤكم غير متفقة وقد أسروا رجالكم ولم يرهبوا قتالكم ولا مانع يمنعهم ولو أن أصحابهم الذين أرسلتهم إلى دير الزجاج عندي لكنت صالحتهم باطلاقهم ودفعناهم عنا وقد فرطنا أيضا في الألفين الذين أرسلتهم معهم فلو كان فينا لقاتلوا معنا فقال له وزيره أيها الملك هل لك أن ترسل إليهم وتتحدث
78

معهم في أمر الصلح ونحن نسلم إليهم أصحابهم فقال إنهم لن يقبلوا منكم رسولا منذ صبأنا عليهم ببحر الحصى فبينما هم في ذلك وإذا بصاحب البحر قد أتى اليه وهو الموكل بالنار وأخبره أنه رأى مركبا قد ظهر من قبل الغرب ولا أعلم من أين أتى فقال لا شك أنه من صاحب برقة الملك كيماويل وقد أنجدنا فأقبل المركب ورمى مراسيه ونزل منه شيخ مهيب مليح الشيبة ظاهر الهيبة وعليه ثياب من الصوف الأسود ونزل معه عشرون شخصا من القسوس والرهبان فلما نزلوا إلى البر جاءتهم الخيول بالمراكب المذهبة والغلمان والحجاب وعظموا شأنهم وأركبوهم وساروا بين أيديهم إلى أن أوصلوهم إلى الملك وأدخلوهم عليه فقام لهم وعظم شأنهم وأجلس ذلك الشيخ معه على السرير
قال الراوي وكان أرسطوليس قد أرسل هدية إلى الملك صاحب برقة وأرسل اليه يعلمه بما فعله العرب في مدة قيصر وانهم قد أتونا ومن جملة ما أرسل له يقول أيها الملك اعلم أن الدنيا دار زوال وانتقال فما وهبت الا واستردت ولا فرحت الا وأحزنت فالمغرور من تشبث بذيلها واطمأن إليها والسعيد من لبس ثياب الحذر منها وعمل لدار المقر أما ترى أيها الملك إلى هرقل ملك الشام كيف هرب وزال ملكه وذلك عندما رمته الدنيا بمصائبها وشتتته بسهام نكائبها بعدما كانت في وجهه مشرقة والا يخطر له هم الأعداء على بال وما ضربت لك هذا المثال الا لعلمي أن الدنيا لا تبقى على حال وهؤلاء العرب قد استولوا على البلاد وأذلوا بسيوفهم العباد وقد أقاموا لهم شرعا بالسيوف الحداد وقد ملكوا القياصرة وقد جاءت طائفة الينا وأخذوا مصر منا وأخذوا ملكنا وحكموا على بلادنا بعدنا ولا بد لهم منك ولا غنى لهم عنك والصواب أن تشمر لهم عن الهمم وتنجدنا على من بغى وأجرم فنحن جيرانك وكلنا جندك وأعوانك والسلام
قال الواقدي فلما وصلت الهدية والكتاب عرضه على أرباب دولته وقال لهم ما ترون فيما كاتبكم به صاحب مصر والإسكندرية فقالوا له أيها الملك ما زالت الملوك يستنصر بعضها ببعض والذي أشار اليه هو الحق وان العرب إذا ملكت ملك القبط فلا بد لهم منا والعبور إلى بلادنا فابعث اليه بنجدة ونكون نحن وهو يدا واحدة فالمسيح يعطي النصر لمن يشاء فاجابه إلى ذلك وأمر ابن أخيه اسطفانوس أن يمضي في أربعة آلاف وأمره أن يسير لمعاونة صاحب إسكندرية ثم إنه أرسل خادمه إلى عالم أرضهم والمشار اليه في علم النصرانية وهو البترك واسمه سطيس وكان عمره مائة وعشرين سنة وكان تلميذ زيروسا وزيروسا تلميذ مرقس ومرقس تلميذ يوحنا ويوحنا أحد
79

حواري عيسى المسيح وكان هذا البترك سطيس مؤمنا بالله وموحدا وسمع بأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعجزاته وهو مؤمن من قبل مبعثه وظهوره حتى بلغته أخباره صلى الله عليه وسلم وأنه مات فبكى لموته ولزم زاوية الحزن ولم يظهر خبره لاحد مدة من الزمان وقد بنى له صومعة وانفرد بها وجعلها على قارعة الطريق فما مرت به قافلة الا واستخبرها عنه ويسأل عمن جلس بعده للمسلمين خليفة فقالوا أبو بكر الصديق وبلغه موته وولاية عمر ثم بلغه فتوح الشام وقدوم الصحابة إلى مصر وفتحها فلما أرسل صاحب مصر يستنجد صاحب برقة وأرسل أخاه أرسل هذا البترك في مركب يبشره بقدوم اسطفانوس إلى نصرته فلما وصل اليه وبشره فرح بذلك وقال يا أبانا أريد من انعامك أن تسير إلى هؤلاء العرب وتختبر دينهم ونبيهم وتدعوهم إلى الصلح وتعلمهم أن في أيدينا جماعة منهم أخذناهم من ساحل الرملة وقد أنفذت بهم إلى دير الزجاج فان أرادوا أصحابهم أطلقناهم لهم ونعطيهم شيئا من مالنا واعقد لنا ولهم الصلح بأنهم لا يرجعون الينا ولا يتعرضون لنا فقال البترك سأفعل ذلك واني قد قرأت في الكتب السالفة فوجدت فيها ان الله يبعث نبيا من أرض تهامة تعرض عليه مفاتيح الأرض وكنوزها فلا يلتفت إليها ولا يعيرها نظره ولا يختار الا الفقر على الغنى وان أصحابه يتبعون سنته وأنا استخبر حالهم قبل سيري إليهم فقال الملك وكيف تستخبر حالهم يا أبانا قال أيها الملك أرسل بغلة من مراكبك وعليها مركب من ذهب وهو مرصع بالمعادن وتأمر غلمانك أن يسيروا بها ويرسلوها نحو عسكر المسلمين فان أخذوها فنعلم أنهم يحبون الدنيا ولا يريدون الآخرة وان ردوها فنعلم انهم يطلبون ما عند الله قال ففعلوا ذلك وأرسلوها وكانوا في حندس الليل وكان في الحرس شرحبيل بن حسنة فلما رأى البغلة وما عليها من الزينة ضحك وقال إن أعداء الله يريدون
اختبارنا ومعرفة أحوالنا ان كنا نطلب الدنيا أو الآخرة فوالله ما منا من يميل إلى ما يفنى وانما يغيتنا فيما يبقى ثم قرأ * (أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) * ثم أمسك بعنان البغلة وأطلقها نحو عسكر القبط قال فلما رأوها صلبوا على وجوههم وقال الملك والله بهذا نصروا وخذلنا والله ان أبي كان على بصيرة من أمرهم ثم أمر البترك سطيس ان يتوجه إليهم فمضى فلما قرب منهم رأى أقواما قد هجروا الدنيا فمنهم القارئ ومنهم الذاكر لباسهم الصوف صغيرهم يوقر كبيرهم وكبيرهم يرحم صغيرهم وصوت أحدهم لا يعلو على الآخر الذكر كلامهم والقرآن
80

شعارهم والتقوى لباسهم والخوف من الله أنيسهم فلما دخل على عسكرهم سأل عن أميرهم وصاحبهم فدلوه على موضع خالد فقصده فلما وصل اليه وجده في ذكر الدين والقيامة فنزل عن بغلته ووقف أمامه وأومأ اليه بالسجود فمنعه خالد فقال له أنت أمير هؤلاء القوم قال كذا يزعمون اني أميرهم ما دمت على الحق واتباع العدل والانصاف والخوف من الله محسنا للمحسنين منهم شدادا على المسيئين منهم فمتى حدت عن هذه الأشياء فلا امارة لي عليهم فقال البترك أنتم والله القوم الذين بشر بكم عيسى ابن البتول وان الحق معكم لا يفارقكم قال فأمره خالد بالجلوس فجلس وقال يا معاشر العرب أخبروني عن نبيكم فقال خالد ان الله اختار من ولد آدم العرب واختار من العرب مضر واختار من مضر كنانة واختار من كنانة قريشا واختار من قريش بني هاشم واختار من بني هاشم عبد المطلب واختار من عبد المطلب عبد الله محمدا صلى الله عليه وسلم وقال
كنت نبيا وآدم بين الماء والطين وقال
لما خلق الله العرش كتب عليه لا إله إلا الله محمد رسول الله فلما وقع آدم في الزلة رأى على ساق العرش لا إله إلا الله محمد رسول الله فقال يا رب من هذا قال ولدك يا آدم الذي لولاه ما خلقتك قال يا رب فبرحمة هذا الولد ارحم هذا الوالد فقال يا آدم لو تشفعت الينا بمحمد في أهل السماوات والأرضين لشفعناك ثم إن الله جعل اسمه مقرونا باسمه وذكره مع ذكره ورسمه بما وسم به نفسه فقال ان الله بالناس لرؤف رحيم وقال في حقه بالمؤمنين رؤوف رحيم * (من يطع الرسول فقد أطاع الله) * وقال النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وقال يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وان الله عز وجل رفع ذكره وعظم فخره وأعز قدره فقال تعالى * (ورفعنا لك ذكرك) * وهذا غاية الشرف والتعظيم والتبجيل والتكريم وقال يا محمد لا أذكر حتى تذكر فمن أحبك فقد أحبني ومن سبك فقد سبني ومن جحدك فقد جحدني ومن أنكر نبؤتك فما عرفني وها أنا أشهد على نبؤتك فقال عز من قائل ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم قال في موضع آخر وكفى بالله شهيدا محمد رسول الله قال فلما سمع البترك ذلك من خالد فرح وقال لقد نجا من اتبعه وخسر من فارقه ثم جدد اسلامه على يد خالد وحدثهم بأمره من أوله إلى آخره ثم حذرهم من أخي صاحب برقة وانه واصل ومعه أربعة آلاف فارس واني قد سبقته في البحر وهذا الملك القبطي يريد صلحكم ويقرر لكم على انكم تصالحونه ان يعطيكم شيئا من المال ويسلم إليكم قوما من أصحابكم قد أخذوهم من ساحل الرملة فقال خالد ان أصحابنا قد فك الله أسرهم وجمع بنا شملهم وقد
81

نصرنا الله على القبط الألفين الذين كانوا مع الأسارى فإننا أخذنا ألفا وثلاثمائة أسير وقتلنا سبعمائة ثم إنه عرضهم عليه وعرض الاسلام عليهم فأبى أكثرهم واسلم بعضهم فأمر خالد بضرب رقابهم بين العسكرين ثم إن البترك عاد إلى صاحب إسكندرية وقال له هؤلاء لا نملك غرتهم لأنهم حذرون من أعدائهم وعرفة بقصة أصحابه وانهم هؤلاء الذين ضربوا رقابهم قبالك فقال له يا أبانا ومن اين هؤلاء قال قد وقعوا بهم وخلصوا أصحابهم وأسروا من أصحابك ألفا وثلاثمائة وقتلوا سبعمائة قال فلما سمع ابن المقوقس ذلك سقط في يده وأيقن باتلاف ملكه وقال لأرباب دولته وعسكره خذوا أهبتكم للقتال وكأنكم بعسكر الملك كيماويل صاحب برقة وقد اقبل عليكم ونقاتل هؤلاء العرب بقلوب قوية وأسرار نقية ويعطي الله النصر لمن يشاء وباتوا وهم معولون على القتال
قال ابن إسحاق ولقد بلغني ان الملك نام بقية ليلته فرأى في منامه كان شخصا أشقر عريض الصدر قد خرج من حمام ومعه شخص آخر مليح الوجه حسن الخلق وسيم قسيم في عينيه دعج وله نور يسطع كأنه قمر فقال ابن المقوقس للاشقر من أنت قال ابن العذراء البتول أنا المسيح بن مريم وهذا الذي بشرت به من قبل مبعثه هذا محمد رسول الله العربي الأمي من آمن به فقد اهتدى ومن جحد نبوته فقد اعتدى وقد جئنا لنصرة أصحابه ومقامنا على القبة
قال ابن إسحاق ولقد بلغني ان برج القبة مما يلي باب البحر وذلك أن الإسكندرية لما بني الإسكندرية وسماها باسمه كان الخضر وزيره وهو الذي بنى الباب الأخضر وصنع تلك القبة باسمه ورسمه وكان يأوي إليها فصار ذلك الباب مشتهرا به إلى ي ومنا هذا قال ثم إن عيسى عليه السلام قال للملك في نومه ان كنت من أمتي فاتبع شريعة هذا النبي وذهب عنه فلما أصبح حدث أرباب دولته بما رأى في نومه فقالوا أيها الملك هذه أضغاث أحلام وما كان عيسى المسيح يماشي العربي وهو عدوه وانما الشيطان قد خيل لك ذلك فلا تلتفت اليه قال فأصغى الملك إلى كلامهم ثم إنه أمر عسكره بالقتال فركبوا وصافوا المسلمين وأما الملك فإنه نظر إلى برج القبة وإذا بالقبة يسطع منها نور فدخل الوهم في قلبه مما رأى في منامه وقال والله ما هذا النور الا نور المسيح ومحمد وان هذا هو الحق لا شك فيه
حدثنا ابن إسحاق حدثنا عامر بن بشر عن الأحوص قال كنت في خيل خالد بن الوليد يوم قتالنا على إسكندرية قال لما وقفنا في ميدان الحرب
82

وقف يقاتلنا فارس وهو بطريق عظيم الخلقة وعليه لبس يلمع وتحته جواد عربي فنادانا بالعربية بلسان فصيح وقال يا عرب انصرفوا عنا فانا لا نريد حربكم وقد ملكتم منا مصر والصعيد وأكثر الريف وقد بقي في أيدينا هذه الجهة وما نحن منازعونكم فيما أخذتموه منا ونحن لا نقلدكم في البغي ونصالحكم صلحا نعود منه عن ظلم أنفسنا ونعدل في رعيتنا وان أبيتم صلحنا لقيناكم بأسرار نقية وقلوب للجهاد قوية فنردكم على أعقابكم منهزمين وفي أذيال الذل متعثرين لأنه ما عدا أحد على أهل هذا الدين الا ذلك وانهزم لأننا قوم لنا الكنائس الأربع والصوامع والبيع والقسوس والرهبان والمذابح والقربان والإنجيل والصلبان ثم سكت عن كلامه
قال الراوي وكان هو الملك بن المقوقس فكان أول من بادر إلى رد جوابه شرحبيل بن حسنة كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له لقد افتخرت بما يؤدي صاحبه إلى البوار ويعقبه سوء الدار يا ويلكم أفتفتخرون علينا بالشرك والطغيان وعبادة الصلبان والكفر بالرحمن ونحن أولو التقى والايمان والفوز والرضوان والقبلة والقرآن والحج والاحرام والصلاة والصيام والاجتهاد والاحترام ديننا أفضل الأديان ونبينا المبعوث بالمعجزات والبيان وبالآيات والبرهان والمنزل عليه القرآن ومن اتبعه نال من ربه الغفران ومن جحد صحبته باء بغضب الملك الديان الذي كان ولا مكان ولا دهر ولا زمان ولا وقت ولا أوان شهد لنفسه بالربوبية ولصفاته بالأزلية ولذاته بالأحدية ولملكه بالأبدية سلطانه قاهر وكرمه ظاهر وتدبيره محكم وقضاؤه مبرم وعرشه رفيع وصنعه بديع وليس بوالد ولا مولود ولا لذاته حد محدود ولا لبقائه أجل معدود خضعت الأعناق لعظمته وخشعت الأصوات لهيبته وعنت الوجوه لعزته وذلت الأقوياء لقوته لا يحصى نواله ولا يفني كماله ولا تبيد نعمه وافضاله يا ويلكم كيف طاب لكم الكفر بالهيته والاشراك بربوبيته وان تجعلوا له ولدا من خلقه وبريته وتسجدون للصلبان في دار مملكته ولا تفزعون من عظمته ثم إنه قرأ * (ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون حتى إذا ما جاؤوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون) * ثم قال شرحبيل ان لله عبادا لو أقسموا على الله أن يدكدك لهم هذا السور لفعل وكانت اشارته إلى سور المدينة فغار السور في الأرض وبانت المنازل والدور قال فارتعدت فرائص الملك لما عاين ذلك من عظيم القدرة فلوى عنان جواده إلى عسكره وأفئدتهم قد طارت وأفكار القبط قد حارت فلما جن الليل أخذ الملك خزائنه وأمواله
83

وحريمه وعياله وركب في المراكب وسار يريد جزيرة أقريطش فلما أصبح الصباح وقع الصايح بالمدينة بأن الملك قد انهزم فاجتمع الأكابر وقالوا ان الملك قد انهزم وما لنا من يدفع هؤلاء العرب قال فخرجوا بأجمعهم إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقفوا بين يدي خالد وقالوا ان الله قد نصركم بحق وأيدكم بصدق وانا نريد منكم ان تعاملونا بالنصفة وتنظروا الينا بعين الرحمة والعدل سنة من كان قبلنا معكم من الروم فقال خالد ما فعل ملككم قالوا وانهزم بأهله وماله في البحر فقال قوم قد أسكن الله الرحمة في قلوبنا وبصرنا بمعالم ديننا وأظهرنا على أعدائنا وفضلنا على سائر من كان قبلنا من الأجناس فقال تعالى * (كنتم خير أمة أخرجت للناس) * ونحن نجريكم على أحسن عوائدنا مع سائر من فتحنا بلادهم وقد أمسكنا عنكم ولو أردنا أن نملك البلد بالسيف لهان علينا ولكن خير الناس من قدر وعفا ونريد منكم مائة ألف مثال ذهبا صلحا عن أنفسكم وأهاليكم وندعوكم بعد ذلك إلى الاسلام فمن أجاب منكم كان له ما لنا وعليه ما علينا ومن عدل عن ذلك أخذنا منه الجزية عن السنة الآتية من كل رجل وغلام بلغ الحلم أربع دنانير ونشرط عليكم شروطا أن لا تركبوا دابة ولا تعلموا دوركم على دور المسلمين ولا ترفعوا أصواتكم عليهم ولا تبنوا كنيسة ولا صومعة ولا ديرا ولا تجددوا ما دثر وتلقوا المسلمين بالذل والانكسار وتسارعوا في قضاء حوائجهم وما يريدون في اصلاح شأنهم لا تعدلوا عن تعظيم أهله ومن أذنب منكم ذنبا حددناه ومن ارتد عن قولنا قتلناه وان تشدوا الزنانير على خصوركم اظهارا لدينكم وأن لا تظهروا ناقوسا ولا صليبا ولو آمنتم بالله ورسوله لكان خيرا لكم فقالوا فقالوا أيها الأمير مانترك ديننا فقرأوإذا قيل لهم اتعبعوا ما أنزل قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أو لو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى والى الله عاقبة الأمور ومن كفر فلا يحزنك كفره الينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا ان الله عليم بذات الصدور نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ فقالوا أيها الأمير نريد أن تولي علينا رجلا منا حتى يجمع المال الذي تقرر علينا فيلمه بالعدل وليمكن معه رجل منكم من أصحابكم فقال خالد أني لا أعرف أحدا من أجاويدكم فاختاروا لأنفسكم برضاكم من أوليه عليكم فأشاروا إلى رجل منهم اسمه شيعا بن شامس وكان مقدما في القبط فولاه خالد على جمع المال ورياسة البلد وندب معه قيس بن سعد وأوصاهم وقال خذوا من كان واحد ما يحتمل حاله ومن كان معسرا
84

ضعيفا فدعوه وأحسنوا ان الله يحب المحسنين ولا تظلموا يتيما ولا فقيرا ولا أرملة فتعجب القبط من حسن وصيته وكلامه فدخل القوم واجتمعوا في دار الامارة وبعث شيعا غلمانه يجمعون الناس
قال حدثنا جرير بن عاصم عن نعيم بن موسى الداراني عن أبا سليمان
بن عوف عن جده مازن بن سعيد قال وقع القسط على أهل إسكندرية فكان أكبرهم في الحشمة وأغزرهم في المال يزن عشرة قراريط وأوسطهم حالا يزن قيراطين ولقد أتى برجل من أغنيائهم اسمه برأس لا يدري ما يملك من المال والدبش والغنم وكان أبخل أهل زمانه فقال له شيعا قد وجب عليك في هذا المال دينار قال وحق المسيح ما أنا بالذي يؤديه ولو مت وان تصدقت به كان أفضل من عطيتي للعرب فقال له قيس بن سعد ان في الذي نأخذه منكم صونا لأنفسكم وحفظا لدمائكم ونحن ما نأخذه على وجه الصدقة منكم بل نأخذه حلالا لا حراما يا ويلك لو دخلنا مدينتكم بالسيف ألست كنت أنت أول من قتل ومالك أول ما نهب وقال له شيعا خذلك الله ولعنك كل من في إسكندرية يعلم أنك كنت أولا فقيرا لا تقدر على شيء من أمور الدنيا وقد آتاك الله من فضله ووسع عليك رزقه فقال الست ورثته عن آباء كرام وأجداد عظام وما لله علي من فضل قال فغضب قيس وقام اليه وقمعه بمقرعة كانت معه وقال له كذبت يا عدو الله ورسوله الفضل والحمد والمنة لله لأنه رزقنا من فضله وأسبغ علينا من نعمه وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها ثم قال قيس اللهم انه جحد نعمتك فأزلها عنه قال فوالله ما مضى يومه حتى جاء الخبر بان أغنامه قد هلكت جميعا وبساتينه يبست ودياره قد تهدمت وأمواله ذهبت قال قيس الله أكبر هذا والله حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو هريرة بجانبي قال إن
ثلاثة من بني إسرائيل كان أحدهم أبرص والآخر أقرع والآخر أعمى فبعث الله إليهم ملكا فأتى الأبرص فقال له أي شيء أحب إليك فقال الجلد الحسن والإبل فأتى الأقرع فقال له أي شيء أحب إليك قال الشعر الحسن والغنم وأتى الثالث فقال له أي شيء أحب إليك فقال النظر والبقر قال ثم إن الملك مسح بيده على جلد الأبرص فعاد أحسن جلدا وأعطاه ناقة عشراء فبارك الله له فيها حتى ضاقت بابله الديار وأما الأقرع فأتاه ومسح بيده على رأسه فأنبت الله له شعرا حسنا وأعطاه نعجة عشراء فتوالدت إلى
أن ضاقت بها تلك الديار ثم أتى الأعمى ومسح بيده على عينيه فعادتا أحسن عينين وأعطاه بقرة عشراء فتوالدت إلى أن ضاقت بها تلك الديار قال ثم أتاهم ليمتحنهم فأتى الأبرص فقال له كنت أبرص فقيرا لا تملك شيئا فأعطني مما آتاك
85

الله من هذه الإبل ناقة أتسبب عليها فقال له ما كنت فقيرا ولا أبرص وانما ورثت هذا المال من آبائي قال فذهب إلى الأقرع وقال له مثل ما قال للأبرص فقال مثل ما قال الأبرص فذهب إلى الثالث وقال له مثل ما قال لصاحبيه فأجاب وقال بسم الله والله لقد صدقت فاذهب إلى هذا البقر فاقسمها بيني وبينك فقال له بارك الله لك في مالك وقد رد الله صاحبيك كما كانا فإنهما كفرا نعمة الله
قال الراوي وجمعوا المال ومضوا به إلى خالد وبنى فيها المساجد وأخذ كنيستهم العظمى فجعلها جامعا وترك لهم أربع كنائس وكتب إلى عمرو بن العاص يعلمه بفتح إسكندرية ففرح وركب وترك موضعه أبا ذر الغفاري وذهب إلى الإسكندرية وبني فيها جامعا في الربض وهو معروف بجامع عمرو إلى يومنا هذا
ذكر فتح مدينة دمياط وما والاها
قال الراوي وأتت اليه أهل رشيد وفوة والمحلة ودميرة وسمنود وجرجة ودمنهور وابيار والبحيرة وصالحوه على بلادهم ثم إنه بعث المقداد ومعه أربعون فارسا وهم ضرار وشاكر ونوفل وراجح وعاصم وفارس وعروة وسهل وعمير وكعب وسعيد ويزيد وصعصعة وغيرهم وأمرهم بالمسير إلى دمياط وأمر عليهم المقداد بن الأسود الكندي فساروا إلى البرلس ودمياط كان بها خال الملك المقوقس وكان عسكره اثني عشر ألفا وكان قد حصن البلد وجمع فيها من آلة الحصار من الزاد وغيره قال فلما أشرف عليه الصحابة ونظر إلى قلتهم ضحك وقال إن قوما ينفذون الينا منهم أربعين ليملكوا بلدنا لفي عجز وقلة عقل قال وكان ولده الأكبر فارسا مشهورا في جميع بلاد النيل وكان اسمه هريرا وكان يثق به وبشجاعته وبراعته وليس في عينيه الفرسان شيئا فلما رأى الصحابة وهم أربعون قفز إليهم وهو لابس لامة حربه وطلب البراز فخرج اليه ضرار بن الأزور وحمل عليه فطعنه فقتله وحمل على عسكر دمياط فالجأهم إلى حيطان البلد وهو كأنه النار في الحطب فاستعاذ منه الجيش ثم إن خال الملك وكان اسمه البامرك اجتمع بأرباب دولته وقد صعب عليه قتل ولده وكان عندهم حكيم يثقون به وبرأيه ويعتمدون على عقله فأحضروه وقالوا له أيها الحكيم العالم ما الذي تشير به علينا في أمر هؤلاء العرب
فقال أيها الملك ان جوهر العقل لا قيمة له وما استضاء به أحد الا هداه إلى سبيل نجاته وقاده إلى معالم مصالحه وهؤلاء القوم لا تذل لهم
86

راية ولا تلحق لهم غاية قد فتحوا البلاد وأذلوا العباد واشتهر أمرهم وعلا ذكرهم وفشا خبرهم وعلت كلمتهم وطافت الأرض دعوتهم فما أحد يقدر عليهم ولا يصل إليهم وما نحن باشد من جيوش الشام ولا امنع بلدا وهؤلاء القوم قد أيدوا بالنصر وغلبوا بالقهر وان الرحمة في قلوبهم فعاهدهم فما عاهدوا عهدا وخانوا وما حلفوا يمينا فكذبوا وقد بلغك ما هم عليه من الدين والصيانة والصدق والأمانة والرأي عندي ان تصالحهم لتنال بذلك الأمن وحقن الدماء وصون الحريم ودفع الأمر العظيم ونكون قد صالحناهم ودفعناهم بشي من مالنا قال فلما سمع البامرك ذلك من الحكيم أمر بضرب عنقه فلما عرف الحكيم أن المنية قد غشيته قال اللهم إني بريء مما يشركون بك لا شريك لك ولا ولد ولا صاحبة لك وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قال فلما سمع البامرك كلامه ضربه فقتله وأمرهم بأن يأخذوا على أنفسهم للحرب فلما كان الغد خرجوا إلى ظاهر دمياط ونصبوا خيامهم قال وكان للحكيم ولد ورث فضائل أبيه وكان فيه فطنة وعقل وتدبير فلما قتل أبوه أظهر الفرح والدعة للملك البامرك وقال لقد أراحني الملك منه ومن شره فبلغ البامرك ما قاله ابن الحكيم فأرسل اليه وخلع عليه وطيب قلبه فلما كان الليل قال والله لآخذن بثأر أبي من هذا اللعين ومن أولاده وكانت داره ملاصقة للسور فنقب نقبا واسعا وخرج منه وقصد الصحابة فلما رأوه قالوا له من أنت قال إن أبي قد قتل من أجلكم وقد نقبت نقبا وخرجت منه فقوموا على بركة الله وعونه حتى تملكوا المدينة منه فقال له ضرار يا ويلك وان الذي بعثك بهذه الحيلة أراد قتلك أما علمت أن الحذر شعارنا واليقظة دثارنا وهم بقتله فقال له المقداد أمهل يا ضرار وفقك الله إلى الخير وة وقاك الألم والضير ثم قال المقداد اني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وهو يشير إلى شخص بين يديه وكأنما يقول على زي هذا الغلام وكأنما أتأمل إلى هذا الغلام فرأيته على ما هو عليه الآن وكان على وسطه منطقة من الأديم وفيها حلق فضة وهي تحت أثوابه ثم إن المقداد قال يا غلام اكشف عن أثوابك فكشف عن أثوابه وإذا المنطقة بعينها فقال أشهد ان لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام المسلمون فصافحوه ومضى الغلام أمامهم إلى أن دخل بهم النقب ووسعوه بأيديهم حتى دخلت خيولهم ثم ردوا الحجارة والطين والبناء على حاله وأعمى الله أبصار القوم عنهم فلما كان الغد نظر أعداء الله فلم يروا للصحابة أثرا ولا خبرا فضجوا بكلمة كفرهم وماجوا وقالوا
87

هربت العرب ووقع الصائح في العسكر فظهر أهل البلد ليقفوا على صحة الخبر ولم يبق في البلد سوى النساء والأطفال قال ابن إسحاق وكان للحكيم بنو عم ثمانون رجلا وان ولده طاف عليهم بالليل وأعلمهم بما فعل فأقبلوا معه وأسلموا عن آخرهم فلما كان الغد وخرج كل من في البلد بادر بنو عم الحكيم واخوته إلى الأبواب فأغلقوها وأعلنوا بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير فوقعت الخمدة على النساء والصبيان واستوثق القوم من المدينة بالثمانين رجلا فأمسكوهم الأبواب وخرج الصحابة رضي الله عنهم ورفعوا أصواتهم يكبرون ويدعون الله عز وجل فلما نظر لهم أهل البلد علموا أنهم قد ملكوها وان الذي فعل ذلك بنو عم الديرجان الحكيم وقد أغلقوا الأبواب وقفلوها وملكوا السور فوقف الملك ينظر إلى ما فعله الصحابة وعلم أن المدينة أخذت منهم وكان في أولاده ولد عاقل لبيب كامل الذات والصفات وافر العقل وكان منذ نشأ يتبع العلماء ويجالسهم ويطلب العلم ومنذ ملك عقله ما أكل لحم خنزير ولا كشف ذيله على محرم ولا سجد لصورة ولا لصليب وكان هم أن يبني صومعة وينفرد فيها فلم يمكنه أبوه من فرط محبته له وكان لا يستطيع فراقه وهذا الغلام اسمه شطا وكان يحب أن يسمع أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبحث عنها فلما نظر إلى الصحابة وقد ملكوا منه البلد وشطا عن يمين أبيه نظر شطا إلى الصحابة والى زيهم والى نور الايمان وهو ساطع منهم
قال فشخص شطا نحو السماء ببصره وصاح وسقط عن قربوس فرسه بوجهه قال فارتاع أبوه وجميع عسكره من تلك الصيحة فلما أفاق قال له أبوه يا بني ما وراءك قال ظهر الله والحق وبان وقد تبينت لي حقيقة الايمان وقد نظرت إلى عسكر هؤلاء العرب وعليهم نور عظيم ومعهم رجال عليهم ثياب خضر وهم على خيول شهب وبينهم قبتان معلقتان في الجو بلا علاقة من فوقها ولا دعامة من تحتها وفيها رجال ما رأيت أحسن من وجوههم ولا شك أنهم الشهداء ورأيت في احدى القبتين حورا لو برزن لأهل الدنيا لماتوا شوقا إليهن وان الله تعالى ما كشف عن بصري وأراني ذلك الا وقد أراد لي الخير وما كنت بالذي بعد هذه الرؤيا أبقى على الضلال ولا أتبع المحال وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وحرك جواده وقال من أحبني من رجالي وغلماني فليتبعني قال فتبعه القوم الف رجل ولحقوا ما فعل ولده شطا قال والله ما فعل ولدي شطا ذلك الا وقد رأى الحق ولست أشك في عقله ودينه ثم إنه أسلم ولحق بولده فلما نظر أرباب دولته ذلك قالوا إذا كان الملك وولده قد أسلما فما وقوفنا نحن فاسملوا جميعا على يد
88

أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخلوا المدينة فمن أسلم تركوه ومن أبى أخرجوه إلى بلاد الأرياف قال وفتح المقداد النقب الذي دخلوا منه وأمر ببنائه بابا فسماه باب اليتيم وهو ابن الحكيم وترك عندهم المقداد رجلا من الصحابة يعلمهم شرائع الاسلام وهو يزيد بن عامر رضي الله عنه ورجع المقداد وأصحابه إلى إسكندرية وحدثوا عمرا بما فتح الله عليه من دمياط ففرح بذلك وكتب كتابا إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بفتح مريوط والإسكندرية ودمياط ورشيد وفوة والمحلة ودميرة وسمنود وجرجة ودمنهور وابيار والبحيرة وبعث الكتاب مع عامر بن لؤي
ذكر فتح جزيرة تنيس
قال حدثني زياد عن حميد الطويل عن يونس بن الصامت عن نصر بن مسروق قال لما فتحت دمياط وكان من أمرها ما كان قال البامرك لولده يا بني ان الله قد أنقذنا من نار الجحيم وقد هدانا إلى الصراط المستقيم وذلك لسابقة سبقت لنا في القدم وهذه تنيس بالقرب منا وهي جزيرة ولا يمكن التوصل إليها الا في المراكب والصواب أننا نكاتب صاحبها أبا ثوب وندعوه إلى الله والى دين نبيه فان أجاب والا قصدناه والله ينصرنا فقال شطا هذا هو الرأي وأنا أكون الرسول اليه بنفسي فقال يا بني اعزم على بركة الله وعونه قال فركب شطا في مركب وأخذ معه أربعة من غلمانه الخواص فلما نظر يزيد بن عامر إلى ذلك قال وأنا أسير معك إلى صاحب تنيس فإنه لو سألك عن ديننا ومعالمه لم يكن عندك به علم بأن تكلمه ونحن بحمد الله ما فينا من يتكبر ولا من يتجبر وما طلبتنا الا الآخرة والعمل بما يقربنا إلى الله ثم سار معه يزيد ابن عامر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وصلوا إلى جزيرة تنيس وفيها رجال يحفظونها فلما نظروا إلى شطا وغلمانه وبينهم رجل بدوي قالوا من أنتم قال لهم شطا أنا ابن الملك البامرك صاحب دمياط ومعنا هذا الرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جئناكم رسلا قال فأرسلوا منهم واحدا يستأذن لهم فأذن لهم أبو ثوب قال فنزلوا في الزورق وإذا به قد أرسل لهم دوابا ليركبوها فامتنع يزيد من الركوب ووافقه شطا على ذلك وساروا كلهم رجالا إلى أبي ثوب فاستأذنوا عليه فأذن لهم فلما دخلوا قصر أبي ثوب وإذا به في حشمه وخدمه وزينته والحجاب والغلمان بين يديه وهو في مرتبه امارته وكان قد تكبر وتجبر منذ نزل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على مصر ومنع المال والخراج أن يؤديه للمقوقس وولده وقد اجتمع عنده مال عظيم فلما دخل عليه يزيد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وشطا وغلمانه
89

ونظروا إلى أبي ثوب وغلمانه وتجبره بدأ يزيد بالسلام فقال السلام على من اتبع الهدى * (إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى) *
قال الواقدي حدثنا ابن سالم عن جرير بن أحمد عن أبيه عبينة عن ابن جرير وكان أعلم الناس بقصة فتوح مصر والمغرب قال كان أبو ثوب هذا من أرض العريش من متنصرة العرب من آل غسان وهو قريب جبلة وكان صاحب مال ورجال وأنه لما وقعت الهزيمة على الروم وفتح الشام وانهزم الملك هرقل وهرب معه جبلة هرب معهم أبو ثوب هذا بماله وأهله واخوته إلى أرض الجفار ونزل في البرية ما بين العريش ورفح وأن المقوقس خرج في بعض الأيام يريد الصيد في عسكره فانتهى في سرحته إلى أرض العريش فانطرد قدامهم وحش كبير فطلبه الملك وتبعه ولم يتبعه أحد من عسكره وهو وراءه وحده إلى أن رماه في حلل العرب في حلة أبي ثوب فقام اليه وعظمه وبجله وعلم أنه الملك فامسك ركابه وأنزله في بيته وذبح له الأغنام ووضع له الطعام وتلاحق الجيش قال فأضافهم أبو ثوب ثلاثة أيام فلما كان في اليوم الرابع ركب في خدمة الملك وشيعه وعاد فلما دخل المقوقس إلى مصر أمر وزيره بأن يكتب إلى أبي ثوب بولاية تنيس وأعمالها وأرسل له الخلع والأموال والمماليك والغلمان فلما وصل اليه منشور الملك وخلعه فرح أبو ثوب وركب وسار إلى الفرمة وركب منها في المراكب إلى تنيس فلما مكث في ولايته بعث إلى أهله واخوته فأتوا اليه فولى أخاه أباسيف على جزيرة الصدف وولى أخاه الثاني أبا شق على جزيرة الطير وولى ولده على دنيوز فلما طال عليه الامر طغى وتجبر ومرت الأيام والليالي حتى قدم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض مصر فمنع دفع الخراج إلى مصر والى المقوقس وولده ورأى نفسه في تلك الجزيرة فتحصن بها وقال ما أحد يقدر أن يصل إلي فلما قدم شطا ويزيد بن عامر ونظر إليهم أبو ثوب أظهر الاعجاب والتكبر ولم يلتفت إليهم ولم يجسر أحد من جماعته أن يأذن لهم بالجلوس فلما نظر إلى ذلك يزيد بن عامر قرأ * (إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين) * وجلس إلى جانبه شطا ونظر يزيد إلى سرير أبي ثوب فإذا هو من الذهب ووفيه صورة النخلة ومن تحتها صورة مريم والمسيح في حجرها فقرأ فناداها من تحتها ان لا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا فكلي واشربي وقري عينا فاما ترين من البشر أحد فقولي اني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم انسيا إلى قوله اني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت
90

ويوم ابعث حيا قال فلما سمع أبو ثوب كلام يزيد التفت اليه بغضب وحنق وقال ما هذا الكلام الذي نطقت به قال يزيد هذا كلام الله جل جلاله الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم الذي لا تفنى عجائبه ولا تنفذ غرائبه ولا تبدل كلماته ولا تمل آياته فقال ما معنى الذي ذكرت ونطقت به وما تفسيره فقال يزيد أما قول الله اخبارا عن
عيسى حين قال إني عبد الله فإنه يعلم الخلق أنه عبد الله وليس بولد جل الواحد الأحد الفرد الصمد وأما قوله آتاني الكتاب فمعناه أعلمكم الاحكام وأعرفكم الحلال والحرام وأما قوله وأوصاني بالصلاة والزكاة فمعناه أني مأمور بالطاعة والخدمة والزكاة مثلكم فان في مالي حقا لله وأما قوله والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت فيعلمهم أنه يموت ومن يموت لا يكون له العزة والجبروت وأما قوله ويوم أبعث حيا فيعلمهم أنه وإياهم مبعوثون في يوم القيامة وقوف يوم الحشر والندامة ولو كانا الهين لكان لهما ارادتان ووقع الخلف بينهما وان الحكمة غير ذلك وهي على وحدانيته شاهدة قال فلما سمع أبو ثوب من يزيد بن عامر هذا المقال قال لقد مثلتم بالأباطيل وغرقتم في بحر الأضاليل فقال يزيد الله أعلم من هو تائه في تيه المحال مشرك بالملك المتعال الذي لا سماء تظله ولا أرض تقله ولا ليل يؤويه ولا نهار يأتيه ولا ضياء يظهره ولا ظلام يستره ولا يقهره سلطان ولا يغيره زمان كل يوم هو في شان أما لكم بصائر أما منكم من ينظر ويعتبر في قدرة الله القادر اما منكم من يعظ نفسه بذهاب النهار واقبال الليل اما آن لكم أن تنزهوه أما آن لكم أن توحدوه أما سمعتم ممن تعبدونه وتبرؤن اليه وتعظمونه فان المسيح قد أقر له بالعبودية وتبرأ من دعوى الربوبية وقال إني عبد الله ولقد بشر بنبينا قبل مبعثه وعرف بني إسرائيل بقربه من الحق وكرامته أما سمعتم بمعجزاته وما ظهر من دلالاته أما انشق له القمر أما كلمه الضب والحجر أما خاطبه البعير والشجر أما هو من أطيب بيت من مصر قال فعجز أبو ثوب عن رد الجواب ولم يكن له ما يزيل حجته الا أن قال ليزيد بن عامر لقد علمنا ما فعل ولكنه كان ساحرا وان كان قولك هذا حقا فادع الله وتوسل اليه بمحمد أن يسقينا الغيث فان جاء الغيث علمنا أن قولك ليس فيه شك ونؤمن بالله ونصدق برسالة محمد صلى الله عليه وسلم قال يزيد بن عامر ان الله يقدر على ما ذكرت فان الله على كل شيء قدير ان العبد المخلص إذا دعاه أجاب دعوته ولكنه يفعل ما يشاء وأنا أتوسل إلى الله بخير خلقه وصفيه وهو الفعال لما يريد ثم إن يزيد قام وخرج من مجلس أبي ثوب فقال له إلى أين قال أدعو الذي لو شاء أنزل عليكم رجزا من السماء ثم قرأ * (بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله وما لهم من ناصرين) *
91

قال حدثنا عاصم عن رويم عن ابن جبير قال انما طلب أبو ثوب الغيث واقتصر عليه لأنه كانت له مزرعة بالبعد من النيل ولا 1 يقدر أن يسقيها ولا يصل إليها ماء وكانت قد أشرفت على الهلاك واليبس وكانت منه ببال وكان قد غرس فيها من جميع الثمار والأشجار وصنع لها مصانع تمتلئ بماء المطر فيسقيها وقت الحاجة إليها وكان المطر قد أمسك عنها والمصانع نشفت فلما خرج يزيد إلى البحر توضأ وصلى ركعتين ثم رفع رأسه نحو السماء وقال اللهم انك قد أمرتنا بالدعاء ووعدتنا بالإجابة فقلت وأنت أصدق القائلين * (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان) * وقد دعوت كما أمرت فاستجب كما وعدت يا ذا المعروف الذي لا ينقطع أبدا ولا يحصيه غيرك قال ابن جبير لقد بلغني ممن أثق به أن يزيد بن عامر ما برح يدعو حتى ارتفع السحاب من الجو ووقف وقفة الخاضع ورفع جناح السائل المتواضع وارتفعت سحابة وتألقت والرعد يصول حولها صولة الغاضب وهو لها بصوت البرق يزجر بصلصلة وقعقعة وهرير وهو على ذلك سيره ومسيره وقد أحاطت بالسحابة ملائكة الرحمة متمنطقة بنطاق الخدمة يسوقونها من خزائن رحمته ويجذبونها بأزمة القهر إلى ملك أبديته وهو واضع أجنحة عبوديته موسوم بوسم * (ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته) * والركام يسري ويسرع اسراع الوجل يسبح من يسجد لجلاله فترى الودق يخرج من خلاله فإذا هي أشرفت وتكاملت بالماء ووسقت والبروق من أركانها قد انشقت وهبت عليها رياح قدرته من مواضع خزائن رحمته وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته فعندها تفتح مغاليق أبوابها وترفع ستر حجابها فهمت بدموع أشجانها على أيدي خزانها فتستبشر الأرض عند ورودها وتنتظم عقود الزهر عند ورودها في جيد وجودها وتخرج كنوز ذخائرها فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها قال ونزل المطر يسكب بقية يومهم وليلتهم فلما كان من الغد حضر يزيد بن عامر مجلس أبي ثوب وقال لهم كيف رأيت صنع الله الصانع المتكفل بأرزاق العبيد قال فضحك أبو ثوب وقال إن سحركم لعظيم وان مكركم لجسيم وان سحركم يفعل أكثر من هذا فقال انما ذلك رحمة من الله قد أبر من أقسم باسمه عليه فلما رأى نزول المطر وظهرت بركات صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال على سبيل المكر الآن تحققت أن دينكم الحق وقولكم الصدق وأنا مؤمن بالله ومصدق برسالة رسول لله صلى الله عليه وسلم وسوف أعرض دين الاسلام على أهل جزيرتي
92

وأصحابي وأهلي وأبني المساجد وآمر بالمعروف وأنهي عن المنكر فقال يزيد ان أنت فعلت ذلك رشدت وان نافقت فان ربك لبالمرصاد ثم خرج من عنده هو ومن كان معه شطا وغلمانه ومضوا إلى دمياط إلى البامرك وحدثوه بما كان من أبي ثوب فقال والله لقد خدعكم بخديعته ورماكم بسهم مكيدته فقال يزيد بن عامر ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين فما لبثوا أياما قلائل حتى وصل الخبر أن أبا ثوب جمع من سائر الجزائر وهو قادم عليهم فلما سمع البامرك بذلك قال ليزيد بن عامر ما الذي ترى من الرأي في أمر هذا العدو فقال يزيد نستعين بالله ونتوكل على الله ومن قاتلنا قاتلناه
قال بن إسحاق وان البامرك أرسل ولده شطا إلى البرلس ودميرة وطناح ومن تحت يده يطلبهم فجاؤوا من كل جهة وكتب يزيد إلى عمرو بن العاص يعلمه أن أبا ثوب قد جمع الجموع فلما وصل اليه الكتاب أرسل إليهم هلال بن أوس بن صفوان بن ربيعة أحد بني لؤي ومعه الف فارس وأمره بالمسير إلى دمياط وذلك في العشر الأول من شعبان سنة عشرين من الهجرة وكان لعمر بن الخطاب في الخلافة أربع سنين ونصف أما ما كان من أبي ثوب فإنه لما نفر اليه العساكر أخرجهم بظاهر تنيس فكانوا عشرين ألفا من الرجال ومن الخيل خمسمائة فارس من القبط ومتنصرة العرب وعداهم في المراكب وأتوا نحو دمياط فخرج شطا بن البامرك فقتل رجالا وجندل ابطالا وانه اشترى الجنة من الله بنفسه ولم يزل يقاتلهم بقية يومه ثم إنه عاد من قتال اللئام إلى الصلاة والصيام ولم يزل على قدم الخوف والوجل وهو منكس الرأس من الخجل من الله تعالى عز وجل فلما مضى أكثر الليل وطلع نجم سهيل اضطجع فلما كان وقت الغلس وقرب الصبح وتنفس استيقظ شطا وهو باكي العين فقال له أبوه يا بني ما الذي أبكاك فقال رأيت شيئا في منامي أبصرته وسمعت منه كلاما وعاينته وحفظته وحررته والدنيا هي طالق واني بعون ربي واثق ولا شك أني لك مفارق فقال أبوه أعوذ بالله يا بني ما هذا الكلام ولعل ذلك أضغاث أحلام
فقال لا والله ما هي أضغاث أحلام لكنه أمر من الملك العلام الذي أجرى الأقلام وخلق الضياء والظلام وبعث سيد الأنام بشرائع الاسلام واني رايت في منامي كأن أبواب السماء قد فتحت وأنوار الهداية قد سطعت ولمعت ثم تفتحت أبواب السماء الثانية ثم رأيت ملائكتها سجودا على جباههم لا يقومون وركعا لا ينتصبون وقياما من هيبة ربهم لا يقعدون وباكين لا تجف لهم دموع ثم كذلك رايت سماء بعد سماء إلى السماء السابعة ثم رأيت قبة من زمرد أخضر وفيها قناديل من الجوهر وهي تسرج من الأنوار وتوقد من غير نار وفيها
93

أربعون حوراء عليهن حلل ما رأيت قط مثلها ولا أبصرت شكلها بوجوه تفتن الانس وفي أرجلهن نعال الياقوت الأحمر يطأن بها على النمارق والزرابي فصاحت بي إحداهن وهي كبيرتهن وقالت يا مفتونا بدار الدنيا أما آن لك أن تذكرنا فقد خلقناالله لك منذ خلقك وجعل مهرنا منك الجهاد في مرضاة رب العباد وقد الفت الجفاء وما هكذا صنع أهل الوفاء انظر إلى ما أعد لك وللشهداء قال فنظرت وإذا بقباب معلقة حيث لا يدرك لها نهاية بعدد النجوم وقطرات الغيوم وقد نفد الميقات وانقضت الساعات والأوقات فتيقظ في المنام وارحل إلى دار السلام وقالت في كل قبة مثل ما رأيت فقلت ما هذه القباب فقالت هذه قباب قوام الليل والشهداء يأوون إليها في جنة المأوى ثم أنها جعلت تقول
* أنت يا مفتون دواما
* في الدنا ثم المنام
* فدع النوم وبادر مثل فعل المستهام
* وابك بالوجد دوما
* بدموع وانسجام
* ثم نح يا ذا كثيرا
* في نهار وظلام
* أيها اللائم دعني
* لست أصغي للملام
* في عروس قد تبدت
* فاقت البدر التمام
* طرفها يرشق باللحظ مصيبا كالسهام
* ولها صدغ منير مثل نون تحت لام
* أحسن الأتراب قدا
* في اعتدال وقوام
* مهرها أن قام ليلا وهو باك في الظلام
* فاستمع مني قولي ثم فكر في النظام
* وغدا بادر لحرب
* والى ضرب السهام
* مسرعا تأتي الينا بعد ترحال الظلام
*
فقال أبوه اعلم يا ولدي أن من المنام ما يصدق وما يكذب فلا تشغل نفسك بما رأيت فقال لا والله يا أباه ما بقي لي في الدنيا طمع ولم يزل باقي ليلته يبكي ويتضرع ويقوم على أقدام الخشوع ويخضع وأجفانه بالدوام تدمع إلى أن أصبح الصباح وأشرق بحيائه ولاح فودع شطا أباه وأهله وخرج إلى الحرب فتعلق به أبوه وقال له يا بني بحقي عليك لا تبلني بفراقك فقال شطا دع عنك العتاب فقد قرب لقاء الأحباب فعندها قامت على أبيه المواسم وانهل الدمع الساجم ودنا الفراق وقامت الأشواق وجرى دمع كل عين وأقبل البامرك يودع ولده ويقول يا بني ان صح منامك وضربت في دار السلام خيامك فاذكرنا بحسن طريقة الوفا وأقرىء سلامي على النبي المصطفى فبرز شطا إلى الحرب ودعا للبراز فخرج اليه واحد فقتله وثان وثالث حتى قتل اثني عشر فارسا قال ابن إسحاق فلما رأى أبو ثوب ما فعل شطا بفرسانه لم يطق الصبر دون ان خرج اليه بنفسه وكان من الفرسان المذكورة فلما سار شطا في الميدان قال له يا شطا كيف تركت الدين المستقيم وعدلت عنه وصغيت إلى
94

هؤلاء اللئام واتبعت دين الاسلام لقد عمل فيك القوم واستوجبت العتب واللوم يا فتى عد إلى الدين الصحيح والقول الرجيح وهو دين المسيح فأي شيء رايت من هؤلاء المساكين حتى تبعت دينهم فلما سمع شطا كلام أبي ثوب أقبل عليه مغضبا وقال له يا لئيم أتأمرني أن أدع الدين المستقيم الذي كان عليه الخليل والكليم وأني لي بذلك وقد رأيت الليلة مالي من الكرامة عند الله وقد طلقت الدنيا ثلاثا فلما سمع أبو ثوب كلامه حمل عليه ومد سنانه اليه فتلقاه بقلب قوي وجنان جري وعزم مضي وحسام سري
وتقاتلا نصف نهار فعطش شطا فأراد الله أن يطيب قلبه فكشف عن بصره فرأى القبة التي رآها في المنام والحوراء التي أنشدته الأبيات وفي يدها كأس من شربها لا يفنى ولا يسقم وفيه من الرحيق المختوم وهي تقول يا شطا هذا شراب من شرب منه لا يسقم ولا يفيق والساعة تصل الينا وتقدم علينا قال فلما نظر شطا إلى ذلك وسمع منها ما قالت صاح الله أكبر * (هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون) * وأخذه الدمع والبكاء خوفا من الله فقال له أبو ثوب مم بكاؤك قال رأيت كذا وكذا فضحك أبو ثوب من كلامه وحمل عليه فتقاتلا قتالا شديدا أعظم من الأول الا أن ابا ثوب سبق شطا بطعنة في صدره فاطلع السنان من ظهره فخر صريعا فلما نظر البامرك إلى ولده مطروحا لم يأخذه صبر دون أن حمل عليه هو وأصحابه قال وأظلمت آفاق تلك الأرض من الغبار وترادف القتار فوقعت الهزيمة على البامرك وأصحابه فالجأهم إلى أبواب دمياط وطمع فيهم عدو الله أبو ثوب وإذ قد أتاهم هلال بن أوس بن صفوان بن ربيعة فوضعوا أيديهم في أبي ثوب وأصحابه وهم ينادون بالتهليل والتكبير وتحامي أصحاب البامرك وحملوا من قبلهم قال وأما أبو ثوب وأصحابه فإنهم أيسوا من أنفسهم قال فهم في ذلك إذ التقى يزيد بن عامر بأبي ثوب فقال له يا عدو الله أما اتعظت بآيات الله أما ظهر لك الحق من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأطبق عليه فأخذه أسيرا وصاح الصائح أن أبا ثوب أسر فاستسلم قومه للقضاء فأخذوهم عن آخرهم بعد ما قتل منهم خلق كثير ثم إنهم عزوا البامرك في ولده شطا فقال احتسبته عند الله فقال له يزيد بن عامر ان في الجنة درجات لا ينالها الا الصابرون قال الله تعالى وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون
قال ابن إسحاق ودفنوا شطا في ثيابه بعد ما صلوا عليه ودفنوه في موضع قتله قال فلما كان الغد أقبل البامرك إلى يزيد بن عامر وقال رايت الليلة ولدي في النوم وهو في القبة والحور بين يديه فقلت ما
95

فعل الله بك قال قبلني بأحسن قبول وجاد علي وأنزلني بجوار الرسول
حدثنا ابن إسحاق حدثنا عمر بن الأسقع عن جده عامر بن خويلد قال قتل شطا في ليلة نصف شعبان فجعل له تلك الليلة موسما في كل سنة وذلك أنه لما يبق أحد الا زرا قبره تلك الليلة وان هلال بن أوس نزل وأحضر ابا ثوب وعرض عليه الاسلام فاسلم وأسلم من الاسرى أناس وأبى منهم أناس وبقوا على دينهم وقرروا عليهم الجزية ودخل المسلمون في المراكب إلى تنيس وبنوا موضع الكنيسة جامعا وبنوا في جميع الجزائر جوامع وأخرج أبو ثوب الخمس من ماله وأموال قومه وبعثوه إلى عمرو بن العاص مع أموال من قتل وان هلال بن أوس نزل على التل الأحمر بظاهر تنيس وأقر أهل الجزائر في أماكنهم فقالوا أيها الأمير قد أمنتنا من جانبك وبقي علينا الخوف من جانب آخر قال هلال من أين قالوا من أصحاب القلعة المسماة الفرماء قال وأين هي قالوا على جانب بحيرة تنيس مما يلي شرقها وفهم أقوام وعليهم الصامت ابن مرة من آل مرداس فلما سمع هلال بن أوس ذلك مضى إليها وبجميع من معه فلما وصلوا إليها اشرف عليهم الصامت بن مرة وأمر أصحابه أن يرموهم وكان بها ألف رجل وغالبهم رماة النبل فرموا عن قوس واحد ألف سهم فسمعتها العرب من الفرماء فأقام عليها هلال بن أوس عشرين يوما فلم يقدر عليها فبعث إلى عمرو يعلمه بما وقع ويستنجده فأرسل اليه المقداد ابن الأسود الكندي في خمسمائة من عسكر الاسلام وأرسل معه ثلاثة آلاف ممن أسلم من القبط
ذكر فتوح الفرماء والبقارة والقصر المشيد
قال فلما نزل المقداد على الفرماء تأهب أهلها للقتال فنزل بالصامت بن مرة ما نزل به فعلم أنه بيد القوم لأنه ليس له ناصر ولا معين فصالح المقداد على أن يؤدي لهم أربعة آلاف مثقال من الذهب وأربعمائة ناقة وألف رأس من الغنم وأن يمهلوه إلى تمام السنة فان شاء دان إلى الاسلام والا ارتحل بأمانه فأجابه المقداد إلى ذلك وارتحل المقداد وهلال بن أوس ونزلوا على البقارة وكان عليها بن الأشرف فاسلم هو ومن معه ومضوا إلى القصر المشيد ففتحوه صلحا ثم ارتحلوا ونزلوا على الوردة وكان اسمها الواردة فسلمها أهلها وارتحلوا إلى العريش فصالحهم أهلها وكذلك أهل رفح وبيدا ومياس ونخلة وعسقلان
قال ابن إسحاق حدثني يوسف بن عبد الأعلى قراءة عليه بجامع الرملة سنة مائتين وعشرين من الهجرة قال حدثني موسى بن عامر عن
96

رفاعة عن جده عبد العزيز بن سالم عن أبي يعلي العبدي عن طاهر المطوعي عن أبي طالب الفشاري عن وهبان بن بشر بن هزان قال سمعت الشرح كله من محمد بن عمر الواقدي وهو يؤمئذ قاضي بغداد في الجانب الغربي
ذكر فتوح ديار بكر وأرض ربيعة
حدثنا عدنان بن يحيى الخرثي عن معمر الجوني ومن طريق آخر عن ابن عمير التميمي والابتداء عن المهلب وطلحة ومحمد قالوا جميعا أو من قال منهم أنه لما فتح الله الشام على يد أبي عبيدة عامر بن الجراح وعلى يد خالد بن الوليد وفتح أرض مصر على يد عمرو بن العاص بن وائل السهمي كتب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة يقول له بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى عامر بن الجراح سلام عليك فاني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو واصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أما بعد فقد أجهدت نفسك في قتل الكفار وسارعت إلى رضا الجبار وقدمت لك ما تجده يوم عرضك ولم نر منك يوما معرضا عن أداء فرضك وقمت بسنة نبيك وجاهدت في الله حق جهاده تقبل الله منا ومنك وغفر لنا ولك فإذا قرأت كتابي هذا فاعقد عقدا لعياض بن غنم الأشعري وجهز معه جيشا إلى أرض ربيعة وديار بكر واني أرجو من الله سبحانه وتعالى أن يفتحها على يديه وأوصيه بتقوى الله والجهاد والاجتهاد في طاعته ولا يلحقه التواني في الجهاد ويتبع سنن المؤمنين المجاهدين وما أمر به سيد المرسلين مما أنزل عليه رب العالمين يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين والسلام عليك وعلى جميع المسلمين ورحمة الله وبركاته ثم كتب كتابا آخر إلى عياض بن غنم بالولاية والمسير إلى ارض ربيعة الفرس وديار بكر قال وبعث بالكتاب مع ساعدة بن قيس المرادي وزوده من بيت مال المسلمين وأمره بالمسير فسار إلى أن ورد على أبي عبيدة في طبرية فسلم اليه كتاب عمر وسلم الكتاب الثاني إلى عياض بن غنم الأشعري فلما قرأه أبو عبيدة قال السمع والطاعة لله ولأمير
المؤمنين وهيأ عياضا بمسيره إلى الجهاد وعقد له عقدا على ثمانية آلاف منهم ألف صحابي من جملتهم خالد بن الوليد والنعمان بن المنذر وضرار بن الأزور بن سابق وضمرة وعمرو بن ربيعة وذو الاداغير بن قيس والحكم بن هشام اليسع بن خلف وطلحة وعامر بن بهرام والمقداد بن الأسود وعمار بن ياسر وعبد الله بن يوقنا وكانوا قد قدموا على أبي عبيدة بعد فتوح مصر وكان قدومهم في شهر شوال سنة ست وعشرين من الهجرة وسار عياض بن غنم من طبرية في ثمانية آلاف يريد الجزيرة وعلى مقدمته خيل
97

سهل ابن عدي فلم يزل سائرا حتى نزل على بالس وكان خالد قد فتحها صلحا فأقام عليها وسرح سهيل ابن عدي إلى الرقة فنزل على حصارها وكان عليها بطريق اسمه يوحنا وكان من قبل صاحب راس العين وكان قد استعد للحرب وعبى آلة الحصار فلما رآي أهل الرقة أن صاحبهم معول على الحصار اجتمع بعضهم ببعض وقالوا أي شيء أنتم بين أهل الشام وأهل العراق ولا مقام لكم بين يدي هؤلاء القوم قال فمشوا إلى عياض بن غنم بالصلح فرأى أن يقبل منهم فبعث إلى سهيل بن عدي أن يصالحهم على ما وقع عليه الاتفاق وارتحل عياض بن غنم عن بالس ونزل على الرقة البيضاء وفي ذلك قال سهيل بن عدي
* وصادفنا الغزاة غداة سرنا
* بجود الخيل والأسل الطوال
* أخذنا الرقة البيضاء لما
* رأتنا الشهب نلعب بالتلال
* وأزعجت الجزيرة بعد خفض
* وقد كانت تخوف بالزوال
* سنقصد راس عين بعد عين
* أجد بحملتي جيش الضلال
* قصدك يا سهيل تبيد جيشا
* وتقتل في البطارق لا تبالي
* فنحن أولو التقية والمعالي
* ونحن الصابرون لكل حال
* صحابة أحمد خير الموالي
* رقي العلياء والرتب العوالي
* إلى رب السماء دنا علوا
* وخاطبه شفاها بالمقال
* ذكر فتح القلعتين زبا وزلوبيا
قال الواقدي لما فتحت الرقة صلحا عول عياض بن غنم على المسير إلى رأس العين وكان يملك يومئذ الجزيرة ملك من ملوك الروم يقال شهر ياض بن فرون وكان جيشه مائة ألف وتحت يده وفي عمالة من العرب المتنصرة السلطان بن سارية التغلبي وهبيرة وهم ثلاثون ألفا من الأبطال وانهم لما اتصلت بهم الاخبار بفتح الرقة وان المسلمين قاصدون إليهم مع عياض بن غنم وخالد والمقداد أتو إلى الملك شهر ياض برأس العين وقالوا له اعلم أيها الملك ان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قد أتو ديارنا وقصدوا نحونا ونحن علينا الطلب أكثر منكم ومطلب القوم أننا ندخل في دينهم فاضرب خيامك بظاهر البلد واظهر بجيش حتى نلقاهم فاما لنا وأما علينا فأجابهم إلى ذلك وقال غير أني أخاف أن تنهزموا عني فأعطوا رهائن استوثق منهم ورتب آلة الحصار وأخرج الخزائن والأموال ورتب الحرس على الأسوار وزاد في عمق الخندق وعرضه وأرسل إلى جملين وكفرتوتا ودارا وماردين وحران والرها وتل مرزة والسن والموزر وأقام ينتظر عياض بن غنم
98

قال حدثنا عبد الله بن أسلم عن عاصم بن عبد الله عن ابن إسحاق الأموي عن يزيد ابن أبي حبيب عن راشد مولاه قال لما عول عياض بن غنم الأشعري على المسير إلى رأس العين إلى قتال الملك شهر ياض بعث قبل مسيره أشعث بن عويلم وعبد الله بن غسان إلى القلعتين المعروفتين بزبا وزلوبيا فقال عبد الله يوقنا لعياض بن غنم اعلم أيها الأمير ان هاتين القلعتين اللتين ذكرتهما حصينتان منيعتان إحداهما من الجانب الشرقي والأخرى من الجانب الغربي وهما كانتا تحت ولايتي وان صاحبهما كان من قبلي وهو أحد بني عمي واسمه اشفكياص بن مارية كني باسم أمه وكنت قد زوجته ابنتي فأخذت في صداقها الحصن الشرقي من الفرات وقد رأيت أنك تأمرني بالتقدم على هذين الحصنين حتى أحل في القلعة الغربية فان فتحتها كانت الأخرى في قبضتنا فقال له لله درك يا عبد الله لقد نصحت الإسلام وأهله فجزاك الله خيرا أحسن ما جازى بهأولياء سر على بركة الله وعونه فإذا استقر بك المكان ثلاثة أيام أنفذت إليك شعيبا وعبد الله ومن معهما من المسلمين وبعد الفتح إن شاء الله تنزلون الينا فقال يوقنا استعنا بالله وتوكلنا عليه ثم إنه أخذ معه من صناديد جماعته مائة ولم يأخذوا معهم ثقلا سوى جنيب من الخيل واحد وسار من أول الليل وترك عياض بن غنم علي الباسل فجدوا السير بقية ليلتهم فلما كان قبل الفجر أشرفوا على الخانوقة فوجدوا فيها ألفا من الأرمن وهم بالعدة الكاملة فلما أشرف عليهم يوقنا ومن معه وهم يتحدثون بلغة الروم
أنسوابهم وسألوهم عن خبرهم فقالوا هذا البطريق المعظم يوقنا صاحب حلب قد هرب من العرب وأقبل لنصرة صاحب هذه القلعة فلما سمعوا بذلك فرحوا وصقعوا بين يدي يوقنا وأرسل المقدم عليهم خيالا وأمره بالسرعة ليبشر اشفكياص بقدوم يوقنا إليه وهروبه من العرب وانه يستأذن عليه فمضى الرجل وأخبر اشفكياص فأطرق إلى الأرض ثم قال لوزيره وحق المسيح والأنجيل ما جاء الا لينصب علينا ويملك هاتين القلعتين منا كما فعل بطرابلس وصور وما أنا بالذي يأمن فما ترى أيها الوزير
قال ابن إسحاق ولقد بلغني ان هذا الوزير كان من أهل القراءة وكان أديبا عاقلا لبيبا ممن قرأ الكتب السالفة والأخبار الماضية وقرأ ملاحم دانيال وكان منذ بعث النبي صلى الله عليه وسلم يسكن في دير مترهبا وهو ما بين السر 3 وحلب فتعبد فيه زمانا طويلا حتى شاع ذكره بين أهل دين النصرانية ثم بعد ذلك أخبر الروم بأنه قد وقع بحافر من حوافر حمار المسيح فكانت الروم ينذرون له النذور والصدقات وشاع خره وسما ذكره
99

فسمي ذلك الدير بدير حافر وانه في بعض الأيام خرج من ديره إلى مزرعة له هناك وإذا برجل من البدو قد عبر وهو راكب على ناقة وكان الحر قد اشتد فأوى إلى ظل حائط الدير وأناخ ناقته وعقلها ونام والراهب ينظر اليه فلما غرق في نومه أتت حية من مزرعة الراهب وفي فمها باقة نرجس فجعلت تروح عليه حتى استفاق وذلك الراهب ينظر اليه فلما أفاق أتى اليه وسلم عليه وقال له من أي الناس أنت قال من العرب قال الراهب قد علمت ذلك وانما أسألك عن دينك قال ديني الاسلام الذي كان عليه أنبياء الله كلهم عليهم أفضل الصلاة والسلام فقال لعلك على دين هذا الرجل الذي في أرض الحجاز قال نعم
قال ابن إسحاق وكان البدوي ورقة بن الصامت الهذلي ابن أخت رواحة الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان حضر غزوة تبوك وحضر يوم السلاسل وكان أديبا ليبيا شاعرا لا يتكلم الا بسجع وكان أبو عبيدة قد وجهه لما كانوا في حصار قلعة حلب إلى صاحب الرقة يدعوه إلى الاسلام فقال الراهب وكان اسمه شوجوان بن كربان قد بلغني أنكم تقولون ما خلق الله خلقا أعظم ولا أكرم ولا أرحم من محمد وتركتم آدم ونوحا وإبراهيم واسحق ويعقوب والأسباط وموسى وداود وسليمان وعيسى فأريد أن تبين لي حقيقة ذلك فقال ورقة بن الصامت اسمع ما أقول ولا تتبع الفضول أما علمت أن عالم الملائكة اجتمعوا بالبيت المعمور ووقع بينهم الجدل في تصاريف الأمور وافتخر الكروبيون على الروحانيين والمسبحون على المقربين فزاحمهم إبليس بدقة عبادته ومشيد مباني زهادته فقال أنا المخلوق من ضرام النار البارع في خدمة العزيز الجبار اين أنتم من وقوفي على أقدام الاهتمام مائة ألف عام وتعبدي في السماوات وأكنافها وبروجها واعرافها وأوساطها وأطرافها وجبال الأرض وأكنافها فعارضه جبريل بالامتحان والابتداء وصرفه عن حجة الافتخار والادعاء وقال له ما أنت في الافتخار الا في الحضيض المحضوض ان لله نبيا في عالم الملكوت محجوبا قد طال اشتياقنا اليه ووردنا الخبر فيما يريد وجعل نهاية عبادتنا الصلاة عليه فأيقن من المفاخر بالنزول ومن اطلاق شمس ادعاء بالأفول وقال رب فهل إلى لقائه من سبيل والى الوصول اليه من دليل فقال جبريل اقطع مسافة الأمنية وخض بحر الاعتراف بعز الربوبية وثق بحبال العز المكين فإنك لخدمة من كون من نور التكوين عليه منقوش بقلم التمكين انك لمن المرسلين فخلع إبليس لباس العمل واستعمل أجنحة الامل وألقى قلادة الادعاء ونكس تاج الكبرياء واستعد لقوادم الطلب وداخله من قول جبريل غاية العجب وجعل همة عزمه
100

تحصيل السبب وحذر من سوء المنقلب
وقال يا للعجب أنا مع صدق طويتي في المعاملة والإنابة وخلوص سريرتي في طلب الزيادة هل يكون أحد مثلي أو يبلغ درجة فعلي وكيف ذلك وإذا رفعت رأسي بالتسبيح أعاين ما حول العرش وإذا سجدت لعظمة الله أنظر ما تحت الفرش فنودي أتفتخر علينا بجواهر طاعتك وتوفر أسباب بضاعتك ونحن وفقناك لطاعتنا ومعاملتنا وأريناك أطراف ارضنا وسمواتنا من قواك على خدمتي من جعلك معلما لملائكتي وعزتي وجلالي لولا أحمد ما خلقت ملكا ولا أجريت فلكا ولا أنرت قمرا ولا أمضيت قدرا ولا أسرجت شمسا ولا أقررت عرشا ولا بسطت فرشا ولا خلقت جنة ولا نارا ولا فجرت أنهارا ولا بحارا ولا جعلت النجوم طوالع ولا غوارب ولا الدنيا مشارق ولا مغارب ولكن طر بأجنحة عجل في طلب الايثار حتى يميتك الله بين الجنة والنار قال فسار بفلك طلب النجوم على قدم مطايا التفريد حتى اخترق ما بين العرش والكرسي واختبر كل جني وانسي وكلما مر بمغني من المغاني رأى معنى من المعاني وذلك أنه لما رأى أصنافا من الملائكة على اختلاف الأحوال من الاجتهاد والطاعة والأعمال وجميع عباد الله الشاكرة موقوفة على خدمة سيد الدنيا والآخرة وعلم معنى عبادتهم وتحقق آثار ارادتهم زاد به الاعجاب فاستعظم وجود ذلك في عالم التراب وقال أي رب أين أجده وأناديه أم كيف التوصل إلى سبيل ناديه فقال اطلب نهر السلسبيل فهناك تجد إلى نظره سبيل فسار تحت مشيئة القدر إلى أن وصل إلى النهر فرأى ضوءا يلوح واسراره بصفات ما فيه تبوح ودار به المقربون والروحانيون والمسبحون والصافون والراكعون والساجدون وقطب عبادتهم دائرة على الاستغفار لأنه صاحب الافتخار وكلما سبحوا وسجدوا يستغفرون للذين آمنوا به قال فانتظم في سلكهم واسلك سبيل مسلكهم لتفوز بالنظر في جملة من حضر وإذا بنور أحمد قد تعلى ومن سرادقات قصره تجلى فسجدت الملائكة له بمعنى عظيم وقالوا * (وإنك لعلى خلق عظيم) * فرد لما غشيه النور الوارد ونطق لسان حسده بما في جسده من ذا الذي ملأ الأكوان بعبادته وافتخر على الملائكة بخالص مجاهدته وإذا بالنداء معاشر الملائكة دعوا النظر إلى المغاني وحققوا النظر إلى الفضائل والمعاني فاحدقت الملائكة نحو القصر بالأعين وإذا في جوانبه أربعة أعين فقالوا يا رب العزة قد تركنا المغني فما حقيقة هذا المعنى قال هذه العيون عيون أنهاره وسيوف أنصاره ومعالم سنته بحساب نسبته وأبواب علمه
101

ومقر حكمه وزينة دينه وأعلام يقينه وأول عين هي عين التصديق والعين الثانية هي عين العدل والتحقيق والعين الثالثة هي عين النور والحياء والتوفيق والعين الرابعة عين العلم والتشريق فعين التصديق لصديقه وعين العدل لفاروقه وعين الحياء لصهره ورفيقه وعين العلم لأخيه وشقيقه فانظروهم بعين التبجيل والوقار وأكثروا لهم الدعاء والاستغفار فأنا الذي قلت فيهم * (الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار) *
فلما علم شوجوان كلام ورقة بن الصامت لم يرد عليه جوابا ولا أبدي له خطابا غير أنه عرف الحق فكتمه ولم يزل شوجوان في الدير حتى أخذ المسلمون حلب فانتقل إلى اشفكياص فاستوزره قال فلما استشاره في أمر يوقنا قال له اعلم أيها الملك أن يوقنا من الملوك وأبناء الملوك وقد قرأ الكتب وأخوه كان أفضل منه في الدين وقد صحب هؤلاء العرب واطلع على سرائرهم ونظر إلى دينهم وربما أنه علم عند النظر أن دين المسيح أفضل من دين هؤلاء العرب وقد هرب من أيديهم إليك فإن كان الرجل قد أتى بغير حمل ولا ثقل فاعلم أنه هارب من القوم إليك فيجب عليك أن تخرج إلى لقائه وتعظم شأنه وترفع مكانه فلما سمع اشفكياص ذلك خرج بعسكره للقائه وبقي الوزير في القلعة قال فسمعت ابنة يوقنا أن أباها قد أتى فنزلت تسبح فس سرب لها تحت الأرض مع جواريها وخدمها وقصدت القلعة الثانية فوجدت اشفكياص قد خرج للقاء أبيها والوزير شوجوان في مرتبة وزارته فقام إليها وصقع بين يديها وخدمها فجلست تتحدث معه فقال لها خذي على نفسك الحذر فان الملك قد خرج وأخاف أن يبطش هذا اللعين بأبيك وأعلمي أنه ما تبع هؤلاء العرب الا وقد تحقق عنده أن دينهم الحق وقولهم الصدق فقالت له الجارية فما تقول أنت في دين القوم قال هو والله الحق والدين الصدق واني كنت كاتم هذا السر فلما سمعت ذلك تبسمت وقالت والله لقد رضيت لنفسي ما رضيه أبي ولكن أنت أكتم هذا عني
قال الواقدي وان اشفكياص لقي عبد الله يوقنا وسلم بعضهما على بعض وترجل كل منهما لصاحبه وشكا كل واحد منهما ما يجده من الشوق ثم ركبا وسارا إلى القلعة فنزل يوقنا فيها ومن معه وأتت ابنته وسلمت عليه وبكت وبكى وأما اشفكياص فإنه معول على القبض على يوقنا وقال له أيها الملك كيف رأيت هؤلاء العرب في دينهم وعدلهم وسياستهم في ملكهم فقال يوقنا ان القوم يزعمون أنهم لا يريدون ملك الدنيا وانما يريدون ملك الآخرة ومع هذا قد ملكوا الشام وأرض مصر وما تغيروا عن طباعهم وأنفسهم
102

الدنيئة وأول الأمر وآخره أنهم أظهروا الناموس حتى ملكوا البلاد ولما كشفت أسرارهم وتحقق أخبارهم ورأيت بيان ما هم عليه هربت منهم وبعدت عنهم بعد أن ظننت أنهم على الحق ونصحت لهم وملكتهم طرابلس وصور وغيرهما وأنطاكية وقد علمت أن المسيح قد غضب علي إذ تركت دينه وما أمر به من القربان وما أوصى به يوحنا المعمدان ولست أظن أن لي تطهيرا من دون الذنوب ومساوي العيوب ثم إنه أظهر البكاء والتوجع والشكوى فلما عاين اشفكياص ما فعله وسمع كلامه انطلى عليه وقال له أيها الملك إذا كنت قد ندمت على قبيح فعالك ورجعت إلى الدين الصحيح بقلبك فأبشر بقبول التوبة وزوال الحوبة واعلم أن باب التوبة مفتوح وعلم القبول لأهل الندامة يلوح وقد قرب عيد الصليب وبقي له عشرون يوما وهذا مرقس الراهب بدير السكرة وهو من أعظم أهل دين النصرانية فسر اليه ليغمسك في ماء المعمودية فتخرج نقيا من الذنوب فقال يوقنا أفعل ذلك ولكن من يضمن أن يعيش فعندها قامت ابنته وصقعت وقالت والله يا أبت ما أدعك تمضي حتى أتملى منك بالنظر وقبلت يد أشفكياص وقالت يا سيدي أريد أن تأذن لأبي أن يسير معي إلى حصني فقال هو الليلة عندي وليلة غد يكون عندك فعلم يوقنا أنه لا بد من الاكل معه ولا بد في سماطه من لحم خنزير ولا بد من الخمر فقال أيها السيد أينما كنت فأنا في نعمتك وخيرك فقال شوجوان لاشفيكاص اعلم أيها الملك أن الملك يوقنا كثير الشوق إلى ابنته ولهما زمان ما رأيا بعضهما وما يخفى عليك ذلك والصواب أن يكون الليلة عندها وليلة غد يكون عندك فقال افعلوا ذلك قال فأخذت أباها ونزلت في السرب إلى القلعة الشرقية وعبر أصحابه اليه في المركب فلما جن الليل قالت الجارية لأبيها يا أبت كيف تركت العرب بعد صحبتك لهم ونصحك لدينهم أرأيت أن القوم على باطل وأن دينك الأول أفضل منه فرجعت اليه
فقال يوقنا أي بنية والله ما أتيت إليك الا من شفقتي عليك وقد افترقنا في الدنيا وأخاف أن يكون الفراق في الآخرة أيضا وقد علمت وتيقنت أن هذين الحصنين نصب أعين المسلمين وأنت تعلمين أن قلعتي كانت أمنع من كل قلعة بالشام وقد ملكتها العرب ونزعت ملوكها عن أرضهم وبلادهم فاتقي الله يا بنية في نفسك واعملي لخلاص نفسك من الزبانية والجحيم الحامية والخلود في الهاوية وأرجعي إلى الله من قريب واكفري بدين الصليب فوالله ما ثم دين أفضل من دين الاسلام وعليه كان المسيح والأنبياء عليهم الصلاة والسلام وانما غرر بالنصارى وحيدهم عن طريق الحق رجل يقال له بولص
103

كان من اليهود أضلهم عن الطريق المستقيم وشرع لهم الضلال القديم حتى كفروا بما جاء به الخليل إبراهيم وهؤلاء العرب قد اتبعوا ما أمر الله به وأمر نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ولديهم القول الراجح والفضل الصالح وانهم طلقوا الدنيا ثلاثا وطلبوا بعد لاجتماع شتاتا فارضي لنفسك ما رضي أبوك لنفسه فقالت والله ما قلت شيئا الا وأنا به عارفة وقد رضيت لنفسي ما رضيت لنفسك وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله قال ففرح باسلامها ثم قال أي بنية ما الذي نصنع في أمر هذا الكافر اللعين الفاجر قالت والله لقد قال لي الوزير شرجوان انه مصر على قبضك وقال إنك ما أردت الا لتنصب عليه فقال يوقنا إذا كان الامر كذلك فاصنعي لنا سماطا وسيري اليه واستدعيه هو وخواصه فأنا آمر أصحابي أن يقبضوا عليهم وعليه إذا اشتغلوا بالطعام والشراب فإذا فعلنا ذلك كانت القلعتان في قبضتنا ونسلمهم إلى أصحاب نبينا ثم اني أريهم أننا هربنا منهم إلى أن نحصل في قرقيسيا فلعل الله أن يفتحها على أيدينا وهذا هو الرأي
قال الواقدي فلما ذهب الليل وأتى النهار أمرت جماعتها بصنع الطعام والحلويات وغيرها فلما صنعوا ذلك وصفوا الموائد وعليها من كل حار وبارد نزلت في السرب وقصدت اشفكياص في قلعته ووقفت بين يديه وصعقت له فقام لها اعظاما وقال لها كيف الملك يوقنا وأحواله فقالت أيها الملك انه ما نام الليل وهو متفكر في القيامة وأحوالها والجحيم ومآلها ولقد أراد اليوم المسير إلى مدينة قرقيسيا وأن يقصد الراهب المعظم قرياقوس وقد أخرته إلى أن تحضروا معه على السماط وتمضي أنت وهو إلى جرجيس حتى يرجع إلى دينه وقد جئت إليك لتحضر سماطي وضيافتي أنت وأصحابك وخواصك وتأكلوا من طعامي وتشربوا من شرابي وتمضي أنت وهو إلى جرجيس حتى يرجع إلى دينه وقد جئت إليك لتحضر سماطي وضيافتي أنت وأصحابك وخواصك وتاكلوا من طعامي وتشربوا من شرابي ومدامي والكل من فضلك وانعامك واحسانك وتجبر خاطري قال فأبى اشفيكاص مما دخل على قلبه من يوقنا إذ لم يبت عنده وخاف أن يقبضه فقال له الوزير شرجوان أيها الملك ليس هذا برأي
وإذا امتنعت نفر قلبه منك وما يدريك أيها الملك أنه ندم على ما سلف منه وقد أقر بالذنب واعترف وانك إذا أكلت على سماط ابنته ودعوتهم أنت إلى سماطك فافعل بعد ذلك فيهم ما شئت
قال وكان هذا الكلام من شرجون لاشفكياص سرا من ابنة يوقنا فقام عند ذلك وقال لوزيره احفظ مكاني حتى أعود إليك ولم يكن له ولد يرثه في الملك قال فأخذ معه خواصه من قومه وحجابه وبني عمه ونزل في السرب والجارية أمامهم وجواريها بين يديه بالشمع وقد علم الوزير أنه ما بقي يعود اليه بعدها فلما حصل اشفكياص في قلعة زلوبيا وثب للقائه يوقنا وأصحابه
104

وكان قد أوصاهم بما يفعلونه فلما وقعت العين على العين أقبل يوقنا اليه ليعانقه وضمه إلى صدره وقبض عليه قبضة الأسد على فريسته وفعل أصحابه كما فعل وضربوا في الحال رقابهم ولم ينتطح فيها شاتان ولم يعلم بما فعلوه أحد ثم نزلوا من فورهم من السرب ومضوا إلى زبا فوجدوا شرجوان ينتظرهم فلما رآهم تبسم وأعلن بكلمة التوحيد وقال لله درك يا عبد الله فقد شرح الله صدرك للايمان وأرضيت الملك الديان فجزاه يوقنا خيرا وملك قلعة اشفكياص وجعل يدعو بالرجال ويعرض عليهم الاسلام فمن اسلم تركه وضمن بعضهم بعضا حتى لا ينهزم أحد منهم ويروح إلى صاحب قرقيسيا ويخبره بما صنع يوقنا وبعد أيام أشرف عليهم عبد الله بن غسان وسهيل بن عدي في ألفي فارس فأراهم يوقنا التمنع والاعراض وناشبهم القتال خمسة أيام وقد عرفوا أن ذلك منه حيلة وأرسل يعلمهم في السر أن القلعتين في يده والليلة أسلمهما إليكم وأظهر الهرب إلى قرقيسيا فلعل الله أن يفتحها على يدي فلما كان من الليل أمر شرجون أن يسلمهما إليهم ثم إن المسلمين أعلنوا بالتهليل والتكبير ووقع الصائح من كل جانب وشهروا القواضب وكان في يومه هذا قد وصل الرسول من صاحب قرقيبسيا بالهدايا والتحف إلى يوقنا يهنئه بالسلامة والخلاص من العرب والرجوع إلى دينه فقبل يوقنا الهدية وأنزل الرسول في خيام أصحابه وكانوا قد ضربوا لهم وطاقا في الجانب الشرقي فلما صار أصحابه المسلمين في قلعة ابا أظهر يوقنا الفزع والهلع وقال وحق ديني ما هؤلاء العرب الا شياطين ثم إنه أخذ بعض ثقل ابنته في الليل وساروا يطلبون قرقيسيا ففي ذلك قال طريف أحد بني ربيعة بن مالك وهو سائر صحبة المسلمين الصحابة رضي الله عنهم هذه الأبيات
* اتينا إلى أرض الفرات مع الزبا
* ونحن نروم الروم من كل فاجر
* وقد أمنا ليث الحروب وسهمها
* همام شجاع قاتل كل كافر
* وأعني بيوقنا عليه تحية
* يناصب للاعدا حيلة غادر
* وقاتل أبناء الصليب وحزبهم
* بحد حسام ماضي الصفح باتر
* وصاح على الملعون قوم زلوبيا
* فأورده في الحال سكنى المقابر
* وملكنا في القلعتين كلاهما
* بسعد وأقبال ونصرة قادر
* سيحظى غداة البحث يوم معاده
* بروح وريحان وحور قواصر
* حدثنا سيف بن عمرو التميمي قال حدثنا الأنصاري عن الملهب عن طلحة عن محمد ابن أبي الدقيلي بن ميسور قال لما كان من أمر يوقنا واشفكياص ما ذكرناه وأرى من نفسه الهرب سار مع ابنته وأصحابه والرسول
105

معهم يرومون قرقيسيا وهم منهزمون فوصلوها مساء ودخلوا معه على شهرياض وأعلموه بأخذ القلعتين وكيف فعل معهم العرب فأيقن بهلاكه وأخذ بلاده فقال له يوقنا أيها السيد لا تخف فنحن نقاتل بين يديك حتى نموت وان نزلت العرب علينا يريدون حصارنا لأرينك العجب بقتالهم ولن يصلوا إليك بسوء فوثق بقوله وخلع عليه وطيب قلبه وأنزله بدار جواره وبعث شهرياض من ليلته إلى خاله وهو يومئذ ملك أرض ربيعة برأس العين فأرسل يستنصر به على العرب ويعلمه أن العرب قد أخذوا قلعتي زبا وزلوبيا وان الرجل المعظم يوقنا ملك حلب قد هرب منهم بعد خدمته لهم وهو عندي فسار الرجل الرسول إلى دير مريع ومنه إلى المجدل إلى راس العين فوجد رسول شهر ياض الملك بأعظم تحصين قد أعد آلة الحصار وزاد في عرض خندقها ونصب خيامه ومضاربه على مغاربها وعلى طريق النقب وهو معول على لقاء عياض بن غنم ومن معه وقد جمع عنده سائر عرب الجزيرة من بني تغلب وغيرهم وقد صنع لهم سماطا واستدعى بأمرائهم وهم نوفل بن مازن والفريد بن تغلب بن عاصم والأشجع بن وائل وميسرة بن وائل وميسرة بن عاصم وخرام بن عبد الله بن الأصم وقال لهم
يا فتيان العرب لم نزل نرعى صغيركم وكبيركم وحريمكم وعبيدكم وقد أبحناكم أرضنا ترعون في حزنها وسهلها ونرضى منكم بما تؤدون الينا من أوباركم فأنتم آمنون
وهؤلاء بنو عمكم قد ملكوا الشام ومعاقله وأرض مصر وما معها ولم يكفهم ذلك حتى أقبلوا الينا يريدون أن يزاحمونا على ملكنا ويخرجونا من أرضنا وقد علمتم أن القوم ان ظفروا بكم لا يبقون عليكم ولا يرضون منكم الا أن تدخلوا في دينهم أو تقاتلوا عن دينكم وأهلكم وأموالكم فكونوا يدا واحدة لا ينفصل منكم شيء كما كان جبلة بن الأيهم وآل غسان مع الملك هرقل فان نحن نصرنا على القوم فالأرض لنا ولكم على السواء وان كانت الأخرى فنموت على دين واحد ويبقى ذكرنا إلى الأبد قال فأجابوه إلى ذلك وتحالفوا وتعاقدوا أن يموتوا على سيف واحد فأعطاهم الأموال والعدد والسلاح وساروا معه قال ثم إن رسول صاحب قرقيسيا قدم عليه وأعطاه كتاب ابن أخته شهر ياض فلما قرأه وفهم ما فيه وأنه يطلب منه النجدة أرسل اليه يوريك الأرمني وهو الذي بنى تل المؤزر والسن وتل عرب وعابدين والسوائد فأرسله ومعه أربعة آلاف فلما قدم الأرمني ومعه أربعة آلاف فارس إلى قرقيسيا وكانوا قد قطعوا جسرهم الذي كان على الخابور وكان الجسر على أعمدة من حديد وعليها سلاسل وعلى السلاسل أرماح وكذلك أيضا من ناحية الفرات وحفورا حول مدائنهم خندقا عميقا
106

عريضا وحصنوا مدائنهم غاية التحصين وأقاموا ينتظرون عسكر الصحابة رضي الله عنهم
ذكر فتح قرقيسيا
ولما ملك عبد الله بن غسان القلعة الغربية حين سلمها اليه شرجون بأمر يوقنا وترك يوقنا العرب وهرب إلى قرقيسيا دلهم الراهب شرجون على الطريق نحو السرب إلى القلعة الشرقية فملكوها واحتووا على ما كان لأشفكياص فيها وبعثوا إلى عياض بن غنم وأرسلوا يعلمونه في السر بما صنع يوقنا فدعا له المسلمون وشكروه وارسل يقول لعبد الله بن غسان ولسهل بن عدي احتفظا على ما في القلعة الثانية ولا تأخذا منها قيمة الدرهم الواحد حتى يسلمه يوقنا لبنته واتركا في القلعة من يحفظها واطلبا قرقيسيا وأنزلا عليها والسلام قال فلما وصل الكتاب اليهما فعلا ما أمرهما به عياض ووليا على القلعة الغربية الأحوص بن عامر ومعه مائة فارس وعلى الشرقية زياد بن الأسود في مائة فارس ومضى عبد الله بن سهل إلى قرقيسيا فحال بينهم وبينها الفرات فدلهم بعض السكان تلك الأرض على المخاضة فعبروا في الليل وأصبحوا على أرض واحدة مع أعداء الله وأرسلوا إلى ماجن والمحولة والبديل والصور وبعثوا إليهم الأمان وأقروهم في منازلهم وقالوا ان كانت لنا فقد أحسنا فيكم الصنيع وان كانت علينا انصرفنا عنكم مشكورين على عدلنا فيكم قال فأجاب القوم إلى ذلك وباعوا عليهم الميرة
قال حدثنا هلال بن عاصم عن يحيى بن جبير عن سوار بن زيد قال لما بعث عبد الله بن غسان إلى أهل تلك القرى وطيب قلوبهم بعث بعد أيام سهل بن اساف التميمي وكان من الصحابة الأول ومعه مائة من المسلمين ليأتوهم بالطعام والعلوفة من ناحية ماسكين فسار سهل ومن معه فلما وصلوا إلى السمسانية شن عليها الغارة واستاق أموالها فخرج عليه نوفل بن مازن في خمسمائة فارس واستخلصوا منهم ما أخذوه ووقع بينهم القتال فحملوا بأسرار صافية ونيات سامية وأفعال نامية وقلوب تنزهت بالايمان وألسنة تنطق بذكر الرحمن ولم يزالوا في قتال إلى أن قتل من المسلمين ثلاثون وانهزم سبعة وأربعون واسر سبعة وعشرون من جملتهم سهل بن اساف بن عدي وحدثوا أصحابهم بما كان من المتنصرة ومنهم فعظم ذلك عليهم
قال الراوي حدثني نوفل بن عامر عن سالف بن عاصم عن سالم عن الدوسي قال كنت مع سهل بن اساف حين قدمنا على السمسانية وخرج علينا نوفل بن مازن فقال والله لقد قاتلنا قتالا شديدا ما شهدنا مثله حتى
107

كان من أمر الهزيمة ما كان قال سالم بن عبد الله لما أسرهم نوفل بن مازن شدهم في الحبال وقرن بعضهم إلى بعض ورجلهم عن خيولهم وسار بهم يطلب راس العين فأخبروه أن الملك شهرياض على مرج الطير من جانب النقب فقصد اليه ومعه من بني عمه أربعون رجلا وساقوا أصحاب رسول الله إلى أن أوقفوهم بين يديه وحدثوه بأمرهم فأمر بضرب رقابهم وكان آخر من بقي أميرهم سهل بن أساف وكان أحسن الرجال وجها قال فشفع فيه بعض البطارقة فوهبه له وكان ذلك البطريق اسمه توتا بن لورك وهو صاحب كفرتوتا فأخذه وأتى به إلى قصره في كفرتوتا قال فنظرت اليه ابنته فسالت أباها عنه فقال أي بنية ان المسيح قد طرح رحمة هذا الشاب في قلبي فسألت الملك فيه فوهبه لي فخذيه إليك فأخذته وأدخلته في بستان قال فلما كان بعض الأيام دخلت البستان فنظرت إلى سهل بن اساف وهو يقرأ * (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود) * فلما سمعت قراءته أخذت بمجامع قلبها فقالت ما افصح هذا الكلام وأطيبه وألينه للأفهام فقال لها هذا كلام الملك العلام الذي أنزله على سيد الأنام فقالت الجارية أما محمد فهو نبيكم لا محالة فيه فمن هؤلاء الذين قال فيهم والذين معه قال هو صاحبه ووزيره أبو بكر الصديق رضي الله عنه أشداء على الكفار هو صاحب هذه الفتوح ومجهز هذه الجيوش عمر بن الخطاب رحماء بينهم هو كاتبه وصهره عثمان بن عفان تراهم ركعا سجدا هو أخوه ابن عمه وصاحب سيفه علي بن أبي طالب فقالت له الجارية وكان اسمها ابريتا وكانت تكتب بقلم التوراة والإنجيل وتتكلم بكلام العرب وكثيرا ما كانت تسأل علماء دينهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يعطيها أحد منهم خبرا حتى وقع بيدها سهل بن أساف فقالت من هؤلاء الذين ذكرت قال هم الذين قالوا وصدقوا وقاتلوا فحققوا وركبوا نجب السوابق فوفقوا وساروا في بادية الطلب فلم يرفقوا فحققوا وركبوا نجب السوابق فوقفوا وساروا في بادية الطلب فلم يرفقوا وكلما لاح لهم علم الأفاضل تشوقوا ونودوا في سرائرهم رجال صدقوا ثم أنشد يقول
* رجال من الأحباب تاهت نفوسهم
* ينادونه خوفا ويدعونه قصدا
* وقاموا بليل والظلام مغلس
* إلى منزل الأحباب فاستعملوا الكدا
* يحثون حث الشوق نحو مليكهم
* وقصدهم الفردوس كي يرزقوا الخلدا
* أولئك قوم في العبادة أخصلوا
* فتاهوا به شوقا وماتوا به وجدا
*
فقالت له الجارية لقد سمعت من نيسا راهب دير قنا ان الله ينشر دعوه
108

نبيكم في المشرق والمغرب ويملك المشرق والمغرب وأنهم يفضلونه على الآباء والأمهات والاخوة والأخوات وأنهم بعد موته يسيرون اليه وإذ ذكر يكثرون الصلاة عليه فقال لها سهل بن اساف أما علمت أنه كان في حياته يدعو لهم ويستغفر لهم ولمن دخل في دينه وأقر به ولقد كانت زوجته عائشة رضي الله عنها تقول كانت ليلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما مضى الثلث الأول منها والفلك يدور بالنجوم والسماء تزهو بالكواكب والمردة تحرق بالشهب الثواقب وسرادق الله قد مد جناحه وأحال الظلام بادلهامه فبينما أنا في وادي الوتين ساكنة وبجانبي أفضل مرسل وأكرم من ابتهل وتوسل وإذا به قد قبضني وبكلامه الشريف أيقظني وهو يقول أيتها العين المتكحلة بعين السبات الغافلة عن موارد الهبات هبي من منامك واعملي ليوم حمامك فقدم قام أولو الألباب ومرغوا خدودهم على الاعتاب وفي التراب قالت فقمت معه للخدمة ووقفنا نشفع للأمة إلى أن برق بارق الصباح وانفلق فلق الأصباح فقال هلمي للصلاة والاستغفار وطلب العفو من العزيز الفغار قالت فوافقته على ما أراد وبلغنا القصد والمراد فلما سكت من تسبيحه وفاح طيب ريحه رايته وهو يتنفس ويقرع بسبابته جوهر سنه فقلت يا سيد الوجود وطيب الآباء والجدود ان العرب لا تقرع سنها الا لأمر مهم أو لشأن ملم قال تذكرت حال العصاة من أمتي والمخلصين في محبتي وذكرت قوله تعالى لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين فقلت يا رسول الله أما أنزل عليك ولآمتك لقوله ولسوف يعطيك ربك فترضى أنت الذي خلقت السماوات والأرضين والعرش والكرسي من أنوارك وأنت الذي ربط براق القرب ببابك أنت الذي اخترقت معالم الملكوت وحملت إلى حضرة القرب والجبروت وأنت الذي أوتيت ليلة القدر وأنت صاحب البطحاء والحرم ولانت لك الأحجار وسلمت عليك الأشجار وانشق لك القمر ليلة الابدار وأنزل عليك يا أيها النبي جاهد الكفار أنت صاحب عرفات ومنى والمخصوص بالشكر والثنا وسوف يبلغك الله من أمتك المنى أما وعدك الله المقام المحمود واللواء المعقود والحوض المورود والكرم والجود وسرادق السعود على أمتك ممدود وسحاب التوفيق عليهم يجود ولواء أصحابك بجواهر قبولك منضود وعليه مرقوم عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا فكيف تخاف على أمتك نزول البأس وقد فضلوا على سائر الناس بقوله تعالى * (كنتم خير أمة أخرجت للناس) * يا سيدي أنت تعلم أن أباك آدم تشفع بك فتاب الله عليه ونوح سأل بك فنجاه الله من الغرق وإبراهيم مع علو قدره بك أنجاه الله
109

من النار والحرق وموسى مع تقربه ومكانته بك سأل ربه أن يشرح صدره وييسر أمره
قال الراوي وما ذكر سهل للجارية هذه المناقب الا لأن ترجع إلى دين الاسلام قال فلما سمعت كلامه قالت فما جزاء من يدخل في دينه ويقول بقوله فقال يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه وتمحى عنه سيئاته ويكون جزاؤه الرضوان في الجنان ثم قرأ قوله تعالى * (ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما) * فلما سمعت الجارية ما تكلم به سهل وقع بقلبها وصغت اليه بلبها وقالت أنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله ففرح سهل باسلامها فقالت له أكتم أمرك إلى الليل حتى أخلصك وأسير معك إلى عسكر الاسلام
قال الراوي حدثنا صاعد بن عدي النميري عن أبيه انه سمعه وهو يحدث الناس بالمدينة وقد أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأموال رأس العين وخزائن الملك شهرياض قال وان الجارية مضت واستدعت بجواريها وأخذت من مال أبيها ألف دينار فلما جن الليل فتحت باب السر بعدما تجسست فرأت كل من في قصر أبيها نياما فأتت إلى سهل وحلته من وثاقه وقالت له قم على اسم الله وبركة نبيه فقام سهل بن أساف إلى الباب وأعطته لأمة حرب ولبست هي مثلها وخرجا من الباب وإذا هما بجوادين فركبا وخرجا وسارا مقدار فرسخين عن كفرتوتا وإذا هم بحس الخيل وراءهم فقالت إن كانوا من الروم فعلى مخاطبتهم وان كانوا من العرب المتنصرة فعليك مخاطبتهم قال فوقفوا غير كثير وإذا بالقوم عدتهم ثلاثة وعشرون فارسا وعليهم ثياب خضر وهم على خيول شهب قال فتأملهم سهل وذا هم أصحابه الذين قتلوا بحضرة الملك قال فدنا منهم سهل وسلم عليهم وقال سبحان الله ألم أشاهد قتلكم قالوا نعم أما علمت أن الشهداء أحياء لا يموتون وإنما هي نقلة من دار إلى دار وأن الله قد بعث بأرواح الشهداء في هذه الليلة لتزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم وكانت تلك الليلة ليلة النصف من شعبان فقال لهم اني أريد المسير معكم وفي صحبتكم قالوا انك لا تقدر على ذلك وقد بقي من عمرك احدى وأربعون ليلة وتلحق بنا وأما هذه الجارية فقد أعد الله لها في الجنة ما أعد لأوليائه وقد بنى لها قصرا من الجوهر والياقوت الأحمر على شاطىء نهر الكوثر ستوره معلقة وبالانوار مرونقة وقبابه مزوقة وأسرته موصولة وفرشه مرفوعة وأباريقه مصفوفة وزواياه محفوفة وحلله منسوجة وحواشيه بحسن الوفاء مسروجه على أبوابه مكتوب بقلم السر المكنون * (ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون) * فلما سمعت الجارية قولهم قالت فبم استوجبت هذا النعيم قالوا
110

بتوحيدك الرب العظيم وتصديقك النبي الكريم قال فصاحت صيحة فإذا هي ميتة قال سهل فنزلت فدفنتها وغاب الشهداء عني وسرت إلى المسلمين فحدثت عبد الله بن غسان وسهل بن عدي بذلك فازداد المسلمون يقينا بذلك وعاش سهل بعدها أحدا وأربعين يوما ومات
حدثنا صفوان ابن عامر عن خويلد بن ماجد عن عبد الرحمن بن النعمان عمن حدثه عن فتوح الشام وأرض ربيعة الفرس قال لما نزل عسكر المسلمين على قرقيسيا مع عبد الله وسهل قال خندق المسلمون على أنفسهم خندقا وتركوا لهم موضعا يدخلون منه ويخرجون قال واتصلت الأخبار بعياض بن غنم وهو بجانب الرقة وهو يتروى فيمن
يبدأ بحربه بشهرياض وجنوده أو بحران والرها فقال له خالد بن الوليد رضي الله عنه أتترك جيشا قد تهيأ واحتفل لقتالك وتمضي لسواه والرأي أن تلقي هذا العدو فإذا أنت هزمته وأوقعت الهيبة هناك فاقصد ما شئت من البلاد فإنها تفتح إن شاء الله تعالى قال فعول عياض على ذلك وإذا قد أتته جواسيسه وأخبروه أنه قد تهيأ لحربكم الملك شهرياض ونوفل وطرباطس صاحب دارا والمؤزر وصاحب جملين وأرمانوس صاحب تل سماوي وأرجو وصاحب البارعية وشهرياض صاحب ماردين ورودس صاحب حران والرها وقد صارت جريدتهم مائتي ألف وقد ضمنوا للملك لقاءكم وقالوا لا نلقي العدو الا بأهالينا وأولادنا وأموالنا وحريمنا حتى لا ينهزم منا أحد وقد تقدم إليكم الأرمن وبعدهم الروم وهم دون الفرات فلما سمع عياض ذلك بعث إليهم الوليد بن عقبة ووصاه بما أراد قال فقدم على بني تغلب وجمع أمراءهم وهم نوفل بن مازن وعاصم والأشجع وميسرة وحزام وقارب وقال يا فتيان العرب اعلموا ان من نظر في العواقب أمن من المعاطب وليس أنتم أحد سننا ولا أقوى جنانا ولا أجرا في الجولان ولا أوسع ميدانا من بني غسان وليس فيكم من يشبه جبلة بن الأيهم وكان في ستين ألفا وقد نصرنا الله عليهم وقتلنا ساداتها والصواب أن ترجعوا الينا وتكونوا من حزبنا قال فأجابوه بأجمعهم الا طائفة اياد الشمطاء فإنهم ارتحلوا إلى بلاد الروم ووصل عرب بني تغلب إلى جيش عياض بن غنم مسلمهم وكافرهم فرحب بهم وطيب قلوبهم وقال لهم يا معاشر العرب ان الله سبحانه وتعالى قد أراد بكم خيرا بوصولكم الينا ونزوعكم عن عبدة الصليب وقد أراكم الله اعزاز دينه وشرف نبيه وقد وعدنا ووعده الحق بملك كسرى وقيصر وأخذ كنوزهما وما كان ينطق عن الهوى وقال الله في حقنا ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون قال فأسلم كافرهم وبقوا
111

جميعهم مسلمين قال الراوي أخبرنا سيف عن خالد بن سعيد قال لما علم عياض بهروب اياد الشمطاء إلى بلاد الروم كتب إلى عمر بن الخطاب بذلك فأرسل عمر رضي الله عنه إلى هرقل وولده قسطنطين يقول لهم ان لم تصرفوهم عن أرضكم لأفنين كل نصراني عندنا قال الراوي فلما وصلت رسالة عمر إلى هرقل وولده أنفذ بهم اليه قال وعزم عياض على لقاء الملك شهرياض وأما ما كان من شهرياض صاحب قرقيسيا فإنه جمع بطارقته وقال لهم أعلموا أنه قد بلغني عمن تقدم من الملوك انهم كانوا يجيشون الجيوش ولا يستغنون عن الحيل وأنا أريد في غداة غد أن أخرج إلى لقاء العرب فإذا اصطفت الصفوف فرجلوني عن جوادي واشهروا علي سلاحكم كأنكم تريدون قتلي فأقول لكم أنا معتذر انما أردت أن أجرب خبر حميتكم لدينكم وظننت انه قد أخذكم الخوف من هؤلاء فإذا سمعتم مني ذلك فارجعوني إلى اجلالي واعظامي ثم ناوشوهم الحرب فأهرب أنا إليهم وأقول لهم اني أردت أن أسلمكم البلد فهاش القوم علي كما رأيتم وهموا بقتلي وقد جئت إليكم راغبا في صحبتكم فإذا أمنوني وغفلوا عني قتلت أميرهم في الليل وأنا أعلم أن القوم بعده يهون علي أمرهم ثم أعول على انهزامهم فقال له وزيره الأرمني وكيف تسمح بنفسك وتلقيها في أضيق المسالك وان أنت فعلت ذلك لا نأمن عليك من العرب ويعتبنا خالك يقول لنا كيف تركتموه يمضي إلى العرب فقال عبد الله يوقنا لقد صدق السيد في قوله وكيف نتركك تمضي إليهم وأنا أدبر لك مع هؤلاء القوم تدبيرا يكون أقرب من هذا وأهون
فقال شهرياض والوزير الأرمني وما هذا التدبير أيها الملك قال أن نخرج غدا بأجمعنا ونلقاهم ونريهم الجد من أنفسنا ونقاتل بحسب الطاقة ثم ننهزم إلى المدينة ونستوثق من أبوابها ونصعد على السور فربما قربوا منا فلا نقاتل فإذا فعلنا ذلك طمعت العرب فينا ودنوا منا واعلموا ان في عسكرهم جماعة من الروم ممن صبأ إلى دينهم فربما قربوا منا فإذا أرادوا ذلك كتبنا إليهم نطلب قلوبهم ونرسل رسولا في طلب الصلح ونقول ارسلوا الينا عشرة من عقلائكم حتى نرى ما تريدون منا ولعلنا نعقد معكم صلحا فإذا فعلوا ذلك وحصلوا عندنا قبضنا عليهم ونشهر سيوفنا عليهم ونقول لهم أما أن ترحلوا عنا والا ضربنا رقابهم فان القوم إذا رأوا الجد منا طلبوا صلحنا بأصحابهم ورحلوا عنا والعرب إذا قالوا قولا وفوا به فان هزموا الملك شهرياض واحتووا على بلاده دخلنا بعدها تحت طاعتهم وارتحلنا عنهم إلى
112

بلاد الروم قال وانما أراد يوقنا بهذا الكلام أمرين أحدهماأن يبرأ عندهم من التهمة حتى يطمئنوا اليه والثاني أن يحصل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة في المدينة فيحتال أن يكونوا تحت يده ليثور بهم فيملك بهم المدينة فقال له وزيره الأرمني وان كان العرب يبعثون الينا صعاليكهم أو مواليهم فنقبض عليهم ونعدهم بالقتل فلا يلتفتون إلى ذلك ويقع الجد منهم في قتالنا ولا يرحلون عنا فكيف تصنع قال فأراهم يوقنا أنه غضب وحول وجهه وقال
وحق المسيح لقد دخل رعب القوم في قلوبكم ولن تفلحوا بعدها أبدا وحق ما أعتقده لقد قاتلتهم في قلعتي بجلب قتالا سارت به الركبان إلى سائر البلدان مدة سنة كاملة ولولا أن عبدا أسود من عبيدهم أسمه دامس أبو الهول وعشرين معه نصبوا حيلة علي ملكوا قلعتي لما قدروا عليها أبدا وكانوا قد نزلوا علي بجميع عسكرهم وأبطالهم فكيف بكم وما نزل عليكم الا شرذمة يسيرة وبلدكم حصين ليس عليه قتال الا من موضعين من صوب الجبل ومن الغرب وما لكم عذر ومن أراد رضا المسيح والاجر قاتل عن دينه وصان أهله وحريمه من هؤلاء العرب وان خفتم أن القوم يرسلون الينا مواليهم أو من لا له عندهم قدر ولا شأن فأنا أعرف الناس بهم وبفرسانهم وأبطالهم ومواليهم وخاصة أصحابهم فأنفذوا مع رسولكم كتابا بأسماء القوم الذين أريد منهم المقداد والنعمان وشرحبيل بن كعب ونوفل وعبد الرحمن بن مالك والأسود قيس وخالد بن جعفر وابن قيس وهمام الحرث ومالك بن نوبة وسلامة بن عامر قال فضحك الوزير الأرمني وقال وحق ديني أن العرب لا يسمحون بهؤلاء قط الا أن يطلبوا رهائن منكم فقال يوقنا ما أفشل رأيكم وأضعف قلوبكم انفذوا إلى القوم فان أجابوا كان ببركة السيد المسيح وان طلبوا رهائن أرسلنا اضعفنا من أهل المدينة ومن أولادهم وألبسناهم افخر الثياب وقلنا هؤلاء أكابرنا من أهل المدينة قال شهرياض وحق القربان ما نفعل الا ما أمرتنا
ثم إنه أمر بطارقته وأرباب دولته أن يأمروا الناس بالتأهب للحرب ففعلوا ولبسوا سلاحهم واستعدوا للقتال وأمر سهل بن عدي أصحابه بالركوب فركبت العرب وخرجت من باب الخندق واستقبلوا العدو بهمم عالية وقالوا اللهم انصرنا عليهم كنصر نبيك يوم الأحزاب وعبوا صفوفهم ثم وعظهم وقال في آخر وعظه ها أنا حامل نحو طاغية الروم وصليبه فاتبعوني فان فتح الله بقتله أو أخذ صليبه فالقوم لا ثبات لهم فقالوا أيها الأمير لقد دعوتنا إلى شيء هو أحب الينا فاحمل حتى نحمل قال محمد بن عبد الله
فحمل هو ومن معه على عسكر قرقيسيا وكان أمير المسلمين عبد الله ابن غسان
113

وسهل بن عدي فلقد قاتلوا قتالا شديدا وجاهدوا في الله حق جهاده وبذلوا رماحهم وسيوفهم في أعداء الله والتقى عبد الله بن مالك الأشتر بيورنيك الأرمني فلما عاين زيه علم أنه من ملوكهم فطعنه في صدره فأخرج السنان من ظهره والتقى النعمان بن المنذر بشهرياض وقد طحطح الجموع ولم يعلم النعمان بأنه صاحب البلد بل عرف أنه من الملوك فحمل عليه النعمان وهو يقول هذه الأبيات
* وانا لقوم في الحروب ليوثها
* وتنفر منا عند ذاك أسودها
* نحامي عن الدين القويم نصونه
* ونرغم آناف العدا ونذودها
* لنا الفخر في كل المواطن دائما
* بأحمدنا الهادي فذاك سعيدها
* ملكنا بلاد الشام ثم ملوكها
* إلى أن تبدي بالنكال عديدها
* وسوف نقود الخيل جردا سوابقا
* إلى شهرياض الكلب ذاك شديدها
* ونملك دارا ثم جملين بعدها
* كذا رأس عين والجيوش نقودها
* ونمضي إلى حران ثم سروجهم
* كذا الرها للمسلمين نعيدها
* واني أنا النعمان ذاك ابن منذر
* ابيد ليوث الحرب ثم أسودها
*
ثم أطبق عليه وفاجأه بطعنه فالقاه صريعا فلما نظر جيش قرقيسيا إلى هلاك ملكهم انحرفوا إلى مدينتهم وتحصنوا في بلدتهم وخافت أرمانوسة ودخل الرعب في قلبها ثم إنها قالت للعبد الصالح يوقنا يا عبد المسيح ما بقي لي أحد سواك يسوس ملكنا ويدبر حالنا فقال أيتها الملكة أنا لك وبين يديك ثم إنها خلعت عليه وعلى أصحابه وقالت اعلموا أن هذه المدينة والمملكة لكم فقال يوقنا يجب علينا أن نقوم بحقها ونقاتل بين يديها ثم إنه رتبهم على الأسوار فدنا المسلمون ورجالهم وهم يرمون بالمقايع فكانت حجارتهم لا تخطىء أبدا وكان المقدم على الرجال والموالي المنذر بن عاصم ولم يكن بالحجاز ولا باليمن قاطبة أرمى منه بالمقاليع وكان من قوة ساعده إذا خرج حجره يجاوز البرج الأعظم فلم يزل يرمي فيه كل يوم فيصيب الرجل والرجلين فسمته العرب برج المنذر وكانوا قد ضايقوا أهل قرقيسيا مضايقة شديدة فقالت ارمانوسة أين ما وعدت به الملك شهرياض من تدبيرك في هؤلاء العرب فقال أنا في هذا الأمر متفكر ثم إنه صعد على السور مما يلي المسلمين ونادى يا معاشر العرب قد طال الأمر بيننا وبينكم ولا نسلم لكم الا أن تهزموا الملك وتملكوا رأس العين ونحن لكم بعد ذلك واطلبوا منا من المال ما تريدون فقد علمنا أنكم إذا قلتم فعلتم ووفيتم قال فلما رآه عبد الله بن غسان وسهل بن عدي والصحابة ونظروا اليه علموا انه يريد أن ينصب حيلة على أهل قرقيسيا فقال سهل بن عدي يا عدو نفسه مكرت بنا وتممت منصوبك علينا بدخولك في ديننا حتى اطمأننا إليك ثم غدرت
114

ورجعت إلى دينك الأول فأين تهرب منا أو تولي عنا ونحن لك في الطلب وسوف نملك هذه المدينة بالسيوف ونضرب عنقك وهذا أيضا من تمام الحيلة فقال يا معاشر العرب لقد نصحتكم وخدمتكم وما رأيت منكم الا خيرا ولكن طالبتني نفسي بديني فرجعت اليه والآن فقد مضى ماضي وهذه المدينة ما لكم إليها وصول ولا تقدرون عليها لأنها حصينة وفيها رجال الحرب والقوت عندنا كثير ولكن انفذوا الينا منكم عشرة من أعز أصحابكم ممن نثق بهم يحلفون لنا ونحلف لهم إذا فتحتم راس العين سلمنا هذه المدينة إليكم ويكون الصلح بيننا بقية هذه السنة فقد بقي منها أربعة اشهر أولها شهر رمضان
فقال له عبد الله بن غسان قد أجبناك إلى ذلك فمن هم العشرة الذين تريدهم حتى نرسلهم إليك فقال أريد المقداد بن الأسود والأسود مولى قيس وخالد بن جعفر ورواحة بن قيس وهمام بن الحرب وسلامة بن عامر وابن نعيم فهؤلاء نريدهم فإنه لا يقع الصلح الا بهم قال فوجه عبد الله هؤلاء الذين ذكرهم له يوقنا قال وفتح لهم الباب فقال له عبد الله نحن ما نسمح بأصحابنا بلا رهائن فمضى يوقنا إلى الملكة أرمانوسة وأخبرها أن القوم يريدون رهائن فقالت أرسل لهم من أولاد السوقة قال يوقنا أيتها الملكة ان الحيل في الحرب من عند العرب خرجت والملوك من شأنها إذا قالت قولا وفت به واعلمي أنه قد قال حكيم الفرس إذا كان الغدر طباع قوم فالثقة بكل أحد عجز واعلمي ان أهل بلدك فيهم رؤساء وملوك وهم يعظمون شأنك بعد الملك ولكن ينظرون إليك بعين التأنيث وينظرون إلي بعين الغربة ولا هيبة لي عندهم وربما سمعوا بصلحنا مع
العرب فلا يملكونا من ذلك ولا يتم لناما نريده وربما يرسلون يستنجدون علينا بمثل ملك الموصل وصاحب الهنكارية ويعظم الأمر قالت فما الذي تراه من الرأي قال الرأي ان نبعث الرؤساء رهائن عند العرب وانما فعل ذلك يوقنا حتى لا يتعرض له متعرض في المدينة وإذا سلمهم لا يكون فيها رئيس من رؤسائهم فاجابته إلى ذلك وأنفذت الرؤساء منهم رهائن إلى عبد الله بن غسان فلما وصلوا اليه دخل العشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما حصلوا في المدينة أمر بهم إلى البرج الكبير وهو المعروف ببرج المنذر وانما فعل ذلك حتى لا يعصي من في البرج لأن فيه مال أهل البلد فلما حصلوا هناك رجع إلى الملكة ارمانوسة وقال قد حصلتهم في البرج وغدا نوقفهم بأعلى البرج ونقول لهم أما أن ترحلوا عنا أو نقتلهم قالت وكيف نصنع برهائننا وان نحن فعلنا بأصحابهم ما ذكرت يفعلوا بأصحابنا كذلك قال لها يوقنا
115

إذا كنت تفزعين على أهل البلد فصالحي القوم قالت دبرنا بحسن رأيك فقال السمع والطاعة وأنا أمضي إلى هؤلاء العشرة مع ما وصاهم به أميرهم وننظر ما الذي يطلبونه منا ثم إنه مضى إلى الصحابة وحدثهم بما عزم عليه من تسليم البلد وقال لهم إذا سمعتم الضجة فدونكم ومن في البرج ثم رجع إلى أصحابه ورتبهم على السور ولم يترك معهم أحدا من أهل البلدة فلما أظلم الليل سار عبد الله يوقنا مع أصحابه المائتين وأعلنوا بالتهليل والتكبير وبادروا إلى الباب ففتحوه وأرسل إلى عبد الله بأن يأتي إليهم بعسكره فأتوا ووضعوا السيف في أهل البلد فما أفاق أهل قرقيسيا الا والمسلمون قد مكنوا منهم القواضب فقصدوا البرج الأعظم عليهم العشرة الصحابة فعلمت الملكة أرمانوسة ان الحيلة قد تمت عليها من قبل يوقنا وسمعت أهل البلد ينادون الغوث الغوث فأمنهم عبد الله بن غسان وسهل بن عدي واحتووا على ما في المدينة وأخذوا جميع ما كان فيها من الأموال وما في البرج الأعظم من الذخائر فأخرجوا منه الخمس وقسموا الباقي على المسلمين وعرضوا عليهم الاسلام فمن اسلم منهم وهبوا له أهله وماله ومن أبى ضربت عليه الجزية ثم اجتمع الذين أسلموا وأتوا إلى الأمراء وقالوا نحن قد دخلنا في دينكم فسلموا لنا كرومنا وبساتيننا فقال لهم عبد الله بن غسان وسهل بن عدي هي بحكم الامام يعني عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو الذي يسكن فيها من أراد ويأخذ خراجها من هي في يده فان حكم الخراج والخمس والجزية بأمر الإمام يأخذ حاجة منه ويصرف الباقي في صالح المسلمين
قال الواقدي وأسلمت ارمانوسة ومن كان يلوذ بها فأقرهم عبد الله في أماكنهم وأحسن إليهم غاية الاحسان وجدد لهم الأمان كل ذلك ليتصل الخبر بأهل البلاد فيدخلوا في الاسلام قال عطية بن الحرث وكان ممن أدرك ذلك كان فتح قرقيسيا أول ليلة من شهر رمضان سنة اثنتين وعشرين من الهجرة وبنوا الكنيسة العظمى وهي بيعة جرجيس جامعا ولم يبرحوا حتى صلوا فيه وأطلقوا الرهائن وتسلم ولايتها شرحبيل بن كعب في مائة وخمسين رجلا وعولوا على المسير إلى ماكسين والتفت الأمير إلى عبد الله يوقنا وقال مر ابنتك أن ترجع إلى قلعتها فقد جاءت الوصية الينا من قبل الأمير عياض قال فرجعت والحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده
ذكر فتح ماكسين والشمسانية
قال حدثني زهمان بن رقيم عن الصلت بن مجالد عن القيل بن ميسور قال لما ارتحل عبد الله عن قرقيسيا ونزل على ماكسين فتحها صلحا على
116

أربعة آلاف درهم من نقد بلادهم وألف حمل طعام حنطة وشعير فقلقوا من ذلك فترك لهم النصف وكذلك أهل الشمسانية ثم نزل على عربان فجاؤوا اليه وصالحوه بما صالح به أهل ماكسين ثم ارتحل إلى المجدل فملكها وأقام ينتظر ما يرد عليه من أخبار أميره عياض بن غنم وهو نازل على نهر البلخ فكتب اليه يعلمه بما فتح الله على يديه فلما وصل الكتاب اليه كتب اليه أن الزم مكانك حتى يأتيك أمري والسلام قال سهل بن مجاهد بن سعيد لما فتح الله على يد عبد الله بن غسان أرض الخابور صلحا واقام بالمجدل أنشد قيس بن أبي حازم البجلي هذه الأبيات
* أقمنا منار الدين في كل جانب
* وصلنا على أعدائنا بالقواضب
* ودان لنا الخابور مع كل أهله
* بفتيان صدق من كرام العرائب
* هزمناهم لما التقينا بماسح
* وثار عجاج النقع مثل السحائب
* وكل همام في الحروب نخاله
* يكر بحمل في صدور الكتائب
* وجندل وفد الروم في كل جانب
* تركناهمو في القاع نهبا لناهب
* وما زال نصر الله يكنف جمعنا
* ويحفظنا من طارقات النوائب
* فلله حمد في المساء وبكرة
* وما لاح نجم في سدوان الغياهب
* ذكر فتوح قلعة ماردين
قال حدثني سوار بن كثير عن يوسف بن عبد الرزاق عن الكامل عن المثني بن عامر عن جده قال لما فتحت مدائن الخابور صلحا بلغ قتل الملك شهرياض صاحب أرض ربيعة وعين وردة ورأس العين فعظم عليه وكبر لديه فجمع أرباب دولته وهو نازل على أرض الطير وقال لهم هذه ثلاث مدائن من بلادنا قد ملكت وقلعتان والعرب المتنصرة قد مضت عنا فقال له البطريق توتا أيها الملك انه لا بد للعرب منا ولا بد لنا منهم ويعطي الله النصر لمن يشاء غير أنه كان من الرأي انك لو زوجت ابنك عمودا الملكة مارية بنت أرسوس بن جارس صاحب ماردين ومرين لأعانتنا قلعة المرأة
قال الراوي وكان السبب في بناء القلعتين المذكورتين أن هذا الرجل ارسوس بن جارس كان من أهل طبرزند وكان بطلا مناعا وكان أول من بنى المملكة بأرمينية وكان منفردا بطبرزند وكان يغير في بلاد الروم حيث شاء حتى كتب أهل تلك البلاد إلى الملك الأعظم يستغيثون به من يده فأرسله الملك هرقل من أنطاكية إلى ديار ربيعة وقال له ابن لك حصنا تسكن فيه فلما توسط أرض جبل ماردين نزل تحته ونظر وإذا على قلة الجبل موضع نار وكان فيه عابد من عباد الفرس وكان مشهورا عندهم بالعبادة وكانت الهدايا تقبل اليه من أقصى بلاد خراسان والعراق وكان اسمه دين فلم يمر
117

به أرسوس حتى صادقه وكان يحمل إليه الهدايا والتحف وكان العابد لا يحتجب عنه ولم يزل معه حتى أنه وقع به منفردا فقتله وغيبه فلما عدمه أهل تلك الأرض قالوا مات دين ثم إن أرسوس بني بيت النار وجعله حصنا وكانت له ابنة يقال لها مارية فلما رأت أباها بني له مكانا وتحصن فيه بنت أيضا قلعة بإزائه وحصنتها وجعلت فيها أموالها وذخائرها ورجالها وكانت كلما خطبها أحد تراه دونها لأنها من بيت المملكة
وكان بالقرب من قلعتها دير بسفح الجبل وفي الدير راهب قد انقطع فيه وكان من أجمل الناس وجها وكان اسمه فرما قال فأتت اليه زائرة فلما رأته وقعت محبته في قلبها فلم تزل تتردد اليه وتتجاسر عليه إلى أن صارت بينهما صحبة فسلمت نفسها اليه فحملت منه فلما تكامل حملها ولدت في خفية ولدا ذكرا فسلمته إلى دايتها وقالت لها انظري كيف تفعلين بهذا الغلام فاني أحبه ولا أريد قتله لأنه ان علم أبي بقصتي قتلني ثم أخرجت له ذخائر نفيسة وجعلتها في قماطه وخيطت عليها وقالت من وقع به ينفقها على تربيته ثم أنها افتقدت بدنه وإذا على خده الأيمن شامة سوداء بقدر الظفر ورأت أذنه اليمنى وفيها زيادة قال فأخذته الداية ونزلت به ليلا ومعها خادم وكان مطلعا على أسرار الملكة فأتت به إلى أسفل القلعة في الطريق الأعظم وهناك عمود من رخام وغالبه غائص في الأرض وهو قائم على رأس ذلك العمود قاعدة من الرخام فوضعت ذلك المولود على القاعدة خوفا عليه من الوحش أن يقربه فيأكله ثم رجعت هي والخادم إلى القلعة
قال الراوي وكان من قضاء الله وقدره أن صاحب الموصل الملك الانطاق قد بعث رسولا لشهرياض ثم أرسوس بن جارس صاحب ماردين فجاز سحرا في الطريق الذي فيه العمود فسمع بكاء الطفل فدنا منه وهو على جواده فنظر عصابة الذهب فأخذه وسلمه إلى جارية كانت معه في السفر وقال لها احتفظي على هذا المولود فلا شك أن له شأنا ثم أوصل الرسالة إلى صاحب ماردين وارتحل إلى راس العين وأعاد الجواب على الملك شهرياض وأجرى الله على لسانه بأن حدث الملك شهرياض بقصة الطفل الذي وجده على العمود فقال أعطني إياه فإنه ليس لي ولد يرثني ويخلفني في ملكي فدفعه اليه فأخذه الملك ودفعه للحواضن والدايات فربوه إلى أن ركب الخيل ونشأ وترعرع فسماه الملك عمودا وسماه الناس ولد الملك وتربى في النعمة وتعلم طريقة الملوك من ركوب الخيل والرماية والقتال والمعالجة والصراع إلى أن سما ذكره وانتشر في الناس فخره وكان لا يأوي إلى عين وردة بل أكثر زمانه في الصيد والقنص وبنى له قصرا على رأس المغارة يأوي اليه وسمي
118

القصر باسمه عمودا وليس عند أمه مارية خبر بما فعل الزمان به وانقضت الأيام واندرجت الأعوام حتى قدم عسكر المسلمين يريد فتح أرض الجزيرة فلما شاور الملك أرباب دولته في أمر العرب أشار عليه توتا أن يزوج ولده عمودا من الملكة فإنها لا تصلح الا له وهي بكر ولها من العمر ثلاثون سنة وقد خطبها الملوك وأبناؤهم فلم ترض بهم لأنها تراهم دونها وأنت إذا طلبتها لولدك لم يمتنع من ذلك أبوها ويفرح بمصاهرتك فأجابه إلى ذلك وبعث إلى أرسوس بن جارس هدية عظيمة وقال لتوتا كن أنت الواسطة في ذلك فسار توتا إلى ارسوس وسلم عليه ودفع اليه الهدية فقبلها وتحدث معه فيما ذكرناه فاجابه إلى ذلك وطلب منه الصداق مائة ألف دينار والبارعية وجملين وعشرين أميرا من العرب ليقتلهم قربانا للمسيح ليلة زفافها فاجابه توتا إلى ذلك فركب ارسوس إلى قلعة ابنته ودخل عليها وأعلمها بالخبر فرضيت فخرج من عندها وجمع القسوس والشمامسة وزوج ابنته لعمودا وليس عندهم خبر من أحكام القدر
قال الراوي ورجع توتا إلى الملك شهرياض وأعلمه ان الأمر قد انبرم وأعلمه بما اشترط عليه أرسوس من القلعتين البارعية وجملين ومائة ألف ديناروعشرين أميرا من العرب ليقربهم ليلة زفافها ففرح بذلك وأنفذ الأموال وقال إذا زفت اليه سلمت إلى أبيها القلعتين ثم إنه طلب عمودا وأخبره أنه قد زوجه ابنة ارسوس بن جارس وقال له اعلم يا بني ان من جملة الصداق عشرين من فرسان العرب فتجهز وخذ العسكر واقصد العرب وأمر أن يخرج معه توتا الوزير ورودس صاحب حران وقال لهم ان قدرتم أن تكبسوا العرب فافعلوا ومضوا في عشرين ألفا
قال الراوي واتت عياضا عيونه وأخبرته بما جرى وانهم قد اقبلوا إليك وهم رودس صاحب حران وصاحب كفر توتا وعمودا ابن الملك في عشرين ألفا وهم يريدون كبسكم في الليل فاستيقظوا لأنفسكم قال فجمع عياض وجوه الصحابة واستشارهم فقال خالد بن الوليد اكتب من وقتك إلى عبد الله بن غسان وسهل بن عدي أن يسيروا الينا من قوتهم ويعلمهم بما قصد العدو فيكونون منهم على حذر فإذا قربوا منهم يكمنون لهم حتى يعبروهم ويصير أصحابنا من ورائهم ونكمن نحن عن يمينهم وشمالهم ثم نطبق عليهم فقالوا كلهم هذا هو الرأي المصيب وخرج خالد في ألفين وكتب في الحال إلى عبد الله وسهل يأمرهما باللحوق بعسكر خالد ويوصيهما بما يفعلان وبعث الكتاب مع سراقة بن دارم فوصل اليهما في يومه على ناقة له فلما وصل وقرأ الكتاب ارتحلوا من ساعتهم وأطلع الصحابة على الخبر
119

فركبوا وأنفذ عبد الله عيونه يتجسسون له خبر العدو
قال الراوي وأما خالد فإنه انفصل من عياض في ألفين ولم يأخذ بهم على الجادة بل ارسل ألفا عن يمين الطريق وأمر عليهم ابن سعدا وألفا عن يسار الطريق مع خالد وأمر سعدا ان لا يبعد عن الطريق وارسل عيونه
قال الواقدي انه لما سار عمودا وتوتا ورودس في العشرين ألف فارس لم يزالوا سائرين إلى أن بقي بينهم وبين عسكر عياض بن غنم عشرة فراسخ فنزلوا في مكان يستريحون ويعلقون على خيلهم ويلبسون لامة الحرب
قال الواقدي وسار جيش عبد الله بن غسان من ورائهم وسار خالد بن الوليد عن يمينهم ونجيبه بن سعد عن يسارهم وليس عند الروم خبر من ذلك فلما علم خالد أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أحدقوا بالقوم أرسل يعلم المسلمين أن يتأهبوا إلى وقوع الصوت قال فتأهبوا ثم أن خالدا أخذ خمسمائة من أبطال المسلمين وترك خمسمائة مع عدي بن سالم الهلالي وقال له إذا رايت الحرب قد اشتعل نارها وتطاير شرارها فأخرج من كمينك ثم إن خالدا لما قصد جيش العدو بمن معه وتظاهر لهم رفعوا أصواتهم بالتهليل والتكبير قال فسمعت الروم أصواتهم فلبسوا سلاحهم ولم يركب منهم سوى رودس وأصحابه وهم خمسة آلاف ولم يكن فيهم مستيقظ سواه وتوتا مشغول مع عمودا قال وان صاحب حران استقبل خالدا واستصغر شأنه لما رآه في شرذمة قليلة فطمع فيه واشتغلت الروم بالنظر إليهم وقالوا رودس يكفينا أمرهم قال فبينما هم ينظرون إذ صاح خالد بعدو الله رودس وانحط عليه انحطاط السحاب وهو يقول هذه الأبيات
* وانا لقوم لا تكل سيوفنا
* من الضرب في أعناق سوق الكتائب
* سيوف دخرناها لقتل عدونا
* واعزاز دين الله من كل خائب
* قتلنا بها كل البطارق عنوة
* جلاء لأهل الكفر من كل جانب
* إلى أن ملكنا الشام قهرا وغلظة
* وصلنا على أعدائنا بالقواضب
* أنا خالد المقدام ليث عشيرتي
* إذا همهمت أسد الوغى في المغالب
*
وفاجأ رودس بطعنة فالقاه على وجه الأرض فأوثقه غلامه همام وحمل في أصحابه هو ومن معه قال فهم في ذلك إذ خرج عليهم نجيبه بن سعد وعدي بن سالم وأشرف من بعدهم عبد الله ابن غسان فامتلأت الأرض بالزعقات وارتجت سائر الجهات وصدموهم على الخيل العربيات ونادوا باسم جبار الأرض والسماوات وأطبقوا عليهم من كل جانب وكان التوفيق للصحابة مصاحبا فما لحقت الروم أن تركب على خيلها الا والسيف يعمل فيهم فطحطحوهم وفرقوا مواكبهم واستوثقوا منهم أسرى وأخذوا عمودا وتوتا
120

فكانت الأسارى أربعة آلاف والقتلى ألفا وسبعمائة وستة وستين وولى الباقي الأدبار فوصلوا إلى الملك شهرياض فأعلموه بما وقع فضاقت عليه الأرض بما رحبت وعلم أن دولته قد انقرضت وأن أيامه قد اضمحلت ومضت فأحضر من بقي من أرباب دولته فاستشارهم فيما يفعل فقالوا أيها الملك ان مقامنا على راس العين سفه فان بينه وبين حران والرها وسروج بعيد يطمع العرب في بلادنا بل الرأي ان نرحل ونتوسط البلاد وتكون قلاعنا أقرب منا والميرة تصل الينا من كل جانب فان كانت لنا وانهزمت العرب أخذنا عليهم سائر الطرقات وان كانت علينا انهزمنا إلى ماردين وقلعة مازن وكفر توتا وقصدنا جملين وتل توتا والبارعية وتل سماوي وتل القرع والصور ودجلة الجبل ونأمن على أنفسنا قال فأجابهم إلى ذلك وارتحل من برج الطير وقصد رأس العين ورتب آلة الحصار وترك في المدينة عشرة آلاف فارس مع مرتودس وكان من الفرسان المشهورة وهو متزوج بابنة الملك شهرياض فلما رتب أمره رحل إلى مرج رغبان حدثنا أبو يعلى عن طاهر المطوعي عن أبي طالب بن مليحة عن وهبان بن بشر بن هزارد قال قرأت الفتوح من أوله إلى آخره بجامع الرصافة على أحمد بن عامر الحوفي وأحمد قرأ على سعدان بن صاحب وابن صاحب قرأ على يحيى بن سعيد المروزي ويحيى قرأ على أبي عبد الله ابن محمد الواقدي وهو يومئذ قاضي الجانب الغربي قال لما نزل الملك شهرياض على مرج رغبان بجيوشه ارتحل عياض في اثره بعدما كتب بخبر الوقعة وفتح زبا وزلوبيا والخابور إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وسأله الدعاء وبعث الكتاب والخمس الخمس وما أخذه من القلاع وأرسله مع حبيب بن صهبان وضم اليه مائة فارس فاسر إلى المدينة وأما عياض بن غنم ومن معه من عساكر المسلمين فإنهم تبعوا شهرياض إلى أن نزلوا مع العدو بمرج رغبان قال فنزلوا في مقابلتهم قال واتصلت الاخبار بارسوس بن جارس صاحب ماردين بأسر عمودا فأحضر ابنته اليه وقال لها أي بنية اعلمي أن بعلك قد أسر وهو ابن الملك ونحن نخاف العار بأن يقال مارية بنت أرسوس ما كانت موافقة على ابن الملك وانه لما تزوج بها أسر وقد حرت في أمري فقالت له مارية يا أبت وحق المسيح لقد قلت الحق وتكلمت بالصدق فما عندك من الرأي قال لها وما عندك أنت قالت أريد أن أتنكر وأدخل إلى عسكر المسلمين وآتي أميرهم وأقول له اني قد أتيت أسلم على يديك لرؤيا رأيتها وهو أني رأيت المسيح في النوم ومعه الحواريون وكأني أشكو للمسيح ما نزل بنا منكم وكأنه يقول لي اسلمي فان القوم على الحق وقد
جئتكم لأسلم وأمللكم قلعة أبي وتتركوني أنا في قلعتي
121

فإذا قال أميرهم فكيف تملكيننا قلعة أبيك وهي أمنع الحصون وأحصن القلاع فأقول له يرسل معي من فرسانهم مائة فارس من صناديدهم وأدخلهم في قلعتي وأجعلهم في صناديق وأرسلهم إلى قلعة أبي وأسير معهم إلى والى قلعة أبي وأقول هذه الصناديق فيها أموالي وأريد أن أجعلها في خزانة أبي فإذا حصل القوم عندي رميتهم في المطامير وأقول لهم لست أدعكم حتى ترسلوا إلى أميركم يرسل إلي بعلي فقال لها أبوها انك تريدين أن تلقي نفسك في الهلاك وان العرب لا تتم عليهم الحيل لأنهم هم أربابها قالت وان طلبوا مني رهائن فإذا وقع الفداء باصحابهم طلبت الرهائن مع بعلي فقال لها دبري ما تريدين فلعل أن يكون فيه المصلحة قال فنزلت في الليل وقصدت مرج رغبان ومعها خادم وأربعة مماليك يسوقون بغلتها وعليها من الهدايا والتحف والطرف قال فلما وصلت إلى تنيس التقت بغلمان أبيها وحاجبه ومعهم أربعون أسيرا من العرب منهم عبد الله بن غسان وأمثاله قال وكان السبب في ذلك أن عياض بن غنم لما ارتحل يطلب راس العين مع هؤلاء السادة الذين مع عبد الله بن غسان بحسب العادة في سيرهم إلى حران وسروج والرها لياتوا بالطعام والميرة للعسكر فساروا فلما توسطوا البلاد لقيهم السائس ابن نقولا وجرجيس بن شمعون وقد أقبل بميرة عظيمة لعسكر الملك شهرياض ومعهم ثلاثة آلاف غائصون في الحديد فلما رأوا قلة المسلمين طمعوا فيهم فاقبلوا وأطبقوا عليهم من كل جانب فأخذوهم قبضا بالكف وأحضروهم بين يدي الملك شهرياض فهم بقتلهم فقال له وزيره أيها الملك ليس هذا براي لان ولدك عمودا في يد العدو ورودس صاحب حران وتوتا صاحب الحجاب فان أنت قتلتهم قتلوا أصحابك وولدك والصواب أنك ترسلهم إلى قلعة ماردين يعني قلعة المرأة وتسلمهم إلى الملكة مارية ويكونون عندها فإذا طلبتهم العرب تقول لهم أنهم بقلعة ماردين وليس هم في أسرنا ونحن لا نبالي بمن هم عندهم فيكون أعظم لحرمتك وهيبتك فاستصوب رايه وأرسلهم إلى مارية مع صاحب أبيها فالتقت بهم على تنيس كما ذكرنا فأمرت الحاجب أن يوصلها إلى قلعتها ففعل ثم إنها سارت حتى أتت إلى عسكر المسلمين في حندس الليل فكان يطوف في العسكر سهل بن عدي ونجيبه بن سعد في جماعة فلما رأوها أتوا إليها وسألوها عن حالها فقالت أريد أميركم فأتوا بها إلى عياض بن غنم
فلما وقفت بين يديه قدمت له الهدايا وهمت أن تسجد له فنهاها وقال إن الله قد اعزنا بالاسلام وانقذنا من الضلال بمحمد صلى الله عليه وسلم فأزال عن قلوبنا الغل والحسد واتباع الهوى وشرفنا بالتحية ونزهنا أن يسجد بعضنا
122

لبعض وما يرغب في ذلك الا الجبابرة من ملوك الأرض وان الله يقول العظمة ردائي والكبرياء إزاري فمن نازعني فيهما قصمته ولا أبالي ومارية تفهم ما يقوله فلما انتهى قالت أيها الملك ان الله بهذا نصركم علينا قال لها فمن أنت قالت أنا مارية بنت أرسوس بن جارس صاحب ماردين وأن الذي بأيديكم أسيرا هو بعلي ولا صبر عليه وهو عمودا فلما كثرت فكرتي فيه واشتد شوقي إليه رأيت المسيح في نومي والحواريين وقد أمرني باتباعكم وقد أتيت إليكم بهذه النية بأن اتبع دينكم وأسلم لكم القلعتين فلعتي وقلعة أبي على شرط أن تبقوني في قلعتي ولا تغيروا من أمري شيئا وأقيم أنا وبعلي فيها وأكون الحاكمة على أهل بلدي قال فتبسم عياض من قولها وقال يا مارية أما انك ما أتيت الينا الا لتنصبين علينا بسبب بعلك وكيف يكون هذا بعلك وهو ولدك وحديثه كذا وكذا قال فلما سمعت الجارية الحديث من عياض بن غنم امتقع لونها وتغير كونها وقالت له يا سيدي ومن اين لك هذا وان عمودا ولدي وهو ولد الملك شهرياض قال لها رايت رسول الله صلى الله عليه وسلم الليلة وحدثني بذلك كله فقالت اني أريد أن أراه فإن كان ولدي فان لي فيه علامة فأمر عياض بن غنم بحضوره فأتى به سعيد بن زيد فلما نظرت اليه ووقعت عينها عليه ورأت الشامة التي على خده وزيادة اذنه ورأت عصابتها وما فيها من الجواهر صاحت صيحة عظيمة أذهلت من حضر وترامت عليه والتزمته وقالت ولدي لا شك فيه وقد صدق محمد صلى الله عليه وسلم في قوله قال ونظر الغلام إلى أمه فتحرك الدم في بدنه فغشي عليه من البكاء فلما أفاق بكى بكاء شديدا هو وأمه فلما سكتا قال لهما عياض قد وجب عليكما أن توحدا الله شكرا على ما أنعم عليكما فإنه يزيد الشاكرين ورحمته قريب من المحسنين ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين ليس له حد ولا قبل ولا بعد هو الأول وعليه المعول وهو الآخر وله المفاخر قال فلما سمع عمودا ما قاله عياض قال والله ما في قولك زور ولا محال وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله قال فلما نظرت مارية أمه اليه وقد أسلم وافقته في الحال وعرجت عن طريق المحال وشهدت لله بالوحدانية ولنبيه بالرسالة فقال عياض بن غنم ومن حضر من المسلمين تقبل الله منكما اسلامكما ووفقكما واعلما أن الله قد طهر قلوبكما وغفر ذنوبكما فاستأنفا العمل ولكن كيف السبيل إلى هذه القلعة المنيعة
فقالت ابشر فان أصحابكم أسروا عند حران وقد وجههم شهرياض إلي لأفدي بهم منكم هذا الغلام عمودا وقد سيرتهم إلى قلعتي وها أنا أسير إليهم
123

واحصلهم في قلعة أبي وأفك أسرهم وأملك بهم القلعة إن شاء الله تعالى فقال لها عياض لقد وفقك الله في كل حال وصرف وجهك عن المحال ولقد صعب علي أسر أصحابي ولكن قد طاب قلبي بما قلت من الصواب فدعي ولدك عندنا وارجعي إلى أبيك فإذا رأيتيه فقولي له قد تمت حيلتك علينا فإذا حصلت عند أصحابنا فافعلي ما فيه الصلاح فقالت السمع والطاعة ثم ودعت زوجها أي ولدها والمسلمين وسارت من ليلتها إلى ماردين فوجدت أباها قد نزل إلى خدمة الملك إلى مرج رغبان ووجدت الحاجب الذي كانت معه الاسرى قد أوصلهم إلى قلعة أبيها وتركهم تحت قبضته وكان هذا الحاجب من عقلاء الناس ممن قرأ التوراة والإنجيل والزبور وكان راهبا في مبدأ أمره وكانت له صومعة على عمود رخام قائم طويل وصنع على رأس العمود قائمة عظيمة وعقد عليها قبة وكان يصعد إليها بسلم إبريسم معلق بأعلى القبة وله سكتان في الأرض فإذا حصل في القبة انتزع السكتين وأخذ السلم اليه فشاع خبره ونما ذكره بالعبادة والرهبانية فلما توجه إلى بلادهم وفتحت الخابور صلحا اجتمع حول ذلك العمود أمم وقالوا يا ابانا ما الذي تشير به علينا فان العرب قد توجهت الينا وقد فتحوا الشام وأكثر العراق وحصلوا في أرضنا فما الذي نصنع قال فاطلع عليهم من القبة وقال
يا معاشر النصرانية ما زالت النعم عليكم ظاهرة وباطنة مطمئنين في البلاد وقد ذلت لكم رقاب العباد نصركم المسيح على سائر الأمم ورد عنكم سائر الغمم ومهد لكم
الأرض في الطول والعرض إذ كنتم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتردون المظالم إلى أهلها وتحكمون بالحق وتتبعون شريعتكم وتزجرون أنفسكم عن أكل الحرام واتباع الزنا فلما غيرتم غير بكم وفي إنجيل يحيى وإنجيل مرقص مكتوب من اتبع سنن الحق وعود لسانه طريق الصدق وفعل بأوامر ربه وألزم نفسه بما يعنيه ولم يبخس الناس أشياءهم وداوم على صلاته وعمل بأوامر شريعته ولم يتبع هواه بلغه زهده ما تمناه ومن جار وبغى وظلم وتجبر وحاد عن طريق الحق كان فناؤه عاجلا ولنفسه بيده قاتلا وخربت داره ونفد ادخاره وكان الخوف شعاره والجحيم دثاره وفي التوراة مكتوب لا تظملوا انه لا يحب الظالمين وقد بلغني أن في القرآن مكتوبا * (إن الله لا يصلح عمل المفسدين) * فأصلحوا ذات بينكم واجعلوا تقوى الله نصب عيونكم وقاتلوا عن أهلكم وحريمكم واتبعوا شريعة نبيكم وأخرجوا إلى جهاد عدوكم فان الجهاد اليوم أفضل من جميع العبادات المأمور بها فإنه من جاهد أعداه كانت الجنة مأواه ألا واني نازل إلى صومعتي هذه فلا
124

يتخلف أحد منكم ثم إنه ارسل سلمه ونزل فلما رأوه وقد نزل اقبلوا عليه بالسلام وقبلوا يديه ورجليه فاتى بهم إلى كنيسة دمائر وكنيسة باذا فصلى بهم ودعا ثم أمرهم بالجهاد وقصد دير ملوخ هو قبله من دار عبديدان الروم وكان فيه راهب فناداه باسمه وقال له ليس هذا وقت العبادة فأنزله من صومعته وسار إلى نصيبين فخرج إلى لقائه الملك قرقياقس فترجل اليه وصافحه وسار بين يديه إلى البيعة وزار دير يعقوب وهرع اليه أهل نصيبين فوعظهم وأمرهم بالجهاد وقصدر راس العين وبلغ خبره لأرسوس بن جارس فلما أسر عبد الله بن غسان ومن معه بعثهم مع الراهب ميتا بن عبد المسيح ولقيته مارية في الطريق كما ذكرنا وأمرته بأن يسير بهم إلى قلعتها فلما ابعد عنها لقي أباها في عسكره فسأله عما هو فيه فأخبره أن الملك شهرياض ارسله بهؤلاء الاسرى
فقال له من أنت قال ميتا بن عبد المسيح فلما سمع ارسوس قوله فرح به وقال وحق ديني لي زمان ارقبك ولست أستغني عن رأيك ولكن انطلق بهؤلاء إلى قلعتي وتول أنت حفظهم حتى يأتيك أمري وخذ خاتمي هذا فانطلق وأوصلهم إلى القلعة ووضعهم في الاعتقال وتولى حفظهم بنفسه وجعل ينظر إلى حسن عبادتهم وجودة تلاوتهم فأقبل عليهم وقال لهم أخبروني كم فرض عليكم في اليوم والليلة فقال عبد الله بن غسان خمس صلوات فمن أتى بها بركوعها وسجودها على الكمال لا يرد على النار قال الله تعالى في كتابه * (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين) * وقال نبينا صلى الله عليه وسلم
الصلاة صلة ما بين العبد وربه فيها إجابة الدعاء وقبول الاعمال وبركة الرزق وراحة الأبدان وستر بينه وبين النار وثقل في الميزان وجواز على الصراط ومفتاح الجنة وهذه الصلاة فرضت على جميع الأمم فلم يؤدوها وقصروا فيها حتى فرضها الله علينا فأديناها والصلاة جامعة لجميع الطاعات فمن جملتها الجهاد وان المصلي مجاهد عدوين نفسه والشيطان وفي الصلاة الصوم فان المصلي لا يأكل ولا يشرب وزادت على الصيام التمسك بمناجاة ربه وفي الصلاة الحج وهو القصد إلى بيت الله الحرام والمصلي قصد رب البيت وزاد على الحج بقربه من ملكوت ربه قال الله تعالى في الأرض الا الصلاة فان الله افترضها في السماء وأنا بين يديه وقال يا محمد هذه الصلاة افترضتها على جميع الأنبياء وأما أمتك فقد سلمتها إليهم وجعلت جميع الطاعات كلها فيها وقال صلى الله عليه وسلم
أتاني جبريل وقال لي يا محمد قم فاصنع مثل ما أصنع فتقدم وصلى ركعتين وقال لي يا محمد هذه صلاة الصبح وهي أول صلاة
125

صلاها ولذلك سماها الأولى ثم صلى به مرة أخرى إذ صار ظل كل شيء مثله وقال له هذه صلاة الظهر ثم صلى العصر أول وقتها وقال هذه صلاة العصر ثم صلى به مرة أخرى إذ صارت الشمس مصفرة ثم صلى والشمس قد غربت وقال هذه المغرب ثم صلى به عند مغيب الشفق وقال هذه عشاء الأخرى ثم صلى المرة الخامسة والفجر قد طلع وقال هذه صلاة الصبح وقال نبينا فرضت الصلاة مثنى مثنى فزيدت في الحضر وتركت صلاة السفر على حالها فقال ميتا لعبد الله بن غسان يا أخا العرب فما معنى رفع أيديكم في الصلاة للتكبير فقال ألا ترى أن الغريق لما يجد شيئا يتعلق به لينجو من الغرق وكذلك العبد في الصلاة فهو غريق في بحار الخطايا والمعصية يرفع يديه ويقول يا رباه خد بيدي فاني غريق في بحار الخطايا والمعصية هارب منك إليك وأما معنى القراءة في الصلاة فهو عتاب بين العبد وربه وأما الركوع فمعناه أنا عبدك وقد مددت يميني إليك وأما الرفع من الركوع وقول العبد ربنا لك الحمد يعني على عتق رقبتي من الذنوب يقول الله تعالى بقول العبد أنا عبدك قد أعتقتك من الذنوب وأما معنى السجدة الأولى ووضع الجبهة على الأرض كأنه يقول منها خلقتني والرفع منها أخرجتني والسجدة الثانية وفيها تعيدني والرفعة الأخرى ومنها تخرجني تارة أخرى وأما معنى السلام على اليمين اللهم أعطني كتابي بيميني ولا تعطني كتابي بشمالي ولما حضرت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعته قال
من حافظ على الصلوات الخمس كانت كمثل نهر عذب يغتسل فيه أحدكم كل يوم خمس مرات فهل يبقى من درنه شيء فكذلك الصلوات الخمس لا تبقى على العبد خطيئة فلما سمع الراهب ميتا كلام عبد الله قال أشهد أنكم على الحق وان دينكم حق وقولكم صدق ثم أسلم وبعده بقليل وصلت مارية لما علمت أن الصحابة في قلعة أبيها فلما صارت في أعلى القلعة ونزلت في دار أبيها باتت على قلق بسبب الصحابة فلما كان قد دخل عليها ميتا وسلم عليها فقالت له يا ميتا مال الذي صنعت بالعرب قال استوثقت منهم حتى يرى الملك فيهم رأيه فقالت والله ما قصرت ولكن اجعلهم معنا في البيعة حتى يروا حسن عبادتنا وقراءتنا الإنجيل فلعلهم أن يدخلوا في ديننا فقال السمع والطاعة ثم إنه نقلهم إلى البيعة فلما كان الليل أتت البيعة فرأت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم في القيود ولم يكن هناك ميتا فقالت له يا ميتا أنت من علماء ديننا وما يخفى عليك الحق اطلعت على دين هؤلاء القوم فالحق معنا أو معهم فقال أيتها الملكة ليس على الحق من غطاء الحق مع هؤلاء العرب والذي قد جئتني به فانجزيه من قبل أن تطلبيه فلا تقدري عليه وقد رأيت بيان صدق القوم وصدق دينهم حتى
126

جمع الله بينك وبين ولدك عمودا قال فلما سمعت كلام ميتا بقيت باهتة فيه فقالت له ومن أين لك هذا قال رايته في نومي وحدثها بما كان كأنه كان حاضرا فسجدت شكرا لله فلما رفعت رأسها وثبت قائمة وحلتهم من وثاقهم ودفعت إليهم السلاح وأمرت ميتا أن يكرمهم وقالت له أنا ادبر كيف نقبض على الوالي ونملك القلعة ثم إنها سارت إلى قلعتها وولت عليها من هي به مطمئنة الفكرة وأخرجت منها من تخشى جانبه واستوثقت منها وأما ميتا فإنه جعل الصحابة في البيعة في بيت المذبح وقال لهم إذا كانت غداة
غد وأتى الوالي وأصحابه إلى الصلاة فأخرجوا عليهم فان الله ينصركم عليهم
قال الراوي فلما كان الصبح أقبل الوالي وخواصه ليصلوا وضربت النواقيس وأتى القس ليفتح باب المذبح ويقرب القربان 1 فلما فتح الباب خرج عبد الله بن غسان وأصحابه الأربعون وكبروا تكبيرة واحدة ارتعدت لها القلعة وما فيها وبذلوا السيف فيهم فقتلوهم عن آخرهم واحتووا على القلعة وما فيها وسمع أهل الربض التكبير فعلموا أنهم قد ملكوا القلعة فولوا على وجوههم هاربين قال فلما سمعت مارية التكبير والصياح علمت أن قلعة أبيها قد ملكت فغلقت أبواب قلعتها وأرسلت من تثق به إلى عياض بن غنم وأخبرته بما جرى فشكر الله على ذلك ووصل أكثر المنهزمين إلى الملك شهرياض وأعلموه أن قلعة ماردين ملكها العرب فصعب عليه وأيقن بتلف ملكه ووقع الرعب في قلبه وقلوب عسكره وبلغ أرسوس الخبر أن قلعته ملكت وخزائنه أخذت فكتم أمره إلى الليل وأخذ من يثق به وصار يطلب حران فوصل إليها في الليلة الثانية فلما قرب من الباب قام إليهم الحرس فصاح بهم أصحابه وقالوا افتحوا هذا البطريق رودس يعنون بطريقهم الأول وقد تخلص من العرب ففتحوا لهم فدخل أرسوس وملك المدينة وفشا الخبر في تلك البلاد أن أرسوس صاحب ماردين قد ملك حران بالحيلة فقصد اليه جميع من يطلب الديوان فصار عنده جيش عظيم
ذكر فتوح الرها وحران
قال الراوي وكان لرودس هذا صاحب حران المقبوض عليه ولد وكان قد قبض أبوه عليه لأنه خاف منه وكان شجاعا اسمه ارعوك فقبض عليه وحبسه في العمق وكان له أم اسمها ست العسكر وهي صاحبة سميساط وكانت قد مضت إلى زيارة أهلها وهي غضبانة للقبض على ولدها فلما بلغها أن أرسوس ملك حران صعب عليها وركبت من سميساط وجاءت العمق وخلت بولدها وأخبرته أن حران ملكها أرسوس فأخرجته وسلمت اليه الأموال وقالت انفق على الفرسان واجمع لك جيشا وأمض إلى هذا الرجل الذي فعل ما فعل قال
127

فانفق المال وأتت اليه الرجال وبقي في جيش عظيم وعبر الفرات وقصد حران وبلغ أرسوس الخبر فخرج إلى لقائه والتقى الجمعان وكان قد قدم أمام جيشه بطلا من الأرمن اسمه أرجوك في ثلاثة آلاف فوقعت الهزيمة على الأرمني
حدثنا عبد الله بن أسيد قال حدثنا سالم بن ربيعة عن عدلان التميمي عن محمد بن عمر الواقدي قال لما بلغت الاخبار إلى عياض بن غنم بمسير أرجوك الأرمني إلى أرسوس أحضر عياض رودس صاحب حران وأخبره بما انتهى اليه من خبر أرسوس وكيف ملك حران وان ولده يريد أن يلقى أرسوس واني قد عولت على قتلك الا أن تدخل في ديننا فقال ان أنت أطلقتني سلمت إليك ما تحت يدي من القلاع ولعلى أخلص حران لان أهلها يحبونني لأني كنت محسنا في حقهم وأنا أقول إنهم إذا رأوني سلموا إلى البلد وأنا أسلمها إليكم على انك تعطيني السويداء ونصيبين الصغرى وأنا أعطيكم الجزية كل عام قال فأجابه إلى ذلك وأمر عبد الله يوقنا أن يستخلفه فحلف وأجاب إلى ذلك فاطلقه وبعث معه يوقنا في جماعته ورد على رودس خيامه وثقله وجماعته وانسلوا من الليل من مرج رغبان طالبين حران فلما قربوا منها أرسلوا عيونهم فوجدوا العسكر نازلا خارجا منها وعسكر ولده بإزائه غير أنه قد أسر أرجوك وأخذه أرسوس وان عسكره باق على حاله وقد بعث إليهم أرسوس رسولا يدعوهم أن يكونوا من حزبه وينعم عليهم وأن ينزل بهم وبعسكره على الرها ليأخذها وتصير من تحت يده قالوا حتى نرى لأنفسنا في ذلك
قال الراوي فلما قدم رودس ويوقنا ونظرا إلى العسكرين والنيران تتقد قال رودس ليوقنا هذه النار القريبة لا شك أنها لعسكر ولدي فأرسل إليهم من يختبرهم فسار الرجل وعلم من هم وعاد فأخبره أن القوم معولون على أن يحلف لهم أرسوس وان يكونوا جنده وقد تقرر الحال على أنه في غداة غد يخرج في مائة فارس من أصحابه إلى دير فرها بين الرها وحران ومن عسكر ولدك خمسون من أكابرهم ويتعاهدون هناك قال فلما سمع يوقنا ذلك تهلل وجهه فرحا وقال لرودس أبشر فقد صار القوم في قبضتنا ثم مضوا يطلبون الدير وكمنوا بالقرب منه ثم إن يوقنا أرسل غلاما له وكان نجيبا قد رباه وكان اسمه شامس وكان لبيبا فقال يا شامس انطلق إلى صاحب الرها وهو كيلوك وقل له ان مقدمي صاحب أرجوك قد بعثني إليك لكي يكونوا من رجالك فإنك منهم واليهم وأرسوس من الروم وان رجالا منا يأتون إلى دير فرها وارسوس معهم حتى يحلف لهم ويحلفوا له ويريد منك أن تخرج في مائة وتكمن لنا بالقرب من الدير فإذا قدمنا فأخرج علينا قال فانطلق
128

شامس إلى أن قدم على صاحب الرها وحدثه بما ألقى اليه صاحبه يوقنا وكان من قضاء الله وقدره أن الحيلة التي دبرها يوقنا وبعث بها إلى صاحب الرها قد بعث بها أكابر جيش أرجوك فلما قدم شامس عليه من قبل يوقنا وحدثه بالحديث الذي ذكرنا تأكد عنده ذلك وخرج في أربعمائة من قومه في أكمل سلاح وساروا طالبين دير قرها قال وكان يوقنا قد كمن بالقرب منهم واختلس شامس وأتى إلى يوقنا وأخبره بأنهم كامنون في المكان الفلاني وهم منكم قريب قال وأما ما كان من أمر ارسوس فإنه لما أرسل رسوله إلى الأرمن من عسكر أرجوك أتى رودس وقال لهم انه يحلف لهم ويحلفون انهم لا يخامرون عليه ووقع الاتفاق على أن يكون الحلف في دير فرها فلما كان آخر الليل مضوا وهم متباعدون من بعضهم خوفا من الغدر وكان خاطرهم طيبا بصاحب الرها بما قرروا عنده ثم إنه قبل خروجهم أعلموا ألفا من شجعانهم بأن ينسلوا من العسكر في خفية وأن يلحقوهم ليكونوا عونا لصاحب الرها وقالوا لهم لا تتكلموا دون أن تروا صاحب الرها قد خرج عليه بكمينه فإذا خرجتم فازعقوا بشارة كأنكم من أصحابه حتى يطمئن إليكم فلعل أن تقبضوا عليه حتى يخلص أميرنا أرجوك قال فانسلوا من أول الليل ولم يعلم بهم أحد
قال الراوي ولما أشرف أرسوس على الدير إذا به قد خرج عليه مائتا فارس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان المقدم عليهم عمرو بن معد يكرب الزبيدي وكان السبب في ذلك أن عياض بن غنم لما بعث رودس ويوقنا معه وأصحابه ساء ظنه من جانب رودس وقال لقد فرطت وأذهبنا ولي الله مع عدو الله قال خالد أيها الأمير لا تشغل سرك من قبل رودس فان ملوك الروم إذا قالت وفت ويرون العار في أن يقول أحدهم قولا ولا يفي به فقال يا أبا أبا سليمان
انه لا ينبغي لنا أن نغفل عن صاحبنا ومن معه ثم إنه أرسل عمرو بن معد يكرب الزبيدي في مائتي فارس وساروا طالبين حران فلقوا في طريقهم ارسوس وهو خارج إلى
الدير فقبضوا عليه وعلى من كان معه وأما يوقنا فإنه قبض على كيلوك صاحب الرها وكمن إلى الليل وتوجه إلى الرها فلما قربوا منها وقد لبسوا الثياب التي كانت على صاحب الرها وألبس جماعته ثياب جماعة صاحب الرها فلما قربوا منها وكانوا قد أوقدوا لهم مشاعل فتحوا لهم الباب فدخلوا فلما حصلوا داخلها رفعوا أصواتهم بالتهليل والتكبير والثناء على رب العالمين فما جسر أحد من العوام أن يتكلم واحتوى يوقنا على ما كان فيها من ذخائر وتحف وخزائن كيلوك وأمواله وترك عليها من يثق به بعد ما قبض على من يخافه من رؤسائها وأكابرها
129

وكان قد استأمنه ابن عم كيلوك فأمنه فدله على جميع ما كان لكيلوك ثم أخذه أمامه وساروا طالبين حران فوجدوا رودس قد فتحها وذلك أنه لما قبض عمرو بن معد يكرب على ارسوس سار رودس ومعه بقية عسكر المسلمين حتى وصل إلى حران ونادى الناس الذين على السور فلما عرفوه فتحوا له الباب وصقعوا وساروا معه إلى دار امارته فملكها وأتى له عظماء البلد وهنئوه بالسلامة فقام فيهم خطيبا وقال لهم اعلموا أن الله تعالى أنقذني وأنجاني وقد جرى من حديثي كذا وكذا واني عاهدت أمير القوم أن أسلم إليهم هذه المدينة ويوليني على نصيبين الصغرى والسويداء وحلفت له على ذلك واني سوف أوفي بعهدي وأشهدكم ان كل دين يخالف دين الاسلام فهو باطل وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله قال فلما سمع أهل حران ذلك قالوا لقد أراد الله بك خيرا ونحن نوافقك على اسلامك فأسملوا الا قليلا منهم
ذكر فتوح قلعة رأس العين
قال الراوي حدثنا ربيعة بن هيثم عن عبد الله التنوخي عن عبدان بن عطية قال ما أسلم من أهل الجزيرة الاحران فلما رآهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دخلوا في الاسلام قالوا اللهم ثبتهم على دينك ولا تمكن من بلدهم عدوا وأعادوا الكنائس مساجدا وجوامع وسلموا الصحابة ما حول حران والرهان تسليما وأتى يوقنا من الرها إلى حران واجتمع بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وشاورهم في أمر الرها وكيف يكون حكمها فقال سعيد بن زيد انك قد أخذت هذا البلد بحيلتك وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الحرب خدعة وقد صار كل من فيها عبيدا للمسلمين هم وأموالهم فقال يوقنا أنتم تعلمون ان أكثر الجزيرة ما ملكتموه وثم إلى الآن حصون وموانع والصواب أن تصنعوا جميلا وخيرا يعلو به ذكركم ويرتفع به فخركم فقال له سعيد إذا كان الأمر على ما ذكرته فاتركوهم على حالهم حتى نرى ما يرى فيهم الأمير عياض بن غنم قال ففعلوا ذلك ثم إن الأخبار اتصلت بالملك شهرياض ان حران والرها وسروج والسخن وأكساس والعمق قد صارت كلها للعرب فأيقن بزوال ملكه فدخل إلى رأس العين هو ومن يثق به وصلوا في بيعة نسطوريا وهي الجامع اليوم فلما فرغوا من صلاتهم قال يا معاشر الروم اعلموا أن العرب قد شاركونا في بلادنا وقد صار لهم معاقل يجتمعون فيها وتقود بأودهم ويصل إليهم منها الميرة والعلوفة وتجيئهم منها الأموال والخابور وفيها كلها حكمهم وما بقي بيننا وبينهم الا هذا المصف فإن كان لنا فلا مقام للعرب بيننا وان كان للعرب فالبلاد لهم من دوننا وقد رأيت رأيا
130

فيه السداد فقالوا وما هو قال أرى أن أماطلهم بالمصف ونكتب للملكين المعظمين شقر وزعفرة فلعلهما ينجدونا بعسكرهما ونكاتب الملك حرفتاس بن فارس ونكاتب الملك الانطاق صاحب نينوي وبلادها والى الحبرا بن صاحب الهكارية فإذا أرسلوا الينا عسكرهم نستعين بالمسيح ونلقي المسلمين والله يعطي نصره لمن يشاء فقالوا هذا رأي جيد فكتب الكتب وأرسل الرسل إلى الملوك المذكورة وعاد إلى عسكره
قال الواقدي وما منع عياض بن غنم عن حرب القوم الا أنه رأى أن البلاد تفتح لأصحابه بدون قتال فلم يستعجل لأنه قوي ظهره بالبلاد التي فتحت وأيضا أنه كتب إلى عبيدة بن الجراح يطلب منه خبرا يأتيه قال ووصلت كتب الملك شهرياض إلى أصحاب الأقاليم فما منهم الا من عين عسكرا لنصرته قال ووصل مكتوبه إلى صاحب أخلاط وكان له بنت ذات جمال فائق وكانت من الشجاعة على جانب عظيم وكان اسمها طاريون وكان مستقرها بجبل سموه باسمها وكان كل من خطبها لا ترضى به الا أن تلقاه في الميدان فان قهرها كانت له زوجة قال وانها غلبت جميع خطابها وكان من جملة من خطبها غلام اسمه سوسى بن سلنطور صاحب جبل النساسنة وكان قد قدم إلى أخلاط بهدية من أبيه إلى أبيها فقالت هي على شرط معروف فبارزته في الميدان فقهرته وجزت ناصيته ومرت الأيام والليالي فلما بعث الملك شهرياض يستنجد الملوك وأرسل إلى صاحب أخلاط أرسل اليه أربعة آلاف فارس وأمر عليهم ابنته طاريون وقال لها أي بنية قد قدمتك على الجيش وأريد منك أن تظهري على العرب ما كنت تظهرين به على الفرسان حتى تشكري عند أمة المسيح قال وأرسل معها ملك السناستة نجدة وهم ألف رجل وكان المقدم عليهم ولده فسار في صحبتها وكان الغلام قد كمل شأنه وحسن كماله وابتدر هلاله ولم يكن أحد في زمانه يوصف بجماله فلما نظرت طاريون إلى حسنه وجماله نظرته بعين المحبة فوقع قلبها في شبكة عشقه فسيرت رجالها مع رجاله
قال الواقدي وأحسن ما رأيت في هذه الفتوح أنه كان لهذه الجارية ابن عم اسمه برغون وكان يحبها ولا يستطيع أن يسمع بذكرها وكان من أهل الشجاعة والشدة كان تحت يده من المعاقل حيزان والمعدن وأبزون وقف وأنطر وايدليس وأرزن وانه سار ينجد شهرياض في ثلاثة آلاف فلما عبر جيش ابنة عمه طاريون بيدليس اهتم لها وأكرمها وأهدى لها الهدايا والتحف وسار معها إلى أن عبروا حصن كيفا وأخذوا طريقهم على الموزر ونزلوا على حصن يعرف بالهتاج على طريق النهر وكان لابن عمها عيون يطلعونه على
131

أخبارها قال فلما نزلت على النهر أرسلت إلى الغلام سوسي الذي تحبه وهي تقول له اعلم أن المحبة الصادقة لا تكون الا بعد العداوة المفرطة وقد ندمت على ما فات وما كان مني إليك وقد رأيت أنك بعد رجوعنا من قتال العدو ترسل إلى أبي وتطلبني منه ولكن أريد منك أن تصل إلي ليلا في خفية من ابن عمي يرغون حتى تحلف إلى أنك ترسل إلى أبي وتطلبني منه وأحلف لك أني لا أريد سواك وبعثت له بهدايا مع بعض خدمها وأرسلت معه شيئا من الحلوى وأرسلت مثل ذلك لابن عمها ولكل أمير صحبها حتى لا ينكر عليها قال وان ذلك الخادم قد علم بما جرى وكان هذا الخادم قد ربى ابن عمها على كتفه وكان يحبه محبة شديدة فأعلمه بما وقع من حديثها مع الغلام
سوسي بن سلنطور وهي تريد أن تجتمع به الليلة حتى تحلف له أنها ما تريد غيره قال فكتم يرغون أمره فلما جن الليل طلب عظماء جيشه وقال لهم اعلموا أني ما وليت عليكم الا وقد علم المسيح أن عقلي أوفر من عقلكم وقالوا أيها الصاحب أعلمنا بما تريد حتى نقبل قولك ونطيع أمرك قال يا قوم اعلموا أننا سائرون على غرة وعن قليل ترون الخيل تنوشنا والرماح تحوشنا قالوا وكيف ذلك قال لأن العرب لا تنام ولا ترام وقد عاد النصر إليهم واعلموا أن الملك شهرياض ليس بأعظم همة ولا أكثر جنودا من هرقل ولا من ملوك الأرض وقد ملكت العرب دولتهم وأخذوا معاقلهم وأذلوا ملوكهم وأنا أعلم أن شهرياض لاثبات له مع العرب يوم المصف وقد ملكت بلاده وهي حران والرها وسروج والبيرت والخابور وقد أخذوا ماردين وقلعة ماردين يعني قلعة المرأة وأخذوا أرسوس وابنته مارية وكأنكم بالعرب قد ملكت ديار شهرياض وعادت إليكم وملكت دياركم وسبت حريمكم واعلموا أن الحق مع العرب وأنهم إذا قالوا قولا وفوا به ومن أسلم إليهم أمن على نفسه وأهله وماله سواء رجع إلى دينهم أو أقام على دينه واعلموا أن بقلبي النار من هذه الجارية طاريون وقد أرسلت إليها لتكون لي أهلا وأكون لها بعلا فأبت ذلك وهي تحب ابن ملك السناسنة فان تزوجت به وصاروا يدا واحدة أخذوا معاقلنا وملكوا حصوننا ولا يكون لنا معهم مقام وقد رأيت أنني في هذه الليلة أقبض عليها ثم إنه أخبرهم بما حدثه به الخادم قالوا أيها الملك إذا أخذتها فأي أرض تؤويك وأي حصن يحميك قال نقصد إلى عسكر العرب ونأخذ لنا منهم أمانا قالوا إذا كنت عولت على ذلك فاعزم قال فخذوا على أنفسكم وتأهبوا للرحيل ففعلوا
قال الواقدي فلما جن الليل تزيا يرغون ابن عمها بزي الغلام سوسي وسار إلى سرادق الجارية فلما رأته ظنت أنه سوسي فوثبت اليه
132

قائمة وسلمت عليه وصقعت له وكانت قد أبعدت الحرس عنها والغلمان والحجاب حتى لا يطلع أحد على سرها قال ثم إنها تحققت أنه ابن عمها فاستحيت منه ووجلت فلم يمكنها الا أن تخدمه بأعظم خدمة فقال لها يا طاريون أظننت أني لا أقف على سرك ولا أبحث عن أمرك يا ويحك أي مناسبة بين الروم والأرمن حتى انك ملت إلى ابن ملك السناسنة وتركت مثلي ثم إنه مال عليها بشدته وقبض عليها وألقمها أكرة وكتفها وخرج بها إلى عسكره فوجد أصحابه قد لبسوا وركبوا ورموا المضارب وشالوا ثقلهم فلما وصل إليهم حملها على بغل وساروا ونظر أصحاب سوسي إلى رحيل يرغون فقال لهم أمهلوا أنتم بالرحيل إلى أن يطلع الفجر فان هذا طريق ضيق تزدحم فيه الخيل والبغال قال ففعلوا ذلك وجد يرغون في السير فما أصبح الا وهو على مرج السور فنزل هناك وأما الغلام سوسي فإنه لم يمض إلى الجارية ولا سأل عنها ولا سار إليها لأنه خاف أن يكون ذلك منها مكرا به فتقبض عليه فلما أصبح أمر غلمانه بالرحيل وركب وأتى إلى سرادق الجارية طاريون فوجد قومها ينتظرون خروجها من سرادقها فدخل عليها خادمها وخرج وقال لهم ان الملكة ما كان من أمرها ولا سبب لغيبتها قال فماج أصحابه وأرادوا الرجوع فقال لهم صاحبها ان عدنا إلى الملك فلا نأمن أن يرمي رقابنا ويقول كيف غفلتم حتى أخذت ابنتي من بينكم وما عندكم خبر وما أخذ الملكة الا يرغون ابن عمها لان في قلبه شيئا ثم إنهم ركبوا وجدوا في طلبه قال وان يرغون لما نزل في مرج السور واستراح وهم بالمسير إذا بالقوم قد أشرفوا عليه وهم يزعقون يا ويلك اترك الملكة من يدك قبل حلول منيتك فاستقبلهم هو ومن معه من بني عمه وأقاربه فعندها قال لبني عمه اعلموا أن العرب ما نصروا على أعدائهم الا بالصدق في دينهم وقتالهم عن دين الله واعلموا أن هؤلاء القوم الذين طلبناهم لا يبخلون لا سيما إذا علموا اننا قصدناهم وأردناهم من غير قهر لكن من طريق العقل أن دينهم أفضل من ديننا لأنهم يشيرون إلى الله بالوحدانية ونحن نسجد للصلبان والصور ونقول أن للخالق زوجة وولدا وهو واحد أحد فرد صمد وقد بلغني أنهم يقولون إنه من قتل منهم صار إلى الجنة ومن قتل منا صار إلى النار لأننا عندهم من الكفار فان كنتم تريدون النصر على أعدائكم فأقروا الله بالوحدانية وقولو لا إله إلا الله محمد رسول الله قال فأعلنوا بكلمة التوحيد فدوت من أصواتهم بالجبال والتلال والرمال والشجر والحجر فلما سمع أعداء الله ما نطقوا به علموا أنهم دخلوا في دين الاسلام فتقدم سوسي وقد داروا بيرغون وأصحابه وقالوا له يا ويلك يارغون أما
133

كفاك أن تكون غادرا حتى تكون بدين النصرانية كافرا أتظن أنك برجوعك إلى دينهم ينصرونك علينا وأين العرب وما يصل صائحك إليهم الا ونحن فرغنا منك وقتلناكم أشر قتلة عن آخركم فقولوا لمحمد ينصركم ثم إنهم حملوا على يرغون ومن معه فاستقبلوهم بنية صادقة وهمم متوافقة وأعلنوا بكلمة الحق والصلاة على سيد الخلق وبذلوا صوارمهم في العدا واوردوهم شراب الردى وقصدوا نحو أعدائهم وطلبوا بجهادهم منازل الجنة وطلقوا الدنيا ثلاثا وكانوا يمشون في ظلمات ثلاث فانقدحت نار شوقهم بزناد صدقهم فأحرق زرع الكفر فأصبح هشيما تذروه الرياح فلما أضاءت لهم الأفكار ولاحت لهم لوائح الأنوار لم يجدوا من يشار اليه بالوحدانية ويوصف بالإلهية وينعت بالأزلية الا الواحد القهار فركضوا في ميدان الاعتذار ونادوا بلسان الإقرار آمنا بالله الواحد القهار فلما سرحوا خواطر الافتكار في أسرار الاعتبار قالوا كيف عبدنا سواه وما ثم لنا معبود الا إياه فواخجلتنا إذا وقفنا بين يديه يوم العرض عليه فبأي عمل نلقاه وبأي بضاعة نقصد رضاه فأشار إليهم منادي الايمان من القرآن وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم فلما رحلوا في عسكر الطاعة وخافوا من هول يوم الساعة وجعلوا رواحل رجائهم في ركب اقبالهم وساروا في موكب عزهم وجلالهم أشرقت شموس اسلامهم في فلك استسلامهم وانقضت بازات أفراحهم من جو أتراحهم ومنادي جهادهم يناديهم يا أخيار * (سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار) *
قال الواقدي ودارت بهم الأوغاد وشرعوا نحوهم الصعاد وأشرف يرغون وأصحابه على الهلاك وإذ باب السور قد فتح وخرج منه مائة فارس كالليوث العوابس وقد رفعوا أصواتهم بالتهليل والتكبير ونادوا يا من تعلقوا بكلمة التوحيد أبشروا بالنصر والتأييد ها نحن قد لبينا دعوتكم وخرجنا لنصرتكم وسوف نخلصكم من الأمر المهول فنحن أصحاب الرسول
قال الواقدي وكان هذا السور حصنا من الحصون وكان قد سلمه ميتا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قد أرسل عياض بن غنم عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق في مائة فارس ليأتوه بالميرة وكان فيهم المقداد بن الأسود وضرار بن الأزور وسعد بن غنيم الأسدي ومعمر بن ماجد السلمي وباري بن مرة الغنوي وهلال بن عامر الأنصاري وعيينة بن رافع الجهني وخضر بن يعشور الفزاري ومثل هؤلاء السادات رضي الله عنهم أجميعن فلما
134

وصلوا إلى السور تلقاهم طالوت صاحب الحصن وأنزلهم وأكرمهم وأمر لهم بالطعام وأقاموا عنده ثلاثة أيام حتى جاء يرغون وكان من أمره ما كان فلما سمعوهم يكبرون قالوا هؤلاء قد دخلوا في ديننا وقد وجب علينا نصرتهم فخرجوا كما ذكرنا وحملوا على أعداء الله ونصروا يرغون ومن معه وانهزموا في الليل إلى مرج رغبان إلى الملك شهرياض فأخبروه بما جرى عليهم قال فأيقن بذهاب ملكه قال فلما أصبح يرغون أتى إلى الصحابة وشكر الله إذ نجاه ومن معه على أيديهم وقد ازدادوا ايمانا وحدث الصحابة بما كان من أمرهم وسار معهم إلى عياض بن غنم فلما جازوا على ماردين نزل إليهم ميتا وكان قد بلغه ما جرى فسلم عليهم وهناهم بالسلامة وقال ليرغون وأصحابه ان كنتم تريدون الثواب الجزيل من الملك الجليل فتمموا اسلامكم بما ألقيه عليكم فقال يرغون وكيف العلم قال ميتا انزل ههنا أنت ومن معك فإذا غربت الشمس فسيروا على بركة الله وعونه واقصدوا كفرتوتا فإذا جئتم إليهم ليلا فقولوا لأهلها نحن قد وجهنا الملك إليكم لحفظ المدينة فإذا صرتم داخلها فثوروا على اسم الله وبركة نبيه قال ففعل ذلك يرغون وجلس إلى أن جن الليل وارتحل بجيشه وثقله وودعوا الصحابة وساروا بالميرة وسار يرغون إلى أن وصل إلى كفرتوتا وكان آخر الليل والفجر بدر فلما وصل إليها أمر أصحابه أن يرفعوا أصواتهم بذكر شعارهم حتى لا ينكر عليهم القوم وجاءت الأثقال والبغال وسمع أهل كفرتوتا ضجة العسكر فأشرفوا عليهم من أعلى السور وسألوهم من أنتم قالوا نحن من عسكر الملك شهرياض وقد بعثنا لنكون عونا لكم
قال الواقدي وأعجب ما في هذه القصة أن الملك شهرياض قد بعث إليهم يعرفهم أني مرسل إليكم جيشا مع الحاجب فإذا وصلوا إليكم فافتحوا لهم الباب فان العرب في آثارهم قال فلما وصل إليهم يرغون ومن معه وقالوا لهم نحن من عسكر الملك فتحوا لهم ودخلوا ولم يتكلم حتى أنه نزل في دار الامارة فلما استقر به الجلوس وثق من الأبواب وصعد إلى السور وقال لأهل البلد استريحوا لان الملك قد وصاني بالحرس على البلد فقالوا أيها السيد ان كتاب الملك قد جاءنا بغير ما قلته بأن لا يتولى حفظ البلد الا الحاجب قال فلما سمع يرغون قولهم علم أن الملك يريد أن يرسل لهم جيشا فقال لهم انصرفوا إلى منازلكم وإياكم أن يظهر منكم أحد في الليل فاني ان وقعت بأحد منكم قتلته قال فانصرفوا ولم يبق عنده سوى الوالي الذي كان من قبل توتا هو وغلمانه فقبض عليهم يرغون وضرب رقابهم وتركهم في بعض الأبراج المهجورة وقال لأصحابه كونوا على حذر فان شهرياض يريد أن يرسل
135

جيشا إلى هذه المدينة فإذا رأيتموهم قد وصلوا فانزلوا وافتحوا لهم درقة الباب الواحدة وكلما دخل فارس فأبعدوا به عن الباب وأنزلوه عن فرسه وخذوا عدته وكتفوه وألقوه في البرج قال فبينما هو يوصيهم إذ وصل الجيش وهم ألف فارس والمقدم عليهم صاحب الملك الكبير فصالحوا عليهم افتحوا لجيش الملك فتبادرت أصحاب يرغون ففتحوا درقة الباب الواحدة وقالوا لا نمكن أحدا يدخل الا واحدا واحدا مخافة من يوقنا وأصحابه فانا نخاف أن يدخلوا في جملتكم فبقي كلما دخل فارس رجلوه بعد أن يبعدوا به عن الباب ويأخذوا سلاحه وجواده ويكتفوه إلى أن أدخلوا الألف والحاجب بعدهم فلما اجتمعوا نادوا بأعلى أصواتهم الله أكبر الله أكبر فتح الله ونصر وجاءنا بالظفر قال فارتج كفرتوتا ووقع الرعب في قلوب أهلها وعلموا أنهم ملكوا بلدهم فلم يجسر أحد منهم أن يظهر في المدينة ومن ظهر قتل فلما أصبح طلب يرغون أكابر البلد ومشايخها وبطارقتها فلما حضروا قبض عليهم وأنفذ إلى عياض بن غنم يعلمه بما صنع فلما وصلت اليه الرسالة سجد لله شكرا وكان عبد الرحمن بن أبي بكر وأصحابه لما وصلوا بالميرة أخبروا المسلمين والأمير بما وقع وان يرغون مضى إلى كفرتوتا فكان منتظرا لما يأتي اليه من خبره فلما جاء الخبر بالفتح حمد الله تعالى وتفاءل بالنصر
قال الواقدي قال عياض بن غنم للصحابة اركبوا ودونكم والقوم ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم وأمر خالد بن الوليد أن يكون بأصحابه في الميمنة من القوم وأمر عمر ابن سالم أن يكون على يسار القوم وقال لهم لا تخرجوا حتى تشب نار الحرب وتشتعل بالطعن والضرب فاحملوا واعتمدوا على السيوف فإنها أقرب للحتوف وليكن شعاركم التهليل والتكبير واقطعوا أجل أمنيتكم من الحياة الفانية وارغبوا في العيشة الراضية وإياكم والميل إلى دار الغرور فإنها محل النوئب والثبور فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور وقفوا بهممكم وقوف قوم غذوا بحلاوة وصاله فصانوا أمرهم بالوقوف على طاعته فهاموا وتجردوا في الليل لخدمته وقاموا فأثنى عليهم إذ بحبه هاموا * (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) * قال فسار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو الجهات التي ذكرنا وزحف الموحدون ونشرت الرايات والبنود وتواعدوا على اللقاء في اليوم الموعود وقالوا الهنا ما لنا سواك من نصير فأنت نعم المولى ونعم النصير قال ووقع الصحائح في عسكر الروم أن المسلمين قد زحفوا وأشرفوا قال فتبادروا إلى القتال وتمسكوا بقول المحال ولبسوا وتدرعوا وعن الآخرة نزعوا والى الصليب تضرعوا ورفعوا رايات الطغيان وتلت عليهم الإنجيل القساوسة والرهبان
136

وفتحت لهم أبواب النيران عندما أشركوا بالرحمن وصار على جيشهم من الكفر شبه الدخان وصار أمامهم الشيطان وعلا منهم الضجيج ووقعوا في أمر مريج فلما نظر المسلمون إلى كثرة من اجتمع من قومهم استسلموا لحكم القضا وقالوا نرضى بما قدر وقضى فنودوا من سرائرهم قد اشترينا منكم النفوس فاصبروا لحكم الملك القدوس ولا تولوا الأدبار فقد سبق الحكم وانبرى وخط القلم في اللوح وجرى وكتب بأمر الله ان الله اشترى قالوا ما الذي اشتراه من له المنة قال أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة
فقالوا نحن نريد التسليم لنصل إلى جنان النعيم فقيل لهم انهضوا إلى سوق المبيع فقد هبت بشائر الربيع وتجلى لقبض أرواحكم البصير السميع فسبحوه وسجدوا ورفعوا أصواتهم بتوحيده ومجدوا فلما أيقنوا بالوصال طلع لهم سهيل الحال وأزهرت شجرة الأحوال واستدار لهم رقيبة في فلك التيسير وناداهم اني بما تعملون خبير فلما سمعوا منادي الافكار يناديهم بالعشي والابكار بذلوا نفوسهم وأرضوا قدوسهم وجاهدوا واجتهدوا وحملوا واقتصدوا ونهلوا من نهر الشهادة ووردوا ولم يزالوا في حرب الأعادي وموارد الاجتهاد في مغاني ميادين الجهاد حتى خرجت الكمناء وهبت عواصف رياح الفناء فدمر ما كان شيده الكفار من البناء وانتشرت أستار ما أملوه من الأماني والمني فقتلت بينهم الصناديد وأصبحوا صرعى على وجه الصعيد وناداهم منادي التهديد ان عذابي لشديد وما هي من الظالمين ببعيد ولم يزالوا في قتال الكفار إلى أن مضى
النهار واقبل الليل بالاستتار والمسلمون يقولون يا ليتنا دام لنا النهار ولا غلبتنا جيوش الاعتكار وإذ قد ظهر لهم على أطناب سرادق القتار ولا الليل سابق النهار قال فلما مضى الليل بغياهبه وأقبل الصباح بجانبه بادروا إلى الحرب والطعن والضرب ولم يمهل بعضهم بعضا دون أن وقعت الحملة على المسلمين فانهزم الجناح الأيمن وكان فيه أخلاط العرب قال وانهزمت ميسرة العدو ووقع فيهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يزل القتال فيهم إلى أن غلبهم الليل فانفصلوا فلما كان اليوم الثالث تولى الحرب خالد بن الوليد ورتب الناس ترتيبا جيدا وجعل في الميمنة باهلة وطبا وجعل في الميسرة عديا ونميرا وفزارة وفي الجناحين كندة وعاملة ومرة وفي القلب ابطال الأنصار من ذوي الشدة والانتصار وجعل راية الميمنة بيد عامر بن سراقة وراية الميسرة بيد ضرار بن الأزور وراية الجناح الأيمن بيد عبد الرحمن الأشتر وراية القلب بيد عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق فلما رتبهم قال لهم اتقو الله الذي اليه مصيركم واعلموا انه متكفل بتأييدكم ونصركم وإياكم ان تؤتي المسلمون من
137

قبلكم واتبعوا سنن الذين فتحوا الشام من قبلكم فمن ولى الادبار كان مأواه النار وغضب عليه الجبار واعلموا ان الله فرض عليكم الجهاد وقتل الأعداء واعلموا أن الأحب إلى الله تعالى جل جلاله قطرتان قطرة دم جرت في سبيل الله وقطرة دمع جرت من خشية الله وهذا اليوم له من الاجر ما لا يعد فاتقوا الله عباد الله واثبتوا في هذه المواطن كما ثبتم في المواطن الكبار وإياكم والفشل فتذهب ريحكم وقوموا شريعة نبيكم واعلموا أن الله مع الصابرين ولا يضيع أجر المحسنين وها أنا أنفرد بجماعة من اخوانكم إلى صليب القوم ولست براجع الا بحطم من حوله من الكفرة والمشركين قال جل ذكره وكان حقا علينا نصر المؤمنين فإذا رأيتم صليب القوم قد هوى إلى الأرض فاحملوا ولا تمهلوا قال فلما وعظهم خالد رتب كل صاحب راية في موضعه وانتخب من انتخب من أبطال المسلمين وقال للناس إذا رأيتم الصليب قد وقع فاحملوا والله ينصركم وحمل هو ومن معه وقصدوا لواء شهرياض وصليبه الأعظم فما ردهم عن حملتهم كثرة العساكر
قال الواقدي ولقد بلغني ممن أثق به انهم لما حملوا طحطحوا العساكر وزعزعوا الدساكر وأزالوا الابطال عن مراكزها والبطاركة عن مراتبها وما اعتمدوا الا على السيوف واستقبلوا بها الصفوف فلما رأى شهرياض فعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى التاج عن رأسه وزعق بالبطارقة والاراجية والقياصرة وقال يا معشر الروم من بني الأصفر اعلموا انه ما بين ذهاب دولتكم الا هذا اليوم فاما أن تقاتلوا عن دينكم وحريمكم وملككم وذراريكم وأولادكم والا أخذت منكم فإياكم أن تولوا الأدبار فمن تولى غضب عليه المسيح وأدخله النار
قال الراوي وبلغني أنه في ذلك اليوم وصل إليهم بتركهم الكبير المشار اليه في دينهم ومعه كل قس وشماس ورهبان بأرض الجزيرة جاء ليحرض الروم على القتال وكان هذا البترك اسمه دين الدويرم وكان يسكن بدير يقال له دير قرقوت وانهم وصلوا قبل ان يحمل المسلمون فوعظهم بين الصفوف وقال من انهزم منكم حرمته فلا يقبله المسيح أبدا ثم انفصل من القوم هو ومن معه وعلوا على رابية تشرف على القوم ورفعوا الصلبان وفتحوا الأناجيل وأشركوا بالملك الجليل
قال الواقدي حدثنا عبد الله بن مالك عن موسى بن أبي العام عن الأشعب عن يحيى قال وحدثنا بشر بن عامر وكان ممن حضر وقعة مرج رغبان وكانت الواقعة يوم الثلاثاء ثالث شهر صفر سنة سبع عشرة وكان شهرياض قد أرسل إلى رأس العين وسائر بلاده فأتوا بحريمه وحريم سائر الأجناد
138

والبطارقة وأولادهم وأقامهن يوم المصف على أبواب الخيام وقال لهن ما من امرأة الا ترفع ولدها وتصيح باسم بعلها وأخيها انما فعل ذلك ليثبتوا في القتال فأوقعوا الصياح من كل جانب وعملت القواضب وثبت الروم ثباتا عظيما لأجل حريمهم وأولادهم ولأجل البترك ووقف في مقابلتهم رجال من اليمن يرمونهم بالنبل وأما خالد بن الوليد فلما حمل بأصحابه وهو يريد صليب القوم سمع عياض بن غنم وهو يقول هذه الأبيات
* سنحمل في جمع اللئام الكواذب
* ونفري رؤوسا منهم بالقواضب
* ونهزم جيش الكفر منا بهمة
* تطول على أعلى الجبال الراسب
* وننصر دين الله في كل مشهد
* بفتيان صدق من كرام الأعارب
* فيا معشر الأصحاب جدوا وجندلوا
* وكروا على خيل كرام المناصب
* فدونكم قصد الصليب وبادروا
* لنرضى اله الخلق معطى المواهب
*
قال ثم قصدوا الصليب وكان اللعين شهرياض لما صف الصفوف أقام حول الصليب الأعظم اثني عشر ألف فارس كلهم لبس الزرد وترك امامهم حسكا من حديد حتى لا يصل إليهم أحد فلما حمل خالد وأصحابه وقربوا من الصليب داست خيولهم على ذلك الحدسك فانكبت على وجوهها فوقعوا عن ظهورها فانكبت عليهم الروم بغيظهم وحنقهم فأخذوهم بالأكف لأنهم وقعوا عن ظهور خيولهم من الحسك فأخذوهم عن آخرهم وارتفعت العطاعط من كل جانب وعملت المرهفات القواضب فلما نظر الأمير عياض بن غنم ما نزل بخالد ومن معه صعب عليه واشتد لديه وقال في نفسه يا ابن غنم ما يكون عذرك بين يدي الله وقد مضت هذه السادة تحت رأيتك فصاح بأعلى صوته
يا معاشر المسلمين احملوا ولا تمهلوا ايقظوا هممكم وعجلوا واستخلصوا السادة من الأسر واطلبوا من الله النصر
قال فلما صاح عياض أوقفوا خالدا ومن معه أمام الصفوف فتأسف ابن وضاح بن مجيد بن نافور بن عمر بن سالم بن النابغة الذبياني وكان من أفصح الناس لسانا وأجرئهم جنانا وأحدهم لسانا وأعلمهم بيانا وكان حليفا لخالد بن الوليد رضي الله عنهم فبرز يومه بمرج رغبان وقال أيها الناس ان الصبر والثبات جندان فلا يغلبان وهذا يوم يا له من يوم وما ترون من نخواتكم ومروءتكم ودينكم أن تدعوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في يد العدا فاستنقذوهم من الردى واتقوا الله الذي اليه مصيركم واعلموا ان ترك الأشياء النفيسة لا يليق الا بالنفس الخسيسة أما تحققتم ان الدنيا تئول إلى الزوال والفناء والآخرة هي دار النعيم والبقاء أما علمتم ان الهمم العلية الروحانية والأشباح الجسمانية عولت على الانتقال من الدنيا الساحرة إلى
139

دار الآخرة وقالت لا بد من الرحيل لأن البقاء في الدنيا قليل فتزودوا معاشر الأرواح فقد قرب الرواح والقصد منكم قد عرفناه ومرادكم قد فهمناه وان سفركم سفر شاق يحتاج إلى زاد ورفاق قالوا فما الزاد الذي نكثر منه ولا نعدل عنه قيل لهم الزاد الأقوى في وتزودوا فان خير الزاد التقوى قالوا أما هذا الزاد فمنا من يقدر عليه وما منا من لم يقدر عليه قيل إياكم والتعرض لهذا السفر بغير أعمال واعملوا ليوم لا بيع فيه ولا خلال فلما تزودوا أخلصوا ومن جيفة الدنيا تخلصوا خلع عليهم خلع الانعام وتوجهم بتاج العز والاكرام وجعل لهم الفردوس منزلا وقال في حقهم كانت لهم جنات الفردوس نزلا واسمعوا ما قال فيهم الملك المقتدر فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر قال فعندها حملوا بأسرار صافية وهمم وافية وطعنوا في صدرو الرجال ورفرفت على رؤوسهم طيور الآجال ووضعوا السيف في الروم وجعلوه عليهم يوما مشئوما قال ولم يزل القتال بينهم بقية يومهم إلى الليل وانفصلوا عن القتال ورجع المسلمون وهم متأسفون على أسر خالد ومن معه فإنهم لما وقعوا في الأسر وانفصل الناس من القتال وجن الليل ارسلهم الملك شهرياض إلى رأس العين مع حاجبه نقيطا بن عبدوس ومعه ألف فارس وأمره أن يسير بهم في الليل ويجد بهم في السير وأن يسلمهم إلى والي راس العين قال فسار بهم ولم يطلع الفجر الا وقد وصل بهم إلى رأس العين وأرسل من يعلم الوالي بالقصة فخرج في موكبه للقائهم ووضع الصايح في رأس العين بقدومهم فما تخلف أحد وكان لهم يوم مشهود فألقاهم الوالي في الكنيسة العظمى التي هي جامع اليوم وأوثقوهم في الحديد
قال حدثنا فاهم اليشكري عن بشار بن عدي عن سراقة بن زهير عن خزيمة بن عازم عن جده عبد الله بن عامر قال إنه لما فتح الرها وحران وسروج صلحا اجتمع يوقنا برودس ومعه أصحابه فقال اعلموا أن الله سبحانه وتعالى قد فتح علينا هذه البلاد وان رأس العين مدينة عظيمة وأهلها قد استعدوا للقتال وآلة الحصار وربما صعب أمرها وعسر فتحها على المسلمين واني معول أن أهب نفسي لله وأسير مع أصحابي فلعلي أن أحصل في داخل المدينة ولعل الله أن يفتحها على يدي فقال له سعيد بن زيد قوى الله وسدد أمرك قال وعول على المسير في تلك الليلة وإذا بعيون المسلمين قد أقبلت إلى حران يخبرون أنه قد أتى عاصم بن رواحة المتنصر في خمسمائة فارس من قومه من اياد الشمطاء
وكان قد وصل مع قومه إلى قسطنطينية وقد ورد على الملك هرقل كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأن يبعدهم عن دياره فأبعدهم عن أرضه فتفرقوا
140

في كل موضع وأتى منهم عاصم بن رواحة إلى هذا الملك شهرياض في خمسمائة فارس وكان الملك يحبه ولما وصل إلى البرية كتب إلى الملك يعرفه انه خرج من بلاد القسطنطينية وأتى قاصدا إلى بلاده وخدمته وبعث الكتاب مع رجل من بني عمه اسمه رفاعة بن ماجد فوصل إلى الملك وأعطاه الكتاب ففرح الملك بقدومه وأمره أن يعجل في الحضور وأرسل إلى والي رأس العين بأن يخلي له دارا ينزل فيها إذا قدم مع أصحابه فلما سمع يوقنا ذلك الخبر من عيونه فرح وقال من أي طريق يأتون قال من طريق سروج وبقي بينكم وبينه ليلة واحدة فخرج يوقنا ومن معه وصحبهم عمرو بن معد يكرب وسعيد بن زيد ومن معهم وكمنوا لهم في موضع قد علموا أنهم لا بد لهم من العبور فيه فلما ضرب الليل سرادقات ظلامه ونصب على الخافقين أعلامه إذ أقبلت خيول القوم وسمعوا حسهم فصبروا حتى توسطوهم من كل جانب وقصد كل واحد واحدا فأخذوهم عن بكرة أبيهم ولم ينفلت منهم أحد واحتووا على أثقالهم ورحالهم ورجعوا إلى مكمنهم ونزلوا عن خيولهم
فقال لهم سعيد بن زيد من أميركم حتى أخاطبه فأشاروا إلى عاصم بن رواحة فقال له سعيد بن زيد يا بن رواحة أي مناسبة بينكم وبين الروم حتى لذت بهم وملت إلى جانبهم وتركت العرب العرباء فأنت منا والينا وحسبك حسبنا ونسبك نسبنا لان أنمارا وايادا وبيعة ومضر كلها ترجع إلى نزار بن معد بن عدنان وان الله تعالى قد أختارهم لسكنى حرمه وجوار بيته وقد كنا نعبد الأصنام ونستقسم بالأزلام ونتبع طرق الحرام حتى بعث الله نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه * (وأنذر عشيرتك الأقربين) * وأمره بالمقام في دار الخيزران ثم دعاهم إلى عبادة الملك الديان وقال لهم أنتم من ولد إسماعيل بن إبراهيم الخليل وقد فضلكم بارىء النسم بسكناكم البلد الحرام والبيت المعظم وزمزم والمقام فمالي أراكم على الأصنام عاكفين والأزلام حالفين وفي ثياب الكفر رافلين أما لكم عقول تردكم أما لكم بصائر تصدكم أما أنتم من ذوي الأحلام الراجحة أما أنتم من ذوي الآراء الشامخة ألهذا خلقتم أم به أمرتم نحتم الأصنام من الأحجار وسلكتم طريق الفجار وكفرتم بالواحد الجبار الذي سير البحار وأجرى الفلك الدوار وخلق الليل والنهار أما تشكرون الصانع الذي جعل النجوم طوالع وكل اليه راجع قالوا يا محمد من أمرك أن تسب آلهتنا وتسفه أحلامنا قال يا قوم العلم أمرني والعقل بصرني أما علمتم أنه من نظر في المصنوعات وتدبر علم أن لها صانعا لا يتغير فالنظر في المخلوقات حكمة والتنكر في صنعه والاقرار بوحدانيته نعمة والايمان به رحمة
141

قالوا فمن تعبد قال أعبد الذي فطرني وصورني وشرح خاطري ونور بصائري وخلق المخلوقات وقدر وصنع المصنوعات وأنزل الأرزاق بقضاء وقدر ليس في مشيئته كيف ولا في أقضيته حيف يقول ولا يتلفظ ويريد ولا يظهر ويسمع ويبصر تعالى عن المكان والأين والشبيه والبين وقال لا تتخذوا الهين اثنين أما علمت يا ابن رواحة أن ديننا هو الحق وقولنا هو الصدق وما بعث الله نبيا الا وأمر أمته باتباع دين الاسلام قال الله تعالى في القرآن * (ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما
وما كان من المشركين) * وقال تعالى اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا وقال وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وأنت تعلم الآن أنكم في قبضتنا وأسرنا فان آمنتم بالله وصدقتم برسالة نبيه صلى الله عليه وسلم كان لكم ما لنا وعليكم ما علينا وان أبيتم ضربنا أعناقكم قال فلما سمع عاصم بن رواحة ذلك من كلام سعيد ابن زيد قال وان نحن رجعنا إلى قولكم واتبعنا دينكم يغفر لنا ربنا ما سلف من الاشراك في ربوبيته والسجود لغيره قال سعيد نعم لان الاسلام يهدم ما كان قبله وجميع ما كنتم فيه لا يطالبكم الله به وتخرجون من الذنوب كما خرجتم من بطون أمهاتكم إلى الدنيا ثم تلاقوله تعالى قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ان الله يغفر الذنوب جميعا انه هو الغفور الرحيم فلما سمع عاصم كلام سعيد قال أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله فلما نظر أصحاب عاصم اليه وقد أسلم أسملوا عن آخرهم ففرح المسلمون بذلك وقالوا قد وجب علينا أن نطيب قلوب هؤلاء القوم ثم ساروا إلى حران وأنزلوهم وخلعوا عليهم فقال يوقنا الآن فتحنا رأس العين ورب الكعبة فقال سعيد فكيف ذلك يا عبد الله قال سوف أريك بيان ذلك ثم إنه قال لعاصم بن رواحة في السر بينه وبينه أريد منك أن تشدني كتافا أنا وأربعين من أصحابي وتجعلنا على ظهور الجمال التي تحمل أثقالكم وتركب مع هؤلاء السادة يعني الأربعين الذين هم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسيروا من ليلتكم هذه إلى راس العين وتقولوا لواليها لما عبرنا الفرات خرج هؤلاء علينا فنصرنا المسيح عليهم فقتلنا من قتلنا واسرنا هؤلاء وأتينا بهم إليكم وإياك أن تمكنه أن يقتل واحدا منا وإذا أراد ذلك تقول له ان المصف بين يدي الملك وبين العرب ولا ندري من يؤخذ من أصحابنا فيكون عندنا الفداء وتترك أصحابك بحران قال عاصم ولم لا نسير بأجمعنا وباصحابي كلهم فقال يوقنا ان الاسلام لم يتمكن بعد من قلوب القوم ونخاف أن أحدا منهم يغمز علينا فيفسد حالنا
142

والثقة بكل أحد عجز فقال والله لقد صدقت في قولك فنزل ببني عمه الخمسمائة في حران وانما قال يوقنا ذلك ودبره ليكونوا على سبيل الرهائن قال فكتفوا يوقنا والأربعين من بني عمه وتزيا الصحابة بزي اياد الشمطاء وخرجوا من حران في الليل وطلبوا راس العين فلما وصلوا إلى مكان يعرف بعلوا إذا بقرع حوافر الخيل فأخفوا أمرهم حتى وصلوا إليهم وإذا هم بأربعمائة عبد أسود وخمسين وهم يقرءون القرآن وبعضهم يسبح فاستقبلهم سعيد بن زيد ومن معه وكبرونا مثل تكبيرهم وقربوا منهم فإذا هم موالي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمقدم عليهم دامس أبو الهول رحمة الله تعالى وكان السبب في قدومهم أنه لما بعث عياض بن غنم كتابا إلى أبي عبيدة يستنجده على القوم ويعلمه بمن قد اجتمع من الكفار بمرج رغبان فلما قرأ الكتاب أرسل دامسا ومن معه لنصرة الاسلام وكانوا بسميساط وبلادها ومنذ فتحوها استمروا بها حتى جاءهم كتاب أبي عبيدة فترك دامس على سميساط وبلادها من يثق به وجاء في العدة التي ذكرناها فلما لقيهم سعيد بن زيد سلم بعضهم على بعض وفرحوا باجتماع الشمل ونظر دامس إلى الجمال وعليها يوقنا وأصحابه فقال أظفرتم بهؤلاء في طريقكم فقال هذا يوقنا عبد الله وأصحابه قد باعوا نفوسهم لله
قال فلما سمع أبو الهول كلام سعيد سجد لله على قربوس فرسه وأتى إلى عبد الله يوقنا وسلم عليه فقال له مرحبا بقوم طلقوا الدنيا بتاتا وزهدا وطلبوا مرضاة الله 8 ثم إنه قال لسعيد بن زيد يا صاحب رسول الله أشركونا معكم في هذه الحيلة قال نعم ولكن اسحبوا هذه الجمال وأخفوا الدروع والعدد واحتزموا فوقها وسوقوا الجمال أمامكم كأنكم عبيدنا فإنه لا ينكر عليكم من رآكم قال ففعلوا كما أمرهم سعيد وأخفوا سلاحهم في وسط الجمال وأقبلوا على سوقها فلما وصلوا إلى الزليخة نزلوا هناك ولبسوا وتدرعوا ونشرت الأعلام والصلبان التي كانت مع اياد الشمطاء وداروا بيوقنا وأصحابه وجعلوهم بينهم وساروا حتى قربوا من رأس العين فبعث سعيد رجلا من حلفائهم إلى والي رأس العين يبشره بقدوم عاصم بن رواحة واياد الشمطاء فلما وصل اليه الرسول خرج بالمواكب إلى لقائهم وقد اعلمه الرسول بقدوم يوقنا أسيرا ومعه أربعون من أصحابه فصاح الصائح بذلك فما بقي أحد الا وخرج أمام الوالي والتقوا بالصحابة وهم بزي أصحاب اياد الشمطاء وقد داروا بعاصم بن رواحة وكان الوالي يحبه ويعرفه فترجل اليه وترجل عاصم وتعانقوا وأقبلت المواكب يسلم بعضها على بعض فقال الوالي كيف أخذت هؤلاء وهذا المارق يعني يوقنا فقال
143

له انا لما وصلنا إلى الفرات وعدينا خرج علينا برجاله فقاتلناه وقاتلنا فنصرنا المسيح عليهم بعد ما قتلنا منهم خمسين رجلا وأخذنا هؤلاء وانهزم الباقي قال ففرح الوالي وأقبل على يوقنا يوبخه بكلام وهو لا يرد عليه والروم تشتمه وتسبه وهو لا ينظر إليهم ولا يكلمهم إلى أن دخلوا رأس العين وأمرهم أن يجعلوهم عند الأسارى في بيعة نسطوريا وقال لهم احتفظوا بهم حتى نكاتب الملك ويرى فيهم رأيه قال فجعلوهم عند خالد وأصحابه ثم إن عاصما قال للوالي أنت تعلم ما بيننا وبين هؤلاء القوم من العداوة وان كانوا عربا مثلنا ونخاف أنك تجعل على حفظهم أحدا من الروم أو من الأرمن وأن يتحدثوا معهم باطلاقهم وتدخل المضرة على الملك وعليكم والصواب أن نجعل بعضنا في البيعة وبعضنا خارجا فإنه من أتى إلى الجهاد لا يركن إلى الراحة فإنه من تعب في الدنيا قليلا استراح في الآخرة طويلا قال فاستصوب الوالي رايه وأنزله في البيعة هو وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأضاف يوقنا إلى خالد
قال الواقدي فحصل ستمائة فارس من المسلمين قال الراوي فلما استقروا في البيعة وجن الليل قام سعيد بن زيد إلى خالد وسلم عليه وبشره بالفرج فقال يا ابن زيد لقد علمت بذلك منذ قيل إن يوقنا قد أتى به ومعه أربعون فنظرت بنور الايمان فعلمت صحة ذلك قال وان الوالي بعث إلى الملك يبشره بأخذ يوقنا ومعه أربعون من أصحابه وقدوم عاصم بن رواحة ومعه خمسمائة من أصحابه فلما بلغه الخبر أمر بالبوقات فضربت فسمعت المسلمون بذلك فقالوا ما ضربت البوقات الا لأمر مهم إذ اقبل عباد بن بشير وهو متنكر وأتى إلى عياض بن غنم فلما رآه قام اليه وسلم عليه وقال يا ابن بشير بم تبشرني أقر الله عينيك فلم يرد عليه شيئا حتى خلا به وحدثه بجميع ما جرى فلما سمع عياض بشارة عباد ابن بشير سجد شكرا لله فقال عباد أيها الأمير ان سعيد بن زيد ومن معه يسلمون عليك وعلى من معك ويقول لك أنجر المصف فلعل أن يفتح على يديك فما بينك وبين فتح راس العين الا أن تهزم القوم وقد فتحت فقال عياض توكلنا على الله
فلما جن الليل جمع أصحاب الرايات وحدثهم وقال لهم لا تعلموا أحد مخافة من جواسيس الروم ولا يصبح الصباح الا وأنتم على أهبة الحرب قال فما أصبح الصباح الا
والمسلمون قد أخذوا أهبة الحرب فلما طلعت الشمس وانبسطت على الأرض علت على الخيل ركابها وحملت بأصحابها وشبت من
144

الحرب نارها وطار شرارها وقطعت الجماجم واستعرت الملاحم وصالت أسودها وتعفرت خدودها وصبرت على شدة حالها وحانت منها أحوالها وتدانت آجالها فهم في الحرب متوافرون وفي العدد والعديد متقاربون وفي الزحف إلى الفزع مختلفون والعجاج ثائر والدم فائر والاسلاب مطروحة للضياع ولحوم القتلى رزق للطير والسباع ولقوة العمائم تشتكي منها الاسماع والشمس تضجر منها الجسوم والنفوس والحرب قد أخذت أمرا يقطع الآجال وقد شمرت عن ساق وسروال والوطيس قد حميت جوانبها واستحيت عين مجانبها والصفوف تدانت إلى الهياج وقد غيبهم غيم العجاج وكل مقدم قد شذ منه جيشه وتكدر بعد الصفو عيشه والخيل تكر كرات وتجتمع مرات والسيوف تقطع البيض والنفوس تكاد تميز من الغيظ والغبار قد سحب ذيلا زنجيا وانسبل وأسبل على الوهاد رداء سجيا والطيور قد حامت وكأن القيامة قد قامت واستقبل المسلمون هذا الحرب الخطير والضرام المستطير فحل بالروم العقاب وسمحوا بنفوسهم ولقواء اليم العذاب ونال المسلمون ما رغبوا فيه من حسن المآب
قال الواقدي والتقى عبد الله بن عياض بن وائل وعبد الله بن قرط بالملك شهرياض وقد عول على الهرب وكل من في جيشه قد اشتغل بنفسه عن نصرته وليس عنده سوى عشرة من غلمانه فاطبق عليه عبد الله بن قرط وعبد الله بن عياض قال الواقدي ولم أدر أيهما كان أسبق بالطعنة فطعنه في صدره فأخرج السنان من ظهره فلما نظر غلمانه إلى ملكهم مجندلا ولوا على ادبارهم ونزل عبد الله فاحتز رأسه وجعله على رمحه وركب وصاح ألا وان الملك قد قتلته فمن كان منكم يثبت للحرب فليثبت وصالت المسلمون على أعداء الله ووضعوا فيهم السيوف فقتل من قتل وانهزم الباقون بعدما أسروا منهم من أسروه وقد تركوا الأثقال على حالها والأموال والسرادقات فاحتوى عليها المسلمون
قال جديد بن ناشب الضيمري كنت مولعا إذ سكنت الحرب بعدد من قتل من الروم فأخذت مخلاة على عاتقي وملأت حجري حصى فكنت لا أمر بمقتول الا وطرحت عليه حصاة ثم عددت الحصى فإذا هي ثمانون ألفا وسبعمائة وخمسون وأما الاسرى فلا يحصيهم عدد فلما وضعت الحرب أوزارها أمر عياض بالاثقال والاسرى إلى كفر توتا وبعثها مع الصلت بن مازن ومعه الف فارس وأمره أن لا يبرح منها حتى تفتح رأس العين قال ثم ارتحل عياض في أثر الوقعة إلى رأس عين وردة وبات ليلته يتلو القرآن وقال ووصل المنهزمون إلى رأس العين وهم بأسوأ حال ووقع الصائح بجوانب
145

المدينة بهزيمة الجيش وقتل الملك شهرياض فعظم عليهم وكبر لديهم واستوثق الوالي مرسيوس من المدينة والأسوار وعول على أنه في غداة غد يضرب رقاب المأسورين وكان من عادة الروم إذا قتل منهم ملك يقتلون عليه مائة أسير من أعدائهم فلما كان الغد ركب عدو الله مرسيوس الوالي وسط المدينة وأمر أن يؤتى بالأسرى وهم خالد ومن معه ليضرب رقابهم فأرادوا أن يأتوا بهم وإذا بعياض قد صبحهم صباحا فاشغلهم عن ذلك ونزل على باب اسطاحون وهو الباب الشرقي وكان قد ضرب على الباب المذكور قبة من الديباج برسم عدو الله مرسيوس والى جانب القبة منجنيق عظيم يتعلق في حباله مائة رجل وكان صاحبه ابن عم الملك وكان اسمه مترقيس بن اشفكياص وكان أبوه هو الملك قبل شهرياض وهو صاحب الدنانير الاشفكياصية
قال وانما تقدم عياض بالمسلمين للقتال حتى يشغل أعداء الله عن خالد ومن معه بالمدينة فصاروا يرمون بمجانيقهم وسهامهم وكان قد وصل مع عياض غلام من أهل المدينة اسمه جميل بن سعد الداري وكان أرمى خلق الله بالنبل وكان قد وصلت له أم عجوز فلما كان ذلك قال يا أماه أريد أن أجاهد هذا اليوم في الله حق جهاده فلعلي أن ألحق باخواني وجدي الذين قتلوا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فودعها وسار فقالت يا بني سر والله ينصرك ويؤيدك قال ثم إنه تقدم ووقف وهو يتستر وكان قد شاع ذكره بين العرب وأنه كان ينظر إلى الطائر في الجو فيقول انني قد عولت أن أضرب هذا الطائر في موضع كذا فيضربه فيقع الطائر والضربة في المكان الذي ذكره فلما كان يوم قتال عين وردة تقدم وجعل يضرب البطارقة من أعلى السور فلا يقع سهمه الا في فؤاد أو في حدقة حتى قتل ثلاثين بطريقا منهم من وقع إلى المدينة ومنهم من وقع إلى الخندق قال وكشف برج الباب قال وكان عدو الله مترقيس المتقدم ذكره صاحب المنجنيق ارمى خلق الله فجعل يعبر ويرمي فقال الناس لجميل بن سعد أيها الغلام أبعد لئلا يصل إليك حجر المنجنيق فأنا نخاف عليك منه فقال يا قوم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في كتاب الله العزيزم * (أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة) * ولا بد أن أثبت لهم ثم إنه رمى رجلا من الذين يجرون الحبال فقتله وثانيا وثالثا فقتلهما قال فهربت البطارقة عن الحبال وقالوا لا طاقة لنا بالوقوف في هذا المكان من هذا الغلام فقال مرسيوس البسوا الدروع واستتروا ففعلوا وقعدوا في الحبال ورمى بحجر فوقع في رجل من بجيلة فقتله ولم يزل حتى قتل ستة رجال قال وان جميل بن
146

سعد يرمي فلا تخطىء نباله وهو يقول واشوقاه إلى الشهادة وأن أصل إلى دار العلم والشهادة فنودي من سره ان أردت ذلك فبادر إلى ذلك ولا تخف ولا تحاذر وأطلق عنان كليتك في ميدان طلبتك وإياك والتخلف عن بابنا فمن ارادنا أردناه ومن أحبنا أحببناه
فقال ها أنا أتقدم وجناني في الحقيقة لا يتألم قد بعت منك نفسي فاقبل شراها فعسى أن آتي الجنة وأراها فقيل له قد قبلناك فامرح وأطلق لسانك بشكرنا وافرح فمن باع نفسه منا لم يكن بمغبون واسمع ما سطرناه في الكتاب المكنون * (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون) * قال فبينما هو كذلك إذ عبر عليه عدو الله ورماه وكذلك جميل قصده بنبلة فوقعت في صدره ومرت من ظهره ونظر جميل إلى الحجر وقد قصده فعلم أنه ميت فالتفت إلى ابن عم له اسمه رافع بن خالد وقال له بلغ العجوز سلامي وأنشدها هذه الأبيات وجعل يقول
* ايا رافعا الا حملت رسالتي
* تخبر أني قد لقيت حمامي
* وأن جئت أمي رافعا وعشيرتي
* فخصهم مني بكل سلام
* وان سألت عني العجوز فقل لها
* قتيل حجار لا قتيل سهام
* طريحا بباب الحصن لما تطايرت
* من الحجر الصلد الأصم عظامي
* ولست أبالي أن قتلت لأنني
* أرجي بقتلي في الجنان مقامي
*
قال وعلم عياض بقصته فبكى رحمة لأمه وأمر به فدفن بعد ما صلى عليه وبلغ خبره إلى أمه فصبرت صبر الكرام وقالت يا بني عشت سعيدا ومت شهيدا وسلكت سبيل آبائك فرحمك الله وآنس غربتك ونفعني بك يوم القيامة ثم قرآت * (الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون) *
قال حدثنا معمر بن الجون النهائي وكان ممن حضر مع جده سراقة فتح رأس العين قال لما قتل بن سعد فرحت الروم وان عدو الله مرسيوس صاحب الامر بعد شهرياض لما رأى أن المسلمين معولون على حصاره مضى في الليل إلى بيعة نسطوريا وصلى بها وقرب القربان وكان من بغضه للمسلمين قد صور على باب البيعة صورة رجل من العرب وكتب عليه هذا نبي العرب فكل من دخل البيعة يبصق عليه وكان في داخل البيعة صورة القيامة والميزان والصراط والجنة والنار وصور عيسى وبيده الصليب أمه تحت لوائه على باب الجنة قال فلما صلى قال لعاصم بن رواحة لقد أردت الليلة أن أقرب عشرة من هؤلاء العرب الاسرى في بيت المذبح فقال له عاصم ليس هذا برأي أيها الملك حتى ترى ما يكون من أمر العرب وهذا بين يديك قال
147

سكت وخرج وان عاصما لم يترك في البيعة أحدا من الروم واستوثق من أبواب البيعة ودخلت الصحابة إلى بيت المذبح فوجدوا فيه سلاحا كثيرا مما كان يجتمع من النذور فأخذوه وعولوا على أنهم في صبيحة غد إذا اشتغل أهل المدينة بالقتال ليثورون في المدينة قال ولما دخل الليل قاموا يذكرون الله وينظرون إلى تلك الصور المصورة وصفة القيامة والصراط والجنة والنار فقال عاصم بن رواحة لسعيد بن زيد الهرب إلى دين رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في الايمان قال نعم ويقرب إلى مقام إبراهيم إذا كان يوم القيامة يوم الحسرة والندامة وعصفت رياح الطامة وحشرت الخلق والورى وبرزت الجحيم لمن يرى وصفت صفوف العالمين وحييت جوانب المتقين الموقنين ونشرت رايات الصادقين ورفعت أعلام المحققين ونصبت منابر الأنبياء والمرسلين وتصدرت مراتب الصديقين وفرحت أرواح الموحدين وضاقت أرواح الكافرين وزهقت نفوس المشركين وقيل بعدا للقوم الظالمين وذلت الملوك والجبابرة وطأطأت رؤوس الأكاسرة والقياصرة واستبشرت الأبرار ويئست الفجار وناد مناد الملك الجبار لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ألم نحذركم دار البوار ألم يأتكم الانذار ألم تسمعوا ما أنزل على السيد المختار قل تمتعوا فان مصيركم إلى النار هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين هذا يوم العرض هذا يوم الجزاء هذا يوم الراجفة هذا يوم الازفة هذا يوم الفصل هذا يوم العدل فإذا غص الموقف بأهله وقدم كل ذي جهل بجهله وعضت الأنامل اسفا وطارت القلوب لهفا ونادى المنادي يا معاشر المجرمين امتازوا فان المتقين قد فازوا أما سمعتم في الكتاب المكنون وامتازوا اليوم أيها المجرمون
فبينما هم قد كظمهم العطش ولحقهم الدهش وعظم الارق واشتد القلق وسال العرق ونادى المنادي وهم يسمعون قفوهم انهم مسؤولون قفوهم حتى يروا هيبتي ومملكتي قفوهم حتى يشاهدوا سلطاني وعظمتي قفوهم حتى يعرضوا علي قفوهم حتى أناقشهم الحساب أين من عصى وأجرم أين من طغى وظلم أنا الجبار الأعظم لا أرحم من لا يرحم أين أمة نوح اين من كان يغدو في البطالة ويروح اين أمة هود اين آل ثمود أين أمة التظليل أين أمة شعيب أين أهل الشرك والشك والريب أين أمة التوحيد أين أهل الصلاة والتمجيد أين أهل القرآن أين أمة راكب البراق أين أمة طاهر الاخلاق هلموا للعرض والحساب فقد تجلى رب الأرباب لا ظلم اليوم ان الله سريع الحساب والمصطفى صلى الله عليه وسلم في كبكبة حشمته وموكب زينته على رأسه تاج الرضا مكتوب عليه بقلم الامضا
148

* (ولسوف يعطيك ربك فترضى) * وبيده لواء الحمد وبين يديه جنائب السعد وعن يمينه الأنبياء وعن يساره الأولياء والملائكة وقوف بين يده وأهل الموقف ينظرون اليه وأمته يصلون عليه وقد تهللت وجوههم فرحا وقد أسبل عليه الاسلام سرباله وأوصل بهم حباله قد نادوا بهم بالتمجيد وازعجوا الموقف بالتوحيد وقد أضاء نور ايمانهم وعرضوا على ديانهم واستشهدهم على الأمم فشهدوا فقبلت شهادتهم وغيبت عنهم نجوم الافلاس وأمنوا من الهول والباس ونادى مناديهم كنتم خير أمة أخرجت للناس وأهل الموقف ينظرون إلى جمالهم ويتعجبون من هيبة جلالهم ويقولون لقد فاز من اتبع ملتهم وصدق شريعتهم قال مالك يوم الدين ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين فإذا ورد مقامه أطال فيه هناك قيامه وبسط كف ابتهاله وبالغ في طلبه وسؤاله ويقول أسألك قبول شفاعتي في العصاة من أمتي وإذا بالنداء وعزتي وجلالي لا أخلف لك وعدا ولا أنقض لك عهدا ولأرين أهل الموقف علو شانك ورفيع مكانك ولأعطينك حتى ترضى ولسوف يعطيك ربك فترضى قال فازداد عاصم ايمانا فلما كان وقت السحر وثبت الصحابة على اقدام الحزم والعزم وخرجوا على أهل المدينة فاستعانوا بالله وقالوا اللهم انصرنا كنصر نبيك يوم الأحزاب وقال خالد إياكم أن تفترقوا فتذهب ريحكم وأتقوا الله الذي اليه مصيركم واعلموا أن الأعداء يجتمعون عليكم والنساء يرجمنكم والشباب يقاتلونكم وإياكم أن تطمعوا أحدا في بحار الحرب بل اصبروا على مر الكرب والضرب وانما يتبين صبر الرجال عند ملاقاة الأهوال وما نحن ممن يفزع بهجوم الآجال لأنا قد تحققنا أن لكل منا أجلا لا يتعداه ومن خاطر بعظيم نال عظيما وهذه اسمها
عظيم والجمع فيها أعظم وهي قصور ديار بكر وربيعة وقد حصلنا في وسط مدينة القوم فان كنتم طالبين الظفر فاصبروا ولا تعجلوا فالصبر مقرون بالظفر والعجلة مقرونة بالزلل والصبر عاقبته النصر واعلموا أن هذه البيعة هي بيعتهم المعظمة ولا بد لهم من القدوم إلى الصلاة فإذا حصل واليهم ههنا ومقدم عساكرهم أطبقنا عليهم من كل جانب وقصمناهم بالقواضب فإنه إذا قتلت الملوك وعظماء البطارقة فما يجسر بعدهم أحد أن يرفع يده وأما العوام فلا اعتبار بهم فقال عاصم بن رواحة لله درك أيها الأمير ما أخبرك بالأمور والحرب ولقد تكلمت بالصواب وأحسنت في الخطاب فليقر كل واحد منكم في مكانه وأخفوا سلاحكم في أعيابكم فإذا اشتغل القوم في صلاتهم ثرنا عليهم ومددنا أيدينا إليهم فاستصوبوا رأيه قال وكانت
149

الصحابة في بيت كبير في البيعة كان برسم النذور وفيه شيء من الأمتعة لا يثمن لكثرته
قال الراوي حدثنا عبد الله بن يأنس عن جده فياض بن زيد وكان من جملة من ذكرناهم من الصحابة وحضر فتوح رأس العين قال هكذا كانت قصتنا وكنا قد دبرنا هذا التدبير ثم رجعنا عنه وكان من الامر المقدر أن ذلك اليوم الذي رجعنا فيه لم يقاتل فيه أحد من جند رأس العين وكان له سبب نذكره
قال الراوي كان من قضاء الله السابق في خلقه أنه كان للوالي أخ عاقل لبيب له رأي وتدبير وكان يعرف من الحكمة التي وصاه بها فهرايس أحد حكماء اليونانيين وقد عرف من علم الملاحم وكان صاحب سر شهرياض فما كان يفعل شيئا الا بمشورته وكان قد نهاه عن قتال العرب وقال له ما أرى لك في قتالهم خيرا والامر عليك لا لك فلما كان من الملك ما كان وقتل جيشه ورجع الامر إلى مرسيوس قال له أخوه الحكيم وكان اسمه اسالوس معناه حكيم زمانه اعلم يا أخي انه ليس ينبغي للعاقل اللبيب الفاضل الأديب أن يرمي نفسه في غير مراميها ولا ينقاد بزمام شهوة النفس فإنه من أطاع نفسه هوى في مهاوي الذل ونسب إلى الجهل فان الشهوة عرض واتباع الهوى مرض والاستمتاع بالملذات سبب الهلكات ولا خير في لذة تؤدى إلى الفناء وتورث صاحبها العناء الشهوة حين والأمل شين والاستمتاع بين والتمتع دين وحب الدنيا مين وما ندم عاقل ولا ساد جاهل ولا وفق عجول ولا أرى لملول ولا سعد خائن ولا صدق مائن ولا عظم بخيل ولا قدم ذليل ولا فحم نبيل ولا حقر جليل ولانال العبادة من زهد في الإفادة ولا أمن في الآخرة من سر بالدنيا الساحرة ولا سدد من ظلم ولا حرم من حلم ولا حزم من ندم ولا خاف من تاب ولا رد من أناب ولا هجر من لزم الباب ولا ذل من اتبع الصواب واعلم أن بالسياسة تدوم الرياسة وبالعدل تدوم الدول وبالجور هلك الأول وبقلة التدبير يحصل التبذير ومن بذل جهده كملت أوصافه ومن افشى السلام فضله الأنام واصلاح السريرة نعم السيرة وجمال الانسان فصاحة اللسان وزينة الرجال كرم الخلال وخير الأصحاب التقوى وشر الاخوان اتباع الهوى ولا خاب من قصد طوره ولا ارتفع من جهل قدره والتعلق بالآمال ضياع الاعمال ومعالي الاخلاق نعمت الرفاق وممارسة الحلال نجاة من الأهوال وحب العاجل يبيد الآجل وارتكاب العصيان علامة الخذلان وعلامة التوفيق تيسير الطريق والنظر في العواقب أمن من المعاطب ومن نظر إلى
150

الدنيا بعين الفنا أدرك في الآخرة ما تمنى واعلم يا أخي أنك قد أصبحت مقيدا بحب الدنيا سابحا في بحار أهوالها متعلقا بأذيال محال آمالها وقد تزينت لك برياشها ووقفت لك على قدم احتياشها وزوت عنك جل مصائبها ونصبت لك شبكة مصايدها ووضعت لك تاج شهواتها على مفرق رأس آفاتها حتى إذا أشرت إليها بالوصال منحتك لذيذ الاتصال وأحسنت لك صحبتها شهرا ورمتك بسهام الهجر دهرا وطالبتك بما كتبت عليك مهرا حتى إذا علمت أنك غريم الانغاص غير منقاد للقصاص ألقتك في بحر الآفات وحجبتك في سجن الغفلات وصغرت أمرك عند الناس ووكلت بك سحائب الوسواس فلا تبرح تذكر الانسان بما كان فيه حتى تخرج روحه من فيه واعلم أن من جملة ما ذكر لنا عن عيسى ابن مريم عليه السلام أنه رأى طائرا مليح الشكل حسن الريش كامل الزينة
فقال من أنت قال أنا الدنيا ظاهري مليح وباطني قبيح قال عيسى عجبت لغافل ليس بمغفول عنه ومؤمل اتمام شيء والموت يطلبه وانما ضربت لك هذه الأمثال لتتعظ بها وبما نزل بالملك شهرياض كان بالأمس على السماط واليوم نزل على الصراط بالأمس كان في سلطانه وملكه يباهي واليوم صار في الحفر واهي ما أفاده الغنى أذهبه الفنا وذهب الفرح بالترح والنوم على السرير بالنوم على العفير ومعانقة الأتراب بالتعفر في التراب وبدل عن خل ودود بمجاورة الدود جار وما أجار واشتغل بالدار عن الجار بالرماد عن المهاد وانظر بأي سنان بتر وبأي آلة كيف هجر وصار قصره مهجورا وعمارته خرابا بورا وتبدل السرور بالثبور ما نفعه الجيش وكثرته ولا الخزائن وعدته أصبح والله ذليلا وبعد الكثرة قليلا فلا عمل صالح ولا عز راجح ولا ثواب ينفع ولا جميل يدفع وقد بقي مرتهنا بأعماله موثقا بأفعاله وأنت تريد أن تسلك مسلكه وتتبع سبيل ما أهلكه فما أحد ينفعك ولا عمل يتبعك اتق الله في نفسك وفي أهل ملتك وبلدتك واعقد لك مع هؤلاء العرب صلحا واقبل ما قلت لك نصحا واحقن الدماء وارحم النساء والإماء وأسلم تسلم وهؤلاء القوم ما قالوا قولا الا وفوا به لان الصدق دليلهم والايمان يقينهم ما هم ممن يطلبون الملك فينازعون عليه ولا يميلون اليه بل طلبهم الآخرة وما عند الله وبالأمس وفوا لرودس صاحب حران ورجع عن دينه ودخل في دينهم وكذلك الملكة مارية بنت أرسوس وقد دخل في دينهم جبابرة ملوك الروم مثل يوقنا ويرغون وعمودا وميتا الذي هو أعلم منا بديننا وقد ملكوا الأرض في الطول والعرض وانما يحاصر عن نفسه من له ميرة وعدد وجيش وسلاح وعدد يقدر على
151

محاصرة البلد وهذا بلد عظيم وما فيه ما يقوم بأهله سنة أو أقل فإن لم تسلم أنت سلم أهله وسلموك إليهم برقبتك وهذه حران لهم وكفرتوتا والرها وسروج وسجستان وماردين والصور والخابور وما عدا الفرات إلى الشام إلى أرض مصر وجيوشهم قد طبقت العراق وملأت الآفاق وقد بلغني أن الملك كسرى قد عاد إلى المحاق فابعث إلى أمير هؤلاء العرب واطلب منه الصلح فإنه يعطيك وتربح نفسك ومالك وأهلك وولدك وعش في ظل القوم ان شئت على دينهم وان شئت على دينك فإنهم لا يغضبونك قال فلما سمع مرسيوس كلام أخيه الحيكم ارسالوس غضب عليه وضربه بمقرعة كانت في يده وقال أنت ما خلقك المسيح الا ذليلا وكيف تأمرني أن أسلم ملكي للعرب وتعرضني للعطب اخرج يا ويلك عني فان وقعت عيني عليك بعدها قتلتك
قال فخرج من عنده وهو غضبان وأما اللعين مرسيوس فإنه أمر أرباب دولته أن يجتمعوا في كنيسة بيعة نسطوريا حتى يحلفهم فمضى شاويشه فجمعهم وجمع مشايخ البلد
وكبراءها وأحضر القسوس والرهبان والشمامسة وبترك دير مقرب حتى يستحلف أهل المدينة فلما حصلوا في البيعة أغلقوا أبوابها حتى لا يدخل إليهم أحد من العوام وحصلوا كلهم فجلس الملك والبترك وشرعوا يحلفونهم وهم آمنون مطمئنون إذ خرج عليهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل سيف مسلول وعزم غير محلول وصاحوا بالتهليل والتكبير ونادوا نحن أمة التنزيل وأصحاب النبي الجليل نحن حملة القرآن وصوام رمضان قد أخذ الله منكم بذنوبكم وهتك ستوركم وعصفت عليكم المحن أين الصلبان وعبادتها اين الصور وحشمتها أين تقريب القربان اين تدبير الرهبان ادعوا أربابكم ينصرونكم هيهات والله ذهب باطلكم وهلك بالشرك جاهلكم واضمحلت أيامكم وذهبت دولتكم ووضعوا فيهم السيوف وعجلوا بهم الحتوف وقتلوا البطارقة بالنية الصادقة فماتوا عن آخرهم فلما رأت الروم ما نزل بهم ضجوا وبأصواتهم عجوا فقال خالد أولياء الله جودوا الضرب في أعداء الله وأهريقوا دماء من أشرك بالله قال فقتلت الطرامخة وذوو الحشمة الشامخة فلما بلغ الخبر العوام انهزموا عن الأسوار لما حل بقومهم البوار ودهمتهم الأقدار فذهب دامس إلى الأبواب ففتحها فدخل المسلمون بالتهليل والتكبير ولم يزل القتل يعمل في رأس العين وقد وردوا موارد الحين وناح عليهم غراب البين وأيدت شريعة سيد الكونين
قال الواقدي ولم يؤخذ من ديار بكر بالسيف الا رأس العين قال وأخرج الخمس من المال وأرسله إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه
152

وكتب له كتابا يقول فيه بسم الله الرحمن الرحيم من عياض بن غنم الأشعري إلى أمير المؤمنين عمر بن الحطاب رضي الله عنه سلام عليك فاني أحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي على نبيه أما بعد فان الله قد فتح علينا يسير ما كان عسيرا وكان لعدة الفتيان شعاع يخطف العيان فلما تضايقوا أمامي وازدحموا قدامي عاينت جيشا كثيفا وسدا منيفا قد اقبلوا من ألافواج وتتابعوا كالأمواج وتناصروا من كل صوب واشتهروا في كل ثوب والحديد يتالق كالحريق وقد تطايرت السيوف فللا والأرماح كعوبا وانقضت المدة وقد وضعت الحرب أوزارها وانطفأت نارها بعد ما قتل المسلمون أهل الطغيان الفاسقين ونصر الله الكفارة وخذلت العتاة وولت الأعداء الأدبار وأراحنا الله من مضرتهم وطهرت البلاد من كفرهم وكان زعيمهم الخائن وملكهم أول مخذول وأهون مقتول وبعد ذلك فتحنا رأس العين ونحن بعد ذلك معولون على ديار بكر والله المعين وبه نستعين والسلام عليك وعلى جميع المسلمين واقرأ سلامنا على قبر سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم ثم طوى الكتاب وختمه وسلمه مع الخمس لعبد الله بن جعفر الطيار وضم اليه مائة فارس من المهاجرين والأنصار فسار عبد الله ومن معه وأقام المسلمون على رأس عين شهرا وعمل بيعة نسطوريا جامعا وصلوا فيه وبنوا الكنائس مساجد وترك عرفجة بن مازن العامري عليها واليا ومعه مائة فارس وأخذ مال الرها وكفر توتا فأخرج منه الخمس وأرسله بعد عبد الله بن جعفر مع سلامة بن الأحوص ومعه خمسون فارسا
ذكر فتح دارا وبيرحا وباعماء
قال ورحل عياض بن غنم من رأس العين ونزل على كفرتوتا واقبل اليه الغلام يرغون فرحب به وولاه على المدينة وعرض الاسلام على الجارية طاريون فأسلمت وزوجها بابن عمها وبنى البيعة جامعا وارتحل منها إلى دارا فنزل عليها وخرج اليه أهلها واعتقبوا لهم منه صلحا وكان جملة ما صالح عليه أهل دارا عشرين ألف مثقال ذهبا وثلاثين ألف مثقال فضة وأن لا يبقوا سلاحا فأجابوا إلى ذلك وبنى كنيستهم جامعا وما أسلم منهم الا القليل وأقرهم على أداء الجزية وارتحل عن دارا وقصد بيرحا فصالح أهلها على ربع ما صالح عليه أهل دارا ورحل عنها وكانت بنو إسرائيل تعظمها وتقصد إليها بالنذور وكان بانيها حزقيا بن تورخ بن بازيا أحد أنبياء بني إسرائيل فخرجوا إلى عياض وصالحهم على قدر ما صالح به أهل دارا غير أن مقدمهم قال انني لم أزل أملك البلد حتى يأتيني الموت ومن أراد أن يدخل في دينكم من أهل بلادنا فلا مانع يمنعه فقال له عياض ما اسمك قال اسمي
153

طرياطس فقال يا طرياطس انا نحكمكم على العدل فما فتح الله علينا الا باتباع الحق وسلوك طريق الصدق والعدل في الرعية وانا نتجنب البغي والظلم وما قصدنا قاصد الا وجدنا وأنتم منذ خرجتم الينا ووردتم علينا فنحن نجيبكم إلى سؤالكم ونصالحكم على ما صالحنا عليه أهل دارا فقال طرياطس وتصالحون أهل معرين على ما صالحتم عليه أهل بيرحا فأجابهم عياض إلى ذلك ونزل على باعما ودير قال وانما أجابه عياض ا 4 لي ذلك وألان له العريكة حتى يبلغ الخير أهل ديار بكر فيجيبون طائعين ويسلمون له من غير منازعة
وكان قد بلغه تحصن بلادهم وامتناع قلاعهم قال فدخل طرياطس وأخرج المال من خزائنه ولم يأخذ من أهل بلده شيئا ودفعه لعياض فقبله منه وكتب له كتاب الصلح وشرط عليهم الجزية كما فعل أهل دارا من العام القابل فلما تم ذلك دخل المسلمون اليه وبنوا جامعا فلما بلغ أهل نصيبين حسن سيرتهم وعدلهم وجودة أحكامهم أسلم أكثرهم وكان في جملة من أسلم أصحاب النذور وأخربوه وبنو جامعا وأقام عياض على نصيبين شهرا فلما أراد الرحيل جاءه طرياطس وقال قد زدتم في أعيننا بما رأينا من صلاتكم وعبادتكم فاسلم وحسن اسلامه ولم يزل ملكا حتى مات في خلافة عثمان ونزل في مسجد كندة اسامة بن عامر الكندي وعشرة من بني عمه وارتحل عياض ونزل تحت قلعة المرأة وفيها مارية وولدها عمودا فانزلوا له الإقامة والضيافة وسار إلى أن نزل على آمد لسبع خلون من شهر جمادى الأولى
ذكر فتوح ميافارقين وآمد
وكان بآمد أخوان شديدا البأس اسم أحدهما بطرس والآخر يوحنا وكان بطرس في شرقي البلد ويوحنا في غربيها وكان ليوحنا بنت اسمها رغوة ولبطرس بنت اسمها صفورا وكل واحد مشغول بما هو فيه ويوحنا أراد أن يتزوج فأرسل إلى صاحب دارا وهو مرطاوس فزوجه لبنته مريم وحملت من بلد أبيها اليه وكانت صاحبة حيلة ومكر فلما حصلت بآمد نظرت إلى المدينة وكثرة مالها ونعمها وتحصن أهلها وسورها وغزراة بساتينها فقال لدايتها في السر يا دايتي ما رأيت أحسن من هذه المدينة ولا أحصن منها ولا أمنع ألا ترين الا الأعين المخترقة في وسطها والى الجبال التي قد دارت بها تعني سورها الأسود فمن بناها على الحقيقة قالت لها اعلمي انه قد ملك بلاد
الروم أجمع من أول بلاد اليونان إلى بلاد عمورية ملك يقال له طيماوس بن أرسالوس ابن ميهاط بن مكلاوكن بن الأصفر بن العيص بن إسحاق وكان أول من بنى بيت الحكمة في بلده رومية الكبرى
154

ة وكان قد فتحت له المطالب ونشر في الأرض العجائب وانه حدثته نفسه بملك الأرض لكثرة المال فانتهى إلى سويقة وكان له ولد اسمه إسطنبول فقال لأبيه طيماوس أريد أن أبني لي ههنا مدينة أذكر بها قال يا بني افعل وأمده بالمال والرجال فادار سورا على ستة فراسخ وسماها باسمه وعاش أربع سنين ومات وخلف ولدا اسمه قسطنطين فأتم بناءها فسميت باسمين اصطنبول باسم أبيه والقسطنطينية باسم ابنه وأما أبوه فإنه صار يفتح البلاد حتى وصل إلى ههنا فرأى هذه الأعين والدجلة فاستحسن المكان فطلب أرباب دولته وكانوا اثنين وسبعين ملكا وقال قد اخترت أن أبني ههنا مدينة لا يكون على وجه الأرض مثلها ولا أحسن منها ولا أمنع وأريد أن كل واحد منكم يبني لنفسه مدينة وبرجا فقالوا جميعا نفعل أيها الملك فركبوا واختطوا المدينة وشرعوا في بنائها وأتوا بالصناع من أقصى البلاد واختص كل ملك بمدينة وبرج وحمام وكنيسة فلما أتموا بناءها مات الملك فسميت آمد لانقضاء أمده بها وما زال الملوك يتوارثونها إلى أن انتهت إلى هذه الأخوين بطرس ويوحنا قال فتعجبت مريم من قول رايتها وكتمت الأمر وكان لبطرس ولد اسمه لاون فطلب من أخيه ابنته صفورا لولده وقال له زوج ابنتك لولدي حتى أزوج ابنتي لولدك فامتنع ووقع الشر بينهما حتى كان في وسط البلد سور وأبواب فأغلقت وصار كل واحد منهما مشغولا بناحيته فلما رأت مريم ذلك دخلت بينهم بالصلح وقالت هذا لا يجوز وأنتما أخوان ويطمع فيكما ملوك ديار بكر وركبت بنفسها وأصلحت بينهما وفتحت الأبواب التي داخل المدينة وصنعت وليمة عظيمة ودعت إليها بطرس وولده لاون وابنته صفورا فأكلوا وليمتها وقدمت لهم الخمر ممزوجا بالسم فلما تمكن منهم قتلوا عن آخرهم وكذلك فعلت بزوجها وولده وصارت ملكة وبنت بيعة لم ير ببلاد الروم مثلها وفرشت أرضها بالفصوص والرخام الملون وزخرفت الحيطان بالذهب والفضة وعلقت فيها ستور الديباج المذهب وطلبت كل عالم مشهور وأزالت عن أهل البلد جميع ما كان عليهم من الحيف وعدلت فيهم فأحبها أهل البلد وشكروا سيرتها واستخدمت الرجال وزادت في اكرامها وقصدها الناس من كل مكان لأجل عدلها وأقامت في ملك آمد اثنتي عشرة سنة وبعدها نزل عليها عياض بن غنم ومن معه وأحاط بالمدينة
قال الواقدي بلغني أن عياضا نزل على التل ونزل سعيد بن زيد على باب الروم ونزل معاذ على باب الجبل ونزل خالد على باب الماء فلما نظرت الملكة مريم إلى ذلك ورأت أن الصحابة قد عولوا على حصارها ركبت إلى كنيستها وجمعت أرباب دولتها وقالت اعلموا أن هؤلاء العرب قد حلوا
155

بساحتكم ونزلوا على مدينتكم وقد طمعت أنفسهم في أخذها وأنتم تعلمون أن هذه قفل ديار بكر ومتى فتحوها فقد أخذوا ديار بكر عن بكرة أبيها وأضمحل دين المسيح ولا يبقى له ذكر في هذه البلاد وأنا أعلم أن الملوك ومن يشار إليهم من أهل دين النصرانية وبني ماء المعمودية كلهم ينتظرون ما يكون منا ويعلمون أن مدينتكم لو أقاموا عليها مائة سنة ما قدروا عليها فقاتلوا عن حريمكم وأموالكم واصعدوا فوق الأسوار وقاتلوا هؤلاء العرب وطلبت القسوس والشمامسة والرهبان وأمرتهم أن يحلفوهم على أن يكونوا يدا واحدة ولا يخامروا عليها ففعلوا ذلك وصعدوا على الأسوار وشهروا السلاح وآلة الحرب وأقاموا الصلبان والرايات والأعلام وتولت كل طائفة بحفظ برج من الأبراج قال فلما نظر عياض إلى ذلك وأنهم قد عولوا على القتال من أعلى الأسوار جمع أمراء جيشه اليه وقال لهم ان هذه المدينة حصينة وهي عين ديار بكر ومتى فتحها الله علينا ملكنا ديار بكر فما الذي ترون من الرأي وكيف يكون قتالها وأعداء الله قد تحصنوا بهذا الحصن المنيع
فقال خالد أيها الأمير اعلم أننا ما ملكنا الله البلاد بقوة ولا بكثرة مدد ولا بعدد بل بتيسير الله لنا نرجو الله أن يفتحها ببركة نبينا صلى الله عليه وسلم وبذلك وعد الله نبيه وان هؤلاء القوم ان باطشونا على ظاهر مدينتهم بالقتال رجونا تسهيل الامر وان أقاموا على ما هم عليه فالصبر فان عاقبة الصبر النصر ولعل أن يأتي في العرضيات ما لم يكن في الحساب واكتب إلى هذه المرأة كتابا وخوفها ثم منها بكل جميل فلعل الله تعالى أن يلين قلبها للايمان أو تسلم لنا صلحا فدعا عياض بدواة بياض وكتب إليها يقول بسم الله الرحمن الرحيم وصلواته على سيدنا محمد وآله من عياض بن غنم أمير جيوش المسلمين بأرض ربيعة وديار بكر إلى مريم الدارية أما بعد فان الله سبحانه وتعالى قد نصرنا وبجميع الكفار قد ظفرنا وعلى قبض ملوكها أيدنا وما نزلنا على بلد الا ملكناه ولا قابلنا جيشا الا هزمناه والعزة لله ولرسوله وللمؤمنين وليس حصنك بأمنع من تدمر ولا حصن وهو الحصن المنبع الذي بناه أبا سليمان
بن داود وما هو الا أن نزل عليه المسلمون حتى ملكوه وكذلك بعلبك وحلب وأنطاكية دار الملك هرقل ولم يبق بين أيدينا صعب الا سهلة الله علينا وبذلك وعدنا الله في كتابه العزيز فقال * (وكان حقا علينا نصر المؤمنين) * فإذا وصل إليك كتابي هذا فسلمي تسلمي وإياك أن تخالفي تندمي ومهما أردت بلغناك ولسنا نكرها على فراق دينك ولا أحدا من أهل بلدتك قال الله تعالى لا اكراه في الدين وان تمسكت بالهوى فستعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا وسلام على عباده الذين اصطفى ثم طوى الكتاب وختمه وسلمه
156

إلى رجل من المعاهدين وقال له ادن من الحصن وناولهم الكتاب وقف حتى يردوا عليك الجواب قال فذهب ودنا من السور وناداهم بلغتهم وأشار إليهم بالكتاب فأدلوا له حبلا فرابطه لهم ووقف ينتظر الجواب قال فأوصلوا الكتاب إلى الملكة مريم فقرىء عليها فلما فهمت ما فيه قالت لأرباب دولتها ما تقولون فيما كتب الينا أمير العرب قالوا أيتها الملكة الرأي لك فمهما أمرتينا به امتثلناه فقالت يا قوم أنتم تعلمون أن النار ولا العار ومتى سلمنا لهؤلاء العرب عيرتنا الروم ويقولون كيف سلمتم مدينتكم وما حاصرتم سنة ولا عشرة أيام ومدينتكم أحصن بلاد الروم وإذا شئتم كان لكم موضع تزرعون فيه والمياه عندكم وكل ما تحتاجون اليه وقد وصلت إلي الكتب من جميع ديار بكر ووعدوني أن يرسلوا عساكرهم لنصرتنا فقالوا أيتها الملكة هذا هو الرأي الرشيد فاكتبي للقوم كتابا أن يقطعوا طمعهم منا فكتبت تقول أما بعد فقد وصلني كتابك وفهمت خطابك فأما ما ذكرت من نصر الله لكم أما علمت أن المسيح يمهلكم ولا يهملكم وانما ذلك استدراج لكم ثم يأخذكم بعد ذلك وكأنكم بالملوك وأبناء الملوك وقد أقبلت عليكم
بسواعد شداد وسيوف حداد وجيوش وأمداد فيأخذون منكم بالثار ويكشفون عن عباد المسيح العار وما كنا بالذي نسلم حصننا إليكم ابدا فان شئتم المقام وان شئتم الرحيل والسلام وربطوه بالحبل وأعطوه للمعاهد فأخذه وأتى به إلى عياض فلما قرأه وفهم ما فيه قال توكلنا على الله وفوضنا أمرنا اليه ثم قرأ * (ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا) *
قال وعول عياض أن يقيم على آمد وخيله تغير على الهتاج وميافارقين وسائر تلك البلاد قال وسمعوا ضرب الناقوس فقال عياض أتدرون ما يقول هذا الناقوس قالوا وما يقول قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عمه علينا ومعه جماعة من المسلمين ليغيروا على أطراف تبوك فاجتازوا بدير الراهب وذلك الراهب يضرب بناقوسه فقال على لمن معه أتدرون ما يقول هذا الناقوس قالوا الله ورسوله أعلم وأنت يا علي فقال يقول مهلا مهلا يا بني الدنيا مهلا مهلا ان الدنيا قد غوتنا واستغوتنا وشغلتنا غدا نرى ما نرى ما من يوم يمضي عنا الا لنا أو علينا يا بني الدنيا جمعا جمعا يا بني الدنيا شرطا شرطا ما من يوم يمضي عنا الا اثقل ظهرا منا ما من يوم يمضي عنا الا صار منا جهلا قد ضيعنا دارا تبقى واستوطنا دارا تفنى قال عياض فقالوا يا ابن عم رسول الله أو يعلم النصراني ذلك قال لا يعلم ذلك لا نبي أو صديق
قال حدثنا الربيع أبو أبا سليمان
عن موسى بن عامر عن جده قراءة بالخضراء
157

من عسقلان قال فأقام عياض على أمد أربعة أشهر قال فخرج من جيشه الحكم بن هشام واستأذن عياضا أن يشن الغارات على ميافارقين فاذن له فأخذ معه من الصحابة مائة من المهاجرين والأنصار فخرجوا بعد ما صلوا الظهر وعبروا الدجلة وساروا والأرض تطوي لهم فما مضى قليل من الليل الا وهم على ميافارقين فداروا بها إلى أن وصلوا إلى برج يعرف ببرج الشاة فقال الحكم بن هشام وددت من الله لو فتح لنا هذه المدينة بلا قتال قال فما استتم كلامه حتى انفتح لهم باب من حائط البرج فدخلوا وهم يخترقون الطرق إلى وسط المدينة إلى كنيستهم العظمى وتعرف ببيعة ماريا وكانت تلك الليلة عيدا عند النصارى فلما اقبلوا إلى الصلاة وجدوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ومن اين جئتم قالوا من عسكرنا قال ومتى جئتم قالوا بعدما صلينا الظهر قال ومن فتح لكم مدينتنا قال له الحكم فتح لنا من بيده مقاليد الأمور قال أوما تفزعون منا فقال الحكم وكيف نفزع من مخلوق لا يضر ولا ينفع وهو تحت أحكام القهر وقد قال ربنا في كتابه * (فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين) *
فقال اسلاغورس ان دينكم دين محدث وديننا دين قديم والقديم أفضل من المحدث فقال له الحكم إذا كان ما قلته حقا ففضل إبليس على آدم لأنه أقدم منه أعلمت أن طينة آدم مشكلة وقد قال الله تعالى أفمن شرح الله صدره للاسلام فهو على نور من ربه أشرق نور قلبه في وقت تجليه واشتعل بالاتقاد فيه فنظر اليه إبليس وظن قميص عبوديته أبيض بالتوحيد وإذا هو أسود بالشرك فأبان نعته القديم عن نعت وقته بقوله وكان من الكافرين كان سائرا في أرض الشرك تحت ظل الجهل بالعواقب فما زال يقطع منازل العبادات بالعبادات وهو في عماية عن أبصار جمال المشاهدات فلما ظهرت أنوار مصباح الإلهية من مشكاة الأبدية استنار وجه صورة حاله فإذا هو قد فهم من جوابه وان عليك لعنتي وأصل آدم لما طار من وكر بشريته بأجنحة همته في جو الطلب تعالى عن حطيطة انسانيته حتى دنا من نيران المحن فافترقت أنوار القسم بأجنحة اصطفائه وحصن قوادم ارتقائه فوقع في حبال وعصي آدم ربه فلما أتاه في أودية محبته هطلت عليه سحائب محنته ورمى بصواعق اهبطا فلما خرج إلى بيداء كرباته اشتملته مواكب آلائه مبشرة إياه باجتبائه * (ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى) * قال وان اسلاغورس أمرهم أن يدخلوا البيعة فقال الحكم بن هشام وما الذي
158

نصنع في بيعتكم قال تذكرون فيها ربكم قال ما كنا ندعي إلى ذكر ربنا فنتأخر عنه قال فربطو خيلهم ودخلوا ما أراد اسلاغورس بذلك الا أنه قد زخرفها وصور فيها بيت المقدس والصخرة وقبة السلسلة ومحراب داوب ومهد عيسى وصورته وأمه مريم فلما توسطها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ الحكم بن هشام * (وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله) * ورفع بها صوته فقال لا والله وانما أقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله قال فوالله لقد ماجت بيعة القوم وتزلزلت وصفقت القناديل بعضها ببعض قال وكان للبيعة شيخ عالم بالأديان والشرائع وكان اسمه عبد المسيح فلما نظر ما حل بالبيعة والقناديل صلب على وجهه وكذلك كل ما كان فيها وقالوا لملكهم أنت ما أردت الا هلاكنا إذ أدخلت هؤلاء العرب الينا أما ترى كيف غضب المسيح علينا فقال البطريق لا وحق المسيح ما هو الا توحيدهم الله وذكر نبيهم أظهر لكم من معجزة نبيهم ما رأيتموه يا ويلكم إذا كان قد فتح لهم باب في السور ودخلوا منه علينا فكيف لا تعتز البيعة وتصفق القناديل لما دخلوها وأنا كنت في شك مما ذكرت والآن فيا طوبي لمن كان على دينهم
قال الواقدي وكان هذا خادم بترك بيت المقدس وكان في بيت المقدس يوم فتحت على يد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وسمع من البترك في بيت المقدس وهو يقول هذا الذي يفتح الأرض في طولها والعرض ومحمد هو الذي بشر به المسيح بن مريم ولقد سأله رجل لما رأى المسلمين يعظمون الصخرة ويقبلون القدم الذي فيها فقال للبترك نرى المسلمين يقبلون قدم المسيح فقال له يا بني نحن نقول إنه قدم المسيح وانما هو قدم نبيهم محمد بن عبد الله لما عرج به إلى السماء قال أو عرج به فقال نعم أسرى به من مكة إلى بيت المقدس وصلى بالنبيين وأسرى به قال الحكم وذلك لما استبشرت به النفوس وبلغ خبر رسالته وانه زيد في كماله وأشرقت أنوار جماله وأراد الحق أن يشرفه على أهل الكونين باقترابه من قاب قوسين فنودي في عالم الملكوت تأهبوا ثم تأدبوا فهذه ليلة الدنو والاقتراب هذه ليلة عتق الرقاب هذه ليلة الحبور هذه ليلة السرور هذه ليلة الابتهاج هذه ليلة المعراج انصبوا سلم الارسال وافرشوا فرش الاظلال وقوموا على أقدام الاسترسال يا جبريل زخرف الجنان وزين الحور والولدان يا جبريل انزل بالتهاني إلى بيت أم هاني أيقظ حبيب مملكتنا وأركبه على براق قدرتنا لنريه من آياتنا فأخذ جبريل مطية خلقها
159

عجيب ونعتها غريب فألجمها بلجام القرب وأسرجها بموكب الحب وسار بها في ميدان الجلال وهو ينادي سبحان الذي أسرى فلما وقف ببابه ورفع حجابه ونظر وإذا هو مدثر بعباءة تذلله متوسد بوسادة عمله قد أنحله الشوق وأذابه التوق فنشر عليه أنوار السعد وبشره بانجاز الوعد فقال له يا أيها المدثر قم على قدم همتك وقم بوارد عزيمتك
واركب إلى السماء وارق واصعد معراج الدنو والارتقاء فقام السيد واتشح وجسمه من الحياء قد رشح وقد باح باستسلامه وركب مركب تحيته وسلامه ورفع على رأسه سحابة الاحترام وأسرى به من البيت الحرام ذكره جليسه وفكره أنيسه وشوقه دليله وجبريل خليله فلما ولج دائرة بيت المقدس وحصل في فناء المسجد الأقصى فجليت عليه أرواح الأنبياء في حلل الأنوار والبهاء فبادروا إلى سلامة وتحيته واكرامه وجليت بين يديه وأثنوا بالصلاة عليه وأراد كل منهم أن يصف منزلته ويذكر فضيلته فقال آدم الحمد لله الذي خلقني بيده ونفخ في من روحه وأسجد لي ملائكته واسكنني دار كرامته وقال إدريس الحمد لله الذي رفعني مكانا عليا وبوأني مجلسا سنيا وقال نوح الحمد لله الذي نجاني من القوم الظالمين وجعلني ابا للمؤمنين
وقال إبراهيم الحمد لله الذي اتخذني خليلا وجعل النار بردا علي وسلاما وأصلح لي زوجي بعد ما كانت عقيما وقال موسى الحمد لله الذي أعطاني تسع آيات بينات وكتب لي في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء وأهلك عدوي فرعون ونجى قومي وفلق لي البحر وكلمني تكليما وقال لي إلي أنا الله وقال أبا سليمان
بن داود الحمد لله الذي سخر لي الإنس والجن والطير والريح وعلمني منطق الطير وآتاني ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي وقال عيسى الحمد لله الذي لم يخلقني من نطفة قذرة وأحيا لي الموتى وأبرأ لي الأكمة والأبرص فلما افتخروا بجميع كراماتهم قال النبي صلى الله عليه وسلم الحمد لله الذي خلقني من أنوار البهاء ورفع قدري في الأرض والسماء وكتب اسمي على ساق عرشه وقرن اسمي باسمه ونزه ذكري في معالم قدسه وشرح لي صدري ويسر لي أمري ورفع قدري وغفرلي ما تقدم من ذنبي وما تأخر وأيدني على من كفر وبعثني بالرعب وأرسلني بالحنيفية ونصرني وجعل أمتي خير الأمم وفرض طاعتي على العرب والعجم وجعل لي الأرض مسجدا وترابها طهورا وشفعني يوم القيامة في أمتي ونسخ سائر الشرائع بشريعتي وأدخل سائر الأمم في شفاعتي وجعل الكعبة قبلتي وأسمعني صلاة أمتي من بعدي لأشهد لهم يوم القيامة وجعلني شاهدا وأمتي شهودا على من جحد وظلم وكتب اسمي على الأفلاك وقال
160

جل وعلا * (إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا) *
قال الواقدي فلما سمع بطريق ميافارقين هذا الكلام من الحكم بن هشام قال والله ما في دينكم مراء وأنتم على الحق ولقد كنت أسلمت على يد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ببيت المقدس ثم جئت إلى هذه المدينة وكان عليها وال فمات ووليت الأمر من بعده فرجعت إلى ديني الأول فان أنا تبت اليه ورجعت إلى دينكم أيقبلني على ما ارتكبت من المعاصي فقال له الحكم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوما لأصحابه
بأي شيء يكون ابن آدم أشد فرحا فقالوا بالأهل فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسكت الناس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكون ابن آدم أشد فرحا منه إذا كان في مفازة ومعه راحلته عليها زاده وماؤه ومنافعه فإذا كان في بعض المفازة اشتد عليه الحر فاوى إلى ظل فنزل عن راحلته وتوسد ذراعه فنام ثم انتبه وقد ذهبت راحلته وعليها طعامه وشرابه وغذاؤه ومنافعه فانطلق في طلبها يمينا وشمالا فلم يجدها فرجع إلى موضعه ليموت فيه وقد أيقن بالهلاك فنام ثم انتبه فوجد راحلته كما هي فأخذ بخطامها ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم
ان الله أشد فرحا بتوبة عبده المؤمن من ذلك الرجل بتلك الراحلة قال فلما سمع اسلاغورس كلام الحكم بن هشام دمعت عيناه وأخذهم إلى دار ولايته وقال والله لقد بان الحق وظهر الصدق فاسلم وحسن اسلامه وطلب جماعته فاسلموا بأجمعهم ثم إنه طلب أكابر البلد وأخبرهم باسلامه وقال لهم اني أريد منكم ما أريده لنفسي وان دين هؤلاء يعلو ولا يعلى عليه فمن أسلم منكم أمن في الدنيا والآخرة وهم قد نزلوا على آمد ولا بد لهم من ديار بكر جميعها فمن خالفهم وعصى نهبوا بلده واستعبدوا أهله وولده فان أسلمتم لهؤلاء القوم أمنتم على أنفسكم وبلادكم فقالوا أيها الصاحب أمهلنا ثلاثة أيام حتى نرى ما لنا فيه الصلاح فتركهم وانصرفوا من عنده فلما كان الليل اجتمعوا وتحالفوا أن لا يسلموا للعرب أبدا ولو هلكوا عن آخرهم وأصروا على القتال فبعد ثلاثة أيام طلبهم فلم يأته الا القليل وأتت اليه العين الصافية وأخبرته بما عزم عليه أهل البلد ثم لبسوا سلاحهم وأتوا اليه يقاتلونه فخرج إليهم بجماعة ومعه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتلوا قتالا شديدا فلما جن الليل قال لهم ارسلوا إلى أميركم ينجدنا فأرسل واحدا منهم فما بعد عن البلد حتى سمع قرع حوافر الخيل فلما تبينهم إذا هم من عسكر الموحدين وإذا هم خمسمائة فارس وعليهم ضبة بن عدي وكان السبب في ذلك أن عياض بن غنم رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وأخبره بقصة ميافارقين وما جرى لصاحبها من أهل بلده وأمره أن يرسل إليهم جيشا
161

فاستيقظ من نومه وأرسل إليهم ضبة بن عدي ومعه خمسمائة فارس وأذن الله للأرض أن تطوي لهم فوصلوا إليهم في تلك الليلة فأتى بهم إلى باب السر وكانوا قد وكلوا به من يحفظه فنادى ففتحوا لهم وإذا بصاحب البلد قابلهم فأدخلهم فقالوا له من أعلمكم بقدومنا فقال صاحب البلد أعلمني بكم النبي صلى الله عليه وسلم رأيته وقد نمت من ضيق صدري بقتال هؤلاء القوم أهل البلد فنمت فرأيت شخصه الشريف فبشرني بقدومكم فلما حصلوا بأجمعهم خرج للقتال أهل البلد فصاح بهم المسلمون يا أعداء الله قد حل بكم البوار وأحاطت بكم الاقدار من أصحاب محمد المختار ووضعوا فيهم السيف فولوا إلى منازلهم ودورهم ليتحصنوا بها وقد علموا أنه قد نزل بهم مالا طاقة لهم به فنادوا الغوث فقال لهم من أتى الينا فهو آمن فخرجوا فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمناكم على جميع مالكم الا السلاح قال فأتوا بجميع ما عندهم من السلاح وسلموه للصحابة فلما رأوا منهم صدق القول أسلموا الا قليلا منهم وعملوا البيعة الكبيرة جامعا وأقاموا ثلاثة أيام وتركوا عندهم الحكم بن هشام ومعه عشرة من أصحابه ليعلموهم شرائع الدين وأتى ضبة ومن معه إلى عياض وأخبره بما جرى ففرح بذلك وقال وان أهل آمد لم يفتحوا بابا ولا باشروا قتالا وضاق صدر عياض ومن معه من ذلك
قال الواقدي ومكثوا خمسة أشهر وكان خالد بن الوليد كما ذكرنا على باب الماء وكان في يوم يركب بجيش الزحف ويدور حول المدينة فإذا أتى الليل نزل في منزله وكان غلامه همام يخبز له في كل ليلة اقراص شعير ويتركها له في قبته فإذا صلى المغرب أكل تلك الأقراص عند الافطار وانه استمر ثلاث ليال لم يجد شيئا يفطر عليه فقال
لغلامه همام أنت يا ولدي ما عندك ما تفطرني عليه ولك بهذه الليلة ثلاث ليال لم تصنع لي شيئا فقال والله يا مولاي انني في كل ليلة أصنعها وأضعها له ولم يكن عندي منها علم وما ظننت الا أنك تأكلها فلما كانت الليلة الرابعة وضع همام الاقراص على عادته وأخفى نفسه وجلس لينظر من يأخذها فإذا هو بكلب قد أقبل من نحو المدينة ودخل القبة وأخذ الزاد وخرج فتبعه همام وإذا به قد دخل من مسرب الماء في جانب السور قال فتركه همام وعاد فلما أتى خالد من صلاته أقبل وطلب الفطور فقال له همام يا مولاي كان من الامر ما هو كذا وكذا قال خالد يا همام أرني الموضع فمضى همام أمام خالد وأراه الموضع الذي دخل منه الكلب فلما رآه قال الله أكبر فتح الله ونصر وعاد وطلب أصحابه وأعلمهم بالقصة
وقال لهم قد عولت أن أدخل المدينة من مسرب الماء وأريد منكم مائة
162

رجل يهبون نفوسهم لله تعالى وتعلمون أن الدنيا دار صدق لمن صدقها ودار وفاء لمن أخذ منها بحقها ودار رجاء لمن تزود منها ودار نجاة لمن فهم عنها الدنيا مهبط وحي الله ومصلى ملائكته ومسجد أحبابه وأوليائه أتخذوها مزرعة فرحمنا الله وإياكم وكان لنا ولكم فمن أراد الزاد من هذه الدنيا الفانية إلى يوم حشره فليبادر إلى التجارة الرابحة ولا يغره طول الاجل فيطمئن إلى التقصير في العمل ألا واني قد وهبت نفسي لله وقد أشترى ثم قرأ ان الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة فمن باع فليبادر ولا يجزع مما يحاذر فالموعد بيننا في عرصات القيامة وموقف الحسرة والندامة فاتبعوا سلفكم الطاهر والدين الباهر فعولوا على بركة الله وعونه واختار من أصحابه مائة وأمرهم بلبس السلاح وركب عياض وأعلمه بما عزم عليه من دخوله المدينة من المسرب وقال له كن على أهبة إذا سمعت التكبير والتهليل فقال علمت ذلك وأنا على أهبة بحمد الله امض أعانك الله ونصرك وسر على بركة الله وعونه قال فودعه خالد ورجع إلى أصحابه فوجدهم قد استعدوا فسار أمامهم وهم رجالة إلى أن أتى إلى باب المسرب وكان نصف الليل وأمر الله سلطان النوم فاستولى على من كان على السور والحرس لأنه جل شأنه إذا أراد أمرا بلغه وهيأ أسبابه قال فأول من دخل من المسرب خالد رضي الله عنه وتبعه عامر بن الأحوص وحذيفة بن ثابت وعمران بن بشر وتمام المائة رضي الله عنهم وما منهم الا من تسرب ودخل ومن كان جسيما لا يقدر على الدخول رجع وهو متأسف على الشهادة فحصل في المدينة ثمانون رجلا ولم يصحبهم الا من دخل من المسرب ثم إن واحدا من الذين تأخروا عالج في حجر فقلعه فاتسع المكان ودخلوا بأجمعهم وأدركوا أصحابهم وقد توسطوا المدينة وارتحت بها الأصوات واستيقظ الراقد وارتعد القاعد وقصد خالد مطلع السور ومنع الناس من النزول وأخذتهم الأحجار وأرسل خالد عشرة من أصحابه إلى الباب فكسروا الاقفال وفتحوا الباب وكان عياض قد ركب وأيقظ الناس وقد تهيأ للحرب فلما كبر خالد ومن معه بادر عياض ومن معه إلى الباب فوجده مفتوحا فدخلوا وأقبل أهل المدينة يهربون إلى السور والليل قد غسق والظلام اتسق والقتام قد أطبق فما بقي أحد يقوم من مرقده الا والسيف قد رمى رأسه عن جسده وهذا خرج من عند أولاده والسيف قد قطع في فؤاده وخالد ومن معه يكبرون وقد تقطعت بأهل آمد الأسباب وأحاط بهم العذاب قال ولم تزل الأبطال تبطح وتطرح وصدور المسلمين تشرح ولنحور الكفرة تذبح والعوائق تقطع والشجعان للرؤس تقرع والصوارم تقطع والأنوف تجدع وقلب الذليل يفزع والجبان يجزع والعيون تدمع والصائح لا
163

يسمع ولا شافع يشفع ولا مانع يمنع ولا دافع يدفع ولا قلب يخشع حتى إذا ولى الليل ونزع والصباح عول على أن يطلع وخالد يصيح ضياح السميذع حتى انطوى الليل بمطارف الدجى عند انتشار رايات الضيا فنظر أهل البلد إلى ما حل بهم ونزل عليهم فاقبلوا إلى دار الامارة يطلبون الملكة مريم فلم يجدوها قال وكان السبب في ذلك انها سمعت بان الصحابة قد حصلوا في المدينة فعلمت انها لا تخرج من أيديهم فأخفت نفسها ومن معها ونزلت في سرب في دار الامارة وأخذت ما تقدر على حمله وخرجت من ذيل الجبل وطلبت بلاد الروم
قال الواقدي فلما علم أهل المدينة أن ملكتهم هربت نادوا الغوث الغوث فرفعوا عنهم السيف وجمعهم الأمير اليه فاجتمعوا في ميدان المدينة فقال لهم عياض أما بعد فان الله تعالى قد نصرنا عليكم وصبرنا وظفرنا بكم ولولا أن الله جعل نبينا نبي الرحمة واسكنها قلوب المؤمنين لأبدناكم بالسيف عن آخركم ولكن قد أمرنا ربنا في كتابه بكظم الغيظ والعفو فقال الله تعالى والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ثم نظر فيهم فمن أسلم ومن لم يسلم ضرب يسلم الجزية عليه من عامه قال الواقدي وكان شاهد الجمع في فتح آمد زيد بن حالوك اليهودي وكان علاما بدين اليهودية والنصرانية وكان يزعم أنه من أولاد داود عليه السلام وكان بنو إسرائيل يعظمون شأنه ويأتونه بالهدايا والتحف وانه لما دخل عياض بن غنم رضي الله عنه إلى آمد وجمع أهلها في الميدان وتكلم المشايخ بما تكلموا به قام هو من وسط قومه وكان اسمه مليا بن حنيتا وعرف المسلمين بمكانه وأنه مقدم على بني إسرائيل وانه من ذرية داود قال أنتم أصحاب نبي الرحمة وان الله خلق الرحمة وأسكنها في قلوبكم وان الله فضلكم على سائر الأمم وقد أنزل في صحف إبراهيم وموسى يقول اني ابعث في آخر الزمان نبيا أميا وأجعل أمته أفضل الأمم وأسكن الرحمة في قلوبهم وبهم أباهي ملائكتي وابعثهم غرا محجلين من آثار الوضوء وان داود عليه السلام لما أصاب الذنب ونفر عنه الوحش خرج إلى فلاة من الأرض وقال الهي بحق النبي العربي الذي تبعثه في آخر الزمان الا غفرت لي فأجاب دعوته فقال عياض ان الله يحب العفو وقد عفونا عنكم فقال أهل المدينة فإذا عفوتم عنا نرجع إلى دينكم فاسلم أكثرهم وضربت الجزية على من لم يسلم في العام القابل على كل بالغ أربعة مثاقيل ذهبا وأخذوا سلاحهم وحملوا لهم شطر أموالهم فحملها وبنى البيعة المعروفة جامعا وأقام في آمد اثني عشر يوما وولى عليه صعصعة العبدي ومعه خمسمائة من بني
164

عمه ومن العرب
ذكر فتوح اليمانية وجبل الجودي قال وارتحل عياض إلى الحصون وهي حصون الجبابرة وأنفذ إلى أهلها فاسلموا وأرسل النعمان بن معرف إلى أهل أنكل فاسلموا وسمت باليمانية لأنها فتحت على يد حذيفة بن اليمان ومضى عياض إلى الجابية ففتحها صلحا ونزل إلى أهل جبل الجودي والسيوان وذي الفرض فاخذوا من المسلمين صلحا
وعهدا على تقرير بينهم وارتحل المسلمون حتى نزلوا على الهتاج فأبى أهله أن يسلموا وعولوا على القتال ونصبوا الرعادات والمجانيق فنظر عياض إلى ذلك فعظم عليه وقال هذا حصن منيع ومتى تركناه ومضينا عنه أغاروا على أهل هذه البلاد وأذاقوهم الشر وقد لزمنا من أسلم ومن صالحنا الزم لنا فلا نحيد عنه حتى نفتحه إن شاء الله تعالى فقال خالد انزلوا بنا عليه ولعل أن يأتي من عرضيات الأمور ما لم يكن في حساب
قال الواقدي وكان صاحب الهتاج شيطانا مريدا وجبارا عنيدا وكان اسمه يأنس بن كليوس وكان قد تزوج بميرونة ابنة بريونة ابنة يريول بن كالوص صاحب قلب والحصن الحديد وكانت قد زفت اليه وأقامت عنده سنة ثم إنها مضت إلى زيارة أبيها وأمها وأقامت عندهما شهرا فلما خرجت من عندهما ومضت إلى الهتاج عند زوجها فبينما هي في نصف الطريق إذ بلغها ان المسلمين قد نزلوا على الهتاج فجلست في مكانها ولم تبرح وكان عدو الله يحبها ولا يجد له عنها صبرا فلما رأى المسلمين وقد نزلوا عليه علم أنه لا يقدر أن يجتمع بالجارية فاتفق رايه أن يصالح المسلمين حيلة منه ومكرا وخديعة حتى تحصل زوجته عنده ويغدر ولا يعطي أحدا طاعة فأرسل إلى عياض يقول له انك لو أقمت علينا بقية عمرك لما قدرت علينا ولكن صالحنا سنة كاملة شمسية فان أنت فتحت ما بقي من ديار بكر فنحن نرجع إلى طاعتك وان لم تقدر على فتح البلاد فلا طاعة لك علينا والسلام وارسل إلى عياض رجلا من متنصرة العرب من ربيعة الفرس وكان ذلك الرجل مدبر بلاد الهتاج هو وبنو عمه وكان اسمه مرهف بن واقد وكان ميله إلى العرب أكثر من الروم فلما أدى الرسالة إلى عياض أجابه إلى الصلح لئلا يطول مقامهم فلما هم مرهف بالرجوع قال لعياض أما والله أيها الأمير ما كنت بالذي أدع النصيحة للعرب وأستعملها للعلوج وهذا العلج قد اتفق رأيه على كذا وكذا فان كنت ترحل وتكمن لزوجته وتأخذها ومن معها وتطلب منه البلد فإنه يسلم لوقته فافعل فقال عياض ما كنا نقول قولا ولا نفي به ولعل الله ينظر إلى صدق نياتنا فيفتحه علينا
165

حدثني مالك بن بشر بن عامر وكان ممن حضر فتوح الشام وديار بكر وديار ربيعة قال بينما مرهف يحدث عياضا إذا بغبرة قد أقبلت فقال عياض لميسرة بن مسروق اركب وانظر ما هذه الغبرة فركب ومضى هو وجماعة من الصحابة وعاد ميسرة وهو يقول أبشر أيها الأمير بالفتح قال وما الخبر يا ابن مسروق قال هذا جيش ابن هبيرة المازني قد أغار على البلاد وأتى بالأموال والرجال قال فظهر البشر في وجه عياض وجعل يتطاول إلى قدوم ابن هبيرة المازني حتى وصل وسلم على عياض وعلى المسلمين وعرض عليه الغنائم ومرهف بن واقد يتأملها إلى أن عرضت عليه جارية رومية تخجل الشمس منها وعليها زي الملوك فأطرق المسلمون إلى الأرض يستعملون الأدب مع الله في قوله قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم فلما نظر إليها مرهف قال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله وأن دينكم الحق وقولكم الصدق فقال له عياض ما بالك أيها الرجل قال هذه زوجة يأنس صاحب الهتاج وقد طرحها الله في أيديكم فسجد عياض شكرا لله فلما رفع رأسه قال * (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب) *
قال الواقدي وكانت ميرونة قد خرجت من عند أهلها ومعها جماعة من بنات البطارقة فوافق طريق قيس بن هبيرة تلك الأرض فأخذها ومن معها وأتى بها إلى عياض فقال عياض لمرهف ارجع إلى يأنس واكتم اسلامك وأخبره بما رايت واستعمل النصح للمسلمين وقل له ان أراد أهله فليسلم لنا هذه القلعة ومهما أردنا منه قال فرجع مرهف إلى يأنس وحدثه بما جرى فعظم ذلك عليه وكبر لديه وقال لمرهف ما الذي ترى من الرأي قال اعلم أن هؤلاء القوم ما قالوا الا وفوا به وبذلك نصروا علينا ومن الرأي ان نسلم لهم القلعة ويعطوك زوجتك وجميع مالك وأنا الضامن لك منهم ذلك فقال يأنس انزل إليهم وائتني بعشرة رجال يحلفون لي على ما أريد فان أجابوني إلى ذلك سلمت إليهم القلعة ولا تأتني الا بمن يقبل قوله ويشكر فعله حتى أستوثق منهم لنفسي ولعله يكون الرجل الذي شاع ذكره بالشجاعة وفتح البلاد والشام يعني خالد بن الوليد وانما أراد الملعون ذلك حتى يقبض عليهم ويخلص بهم زوجته قال فنزل إلى عياض وأخبره بذلك وبما قاله يأنس فقال عياض يا مرهف يريد الملعون أن يخدعنا ونحن ثمرة الخداع ونرجو من الله أن يرجع مكره عليه ولديه ثم قرا أن الله لا يصلح عمل المفسدين قال خالد دعنا أيها الأمير نصعد اليه والله الموفق للصواب
فقال عياض اعزموا على بركة الله ولا حول ولا قوة الا بالله العلي
166

العظيم فنهض خالد والمقداد وعمار وسعيد بن زيد وعمرو بن معد يكرب والمسيب بن نجيبة وقيس بن هبيرة وميسرة وضرار بن الأزور وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم أجمعين وساروا ومرهف أمامهم إلى أن وصلوا باب القلعة وكان رتب عدو الله غلمانه في دركات القلعة وأمرهم أن يأخذوا منهم سلاحهم ففعلوا ذلك الا خالدا وعبد الرحمن وضرار فقالوا ما كنا نسلم عدتنا لغيرنا فان أراد ان ندخل عليه بسلاحنا والا رجعنا من حيث أتينا فدخل مرهف عليه وقال إن هؤلاء الثلاثة امتنعوا من اعطاء السلاح وما الذي يقدرون على أن يفعلوه دعهم يدخلوا كيف شاءوا فلو كانوا نارا ما أحرقوا ولا ترهم الجزع فيطمعوا فقال وحق المسيح لقد صدقت دعهم كلهم يدخلوا بعددهم حتى يعلموا اننا لا نخافهم ولا نرهبهم وأيضا لئلا تنفر قلوبهم منا فرجع مرهف وأمر الغلمان أن يردوا إليهم أسلحتهم ودخلوا فلما توسطوا القلعة إذا بيانس واقف فلما وقعت عينه عليهم دخل الرعب في قلبه لأن من خاف الله خاف منه كل شيء فجعل يهتز ويقع وكان قد قال لجماعته إذا رأيتموني قد قربت منهم وصافحتهم فدونكم وإياهم فنظر خالد إليهم فعلم ما في قلوبهم فقال له أيها البطريق قف مكانك فانا قوم لا نؤتي بحيلة ولا مكر لأنا قهرنا الملوك وأخذنا بلادهم بهذه الأشياء ثم إنه انتضى سيفه وزعق بيانس فادهشه وخيل له أن كل من في القلعة منهم وتقدم اليه وضربه على حبل عاتقه فأطلع السيف من علائقه فهجمت الصحابة على أهل القلعة ووضعوا السيف فيهم وتكاثر عليهم العدو وتزايد المدد قال وكان في داخل المدينة خلق من الرستاق من قرى الهتاج من فسطاس وقرساط وكان يأنس قد جمعهم لقتال المسلمين قال فلما قتل خالد يأنس ونظروا إلى صبر الصحابة على قتال أهل القلعة قالوا لبعضهم أنتم تعلمون أن العرب ما يسكتون عن أصحابهم وقد فتحوا آمد والبلاد فلا يمتنع منهم الهتاج وغيرها فخذوا لكم عند المسلمين يدا وقاتلوا معهم أهل القلعة قال ففعلوا ذلك وجردوا سيوفهم وضربوا معهم من كان في القلعة وسمع عياض الصياح
فقال أما والله ان خالدا ومن معه غدر بهم فبادروا إليهم أيها المجاهدون قال فبادر أبو الهول وأصحابه الأربعمائة وهم رجاله فتفرقوا في الجبل وقصدوا القلعة فمن انهزم
من الكفار وضعوا فيهم السيوف فما نجا منهم أحد ما وصل أبو الهول إلى القلعة الا وقد ملكها خالد واحتوى عليها وصعد عياض والمسلمون وأخذوا كل ما كان فيها وولى عليها مولاه سالما وجعل عنده مائة رجل وكتب إلى أهل فسطاس وفرساط ومن في القلعة أن لا يزنوا بامرأة ابدا وأشهد عليهم خالدا والمقداد وعمارا ومعاذا وشرحبيل وعبد الرحمن
167

بن أبي بكر الصديق وضرار وأطلق عياض الأسارى الذين أتى بهم قيس بن هبيرة وارتحل يطلب ميافارقين فلقيه في طريقه أهل تلك الجبال وأهل الجزيرة وقلب ومتنان وحزب الكلام فأعطاهم الأمان وضربت عليهم الجزية وردهم إلى بلاد وأتى إليهم أهل ميافارقين للقائهم وشكروهم على حسن سيرتهم وعدلهم وأخرجوا لهم الضيافات والعلوفات ونزل من جهة الميدان في سفح الجبل واقام بها عشرة أيام ثم جمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واستشارهم وقال إني عولت على المسير إلى ديار أرمينية والى أرزن الروم فأشيروا علي يرحمكم الله أي طريق نسلك فقال رجل من المعاهدين ممن هو أعرف الناس بتلك البلاد أيها الأمير أتأذن لي أن أتكلم فقال من كان له رأي فليتكلم فقال اعلم انك إذا قصدت بلاد أرمينية يطول مكثك فيها واعلم أن بالقرب منك حصنا منيعا يقال له حصن لغوب وغلب عليه اسم صاحبه وهو يطالقون بن كنعان ابن عيديوس له جيش عرمرم يزيد على ثلاثة آلاف فارس
ذكر فتح حصن لغوب ثم قال اعلم أيها الأمير ان تحت يده معاقل كثيرة وربما انه رحل ركابه من هنا فوقع بهذه البلاد وشن الغارات على أهلها ومن الرأي انك لو وجهت اليه جيشا لعل الله أن يفتح عليك فان أنت فتحت هذا الحصن مضيت حيث تريد وتكون طيب القلب على من تستخلفه من أصحابك فقال عياض لأصحابه ما تقولون فيما تكلم به هذا الرجل فقال خالد لقد تكلم بالحق ونطق بالصدق فاعزم وتوكل على الله ثم انصرفوا من عنده وبات ليلته متفكرا فيمن ينفذه إلى الحصن فوقع اختياره على يوقنا فدعا اليه وقال له يا يوقنا يا عبد الله قد اتفق الرأي عليك أن تمضي إلى الحصن فما الذي تراه فقال يوقنا اصلح الله الأمير قد بلغني أن الحصن منيع وربما إذا نزلنا عليه طال الأمر وتنفد المدة وينقضي هذا الوقت ولا ندري ما يكون ولكن أهب نفسي لله ولرسوله وآخذ مائة من بني عمي ونتزينا بزي الفلاحين ونأخذ نساءنا وأولادنا نتركهم على البقر وندخل في جملة أهل البلاد الفلاحين فان حصلنا في الحصن فنحن نملكه إن شاء الله تعالى فقال عياض يا عبد الله قد اشتهر أمرك عند جميع أهل النصرانية ونخاف أن تسير فتغرر بنفسك ومن معك فيقبض عليكم والله تعالى قال * (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) * قال فإذا أبيت لي أن أشن الغارات على بلاد القوم قال قد أذنت لك فخرج يوقنا ومن معه وهم ألف من قومه وساروا على أرزن وسرد وأسعرد وياباسا وحيزان والمعدن
168

قال الواقدي وكان من قضاء الله وقدره ان صاحب أسعرد وحيزان والمعدن وياتحلسا ويمهرد وطراجر وسلواس كان بينه وبين يطالقون حرب وكان يغير بعضهم على بعض وأخربوا المملكتين فلما انتشرت الأخبار بقدوم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وانهم على ميافارقين جفل أهل تلك البلاد وعلم بذلك حرسلو صاحب اسعرد وانه لا طاقة له بالعرب فأخذ هدية سنية وذهب بنفسه ليطالقون بن كنعان حتى يصطلح معه ويكونوا يدا واحدة على قتال المسلمين فبينما هو سائر والهدية معه وقد نزل على قرية اسمها أرغير وعلق على خيله وهو معول على المسير وهو ينتظر الخيل تقطع عليقها وإذ قد كبسهم يوقنا وقد أحاط بالقرية وأخذ كل من فيها وأسر البطريق ومن معه وبات ليلته فلما أصبح عرض الاسرى وقال لهم ان الله قد ظفرنا بكم ونصرنا عليكم واعلموا اني ملك من ملوك الروم ملكت البلاد وقدت الجيوش وأمرت ونهيت وعبدت الصليب وقربت القربان فلما أتى الله بهؤلاء القوم أخبرتهم ونظرت ما هم عليه فعلمت ان الحق معهم فتبعتهم وقلت بقولهم وقد كنا بالشام تفزع منا ملوك العجم وكسرى بن هرمز والديلم والترك وكان لنا كرة الأرض وكنا لا نلتفت إلى العرب حتى خرجوا علينا فأذاقونا مرا وذهبت شجاعتنا وملكوا معاقلنا وحصوننا واحتووا على ملكنا ونصرهم رب الأرض والسماء علينا لأنهم يشيرون اليه بالوحدانية فان آمنتم بالله وحده كان لكم الربح في الدنيا والآخرة وأطلق سراحكم وأن أبيتم قتلتم عن آخركم فقالوا اتركنا يومنا هذا إلى الليل ندبر أمرنا فتركهم واختلى بحرسلو البطريق وحدثه في السر وقال له اعمل في خلاص نفسك ورقبتك من النار وأسلم وفاد نفسك حتى تنال ما تريد فقد بلغني من الوقائع بينك وبين صاحب الحصن فقال البطريق لقد صدقت فمن أعلمك فقال له ما السبب في العداوة بينك وبينه
فقال إنه طلب أن يتزوج ابنتي وبعث إلي هدية فرددتها عليه فصار عدوي وأغار على بلادي وأغرت على بلاده والآن قدمت اليه بهدية حتى أكون أنا وإياه يدا واحدة فأتيت أنت إلي وأخذتني فقال يوقنا اني أريد لك من الخير ما أريد لنفسي ولست أجبرك على أن تترك دينك ولكن تعاهدني على أن لا تغدر وأنا أخلي سبيلك وتمضي إلى صاحب الحصن وتدني نفسك بين يديه وتقول أيها الصاحب قد ندمت على ما كان مني إذ رددتك عن تزويج ابنتك واني كنت أخذتها وزينتها وسقت معها أموالها على أني أهديها لك فلما كنت في قرية كذا وكذا خرج علي قوم من العرب فأخذوا المال والرجال وقد نجوت إليك بنفسي لتأخذ بيدي وتستنقذ ابنتي من العرب فإنه
169

إذا سمع دعاه الطمع واستجره الأمل حتى يخرج الينا ولعل الله تعالى أن يظفرنا به فإذا ملكنا الحصن إن شاء الله تعالى كنت أنت تبقى على بلادك وكنت آمنا مطمئنا واعلم أن ذمامي هو ذمام العرب ومهما فعلته امتثلوه وأمضوه فلما سمع البطريق كلام يوقنا قال أفعل ذلك ولكني أخاف من المسيح أن يغضب علي إذا خامرت على أهل ديني فقال يوقنا أنا أحمل هذه الأوزار عنك ودع عيسى بن مريم يطالبني يوم القيامة فقال البطريق ان كان هذا الذي قلته فأنا افعل وليس يصعب علي ولكني أخاف ان فعلت ذلك الذي أمرتني به أن لا ينزل من الحصن وربما بعث معي بعض أصحابه فلا يحصل طائل من عدوكم فقال يوقنا وما يكون التدبير فقال البطريق الرأي عندي غير هذا قال وما هو قال تذهب مع أصحابك جريدة بالخيل وأنا أكون معك فما نصبح الا ونحن على الحصن فإذا أشرفنا عليه تعطني جوادي وسلاحي واركض على فرسي في حال العجلة فاني أجده في الميدان مع أرباب دولته فإذا وقعت عيني عليه ترجلت وحثوت التراب على رأسي واصيح أيها الملك العرب قد أخذوا أصحابي وغلماني وما جاء معي برسمك فإذا قال وأين هم أقول على فرسخ من بلدك فإنه إذا سمع قولي لا يمكنه التأخير عن نصرتي ولا له الا السرعة إليكم واعلم أن أكثر جنده قد فرقهم على الحصون وما عنده الا ألف فارس أو أقل
قال فلما سمع يوقنا ذلك من قوله وثق به وبعث الأسرى إلى عياض فلما وصلوا اليه قال لهم ان أطلقتكم أتعرفون لنا ذلك قالوا نعم وكيف لا نعرفه فأطلقهم حتى تسمع أهل البلاد فينزلوا إلى طاعته وأما يوقنا فإنه سار جريدة بقية ليلته فما برق ضياء الفجر الا وقد أشرفوا على الحصن فعندها أطلق البطريق ووثق منه بالعهود وأعطاه جواده وسلاحه وسار كأنه قد أفلت نفسه وساق على على شوط واحد إلى الحصن وكان بالقضاء المقدر أنه وجد البطريق يطالقون قد عبر إلى جانب اسعرد ومعه ألف فارس والف راجل وكان السبب في ذلك أن قوما من أصحاب البطريق حرسلو كانوا في كنيسة يوقنا فأتوه وحدثوه بما تم عليهم من القوم فعبر لعله يستخلصهم من يد يوقنا فلما وصل اليه البطريق ترجل وصقع له وحدثه فرق له وقال كيف تخلصت قال خلصت يدي من الكتاف وركبت هذا الفرس فلما أحسوا بي ركبوا ورائي وها هم في اثري بالقرب من باياعا قال فلما سمع ذلك يطالقون بن كنعان أمر بالركوب وسار من وقته طالبا يوقنا وقال هذا الذي أردناه من أمر الجهاد قد قربه الله الينا فدونكم والقوم ولم يمهل بعضهم بعضا وتطاعنوا بالرماح وصبر يوقنا صبر الكرام
170

ووقع الصائح من كل جانب ونشرت أجنحتها النوائب واستعان أصحاب يوقنا برب المشارق والمفارب فبينما هم قد أشرفوا على المعاطب إذ أشرفت عليهم غرر الخيل وهم يتسابقون فنظر إليهم يوقنا وإذا هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم ثلاثة آلاف فارس يقدمهم خالد بن الوليد وكان السبب في قدومهم أن عياضا خاف على يوقنا وبني عمه فأرسل إليهم في أثرهم خالدا فوجدهم في القتال فأطلق عنانه وقال يا أهل الايمان وحملة القرآن دونكم وعبدة الصلبان ارفعوا أصواتكم بذكر ربكم قال ونظر يوقنا النصرة وقد أقبلت فعظم شأنه والتقى بصاحب الحصن وقد عرفه بزيه فتطاعنا طعنا كافيا وتضاربا ضربا شافيا شافيا الا أن يوقنا طعن صاحب الحصن فرماه إلى الأرض قتيلا وصنع فيهم خالد رضي الله عنه والصحابة رضي الله عنهم كما تصنع النار في الحطب ولما قتل يوقنا صاحب الحصن قطع رأسه وجعله على سنانه ونادى عمن تقاتلون وقد قتلنا صاحبكم فلما رأوا الرأس ولوا الادبار ومات أكثرهم وولى الباقون نحو الجبل ووقع الصائح في الحصون بأن يطالقون قد قتل فولوا الأدبار
قال الواقدي وكان ليطالقون زوجة عاقلة لبيبة صاحبة رأي وتدبير فلما رأت ما حل بزوجها وأن أهل الحصن قد قتل أكثرهم وتفرقوا بالهزيمة أيقنت بزوال ملكها وخراب بيتها فجمعت المشايخ وأرباب دولتها وقالت لهم اعلموا أن الملك قد قتل وقد تفرق شمل من كان معه وقد وصلكم ما صنع هؤلاء العرب مع ملوك دين النصرانية وبني ماء المعمودية وكيف ملكوا الشام وارض ربيعة وديار بكر وديار مصر وقد دانت لهم الأمور وانتشر شرعهم وعلا ذكرهم ودخل في دينهم الملوك والبطارقة وما نزلوا على حصن الا ملكوه ولا وافوا جيشا الا هزموه وقد دخلوا أرضكم وحلوا ساحتكم فما ترون من الرأي الرشيد قالوا أيتها الملكة ما تكلمت بشيء الا فهمناه وعرفناه والامر إليك فقالت الصواب انكم تحقنون دماءكم وتصونون حريمكم وأموالكم وتدخلون فيما دخل فيه أهل البلاد وتصالحون العرب فتأمنون على أنفسكم وتعيشون في ظلهم فقالوا هذا هو الصواب قالت فلينطلق منكم رجال إلى هؤلاء العرب ويعقدوا لنا منهم صلحا قال فخرجوا من عندها وسار منهم ثلاثون رجلا من خيارهم وعبروا الشط إلى عسكر خالد فلما رآهم خالد والمسلمون علموا أنهم من أهل الحصن فاستقبلوهم وسلموا عليهم ورحبوا بهم ومشوا معهم إلى قبة خالد وإذا هو جالس على التراب ووجوه أصحابه حوله وهم يكثرون من ذكر الله وليس لهم حاجب ولا بواب فسلموا عليهم فقرأ خالد * (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها) *
171

فتقدم كبراؤهم وعلماؤهم في دينهم وقالوا أيكم الأمير حتى نخاطبه
فقالوا ليس فينا أمير ولا من يلحظ أخاه بعين الذل لأن الاسلام شملنا والدين جمعنا ونحن عباد الله فلما سمع القوم ذلك قالوا بأجمعهم والله ما نصركم الله علينا الا باتباع نبيكم وقال خالد كم تبذلون لنا من المال فقالوا مهما أردتم امتثلناه فقالوا انا لا نريد الا ما ترضى به أهل الذمة الذين في البلد حتى تطيب قلوبهم ومن لا يرحم لا يرحم ولقد سمعت نبينا صلى الله عليه وسلم يقول
لا تنزع الرحمة من قلب شقى قال فلما سمع القوم ذلك تهللت وجوههم فرحا وقالوا لقد نصركم الله بحق وما نرى دينكم الا حقا فاسلموا عن آخرهم وعادوا إلى قومهم واجتمعوا في كنيستهم وحدثوهم بما كان وبما رأوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسن سيرتهم فقال أهل البلد ما كنا بالذين نرفع أنفسنا عليكم لأنكم أولو الرأي والدين وقد رضينا بما رضيتم به لأنفسكم فاسلموا الا قليلا منهم وأما الملكة لما سمعت ذلك طاب قلبها وبعثت بالإقامة والعلوفة إلى خالد وسألته أن يعبروا إلى جانبهم ونصبت لهم الجسر فعبر خالد ومن معه ونزلوا بالبيعة بحيث أن الملكة تشرف عليهم وتنظر إليهم فرأت أقواما قد طلقوا الدنيا وطلبوا الآخرة وليس فيهم من ينهر ولا يسفه ولا يخالف أخاه قد اشتغلوا بالذكر وتوحشوا بالصبر فلما نظرت إلى حسن عبادتهم نزلت إليهم وأسلمت على أيديهم فقال خالد تقبل الله منك ورضى عنك فالزمي قلعتك فلا سبيل لاحد عليك ونظر يوقنا إليها فقال وددت لو كانت هذه أهلي فأنفذ خالد يشاورها فأجابت إلى ذلك وبعث خالد إلى عياض يشاوره فبعث اليه الجواب بأن زوجه ولا تترك من بلاد الحصن مكانا الا وتنزل فيه
ذكر فتح طنز ويمهرد وأسعرد
قال فعول على العبور إلى جانب أسعرد ويمهرد إذ قدم عليه أهل حصن طنز للصلح وأن يكونوا طوعا للمسلمين فقال خالد من أسلم منكم قبلناه وكان له ما لنا وعليه ما علينا ومن بقي على دينه كانت عليه الجزية من العام القابل فأجابوه إلى ذلك فكتب لهم عهدا وعبر إلى طنز ويمهرد واسعرد والمعدن وأرزن وقرروا صلحا ورضوا به قال وانقضت عدة صاحبة الحصن وهي جانوسة وتزوجها يوقنا ولحق خالد بعياض فوجده على سوقاريا وهي مدينة جالوت فلما وصل خالد اليه اسلم الناس بعضهم على بعض وأقاموا هناك خمسة أيام وعولوا أن يسيروا إلى بدليس وأخلاط وإذ قد جاءهم الخبر أن طاريون ابنة الملك وهي زوجة الغلام يرغون الذي فتح كفرتوتا وكان من أمرها ما ذكرناه قد هربت إلى أبيها ورجعت إلى دينها
172

قال فصعب ذلك عليهم
قال الواقدي حدثني محمد بن يونس قال حدثني إسماعيل عن قيس قال إن طاريون لم تتنصر ولا عادت عن الاسلام وانما مضت إلى أبيها لتدبر عليه حيلة وتسلم البلد للمسلمين لأنها أرادت أن تصنع كما صنع زوجها يرغون بكفرتوتا فاتفق رأيها ورأى زوجها على ذلك فقال يرغون أما أنا فلا أتبعك لأنني أفزع من أبيك أن يقبض علي فقالت له الزم مكانك ولبست ثيابها وعولت على المسير وجعلت غلمانها في محل خلوة وقالت لهم اعلموا أني قد عزمت على أمر أفعله وأنا أبوح به إليكم قالوا أيتها الملكة ما على العبد الا الطاعة لمولاه فأوقفينا على سرك قالت لهم اعلموا اني كرهت المقام بين هؤلاء العرب وأيضا قد اشتقت إلى وطني وعولت على أن أخرج بكم إلى الصيد في الجبل فإذا جن الليل طلبنا أرضنا فلما سمعوا قولها فرحوا وقالوا نعم الرأي فقالت اني لست أكرهكم فمن كان له رغبة أن يلبث ههنا وهو مائل إلى هذا الدين فليقم غير ملوم ومن أراد الرجوع إلى وطنه فليعزم معي فاني أمضي في هذه الليلة وحق ما أسير اليه لئن بلغني أن أحدا منكم افشى سري إلى يرغون أو غيره من الناس لأضربن عنقه فمن كان عازما على صحبتي فليتبعني فأجابوها إلى ذلك فلما جن الليل ودعت يرغون وخرجت ومعها اثنا عشر نفرا كانوا لا يرتدون الإسلام وكان لها بكفر توتا اثنا عشر غلاما قد رسخ الاسلام في قلوبهم وأحبوا المسلمين قال وسارت نحو الجبل ومضت إلى أن تركت أرزن خلف ظهرها وأشرفت على بدليس فنزل صاحبها إليها وقدم لها إقامة وعلوفة وأقامت هناك بقية يومها
ذكر فتوح بدليس وارزن وأعمالها
وكان من قضاء الله السابق وقدره ان عياضا لما نزل على سوقاريا ولحق به خالد ومن معه ولحقهم يوقنا فرح المسلمون بسلامتهم وحدثه بما جرى فسجد لله شكرا ثم بعث يوقنا رسولا إلى صاحب بدليس وكانت أرزن وبدليس وقف وأنظر وغيرها من القلاع لبطريق اسمه سروند بن بولص والجارية طاريون نازلة هناك وسروند عندها فلما علموا بقدوم يوقنا رهبوا إلى لقياه واختلت به طاريون وقالت له يا عم لا تظن اني هاربة ولا إلى الروم طالبة وانما أريد أن أنصح لله ولرسوله وللمسلمين وأريد أن أغدر بأبي وأقتله واسلم معاقله للمسلمين لكن يا عم أشر علي بما أصنع فأنت تعلم أن هذا الدرب لبدليس وأخلاط وعليه قلعة قف وأنظر وإذا أرادت العرب العبور فليس لهم قدرة فما الذي تراه وأخاف أن حصلت
173

عند أبي أن لا أقدر على الرجوع إلى بعلي والى المسلمين فقال لها يوقنا اعلمي انك إذا سرت بهذه النية فان الله جل وعلا يفتح عليك أبواب الخير وأمضى على ما أنت عليه وأنا لا بد لي أن أمضي برسالة الأمير عياض إلى أبيك وها أنا ابكر فإذا حصلنا هناك كان لنا من التدبير ما يريده الله ونصل إن شاء الله إلى ما نريد وعلمها ما تصنع وودعته وعادت فقالت إن هذا العديم العقل يلح علي ويعذلني لأجل أن ارجع وأعود عما عزمت عليه من الرجوع إلى دين المسيح ولولا أنني أخاف ممن معه ومن صاحب هذا الحصن أن يعينه علينا لكنت قبضت عليه ثم إنها ركبت وسارت تجد السير وأرسلت بعض غلمانها يبشر أباها بقدومها فلما وصل البشير ارتجت المدينة وركب أبوها والبطارقة وأهل البلد لملتقاها فلقوها عند خضريا فلما رأت أباها ترجلت وترجل أبوها والعسكر جميعه وصقعوا بين يديها وضمها أبوها إلى صدره وقال لها يا بنتي كيف كان أمرك
قالت إن يرغون نصب علي ووصل بي إلى عسكر المسلمين وأسلم فلم يمكنني الا أن أطاوعه خيفة منهم إلى أن دخلوا ديار بكر فهربت إليك فصلب أبوها على وجهه وهنأها بالسلامة وركب وساروا والمواكب حولهم إلى أن دخلت البلد ودخلت دار المملكة فتلقاها الجواري والخدم وصقعوا لها وبكوا وبكت وأخرجت الصدقات والنذور للبيع والكنائس وباتت تحدثهم بما جرى لها وحديث شهرياض وكيف أخذت راس العين فقال أبوها يا بنية كيف رأيتيهم في دينهم قالت أيها الملك القوم يتظاهرون بالدين وانهم يطلبون الدين والعدل حتى يرجع الناس إليهم وليس والله دين أفضل من دين المسيح وقد نذرت نذرا متى خلصت من يد العرب أن لا أقرب قربانا ولا أشرب خمرا ولا آكل لحم خنزير ولا أنغمس في ماء المعمودية حتى أتعبد في بيعة يوحنا شهرين كاملين فإذا أنا تطهرت من دينهم أقرب القربان وأقبل الصلبان ففرح أبوها بذلك فلما كان الغد مضت إلى البيعة وأخلت لها موضعا وجعلت تتصدق على الفقراء وتظهر النسك والعبادة وأقامت تنتظر ما وعدها به يوقنا من القدوم بالرسالة إلى أبيها
قال الواقدي حدثنا أبو محمد قال حدثني من أثق به عن قيس ابن هبيرة قال كنت من أصحاب يوقنا حين سار بالرسالة إلى بدليس وتحدث مع طاريون وأنفذ صاحب بدليس اليه وكان لما بلغه قدوم يوقنا صعد إلى حصنه فاستحضره وأنا معه فوجدناه على سرير مملكته فسلمنا عليه فقال يوقنا ان أمير جيوش المسلمين بأرض ربيعة وهو عياض ابن غنم قد أرسلنا إليك ندعوك إلى توحيد الله ورسالة نبيه ولكم ما لنا وعليكم ما علينا واعتبر
174

بمن تقدم من الملوك وأصحاب الأقاليم والعز فقد أصبحوا هالكين فما جوابك فقال أيها السيد اني قد كنت أردت أن أرسل رسولا إلى أميركم في طلب الصلح وأعطيه شيئا وان أبقى على ديني ومن أراد من أهل بلدي أن يرجع إلى دين القوم فلست أمنعه فقال يوقنا بكم يطيب قلبك أن تدفع في صلحك على بدليس وأرزن وما تحت يدك من البلاد فاني إذا أمضيت لك الصلح فقد رضيت به العرب فقال أيها السيد أعطيهم مائة ألف دينار وخمسمائة زردية وألف قوس وأن لا يولي على مملكتي غيري حتى أموت وأن لا يبقى من قبلهم الا رجل أو رجلان حتى يعلموا من أسلم شرائع الاسلام وأن يكون أمري نافذا في مملكتي ومن أسلم يكون أمره لمن يكون عندنا من قبلكم وما يكون لي عليهم حكم فقال يوقنا قد أمضينا صلحك وأتممنا عهدك وانا أعطيناك عهد الله ورسوله على ما ذكرته قال وأعطاه عهد الله ورسوله وهادنه على الهيئة التي هادن رسول الله صلى الله عليه وسلم هرقل ملك الروم وحلف له عن المسلمين كلهم قال وان قيسا ذهب إلى عياض فاعلمه بما استقر بينهم فلما وصل كتاب يوقنا إلى عياض رحل من مكانه إلى أن نزل على بدليس فوجد البطريق قد أخرج ما وقع عليه الصلح فلما قدم عياض نزل اليه البطريق وتلقاهم وحياهم بأحسن تحية وأنزلهم في أحسن منزل وقدم لهم الأموال وكتبوا بذلك عهدا
قال ونظر المسلمون من أهل اليمن وبادية العرب إلى البنات وحسنهن فمالت أنفسهم إليهن وشرب أكثرهم الخمر فلما رأى عياض ذلك صعب عليه فأمر أن يؤتوه بمن فعل
ذلك فأقام عليهم الحد وأخذ منهم حق الله وقال لهم أكفر بعد ايمان أبهذا أمرتم أم لهذه خلقتم أما سمعتم ما قال من أمره بين الكاف والنون قال فتابوا بأجمعهم فلما جن الليل اجتمع يوقنا بعياض وحدثه بأمر طاريون وما واققته عليه وانها قد وهبت نفسها لله تعالى ومضت تدبر كيف تعمل في تسليم البلد للمسلمين واني وعدتها أن أسير إليها وأعينها على ذلك فقال عياض إذا كان الامر كذلك فيجب علينا أن نطلع عليه خالدا وأصحابه فقال يوقنا افعل ما فيه الصواب فأرسل إلى خالد ومعاذ وقيس والمسيب بن نجيبة وعمرو بن معديكرب وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وحدثهم بالحديث وقال لهم ما ترون من الرأي
ذكر فتح أرمينية وأخلاط وقف وأنظر
قال خالد أصلح الله الأمير إذا كان الامر كذلك فابعث يوقنا رسولا ونحن معه فإذا حصلنا هناك يفعل الله ما يريد والحاضر يرى ما لا يراه الغائب
175

قال فسيروا على بركة الله تعالى فتأهبوا وساروا وسار مع يوقنا خمسة وثلاثون من الصحابة وعشرون من أصحاب يوقنا فلما وصلوا أخلاط ونظرت إليهم الروم والأرمن علموا انهم رسل فأعلموا بذلك الملك وأنهم رسل من العرب فأمر بإحضارهم فأتتهم الحجاب إلى باب رومية وهو باب بدليس فرأوهم على خيولهم فقالوا لهم ادخلوا فأخذوهم إلى دار الامارة وأعلموا الملك بوسطيرس بذلك فأمر باحضارهم فلما توسطوا الدهليز أراد الغلمان أن يأخذوا أسلحتهم
فقال خالد انا قوم لا نسلم سيوفنا لغيرنا وان الله بعث نبينا بالسيف وقد قلدنا إياه ولسنا نزيل ما خصنا الله ورسوله به فدخل الحجاب وأعلموا الملك بما قال خالد فقال الملك دعوهم يدخلوا كيف شاءوا لئلا يظنوا اننا نخافهم وانما ذاك ناموس الملك فدخلوا بهم فلما رآهم وسلموا عليه جلسوا على الأرض كأنهم السباع وكل منهم قد جعل يده على مقبض سيفه وقد بلغ الملك ما هم عليه من الدين والزهد في الدنيا فأوصى أصحابه أن لا يأمروهم بأن يصقعوا له فإنهم لا يجيبونهم لذلك قال فلما استقر بهم الجلوس قال لهم ترجمانه يا هؤلاء بم أتيتم الينا فقال يوقنا ان أمير جيوش المسلمين بأرض بدليس قد بعثنا إليكم رسلا ندعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله أو تدخلوا فيما دخل فيه الناس وتؤدوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون فأعلم الترجمان الملك بما قاله يوقنا حدثنا قدامة انه لم يكن بينهم ترجمان وانما كان المتكلم يوقنا بالرومية وهو لسان القوم
قال الراوي حدثني من أثق به قال كان الترجمان بينهم لان الملك أرمني لا يفهم الا بلسان الأرمن ويوقنا كان روميا لا يفهم لسانا آخر فلما بلغه الترجمان غضب وقال وحق المسيح والإنجيل لا نعطيهم ولا ندخل في دينهم أو نموت عن آخرنا ولا يحسبوا أننا مثل من لاقوا من جيوش الروم ولنا الشدة والبأس والقوة والمراس ونحن نرمي عن الأقواس بالنشاب والعرب تسميه قاطع الشهوات والأسباب وأنا أبعث إلى صاحب خو وسلوس واستنصر عليهم باسراغوص ملك المرج ونردهم على أعقابهم ونستخلص منهم البلاد وليس عندنا جواب غير هذا قال فبلغهم الترجمان ما قاله فقال يوقنا ليأذن لنا بالانصراف لنعلم صاحبنا بهذا الجواب فقال الملك بيتوا عندنا هذه الليلة وفي غد تنصرفون وأمر بهم أن ينزلوا في المكان الفلاني فخرجوا من عنده إلى المكان الذي أمر به فنزلوا به ينتظرون ما يكون
176

من الجارية طاريون قال ولما خرج الصحابة من عنده ركب من وقته إلى بيعة يوحنا واجتمع بابنته وقال لها ان العرب قد وجهوا إلي رسولا ومعه جماعة وقالوا لي كذا وكذا وأجبتهم بكذا وكذا فما ترين من الرأي فقالت أيها الملك اين هم قال عوقتهم هذه الليلة حتى أشاورك في أمرهم فقالت أريد أن أنظر من هم فإنه لا يخفى علي أمرهم فان كانوا من وجوه العرب النافذ أمرهم فامرني أن أتحدث معهم وأطيب قلبهم بأنك تصالحهم وأطمعهم بذلك فإذا اطمأنوا بذلك أمرتك بالقبض عليهم واتركهم عندك حتى لا يكون لهم خلاص فإذا قبضت عليهم ترسل إلى صاحبهم تقول له متى تقدمت الينا مرحلة واحدة بعثت إليك برؤوسهم فإذا سمع ذلك لا يتقدم ويقع الصلح على أن نسلم اليه أصحابه وينصرك المسيح ويطول عمرك ويرفع قدرك وينصرفون عنك وما ثم رأي أوفق من هذا فقال لها يا بنية المسيح يطيل عمرك ويرفع قدرك فقومي إليهم ودعي هذه البيعة والزمي البيعة التي في دارنا فإنك كلما أقمت ههنا كان أخوف بنا وان كان مقصودك العبادة ففي أي مكان كنت فيه فان لك معبدا فلما سمعت قوله قالت لست أبرح من ههنا حتى يأمرني بترك هذا المكان فأرسل الملك وراء البترك فلما حضر قام الملك له وعظمه وأجلسه إلى جانبه وحدثه بقصة ابنته
فقال البترك قد أذنت لك أن تتعبدي حيث شئت وقد استوهبت ذنوبك مع المسيح وغفر لك قال فصلبت وجهها ودعت له وقدموا لها بعض مراكب أبيها فركبت ومضت إلى المكان الذي فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يدخل فيه سواها وأبيها الملك فلما رأت يوقنا فرحت واستبشرت وقالت له أيها السيد ان أبي جاهل بكم غير عارف بقولكم وسوف أكشف له عن أموركم وحق ديني ما رأيت منكم الا خيرا وسوف أجازيكم على ذلك ولولا محبة الأهل والوطن ودين المسيح ما كنت فارقتكم وخرجت هي وأبوها ومضت إلى القصر وقالت له ابشر بما يسرك هؤلاء وجوه القوم وساداتهم والذي عليه زي الروم هذا يوقنا بطريق حلب الذي طرده المسيح عن بابه والرأي عندي أن نطلبهم عندنا إلى هذا القصر ونقبض عليهم بحيث لا يقف أحد على سرنا قال ففرح أبوها بقولها وبعث حاجبه إلى الصحابة فأتى بهم وأنزلهم بعض حجر القصر
قال الواقدي وكان عمال أبيها من البطارقة والمقدمين على القلاع قد أتوا يهنئون أباها برجوعها إلى دين المسيح فقالت طاريون من الصواب أن نمضي أنا وأنت إلى هؤلاء العرب ونجلس عندهم ونأكل معهم حتى يطمئنوا الينا وأقول لهم اني أريد أن أشاور أهل بلدي وأرباب دولتي فاما أن
177

نصالحكم ونؤدي إليكم الجزية أو نقاتلكم ونبعث إليهم طعاما مبنجا فإذا أكلوه وحكم فيهم البنج قبضنا عليهم ونفعل بهم ما نريد وأشير به عليك قال فلما جن الليل أتت هي وأبوها عندهم وتحدثوا ساعة ومضوا فلما كان الغد جلس أبوها على سريره وعلمت أبنته انه اشتغل بما هو فيه فأتت طاريون إلى الصحابة وقالت لهم إذا جئت الليلة أنا وأبي فدونكم وإياه لا تمهلوه فقد اتفق رايه على كذا وكذا فشكروها على فعلها ومضت عنهم فلما كان الليل جاءت ومعها أبوها وتقدمت كأنها تحجبه وأشارت إليهم بأن لا تعجلوا وأمهلوه فامسكوا عنه وتحدثوا ساعة وخرجا من عندهم فلما خلا مع ابنته قال لها أما قولك نقبض على هؤلاء العرب فليس بصواب وإني أريد أن أجمع بطارقتي
وولاة أمري من الحصون والقلاع وآخذ لك عليهم عهدا أن لا يخامروا عليك أبدا وان يطيعوك وأرسل المال والذخائر وما نخاف عليه إلى قلعة يرقبوس فإنه أمنع قلاع الأرض
قال الواقدي وهذه القلعة التي ذكرت في وسط بحيرة أرجيس لا سبيل لاحد عليها قال لها وإذا وليتك عليها أطلق هؤلاء العرب فإنه ما سبقني أحد من الملوك إلى قبض الرسل وأيضا يتحدث عني اني فزعت من العرب وقد عولت على لقائهم فان نصرت عليهم فذاك هو المراد وان نصروا علي فلي أسوة بأمثالي من الملوك وقد أرسلت إلى الملك درفشيل صاحب أرزن الروم بأن يأتي إلي بجنوده وعدته وعدده ووعدته أن أزوجه بأختك فاورثه فما ترين من الرأي قالت له أيها الملك إذا عزمت على هذا الامر فلا تترك هؤلاء يمضون حتى يجتمع العسكر ويقدم الملك درفشيل بجيشه ولا يتخلف عنك أحد وبعد ذلك اترك هؤلاء فإذا ساروا إلى صاحبهم فسر أنت في أثرهم بالجيوش وأكبس عسكرهم
فقال يا بنية ليس من الرأي أن نطلقهم من أيدينا بل نبعث إلى صاحبهم نقول له انهم مكرمون عندنا وقد رأينا أننا في يوم عيد ندبر فيه أمرنا فاما أن نصالحكم بأداء الجزية واما أن نقاتلكم والله ينصر من يشاء ونأمرهم أن ينزلوا في مرج بطان فإنه مرج واسع يصلح لملتقى العساكر ونضرب معهم مصفا ونحن أخبر منهم بالبلاد ونمسك عليهم الدروب فما ينجو منهم أحد ونسير إلى ديار بكر فنملكها ونأخذ ارض ربيعة ولا يبقى في هذه البلاد ملك سوانا فقالت له طاريون افعل ما تشاء وتركته وانصرفت إلى مكانها فلما عرفت أن أباها قد أغلق أبوابه أتت إلى الصحابة وعرفتهم بما قال أبوها فقال خالد الله يسر لنا الامر من غير تعب وإذا أراد الله أمرا هيأ أسبابه فقال يوقنا وكيف ذلك يا صاحب رسول الله فقال خالد نعم نحن أمورنا بحمد الله منوطة
178

بالنصر وقد كفانا كل أمر واعلموا أن هذا الرجل قد عول أن يبعث ليجمع ملوكه وجيوشهم ويحرضهم على قتالنا والصواب أننا نصبر حتى يجتمعوا فقالت طاريون لقد نطقت بالصواب يا صاحب رسول الله ووفقت ولعل أن يحصلوا كلهم في أيديكم إن شاء الله فان أبي لا يقدر أن يوليني الا في البيعة بحضرة أصحاب القلاع والحصون ويأخذ لي عليهم العهد وبعد ما يفعلون ذلك تثورون عليهم إن شاء الله ولعل أن يكون في جملتهم صاحب أرزن ونرسل العبد الصالح يوقنا بزي صاحب أرزن فلعله يملكها إن شاء الله تعالى ونكون ظفرنا بالأرب وخرجت من عندهم
قال الواقدي حدثنا صالح بن عمران عن عبد الرحمن بن الحسن عمن حدثه قالوا جميعا أو من قال منهم انه لما أتفق الرأي من الملك صاحب خلاط على ما ذكرنا وأصبح الصباح أرسل وراء صاحب أعماله وولاة الحصون أن يحضروا عنده فأتوا بأجمعهم ولم يتخلف منهم أحد وأتى درفشيل من أرزق ومعه عسكره وكان اجتماعهم في ليالي عيدهم الكبير فزينوا البيعة وجاءت القسوس والرهبان من كل مكان ودخلوا البيعة وصلوا وقربوا القربان فلما فرغوا من قربانهم وصلاتهم جلس الملك على سريره وابنته واقفه عن يمينه فقال للملوك والبطارقة اعلموا انني ما جمعتكم الا لامر أعرضه عليكم وفيه سداد أمركم وملككم ودينكم وقد عولت على انني أولي أمركم الملكة طاريون فإنها كما علمتم من أصحاب العقل والرأي والتدبير في الحرب والشجاعة والبراعة فان قضى علي فإنها تكون مالكة فما تقولون فقاموا بأجمعهم وصقعوا له وقالوا نعم الرأي الذي رايته أيها الملك فانجز أمرك فعندها وثب قائما وأزال التاج عن رأسه ووضعه على رأس طاريون وأمسك بيدها وأجلسها على السرير ووقف عن يمينها كأنه حاجب ووقف صاحب أرزن عن يسارها وصعقت لها الملوك وبايعوها وتقدمت القسوس والرهبان وأخذوا لها عليهم العهد والميثاق وأجابوا بالسمع والطاعة وبعدها زوجوا أخت طاريون بولد صاحب أرزن وخرجوا من البيعة في خدمة طاريون إلى قصر الملك وأكلوا السماط وخلعت عليهم وزينت المدينة وضربوا خيامهم بظاهر البلد وعولوا على قتال المسلمين
قال الواقدي حدثني إسرائيل بن إسحاق عن أبي الأحوص قال بلغني ان عياض بن غنم لما وجه خالدا إلى مدينة أرمينية وهي أخلاط واستبطأهم ساءت به الظنون فيهم فارتحل من بدليس إلى أرض أرزن ونزل بالمرج ووجه عيونه إلى خلاط فغابوا عنه أياما وعادوا اليه وأخبروه أن الملك قد ولى ابنته طاريون على المملكة وقد عقد لها التاج على رأسها وبايعها الملوك وزينوا المملكة من أجل ذلك وقدم صاحب أرزن الروم وزوج أخت الملكة لابنه وان القوم قد
179

عولوا على لقائكم فلما سمع عياض ذلك قال لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم غدروا أصحابنا فقال المسلمون كيف ذلك يا صاحب رسول الله قال لان أصحابنا مضوا لامر يرومونه وقد وفد عليهم فقالوا ثق بالله وتوكل عليه وأقام عياض على المرج عشرة أيام وحصل له مرض على أمر الصحابة فأتته الناس يعودونه فقال إذا أراد الله بعبده خيرا زاره الناس
قال الواقدي وعوفى عياض فبينما هو قد ركب مع وجوه الصحابة وهم يسيرون وقلبه مشغول من قبل خالد ومن معه وإذ قد أتاه سعيد بن زيد وهو ينادي الوحا الوحا العجل العجل فأسرع اليه عياض وقال ما بك يا ابن زيد يرحمك الله فقال ألحق خالدا ومن معه فقد وقعوا في بحر اللجاج وهم في وسطه فلما سمع عياض ذلك قال وكيف قال إن طاريون لما ولاها أبوها الملك وجعل العهد لها ظفرت بابيها فقتلته وبعثت وراء الملوك على لسان أبيها فلما جاءوا إليها قتلتهم وان بعض غلمانها اطلع على سرها فمضى إلى بقية البطارقة والولاة فأخبرهم بما صنعت فلبسوا السلاح وقعدوا على أهبة فلما كان بالأمس ركبت هي في جيش أبيها إلى الميدان وركبنا نحن لركوبها فما علمنا الا والقوم قد أطبقوا علينا وقالوا لنا أظننتم أن المسيح غفل عن أمركم وانه لا يؤاخذكم بذنوبكم وقد أمكن الصليب منكم وهموا بأخذنا فقاتلناهم قتالا شديدا ما سمع أحد بمثله وملأنا الأرض من قتلاهم فلما جن الليل وضعت الحرب أوزارها وانفصل الجيش مع صاحب أرزن الروم وبقي مع الجارية نفر يسير من غلمانها وغلمان أبيها فأفاضت عليهم الخلع والنعم وبعثت إلى الأرمن تقول لهم أنما فعلت ذلك شفقة عليكم وصونا لحريمكم لأنهم أرادوا أن يقبضوا على هؤلاء العرب ويقتلوهم فكان أصحابهم لا يتركون منكم مخبرا فلما بلغهم ذلك قال العقلاء منهم والله لقد فعلت معنا كل خير وأجابها من القوم خمسة آلاف رجل واني تركت المصف وجئت إليكم مستنفرا فلما
سمع عياض كلام سعيد أمر الناس بالرحيل وسار سيرا خفيفا وخببا إلى أن أشرفوا عليهم وإذا بالحرب قد قامت على ساقها فكبر عياض ومن معه فارتجت منهم تلك الأرض والجبال وحملوا وكان خالدا وأصحابه قد أرضوا الله بقتالهم فقاتلوا قتالا ما سمع على وجه الأرض بمثله ولم يزالوا كذلك حتى انقشع الغبار وانفصل القتار وافتقدوا من قتل فوجدوا من قتل من بادية الاعراب مائة وعشرين رجلا وافتقد معاذ ابن جبل ولده فلم يجده فلما جن الليل دخل ومعه رجال من المسلمين إلى المعمعة فوجدوه يجود بنفسه وقد ناله جراحات فحملوه إلى رحله وجلس أبوه عند رأسه فقال عبد الرحمن بن غنم أخو عياض لما رأيته يجود بنفسه بكيت وانتحبت فقال له مه وهذه
180

الغزوة أحب إلي من كل غزوة غزوتها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال له يا بني ستلقي ربك وكان لما أذن المؤذن للظهر فما انصرف العسكر من صلاتهم الا وقد كفنه في دراعته وهو متضمخ بدمائه فجاءه الناس فوجدوه قد دفنه فقالوا له يرحمك الله هلا كنت انتظرتنا حتى نحضر جنازته قال ليس ذلك من السنة وان ذلك فعل الجاهلية وقد كنا نشتهي ان نبطىء بموتانا ولكنا أمرنا بانجاز موتانا فلما دفنه في القبر ورجع إلى رحله غسل رأسه ولحيته واكتحل ولبس برديه وأتى إلى خيمة عياض وهو يكثر من الابتسام والتكبير وليس به الا ما يسليه عن ذلك وقال هنيئا لك يا ولدي فقال له عبد الرحمن وماذا قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
من مات له ابن وكان به ضنينا وكان عليه عزيزا فحسن عليه عزاؤه ولم يرمنه شيء في قضاء الله الا غفر له وللميت وأبداله دارا خيرا من داره وأهلا خيرا من أهله وزوجه الله من الحور العين ولما طلع النهار ركب المسلمون وطلبوا الجهاد وإذا بخيل قد أتت وعليها فرسان بغير سلاح فلما قربوا منهم ترجلوا وقصدوا الأمير فابتدر إليهم يوقنا وقال لهم من أنتم قالوا نحن أصحاب ارزن الروم وهذا مقدمنا وأشاروا إلى شيخ منهم حسن الشيبة فراطنه يوقنا فقال ان الله دلني عليكم وبت الليلة على نية القتال فرأيت المسيح بن مريم في النوم وهو يأمرني باتباع محمد وقال لي أن نبي هؤلاء العرب هو الذي بشرت به فمن عدل عنه فليس مني فلما سمع يوقنا قوله ترجل هو وجميع من كان معه ومشوا معه إلى عياض وحدثه بجميع ما جرى فقام له وصافحه هو والمسلمون وحدث عياضا بما حدث يوقنا ثم أسلم هو ومن معه ففرحت بذلك الجارية طاريون وسلمت اليه أختها وسار بها إلى أرزن الروم وأرسلوا معه عشرة من المسلمين ليدعوا أرزن الروم إلى الاسلام ويعلموهم شرائع الدين
قال الواقدي وهم رواحة بن عبد الله وسلامة بن عدي والمرقال بن الأكوع وابن خويلد وجرير بن صاعد وعبد الله بن صبرة وسهل بن سعد ومصعب بن ثابت وحازم بن معمر وأبو نمير بن بشار قال وودع درفشيل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتحل والعشرة معه حتى وصل أرزن الروم ففرح أهل المدينة بهم وخرجوا للقائهم فلما استقر الملك في مجلسه طلب أكابر الناس وحدثهم بما رآه وعرض عليهم الاسلام فأسلم أكثرهم وأقبل العشرة يعلمونهم شرائع الاسلام والقرآن قال وسلم القلاع والحصون التي كانت لاخلاط المسلمين فمنهم من أسلم ومنهم من أقام على أداء الجزية من عامهم الآتي وبعث عياض إلى خوى وسلواس وما يلي تلك الأرض فأسلم
181

أهلها الا القليل وبعث من المسلمين رجالا يعلمونهم الشرائع وأقر طاريون على أخلاط والله تعالى هو الموفق للصواب واليه المرجع والمآب
ذكر فتح أرزن وأسعرد وجبل مارون
قال الواقدي قال عبد الله بن عقيل الجعدي عن أبي إسحاق الهمداني قالوا جمعا وفرادي أو من قال منهم انه لما فتح الله ديار بكر وأرمينية واخلاط على المسلمين على يدي عياض ابن غنم بعد فتوح أرض ربيعة أرسل وراء الغلام يرغون في كفرتوتا فلما قدم عليه قلده أمر أرمينية وأخلاط له ولزوجته طاريون وأخذ عليهما موثقا من الله أن يعاملا الناس بالعدل وأن يتبعا الشريعة وأن يأمرا بما امر الله ورسوله فقبلا ذلك وارتحل عياض من أرض أرمينية بعد أن بعث أفلح مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع مائة رجل إلى بلاد العراق حتى يدعوا أهلها إلى الاسلام ووعدهم بالاجتماع هنالك قال فانصرفوا بالرسالة وأما عياض فإنه سار على طريقه التي ورد عليها إلى أرزن الروم وخرج منها إلى أسعرد إلى جبل مارون قال الواقدي كان الذي أسسها السموال بن عاديا وكان قد سبق قبل ذلك الأبلق الفرد من أرض تيماء ولما جاء وزير كسرى وطلبه هرب إلى هذه الأرض وبنى له فيها هذا البلد فلما نزل عياض عليها دعاهم إلى الاسلام فأجاب العقلاء منهم ومن أبى أقر عليه الجزية وكتب لهم عهدا ورحل حتى نزل على الشمطاء وأساوح فأجاب أهلها ولم تكن الجزيرة يومئذ محدودة وان الذي بناها رجل من أهل برقعيد يقال له عبد العزيز بن عمرو وكانت دجلة قبل ذلك فلما نزل عياض عليها وزار هو ومن معه جبل الجودي وموضع السفينة وكان بجنبها أخباث كثيرة فكانت أهل تلك البلاد تنزح الأخباث وكان ملكها الجزيري صالح فأجاب وأطاع وكان يسكن بعاديا وكانت تحت يده كواس والزعفران وقفير ودربيس وأما كن كثيرة قال ولما بلغته الرسالة أجاب صالح وأطاع وأقبل إلى عياض وأسلم وكتب لأهل بلده عهدا وأنفذ لهم من يدعوهم إلى الاسلام
ذكر فتوح الاسماعيليات
قال وارتحل عياض إلى الجانب الغربي ونزل على بلد فيها بديع القبطي فأجاب صلحا على ما تقرر عليه وارتحل عياض إلى أن نزل بالاسماعيليات وبعث عمرو بن جند ليغير على الموصل واعمالها فمضى وأغار وأخذ الغنائم ووقع الصايح فخرجوا عليه وقاتلوه وانتزعوا منه الغنيمة وقاتل حتى قتل ودفن بالجانب الغربي فلما بلغ عياضا ذلك ارتحل من الاسماعيليات ونزل على الموصل فخرج اليه أهلها بالعدد والسلاح فكر عليهم
182

خالد بجيش الزحف فجعلهم حطاما ولم يكن عليها يومئذ سور يمنع فاخذها بالسيف ونظر إلى نينوي فإذا هي مدينة قد أخذت السهل والجبل فقال ما هذه فقيل هذه نينوي فقال لعلها مدينة يونس بن متى عليه السلام
قال الواقدي وكان ملكه يومئذ الملك أنطاق فكاتبه عياض فأبى فانفذ اليه الجزيري صالح فقال لئن لم تجب هؤلاء إلى ما أرادوه والا أذقتك شرا ولا أترك لك عيشا فكتب اليه يقول اني أصالحهم إلى ستة أشهر حتى أرى ما يكون من أمر كسرى فان فتحوا بلده دخلت في طاعتهم قال وكان هو من تحت يد كسرى فأجابه المسلمون إلى ذلك وصالحوه على موجها ومرجها وكتب عياض إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعلمه بما فتح الله عليهم فكتب اليه يقول بسم الله الرحمن الرحيم من
عياض بن غنم الأشعري إلى عمر ابن الخطاب رضي الله عنه أما بعد سلام الله عليك ورحمته وبركاته فاني أحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فالحمد لله الذي أيد الاسلام بنصره وأدحض الشرك بقهره ولله الحمد على ما أولى ومنح وأزال وكشف ورفع وصرف من عظائم وأخذ من غنائم حمدا يزيد الآمال انفساحا والصدور انشراحا وقد لانت الشدة صلابتها ورقت الأيام بعد قساوتها ويسر الله تعالى أمرها وقد أوردت الأعداء موارد المهالك وضيقت عليهم المسالك فارتبكوا في زقاقهم واشتركوا في وثاقهم ولم يجدوا في الأرض نفقا ولا في السماء مرتقى واشتد بهم الفرق وأزعجهم القلق وانهم احتالوا وخايلوا وداهنوا وأرسلوا وأظهروا البعد عن الآثام والدخول إلى الاسلام والتنزه من الظلم والجنوح إلى السلم فأقررناهم على ذلك بعد أن أشرفوا على المهالك فمنهم من أسلم وبايع ومنهم من أقام تحت الذمة وتابع وقد نشر الله أعلامنا وأعز ديننا وقهر عدونا وشد سيوفنا وأعلى كلمتنا وأظهر شريعتنا وقد صرف الله سورتهم وأخمد نارهم وأزال نصرتهم وكفى البلاد والعباد مؤنتهم والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والسلام عليك وعلى جميع المسلمين ورحمة الله وبركاته وبعث خمس ما تحصل من ديار بكر مع شرحبيل بن حسنة كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم وضم اليه مائتي فارس وسلمه الكتاب وأمره بالمسير فسار شرحبيل وبعد أيام وصل إلى عياض من العراق عامر بن مزينة رسولا من عند سعد بن أبي وقاص يستنجد عياضا على كسرى فأنفذ له نجدة ثم فتح الله العراق على يد سعد وما جرى له من الحروب والوقائع نذكر من أمره ما كان والله الموفق
183

ذكر فتوح العراق
قال حدثنا عبد الله بن محمد قال أخبرنا عبد الله بن جابر قال الواقدي أخبرني من أثق به قال لما وجه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه سعد بن أبي وقاص بالجيوش إلى العراق لم يزل سائرا حتى قدم أرض الرحبة واتصلت الأخبار باليعمور بن ميسرة العبسي وكان يومئذ ملك العرب بعد أياس بن قبيصة النعمان بن المنذر الملك من قبل كسرى بن أزدشير فكتبا يعلمانه أن جيوش المسلمين قد أقبلت من المدينة وقد وجهها عمر بن الخطاب رضي الله عنه إليك وقد عول على أخذ العراق فاستيقظ أيها الملك من غفلتك وانظر في مصالح دولتك واعلم أن هذا الزمان هو الذي كنا نسمع به ولا نصدق ونكذب به ولا نحقق ولا نظن أن أحدا يجسر علينا ولا يصل بجيشه الينا حتى جاء الوقت المقدور وولى المدينة عمر وهو صاحب الفتوح ومصبح الملوك بشر صبوح فقم على قدم الهمم وسر إلى أعدائك وتقدم وقد أعلمناك لتكون على بصيرة من الامر وإياك أن تهمل الامر فرب صغير أمر عاد كبيرا ويسير عاد عسيرا والحرب أوله شرر وآخره نار تسعر والسلام قال وبعثا الكتاب مع نجاب فلما وصل به إلى كسرى وقرئ عليه انتفض لذلك واهتز على سريره وأحضر الأساورة والموابذة والديلم والسهارجة وقرأ عليهم كتاب الملوك وقال لهم ما ترون في هذا الامر الذي قد وقفنا عليه وأشرفنا من زماننا عليه واعلموا أن هؤلاء العرب قد أخرجهم الجدب والجهد فهم ينظرون لهم مواضع يسكنون إليها وينزلون فيها وقد أذاقوا الروم شرا وأنزلوا بهم ضرا وملكوا المدائن واحتووا على الخزائن
وكانت الروم قد اجتمعوا عن بكرة أبيهم وما كان منهم أحد الا أتى الشام وتلاقوا في الحرب بمكان يقال له اليرموك وهذه شرذمة من العرب قد سرحوا بلادكم وقد عولوا على أن ينزعوا الملك من أيديكم ولا ينفعكم لا أن تكشفوا عن ساق العزم وتتشحوا بوشاح الحزم وتذبوا عن أهليكم وأموالكم وأولادكم وحريمكم وبلادكم واعلموا أن العرب لهم الطمع وقد دخل في قلوبهم أن يملكوا بلادكم وحصونكم متى رأوكم ناكلين عن قتالهم فشلين عن نوالهم مالوا عليكم ميلة الأسود على فرائسها فاحسموا موادهم من أول يوم وقد قيل في الأمثال من نظر في العواقب أمن غائلة النوائب ثم إنه فتح خزائن الأموال والخلع وخلع على الهرمزان وقدمه على خمسين ألفا وخلع على عطارد بن مهرود وقدمه على عشرين ألفا وخلع على قارين بن همام وقدمه على عشرين ألفا وأمرهم أن يضربوا خيامهم بأرض زوندان
184

ففعلوا ذلك وكتب من وقته إلى خراسان وما وراء النهر يستفزهم ومن معهم من الأجناد على قتال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما وصلت الكتب إليهم أقبلوا يهرعون إلى العراق كالجراد المنتشر وكان في جملة القوم شهريار بن كباد والفرحان الأهوازي والهزيل بن جسوم جاسر الهمذاني ومعهم أربعون فيلا ووفد الجانيوس بن قتاد قال الراوي فلما اجتمعت الجيوش خرج كسرى يحرضهم بأرض شهرطاق وفراشة وكان رأس جيشه مهرمان فعرض الجيوش فإذا هي مائة ألف وخمسون ألفا غير الأتباع وقدم الديلم والعجم وأمامهم الفيلة وعقدوا على ظهورها الأسرة بثياب الديباج وعلى كل سرير أربعون رجلا مقاتلة وهم يضربون بالطبول والصنوج في خراطيهما أعني الفيلة السيوف ليقاتلوا بها وكان فيها فيل أعور كأنه الجبل العظيم وكان هو المقدم على الفيلة حيثما سار سارت وراءه وان وقف وقفت وقد ربط وراء الفيلة عجل يحمل بيوت السلاح والأموال فلما عولوا على المسير عاد الملك أزدشير إلى من ذكر من المقدمين وقال اعلموا يا أهل فارس انكم ما زلتم ملوكا وهيبتكم في قلوب الترك والديلم والروم والجرامقة وذلك لما كنتم عادلين في الرعية فادفعوا هؤلاء بالمال فان أبوا فدونكم والسيف وودعوه وساروا
ذكر فتوح الخورنق وقتل النعمان بن المنذر وفتح الحيرة والقادسية قال الواقدي حدثنا الحسن بن إسحاق قال أخبرنا أبا سليمان
بن عامر
قال بلغني أن سعد بن أبي وقاص قدم العراق في ثلاثين الف فارس من بجيلة والنخع وشيبان وربيعة وأخلاط العرب وما منهم من قدم العراق الا بأهله وولده وما قدم أحد من ملوك الفرس الا بماله كله حتى يقاتلوا بجد وعزم وبذلك وصاهم الملك كسرى قال وان سعدا ارتحل من الرحبة إلى الحيرة البيضاء وكان هناك جيش النعمان بن المنذر وقد ضرب خيامه والسرادقات إلى ظاهرها وقد أضاف اليه جميع العرب وهم من العراق في ثمانين ألفا وقد أفاض عليهم النعمان النعم والخلع ووعدهم من الملك كسرى بكل جميل وقال لهم ان هؤلاء عرب وأنتم عرب وهلاك كل شيء من جنسه وهؤلاء مثلنا وليس لهم فضل علينا وقد جعلنا الأكاسرة مقدمي دولتهم حتى نكون لهم ركنا وعلى أعدائهم عونا وليس لأصحاب محمد فخر يفتخرون به علينا لكن نحن لنا الفخر عليهم وهم يزعمون أن الله بعث فيهم نبيا وأنزل عليهم كتابا يقال له القرآن ونحن لنا
الإنجيل وعيسى بن مريم وجميع الحواريين ولنا المذبح ولنا القسوس والناقوس والرهبان والشمامسة
185

وعلى كل حال ديننا عتيق ودينهم محدث فاثبتوا عند اللقاء وكونوا عند ظن الملك كسرى بكم قال فبينما هو يقول ذلك إذ جاءه عمه الياس وهو صاحب الحرس فقال له أيها الملك ان أعداءنا قد انفذوا الينا رسولا فقال ائتني به فأحضره وكان الرسول سعد بن أبي عبيد القاري فلما وقف بين يدي النعمان صاح به الحجاب والغلمان قبل الأرض للملك فلم يلتفت إليهم وقال إن الله أمرنا أن لا يسجد بعضنا لبعض ولعمري ان هذه كانت العادة المعروفة في الجاهلية قبل أن يبعث الله نبيه محمدا عليه السلام فلما بعث جعل تحيته السلام وكذا كانت الأنبياء من قبله وأما السلام فهو من أسماء الله تعالى وأما تحيتكم هذه فهي تحية جبابرة الملوك فقال النعمان لسنا من الجبابرة بل نحن أجل منكم لأنكم توحدون في دينكم وتقولون ان الله واحد وتجحدون ولده عيسى بن مريم
فقال سعد أخبرني عن بن مريم أكانت القدرة فيه حالة أم ربانية وجرى بينهم كلام كثير قال فأعجب النعمان كلام سعد وقال له يا ويح قومك ما الذي جئت به فقال ان الأمير سعد بن أبي وقاص وجهني إليك إذ أنت من العرب ويصل الينا ما نقص عليك وهؤلاء القوم علوج ليس لهم شريعة يؤدونها ولا فريضة يتبعونها ونحن ندعوكم إلى شهادة ان لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ولكم ما لنا وعليكم ما علينا فان أبيتم فأدوا الجزية فان أبيتم إلى ما دعوناكم اليه فائذنوا بحرب من الله ورسوله فلما سمع النعمان كلام سعد ضحك استهزاء بقوله وقال لقد حدثتكم أنفسكم بالأباطيل أظننتم أن الفرس مثل الروم لا وحق المسيح بل هؤلاء أثبت جنانا وأشد طعانا وأوسع ميدانا فليت شعري من نفخ في معاطسكم وحسن الامل في أنفسكم حتى جئتم من قحط البلاد ترومون ملك الأساورة وأخذ بلاد الأكاسرة ودونه حرب تصطفق أجرامه وتشب ضرامه وهذا الملك أزدشير قد أنفذ جيوشه وعساكره وكأنكم بهم وقد أقبلوا فينالون منكم ما يؤملون وما حدثتكم به أنفسكم تزيلونه من قلوبكم فقال سعد بن عبيد يا نعمان لقد تشدقت بالباطل وتفوهت بكلام غير عاقل أما علمت أن العاقبة للمتقين والله بكرمه يرفع عنا البأس ويظفرنا بجميع الناس وقال نبيه صلى الله عليه وسلم
ستفتح على أمتي كنزر كسرى وقيصر فأما كنوز قيصر فقد فتحها الله علينا وقد بقيت كنوز صاحبك فقال النعمان من أين كان لصاحبك العلم ومن أين ورثه وقد بلغنا أنه كان لا يكتب ولا يقرأ فقال سعد بصره الله بالعلم في القدم وعلم ما كتب في اللوح المحفوظ بالقلم فلما سمع النعمان كلام سعد قال له يا ويح قومك ارجع إلى قومك فليس عندنا جواب الا السيف قال فركب سعد وعاد فوجدهم
186

قد نزلوا بالقرب منه فحدث سعدا بما جرى له مع النعمان بن المنذر وما كان من جوابه وجعل الأمير سعد بن أبي وقاص ينشد
* ساحمل فيهم حملة عربية
* ولا أنثني والله عنهم بعسكري
* فاما نرى النعمان في القيد موثقا
* واما طريحا في الدماء المعفر
*
ثم أمر الناس بالرحيل فرحلوا وساروا إلى أن أشرفوا على جيش النعمان قال فلما رأوا جيوش سعد أمر الناس بالركوب فتبادرت العرب إلى خيولهم فركبتها وجنبت الجنائب وضربت الكاسات وتبادرت الابطال ونشرت الاعلام فلما وصل سعد رضي الله عنه ولقي القوم قد أخذوا أهبتهم رتب جيشه وصفهم وألفهم وجعل في الميمنة سعد بن عبيد القارئ وفي الميسرة سعد العشيرة وفي الجناح الأيمن سعد بن نجيبة وعلى الجناح الأيسر سعد بن الاقيس الهلالي وأقام الأمير سعد في القلب ومعه أبو محجن الثقي وزهرة بن جويرية وشرحبيل بن كعب
قال الواقدي حدثنا أحمد بن عامر قال أخبرنا علي بن مسهر عن أبان عن الحسن قال لما استوت الصفوف وترتبت كل قبيلة جعل الأمير سعد يتخلل الصفوف ويعظ من فيها من عرب بجيلة وطيء وبني هلال والنخع وغيرهم ويقول هذا يوم لا نرى بعده مثله أما بلغكم ما فعل اخوانكم بالشام لما تكاثرت عليهم جموع اللئام فاستيقظ المسلمون بقول سعد وقالوا نحن نحمل عليهم بشدة العزائم ولعل الله أن ينصرنا عليهم فصاحوا بخيولهم فخرجت كالرياح العواصف ولم يزالوا في القتال الشديد إلى أن توسطت الشمس في قبة الفلك وقد ثبتت أصحاب النعمان بن المنذر للضرب والطعان
قال الواقدي وان القعقاع بن عمرو التميمي أو بشر بن ربيعة التميمي أحدهما التقى مع النعمان في كبكبة من الخيل والازدهارات على رأسه فحمل القعقاع أو بشر على الكبكبة ففرقها وعلى الكتيبة فمزقها ورمى النعمان بطعنة في صدره فاطلع السنان يلمع من ظهره فلما نظرت جيوش الحيرة إلى الملك النعمان مجندلا ولوا الادبار يريدون القادسية نحو جيش الفرس وغنم المسلمون رحالهم وأموالهم وباتوا فرحين وافتقدوا من قتل من المسلمين فكانوا خمسمائة وثلاثين غالبهم من أهل نخع وقد ختم الله لهم بالشهادة وفي ذلك قالت خزانة بنت خالد بن جعفر بن قرط ترثي من قتل من المسلمين
* فيا عين جودي بالدموع السواجم
* فقد شرعت فينا سيوف الأعاجم
* فكم من حسام في الحروب وذابل
* وطرف كميت اللون صافي الدعائم
* حزنا على سعد وعمرو ومالك
* وسعد مبيد الجيش مثل الغمائم
* هم فتية غر الوجوه أعزة
* ليوث لدى الهيجاء شعث الجماجم
*
187

قال وان المسلمين جمعوا الأموال واحتوى سعد على قصر الخورنق والسدير وترك جميع ما أخذه بالحيرة وترك عنده سالم بن نعيم بن مسروق وترك عنده مائة من أبناء المهاجرين والأنصار قال وأما من انهزم من جموع النعمان بن المنذر فوردوا على القادسية وعليها جنود الفرس مع رستم زاده بن اسفنديار ومعه شهريار بن كنار والهذيل بن جشوم وحشرسوم الهمذاني والجناتيوس بن فتاك وشماهير بن حسوسا قال فلما رأوا المنهزمين من جيش النعمان ملك العرب سألوهم عن أمرهم فأخبروهم بقتل النعمان وأخذ الحيرة وقصر الخورنق والسدير وجميع ما فيها قال فوقع التشويش في عسكر الفرس وتمكن الخوف من قلوبهم وكثرت الأراجيف وأما رستم فإنه جمع الملوك والاساورة وملوك الديلم في خيمته وقام على سريره خطيبا فقال اعلموا أن الدولة بالسياسة والناموس بالرياسة وكأنكم بالعرب وقد أشرفوا عليكم فأخرجوا واذهبوا إليهم واركبوا فخرجوا من عنده وأخذوا أهبة الحرب فبينما هم كذلك إذ بعسكر سعد قد أشرف عليهم وهم على الخيل المضمرة العربية وعليها الفرسان الاسلامية والطائفة المحمدية فرتبوا الصفوف وجعل رستم ملوك الفرس عن يمينه وملوك الديلم عن يساره ووقف رستم في القلب ودارت به الأساورة
فبينما هم كذلك إذ بعث الأمير سعد رسولا إلى رستم وكان الرسول أبا موسى الأشعري فقصد القلب فلما رآه الحجاب أتوا اليه والترجمان معهم فقالوا له يا عربي ما الذي تريد قال أنا رسول من عند صاحب الجيش فبلغوا رستم ما قاله أبو موسى الأشعري فقال قولوا له مالك وصول إلى المقدم ولكن أفصح لنا عما تريد حتى نأتيك بجوابه قال فبلغه الترجمان ما قاله فقال أبو موسى قل له ندعوكم إلى الشهادة فان أبيتم الاسلام فأدوا الجزية فان أبيتم فالسيف أصدق شاهد وقد قال الله في كتابه العزيز وكان حقا علينا نصر المؤمنين فبلغهم الترجمان ذلك ورجع أبو موسى إلى سعد فلما جن الليل هرب من عسكر رستم جماعة والتجئوا إلى عسكر المسلمين فلما أصبح رستم بلغه أن جماعة من عسكره هربوا إلى عسكر المسلمين فبعث رسولا إلى سعد يطلب منه أن يرد عليه الذي هرب من الأساورة والمرازبة
فقال سعد أنا قوم لا نضيع ذمامنا ولا ننقض عهدنا وقد أتوا الينا مستسلمين وفي صحبتنا راغبين فيجب علينا أن نذب عنهم ولا نمكن أحدا منهم فعاد الرسول إلى رستم وأعاد عليه الجواب فغضب وأمر الجيوش بالزحف قال وكان الذي هرب إلى جيش سعد شاور بن سليم ونسليك بن أكتم وضرار بن مكتال ومن تبعهم فلما رأوا العساكر قد أقبلت تريد
188

المسلمين قال القعقاع أيها الأمير قد تقدمت الأعداء والفيلة أمامهم ولا مقام لخيل العرب عند رؤيتها وصياحها فقال سعد أخلصوا النيات وأرضوا خالق الأرض والسماوات وأرشقوا الفيلة بالنبل واقطعوا مشافرها بالسيوف قال وكان أمام الفيلة فيل عظيم كأنهن جبل وكان إذا سار سارت وإذا وقف وقفت وأينما توجه كانت وراءه قال فلما حملت الكتائب واضطربت المواكب وجاءت الفيلة كأنها جبال وعلى ظهورها الابطال وقد أقبلت بالسيوف وفي خراطيمها فقتلت من عسكر المسلمين ولم تثبت لها خيل المسلمين فرفع سعد بن أبي وقاص كفيه مبتهلا بالدعاء لرب الأرض والسماء * (قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين) * قال زهرة بن جويرية فوالله لقد رأيت سعدا يدعو وعيني مع الفيلة وإذا بالفيل الأعور قد ولى يريد المدائن والفيلة بأجمعها والرجال لا يقدرون على ردها وهي سائرة على وجوهها وكفى الله المؤمنين القتال من الفيلة قال فلما ولت الفيلة غضب رستم وأقبل بعموده الذي من الذهب يضرب به وجوه الفيلة ويطمطم بفارسيته ويحرض قومه على القتال وهم يحملون خوفا منه وهو يطلب من هرب من جيشه والخيل أمامه منهزمة والمسلمون لا يتبعون المنهزمين وأوقفوهم مواقفهم وقد طابت قلوبهم بمعاملة الله فطعنوا في صدور الأعداء وقد اطلع الحق على قلوبهم فما وجد فيها غيره فبينما الأمير سعد يحرض على القتال إذ لقيه الأسود العنسي وهو طائش العقل ذاهل اللب فقال له ما وراءك يا ابن قيس فقال أيها الأمير إياك أن تعبر هذا الصف فان فيه الموت الأحمر والضيغم القسور وهو جبار من الفرس وقد قتل من المسلمين أربعة ولقد قاتلته حتى كاد أن يأتي علي ولولا أن من الله علي بخالد بن جعفر بن قرط لكان قتلني لان فيه شجاعة وبراعة
فقال سعد يا مسكين وأين المفر من المقدور وقد قدر الله الاقدار أما سمعت قول الملك الجبار أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة ودخل الصف الذي ذكره الأسود وإذ قد لقيه خالد بن جعفر ولونه قد تغير فقال له ما وراءك يا ابن جعفر فقال الثعبان الأغبر والأسد الغضنفر أيها الأمير ارجع عن هذا الفارس فإنه علج عنيد وفي يده عمود من الذهب يورث به خصمه العطب وقد قتل الاقران وأباد الشجعان وقد كاد أن يقضي علي لولا سعد العشيرة أدركني لكان أهلكني فلما سمع سعد ذلك عظم عليه وقصد مكانه يريد أن يفدي الناس بنفسه وبروحه ويبدد في سبيل الله مهجته وهو يخترق الصفوف فلقي سعد العشيرة فقال له ما وراءك يا ابن لؤي قال ورائي جبار لا يقابل وبطل لا ينازل
189

ولولا بشر بن ربيعة لسقاني من عموده كأس القطيعة فلما سمع قوله قصد نحوه فوجد بشرا مصفر اللون فقال له ما وراءك يا ابن ربيعة فقال ما قصر القعقاع اني لولاه لكنت من الهول على غرر فسار سعد على طريق بشر وقد سلك سبيل توفيقه فلقي القعقاع وهو يفرق الكتائب ويصدم المواكب فقال له لله درك يا ابن عمرو أين فارس الفرس وكيف خلص من يدك فقال أيها الأمير لولا أنه دخل الصفوف لسقيته كأس الحتوف وغاص من وسط الخيل ولم أبلغ منه النيل
قال الواقدي ولم يزل القتال بين المسلمين والكفار إلى أن فرق الليل بينهم فرجعت كل طائفة إلى مكانها فلما رجع رستم إلى سرادقة بعث غلمانه إلى مقدمي عسكره فحضروا فقال لهم لقد خذلتم ونزل بكم العار والبوار فما الذي خذلكم وأي شيء شغلكم ونزل بكم وأنتم أولو البأس الشديد والامر العتيد وهؤلاء قوم كنا لا نعبأ بهم ولا
تحدثنا أنفسنا عنهم بأمر وقد خذلوا فرسانكم وأوردوهم موارد الهلاك وقتلوا منكم الصناديد فبأي وجه ترجعون إلى المدائن وبم تحتجون عند الملك أزدشير واني أرى دولتكم قد انصرمت وأيامكم قد انقضت فقالوا أيها السيد لقد بلينا بقوم لا يرهبون الموت ولا يجزعون من الفوت وكلما طعنا صدورهم تقدموا وكلما قللنا جموعهم صدموا فقال رستم ما أرى من الرأي الا أننا في نصف الليل نكبسهم فلعلنا نظفر بهم ويكون لنا عند الملك اليد البيضاء فاستصوبوا رأيه وافترقوا لأجل أن يصلحوا شأنهم
قال الواقدي حدثنا عامر بن سويد قال لما رجعنا من قتال العدو إلى خيمة سعد رأيناه جالسا على التراب فلما رآنا قال مرحبا بقوم هجروا الدنيا وطلبوا العقبى كيف كان يومكم قلنا لقد شفينا نفوسنا من الأعداء ونصرنا شرع نبينا المصطفى ولقد رميت منا رجال كثيرة من المسلسلة بنشابهم فقال سعد اجمعوا إلي العسكر جميعه وأمروا غلمانكم أن يجمعوا الشيح والقيصوم فاني أريد أمرا أرجو لكم به النجاة من الله قال ففعل القوم ذلك فقال للموالي اجعلوا ما جئتم به من الشيخ والقيسوم على ظهور الإبل ووجهوها نحو المسلسلة فإذا قربتم منها فاضرموا النار في ظهور الإبل والذعوها بأسنة الرماح حتى تدوسهم ونحن من ورائكم بسيوفنا قال ففعلوا ذلك فلما أتى الليل تقدموا أمام العسكر بالأموال والموالي من ورائهم إلى أن قربوا من المسلسلة وأطلقوا النار في الشيح ولذعوها بالأسنة فلما رأت الجمال ما على ظهورها من النار وما حل بها من الأسنة داست صفوف المسلسلة دوس الحصيد وحطمتها على وجه الصعيد وركب الأمير سعد مع
190

الجيش ووضعوا السيف فيمن بقي من المسلسلة فبينما هم كذلك وإذا بعساكر الفرس قد أتوا وارتفع الضجيج وعلا العجيج وسميت تلك الليلة بليلة الهديرة ولم يزالوا في القتال إلى الصباح قال وسمعت قائلا يقول كفيناكهم فقلت من أنتم فقالوا نحن من خزيمة النخع ولم يزالوا يقاتلون حتى ما بقي منهم أحد ولا بقي لهم نسل فلما طلعت الشمس ركب رستم ابن اسفنديار وركب جيشه عن آخرهم ووقفوا بأجمعهم فاستقبلهم الموحدون وسعد يتخلل الصفوف ويعظهم ويوصيهم أي الامراء وكان في الليل قد طاف على العسكر فرأى أبا محجن الثقفي يشرب الخمر وقال له يا عدو نفسه لقد محوت أجر جهادك وعبادتك والله لآخذن منك حق الله وجلده الجد وقيده
قال الواقدي أخبرنا يوسف بن عمر قال الأسدي عن طلحة ومحمد قالوا أو أول من فتح الحرب رستم وطلب البزاز فخرج إليه نجيبه فقتله فخرج زهير فقتله فأراد القعقاع أن يخرج وإذا بفارس قد أقبل إلى رستم وهو كالريح في هبوبها فصاح برستم صيحة أدهشته وطعنه في خاصرته فأطلع السنان من الخاصرة الأخرى فنظر إليه سعد فإذا هو أبو محجن وقد صنع ذلك برستم قال المتوكل عليه سألتك بالله أن تتركه قال الواقدي حدثنا يوسف بن عبد الأعلى قال حدثنا عمر بن إبراهيم عن عبد الله بن المبارك قال لما نزل سعد بن أبي وقاص على القادسية وقاتل عسكر الفرس وانهزمت الفيلة إلى المدائن وكان سعد رضي الله عنه يتنكر في الليل ويمشي في عسكره فمر في بعض الليالي برجال من ثقيف فوجد أبا محجن وهو يشرب ويترنم على خمرته فلما رآه غضب وقال له لقد ذهب اجرك ونقص قدرك بعد جهادك للكافرين تتعرض لغضب رب العالمين أترضى لنفسك بذلك ثم إنه حده وقيده وجعل عليه من يحفظه فلما كان من الغد ووقع الزحف وبرز فارس العجم وكان منه ما ذكرناه عاد إلى القيد فلما قتل رستم بمشاهدة الناس أتى اليه سعد ليعلم حقيقة الامر فوجده في القيد فقال له يا أبا محجن أنت صاحب الفضيلة فقال الفضل لله ولرسوله فأقسم عليه فحدثه بحديثه فقال له إذا كان هذا صنيعك فاذهب فقد عفوت عنك ومن عاد فينتقم الله منه فقال أبو محجن والله ما عدت أشربها أبدا وتاب
قال الواقدي حدثنا زائدة عن جده مروان بن أوس قال كنت بالقادسية وشهدت فتحها لما قتل رستم وولده عجزشير وولت الفرس على عقبهم لا يلتفت أحد منهم إلى ما وراءه من الأموال والأصحاب وما لهم قصد الا السلامة لأنفسهم وأتى نساء المسلمين ومعهن الماء فدرن بين القتلى والجرحى فمن وجدنه من المسلمين فيه الرمق سقينه الماء ونضحن على وجهه وينقلن من
191

قتل من العرب إلى العرب ويتركن رمم الفرس
قال الواقدي حدثنا أبا سليمان
بن بشر عن أم كثير امرأة همام بن الحرث قالت شهدت القادسية مع سعد فلما نزل النصر وانهزمت الفرس شددنا ثيابنا وأخذنا الماء وابتغينا القتلى فمن كان من المسلمين سقيناه ورفعناه ومن كان من المشركين أخذنا ما عليه حدثنا الحرث عمن أدرك ذلك قال لم يكن من قبائل العرب أكثر نساء من نساء بجيلة والنخع وكانوا في ألف وسبعمائة امرأة قال وأخذت المسلمون عدة لم يروا مثلها وأصيب من المسلمين سعد بن عبيد وسفيان بن سليم والمهلب بن غزوان والقادح بن عنبسة ونعمان بن نعيم وأربعون رجلا من المهاجرين والأنصار وسنذكر من قتل ممن كانوا يقرأون القرآن إذا جن الليل كدوي النحل قال وأخذ المسلمون من الأموال ما لم يرمثله ولما كان بعد الفتح بيوم جاءت النجدة التي بعثها عياض بن غنم من أرض الموصل وجاء من شهد الفتوحات بالشام مع عامر بن الجراح وكان الذين قدموا سبعمائة فلما وصلوا إلى عين التمر استعجل للنصرة فترك الجيش وسار في سبعين فارسا وأتت بقية السبعمائة بعد ذلك وكان معه قيس بن عبد يغوث وقيس بن أبي حازم وسعيد بن نزار ومالك الأشتر النخعي فتقدم هاشم وقيس معه في السبعين
قال الواقدي حدثنا إبراهيم بن بشار قال أخبرنا محمد بن علي عن أبا سليمان
بن أرقم أن عدة القتلى بالقادسية تسعة وثمانون رجلا وكان المشهور منهم قيس وعطارد وهشام ومذعور ومقرب الأسود وعمرو بن قيس والنعمان قال الواقدي وبلغنا عن رجل من تميم عن امرأة منهم قالت شهدت القادسية وضم للنساء لكل منهن ثلاثة وثلاثون مثقالا من العنبر ومثلها مسك وأما الكافور فما كنا نعبأ به الا من عرفه وكانت العرب تقول للسوقة هل لكم من ملح طيب وكانوا يعطون كيل كافور بكيل ملح وان رجلا من العساكر عجن عجينا وجعل فيه من الكافور وجعل يذوقه بعد خبزه ويقول ما لهذا الملح لا يطعم في العجين وان رجلا ممن له خبرة بالملح قال أعطيكم جراب ملح يطعم طعمه قال فأخذوه وأعطوه ملء جرابه كافورا غال وان سعدا لما هزم الله العدو على يديه جمع الأموال كلها وكان الذي يقبض االاموال أبا سليمان
بن ربيعة قال فكتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتابا يقول فيه بسم الله الرحمن الرحيم من العامل بالعراق سعد بن أبي وقاص إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أما بعد سلام عليك واني أحمد الله الذي لا إله إلا هو
192

وأصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وانا وصلنا إلى العراق والتوفيق يقدمنا والنصر يؤيدنا وقد اطلع الله على قلوبنا وامتحن خفي أسرارنا فما وجد فيها سواه ولا نعبد الا إياه فوفى لنا بوعده إذ وفينا بصادق عهده فلقينا العدو وهو شاكي السلاح وغير راجع عن الطماح وقد شمر لنا عن ساق الجد فدارت لنا عليه الدوائر فهزمنا كتائبهم وزلزلنا مواكبهم واستأصلنا شأفتهم وقتلنا مقدمهم فجرى بذلك سابق القدر وأخذناهم أخذ عزيز مقتدر وملكنا الحيرة والقادسية وأنزل الله بأعدائنا الرزية فلما كان بعد الفتح بيوم قدم المرقال وهشام وسبعون رجلا من الصحابة وبعده بثلاثة أيام قدم سبعمائة من الشام من جند أبي عبيدة ولم أسلم لأحد شيئا من الغنيمة ونحن ننتظر أمرك في ذلك والسلام عليك ورحمة الله وبركاته وعلى جميع المسلمين وسلم الكتاب إلى زيد بن عمرو فركب نجيبه وسار نحو المدينة
قال أخبرنا أحمد بن عمر قال حدثني سابق بن مسلم قال وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنهم يركب في كل يوم نجيبه ويقصد طريق العراق إلى قريب الظهر وذلك لما بلغه أن رستم نزل على القادسية قال فخرج على عادته إذ لقيه البشير وهو نوفل فلما رآه نوفل أبرك ناقته وسلم على أمير المؤمنين وقال له أبشر بكل خير ودفع كتاب سعد وهو يقول قد هزم الله العدو ونصر الموحدين وملكنا الحيرة والقادسية بهم فرقى المنبر وقرأ عليهم كتاب سعد وقال ألا وان اخوانكم المسلمين يقرئونكم السلام وقد اتبعوا الكتاب والسنة وحادوا عن طريق البدعة وأقاموا على شرائع الهدى وأرادوا المشورة فيمن قدم عليهم فأما الجواب فالغنيمة لمن شهد الوقعة والمواساة لمن لحق بهم بعد الوقعة بثلاثة أيام ونزل عن المنبر وكتب إلى سعد بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد سلام عليك فاني أحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي على نبيه صلى الله عليه وسلم وقد وصلني كتابك فحمدت الله كثيرا بما فتح الله على أيديكم واني قد أبليت بكم وأبليتم بي واني والله لا أحصى شيئا من أموركم فأعلمه وأما إذا اجتمع صلح فإذا أشفق الوالي ونصحت الرعية وعمل الاحسان وعلى الرعية الصبر والشكر وأما الغنيمة فلمن شهد الوقعة والمواساة لمن أتى بعد ثلاثة أيام ومن شهد حربكم من مملوك وعتيق بعد ثلاثة أيام فأشركوه الزموا الاحسان فيما فتح الله عليكم وختم الكتاب وسلمه للرسول فسار يجد السير إلى أن أتى سعدا ودفع اليه الكتاب فلما قرأه كتب اليه بعد البسملة يعلمه بما تجدد أما بعد يا أمير المؤمنين فاني لم أر فارسا مثل القعقاع بن عمرو التميمي فإنه حمل في العدو في يوم واحد
193

ثلاثين حملة يقتل في كل حملة فارسا ولم أر فارسا مثل الحرث الكندي فإنه كان يحمل في المواكب فيقصم عروقها وأرسل الكتاب الثاني والخمس مع سعد قال ووصل المنهزمون من الفرس إلى المدائن ودخلوا الإيوان وحدثوا كسرى بما جرى وبقتل رستم وولده فاغتم لذلك وأيقن أن دولة الفرس قد انقرضت وانصرمت فاحتجب ثلاثة أيام وفي اليوم الرابع مات لأنه حمل الهم على قلبه فقام بعده ولده يزدجرد ولم يكن له غيره
قال حدثنا عبد الله بن مروان قال حدثنا نعيم عن جده وكان أحفظ الناس للفتوح قال لما وجه كسرى بن أزدشير رستم إلى قتال سعد أنفذ معه نصف بيت ماله وهي ستمائة ألف ألف إلى المصف فلما صفت الصفوف وضعها أمام الجيش وقال كل من قتل فارسا كان له كذا وكذا ومن قتل راجلا فله كذا وكذا فصار ذلك كله إلى المسلمين فأرسل الخمس مع سعد وهو مال كثير لا يحصى عدده لكثرته فلما وصل المال لعمر بن الخطاب بكى وقال أف لمن يغتر بالدنيا أو يميل إليها ثم قرأ قل متاع الدنيا قليل والآخرة لمن اتقى فوالله لم يلتمس منه قليلا ولا كثيرا ولا درهما ولا دينارا فقالت له حفصة يا أمير المؤمنين لو رفقت بنفسك وأكلت طعاما أطيب من طعامك ولبست ثوبا أمير من ثوبك فقد فتحت لك الفتوح وأتت الأموال فتمعر وجهه غضبا وقال لها ناشدتك الله أخبريني عن أفضل ما اقتنى رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيت مال المسلمين قالت ثوبان كان يلبسهما يوم الوفد ويخطب فيهما يوم الجمعة والعيدين فقال أي طعام كان يأكل عندكن قالت خبز الشعير وكان عندنا في أسفل عكة دسم فان تظاهر طعمه فيها يقول قد زدتن في الدسم قال فأي بساط كان يبسطه عندكن قالت كان لنا كساء نجعله في الصيف تحتنا وفي الشتاء نفرش نصفه ونلتحف بنصفه فقال يا حفصة ان مثلي ومثل صاحبي كثلاثة نفر تتابعوا طريقا فمضى الأول وقد زاد فبلغ ثم تبعه الثاني فسلك طريقه فمضى اليه ثم تبعهما الثالث فان لزم طريقهما ورضى بزادهما وان سلك غير طريقهما لم يجتمع معهما أبدا
ذكر فتح نهمشير
قال الواقدي وان عمر رضي الله عنه بعث إلى سعد بأن يمضي إلى المدائن وأن يخلف النساء والأولاد في الحيرة وعندهم من الجند جماعة ويجعل لهم شركة في كل مغنم وكان مقام سعد بعد الفتح بالقادسية شهرين فلما استهل الشهر الثالث أنفذ على مقدمته زهرة بن جويرية وأتبعه بعبد الله وشرحبيل بن الشمطاء وأتبعهما بهاشم بن عتبة وخالد بن عرفجة صاحب
194

صاحب الساقة وقسم الجيش معهم وقد غنموا ما كان في عسكر الفرس من مال وسلاح وكراع وكان رحيلهم من القادسية لبضع أيام مضين من شهر شوال قال ونزل زهرة بالكوفة بمن معه ولحق به عبد الله وشرحبيل بمن معهما وتتابعت الجيوش وارتحل زهرة وسار إلى بالس ونزل عليها وإذا بأناس من أهل السواد أتوا اليه وطلبوا منه أمانا فأعطاهم وقال لهم ما عندكم من خبر العدو فقالوا أيها الأمير استعمل الحذر جلبابا والتيقظ بابا واعلم أن رجلا من المرازبة قد ضمن لكسرى لقاءكم وردكم ومعه عسكر جرار فقال زهرة أبعد الله شره وجعل كيده في نحره فبينما هو كذلك إذ أشرفت عليهم طلائع القوم وتبينت لهم البيارق والازدهارات فركب زهرة للقائهم ورتب أصحابه للحرب وهو يقول * (إن ينصركم الله فلا غالب لكم) *
قال الواقدي ولما أشرفت الكتائب أطلقوا ألسنتهم بذكر الله وتسارعوا إليهم فأوسعوا لهم الميدان وتقدمت الصناديد وتأخرت الرعاديد وضج المسلمون بالتكبير وطعنوهم في صدورهم ونحورهم وإذ قد وقعت عين زهرة على فارسهم العميد وبطلهم الشديد فقصده دون غيره وتطاعنا وتضاربا وتقاربا وتباعدا ثم إن زهرة رماه بطعنة في صدره
فأخرج السنان من ظهره فخر إلى الأرض صريعا فلما رأوه ولوا الادبار وركنوا إلى الفرار وكان فيهم رجل من أكابرهم ذو عقل سديد ورأي رشيد فلما رأى ما حل بقومه أتى إلى زهرة طائعا مختارا وعقد له معه صلحا فأعطاه أمانا وسأله عن خبر جيوش كسرى فقال يا سيد قومه اعلم أن أكابر من انهزم منهم بالقادسية قد اجتمعوا وهم النهرجان والمهراق الداري والهرمزان فقال لهم القيروان بأي وجه تعودون للملك كسرى وقد أعطاكم الوظائف والعطايا والولايات فأقيموا هنا حتى تبيض وجوهنا عنده أو نهلك عن آخرنا قال فلما سمع زهرة وعبد الله وشرحبيل وهاشم وخالد انتظروا سعدا حتى أتى وأعلموه فقال استعينوا بالله وتوكلوا عليه وكانوا قد ملكوا الجسر فعبروا عليه وعدوا إلى الجانب الآخر وأشرفوا على جموع القوم فوقعت في الفرس الأراحيف وتمكن الخوف قلوبهم وكلما عين الهرمزان والقيروان جيشهما وصفا صفا انتقض بغيره فعلم أن ما فيهم خير وما كانت الا ساعة حتى فرق الله جموعهم وبدد شملهم وانطلقوا على وجوههم فمضى الهرمزان إلى الأهواز وكانت كنوز كسرى في جبل ظاهر الأهواز وكان عليها مقدما نهاوند فلما بلغه هزيمة العسكر نهبها وأما النهرجان ومهراق فإنهما قصدا المدائن وعبرا نهرا شير وهي مدينة الذنب قال فلما حصلوا بالعدوة القصوى وقطعوا الجسر قصدوا الإيوان ويزدجرد هناك فدخلوا عليه وحدثوه بما جرى لهم مع العرب فلما
195

سمع ذلك أيقن بزوال ملكه فلما كان الليل عول على أن ينفذ أمواله وذخائره إلى نهاوند وتهيأ للحرب وأما زهرة فإنه سار في أثر القوم حتى جاوز سوار ونزل وأتى بعده هشام والمرقال ونزلا عنده حتى تكامل الجيش ونزل سعد بن أبي وقاص وارتحلوا إلى كوثاريا وأشرفوا عليها فلما رأي الفرس عسكر المسلمين قد أشرف عليهم أخذوا أهبة القتال وتهيئوا ومقدمهم شهريار
فلما وصل إليهم زهرة ورآه شهريار وقع الرعب في قلوب أصحابه وماج بعضهم في بعض ولولا خوفهم من شهريار لولوا الادبار ورتب زهرة أصحابه فلما استوت الصفوف خرج شهريار للبراز وعليه زي الملوك ولأكاسرة وقال أنا شهريار فهل يبرز إلي فارس لفارس أو أربعة لفارس أو عشرة لفارس فلما سمع زهرة كلامه قال والله لقد أردت برازك غير اني لا أدع أحدا يخرج إليك الا عبدا فان قتلته فتكون قد قتلت عبدا وان قتلك فهو المراد ثم إنه دعا مولا أبا نباتة الأعوجي فقال له دونك وهذا العلج واستعن عليه بالله فخرج اليه أبو نباتة فلما وصل إليه ونظره استحقره لان شهريار كان مثل البعير فألقى نفسه على أبي نباته وقد جرد سيفه فلما رآه أبو نباتة قد وصل اليه صادمه كأنه أسد وتضاربا بالسيوف حتى تكسرت فرمياها وتقابضا حتى سقطا إلى الأرض فوقع شهريار بابي نباتة وهو يراغه فوقعت ابهام شهريار في فم أبي نباتة فقطعها فارتخت أعضاؤه فانفلت وانقلب عليه فصار فوقه وجرد خنجره وطعنه به في نحره فقضى عليه فأخذ تاجه وسواريه وسلبه وفرسه وعدته وتوجه بها إلى المسلمين فلما نظر جيشه ما حل به ولوا الادبار وأقام زهرة هناك إلى الصباح وأقبل بقية الموحدين فحدث زهرة سعدا بما جرى لمولاه مع شهريار وكيف انهزم الفرس ففرح سعد بذلك وأمر أن يحضر أبا نباتة فأحضره فقال سعد عزمت عليك الا لبست سواريه ودرعه وتاجه وركبت جواده قال ففعل فأعطاه السلب جميعه وقال له قد أفلحت فكان أول مسلم سور بالعراق
قال الواقدي حدثنا نوفل بن عدي قال أخبرنا وائل بن غانم اليشكري قال لما قدم سعد إلى كوثاريا نزل في المكان الذي سجن فيه إبراهيم الخليل عليه السلام فصلى فيه وحمد الله وصلى على رسوله صلى الله عليه وسلم وقرأ * (وتلك الأيام نداولها بين الناس) * الآية قال واقام سعد بمشهد كوثاريا أياما ثم دعا الناس اليه وقال لهم اعلموا ان الله تعالى قد نصركم في مواطن كثيرة وقد أراكم ما وعدكم نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم لما قال ستفتح على أمتي كنوز كسرى وقيصر وقد ملكتم طرفا من كنوز كسرى والتمام على الله
196

وقد عولت على العبور إلى المدائن التي من الجانب الغربي فقالوا جميعهم أيها الأمير ما منا من يخالف ولا يبخل بنفسه على الله ورسوله فاعزم ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم قال فلما سمع قولهم قدم زهرة برايته وجيشه وأمره أن يسير فسار في اثني عشر ألف فارس فما سار غير قليل إذ رأى بين يديه خيلا وعليها فوارس فأخذوا أهبتهم فإذا هم زهاء من مائتي فارس من الفرس فأرسلوا منهم فارسا يعلم المسلمين أنهم أهل ساباط ومقدمهم يقال له سرزاد وهو يطلب لأهل بلده صلحا وعهدا فقال له زهرة ائتني بهم فلما قربوا منهم ترجلوا وأتوا المسلمين فتلقوهم بالبشر والسرور فقال لهم زهرة من أنتم قالوا نحن أهل ساباط وهذا مقدمنا وقد أقبلنا نطلب صلحكم فقال زهرة من قصدنا قبلناه ومن أراد صلحنا صالحناه ولسنا قوما نريد الفساد في الأرض ثم أمضى صلحهم على ما وقع عليه الاتفاق بينهم قال وانطلق سرزاد إلى قومه ومعه جماعة فرحين بالصلح ولما نزل زهرة في نهمشير وجد كتائب الفرس وعليهم مقدم يقال له فيروز وهو فارس قومه ومعهم كبكبة كسرى التي يعتمد عليها في وقت شدته قال واجتمع جيوش الموحدين عند زهرة مع سعد وتأهبوا للقتال
قال الواقدي فلما ترتبت الصفوف كان أول من برز واشتهر وسما وافتخر فيروز ورطن بالفارسية وقال يا هؤلاء العرب لقد أطمعتم أنفسكم فيما لا تصلون اليه وساءت ظنونكم وزعمتم انكم تملكون العراق وتأخذونه من أيدي الأكاسرة وهذا ظن لا يصير أبدا ونحن كتيبة كسرى أولو الشدة والبأس والقوة والمراس وأنا مقدمهم والرئيس فيهم فليبرز إلي مقدمكم ويفعل مثل ما فعلت أنا من بين قومي قال فما استتم كلامه حتى خرج اليه هاشم بن المرقال يجر قناته من ورائه وحمل عليه وحصل بينهما حرب يشيب منها الطفل ثم إن هاشما طعنه في صدره فاطلع السنان من ظهره قال فلما قتله هاشم ورجع إلى المسلمين قبله سعد بين عينيه فترجل هاشم وقبل رجل سعد وقرأ * (أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال) * قال وارتحلوا في أثرهم إلى أن نزلوا نهمشير وبقى كلما أقبلت تكبر وتنزل إلى أن أحاطوا بهم من كل جهة فأظهر القوم الزينة والسلاح والعدد والمجانيق وهم على الأسوار قال الواقدي وأقام سعد على نهمشير شهرين وبعث خيله للغارات على شط الفرات والدجلة فاتوا ومعهم ألف فلاح فضمهم إلى سرزاد مقدم ساباط حتى يأتيه الجواب فيهم من عمر بن الخطاب رضي الله عنه ويرجعوا إلى مقرهم فكتب سعد إلى أمير المؤمنين يقول بعد البسملة أما بعد سلام
197

عليك ورحمة الله وبركاته فاني أحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي على نبيه واننا نزلنا على نهمشير بعد ما لقينا فيما بين القادسية ونهمشير عسكرا مع قرط بن فيروز
وظفرنا الله به وبمن معه وان فيروز قتله هاشم وانهزم من بقي معه ونزلنا بعد ذلك على نهمشير وبثثنا عساكرنا فأصابوا من الفلاحين ألف نفر فما رأيك فيهم فأجابه ان من أتاكم من الفلاحين إذا كانوا مقيمين على عهدكم ولم يعينوا عليكم عدوكم فلهم أمانهم ومن لم يأتكم وهرب منكم وأدركتموه فشأنكم وإياه افعلوا فيه ما شئتم فلما جاء الكتاب خلى سبيلهم وأرسل وراء الدهاقين فدعاهم إلى الاسلام أو الجزية فأجابوا إلى أداء الجزية قال وأما أهل مدينة نهمشير فشرعوا يرمون عسكر المسلمين بالسهام والحجارة والمجانيق فلما نظر سعد إلى ذلك دعا سرزاد وقال له ان أهل هذا البلد لم يتركوا للصلح موضعا وأريد منكم أن تصنعوا لنا مجانيق ففعل سرزاد وعمل مجانيق فما مضت ثلاثة أيام حتى صنع له ذلك ونصب له ذلك على نهمشير أكثر من عشرين منجنيقا فاشغلوهم بها عن قتال المسلمين والعرب فرحت بذلك فلما طال على البلد الحصار خرجوا يقاتلون المسلمين وتبايعوا على الصبر فقاتلهم المسلمون قتالا شديدا وترامت الفرس بنشابها والعرب بنبالها وقاتل زهرة بن الجدرية قتالا يرضي الله ورسوله ثم إن زهيرا قال لسعد دعني أتقدم لعلي أرمي بنبلة أو اضرب بسيفي هذا ضربة فتقدم ودخل العدو فتلقاه فارس اسمه شهرياض فحمل عليه وطعنه طعنة أخرج بها أمعاءه وقتله فاجتمعت عليه الأعاجم فقتلوه وانهزموا ودخلوا المدينة وأغلقوا الأبواب وصعدوا على الاسوار وبعدها أشرف علينا رجل منهم وقال إن الملك يقول لكم هل لكم في الصلح على أن لنا ما بين دجلة إلى هنا ولكم ما يأتيكم من دجلة إلى خيلكم فتقدم اليه أبو مقرة الأسود بن قطينة وقد أنطقه الله بما لا يدري ما هو فأجابه بالفارسية وهو لا يعرف منها شيئا ولا يحسنها قال فرجع الرجل على السور فقلنا لأبي مقرة ما قلت له فقال والذي بعث محمدا بالحق ما أدرى ما قلت له الا أن الله أنطقني بشيء ولعل أن يكون فيه خير للمسلمين ولا زالوا يسألونه حتى سأله سعد بن أبي وقاص
فقال والله يا أمير ما أعلم ولا أدري فتعجب سعد من ذلك وأمر الناس بالزحف والرمي وان لا أحد من أهل المدينة يظهر لهم ولا يبين فقلنا لعلهم أن يكونوا يكيدوننا بمكيدة وإذا نحن في اليوم الثاني برجب قد خرج الينا وهو ينادي الأمان الأمان فأمناه وأتينا به إلى الأمير سعد فقال له ما الخبر قال إن القوم ليسوا في المدينة وقد هربوا فقال سعد ومن أي شيء هربوا فقال الرجل ان الملك بعث إليكم رسولا يعرض عليكم الصلح
198

فأجبتم انه لا يكون بيننا وبينكم صلح أبدا حتى نأكل عسل افريزيا نوح تركوا المتاع والأموال والرجال ولم يكن لهم غنيمة الا أنفسهم قال فلما ألسنتهم وترد علينا وتجيبنا عن العرب ووالله لئن لم يكن كذلك والا فإنما هو شيء ألقى على فم هذا الرجل فابرزوا إلى القصوى فخرجوا من البلد وقد تركوا المتاع والأموال والرجال ولم يكن لهم غنيمة الا أنفسهم قال فلما سمع سعد ذلك من الرجل سجد لله شكرا وأمر المسلمين أن يدخلوا المدينة بالعدد خوفا من الكمين ففعلوا وركب سعد وتقدم المجاهدون ودخلوا وداروا بالبلد فلم يجدوا في نهمشير أحدا من الفرس ووجدوا الأموال على حالها فاحتووا عليها وأقام سعد بها ثلاثة أيام وخرج إلى الشط وأراد أن يعبر بالناس إلى المدينة القصوى وهي اسبانير فلم يجدوا شيئا من السفن فأقام أياما من شهر صفر والناس يحرضونه على العبور إلى ذلك الجانب وهو يأبى اشفاقا على المسلمين فبينما هو كذلك إذ جاءه أعلاج فوقفوا بين يديه ودلوه على مخاضة تخاض فأبى
ذكر فتوح الإيوان ودخول المسلمين في الدجلة وفتوح اسبانير وهي المدينة القصوى
فلما دلوه على المخاضة أبى وقال بحر عميق وما كنت أغرر بالمسلمين والله يصنع بهم ما يشاء فبينما هو كذلك إذ أتوه بعلج وأثوابه تقطر بالماء فسأله سعد عن حاله فقال كيف حالي والملك قد رأى في منامه ان المسلمين قد عبرت اليه وقد استشعر بزوال ملكه وهو معول على الهرب وان يأخذ أمواله ويمضي إلى خراسان قال فلما سمع سعد ذلك جمع المسلمين وحمد الله وأثنى عليه وقال أيها الناس ان عدوكم قد استعصم منكم بهذه السفن وكسرى قد عول على الهرب بأمواله ورجاله واني قد عولت على العبور إن شاء الله تعالى واعلموا انه ليس وراءكم من تخافونه لان الله قد ملككم معاقلهم وبلادهم وقد رأيت من الرأي أن نقطع هذا البحر إليهم ونقدم عليهم فما أنتم قائلون فقالوا جميعا قوى الله عزمك على الرشد فافعل ما أراد الله به فعندها قال سعد رحمكم الله ونصركم أيكم يبتدئ أو يتقدم ويجس لنا المخاضة وينبش عليها من على الشط حتى تتلاحق به الناس فابتدر لها عاصم بن عمر وانتدب معه ستمائة من أهل النخوة ممن شاع ذكرهم ونما فخرهم وعلمت شدتهم وسار عاصم أمامهم حتى وقف على الشط ومعه الكتيبة الخرساء وهي كتيبة القعقاع بن عمرو رضي الله عنه
قال الواقدي حدثنا يونس بن عبد الأعلى عن يوسف بن عمرو قال ابتدر عاصم وشرحبيل وأبو مقرن ومالك بن كعب الهمداني ومثل هؤلاء
199

السادات وركبوا خيولهم واقتحموا الدجلة واقتحم بعدهم الستون والستمائة في أثرهم وأول من نزل في الماء عاصم بن ولاد وأبو مقرن وشرحبيل ومالك بن كعب وغلام من بني الحرث فلما رأتهم الأعاجم وقد قربوا منهم وأعدوا للخيل التي تقدمت خيلا منهم اقتحموا الماء فأول من لقيهم من جيش سعد عاصم بن عمرو فلما لقي خيل فارس في الماء صاح بأصحابه وقال شرعوا رماحكم إلى الاعلاج واقصدوا أعينهم فلما سمعوا كلام عاصم قصدوا عيون العدا وسقوهم كأس الردى فلما رأت الفرس ثبات العرب في الماء كثباتهم في الأرض للطعن والضرب ولوا الادبار والمسلمون في أثرهم فقتلوا غالبهم وما نجا إلى الشط الا القليل وملك المسلمين جانب الشط من جهة الفرس وتلاحق المسلمون فلما علم سعد ذلك أذن للمسلمين بالاقتحام وقال لهم استعينوا بالله وتلاحق الجند ونزلوا الدجلة وهي ترمي بالموج والناس يجهدون في عومهم وهم لا يكترثون بالموج ولا بتلاطمه وكأنهم على وجه الأرض ونزل بأهل فارس ما لم يكن في حسابهم وقاتلوا قتالا شديدا
قال الواقدي حدثني من أثق به ان أول من عبر من الجيش ستون فارسا خرجوا زمرا فأول زمرة تسعة أولهم عاصم والزمرة الثانية ثلاث وثلاثون قال عاصم ابن عمرو وقد اقتحمنا الدجلة خيلا ورجالا ودواب حتى نزلنا ولا نرى الماء من كثرة الناس وخرجت خيلنا وهي تنفض معارفها وتصهل على الشط الهاما من الله قال ولما رأى الملك كسرى ان المسلمين قد عدلوا إلى الجانب الثاني أمر شهريار بن ساور أن يبرز للمسلمين ويقف في مقابلتهم ففعل وأخذ كسرى ما قدر على حمله من أمواله من الدر والجواهر واليواقيت وما أشبه ذلك قال وان سعدا ليخوض الماء خوضا وهو يقول ذلك تقدير العزيز العليم قال ولم يغرق من الناس أحد
قال الواقدي حدثني النعمان بن عاملة الضبي عن أبيه عثمان انهم سلموا عن آخرهم وان رجلامن بارق يقال له عرقدة زال عن فرسه وكانت شقراء وكأني انظر إليها وصاحبها غريق فمضى اليه القعقاع بفرسه وأخذ بيده وجره حتى عبر به فقالت الناس عجزت النساء أن تلد مثلك يا قعقاع ولم يذهب للناس في الماء شيء الا قدحا كانت علاقته رثة فانقطعت فذهب الماء بالقدح فقال صاحبه والله لأجهدن عليه وما كان الله ليسلبني قدحي من بين العسكر فلما عبروا أتى رجل من الناس ليغتسل وإذا بالأمواج قد رفعت القدح اليه فتناوله وأتى به إلى العسكر فعرفه صاحبه فأخذه
قال الواقدي حدثني عمرو بن تميم قال بلغنا انه لما عبرت المسلمون تحامت الفرس وقاتلت قتالا شديدا وحمت أنفسها وعولت على أن
200

تقاتل إلى أن تموت وهم خواص الملك وأصحاب الإيوان والحصون والقلاع ومقدمهم شهريار بن ساور فطعنه خالد بن نمير في عينه ففقأها وانثنى عليه بضربة بالسيف فقتله وإذ فاجأتهم خيالة من نحو الإيوان وقالوا لهم عمن تقاتلون فان الملك هرب بأمواله وأهله وخدمه قال فلما سمعوا ذلك ولوا الادبار ولم يكن بالمدائن أعجب من عبور المسلمين إليها وسموا يوم عبورهم الدجلة يوم الجراثيم لأنه لم يكن أحد يعبر الا ظهرت له جرثومة يسير معها وهي من القش المربوط حزما
قال قيس بن أبي حازم خضنا الدجلة وهي تطفح فلما توسطناها كان يصل الماء من الفرس للحزام فلما نظرت الفرس إلى ذلك والمسلمون يعبرون من غير مشقة جعلوا يقولون بالفارسية ديمور يعني جاء الجن وقالوا والله ما أنتم تقاتلون انسا انما تقاتلون جنا فانهزموا وأراد المسلمون الدخول إلى الإيوان فمنعهم سعد من ذلك وقال لهم إياكم والعجلة في الأمور فإنها تورث الندامة واني أخاف أنها من بعض مكايد العجم فلم يدخل اليه أحد قال وتقدم سلام المجازي إلى سعد وكان غلاما وقال له أيها الأمير والله لقد أرضيت اليوم الله ورسوله وقتلت المقدم عليهم ثم إنه استشهد بقية رفاقه الستين فلم يشهد له أحد منهم فقال للغلام المجازي والله ما قتلته فنكس الغلام رأسه وأراد أن ينصرف وإذ قد وثب رجل من الصحابة اسمه هاشم بن عتبة وقال لسعد أيها الأمير أنا رأيته وقد قتل مقدم الفرس فصدقه سعد وأعطى الغلام سلبه
قال الواقدي حدثنا عبد الله بن بشر قال حدثنا أبا سليمان
بن عامر قال أخبرنا عبد الله ان يزدجرد الملك لما كان بأعلى الإيوان يوم خاض المسلمون الدجلة ورأى عبورهم والخيل لا ترجع والعرب لا تجزع والصحابة يتحدثون وهم في الماء كأنهم على الأرض أيقن بزوال ملكه وذهاب عزه فنزل وهو يبكي وأخذ من بيوت المال والخزائن من الثياب والآنية شيئا لا قيمة له ولا يعرف له ثمن وترك ما بقي عنده من عدة الحصار من الزاد والبقر والغنم ومن كل الأطعمة والأشربة وكان أول من دخل المدينة القصوى مسكن الملك وهي اسبانير يعقوب الهذلي ومعه الكتيبة الخرساء كتيبة القعقاع بن عمر فدخلوا يخترقون أزقة المدينة ولا يلقون أحدا قال فعزم سعد على الدخول في المدينة القصوى لما أمر زهرة بن الجويرية أن يذهب بعسكره ويتبع المنهزمين وسير كتيبة أخرى مع المرقال فلحق بحاجب بن حجاب ابن كسرى فخاطبه بالفارسية فقال ان العرب قد عبرت الينا ولم يعرفه فطعنه المرقال فقتله وأخذ غلمانه أسرى وموجودهم وأتى به إلى سعد ويقال أحد
201

مرازبة كسرى الكبار كان يوم دخول العرب المدينة داخلها وكان غير مكترث بهم فخرج إلى ظاهر داره ورجع يريد منزله وإذا بغلمانه وهم خارجون من الدار يهرعون وقد أخرجوا الأمتعة فقال مالكم قالوا إن الزنابير قد غلبت على منازلنا فاخرجتنا قوة قال واشتد الصياح والبكاء والعويل من أهل المدينة وهم يلطمون على وجوههم فلما رأى المرزبان ذلك أخرج لامة حربه ولبسها وأتوه بجواده فشده وأسرجه فانقطع ثلاث مرات فمر به فارس من العرب فطعنه وقال خذها وأنا ابن المخارق ومضى عنه ولم يلتفت إلى سلبه قال ودخل سعد يطلب الإيوان فلما دخل المدينة دخلها وهو يقرأ * (وأورثناها قوما آخرين) * فلما دخل الإيوان ترجل وصلى فيه صلاة الفتح ثمان ركعات لا يفصل بينهما واتخذه مسجدا قال وكان في الإيوان تماثيل وصور فتركوها على حالها قال وأتم سعد الصلوات من يوم دخل الإيوان فإنه أراد المقام بها وجمع وكانت أول جمعة صليت بالعراق وبالمدائن في شهر صفر ثم إن سعدا تحول من الإيوان بعد ثلاثة أيام إلى القصر الأبيض واقام سعد على قبض أموال الغنائم عمرو بن عمرو بن مقرن وأمره أن يجمع ما في القصور والإيوان والخزائن والدور والأسواق وان يحصيها وكان أهل المدائن لما رأوا العرب في أرض واحدة خرجوا فرارا وأخذوا معهم ما قدروا على حمله وما انفلت أحد منهم المسلمون وأتوا به إلى سعد فتسلمه عمرو وصيرها في جملة ما جمعوه من الأموال وكان أول شيء جمعوه يومئذ بالقصر الأبيض ثم منازل كسرى وسائر دور المدائن قال جهد بن صبار دخلنا المدائن فمررنا بأبيار عليها أغطية من رصاص فظننا أنها طعام ففتحناها فإذا هي أوان من ذهب وفضة ورأينا كافورا كثيرا فحسبناه ملحا فما اعتبرناه قال وخرج زهرة في طلب المنهزمين فانتهى إلى جسر النهروان وإذا عليه كثير من الفرس بأعظم عدة وأحسن زينة وهم يزدحمون على الجسر قال ووقع بغل في الماء فتكاثروا عليه وصاح بعضهم على بعض قال ووقع منهم بغل آخر فصاروا في هرج ومرج فلما رآه المسلمون قال زهرة ان لهذا البغل لشأنا وما تكالب عليه القوم وصبروا مع ما في قلوبهم من الخوف الا لامر عظيم وقال احملوا عليهم وابذلوا فيهم السيوف
قال فحملنا عليهم حملة صادقة فقتلنا منهم أناسا كثيرة وولى الباقي منهزمين وأخذنا البغل وإذا عليه حلة كسرى وثيابه ودرعه ووشاحه التي كان فيها الجوهر وكان يجلس بها للمباهاة قال فأتينا بها قال سهل بن سابق لما أخذنا البغل وأتينا به لم ندر ما عليه وعن يعقوب عن جده قال كنت مع من خرج في طلب المنهزمين وإذ نحن ببغلين مع اثنين وهما
202

يرميان كل من يقربهما بالنشاب ولم يجسر أحد أن يدنو منهما فقصدتهما وحملت عليهما وقتلتهما وأتيت بالبغلين إلى صاحب الاقباض وهو يكتب كل ما تأتي به العرب من سائر العراق فلما أتيته بالبغلين قال لي على رسلك حتى ننظر ما معك فحطيت عنهما فإذا في الحمل الواحد تاج كسرى وجواهره وفي الحمل الثاني ثيابه وهي موشحة بالذهب منظومة بالدر وعن محمد بن طلحة والمهلب قالا خرج القعقاع في طلب المنهزمين فلحق بفارس من الفرس وهو يكر على قوم من المسلمين وقد جزعوا منه وما أحد منهم يدنو اليه فقصده القعقاع بشدة عزمه وقال له دونك أيها الكلب اللئيم لقتالي وطعنه فقتله ووجد معه عيبات مغلقات ففتحوها فإذا بالعيبة الواحدة خمسة أسياف وفي
الأخرى خمسة أسياف محلاة بالذهب ودروع كسرى من أيام غزواته لهم وأما السيوف فكانت سيف كسرى وسيف هرقل وسيف مهمود وسيف خاقان وسيف النعمان بن المنذر فلما رآها سعد قال يا قعقاع خذ أي سيف شئت وجاهد به العدو فأخذ سيف هرقل وأعطاه درع بهرام جور وأما بقية الاسلاب فأعطاها للكتيبة الخرساء الا سيف كسرى والنعمان فامسكهما لأمير المؤمنين يرسلهما مع الخمس والتاج والثياب وعن رجل من الصحابة قال كنت مع الناس في طلب المنهزمين من خيل كسرى فبينما أنا على طريق إذا برجل ومعه حمار وكان راكبا عليه فلما رآني ترجل وجعل يحث حماره على السير حتى انتهى إلى نهر قد خرب فلم يمكنه العبور فدنوت منه فأخذ يرميني بالسهام فزغت عن رميه وحملت عليه فقتلته وأخذت الحمار ووجدت آخر ومعه حمار فتركه وانهزم فاتيت بهما إلى صاحب الاقباض فإذا على أحدهما فرس مصوغ بالذهب والفضة مرصع بالدر والجواهر ولجامه كذلك وسرجه كذلك وعليه فارس كذلك وإذا على الحمار الآخر ناقة من فضة وعليها كور من الذهب مرصع ولها زمام من ذهب وكل ذلك منظوم بالياقوت وعليها رجل من ذهب مرصع بالجواهر وكان كسرى يضيفهما للتاج وكان يباهي بهما ملوك الأرض وعن أبي عبيدة الهبري قال لما هبط المسلمون بالمدائن وجمع صاحب الاقباض الغنيمة وبقي الرجل يأتي بما معه فيدفعه إلى صاحب الاقباض فقال صاحب الاقباض ما رأينا مثل هذا قط ثم قال للرجل الذي اتى بالحمارين بالله عليك هل أخذت شيئا منه فقال والله لولا الله لما أتيتكم بهما فقالوا له وما أنت فقال والله لا أخبركم لتحمدوني ولكن أحمد الله وأرضى بثوابه ومضى فتبعه واحد من موالي صاحب الاقباض فسأل عنه فقالوا هذا عامر بن القيس قال وبلغ الخبر سعدا رضي الله عنه فقال أحلف بالله الذي لا اله
203

الا هو اننا ما اطلعنا على أحد من أصحاب جيش القادسية يريد الدنيا ولقد اتهمنا ثلاثة نفر فاتبعناهم فعجزنا عن وصف أمانتهم وزهدهم وهم طلحة بن خويلد الذي ادعى النبوة بعد النبي صلى الله عليه وسلم والثاني عمرو بن معد يكرب والثالث هو قيس ابن هبيرة
قال حدثنا من شهد فتح المدائن قال خرجنا بعد فتح القصر الأبيض وكان قد تحصن به رجال من المرازبة وكانوا أشد جلدا وأقوى عزيمة من جميع الفرس وتحالفوا أنهم لا يسملون ابدا والذين حصلوا وتولوا حصارهم كتيبة الأهواز وهي كتيبة القعقاع فلما رأينا عزمهم على الموت بعدنا عن نشابهم وحجارة مجانيقهم وطال علينا ذلك وشكونا ذلك إلى سعد وقلنا له قد حرمنا الجهاد بحصارنا لهؤلاء الاعلاج فقال سعد لسلمان تقدم إليهم ودبر شيئا فيه مصلحة للمسلمين وأمنهم فتقدم إليهم سلمان وكلمهم بالفارسية فأمسكوا عن رميه وقالوا له من أنت فقال أنا رسول من المسلمين اعلموا أن الرجل يقاتل عن نفسه وماله وولده إذا رجا الخلاص وما أرى لكم من خلاص قط وهذا الملك قد انهزم وأخذنا مملكته وخزائنه وما بقي في المدائن أحد غيركم فاتقوا الله في أنفسكم ولا تهلكوها وسلموا لنا هذا الحصن ولكم الأمان إلى أي جهة توجهتم لا يعارضكم منا أحد قال فلما سمعوا قوله قالوا لا نسلم حتى نهلك عن آخرنا ثم رموا سلمان بالنشاب فقرأ ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا وأشار إلى النشاب بيده فذهبت السهام يمينا وشمالا ولم يصبه منها شيء قال فلما رأوا ذلك قالوا زنهار فبحق ما تشير اليه من أنت قال أنا روزنة وقد عمرت أربعمائة سنة ولحقت آخر أيام عيسى بن مريم وطفت الأرض حتى لحقت بنبي هذه الأمة صلى الله عليه وسلم فلما أتيته أكرمني وخدمته فعظمني حتى أنه جعلني من أهل بيته فقال سلمان منا أهل البيت فلما سمعوا قوله وحققوا معرفته علموا أنه كان من عظماء أهل دينهم قال فصقعوا له وقالوا والله ما نخفي عليك شيئا من أمرنا وسبب قتالنا ليس بسبب مال ولا متاع وانما الملك قد مضى يريد نهاوند ولم يقدر على أخذ ابنته معه وهي مريضة وقد سلمها الينا فلزمنا من أمرها ما لزم فان كنتم تعطون الأمان عليها سلمنا لكم والا نموت يدا واحدة فلما سمع سلمان منهم ذلك قال دعوا هذه الامر حتى أشاور الأمير ثم عاد وحدث سعدا بما سمعه فقال يا عبد الله ان المسلمين قد انتشروا في العراق ونخاف أن يقع بهم أحد فلا يبقى عليهم ولكن قل لهم لكم علينا أن نذب عنكم وتكونوا في ذمامنا حتى تجاوزوا أي جهة تريدونها وبعد ذلك لا نضمن لهم ما يأتي
204

عليهم قال فحدثهم سلمان بما قاله الأمير فقال العقلاء منهم لولا أن العرب على حق ما نصروا علينا ومن الرأي ان نرجع إلى دين هؤلاء العرب ونعيش في ظلهم وان القوم لا يريدون ملكا وقد رأيتم هذا الرجل وما ظهر لكم من كرامته قال ففتحوا باب السر وخرجوا إلى العسكر وأتوا إلى سلمان فأتى بهم إلى سعد وأسلموا على يديه فلما جرى ذلك بكى سعد وقال اللهم انصر الاسلام وقرأ قوله تعالى * (وتلك الأيام نداولها بين الناس) * وبعث إلى صاحب الاقباض فأخذ جميع ما في القصر الابيص من الأموال وخزانة الملك فلما قسم الغنائم على المسلمين أعطى أولئك أوفى نصيب وأنزل على واحد منهم في داره فلما رأى أهل البلد ذلك منه وما صنع مع هؤلاء دخل في دين الاسلام منهم ألوف اقتداء بالقوم قال الواقدي حدثنا موسى بن عبد الله عن عمرو عن جده يحيى قال بلغنا غير هذا وذلك أن هاشم بن عتبة تبع المنهزمين من جنود الملك فانتهى سيره إلى مرج حلوان فالتقى بكتيبة من أهل فارس بالعدد والسلاح والهوادج والخدم والجواري والمماليك وقد داروا بمحفة من العود الرطب وعليها من الثياب الملونة المذهبة وأهلتها من الذهب مرصعة بالجواهر وقاتلوا دون المحفة قتالا شديدا وكانت المحفة لشاهران ابنة الملك يزدجرد بن كسرى وكان السائر بها ساقر بن هرمز فقتله وقتل أصحابه أكثر ما كان مع ساقر وولى الباقي منهزمين وتسلم هاشم المحفة وما حولها وأتوا بذلك كله إلى سعد وأعلموه بأن ابنة كسرى معهم فقرأ سعد قوله تعالى قل الله مالك الملك الآية ثم أشرف سعد على ما بقي من الخزائن فوجد صندوقا عظيما ظاهره وباطنه بالديباج المذهب وفي داخله بساط كسرى وهو البساط الذي كان يفتخر به على الملوك ملوك الدنيا كله ذهب منسوج بالحرير منظوم بالدر واليواقيت الملونة والمعادن والجواهر المثمنة والزمرد وكان طوله ستين ذراعا قطعة واحدة في جانب منه كالصور وفي جانب كالشجر والرياض والأزهار وفي جانب كالأرض المزروعة المقبلة بالنبات في الربيع وكل ذلك من الحرير الملون والمعادن على قضبان الذهب والزمرذ والفضة وكان الملك لا يبسطه الا في أيام الشتاء في إيوانه إذا قعد للشراب وكانوا يسمونه بساط النزهة والمسرات فيكون لهم شبه الروضة الزهراء فلما رآه العرب قالوا والله هذه قطيفة زينة قال ولما قسم سعد على الناس الغنائم أصاب الفارس اثنا عشر ألف دينار وكلهم كانوا فرسانا ولم يكن فيهم راجل وأخرج للغائبين مع النساء والحريم في الحيرة نصيبهم وقسم الدور بين الناس وكان قد ولى القبض عمرو بن عمرو المدائني وولى
205

القسمة أبا سليمان
بن ربيعة وكان فتح المدائن في شهر صفر وأخرج الخمس لعمر بن الخطاب رضي الله عنه وأراد أن يقسم البساط فلم يدر كيف يقسمه فقال سعد معاشر المجاهدين اني رأيت من الرأي أن نرسله إلى عمر ليصنع فيه ما يختاره فأجابوه على لسان واحد نعم ما رأيت أيها الأمير فردوه إلى صندوقه وأضافه إلى الخمس وكتب إلى عمر رضي الله عنه يقول بسم الله الرحمن الرحيم إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه من عامله على العراق سعد بن أبي وقاص أما بعد فسلام عليك واني أحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم على ما منحنا الله الظفر على العدو الذي أطاع شيطانه وأرخى في ميدان الغي عنانه وقد أجرانا الله سبحانه على جميل العادة وأخذنا الملك من يزدجرد بن كسرى في كثرة أطواده واحتزاز رؤوس أجناده الذين جاست الهيبة ديارهم وضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وان الكافرين لا مولى لهم وقد انهزم عدو الله بعد ما قتلنا جنده وأخذنا ابنته واننا منتظرون أمرك فيما يكون بعد هذا ونحن مقيمون على المدائن والسلام عليك وعلى جميع المسلمين ورحمة الله وبركاته وسلم الكتاب والمال إلى بشر وضم اليه خمسمائة فارس وسلمه ابنة كسرى بمحفتها وخدمها ثم إن سعدا رأى رأيا أن يسير بشيرا يبشر عمر بفتح المدائن وبقدوم الخمس وبما أنعم الله على المسلمين ليكون أزيد هيبة وبهجة بالفتوح فأرسل جيش بن ماجد الأسدي أو ابن هلال والله أعلم فخرج على ناقته وقصد المدينة يجد السير قال وكان عمر رضي الله عنه في كل يوم بعد ما يصلي الصبح يقرأ ما تيسر ويركب ناقته ويتوجه نحو طريق العراق ويرتقب ما يرد عليه من أخبار المسلمين
قال فخرج على حسب العادة وإذا هو بجيش قد اقبل على ناقته فلما رآه عمر قصده وقال له يا عبد الله من أين أقبلت قال من المدائن يا أمير المؤمنين قال فما عندك من الخبر أقر الله عينك وغفر لنا ولك قال ابشر يا أمير المؤمنين بالفتح العميم والسعد الجسيم وان الله سبحانه وتعالى قد هزم جند المشركين وقطع دابر القوم المجرمين وأخلى منهم ديارهم وأخفى آثارهم وزعزع مراكبهم وطحطح مواكبهم وكتائبهم وشتت جموعهم وأخلى ربوعهم وقصم آجالهم وفرق أحوالهم وترك مساكنهم خالية وأوطانهم خاوية قال فلما سمع عمر رضي الله عنه هذا المقال حمد الله وأثنى عليه وقال خذلوا من مأمنهم وسار وهو يحدثه بفتح المدائن حتى دخل المسجد وتسامع الناس فأتوا حتى غص المسجد بالناس وأقبل جيش يحدثهم وهم يكثرون الثناء على الله ويصلون على النبي صلى الله عليه وسلم وبعدها وصل
206

بشر بالمال ومعه ابنه الملك كسرى ولباسه وسلاحه وبساطه فلما نظر عمر إلى ذلك قال إن الذي أهدى الينا هذا لأمين فقال علي كرم الله وجهه انك عففت فعفت الرعية فحمد الله وأثنى عليه وافرز من الخمس سهم من غاب من المسلمين وقسم الخمس في مواضعه ثم قال أشيروا علي فيما أصنع في هذه القطيفة أعني البساط فقالوا رأيك أعلى فقال علي كرم الله وجهه لم يدخل عليك جهل ولا تقبل شكا وانه ليس لك من الدنيا الا ما أعطيت فأمضيت ولبست فأبليت وأكلت فأفنيت قال فوالله لقد صدقني يا أبا الحسن ثم إنه قسم البساط قطعا بين الناس قال فأصاب كل رجل منهم قطعة فباعها بنحو العشرين ألف دينار فلما فرغ من توزيعه وتوزيع مال الخمس دعا بمحكم بن رواحة وكان من أجسم أهل المدينة وأجفاهم خلقة فالبسه زي كسرى ووشاحه وتاجه وسواريه ومنطقته وحلاه بحليته وعصابته وسيفه وسلاحه وعدته ونظر الناس اليه كأنه كسرى في ملكه فقال عمر رضي الله عنه اعتبروا بالدنيا وتقلباتها بأهلها وما يرى من مصائبها وعطبها هذا كسرى ما زال يفتخر على ملوك الدنيا بكثرة أمواله وذخائره وجواهره وعزه وجنوده ولم يقدم لنفسه شيئا ينفعه عند الله وغرته الأماني الكاذبة فأخذه الله من مأمنه وبقي مرتهنا بما اكتسب في دينه ودنياه ثم قال أيها الناس هذا ملك المدائن قد انتقل عن أصحابه وتوزع بين أربابه اين تلك الحشمة والسلطان أين الجنود والأعوان اين الغلمان اين المماليك والخدام أين التاج والإكليل أين الجيش والفيل اين الصاحب والخليل وقرأ قوله تعالى قل متاع الدنيا قليل ثم قال أيها الناس من له منكم يد سابقة فليقم فقام عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه فقال أنا يا أمير المؤمنين ابن الصاحب والخليل وابن أول من آمن ووزر وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصر وأنفق ماله وتصدق ودخل معه الغار وانتصر وجاهد بين يديه رجاجج من كفر وجادل وافتخر وأنزل الله فيه لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل
فقال عمر رضي الله عنه والله لقد صدقت وبقليل من فضله قد نطقت ثم أمر له بخلعة وعشرة آلاف درهم ثم قال أيها الناس من يقم منكم فقام عثمان بن عفان وقال أنا من جهز جيش العسرة وحفر بئر رومة وألف القرآن وجمعه وختمته في ركعتين وتزوجت الابنتين وصليت إلى القبلتين وأنفقت المال في حبه وأنزل الله في حقي * (أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه) * فقال عمر رضي الله عنه أحسنت يا أبا الفتيان فمثلك من رفض الكذب وأبان الحق وأمر له بعشرة آلاف درهم ثم أنه نظر إلى
207

الأخوين الزاهدين والغصنين النضرين سيدي شباب أهل الجنة وريحانتي نبي هذه الأمة وقال لهما يا حبيبي ما الذي أخركما من مثلكما يفتخر وقال ألستما سبطي الرسول أليست أمكما فاطمة البتول أليس أبوكما سيف الله المسلول أليس في بيتكما نزل التأويل أليس كان سادسكما تحت العباء جبريل أليس فيكما أنزل الله الجليل ما على المحسنين من سبيل فان افتخرتما فلكما الفخر البليغ ثم أمر لكل واحد منهما بعشرين ألف درهم فقال علي لله درك يا عمر ومن مثلك تكلم ونشر ومدح أهل البيت وأثنى وذكر خيرا وشكر ثم قال أيها الناس من كان لأبيه سابقة فليقم (فقام عبد الله بن عمر رضي الله عنه وقال يا أبت أما أنا ابنك وأنت أبي لك الفضائل والحمد والافتخار في الأمة وذلك الوقار والرجاحة والفصاحة والنصاحة نصرت الاسلام والمرسلين واتبعت سنن سيد المرسلين وأنزل في حقك ارحم الراحيمن يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين وأنت الذي أظهرت الاسلام جهرا وقلت لا يعبد الله سرا فقال عمر يا بني الشقي من يغتر بالدنيا الساحرة والسعيد من يعمل للآخرة وقرأ من عمل صالحا فلنفسه من أساء فعليها ثم أمر له بألف درهم فقال يا أبت انا هجرت وأنفقت ونصرت وزعزعت مواكب الروم وما قصرت وتأمر لي باليسير من مال الله الكثير وتعطي هؤلاء ما أعطيت فقال يا بني اسلك طريق الانصاف ولا تتبع الاسراف وأنا أقول لك ان كان لك جد كجدهما أعطيتك أو أم كأمهما وفيتك وان كان لك أب كأبيهما أرضيتك يا بني كل نسب يضمحل يوم القيامة ويخفي الا نسب البتول ولما فرغ من ذلك أمر بابنة كسرى أن يوقفوها فأوقفت بين يديه وعليها من الحلى والحلل والزينة والجواهر شيء كثير
وأمر أن ينادي عليها فقال للمنادي أزل عنها هذا القناع ليزاد في ثمنها فتقدم إليها المنادي ليزيل عنها ذلك فامتنعت وضربته في صدره فغضب عمر وهم أن يعلوها بالدرة وهي تبكي فقال علي كرم الله وجهه مهلا يا أمير المؤمنين فاني سمعت قول رسول الله يقول
ارحموا عزيز قوم ذل وغني قوم افتقر فسكن غضب عمر رضي الله عنه ونظر إليها فرآها تحدق بالنظر إلى الحسين بن علي رضي الله عنه فقال عمر رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله واني أرى هذه الجارية تحدق بنظرها إلى الحسين بن علي وما خفى على أنها أرادته من دون الناس أجمعين لأنه ليس فينا أصبح وجها منه ثم قال يا أبا عبد الله خذها هدية مني إليك فشكره علي ومن حضر من المسلمين
208

قال الواقدي قال يونس بن عبد الأعلى حين قرأت عليه في المسجد الأقصى في شهر ربيع الأول سنة مائتين وتسعين من الهجرة حدثنا عدنان ان ماجد الغنوي قال لما انهزمت الفرس من المدائن واستولى عليها سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وكان من أمره ما ذكرنا استقر قراره بالقصر الأبيض جلس حيث كانت الأكاسرة تجلس فلبس عند ذلك ثياب النسك والخشوع تسريل سربال الخضوع وعلم أن الدنيا أضغاث أحلام وأن الآخرة هي دار المقام وكلما نظر إلى آثار الأكاسرة وملكهم ازداد يقينا ودينا على دينه وقال وأنشد عاصم بن عمر في ذلك بعد فتح المدائن يقول
* شهدنا بعون الله أفضل مشهد
* بأكرم من يقوى على كل موكب
* ركبنا على الجرد الجياد سوابحا
* بكل قناة بل بكل مقضب
* وكنا بعون الله لا نرعوى إذا
* تبادر طعن كالغمام المشطب
* وكان جهاد قد ملكنا بأمره
* من الملك مستعلى البناء المذهب
* ترانا وانا في الحروب أسودها
* لنا العزم لا يخفى لكل مجرب
* نجول ونحمي والرماح شوارع
* ونطعن يوم الحرب كل مخبب
* قدمنا على كسرى بشدة حربنا
* وما حربنا في النائبات بمختبي
*
ذكر فتوح مدينة نشاور وهي آخر فتوح العجم والعراق
قال الواقدي وكان من قضاء الله وقدره ان ابن كسرى لما انهزم من المدائن مضى إلى حلوان وانضاف اليه كل من وصل اليه من المنهزمين من لأساورة والمرازبة والديلم وغيرهم فقام فيهم خطيبا وذكر زوال ملكه وأسر ابنته وخزائنه وأمواله وبكى وبكت أرباب دولته ثم قال يا أهل فارس ان الدنيا دنية الفعال سريعة الزوال قريبة الارتحال وهذا ملككم قد زال وعزكم قد حال ودياركم قد سبيت والعرب قد استولت على العراق ولا بد لهم منكم ولا غنى لهم عنكم وستنظرون خيلهم وقد طلبت خراسان والري وهمذان وما بقي لكم جهة تتوجهون إليها الا بلاد آبائكم وأجدادكم فانتبهوا وانتهزوا الفرصة وأزيلوا الغصة وأدركوا ما بقي من أيامكم ولا ترتدوا على أدباركم وقد بلغني أن الدنوس العادي بن هر بن كيقباذ بن يزدجرد التقى هو والإسكندر بن القليس الرومي وما زالا يقاتلان ويقتتلان حتى قتل أحدهما فشمروا أنتم عن ساق الجد ودونكم والقوم هذه الكرة اما لكم واما عليكم فلعل النار والنور ينصرانكم وأنفق فيهم ما كان معه فاستعدوا للقاء وأخذوا على أنفسهم وضربوا خيامهم في مرج حلوان وجاء علماء دينهم وأوقدوا لهم النار وقربوا لها القربان وتحالفوا أن لا ينهزموا ولو ماتوا عن آخرهم قال ومضت نساؤهم وبنات ملوكهم وأبطالهم الذين قتلوا في الثياب ملطخات
209

بالدماء وهن يستفززن الجيوش والعساكر من بلاد العجم وغيرها قال وان الحجاب والمرازبة والاساورة تعاهدوا على أن لا يفروا أو يموتوا عن آخرهم
قال الواقدي حدثني محمد بن عاصم بالكوفة بعد ما أخذها المسلمون قال لما فتحت المدائن واتخذها المسلمون وطنا فما كان دأبهم الا ان يحفروا دور الفرس ويخرجوا خباياهم وأموالهم قال عبد الله بن حجفة حضرت العرب وقد أخرجوا من إزاء القصر الأبيض من مصنع هناك للفرس الأكاسرة تمثالا من الذهب على صفة الفارس وقد سكبوا عليه الماء حتى غار في الأرض وكانت ملوك الفرس يفتخرون بذلك على سائر الملوك فوالله لو قسم ذلك على عرب بكر بن وائل لكان يسد منهم مسدا وجاءت عيون المسلمين إلى سعد وأخبروه بما فعل القوم واجتماعهم في مرج حلوان في مائة ألف وقد وجهوا أثقالهم وما يعز عليهم إلى الجبل وهم يطلبون لقاءكم قال واجتمع المسلمون في الإيوان وقالوا أيها الأمير ان العدو قد اجتمعوا بمرج حلوان وتعاهدوا على أن لا ينهزموا أبدا ويموتوا عن دم واحد يرويدن مدائنهم قال فكتب سعد إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعلمه بذلك ويقول له أن أهل الموصل قد مات ملكهم الانطاق وقد تولى عليهم الشكان بن قالوص وارتدوا عن صلحنا وعول ملكهم على أن
يكون عونا لأهل فارس علينا والسلام عليك وعلى جميع المسلمين ورحمة الله وبركاته فلما وصل الكتاب على عمر أرسل يقول له يا سعد اعلم أن الله منجز وعده وبعث اليه هاشم بن عتبة في اثنى عشر ألف فارس من المهاجرين والأنصار ألفان والبقية من العرب
قال وان ابن كسرى لما حصن حريمه وأمواله في الجبل أمر على عسكره مهران الداري ووصاه وسار مهران بالعسكر فركب معه ابن كسرى مقدار ميل وودعه ورجع إلى حلوان والمدد يأتي اليه من سائر بلاد العجم قال ووصل مهران إلى مدينة نشاور ونزل بها في دار الولاية واقام بها فلما كان الغد ركب في وجوه قومه ودار بهم على أسوارها وأبوابها وأمر بتحصينها في علو سورها ونصب آلات الحصار بالعرادات والمجانيق وحفر خندقا عميقا وصنع حسكا من الحديد وجعله حول المدينة والخندق وما خلى من أهل البلد صغيرا ولا كبيرا حتى استعمله في السور والخندق وادخر القوت وعلف الخيل وما يحتاجه للحصار واستوثق من أهل البلد الكبير والصغير منهم وأخذ رهائنهم وحلفهم على أن لا ينهزموا ابدا قال فلما اتفق ذلك كله أقام ينتظر قدوم المسلمين قال وأما هاشم بن عتبة فإنه سار في اثني عشر ألف مجاهد حتى أشرف على مدينة نشاور فوجدها محصنة بالعدد والعدو قد
210

أظهر الزينة والسلاح على الأبراج بالدروع والجواشن والمجانيق والعرادات والبيارق والاعلام ووضعوا في أركان المدينة على الأبراج قباب حديدج ليضرموا فيها النار ويستنجدوا لها ويستنصروا بها على العرب فلما أشرف عليهم عسكر هاشم بن عتبة ضجوا بكلمة كفرهم وأشاروا إلى الشمس والنيران يسجدون لهما قال والأرض ترتج من تحتهم والسماء ترعد من فوقهم والأكوان تسترجع وتصيح في هلاكهم فنودوا من قبل الله ان اسكنوا عن اضطرابكم فأنا الحليم الذي لا أعجل على من عصاني ولا أخيب من دعاني أنا الذي تسبح لي السماوات ومن فيها والأرضون بنواحيها وقد سبق في علمي ان أطهر هذه الأرض من الأرجاس وأبدلها بمن قلت فيهم * (كنتم خير أمة أخرجت للناس) * أنا الذي أمهل ولا أهمل وعزتي وجلالي لأطهرن هذه الأرض من الكفرة الملحدين والفئة المفارقين ولأبدلن بيوت النار بمساجد ذكر فيها آناء الليل وأطراف النهار يعمرها رجال قد أحسنوال الظنون وذكرتهم في الكتاب المكنون ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون
قال الواقدي حدثنا عمرو بن ربيعة الشيباني قال أخبرنا أحمد الطويل قال لما نزل هاشم بن عتبة على مدينة نشاور بمن معه من المسلمين لم يلتفتوا إليهم ولم يكترثوا بهم وأروهم التجلد والشدة وجعلوا يطاولونهم ولا يخرجون إليهم فصعب ذلك على المسلمين والمدد واصل إليهم من عند يزدجرد بن كسرى فاشتدت قلوب أعداء الله فقالوا لمهران الداري أيها الصاحب ما الذي تنتظر بنا في قعودنا ومقامنا من وراء السور وقد اشتقنا إلى القتال فأخرج بنا إلى هؤلاء القوم فقد ضاقت صدورنا وضاقت بنا المدينة وهذه الشمس المنيرة تنصرنا وتظفرنا على أعدائنا وكذلك النار والنور فلما رآهم معولين على القتال أمرهم بالخروج وجعل على خيله جوزان بن جهران وأمره أن يزحف بالجيش فلما فتح باب المدينة وخرج الفرس فرح المسلمون بذلك وتبادروا إليهم بأسرار صافية وهمم وافية يطلبون القتال في مرضاة الله ذي الجلال وأنفسهم لذلك مستبشرة نازحة وهممهم إلى الحرب مسرعة فادحة وقد سئموا من سكنى دار الغرور واشتاقوا إلى سكنى القصور ومعانقة الحور وقالوا الهنا قد سئمنا من هذه الدار واشتقنا إلى دار القرار ومجاورة المختار فانجزنا ما وعدتنا وسامحنا إذا توفيتنا وأجرنا من عذاب النار واحشرنا مع الكرام الأبرار الذين قلت في حقهم * (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار) *
قال ولما ركب المسلمون جعل على مقدمة الخيل طلحة بن خويلد وبقي هاشم على الساقة فقال أيها الناس والله لا تنال الجنة الا بحسن الاعمال
211

فاتركوا من قلوبكم الميل إلى دار اللهو والأهوال والمقام في دار الزوال جاهدوا لتدخلوا جنة عرضها السماوات والأرض فهذه نار الحرب قد فاض تيارها وعلا دخانها وصفقت أمواجها وبدا فجاجها فاركبوا فيها سفينة النجاة والانجاد واقطعوا بشراع الاجتهاد هذا الطريق وانشرونا أعلام الصدق قال وقد اصطفت عساكر العجم ودقت بوقاتها ونشرت ازدهاراتها فهم كذلك إذ أقبل عليهم ملك الري في اثني عشر ألف فارس فلما رأى هاشم ذلك قال يا فتيان العرب لا تنظروا إلى كثرتهم وقلتكم فقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يوم بدر في ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا وخذل الكافرين وقد كانت قريش في حدها وحديدها وعددها وعديدها ونصر الله نبيه ورسوله قال الله تعالى * (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين) * وإذا بالخيل قد حملت عليهم كأنهم السيل فقال هاشم أخلصوا النيات ولا تولوا الأدبار واعلموا أنه قد تولى عليكم الجبار قال وأطبق الناس بعضهم ببعض وساروا بين البسط والقبض وازدحمت الأمم وقامت الحرب على قدم وقاتلت أبطال العجم وضربت بحرابها ورمت بصفاحها وفوقت بسامها وأظلم الجو من الغبرة في تلك الآفاق واعتمدوا على الضرب بالأسياف الرقاق وطعنت العرب بالرماح الدقاق وقلعت عرب اليمن بنبالها الأحداق ودنت الاعمار إلى المحاق وبلغت الأرواح التراق وعز الأنين والزعاق وصبرت الأعاجم على ما لا يطاق وسقاهم العرب من أسنة رماحهم كأس الفراق ولم يزالوا في القتال إلى أن ذهبت الأنوار وجاء الليل ومضى نور النهار وفي آخر يوم قدم القعقاع بن عمرو ومعه اثنا عشر ألف فارس فقويت قلوب المسلمين بقدوم عساكر الموحدين وأعلنوا بكلمة التوحيد فدوت من أصواتهم الجبال والتلال والرمال والحجر والشجر فلما سمع أعداء الله ما نطقوا به ارتعدت فرائصهم فاستقبلوهم بنيات صادقة وهمم متوافقة وأعلنوا بذكر كلمة الحق والصلاة على سيد الخلق فبذلوا صوارمهم في الأعداء وأوردهم شراب الردى وقصدوا نحو أعدائهم وطلبوا بجهادهم منازل الجنة وطلقوا الدنيا بتاتا وعلموا انهم يصيرون أمواتا وصاروا بعد الألفة أشتاتا فوقعت الهزيمة على عسكر العجم وحمل المسلمون في آثارهم وخذلهم الله فقتلوا من قتلوا وأسروا من أسروا وهرب الباقون واخذ المسلمون مدينة نشاور وغنموا ما فيها من الأموال وكان شيئا لا يقع عليه حصر وأقاموا فيها وبنوا الجامع وذكروا الله فيه ذكرا كثيرا وأكمل الله لهم فتوح العراق وكتبوا بذلك كتابا إلى أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضي الله عنه يعلمونه بذلك وبعثوا الخمس فوصل ذلك إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فسر
212

بذلك سرورا عظيما فحمد الله تعالى كثيرا وسرت المسلمون سرورا زائدا على ما فتح من بلاد كسرى وأعمالها على يد سعد بن وقاص واستوطنوا البلاد رضي الله عنهم
أجمعين
ذكر فتوح البهنسا وأهناس وأعمالها وفضائل جبانتها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم اعلم وفقك الله ان مدينة البهنسا ذكر بعض المفسرين ان الله سبحانه وتعالى ذكرها في كتابه العزيز بقوله عز وجل في حق عيسى عليه السلام * (وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين) * قال هي أرض البهنسا وكان من أمر عيسى عليه السلام ما سنذكره إن شاء الله تعالى واستشهد بها زهاء من خمسة آلاف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم من الأعيان والامراء زهاء من أربعمائة ويتبعهم من الاشراف والصحابة نفر كثير منهم علي بن عقيل بن أبي طالب والحسن بن صالح بن الحسين بن علي بن أبي طالب الذي عمر جامعا بها وكان من أمره ما سنذكره إن شاء الله تعالى وزياد بن أبي سفيان بن الحرث بن عبد المطلب والفضل بن العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنذكر من استشهد من الصحابة الأعيان بها إن شاء الله تعالى عند الفتوح وأبنائهم وجماعة كثيرة وذكر جماعة من السادات الأخيار أن من زار جبانة البهنسا خاض في الرحمة حتى يعود ومن زارها خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه وانه لا يزورها مهموم الا فرج الله همه ولا مغموم الا أذهب الله غمه ولا صاحب حاجه الا قضيت بإذن الله عز وجل والأماكن المستجاب فيها الدعاء منها عند مجرى الحصى ومقطع السيل وان هناك خلقا كثيرا من الشهداء ومشهد الحسن بن صالح بن الحسين بن علي بن أبي طالب وعند قبر زياد بن أبي سفيان بن الحرث وعند قبر عبد الرزاق من داخل الباب وعند معبد عيسى بن مريم عليهما السلام وعند قبور الشهداء بسفح الجبل وقبليها مكان يعرف بالمراغة قبل الجبانة عندها قبور الشهداء هناك بسفح الجبل
روى جماعة من الصالحين انهم قد جاوروا الجبانة المذكورة وكانوا من أرض المشرق وجماعة من أكابر الصالحين من أرض المغرب من أقصى الأندلس وانهم رأوا هذه الفضائل وبانت لهم فضائل وأنوار وشاهدوا ذلك عيانا وروى أصحاب التاريخ رضي الله عنهم أنه لم يكن بأرض مصر من البحيرة مشهد أكثر من أرض البهنسا وان مجرى الحصى عند منقطع السيل من الجهة الغربية قتل هناك خلق كثير واستشهد بها أربعمائة رضي الله عنهم أجمعين وسنذكر ذلك عند الفتح إن شاء الله تعالى أما فضائل البحر
213

اليوسفي الذي المدينة على جانبه فهو أكثر عجائب منها انه غزير البركة لأنه يفيض حتى يروي ما حوله من القرى والبلدان مع قليل من زيادة النيل ومنها أنه إذا زاد النيل شيئا قليلا يزاد فيه شيء كثير ومنها انه إذا انقطع عنه مدد النيل تفجرت من أصله عيون فصارت نهرا جاريا وهذا لا يوجد بغيره ابدا من الأنهار ومنها أنه ينقسم بأرض الفيوم ماء يسير فيروي زراعات وأراضي شتى وضياعا وهذا لا يوجد لغيره أبدا ومنها أنه دفن فيه يوسف الصديق عليه السلام وأقام إلى زمن موسى عليه السلام فازداد بذلك بركة ومنها انه شقه جبريل عليه السلام بخافقه من جناحه بأمر الله عز وجل للسيد يوسف عليه السلام وحسدهم العمالقة على ذلك وقد ذكرت الرواة انه كان بين يوسف عليه السلام وبين صاحب مصر كلام بعد فراغ السنين المجدبة فإنه لما اجتمعت بنو إسرائيل عند يوسف عليه السلام وحسدهم العمالقة على ذلك ذكروا ذلك لملك مصر
فقال ملك مصر يا يوسف رد علي ملكي فاجتمع رأيهم على الفرقة والقسمة فقسمت الأرض أي أرض مصر فوقع الجانب الغربي ليوسف عليه السلام وكان قفرا رمالا وتلالا فأراد ان يجري له نهرا من النيل فجمع له مائة الف عبد ودفع لهم المساحى والزنابيل وأمرهم أن يحفروا من الجهة القبلية عند فمه الآن فحفروا ثلاث سنين وقد أجرى لهم مؤنة من خزائنه فكان كلما جاء الليل سد ما حفروا ففعل من الجهة الشرقية كذلك إلى سبع سنين حتى أعياه ذلك وقلق قلقا شديدا فأوحى الله اليه يا يوسف قد استعنت برجالك ومالك ولم تستعن بي وعزتي وجلالي لو استعنت بي لحفرته لك في أقل من طرفة عين فخر ساجدا لله تعالى وهو يقول سبحانك ما أعظم شأنك وأعز سلطانك ثم قام من سجوده ونزع أثوابه واغتسل ولبس المسوح وخرج إلى الربوة وخر ساجدا متضرعا إلى الله تعالى فأوحى الله اليه أرفع رأسك فقد قضيت حاجتك ثم أمر الله سبحانه وتعالى جبريل عليه السلام فخرقه بخافقه من جناحه وقال بعضهم بطرف ريشة من جناحه من فمه من الجهة القبلية إلى آخر الفيوم في أقل من طرفة عين بقدرة الله تعالى فعمر يوسف عليه السلام قناطر وبنى مدينة الفيوم وقسم الأرض بينه وبين اخوته وبنيه فكانت أرض البهنسا لأفراثيم بن يوسف فشرع في عمارتها وقطعت الأحجار وعمرت الاسوار والقناطر وكان النهر يجري من وسطها من الجهة القبلية ثم يخرج من الجهة البحرية إلى زمن الاسلام وسنذكر ذلك في الفتح إن شاء الله تعالى وكان لها من الأبراج والرساتيق ما لا يوصف وسكنها جماعة من بني إسرائيل واتخذوا دورا ومساكن وذلك
214

جميعه غربي مصر وأرض البهنسا إلى آخر الصعيد من الجهة الغربية كلها مختصة ببني إسرائيل لا يشاركهم فيها أحد غيرهم وجعل يوسف عليه السلام هؤلاء العبيد خولة فلاحين وزراعا بأرض البهنسا والفيوم وغيرها وشرع في عمارتها وغرست فيها الأشجار على جانب البحر اليوسفي من الجهة الشرقية والغربية وكانت المرأة تخرج بمكتلها ومغزلها في يدها والمكتل على رأسها فلا ترجع الا وقد امتلأ من جميع الثمار من غير أن تمس شيئا بيدها فلما عصت بنو إسرائيل وجحدوا نعمة الله عز وجل وعملوا المعاصي نزع الله تلك النعمة من أيديهم وأعطاها لغيرهم فاحتووا على الملك دونهم بجحودهم نعمة الله وقتلهم أنبياء الله الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر حتى اتخذوهم أذلة بعد ان كانوا سادات واستعملوهم خولة وفعلة وبنائين وحجارين ونجارين واستخدموا نساءهم وأبناءهم ولم يزل بنو إسرائيل في أضيق عيش وأعظم بلاء وأشد كربة وأعظم بلية من تكليف ما لا يطيقون حتى أنقذهم الله عز وجل بمبعث موسى عليه السلام وليس هذا الكتاب مختصا بذلك واحتووا على المدائن والمزارع والبساتين
ذكر خروج عيسى عليه السلام من مصر وإقامته بأرض البهنسا
قال الله تعالى وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين الآية وتقدم انها البهنسا على اختلاف المفسرين قال أصحاب التواريخ وهم المسعودي وأبو
جعفر الطبراني والواقدي وابن اسحق وابن هشام وأصحاب السير وأهل التفسير مثل سعيد بن جبير وسعيد ابن المسيب وابن عباس ومن تكلم في هذا الكتاب العجيب الذي لو كتب بالذهب لكان قليلا وقد جمع فيه كتب كثيرة وتواريخ وتفاسير وفتوحات قالوا كان مولد عيسى لمضي اثنتين وأربعين سنة من ملوك الطوائف وكانت الرياسة بالشام ونواحيها لقصير ملك الروم وهرقل كما تقدم في فتوح الشام وكان بالبهنسا قنطاريوس والله أعلم باسمه فلما سمع الملك هيردوس بخبر المسيح قصد قتله وذلك انهم نظروا إلى نجمه وقد طلع فعرفوا ذلك بحساب لهم في كتاب لهم فبعث الله ملكا إلى يوسف النجار وأخبره بما أراد هيردوس وأن يعلم مريم أن تخرج إلى أرض مصر فإنه ان ظفر بولدك قتله فإذا مات هيردوس فارجعي إلى بلادك فاحتمل يوسف مريم وابنها عيسى على حمار له حتى دخل مصر وورد أرض البهنسا وهي الربوة التي ذكرها الله في كتابه العزيز * (وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين) * وهناك بئر في المعبد يستشفون بمائها من الأمراض وهي التي كانت مريم وابنها يستقيان منها ويتوضأن منها للصلاة وكان هناك
215

سرب تحت الأرض قيل إن مريم لما دخلت بولدها أرض البهنسا وجدا بئرا وليس عليها رشاء فطلب عيسى عليه السلام الماء ليشرب بعد أن عطش عطشا شديدا وبكى فحزنت أمه فارتفع الماء من قعر البئر حتى شرب منه وهي من ذلك اليوم تزيد ويعرف منها زيادة النيل فجعل النصارى لها عيدا إلى يومنا هذا وهناك دير وزراعات والله أعلم ثم دخل مدينة البهنسا واقام بها اثنتي عشر سنة وأمه تغزل الكتان وتلتقط السنبل في أثر الحصادين حتى تم لعيسى المدة المذكورة
روى محمد الباقر قال لما جاء عيسى إلى البهنسا وهو مع أمه له ابن شهرين كأنه ابن سنتين فلما كمل تسعة أشهر أخذته والدته وجاءت به إلى الكتاب بأرض البهنسا فأقعده المؤدب بين يديه وقال له قل بسم الله الرحمن الرحيم فقال عيسى بسم الله الرحمن الرحيم فقال له المؤدب قل أبجد فرفع عيسى طرفه وقال أتدري ما أبجد فعلاه المؤدب بالدرة ليضربه فقال له يا مؤدب لا تضربني ان كنت لا تدري فاسألني حتى أعرفك فقال قل لي فقال انزل من على مرتبتك فنزل من على مرتبته وجلس عيسى مكانه ثم قال الألف آلاء الله والباء بهاء الله والجيم جلال الله والدال دين الله والهاء هوية جهنم وهي الهاوية والواو ويل لأهلها والزاي زفير جهنم والحاء حطت الخطايا عن المستغفرين والكاف كلام الله لا مبدل لكلماته والصاد صاع بصاع والقاف قرب حيات جهنم من العاصين فقال لها المؤدب خذي بيد ابنك فقد علمه الله تعالى فلا حاجة له بالمؤدب
حدثنا الحسين ومحمد بن الحسن المقري قال حدثنا الحكيم محمد بن أحمد بن حمدون قال حدثنا محمد بن حمدون بن خالد قال حدثنا الحكم بن نافع عن إسماعيل عن ابن أبي مليكة عن عطية عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
ان عيسى عليه السلام أرسلته أمه إلى المكتب ليتعلم فقال له المعلم قل بسم الله الرحمن الرحيم فقال عيسى عليه السلام وما بسم الله الرحمن الرحيم فقال المعلم لا أدري فقال عيسى الباء بهاء الله والسين سناء الله والميم ملك الله إلى آخر ما جاء من الآيات والمعجزات التي ظهرت لعيسى عليه السلام بأرض البهنسا قال وهب كان أول آية أراها عيسى عليه السلام بمدينة البهنسا للناس في صغره ان أمه كانت نازلة في دار بالبهنسا من أرض مصر عند دهقان من دهاقنة الملك أنزلها فيها يوسف النجار عنده حين أتى بها من أرض الشام إلى مصر وكانت داره مأوى المساكين فسرق للدهقان مال جزيل من خزانته وكان الدهقان من أخصاء الملك صاحب البهنسا ولم يتهم المساكين
216

فحزنت مريم على مصيبة الدهقان صاحب ضيافتها فلما رأى عيسى عليه السلام حزن أمه قال يا أماه أتحبين أن أدلك على ماله قالت نعم قال قولي له يجمع المساكين الذين كانوا في جاره فقالت مريم للدهقان ذلك فجمع المساكين الذين كانوا في داره فلما اجتمعوا أتى إلى رجلين منهم أحدهما أعمى والآخر مقعد فجعل المعقد على كاهل الأعمى وقال له قم به فقال له الأعمى اني ضعيف عن ذلك فقال له كيف قويت على ذلك البارحة فلما سمعوه يقول ذلك ضربوا الأعمى حتى قام به فلما استوى قائما وهو حامله أوصله إلى كوة الخزانة فقال عيسى عليه السلام هكذا أخذ مالك البارحة لان الأعمى استعان بقوته والمقعد بعينه فقال الأعمى والمقعد صدقت فردا على الدهقان ماله فوضعه الدهقان في خزانته وقال يا مريم خذي نصفه فقالت اني لم أخلق لذلك ثم قال الدهقان أعطيه لابنك قالت هو أعظم مني شأنا ثم لم يلبث الدهقان الا قليلا وعمل لولده عرسا فجمع اليه أهل المدينة كلهم فكان يطعمهم شهرين فلما انقضى ذلك زارته أكابر البلاد وملوكها وليس عنده طعام ولا شراب ولا ادام فلما اجتمعوا أمر عيسى عليه السلام بجرار الخمر الفارغة أن تملأ ماء ثم مر بيده على أفواهها وهو يمشي فكلما مرت يده على جرة امتلأت شرابا هذا وهو ابن اثنتي عشرة سنة فازدادت أهل البهنسا فيه اعتقادا ومن حولها من المدائن والقرى والسواد من أرض مصر وله آية أخرى بأرض البهنسا
قال السدى كان عيسى عليه السلام يحدث الصبيان في المكتب بما تصنع آباؤهم ويقول للغلام انطلق فقد أكل أهلك كذا وكذا فينطلق الصبي إلى أهله ويبكي عليهم حتى يعطوه شيئا فيقولون له من أخبرك بهذا فيقول عيسى فحبسوا أولادهم أي أهل البهنسا عنه وقالوا لهم لا تلعبوا مع هذا الساحر فجمعوهم في مكان فجاء عيسى عليه السلام يطلبهم فقالوا ليس هنا أحد فقال ما في هذا البيت قالوا خنازير قال عيسى كذلك يكونون إن شاء الله تعالى ففتحوا عليهم الباب فوجدوهم خنازير ففشا ذلك في الناس وهابه الناس قال السدى لما نزل عيسى عليه السلام بأرض البهنسا نزل في قرية من قراها على رجل فأضافهم وكان للملك خباز فجاء ذلك الرجل ذات يوم وهو مغتم حزين فدخل بيته ومريم عند زوجته فقالت لها مريم ما شأن زوجك أراه كئيبا قالت لا تسأليني فقالت لها أخبريني لعل الله أن يفرج عنك قالت لها ان ملك البهنسا إذا خرج من مدينته يجعل على كبير كل قرية يوما يطعمه ويسقيه الخمر فإن لم يفعل ذلك عاقبه واليوم علينا وليس عندنا سعة قالت مريم قولي له لا يهتم فاني آمر ابني
217

أن يدعو له فيكفي ذلك فذكرت مريم ذلك لعيسى عليه السلام فقال عيسى عليه السلام ان فعلت ذلك يقع شيء فقالت له أمه لا تبال فإنه أحسن الينا وأكرمنا فقال عيسى قولي له إذا قرب الملك فاملا قدورك وخوابيك ماء ثم اعلميني ففعل ذلك وإذا بالملك قد أقبل فارتجت الأرض من الطبور والزمور والصناجق وأقبلت العساكر فدعا عيسى
عليه السلام ربه عز وجل فتحول ماء القدور لحما وطعاما ملونا وماء الخوابي خمرا لم ير الناس مثلها قط فلما أكل الملك ذلك الطعام وشرب سأل الدهقان من أين لك هذا الخمر قال من أرض الفيوم فلم يصدقه وقال للدهقان انه يأتيني منها الخمر والعنب لعصره وليس يساوي هذا فقال من أرض أخرى فلما خلط عليه الكلام أنكر عليه فقال أنا أخبرك عندي غلام لا يسأل الله شيئا الا أعطاه وانه دعا الله تعالى حتى جعل الماء خمرا وكان للملك ولد يريد أن يستخلفه فمات قبل ذلك بأيام وكان أحب الخلق اليه فقال ان كان كلامك صدقا فليدع ربه أن يحيي لي ولدي فدعا عيسى وأعلمه بذلك قال أفعل لكنه ان عاش وقع شيء كثير فقال الملك لا أبالي بعد أن أراه فقال عيسى ان فعلت ذلك اتتركوني أنا وأمي نمضي حيث جئنا قال الملك نعم فدعا الله تعالى فأحيا الغلام فلما رآه أهل المملكة قد عاش تبادروا بالسلاح وقالوا أكل أموالنا هذا الملك بظلمه حتى إذا دنا موته يريد أن يستخلف علينا ابنه فيأكلنا كما أكلنا أبوه فاقتلوهما فذهب عيسى وأمه والآيات في ذلك كثيرة يطول شرحها ذكرها أبو إسحاق الثعلبي في عرائسه والله تعالى أعلم
ذكر فتح البهنسا وما فيه من الفضائل وما وقع فيه للصحابة رضي الله عنهم
قالت الرواة بأسانيد صحيحة عمن حضر الفتح من أصحاب السير والتواريخ مثل الواقدي وأبي جعفر الطبراني وابن خلكان في تاريخ البداية والنهاية ومحمد بن إسحاق وابن هشام وكل منهم دخل حديثه الآخر لما في ذلك من اختلاف الرواة ممن حضر الفتوحات وشاهد الوقعات من الصحابة رضي الله عنهم قالوا وحضر ذلك معظم الصحابة وكبراؤهم مثل عبد الله بن عمرو ابن العاص أمير الجيوش على مصر وأخيه محمد وخالد بن الوليد وابنه أبا سليمان
وقيس بن هبيرة المرادي والمقداد بن الأسود الكندي وميسرة بن مسروق العبسي والزبير بن العوام الأسدي وابنه عبد الله وضرار بن الأزور ومن بني عم النبي صلى الله عليه وسلم مثل الفضل بن العباس وجعفر بن عقيل ومسلم بن عقيل وعبد الله بن جعفر ومن أبناء الخلفاء مثل عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وعبد الله بن عمر بن الخطاب وأبان بن عثمان رضي الله عنهم وقد
218

اختصرنا في أسمائهم خوف الإطالة وكلهم حدثوا بما عاينوا من الفتوح وما شاهدوا من الوقعات وحدثوا بذلك أبناءهم رضي الله عنهم وقد أخذنا هذه الفتوح على قاعدة الصدق لاثبات فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم إذ لولاهم ما كانت البلاد للمسلمين ولا انتشر علم هذا الدين ولقد نفذت سراياهم في الأرض شرقا وغربا حتى ولت الأعداء منهم هربا وسكبوا دماءهم في الأرض سكبا واستباحوا أموال الكفار نهبا وسلبا والله قد جعل منهم في قلوب أعدائه خوفا ورعبا فهم نجوم الهداية وأهل الولاية قد شرعوا الشرائع ورتلوا القرآن ترتيلا قال الله في حقهم تعظيما وتبجيلا فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا
قال حدثنا أبو عبد الله محمد بن المحدث المصري غفر الله له اطلعت على فتوحات كثيرة فوجدت فيها زيادة ونقصانا وكذلك تواريخ منقولة وكنت قدمت المدينة يعني البهنسا لزيارة جبانتها لما رأيت في ذلك من الفضائل والفضل والاجر والخير والحبور فان زيارتها تمحص الذنوب وتكشف الكروب وتحسن الاخلاق وتدر الأرزاق وتورث النصر على الأعداء وتكفي البأس والردى لما فيها من السادات الشهداء ممن باع نفسه لله وقتل في سبيل الله ابتغاء مرضاة الله ممن قال في حقهم من له الفضل والمنة * (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة) * فهم أحياء عند ربهم يرزقون فزرنا الجبانة في ساعة الأسحار ورأينا ما فيها من الأنوار وبزيارة قبور السادة والأخيار نرجو من الله أن يحط عنا الذنوب والأوزار فلما قضينا الزيارة ولاحت لنا تلك الإشارة أخبرنا عن تلك السادة الأمجاد وما كان لهم من الصبر على الغزو والجهاد فسألني بعض الأصحاب عن سبب فتح مدينة البهنسا ليدفع البأس والردى فحرك لذلك خاطري حتى أسهرت لذلك ناظري وطالعت التواريخ والفتوحات وتجنبت المزاحات حتى انتخبت هذا الكتاب فهو كالدرة اليتيمة التي لا يعرف لها قيمة ترتاح عند سماعه النفوس ويزول لهم والبؤس ويشجع على الجهاد ويعين على إقامة العدل في البلاد ابتغاء لوجه الله الكريم راغبا في ثواب الله العميم وذلك بعد الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وخاتم النبيين ونحن نبتدىء
بسم الله الرحمن الرحيم قال حدثني من أثق به من الرواة ممن تقدم ذكرهم قال لما فتح عمر بن الخطاب رضي الله عنه مصر والإسكندرية والبحيرة والوجه البحري كله جميعا كان بالصعيد نوبة وبربر وديلم وصقالبة وروم وقبط وكانت الغلبة للروم كان أكثرهم روما ثم استشار عمرو بن
219

العاس أصحابه أي جهة يقصد وهل يسير بالجيوش شرقا أو غربا وما يصنع فأشاروا عليه بمكاتبة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكتب اليه يقول بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمرو بن العاص عامل أمير المؤمنين على مصر ونواحيها إلى عبد الله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه سلام عليك ورحمة الله وبركاته أما بعد فاني أحمد الله واثني عليه واصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم والسلام على من بالمدينة من المهاجرين والأنصار والحمد لله قد فتحت لنا مصر والوجه البحري والإسكندرية ودمياط ولم يبق في الوجه البحري مدينة ولا قرية الا وقد فتحت وأذل الله المشركين وأعلى كلمة الدين وقد اجتمعت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من السادات والامراء والأخيار المهاجرين والأنصار يطلبون الاذن من أمير المؤمنين هل يسيرون إلى الصعيد أو إلى الغرب والامر أمرك يا أمير المؤمنين فإنهم على الجهاد قلقون وباعوا نفوسهم لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم وكتب هذه الأبيات
* صوارمنا تشكو الظمأ في اكفنا
* وأرحامنا تشكو القطيعة كالهجر
* إليك افتقاد الحرب يا طيب الثنا
* ويامن أقام الدين بالعز والنصر
* فقد ولعت خير الكرام إلى العدا
* بنوشيبة الحمد السري وبنو فهر
* وصالت لؤي مع معد وغالب
* وسادات مخزوم الكرام ذوي المفخر
* تروم مسيرا للأعادي على شفا
* تمكن من أعلاهم البيض كالسمر
* ترى كل علج عائص في دلاصه
* تجعجع في نقع تأجج كالحمر
* بكل كميت صادق الوعد صائل
* يرى درعه الزاهي تمكن بالصبر
* نرى الموت في وقع الوقائع مغنما
* ونكسب من قتل العدا غاية الاجر
*
قال الواقدي فلما فرغ عمرو بن العاص من الكتاب عرضه على أصحابه ثم طوى الكتاب وختمه واستدعى برجل يقال له سالم بن بجيعة الكندي وسلم اليه الكتاب ودفع له ناقة عشارية فاستوى على كورها وخرج يريد المدينة وهو يقول
* أسير إلى المدينة في أمان
* وأرجو الفوز في غرف الجنان
* وأرجو أن يقرب لي اجتماعي
* وأعطي ما أريد من الأماني
* الا يا ناقتي جدي وسيري
* إلى نحو النبي بلا امتهان
* وأقرئيه السلام وأنشديه
* كلاما صادقا حسن البيان
* ألا يا أشرف الثقلين يا من
* به شرف المدينة والمكان
* فكن لي في المعاد غدا شفيعا
* إذا ما قيل هذا العبد عاني
*
220

قال الواقدي ولم يزل سائرا ليلا ونهارا حتى قدم المدينة الطيبة الأمينة بعد صلاة العصر فدخل وأناخ ناقته على باب المسجد وعقلها بفضل ذمامها ودخل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم على قبره الشريف وصلى ركعتين بين القبر والمنبر ثم تقدم فوجد عمر بن الخطاب فسلم عليه قال فرد علي السلام وصافحني وكان لما رآني أقبلت وأنا فرحان قال سالم جاء بكتاب من مصر مرحبا به ثم التفت وعن يمينه علي بن أبي طالب وعن شماله عثمان بن عفان وحوله من السادات والمهاجرين والأنصار مثل العباس بن عبد المطلب وعبد الرحمن بن عوف وسعيد بن زيد وطلحة بن عبد الله وبقية الصحابة رضي الله عنه حوله ثم ناولته الكتاب فقال ما وراءك يا سالم فأنت سالم في الدنيا والآخرة إن شاء الله تعالى فقلت الخير والبشرى والأمن يا أمير المؤمنين فلما قرأ الكتاب فرح واستبشر وكانت تلك الغنائم قد وصلت إلى المدينة قبل ذلك بأيام وقسمت على الصحابة رضي الله عنهم ثم إنه استشار عمر رضي الله عنه علي ابن أبي طالب رضي الله عنه ومن حضر فأشار عليه علي بن أبي طالب أن عمرو بن العاص لا يسير بنفسه ليكون أهيب له في قلوب أعدائه وأن يجهز جيشا عشرة آلاف فارس ويؤمر عليهم خالد بن الوليد رضي الله عنه فإنه سيف الله فقال عمر صدقت وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
خالد سيف الله تعالى وفي رواية ان خالدا سيف لا يغمد عن أعدائه ثم بات سالم تلك اليلة فلما أصبح صلى الصبح في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أقبل على أمير المؤمنين عمر يسأله الجواب فعندها استدعى عمر رضي الله عنه بداوة وقرطاس ثم كتب كتابا يقول فيه بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر بن الخطاب إلى عامله على مصر ونواحيها عمرو بن العاص سلام عليك ورحمة الله وبركاته أما بعد فاني أحمد الله الذي لا إله إلا هو واصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم والسلام عليك وعلى من معك من المهاجرين والأنصار ورحمة الله وبركاته وقد قرأت كتابك وفهمت خطابك فإذا قرأت كتابي هذا فاستعن بالله واربط الخيل وارسل الامراء
لكل بلد أمير ليقيموا شرائع الدين ويعلموا الاحكام ثم انتدب عشرة آلاف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر عليهم خالد بن الوليد وأرسل معه الزبير بن العوام والفضل بن العباس والمقداد بن الأسود وغانم بن عياض الأشعري ومالكا الأشتر وجيمع الامراء وأصحاب الرايات ينزلون على المدائن ويدعون الناس إلى الاسلام فمن أجاب فله ما لنا وعليه ما علينا ومن أبي فليأمروه بأداء الجزية وان عصي وامتنع فالحرب والقتال وأمرهم إذا حاصروا مدينة أن يشنوا الغارات على السواد
221

وأن بمصر مدينتين كما بلغني أحداهما يقال لها أهناس قريبة من مصر والثانية يقال لها البهنسا أمنع وأحصن وبلغني أن بها بطريقا طاغيا سفاكا للدماء يقال له البطليوس وهو أعظم بطارقة مصر كما بلغني وانه ملك والواحات فلا تقربوا الصعيد حتى تفتحوا هاتين المدينتين وعليك بتقوى الله في السر والعلانية أنت ومن معك وأنصف المظلوم من الظالم وأمر بالمعروف وانه عن المنكر وخذ حق الضعيف من القوي ولا تأخذك في الله لومة لائم وأقم أنت بمصر وأرسل الأجناد وان احتجت إلى مدد فأرسل وكاتبني وأنا ارسل لك المدد والمعونة من الله عز وجل وأسأل الله تعالى أن يكون لكم بالنصر والمعونة والفتح والحمد لله رب العالمين ثم طوى الكتاب وختمه بخاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفعه إلى سالم فاخذه وودع الصحابة وودع قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن توضأ وصلى ركعتين وسار ولم يزل سائرا حتى قدم مصر فوجد عمرا والصحابة نازلين بأرض الجيزة وكان زمن الربيع وهو جالس في خيمته وأصحابه عنده وهذه الخيمة كانت لملك القبط من الحرير الأزرق والأحمر والأصفر سعتها ثلاثون ذراعا وقد فرش فيها فرشا كان للقبط وهو جالس يتحدث مع المقداد وخالد والفضل وغانم والامراء جميعهم رضي الله عنهم وهو كأحدهم قال سالم فانخت ناقتي فسمعت عمرا يقول وأنا خلف الخيمة قد أبطا سالم فقال خالد كأنك به وقد أقبل فهويت فأحس خالد بي من داخل الخيمة ولم يرني بعينه ولا غيره ولا علم بي فقال سالم فقلت لبيك يا أبا أبا سليمان
فقال مرحبا بك يا سالم وحياك الله ثم تقدمت وسلمت على عمرو وخالد وعلى بقية الامراء ثم ناولته الكتاب فقرأه إلى آخره وفهم ما فيه فلما سمع الامراء ما فيه فرحوا بذلك فرحا شديدا ثم إن عمرا استشار الامراء في ذلك وكانوا لا يفعلون شيئا الا بمشورة بعضهم ولذلك مدحهم الله في كتابه العزيز بقوله عز وجل * (وأمرهم شورى بينهم) * فأشاروا عليه أن يرسل خلف الامراء والجنود المتفرقة في البحيرة شرقا وغربا وأن يرتب الجيوش ويقصدوا الصعيد ويتوكلوا على الله عز وجل
قال الواقدي وكانت الصحابة لما فتحت مصر والوجه البحري قد تفرقوا فمنهم في الإسكندرية وأمسوس ودمياط ورشيد وبلبيس وكان أكثرهم بوسط البحيرة في المكان المعروف بالمنزلة مثل القعقاع بن عمرو التميمي وهاشم بن المرقال وميسرة بن مسروق العبسي والمسيب بن نجيبة الفزاري فعندها استدعى عمرو رضي الله عنه بالنجابة والسعادة وعمرو ابن أمية الضمري ومثل هؤلاء رضي الله عنهم أجميعن وكتب الكتب وأرسلها للأمراء
222

فعندها أجابوا بأجمعهم لأنهم رضي الله عنهم كانوا أشوق للقتال من العطشان للماء البارد الزلال وتركوا في البلاد والمدائن من يحفظها أو يحرسها خيفة من العدو واقبلوا نحو مصر مسرعين ونزلوا حولها وأخبر عمرو رضي الله عنه بقدومهم فدخل دار الامارة وهي قريبة من الجامع العمري وأقبلت السادات والامراء يسلمون عليه وكان ذلك نهار الأربعاء عاشر شهر ربيع الأول سنة احدى وعشرين من الهجرة النبوية وقيل اثنتين وعشرين والله أعلم قال حدثنا محمد بن عبد الله أحدثنا عبيد بن رافع عن أبيه جحيفة عن جابر بن عبد الله الأنصاري وحدث بذلك ابن سلمة رضي الله عنه قالوا لما قدمت الامراء والاجناد من الصحابة رضي الله عنه أقاموا الأربعاء والخميس والجمعة فخطب عمرو رضي الله عنه بالناس فلما فرغ من خطبته أمر الناس أن لا يتفرقوا حتى يقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب فقرأ عليهم الكتاب فلما فرغ من قراءته تواثبوا كلهم كالأسود الضارية المشتاقة إلى فرائسها وقالوا كلهم سمعنا وأطعنا ولارواحنا في سبيل الله بذلنا وللجهاد طلبنا وفي الثواب رغبنا والى الجنة اشتقنا ففرح عمرو بذلك وقال إن أمير المؤمنين قد أمرني أن أولي عليكم سيف الله والنقمة على أعداء الله صاحب القتال الشديد والبطل الصنديد خالد بن الوليد
قال الواقدي وكان خالد بن الوليد صديق عمرو في الجاهلية وأسلما في يوم واحد ثم التفت عمرو إلى خالد وقال ادن مني يا ابا أبا سليمان
فدنا منه فقال عمرو يا معاشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم انكم كلكم لكم الفضل واني لست بأفضلكم وفيكم من هو ذو قرابة ونسب من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنتم تعلمون ما فتح الله على يديه من البلاد وما أذل الله على يديه من الأجناد قال الراوي فوثب الفضل بن العباس رضي الله عنه وقال أيها الأمير انا بذلنا أنفسنا في رضا الله عز وجل وما نريد بذلك الا رفعة عند الله عز وجل وان خالدا من أخيارنا ولو أمرت علينا عبدا حبشيا لامتثلنا أمره في رضا الله عز وجل فناهيك بخالد وهو سيد من سادات قريش عزيز في الجاهلية والاسلام فتهلل وجه خالد وعمرو فرحا ثم أمرهم بالنزول جميعا بأرض الجيزة قريبا من الهرم الشرقي وأقبلوا يضربون خيامهم حوله حتى تكاملت العساكر رضي الله عنهم أجمعين
قال الراوي بسنده إلى الواقدي وابن اسحق وابن هشام لما تكاملت الجيوش وذلك في ربيع الآخر من السنة المذكورة صلى عمرو بأصحابه صلاة الصبح ثم قام من ساعته يمشي على قدميه وحوله جماعة من المسلمين
223

ومعه خالد بن الوليد والمقداد ابن الأسود الكندي والزبير العوام الأسدي والفضل بن العباس الهاشمي وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وعبد الله بن عمر بن الخطاب وهاشم بن المرقال والمسيب بن نجيبه الفزاري والعباس بن مرداس وأولاد عبد المطلب وبقية السادات حتى طلع على رابية وأشرف على الجيش فلما رأى اجتماعهم سر سرورا عظيما ثم أمر بعرض الجيش فتقدمت الامراء أصحاب الرايات وصار كل أمير يعرض جيشه وبني عمه على عمرو بن العاص فكانت عدتهم فيما ذكر والله أعلم ستة عشرة ألف فارس فانتدب منهم عشرة آلاف فارس كلهم ليوث عوابس وعليهم الدروع الداودية متقلدين بالسيوف الهندية معتقلين بالرماح الخطية راكبين الخيول العربية من خيار أمة خير البرية فعند ذلك قال لهم عمرو يا معاشر الأمراء أصحاب الرايات والسادات الأخيار ان خالدا أمير عليكم فاسمعوا له وأطيعوا وكونوا كلمة واحدة ونازلوا المدائن والقلاع وشنوا الغارات على السواد ولا تقاتلوا قوما حتى تدعوهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فان أبوا فأداء الجزية فان أبوا فالقتال
بينكم وبينهم حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين وأرسلوا الطلائع ولا يكون في الطلائع الا كل فارس كرار في الحرب والقتال وثبتوا أنفسكم ولا يغرنكم كثرة أعدائكم فأنتم الغالبون فقد ذكر الله في كتابه المكنون المبين كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين وأحسنوا نياتكم وثبتوا عزائمكم فأنتم الغالبون والله معكم وأنتم كلكم أهل الفضل والسابقة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاتلتم بين يديه ولا تحتاجون إلى وصيتي بارك الله فيكم
قال الراوي ثم إن عمرا استدعى بأصحاب الرايات فكان أول من تقدم بعد خالد الزبير ابن العوام رضي الله عنه وهو راكب على جواده الأغر شاك سلاحه فسلمه الراية وأمره على خمسمائة فلما خرج بعسكره هز الراية وأنشد يقول
* أنا الزبير ولد العوام
* ليث شجاع فارس الاسلام
* قرم همام فارس هجام
* اقتل كل فارس ضرغام
* وانني يوم الوغى صدام
* وناصر في حانها الاسلام
*
قال ثم استدعى بالفضل بن العباس وأمره على خمسمائة فارس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتسلم الراية بيد وتوجه وهو يقول
* اني أنا الفضل أبي العباس
* وفارس منازل حواس
*
224

* معي حسام قاطع للرأس
* وفالق الهامات والأضراس
* أفني به الاعدا بلا الباس
* وما على فيهم من باس
* قال ثم استدعى بزياد بن أبي سفيان بن الحرث بن عبد المطلب وسلمه الراية وكان رضي الله عنه فارسا عظيما وبطلا صنديدا فتسلم الراية وتوجه وهو ينشد
* أنا الفارس المشهور يوم الوقائع
* بحد حسام في الجماجم قاطع
* ورمحي على الأعداء ما زال طائلا
* إذا التحم الأعداء للضد قاطع
* وعزمي في الهيجاء ما زال ماضيا
* براي سديد للمحاسن جامع
* أصول على الأعداء صولة قادر
* وأشبعهم ضربا ببعض لوامع
* امام الوغى من آل ذروة هاشم
* حماة البرايا كالبدور الطوالع
* أنا ابن أبي سفيان من نسل حارث
* تموت العدا مني وكل منازع
*
قال ثم استدعى من بعده عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي عنه وأمره على خمسمائة فارس وسلمه الراية فتوجه وهو يقول
* أسير إلى الأعادي باهتمام
* بقلب صادق حصن الذمام
* بابطال جحاجحة أسود
* سراة في الوغى قوم كرام
* أبيد بهم عداة الدين جمعا
* ولا أخشى من القوم اللئام
* إذا ما جلت في الهيجا برمحي
* أصول به وفي أيدي حسامي
* قال ثم استدعى من بعده عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأمره على خمسمائة فارس فتسلم الراية وتوجه وهو يقول
* وحق من أنزل الآيات في السور
* وأرسل المصطفى المبعوث من مضر
* لا أنثني عن لقا الاعدا ولو جمعت
* حماة أبطالهم يوما كما الدبر
* حتى أبيدهم ضربا وأتركهم
* فوق الثري خمشا مخدوشة الصدر
* بكل قرم همام ماجد نجد
* إلى الوقائع يوم الحرب مبتدر
* نحن الكرام الذيب للدين أرسلنا
* امام دين الورى غيث النداعمر
*
قال ثم استدعى من بعده جعفر بن عقيل وأمره على خمسمائة فارس وسلمه الراية فتوجه وهو يقول
* أنا ابن عقيل من لؤي وغالب
* همام شجاع للأعادي غالب
* حماة الوغى أهل الوفا معدن الصفا
* إلى جود يمنانا مسير الركائب
* ولا يعرف المعروف الا بعرفنا
* ولا الجود الا جودنا كالمواهب
* علا مجدنا فوق الثنا وسناؤنا
* علا شرفا من فوق كل الكتائب
* فيا ويل أهل البغي منا إذا التقت
* فوارسنا فيهم بحد القواضب
*
225

قال ثم استدعى من بعده أخاه الفضل وأمره على خمسمائة فارس وسلمه الراية فتسلمها وتوجه وهو يقول
* اني أنا الفضل أبي عقيل
* أسير للحرب بلا تمهيل
* بحد سيف قاطع صقيل
* به أبيد الكافر الجهول
* أنا ابن عم أحمد الرسول
* المرسل المبعوث في التنزيل
*
قال ثم استدعى من بعده المقداد ابن الأسود الكندي وأمره على خمسمائة فارس وسلمه الراية فتوجه وهو يقول
* أنا المقداد في يوم النزال
* أبيد الضد بالسمر العوالي
* وسيفي في الوغى أبدا صقيل
* طليق الحد في أهل الضلال
* معي من آل كندة كل قرم
* يجيد الطعن في يوم النزال
* فياويل العدا والروم منا
* إذا التحم الفوارس في القتال
* وهم صرعى كأعجاز لنخل
* بقعها الفوارس بالنصال
* قال ثم استدعى من بعده عمار بن ياسر وأمره على خمسمائة فارس وسلمه الراية فتوجه وهو يقول
* أنا الهمام الفارس الكرار
* أفني بسيفي عضبة الكفار
* ان جالت الخيل بلا انكار
* وقام سوق الحرب من عمار
* حمى لدين المصطفى المختار
* صلى عليه الواحد القهار
*
* وآله وصحبه الأخيار
* ما بان ليل وأضا نهار
*
قال ثم استدعى من بعده العباس بن مرداس السلمي وأمره على خمسمائة فارس وسلمه الراية فتوجه وهو يقول
* أنا العباس ذو رأي قويم
* معي سادات آل بني سليم
* أدل بهم حماة البغي لما
* ترى الهيجاء كالليل البهيم
* وسيفي ماضي الحدين أضحى
* لأهل الشرك والموت العميم
* به أفنى الطغاة بكل أرض
* وأقتل كل أفاك أثيم
* ونحن بنو سليم خير قوم
* هدينا للصراط المستقيم
* قال ثم استدعى من بعده أبا دجانة الأنصاري رضي الله عنه وسلمه الراية فتوجه وهو يقول
* أسير باسم الواحد المنان
* جهرا لأهل الكفر والطغيان
* أذيقهم ضربا على الأبدان
* بكل هندي مبيد الجان
* أنصر دين مصطفى العدناني
* صلي عليه الملك الديان
* وآله والصحب والاخوان
* ما ناح قمري على الأغصان
*
226

قال ثم استدعى من بعده غانم بن عياض الأشعري رضي الله عنه وسلمه الراية وتوجه وهو يقول
* اني إذا انتسب الفوارس أشعري
* قرم همام في المعامع عنتزي
* بحماة ابطال الأعادي نزدري
* وبراحتي من القواضب أبتري
* يوم التلاطم للفوارس مسكر
* وأحوم حومات الغزال الجؤذري
* فلأقتلن فوارسا وعوابسا
* وأذيقهم مني العذاب الأكبر
* قال ثم استدعى من بعده أبا ذر الغفاري وأمره على خمسمائة فارس وسلمه الراية فتوجه وهو يقول
* سأمضي للعداة بلا اكتئاب
* وقلبي للقا والحرب صابي
* ولي عزم أذل به الأعادي
* وأرجو الفوز فيهم كالثواب
* وان صال الجميع بيوم حرب
* لكان الكل عندي كالكلاب
* أذلهم بأبيض جوهري
* طليق الحد فيهم غير آبي
* قال ثم استدعى من بعده القعقاع بن عمرو التميمي والمغيرة بن شعبة الثقفي وميسرة بن مسروق العبسي ومالكا الأشتر النخعي وذا الكلاع الحميري والوليد وعقبة بن عامر الجهني وجابر ابن عبد الله الأنصاري وربيعة بن زهير المحاربي وعدي بن حاتم الطائي ومثل هؤلاء السادات رضي الله عنهم وقد اقتصرنا في أشعارهم خوف الإطالة وكل واحد يسلمه راية ويؤمره على خمسمائة فارس قال فلما تكاملوا وتجهزوا خرج عمرو وأصحابه فودعهم وسارت الكتائب وتتابعت المواكب يطلب بعضها وخلفهم الذراري والصبيان حتى أتوا الجيزة ونزلوا بمكان يعرف بالمرج الكبير قريب من تلك المدائن والقرى والرساتيق وتقدمت الطلائع يتجسسون الاخبار وقد كان بدهشور بطريق عظيم من قبل مارنوس صاحب اهناس وكان فارسا مكينا وكلبا لعينا قاتله الله وكان يقول في نفسه أنه يناظر البطليوس في ولايته لكن البطليوس صاحب البهنسا لعنه الله كان أشد بأسا وأعظم مراسا وأكثر عددا وأقوى مددا وأوسع بلادا فكاتبه في ذلك وكاتب روسال صاحب الاشمونين وكاتب اقراقيس صاحب قفط وكان يحكم على اخميم وكاتب الكيكلاج وكان يحكم إلى عدن والبحر المالح إلى بلاد البجاوة والنوبة وحد السودان وتسامع الناس بمسير العرب إلى الصعيد وكاتبت الملوك بعضها بعضا وماج الصعيد بأهله إلى حد الواحات ووقع الرعب في قلوبهم فعند ذلك وثب مكسوج ملك البجاوة وحليف ملك النوبة وجمعوا ما حولهم من أرض النوبة والبجاوة والبربر وأتوا إلى أسوان
227

وكان مع ملك البجاوة ألف وثلاثمائة فيل عليها قباب الجلد بصفايح الفولاذ في كل قبة عشرة من السودان طوال القامة عراة الأجساد على أوساطهم واكتافهم جلود النمور وغيرها ومعهم الدرق والحراب والكرابيج والقسي والمقاليع والأعمدة الحديد والطبول والقرون وكانت عدتهم عشرين ألف فلما وصلوا أسوان خرجوا إلى لقائهم بعسكرهم وأعلموهم بأمرهم وساروا إليهم بالملاقاة من الذرة والشعير والقصب ولحوم الخنازير والضباع وغيرها من الوحوش فأنزلوهم وضيوفهم ثلاثة أيام ثم خرج بطريق أسوان ومعه جيش حتى وصلوا إلى ملك قفط صاحب القرية القريبة من قوص وعمل معهم مثل ذلك وسير معهم جيشا وساروا حتى وصلوا إلى أنصنا وكان بها بطريق عظيم وبطل جسيم وكان منجما وكان يحكم شرقا وغربا وكانت مدينته عظيمة على شاطىء البحر وبها جند كثير وعجائب عظيمة ولها حصن عظيم من الحجر علوه ثلاثون ذراعا ومن داخلها قصور ومقاصير وكنائس وقلاع على أعمدة الرخام وغيرها في المدينة فلما نزلت تلك العساكر على أنصنا خرج إليهم بطريقها جرجيس بن قابوس وتلقاهم وأرسل معهم ابن عم له يسمى قيطارس وكان فارسا شديدا في أربعة آلاف فارس ولم يزالوا سائرين حتى نزلوا بواد البهنسا عند بطريق يسمى قلوصا من بطارقة البطليوس فلما سمع بهم البطليوس خرج إلى لقائهم في عسكر عظيم زهاء من خمسين الف فارس من البطارقة وعليهم الدروع المذهبة وأقبية الديباج المرقومة بالذهب الوهاج وعلى رؤوسهم التيجان المكللة بالآليء والجواهر راكبين على خيول وبراذين مسرجة عليها سروج الذهب والجنائب مغطاة بأغشية من الحرير الملون المرقوم بالذهب والفضة والخز وكان معهم خمسون صليبا طول كل صليب أربعة أشبار من الذهب تحت كل صليب ألف فارس على كل صليب رمانة من الذهب المنقوش وهم في زي عظيم عجيب وقد أكثروا من الطبول والزمور وضرب القرون والمعازف حتى ارتجت الأرض ومعهم الجمال والبغال والجاموس فلما التقوا ترجلت الملوك
والبطارقة للقائهم وسلم بعضهم على بعض وتكلموا فيما بينهم بسبب العرب فقال لهم البطليوس لا تطعموا العرب فيكم ولا في بلادكم فإنما مثل العرب 2 كمثل الذباب ان تركته أكل وان منعته فر وهلك فاثبتوا واصدقوا العزم فلقد كاتبت لكم سنجاريب ملك برقة وكاتبت ملك ألواح وكأنكم بهم قد أتوا إليكم ولولا أنني أخشى ان العرب يأتون إلى بلادي لما يسمعون اني خرجت إليهم فيشتغل جماعة بقتالكم وجماعة يأتون إلى بلادي فيملكونها وليس فيها من يذب عنها إذا خرجت معكم لكنت في خدمتكم فانا نجد في
228

الكتب القديمة أنهم إذا ملكوا البهنسا ونواحيها فلا تقوم لأهل الصعيد قائمة قال كرماس الرومي وكان ممن أسلم بعد ذلك وحضر وحدث به يا معاشر الملوك والبطارقة اني قد اطلعت على الكتب القديمة وفيها انهم ان ملكوا البهنسا ونواحيها فلا تقوم لأهل الصعيد بعد ذلك قائمة قال فلما سمع الملوك ذلك صقعوا له ثم انتدب من بطارقته عشرين ألفا ممن عرفت شجاعتهم وبراعتهم وملك عليهم صاحب الكفور وكان كافرا طاغيا وكان اسمه بولص وكان لعينا ودفع له صليبا من الذهب وعلما من الحرير الأطلس الأصفر مرقوما بالذهب فيه صورة الشمس ودفع لهم ما يحتاجون له من الجنائب والقباب والسرادقات ومضارب الديباج الملون وأواني الذهب والفضة والصناديق المملوءة بالذهب والفضة والبراذين والبغال وعليها أحمال الحرير الملون وبعضها محمل بالأواني المذكورة والخيام والسرادقات وسارت العساكر وتتابعت الملوك بالمواكب يتلو بعضها بعضا حتى قربوا من مدينة ببا الكبرى فخرج إليهم بطريقا صندراس وتلقاهم وفعل معهم كما فعل البطليموس وأضافهم وجهز معهم جيشا عشرة آلاف فارس من صناديد بطارقته وولي عليهم بطريقا اسمه دارديس وكان يناظر بطريق الكفور في الشجاعة والقوة والبراعة وساروا حتى قربوا من مدينة برنشت فخرج إليهم بطريقها فتلقاهم وكان يناظر البطريق الأعظم رأس بطارقة الكوة ولم يزالوا سائرين حتى ملؤوا الأرض شرقا وغربا هذا ما جرى لهؤلاء
قال الراوي وأما ما كان من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم لما نزلوا قريبا من دهشور كما ذكرنا وكانت العيون من المسلمين من بني طي ومذحج ينزلون ويتزيون بزي العرب المتنصرة يتجسسون الاخبار حتى اختلطوا بالعساكر المذكورة وكانوا حذاقا متفرسين فلما رأوا ذلك هالهم أمره قال الراوي حدثني سنان بن قيس الربعي عن طارق بن مكسوح الفزاري عن زيد بن غانم الثعلبي وكان ممن حضر الفتوح وشهد الوقعة صحبة جيش خالد بن الوليد رضي الله عنه قال بينما نحن جلوس نصلح شأننا بالمرج ونحن على أهبة السفر إذ قدمت الجواسيس فأخبروا خالدا بقدوم العساكر فقال لهم هل حزرتم الجيوش فقالوا نعم نحو مائتي ألف فارس وخمسين الف راجل من النوبة والبربر والبجاوة والفلاحين وغيرهم هم في أهبة عظيمة ومعهم الف وثلاثمائة فيل وعلى ظهورها الرجال كما وقع في يوم حرب العراق فلما سمع الامراء ذلك اضطربوا وثبتوا جنانهم وقالوا قل لن يصيبنا الا ما كتب الله لنا وقال خالد لا حول ولا قوة الا
229

بالله العلي العظيم ثم قرأ * (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل) * ثم قرأ كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ثم إن خالد قال لأصحابه ولا تهتموا لذلك واصبروا وأنتم الأعلون والله معكم فليست جموعهم بأكثر من جموع اليرموك ولا من جموع أجنادين ومع ذلك فقد ملكتم مصرهم التي هي تاج عزهم وملكتم الوجه البحري وقتلتم مائة من ملوكهم وبطارقتهم وقد صارت الشام واليمن والعراق والحجاز بأيديكم وقد دانت لكم البلاد وقد كنتم قليلا فكثركم الله وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها وقاتلتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصرتم بالملائكة ووعدكم على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم أنه يستخلفكم في الأرض كما استخلف الذين من قبلكم ومن قتل منكم كان له الجنة وتنتقل روحه إلى روح وريحان ورب غير غضبان فلما سمعوا كلامه تهللت وجوههم فرحا وقالوا يا خالد نحن كلنا بين يديك وقد وهبنا أنفسنا لله ابتغاء وجه الله ومرضاته
قال الواقدي ثم إن خالدا وجه يزيد بن معرج التنوخي إلى عمرو بن العاص مسرعا وأعلمه بذلك فترك في مصر ابن عمه خارجة وكان رجلا صالحا وأخرج معه أربعة آلاف فارس وترك في مصر نحو أربعين فارسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء إليهم أربعة آلاف فارس فلما أقبلوا سلموا عليه وقالوا كنا نحن نكفيك أيها الأمير فقال لهم اعلم ذلك ولكنكم في أول بلاد العدو وما ينبغي أن أقعد عنكم ففرحوا بذلك وتأهبوا للقاء العدو وكانوا كل يوم يخرجون الطلائع يتجسسون الاخبار فلما كان في بعض الأيام خرج الفضل ابن العباس بن عبد المطلب وأخوه عبد الله بن العباس وجعفر بن عقيل وأخواه علي ومسلم وعبد الله بن الزبير وسليمان بن خالد بن الوليد ومحمد بن فرحة بن عبد الله وعبد الله بن المقداد وعبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمرو بن العاص وعمر بن سعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وزياد بن المغيرة بن شعبة وتبعهم من السادات نحو أربعمائة سيد من أولاد الصحابة والامراء أصحاب الرايات وألف وستمائة من أخلاط العرب من المهاجرين والأنصار ولبسوا دروعهم وتقلدوا بسيوفهم واعتقلوا برماحهم وتنكبوا بحجفهم وساروا إلى قريب من دير هناك بسفح الحبل يعرف بدير المسيح يكشفون الاخبار فبينما هم كذلك إذا بغبار طلع إلى عنان السماء وانعقد فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا هذا غبار وحش وقال بعضهم لو كان كذلك لكان تقطع قطعا وتفرق فرقا وانما هذا عسكر جرار وان الخيل إذا داست بحوافرها
230

ارتفع الغبار
قال الواقدي حدثنا أبو الزناد عن عبد الله عن أبي مالك الخولاني عن طارق بن شهاب الجرهمي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال بينما نحن نتحدث مع الفضل وإذا بالغبار قد قرب منا وانكشف عن عشرة آلاف فارس ومعهم الأعلام والصلبان فلما رأونا رطنوا بلغتهم ثم لم يمهلوا دون أن حملوا
قال الراوي وكان ضرار بن الأزور قد انفرد ومعه مائتان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل النجدة وساروا في طريق الجبل على غير الجادة فبينما هم يسيرون إذا بالغبار قد ثار وانكشف عمن ذكرنا فلما عاينوهم أيقنوا بالهلاك فعندها وثب ضرار رضي الله عنه وقال لا فرار من الموت فلم يمهلوهم دون أن داروا عليهم فرأوا أن لا بد لهم من القتال والتقت الرجال بالرجال وصبروا صبر الكرام وأحاطت بهم الروم اللئام من كل جانب ومكان فلله در ضرار لقد قاتل قتالا شديدا فلم يكن غير ساعة حتى قتل من جماعة ضرار جماعة وكبابه جواده فأسروه وأسروا جماعة من أصحابه وكان الذي قاتلهم راس البطارقة صاحب ببا الكبرى فأوثقوا ضرارا وأصحابه
كتافا وربطوهم على ظهور خيولهم وأرسلوهم إلى العسكر وانفلت من القوم مولى من موالي عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق يقال له سالم فسار يجد في مسيره حتى قدم على خالد وعمرو فعند ذلك وثب المسيب بن نجيبة الفزاري ورافع بن عميرة الطائي وأخذا معهما ألفا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسار ومعهما رجل من أسلم من الجيزة يدلهم على طريق غير الجادة وكمنوا هناك عند الدير وقد سبقوا البطريق الذي أسر ضرار وأصحابه وقد أختفى عنهم الأثر فقال الدليل أظنكم قد سبقتم القوم اكمنوا ههنا وكان الذي مضى بضرار وأصحابه خمسمائة فارس قال الراوي وكانت خولة بنت الأزور قد شق عليها أسر أخيها ضرار فلما سار المسيب ورافع وجماعتهما في طلب أخيها تهللت فرحا وأسرعت في لبس سلاحها وأتت إلى خالد وقد هم القوم بالمسير وقالت أيها الأمير سألتك بالطاهر المطهر الا ما سيرتني مع هؤلاء عسى أن أكون مشاهدة لهم فقال خالد للمسيب ورافع أنتما تعلمان شجاعتها وبراعتها فخذاها معكما فقالا السمع والطاعة ونزلوا بالمكان المذكور فبينما هم كذلك كامنون إذا بغبرة قد لاحت لهم فقال لهم رافع أيقظوا خواطركم فأيقظت
231

القوم هممهم فإذا بهم قد أتوا محدقين بضرار وهو متألم من كتافه وهو ينشد ويقول
* ألا بلغا قومي وخولة أنني
* أسير رهين موثق اليد بالقيد
* وحولي علوج الروم من كل كافر
* وأصبحت معهم لا أعيد ولا أبدي
* فلو أنني فوق المحجل راكبا
* وقائم حد الغضب قد ملكت يدي
* لأذللت جمع الروم اذلال نقمة
* وأسقيتهم وسط الوغى أعظم الكد
* فيا قلب مت هما وحزنا وحسرة
* ويا دمع عيني كن معينا على خدي
* فلو أن أقوامي وخولة عندنا وألزم ما كنا عليه من العهد
* كبابي جوادي فانتبذت على الوغى
* وأصبحت بالمقدور ولم أبلغن قصدي
* قال الراوي فنادته خولة من مكمنها قد أجاب الله دعاك وقبل تضرعك ونجواك أنا خولة ثم كبرت وحملت وكبر رافع والمسيب قال جبير بن سالم وكنا إذا كبرنا تصهل الخيل الهاما من الله تعالى فما كان أكثر من ساعة حتى قتلناهم عن آخرهم وخلص الله ضرار وأصحابه وأخذنا خيل القوم وأسلابهم وسلاحهم وكانت أول غنيمة
قال الراوي ولما تخلص ضرار وأصحابه ركب جواده عريانا وأخذ قناة كانت مطروحة وحمل على القوم وهو يقول
* لك الحمد يا مولاي في كل ساعة
* مفرج أحزاني وهمي وكربتي
* فقد نلت ما أرجوه من كل راحة
* وجمعت شملي ثم أبرأت علتي
* سافني كلاب الروم في كل معرك
* وذلك والرحمن أكبر همتي
* فيا ويل كلب الروم ان ظفرت يدي
* به سوف أصليه الحسام بنقمتي
* وأتركهم قتلى جميعا على الثرى
* كما رمة في الأرض من عظم ضربتي
*
قال الراوي فلما فرغ ضرار من شعره إذا بالخيل قد أقبلت منهزمة وكان السبب في ذلك أنه لما حملت الروم على الفضل بن عباس صاح هو وجرت الدماء واسودت السماء وحمى الوطيس وقل الأنيس وهمهمت الابطال وقوي القتال وعظم النزال ودارت رحى الحرب واشتد الطعن والضرب وجالت الرجال واشتد القتال وضربت الأعناق وسالت الأحداق وعظمت الأمور وغابت البدور وكان المسلمون لا يظهرون فيهم لكثرتهم ولا يعرف بعضهم بعضا الا بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير وقد صبر الفضل صبر الكرام فلله در الفضل لقد اصطلى الحرب بنفسه فكان تارة يقلب الميمنة على الميسرة وتارة يقلب الميسرة على
232

الميمنة ويقاتل والراية بيده ولله در مسلم بن عقيل وأخويه لقد قاتلوا حتى صارت الدماء على دروعهم كقطع أكباد الإبل ولله در أبا سليمان
بن خالد بن الوليد المقتول بوقعة الدير قريبا من طرا بقرية تسمى دهروط وقتل معه عبد الله بن المقداد وجماعة وسيأتي ذكر ذلك إن شاء الله تعالى
قال محمد بن مسلمة الأنصاري رضي الله عنه وقاتلنا قتال الموت وأيقنا ان المحشر من ذلك الموضع ولم نزل في قتال من ارتفاع الشمس حتى غربت وقد قتل من الروم مقتلة عظيمة وتقدم الفضل إلى بطريق عظيم راكب كأنه برج من ذهب وطعنه في صدره فأخرج السنان من ظهره فلما رأت الروم ذلك شجعوا أنفسهم وفشا القتال بيننا وبينهم وقتل من المسلمين أربعون رجلا وقتل منهم ثلاثمائة لكن الرجل ما قتل منا حتى قتل جماعة من الروم فبينما نحن كذلك وقد أيقنا أن الموت في ذلك الموقف ووطنا عليه نفوسنا وإذا بغبرة قد طلعت والعجاج قد ارتفع وانقشع الغبار عن رايات اسلامية وعصابة محمدية زهاء من ألفي فارس وفي أوائلهم فرسان أمجاد سادات أنجاد أحدهم المقداد والثاني زياد والقعقاع بن عمرو وشرحبيل بن حسنة ومعهم ألف فارس فلم يمهل المقداد دون أن حمل وخاض في الخيل وهو ينشد ويقول
* ألا انني المقداد أكبر صائل
* وسيفي على الأعداء أطول طائل
* إذا اشتدت الأهوال كنت أمامها
* وأضرب بالسمر الطوال الذوابل
* ولي همة بين الورى تردع العدا
* لها تشهد الابطال بين القبائل
* فليس لسيفي في الأنام مبارز
* وليس لشخصي في الأنام منازل
* ثم إنه خاض في وسط الحرب وحمل من بعده زياد بن أبي سفيان وهو ينشد ويقول
* أنا زياد بن أبي سفيان
* جدي يرى من أشرف العربان
* كذا ابن عمي أحمد العدناني
* معي حسام ثم رمح ثاني
* أطعن كل كافر جبان
* وكل قلب ناقص الايمان
* قال الراوي ثم غاص في وسط القوم فقلب الميمنة على الميسرة والميسرة على الميمنة وغاص في القلب فولت الروم من بين يديه منهزمين وهو يضرب السيف فيهم طولا وعرضا ثم حمل من بعده القعقاع بن عمرو التميمي وهو ينشد ويقول
* أنا الهمام الفارس القعقاع
* ليث همام ضيغم مطاع
* معي حسام يبرئ الأوجاع
* ويقطع الهامات والأضلاع
* يا ويل أهل الشرك والنزاع
* مني إذا في الحرب طال الباع
*
233

قال ثم حمل من بعده شرحبيل بن حسنة وهو يقول
* ألا يا عصبة الاسلام صولوا
* على الأعداء بالسيف الصقيل
* اذيقوهم حياض الموت جهرا
* بلذع السمهري الرمح الطويل
* وموتوا في الوغى قوما كراما
* شدادا في المعامع والنزول
*
قال الراوي ثم تتابعت الفرسان يتلو بعضها بعضا هذا وزياد غائص في القوم كما ذكرنا وقصد البطريق الأعظم صاحب ببا الكبرى وضربه على عتاتقه الأيمن بالسيف فاطلع السيف يلمع من عاتقه الأيسر وقد أجابته المسلمون بتكبيرة واحدة وكبرت الجبال وارتجت الأرض لوقع حوافر الخيل وحمل كل أمير على بطريق فقتله فلم تكن الا ساعة حتى ولوا الأدبار وركنوا إلى الفرار لا يلوي بعضهم على بعض وتبعهم المسمون يقتلون ويأسرون حتى بلغت الهزيمة جرزة وميدوم فبينما ضرار وأصحابه مقبلون وإذا بالروم منهزمة كما ذكرنا وخيل المسلمين في أثرهم يقتلون ويأسرون ولم يعلموا ما جرى لضرار ورفقته فلما رأوه سلموا عليه وهنئوه وأصحابه بالسلامة فقص عليهم ما جرى لهم واجتمعوا بالمسيب وأصحابه وأروهم مكان المعركة ومكان القتلى ففرحوا بذلك فرحا شديدا
قال الراوي وان عمرا وخالدا لما خرج الفضل وأصحابه قلق عليهم فقال خالد لعمرو يا أبا عبد الله لقد غرر الفضل وأصحابه بمن معه من المسلمين واني أخضى أن تكون للروم طليعة فيغيروا على أصحابنا قال عمرو كذلك هجس بخاطري يا أبا أبا سليمان
فما ترى من الرأي قال خالد الرأي عندي أن أرسل طليعة أخرى خلفهم قال نعم الرأي ثم استدعى بالزبير بن العوام وأبي ذو الغفاري رضي الله عنهم وأعلمهما بذلك وأراد خالد أن يركب معهما فمنعه الزبير وحلف لا يسير الا هو وانتخب معه فرسانا فساروا حتى قربوا من القوم والتقوا بالمسلمين فوجدوهم قد كسروا الروم كما ذكرنا ثم جمع المسلمون الأسلاب والسلاح والخيل ورجعوا إلى أصحابهم وهم فرحون بالنصر على أعدائهم قال الراوي فلما رجع المسلمون إلى العسكر وكان معهم ستمائة أسير أعلن المسلمون بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير فأجابهم المسلمون كذلك ولما عاينوا الاسلاب والأسارى معهم فرحوا بذلك وسلم بعضهم على بعض وتلقاهم عمرو وخالد وباقي الأمراء تفاءلوا بالنصر وقدموا الأسارى وعرضوهم على عمرو وخالد وأوقدوا النيران بالمرج وباتوا يقرءون القرآن ويتضرعون إلى الله الواحد المنان وليس فيهم الا من هو راكع أو ساجد
234

قال الراوي هذا ما جرى لهؤلاء وأما المنهزومون فإنهم مضوا إلى البطارقة والملوك وأخبروهم بما وقع من أمرهم فعظم عليهم من قتل واستعدوا للقتال وركبوا خيولهم وابلهم وافيالهم وتزينوا بزينتهم وساروا يجدون المسير وقد أكثروا الطبول والزمور والصنوج
قال قيس بن الحرث وأقام المسلمون بعد الوقعة يوما فبينما نحن في اليوم الثاني بعد صلاة الصبح وكان الاجاويد من الامراء والابطال في كل يوم يركبون ويستنشقون الاخبار فبينما هم ينتظرون إذ ثار الغبار حتى تعلق بالجو وانكشف عن رجال وخيول كالجراد المنتشر والسيل المنحدر وارتجت الأرض من ازدحام الخيل وقعقعة اللجم فرجعوا وأعلموا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاح الصائح في العسكر النفير النفير يا خيل الله اركبي في الجنة ارغبي والثواب اطلبي فتواثب المسلمون إلى قدومهم ولبسوا دروعهم والى خيولهم فركبوها والى راياتهم فنشروها والى زينتهم فأظهروها والى قلوبهم من الغش فطهروها ونفوسهم لله باعوها فلم تكن الا ساعة حتى استعدوا وأقام خالد وعمرو يعبيان قومهما للقتال فجعلا في القلب أصحاب الطعن والضرب مثل الفضل بن العباس وبني عمه من سادات بني هاشم وهم جعفر ومسلم وعلى أولاد عقيل بن أبي طالب وزياد بن أبي سفيان بن الحرث ومثل هؤلاء الابطال وجعل في الجناح الأيمن الزبير بن العوام والمقداد بن الأسود الكندي والمسيب بن نجيبة الفزاري وجعل في الجناح الأيسر القعقاع بن عمرو التميمي وهاشم بن المرقال وغانم بن عياض الأشعري وأبا ذر الغفاري وجابر بن عبد الله الأنصاري ومثل هؤلاء السادات رضي الله عنهم وثبت خالد وعمرو في القلب ومعهما عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وعبد الله بن عمر بن الخطاب وعقبة بن عامر الجهني وبقية الصحابة من الامراء أصحاب الرايات ممن شهد الوقائع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن عبد الله ابن زيد عن أبي امامة رضي الله عنه وكان من أصحاب الرايات قال فبينما نحن كذلك إذا باعلام المشركين قد انتشرت وراياتهم قد ظهرت وزينتهم وصلبانهم قد ارتفعت ولغتهم بالكفر قد طمطمت وأفيالهم قد أقبلت ورجالهم للقتال قد تبادرت فلما رأى المسلمون ذلك أخلصوا نياتهم ولم يهلهم ما رأوا من عدوهم وتضرعوا بالدعاء لخالقهم وقد استغاثوا بمالكهم وأكثروا من الصلاة على نبيهم ولم يزالوا سائرين حتى قربوا من القوم ورأوهم رأي العين فعند ذلك أمسك المشركون أعنة خيولهم وسلاسل أفيالهم وألقى الله الرعب في قلوبهم ثم خرج منهم بطريق من عظماء بطارقتهم كأنه برج مشيد من ذهب وهو لا يبين منه غير حماليق الحدق وتدوير المآق وبين يديه فارس من
235

متنصرة العرب وهو يصيح بملء فيه يا معاشر العرب ارسلوا إلى الملك أحدا يكلمه فاعلم المسلمون عمرا وخالد بن الوليد بذلك فأراد خالد أن يخرج اليه فمنعه الامراء من ذلك فعندها وثب المقداد بن الأسود وحلف لا يخرج اليه الا هو بنفسه فقال عمرو وخالد يا أبا عبد الله انظر ما يكلمك به الاعلاج وادعهم إلى كلمة الاخلاص المنجية يوم القصاص فان أبوا فالجزية عن يد وهم صاغرون فان أبوا قاتلناهم * (حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين) *
قال الواقدي فعندها ركب المقداد جواده وسار حتى وقف بين يدي البطريق وكان ذلك بولص 2 صاحب الكفور الطاغي اللعين بطريق البطليوس وقد أتى باذن الملك والبطارقة فلما رآه كلمه بلسان عربي مبين ثم قال يا بدوي أأنت أمير قومك قال لا قال فاني لا أريد الا الأمير حتى أسأله عما بدا لي لعل أن تكون فيه مصلحة بينكم وبيننا فقال المقداد سل عما بدا لك وما تريد فانا قوم إذا فعل أحدنا أمرا وفيه نصح للدين ومصلحة للمسلمين لا ينكر عليه ذلك ويجيز له الأمير ما فعل فأخبرني عن أمرك وشأنك قال لا يكلمني الا أمير القوم وان كان عنده خوف مني ألقيت سلاحي فقال المقداد وقد ضحك من كلامه ويحك يا عدو الله لو كنت أنت وأمثالك باسلحتهم ما فكرنا فيهم وان الواحد منا لو وقع في ألف منكم لتلقاهم بنفسه ولا أهمه ذلك والمعونة من الله تعالى فانا وطنا أنفسنا على الموت ونعلم أن هذه الدنيا فانية ولا يبقى الا وجه الله تعالى فاسألني عما بدا لك فقال له لا اسمع الا كلام الأمير فدع عنك كثرة المطاولة قال المقداد ان لنا أميرين أحدهما متولي الامر والآخر قائد الجيوش فأي أمير تريد قال أخبرني بأسمائهما قال أما الذي هو متولي الامر فيسمى عمرو بن العاص والآخر يسمى خالد بن الوليد قال إني أريد خالدا سمعت عنه أمورا وأحوالا وان الروم تتحدث عنه بعجائب كثيرة
قال الواقدي وكان الملعون قد سمع بذكر خالد وفراسته وقال في نفسه لعلي أغدره فاني ان قتلته كان لي الفخر على جميع الروم وينكسر بذلك ناموس العرب وان لم أقدر عليه أسمع ما يقول من خطابه قال فعند ذلك لوى المقداد عنان جواده ورجع إلى خالد فعند ذلك قال خالد لأصحابه ان المقداد قد رجع وان عدو الله لا يريد الا إياي فان طلبني مضيت اليه وان رأيت منه غدرا أخذت روحه من بين كتفيه وأستعين عليه بالملك العلام قال الراوي فبينما خالد يتحدث بهذا الكلام إذا بالمقداد قد وصل وأعلم عمرا وخالدا بما وقع فعندها خرج خالد رضي الله عنه مبادرا عليه لامة حربه فتعلق به أكابر أصحابه فحلف انه لا بد له من الخروج اليه ثم خرج
236

مبادرا حتى وقف بين يديه فلما رأى خالدا قد وصل اليه احترز على نفسه وأراد أن يخدع خالدا ويهجم عليه فقال خالد أيها البطريق ها أنا خالد سل حاجتك والذي جئت به وأياك والمخادعة فاني جرثومة الخداع فقال بولص يا خالد اذكر في الذي تريد وقرب الأمر بيننا وبينكم واحقن دماء الناس واعلم أنك مسؤول عن ذلك وواقف غدا بين يدي الله عز وجل فان كنت تريد شيئا من الدنيا فلن نبخل به عليكم وندفعه صدقة منا إليكم لأنه ليس عندنا في الأمم أضعف منكم حالا وقد علمنا أنكم كنتم في بلادكم قبل أن تفتحوا البلاد في قحط وجوع وتموتون هزالا وقد ملكتم بلادا وشبعتم لحما وركبتم خيولا مسومة وتقلدتم بسيوف مجوهرة وسعدتم بعد فقركم وفاقتكم فان طلبتم منا شيئا أعطيناكم إياه بطيبة قلوبنا فلا تطمعوا في بلادنا كما طمعتم في غيرها واقنعوا منا بالقليل قال فلما سمع مع خالد مقالته قال يا كلب النصرانية وأخس من غمس في ماء المعمودية انه قد بعث الله الينا نبينا فهدانا من الضلالة وأنقذنا من الجهالة واننا قد ملكنا الله بأيدينا ما أغنانا به عن صدقتكم وأحل لنا أموالكم وأباح لنا نساءكم وأولادكم الا أن تقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله فان أبيتم ذلك فتؤدوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون فان أبيتم ذلك فالسيف حكم بيننا وبينكم حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين والله ينصر من يشاء وان الحرب والقتال أحب الينا وأشهى من الصلح وان كنتم تزعمون أنه لم تكن أمة أضعف منا عندكم فأنتم عندنا بمنزلة الكلاب فان الواحد منا يقاتل منكم ألفا وان هذا ليس بخطاب من يطلب الصلح فإن كان هذا الطمع ترجو به أن تصل إلي بانفرادي عن أصحابي فذلك منك بعيد وان أردت القتال فدونك فاني كفء لك ولأصحابك إن شاء الله تعالى فلما سمع بولص كلام خالد وثب في سرجه وقال ليس لك عندي الا هذا السيف ثم جرد سيفه ودنا من خالد رضي الله عنه وشابكه وضرب بيده في درعه ومنطقته ووثب كل منهما على الآخر واستغاث الملعون بأصحابه وقال لهم بادروا إلي فقد أمكنني الصليب من أمير العرب فابتدر اليه البطارقة من كل جانب وخرج كردوس عظيم أكثر من مائتي فارس وجردوا السيوف وأتوا إلى خالد رضي الله عنه
فلما رآهم خالد مقبلين اليه وثب وثبة الأسد وصاح بجواده وانتزع نفسه من البطريق بعد أن أحاطت به الروم وجاء كردوس ثان وخالد يضرب فيهم يمينا وشمالا وعدو الله بولص يصيح ويقول يا ويلكم خذوه قبل أن يفوتكم قال وكان ضرار والفضل بن العباس وعلي بن عقيل وعبد الله بن المقداد وسليمان بن خالد رضي الله عنهم على كثيب قريب من الروم فلما رأوا الروم
237

والسيوف بأيديهم وقد أحاطوا بخالد ركضوا خيولهم وكان أول من ابتدر للحرب ضرار بن الأزور رضي الله عنه وهو ينشد
* عليك ربي في الأمور المتكل
* اغفر ذنوبي ان دنا مني الاجل
* يا رب وفقني إلى خير العمل
* وعني امح سيدي كل الزلل
* انا ضرار الفارس القرم البطل
* باعي على الأعداء أضحى المنصل
* اقمع بسيفي الروم حتى يضمحل
* مالي سواك في الأمور من أمل
*
قال الراوي حدثنا رفاعة بن قيس قال حدثنا حامد بن عياض عن أبيه عن جده عن نافع بن علقمة الربعي قال كنت في القلب في عسكر عمرو يوم وقعة الروم بمرج دهشور قال بينما نحن ننظر إذ رأينا السيوف جذبت وأحاطت بخالد بن الوليد فخرجنا كردوسا من أجاويد الرجال من طرف الميمنة وبادرناهم ولحقناهم وإذا قد سبق من ذكرنا يعني ضرارا والجماعة المذكورين فكان أول من قدم على الروم ضرار وهو عريان بسراويله قابضا على سيفه وهو يزأر كالأسد والقوم من ورائه متبعوه حتى وصلوا وضرار أمامهم وهو واثب على جواده وثبة الأسد مسرعا وهو يهز السيف وهو زاحف على بولص فارتعدت فرائصه وقال يا خالد دعني من هذا الشيطان واقتلني أنت ولا تدعه يقتلني فاني أتشاءم من طلعته فقال هو قاتلك لا محالة هذا مبيد الأقران هذا قاتل وردان وملك التركمان ومبيد عبدة الصلبان ومن يكفر بالرحمن فبينما هم في المجاورة وإذا بضرار قد أقبل وهز سيفه وصرخ يا عدو الله لم تغن عنك خديعتك شيئا ولا غدرك بصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أراد أن يضربه بسيفه فصاح به خالد اصبر يا ضرار حتى آمرك بقتله ووصلت اليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل يبادر إلى قتله فقال لهم خالد اصبروا قال ونظر بولص لعنة الله إلى ما حل به وقد جذبه ضرار من قربوس سرجه واقتلعه وجلد به الأرض فغشى عليه فأشار بأصبعه وقال الأمان يا خالد فقال له خالد يا كلب النصرانية لا يعطى الأمان الا لأهل الأمان أنت رجل أردت أن تمكر والله خير الماكرين فلما سمع ضرار ذلك لم يمهله دون أن ضربه بالسيف على عاتقه الأيمن فاطلع السيف يلمع من عاتقه الأيسر فسقط عدو الله يخور في دمه وعجل الله بروحه إلى النار وبئس القرار وتبادرت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضعوا السيف فيهم فلما رأى الروم ما حل بهم
حملوا بأجمعهم وتقدمت أصحاب الفيلة وعلى ظهورها الرجال والتقى الجمعان واصطدم الفريقان واشتد القتال وعظم النزال وصفت الصفوف وازدحمت الألوف وتلفت النفوس وقطعت الرؤوس وبطل القيل والقال وقتلت الرجال وزمجرت الابطال واشتد القتال واتسع المجال وعظم البلاء واسودت السماء وثار الغبار وقدحت حوافر
238

الخيل الشرار وطمطمت السودان وكفروا بالرحمن وثار العجاج وزمجرت الاعلاج وقاتلت أصحاب الفيلة قتالا شديدا وقد قسموهم أربع فرق فرقة مما يلي الميمنة وفرقة مما يلي الميسرة وفرقة مما يلي القلب وفرقة مما يلي العسكر وتصايحت النوبة والبجاوة والروم فلله در خالد بن الوليد لقد قاتل قتالا شديدا فكان تارة في القلب وتارة في الميمنة وتارة في الميسرة وكذلك الأمير عمرو بن العاص والزبير بن العوام والفضل بن العباس الهاشمي والقعقاع بن عمرو التميمي وغانم بن عياض الأشعري رضي الله عنهم على الساقة مع النساء والولدان والذراري والصبيان وانقطع عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وعبد الله بن عمر بن الخطاب وهاشم بن المرقال إلى كردوس ينوف على ألف فارس من الروم والسودان فغاصوا في أوساطهم وكان فيهم بطريق من بطارقة الكورة اسمه عرنان بن ميخائيل فلما رأى ما حل به وبأصحابه بادر إلى الصليب ليقبله وينظر اليه ثم رطن الروم بلغتهم وأحاطوا بأصحاب رسلول الله صلى الله عليه وسلم وأرادوا أن يتمكنوا منهم فعندها وثب عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى ذلك البطريق فحمل عليه وكان عليه ديباجة صفراء من فوق درعه وعلى رأسه بيضة تلمع كأنها كوكب وفي وسطه منطقة من الجوهر فتعاركا مليا وتصادما سويا ثم إن عبد الرحمن ضربه بالسيف في نحره فأطاح رأسه عن بدنه فلما رأى الروم ذلك حملوا على عبد الرحمن وأصحابه بأجمعهم حملة واحدة وصبر لهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل منهم مشتغل بنفسه عن نصرة صاحبه وأيقنوا بالهلاك وخرج عبد الرحمن وفي يده جرح هائل والدم يسيل عن درعه فتناول السيف بيده اليسرى وجعل يقاتل بها وجرح هاشم بن المرقال أحد عشر جرحا في يده وفي وجهه وهو يمسح الدم مرارا فأيقنوا بالهلاك
وكان الفضل بن العباس وبنو عمه ممن ذكرنا تارة في الميمنة وتارة في الميسرة وحملوا في اعراض القوم حتى وصلوا الكردوس الذي فيه عبد الرحمن وعبد الله بن عمر وهاشم بن المرقال فوجدوا الروم قد أحاطوا بعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وعقروا جواده من تحته وأصحابه يذبون عنه وعبد الله بن عمر تارة يمنع عنه بالسيف وتارة بالرمح وجراحاته تتدفق دما وقد جرح عبد الله بن عمر في يده ست جراحات هائلة فلما رأى الفضل ذلك بادر هو وأصحابه وكانوا عشرين فارسا وخرقوا الصفوف وضرب فارسا ممن أحاط بعبد الرحمن على رأسه فقطع البيضة ونزل إلى أضراسه فانجدل صريعا يخور في دمه وعجل الله بروحه إلى النار فلما سقط عن جواده ابتدره عبد الرحمن وركب الجواد وقاتلوا أولئك حتى دفعوهم عن أصحابهم وكانت
239

جماعة من الأوس وهمدان مما يلي الجناح الأيسر فعطف عليهما كردوس من الروم والسودان فأزالوهم عن أماكنهم وكشفوهم عن مراتبهم وفروا بين أيديهم فصاح بهم أبو هريرة رضي الله عنه وابنه عبد الله ومالك ابن الأشتر يا قوم لا تولوا فرارا من الموت أتريدون أن تكونوا عارا عند العرب فما عذركم غدا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أما سمعتم قول الله عز وجل فلا تولوهم الادبار ومن يولهم يومئذ دبره الآية الله الله الجنة تحت ظلال السيوف والموعد عند قبر المصطفى قال فلم يلتفتوا إليهم ولم يقبلوا كلامهم ووصلت الهزيمة إلى غانم بن عياض الأشعري وأصحابه والنساء والصبيان فلما رأت النساء ذلك صحن في وجوههم وفعلن كما فعلن يوم اليرموك وصرن يضربن وجه الخيل بالأعمدة وقاتلت خولة بنت الأزور قتالا شديدا فلما رأى غانم ذلك وكان معه قيس بن الحرث ورفاعة بن زهير المخزومي وخمسمائة فارس من أهل العدة والنجدة صاح غانم النجدة يا أصحاب رسول الله فتواثبوا إليهم وحملوا عليهم حملة واحدة بصدق نية وثبات فلما رأوا ذلك ولوا منهزمين
قال الواقدي ولم يزل السيف يعمل في الرجال من أول النهار إلى وقت العصر وأنزل الله النصر على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت الافيال والرجال الذين على ظهورها تضرب أصحاب رسول الله صلى بالنشاب فجاء مفرج بن عيينة الفزاري إلى فيل مقدم على أربعمائة فيل فطعنه في احدى عينيه فاشتبك الرمح في عينه وما قدر ان يجذبه فبرطع الفيل هاربا وألقى ما على ظهره من الرجال وداسهم برجليه فقتلهم فتبعته الفيلة التي خلفه وألقت ما على ظهورها من الرجال ودراستهم بأرجلها فصاح مفرج دونكم وخراطيمها ومشافرها فإنها مقاتلة فابتدر بنو فزارة وبنو قراد وبنو عبس يضربون مشافر الفيلة حتى قتلوا منها مائة وستين فيلا وقتلوا من على ظهورها من الرجال ولم يزل القوم في الكر والفر والقتال الشديد حتى جاء الليل وحجز الفريقين ورجعت الروم والسودان إلى أماكنهم وتفقد المسلمون من قتل منهم فإذا هم مائتان وأربعون رجلا ختم الله لهم بالشهادة وتفقد المشركون قتلاهم فإذا هم خمسة آلاف من النوبة والبجاوة والروم فبات المسلمون يتحارسون إلى الصباح ويقرؤون القرآن ويدفنون قتلاهم فلما أصبح الصباح وقاموا إلى اصلاح شأنهم إذا بالروم والسودان قد أقبلوا بعددهم وعديدهم وقد اظهروا زينتهم واصطفوا خمسة كل صف أربعون ألفا والمشاة بين أيديهم خمسون ألفا قال قيس بن علقمة لقد دخلت الشام والعراق ورأيت جنود كسرى والجرامقة واليرموك وأجنادين ووقعة مصر والقبط وفتح إسكندرية ودمياط
240

فلم أر مثل كسرتهم في مرج دهشور فلما رأيناهم وقد ركبوا ركب خالد وجعل يتخلل الصفوف ويقول لهم انكم لستم ترون بمصر والصعيد جيوشا بعد هذا اليوم مثل هؤلاء وان كسرتموهم فلا تقوم لهم قائمة أبدا فاصدقوا في الجهاد وعليكم بالصبر وإياكم أن تولوا الادبار فتستوجبوا بذلك النار وألصقوا المناكب ولا تحملوا حتى آمر بالحملة
قال الراوي وان البطارقة لما رأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عولوا على ضربهم شجع بعضهم بعضا وقال لهم بطرس أخو بولس المقتول اعلموا انكم ان انكسرتم لا تقوم لكم قائمة بعد هذا أبدا ويملكون بلادكم ويقتلون رجالكم ويسبون حريمكم وعليكم بالصبر ولتكن جملتكم واحدة ولا تتفرقوا وقدموا الفيلة أمامكم والرجالة خلف ظهوركم واستعينوا بالصليب فهو ينصركم قال الراوي وأما عمرو وخالد فإنهما قالا نريد من يكشف لنا عن القوم ويعود فوثب الفضل ابن العباس رضي الله عنه وقال أنا فسار حتى قرب من القوم ورأى زيهم وأهبتهم ورأى شعاع البيض والبيارق والرايات كأجنحة النسور فلما رآه القوم قالوا فارس قد طلع ولا شك انه طليعة فأيكم يبتدره فابتدره ثلاثون فارسا فلما نظرهم ولى كأنه منهزم وركض قليلا حتى بعد ثم لوى عنان الجواد نحوهم وطعن أول فارس والثاني والثالث فدخل رعبه في قلوبهم
فانهزموا وتبعهم وهو يصرع فارسا بعد فارس حتى صرع منهم عشرين فارسا فلما قرب من الروم ولى راجعا إلى المسلمين وأعلمهم بذلك فقالوا له غررت بنفسك يا بن عم رسول الله فقال ان القوم طلبوني وخفت أن يراني الله منهزما فجاهدت باخلاص فنصرني الله عليهم واعلموا أنهم لنا غنيمة إن شاء الله تعالى قال فأقبل عمرو وخالد يرتبان العساكر ميمنة وميسرة وجناحين كما تقدم في اليوم الأول فجعل في الساقة زياد بن أبي سفيان بن الحرث في ألف فارس حول البنين والبنات والأموال وكانت فيهم النساء الآتي تقدم ذكرهن في أجنادين واليرموك وهن عفيرة بنت غفار وأم ابان بنت عتبة أخت هند وخولة بنت الأزور ومزروعة بنت عملوق وسلمة بنت ذراع ولبنى بنت سوار وسلمى بنت النعمان وهند بنت عمرون وزينب الأنصارية فهؤلاء من النساء اللاتي عرفن بالشجاعة فقال لهن خالد با بنات العرب لقد فعلتن فعالا أرضيتن الله ورسوله والمسلمين بها وقد بقي لكن ذكر يتحدث به جيلا بعد جيل وهذه أبواب الجنان قد فتحت لكن وأبواب النيران قد فتحت لاعدائكن واني أحرضكن إذا جاءت الروم والسودان اليكن فقاتلن عن أنفسكن كما قاتلتن في يوم أجنادين ويوم
241

اليرموك فان رأيتن أحدا هاربا فدونكن وإياه بالعمد وأشرفن عليه بولده وقلن له إلى أين تولي عن أهلك وولدك وحريمك وحرضن المسلمين على ذلك فقلن أيها الأمير ما يفرحنا الا أن نموت أمامك يا أبا أبا سليمان
لنضربن وجوه الروم والسودان حتى لا يبقى لنا عذر قال فشكرهن على ذلك ثم عاد خالد إلى الصفوف وجعل يدور بينها بجواده ويحرض الناس على القتال وهو يقول أيها الناس انصروا الله ينصركم وقاتلوا من كفر وأحبسوا أنفسكم في سبيل الله وأصبروا على قتال أعداء الله وقاتلوا عن حريمكم وأولادكم ولا تحملوا حتى آمركم بالحملة ولتكن سهامكم تخرج من كبد قوس واحد فان السهام إذا خرجت جميعا لم يخل أن يكون فيها سهم صائب واصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون واعلموا أنكم لا تلقون بالوجه القبلي مثل هؤلاء اللئام فإنهم حماتهم وبطارقتهم وملوكهم فقالوا سمعا وطاعة وأقبل خالد ووقف في القلب مع عمرو بن العاص وعبد الرحمن ابن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وقيس بن هبيرة ورافع بن عميرة الطائي والمسيب بن نجيبة الفزاري وذوي الكلاع الحميري وربيعة بن عباس ومالك بن الأشتر والعباس ابن مرداس السلمي ونظائرهم من بقية الامراء ثم زحفوا بسكينة ووقار فلما رأى الروم ذلك والسودان زحفوا وكانوا ملء الأرض طولا وعرضا فلما التقى الفئتان وتراكم الجمعان وقد أظهر أعداء الله في ذينهم الصلبان والاعلام ورفعوا أصواتهم بالكفر والبهتان فبينا الناس كذلك إذ خرج راهب كبير عليه جبة سوداء وقلنسوة وزنار فنادى بلسان عربي أيكم أمير القوم فيخاطبني ويخرج إلي فخرج اليه خالد فقال له أنت أمير القوم قال خالد كذلك يزعمون ما دمت على طاعة الله وسنة رسوله فان أنا بدلت أو غيرت فلا طاعة لي عليهم ولا امارة فقال القس اعلم انكم قد ملكتم بلادا وقدمتم إلى بلاد ماجسر ملك من الملوك أن يتعرض لها ولا يدخلها وان ملوكا كثيرة أرادوها فرجعوا خائبين وأفنوا أنفسهم عليها وان النصر لا يدوم لكم وان الملوك أرسلوني إليكم فان سمحتم نجمع لكم مالا ونعطي لكل واحد منكم ثوبا وعمامة ودينارا ولك أنت مائة ثوب ومائة عمامة ومائة دينار ولكل واحد حمل من البر وحمل من الشعير ولك عشرة أحمال ولصاحبكم عمرو عشرة آلاف دينار ومثلها ثياب ومثلها عمائم ومائة حمل بر ومائة حمل شعير وارحلوا عنا وأنتم موقرون أنفسكم فإننا عدد الجراد ولا تظنونا كمن لاقيتم من الفرس والروم وأهل الشام والقبط فان في هذا الجيش من النوبة والبجاوة والسودان والروم وكبار البطارقة والأساقفه
242

ونجمع عليكم ما لا طاقة لكم به من بلاد السودان والواحات وكأنكم بالنجدة قد وردت علينا وان بقية الروم لم تأت إليكم وانما أرسلوا من يقاتل عنهم فقال خالد والله ما نرجع عنكم الا بإحدى ثلاث خصال اما ان تدخلوا في ديننا أو تؤدوا الجزية أو القتال وأما ما ذكرت انكم عدد الجراد فالله قد وعدنا بالنصر على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم وأنزله في كتابه وأما ما ذكرت أنكم تعطوننا من الثياب والعمائم فعن قريب نلبس ثيابكم وعمائمكم ونملك بلادكم جميعها كما ملكنا الشام ومصر والعراق واليمن والحجاز والروم فقال الراهب أنا أرجع أخبر أصحابي بذلك فاني قد أتيت من قبل البطليوس صاحب مدينة البهنسا وقد أرسلني إلى صاحب أهناس واتفق الملوك والبطارقة وأرسلوني إليكم وأنا أرجع إليهم وأخبرهم بجوابك ثم إن القس لوى راجعا من حيث جاء فلما رجع إليهم وأخبرهم بذلك كاتبوا ملوكهم على ذلك وأرسلوا جوابهم بالقتال فلما وصلت الكتب تقدمت الروم والسودان وقدموا بين أيديهم الفيلة وأمامهم الرجالة بالقسي والسيوف والدرق والمزاريق فصاح الفضل بن العباس ورفاعة بن زهير المحاربي والقعقاع بن عمرو والتميمي وشرحبيل بن حسنة والمقداد ابن الأسود الكندي ومعاذ بن جبل وقالوا معاشر المسلمين اعلموا أن الجنان قد فتحت والملائكة قد أشرفت والحور تزينت وأشرفت من الجنان ثم قرأ ان الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ثم رتبوا الصفوف فتقدم خالد وقال اقرنوا المواكب واثبتوا واعلموا ان هؤلاء أكثر منكم بعشرة أمثالكم وأزيد فطاولوهم إلى وقت العصر فإنها ساعة النصر على الأعداء وإياكم ان تولوا الادبار وازحفوا على بركة الله وعونه قال الراوي وتزاحمت السودان والبربر والنوبة والبجاوة فلما تقارب الجمعان رمت أصحاب الفيلة نشابهم فكانت كالجراد المنتشر فقتلوا رجالا وجرحوا أبطالا وخالد تارة يضرب بسيفه في الميمنة وتارة في الميسرة وكان في أصحاب الفيلة من السودان والبربر سواكن يسمونهم القواد شفاههم العليا مشقوقة وبها خزام من نحاس فإذا كان وقت الحرب لا يخرجون القواد الا إذا حمى الحرب واشتد الطعن والضرب وكانوا سودا طوالا طول كل واحد منهم عشرة أذرع فإذا أرادوا الحرب جعل في كل خزام سلسلة بطرفين في كل طرف واحد من البربر فإذا وقع صلح بين الفريقين والا زحفوا بهم وأطلقوا السلاسل ودفعوا لهم أعمدة من حديد طوالا فيضرب الواحد الفارس والفرس فيقتلها بضربة ومنهم من يركب الفيلة ويقاتل على ظهورها فلما التقى الجمعان خرجت تلك القواد وعلى أجسادهم جلود النمور
243

وفوق أكتافهم مربوطة على صدورهم وفي أوساطهم مثل ذلك وهم عراة الأجساد والرؤوس ليس عليهم غير ما ذكرنا وبأيديهم الأعمدة والرجال يقودونهم بتلك السلاسل والجيوش ينظرون متى يؤمرون بالحملة فلما رأى المسلمون ذلك فمنهم من ثبت ومنهم من جزع قال وبرز البطريق أخو بولص المقتول وهو راكب على جواد عال وعليه لحاف من جلود الفيلة وقاتل
قال الراوي حدثني خالد بن أسلم عن طريف بن طارق وكان من الأزد قال لما فعل البطريق ذلك ولت الأزد من بين يديه منهزمين وإذا بفارس قد أقبل يركض بجواده وهو عاري الجسد حتى قرب من القوم وأنشد يقول
* لقد ملكت يدي سنانا وصارما
* أذل عداة السوء ان جئت قادما
* وأتركهم شبه الرخام إذا مشى
* عليه شجاع لا يزال مصادما
* والا كأغنام مضين بقفرة
* وأصبح مولاها عن السعي نائما
* وقد ملك الليث الغضنفر جمعها
* وأصبح فيها بالمخالب حاطما
* قال الراوي وصاح الفارس أنا ضرار بن الأزور أنا قاتل ملوك الشام أنا ضرار دين الاسلام والمسلط على من يكفر بالرحمن أنا قاتل بولص الكلب ذي الطغيان قال فلما سمع الروم كلامه عرفوه فتقهقروا إلى ورائهم فطمع فيهم وحمل عليهم فقال بطرس من هذا البدوي الذي لم يزل عاري الجسد ويقاتل بالسيف مرة وبالرمح مرة قالوا هذا ضرار ابن الأزور فتحير الملعون وقال هذا قاتل أخي ولقد اشتهيت أن آخذ بثاره ثم عزم على الخروج اليه فسبقه بولص راس بطارقة الكورة وقال أنا آخذ بثارك ثم حمل على ضرار فتجاولا طويلا وافتركا مليا فما كان أكثر من ساعة حتى طعنه ضرار طعنة صادقة في صدره خرقت الدروع وخرجت من ظهره فانجدل صريعا وعجل الله بروحه إلى النار فقال بطرس هذا جني وليس للانسان أن يقاتل الجن ثم لبس لامة حربه وتعصب بعصابة من اللؤلؤ الرطب ولبس فوق درعه مثل ذلك وخرج يطلب ضرارا فسبقه شذم ادرس أحد بطارقة الكورة وحلف لا يخرج اليه وغيره وحمل على ضرار وقال دونك والقتال فلم يفهم ضرار ما يقول ثم حمل عليه وأخرج صليبا من الذهب كان معلقا في عنقه فضحك ضرار عليه وقال أنت تستعين بالصلبان وأنا استعين بالملك الديان
ثم أرى كل منهما ما أدهش الناس من الحرب فصاح خالد وبقية الامراء ما هذه الفترة يا ضرار والجنة قد فتحت لك ولعدوك قد فتحت النار فاستيقظ ضرار وحمل على البطريق وصاحت الروم بصاحبها وصاروا في حرب عظيم وحميت عليهم الشمس وثار الحرب حتى كل منهما الساعدان
244

وعرق تحتهما الجوادان فأشار البطريق إلى ضرار ان يترجل ويترجل البطريق معه شفقة على الجوادين وإذا برأس بطارقة أهناس قد أخرج له جوادا مجللا بالحرير ليركبه فلما نظر ضرار إلى ذلك صاح بجواده أثبت معي هذه الساعة والا أشكوك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فذرفت عين الجواد بالدموع وحمحم وجرى أكثر من جريه المعتاد وتلقى ضرار البطريق وحمل عليه وطعنه بعقب الرمح فأرداه وأخذ جواده وأراد قتله وإذا بكردوس خرج من الروم ومعهم الكلب الكبير شاول أحد بطارقة الأشمونيين وأحاطوا بضرار وكان على رأس شاول تاج من الذهب الأحمر فلما رأى الصحابة الكردوس الذي خرج على ضرار والتاج يلمع على رأسه قالوا لخالد ما سبب قعودنا عن نصرة صاحبنا وقد أحاطت به الروم فعندها خرج خالد رضي الله عنه في عشرة من خيار قومه وهم الفضل بن العباس بن عبد المطلب وأخوه وعبد الله بن جعفر ومسلم وعلي أولاد عقيل وعبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن المقداد وقوموا الأسنة وأطلقوا الأعنة وصبر ضرار للروم حتى وصلت اليه الامراء وقالوا
أبشر يا ضرار فقد أتاك النصر والفرج وقد ذهب عنك الخوف والجزع فلا تخف من الكفار واستعن بالله الواحد القهار فقال ضرار ما أقرب الفرج من الله والتقت الرجال بالرجال وطلب خالد صاحب التاج والعصابة وضرار مع خصمه فلما رأى شاول البطريق المسلمين قد أحدقوا به وما حل بجماعته اندهش وارتعد هذا وضرار مع خصمه وقد أراد الهرب فألقى ضرار نفسه من على جواده وتبعه حتى لحقه ثم رمى الرمح من يده وتواخذا بالمناكب وتصارعا وكان عدو الله كأنه قطعة من جبل وضرار نحيف الجسم غير أن الله أعطاه حولا وقوة فلما طال بينهما العراك ضرب ضرار بيده في بطن عدو الله فقلعه وجلد به الأرض فصاح يستنجد بالبطارقة وتصارخت الروم والسودان وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يمهله ضرار دون أن ركب عليه وهو يعج كالبعير فعندها أظهر ضرار سيفه ومكنه من نحره فقتله فزعق زعقة سمعها العسكران فحملت الروم والسودان هذا وضرار قد احتز رأسه وقام عن صدره وهو ملطخ بالدماء ثم كبر المسلمون ودنا الفريقان بعضهم من بعض والتحمت الابطال وقوي القتال وعظم النزال وسال العرق وازورت الحدق وعظمت الرزايا وأظلمت الدنيا ودارت رحى الحرب وقوي الطعن والضرب وضاقت الصدور واشتدت الأمور وضاقت المذاهب وقطعت المناكب وما كنت ترى الا دما فائرا وكفا طائرا وجوادا غائرا هذا وقد زحفت السودان وأصحاب السلاسل ذوو الكفر
245

والطغيان وضربوا بالاعمدة الحديد ويومهم يوم شديد وبانت الشجعان وفر الجبان وبقي حيران وعمرو بن العاص يحرض الناس على القتال ويقول يا أيها الناس ويا حملة القرآن اذكروا غرف الجنان فسر الناس بقوله ونشطوا وصارت السودان يضربون الفارس مع الفرس بالعمد الحديد فيقتلونهما جميعا وكذلك أصحاب الفيلة يرمون بالنشاب ويضربون بالحراب إلى أن جاء وقت العصر وقد قتل من الفريقين خلق كثير وظفر خالد بخصمه شاول لعنه الله وضربه بالسنان في صدره فخرج السنان يلمع من ظهره ووقع على الأرض يخور بدمه وعجل الله بروحه إلى النار وبئس القرار قال ولما عظم القتال والبلاء قال رفاعة المحاربي وقد انتخب من بني محارب ولبيد ومالك خمسمائة فارس وقصد الفيلة وقال يا وجوه العرب دونكم وأعينها ودنا من الفيل الأبيض وهو قائدها وهي خمسمائة فيل وتقدم اليه والسيف في يده وهو ينشد ويقول
* يا لك من ذي جثة كبيرة
* لقيت كل شدة خطيرة
* اليوم قد ضاقت بك الحظيرة
* حتى ترى ملقى على الحفيرة
*
قال ثم ضربه بالسيف فولى هاربا ثم برك وكان عليه عدة من السودان في قبة من الأديم فلما سقط الفيل إلى الأرض قام علج عن ظهره وفي يده عمود فضرب به رفاعة فزاغ عنه وضربه رفاعة على عاتقه الأيمن فاطلع السيف يلمع من عاتقه الأيسر فسقط عدو الله يخور في دمه وعجل الله بروحه إلى النار فتلاحقت العرب باعجاز الفيلة وصاروا يطعنون الفيلة في أعينها كما ذكرنا فولوا منهزمين قال وقصد خالد والمقداد وأجواد الامراء القواد الذين تقدم ذكرهم وطلبوا من الله النصر والثبات وصاروا يأتونهم وهم فارس عن اليمين وفارس عن اليسار فيقتلون مساك السلاسل ثم يمسكون أطراف السلاسل ويطلقون الأعنة فينقاد معهم كالبعير الشارد فيأخذون العمود من يده ويقتلونه شر قتلة ولم يزل القوم في قتال ونزال وأهوال حتى جاء الليل وحجز بين الفريقين وقد قتل من الفريقين خلق كثير فأما المسلمون فقد قتلوا منهم أثني عشر ألفا من الملوك والبطارقة خمسة عشر بطريقا وملكا من السودان وغيرها وبات المسلمون يتحارسون إلى الصباح
قال الراوي وكان قد أثخن بالجراح جماعة من المسلمين في ذلك النهار وكان المسلمون طائفة يدفنون القتلى وطائفة يداوون الجرحى وطائفة يقرءون القرآن وطائفة يصلون وطائفة نيام من كثرة ما لحقهم من التعب وخالد بن الوليد والزبير بن العوام والمقداد ابن الأسود وعبد الرحمن
246

بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه يدورون حول العسكر إلى الصباح فلما لاح الفجر أذن المؤذنون وصلى عمرو بن العاص بالناس الصبح بسورة الفتح ثم دعوا الله عز وجل أن يرزقهم النصر ثم تبادروا إلى خيولهم فركبوها ورتبوا صفوفهم كما ذكرنا فيما تقدم بالأمس فلما فرغ المسلمون من تعبية الصفوف أقبل الامراء يحرضون الناس على القتال وقد جعلوا على الساقة رافع بن عميرة الطائي والحرث بن قيس ورفاعة بن زهير في خمسمائة فارس
قال الراوي قال عبادة بن رافع حدثنا سالم بن مالك عن عبد الله بن هلال وكان في خيل رافع قال لما رتبت الصفوف والتقى الجمعان وكثر القتال وكل واحد اشتغل بنفسه ونحن نذب عن النساء والصبيان والنساء اللاتي تقدم ذكرهن يقاتلن أشد القتال إذ جاءنا كردوس عظيم من البطارقة والسودان والبجاوة ومعهم زهاء من ستمائة فيل وغافلونا ونحن مشغولون بالقتال واقتطعوا قطعة كبيرة من الإبل والرجال والنساء والصبيان زهاء من ألف بعير ومائتي امرأة وغير ذلك وكان في ذلك زائد بن رابح البكري وعباد بن عاصم الغنوي ومعهما مائتا فارس فقاتلوا قتال الموت حتى أثخنوا بالجراح وقاتلت النساء بالاعمدة والخناجر فلله در عفيرة بنت غفار وسلمى بنت زاهر ونظائرهما من النساء لقد قاتلن حتى ضربن بالسيف على رؤوسهن وسالت الدماء على وجوههن وهن يقلن الله الله يا نساء العرب قاتلن عن العسكر وعن أنفسكن والا صرتن بأيدي الاعلاج الغلف والسودان فقاتلن قتال الموت وقتل من المسلمين خمسة عشر نفرا ختم الله لهم بالشهادة وساقوا النساء والصبيان
فرجع فارس إلى خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وأعلمهما بذلك وهم في أشد القتال فتصايحت المسلمون وخرج جماعة من الامراء من وسط المعركة وهم الفضل بن العباس وعبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وزياد بن أبي سفيان وعبد الله بن أبي طلحة وضرار بن الأزور وجماعة من الامراء وتبعهم ستمائة فارس من العرب من صناديد القوم وأدركوهم عند أول الجبل وهم يريدون جهة الفيوم فعند ذلك زعق ضرار والفضل بن العباس إلى أين يا أعداء الله فتراجعت الروم والسودان عنهم واقتتلوا قتالا شديدا فابتدر ضرار إلى مقدم السودان وطعنه في صدره فاطلع السنان يلمع من ظهره وكذلك الفضل ابن العباس تقدم إلى بطريق عظيم وطعنه في لبته فأطلع السنان يلمع من قفاه فانجدل يخور في دمه وعجل الله بروحه إلى النار قال واستمروا يقاتلون حتى قتلوا مقتلة عظيمة فلما عاينوا ذلك ألقوا ما بأيديهم من الغنيمة وولوا وتواثب المسلمون وردوا السبي والحريم وردوا الأسارى وحلوهم وساعدتهم النساء بالاعمدة والسيوف
247

والخناجر فكانت النساء يضربن وجوه الخيل بالعمد فيكبو الجواد بصاحبه فتتعلق المرأة بالفارس وتجذبه إلى الأرض فتجلد به الأرض ثم تضربه فتقتله حتى قتلن جماعة من الروم والسودان والبجاوة وغيرهم فلما رأوا ذلك ولوا منهزمين من بين أيديهم وتبعتهم المسلمون يقتلون ويأسرون حتى قتلوا منهم مقتلة عظيمة وأسروا منهم نحو ستمائة أسير من الروم والسودان وزحفوا وقد غنموا أسلابهم وخيولهم
قال الواقدي هذا ما جرى لهؤلاء وأما العسكر فإنهم لم يزالوا في قتال شديد وأمر عتيد وضرب وطعان وقتل رجال وجندلة أبطال وفرسان وقد قامت الحرب على قدم وساق وضربت الأعناق وصالت الشجعان وولى الخبان حيران ودارت رحى الحرب واشتد الطعن والضرب وقطعت المعاصم وطارت الجماجم وحامت طيور المنايا وعظمت الرزايا واشتد الزحام وعظم المرام وضاقت الصدور وعظمت الأمور واشتد الغبار وقل الاصطبار وقاتلت الامراء بالرايات وبربرت السودان بلغاتها ورفعت الروم أصواتها وضربت ببوقاتها وطعنت برماحها ورمت بنشابها وحارت الافكار وعميت الابصار وثار الغبار وأظلم النهار وكان شعار المسلمين يا نصر الله انزل وصبر المسلمون لهم صبر الكرام فلله در الزبير بن العوام والمقداد بن االاسود والفضل بن العباس وعقبة ابن عامر والمسيب بن نجيبة الفزاري ونظائرهم من الامراء فلقد قاتلوا قتالا شديدا وأبلوا بلاء حسنا وصبروا صبر الكرام
وأما عمرو وخالد والقعقاع بن عمرو وسعيد بن زيد فلقد كانوا يقاتلون قتال الموت وزحفت الفيلة برجالها وقاتلت الروم بابطالها والسودان بافيالها وقد كانت أصحاب الفيلة تعطف على خيل العرب ويرمون بالنشاب فيخرج كالجراد المنتشر حتى قلعت أعين كثيرة في ذلك اليوم فما كنت تسمع الا من يصيح وايداه والفيلة تحطم والسودان يرمون
الابطال فعندها وثب رفاعة بن زهير المحاربي وأتى إلى خالد وعمرو قال أيها الامراء ان دام هذا الامر هكذا هلكنا عن آخرنا قالا فما الرأي يا أبا حازم قال الرأي أن نجمع ثيابنا ونغمسها زيتا ودهنا ونجعلها على رؤوس الرماح ونجعل في أعلاها نارا ثم نأمر رجالا يجمعون القيصوم وغيره ونجعله في غرائر على ظهور الجمال عريا ونشغلهم بالقتال ثم تأتي الفرسان تمانعهم وتساق عليهم الجمال فإنها إذا أحست النار حطمتهم فلا يصبرون على ذلك والمعونة من الله تعالى فاستصوبوا رأيه وأعدوا رجالا لذلك وناوشوهم القتال فلم يكن الا ساعة حتى تهيأت المكيدة وجمعوا من الفرسان الف فارس وصبغوا تلك الثياب بالدهن والزيت وأطلقوا الينران برؤوس الأسنة وحملوا
248

الغرائر بالقيصوم وغيره وأشعلوا فيه نارا ووضعوا الحراب في أجناب الإبل فلما أحست بالحراب في أجسامها والنار في ظهورها فعندها حطمت الروم والسودان فلما رأت الفيلة ذلك طارت عقولها وقطعت سلاسلها وداست قوادها ورمت ما على ظهورها من الرجال وداستهم باخفافها ورجعت خيل الرم وبراذينها وهربت بغالها وذابت قلوب رجالها وضربت الامراء في الأعداء بسيوفها وطعنت برماحها ورمت بنشابها قال المسيب بن نجيبة ولقد رأينا طيورا أظلتنا في زي النسور وكان الطائر يرفرف بجناحه على وجه الكافر ورأسه ثم يضع مخاليبه في عينيه فيرميه إلى الأرض فلم تكن الا ساعة بعد صلاة العصر حتى ولت الروم الادبار وركنوا إلى الفرار وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون حتى جاء الليل وأظلم النهار ووصلت الهزيمة إلى القرية المعروفة بالدير والى اللاهون والى أهناس والى ميدوم وتبعتهم المسلمون الليل كله إلى الصباح وقد تفرق شملهم وشرد جمعهم وأسر منهم جماعة كثيرة نحو خمسة آلاف وقتل منهم ما لا يحصى قال رافع بن أزد الجهني لما رجعنا إلى مكان المعركة وجدنا الأرض قد امتلأت من قتلى الروم والسودان والبجاوة وغيرهم واختلط جماعة من قتلى المسلمين بهم ما عرفناهم من الروم الا أن الروم كان بأيديهم صلبان والمسلمون ليس لهم ذلك فميزناهم منهم بذلك وجمعنا جريد النخل والقصب ووضعنا على كل قتيل جريدة أو قصبة وذلك في مكان المعركة ثم جمعناها وحصرناها فإذا الكفار تسعون ألفا وقتل في الجبال والطرقات ما لا يحصى وتفقد المسلمون من قتل منهم فإذا هم خمسمائة وثلاثون رجلا وجمعت المسلمون الغنائم والأموال ثم قسمت وأخرج عمرو منها الخمس وكتب كتابا بالفتح وما جمعه من الخمس واستدعى بالأمير هاشم بن المرقال رضي الله عنه وندب معه ثلاثين رجلا من خيار الجند وأمره بالمسير إلى المدينة وأقام المسلمون بالمرج بعد الوقعة خمسة أيام حتى استراحوا ورجع من كان خلف المنهزمين ثم اجتمعوا إلى عمرو واستأذنوه في المسير إلى الوجه القبلي فأذن لهم وودعهم ودعا لهم وقال يعز علي فراقكم ولو أن أمير المؤمنين لم يأمرني بالمسير ما فارقتكم ثم رجع معه ثلاثة آلاف ومائة وعشرون وكان جملة من قتل ثمانمائة وثمانين ختم الله لهم بالشهادة وقيل ألف وقيل تسعمائة وأربعون على اختلاف الرواة والله أعلم أي ذلك كان
قال الراوي ما أخذت في هذا الكتاب الا على قاعدة الصدق والمعونة من الله تعالى فلما ملكت المسلمون البلاد وأذلت أهل الشرك والفساد وذلك ببركة الصحابة رضي الله عنهم فهم الرجال الابطال والسادة الأخيار والمهاجرون
249

والأنصار وأصحاب محمد المختار الذين فتحوا بسيوفهم الأمصار وأذلوا الكفار وأرضوا العزيز الغفار وباعوا نفوسهم لله الواحد القهار بجنات تجري من تحتها الأنهار قال الراوي لما رجعت المنهزمون إلى الملوك والبطارقة وأخبروهم بذلك وقع الرعب في قلوبهم وحاروا في نفوسهم ولم يدروا ما يدبرون وما يصنعون قال فصعب على بطريق اهناس وعلى صاحب البهنسا ما صنع ببطارقتهما وعولوا على الحصار وجمعوا الآلة وصاروا يخرجون ما يحتاجون اليه وتيقنوا أن لا بد للحرب من أرضهم ووطنوا أنفسهم وكذلك بطارقة الصعيد وملوكه وضاقت نفوسهم مما حل بهم قال الراوي ووصل الكتاب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ففرح بذلك فرحا شديدا وقرأ الكتاب على علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف والعباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ففرحوا بذلك فرحا شديدا ثم قسمت الغنائم على أهل المدينة وقسم لنفسه كأحدهم رضي الله عنه وكتب جواب الكتاب ودفعه لهاشم وقال له قل لعمرو يحث الصحابة ويحرضهم على فتح الصعيد
قال الراوي وأما عمرو بن العاص رضي الله عنه فإنه لم يرجع إلى مصر حتى قسم الغنائم بين الصحابة وفضل أصحاب الولاء وأهل السابقة ورجع إلى مصر بعد أن جهز العساكر إلى الصعيد قال الراوي ولما فارق عمرو بن العاص خالد بن الوليد والامراء رضي الله عنهم استشار بعضهم بعضا أي مكان يقصدون فاتفق رأيهم أن يسيروا ألف فارس طليعة وأمر عليهم قيس بن الحرث ومعه جماعة من أمرائهم منهم رفاعة بن زهير المحاربي والقعقاع بن عمرو التميمي وعقبة بن عامر الجهني وذو الكلاع الحميري رضي الله عنه وصاروا يسيرون في وسط البلاد وبقية العساكر قريبة منهم فمن أطاعهم وطلب الأمان أمنوه وصالحوه ووضعوا عليه الجزية ومن أبى قاتلوه ومن أسلم تركوه وسار خالد ببقية الجيش يريدون أهناس فإنها كانت أعظم مدائن الوجه القبلي بعد الكورة وكانت حصينة آهلة بالخيل والآلة والعدة ولما أحس بطريقها بمجيء الصحابة اليه جمع البطارقة وقد انكسرت جنودهم وخمدت نيرانهم وكلمتهم بانهزام جيوشهم وشاورهم في أمرهم وقال لهم خذوا أهبتكم وقاتلوا عن حريمكم وأموالكم والا صرتم عبيد للعرب يفعلون بكم ما يختارون وان شئتم صالحناهم حتى يعلم ما يكون من بطارقته فأجابوه وقالوا لا نسلم البلاد حتى نغلب ونجمع أموالنا في هذه المدينة الحصينة ونقاتل فان غلبنا عولنا
250

على الحصار واتفق رأيهم على ذلك فكان الذي أجابهم إلى ذلك خرج بنفسه وأمواله ومن لم يجبهم إلى ذلك أقام وكذلك بطارقة البهنسا منهم من انتقل إلى البهنسا بماله وأولاده ومنهم من أقام ببعض المدائن ممن عولوا على الإقامة والحصار والقتال
وسار خالد بالجيش حتى قرب من اهناس وبين يديه الطلائع والامراء وهم يشنون الغارات على السواحل والبلاد فمن خرج إليهم وصالحهم وعقد معهم صلحا صالحوه ولهم الميرة والعلوفة الضيافة ومن أبى دعوه إلى الاسلام فان أبى طلبوا منه الجزية فان أبوا شنوا عليهم الغارة حتى وصلوا قريبا من اهناس وبلغ الخبر إلى عدو الله فقال لا بد من لقائهم وقتالهم حتى أنظر ما يكون من أمرهم ثم خرج إلى ظاهر المدينة قريبا من السور ولم يبعد عنها وكان للمدينة أربعة أبواب فأغلق ثلاثة وفتح الباب الشرقي وأخرج الخيام والسرادقات وأكثر من العدة والزينة وقال إن دخلنا المدينة من غير قتال طمعت العرب في جانبنا ثم فرق بطارقته وعرض جيشه فكانت عدتهم خمسين ألفا
وقال اثبتوا وقاتلوا عن حريمكم ولا تكونوا أول جند أخذوا وأقاموا يتأهبون للقتال وينتظرون قدوم الصحابة رضي الله عنهم
قال الواقدي وأما خالد فلما قرب من أهناس استدعى بالزبير بن العوام وضم اليه ألف فارس من الامراء وغيرهم وأمره بالمسير ثم استدعى بالفضل بن العباس وضم اليه ألف فارس وسار على أثره ثم استدعى بميسرة بن مسروق العبسي وضم اليه ألف فارس وسار على أثره ثم استدعى بزياد بن أبي سفيان وضم اليه ألف فارس وسار على أثره ثم استدعى بمالك الأشتر النخعي وضم اليه ألف فارس وسار على أثره وسار خالد ببقية الجيش قال حدثنا عون بن سعيد قال حدثنا هاشم بن نافع عن رافع بن مالك العلوي قال كنت في خيل الزبير بن العوام رضي الله عنه لما توسطنا البلاد وتعرضنا لأهلها وشننا الغارة على السواد فوجدنا قطيعا من الغنم ومعها رعاة فلما أحسوا بنا تركوها ومضموا فسقناهم ثم سرنا قليلا وإذا بنساء وصبيان مشرفة ونصارى من القبط وغيرهم فلما رأونا فروا وكان معهم عشرون فارسا من العرب المتنصرة من جذام ومعهم بطريق من البطارقة عليه الزينة الفاخرة فلما عاينونا فروا من بين أيدينا فأطلقنا الغارة عليهم فما كان غير بعيد حتى أدركناهم وقبضنا عليهم وسالناهم فأجابوا بأنهم من قرى شتى وانهم يريدون اهناس فعرضنا عليهم الاسلام فامتنعوا فأردنا قتلهم فمنعنا من ذلك الزبير رضي الله عنه وقال حتى يحضر الأمير خالد ويفعل
251

ما يريد قال وسرنا حتى قربنا من أهناس ورأينا المضارب والخيام والسرادقات فأعلن الزبير بالتهليل والتكبير وكبر المسلمون حتى ارتجت الأرض لتكبيرهم وخرجت الروم إلى ظاهر خيامهم ينظرون الينا وعدو الله مارنوس بن ميخائيل ينظر الينا والحجاب والنواب وأرباب الدولة من البطارقة حوله وعليهم أقبية الديباج وعلى رؤوسهم التيجان المكللة وبأيديهم العمد المذهبة والسيوف وهم محدقون به عن يمينه وشماله قال فلما أقبلنا عليهم تصايحوا ورطنوا بلغتهم وأعلنوا بكلمة كفرهم واستقلونا في أعينهم ولما قرب الزبير من القوم هز الراية وأنشد يقول
* أيا أهل أهناس الطغاة الكوافر
* ويا عصبة الشيطان من كل غادر
* أتتكم ليوث الحرب سادات قومها
* على كل مشكول من الخيل ضامر
* فإن لم تجيبوا سوف تلقون ذلة
* ونقتل منكل كل كلب وفاجر
* قال الراوي ثم نزلنا قريبا من القوم فلم يكن غير قليل حتى أقبل الفضل بن العباس رضي الله عنه وحوله السادات الأماجد فكبر وكبروا معه وهز الراية وأنشد يقول
* ايا أهل أهناس الكلاب الطواغيا
* أتتكم ليوث الحرب فاصغوا مقاليا
* أقروا بأن الله لا رب غيره
* والا تروا أمرا عظيما مدانيا
* أقروا بأن الله أرسل أحمدا
* نبيا كريما للخلائق هاديا
*
قال الراوي ثم نزل قريبا من أصحابه فلم تكن الا ساعة حتى أقبل الأمير ميسرة بن مسروق العبسي وكبر هو والمسلمون فأجابه المسلمون فهز الراية وأنشد يقول
* أتينا لاهناس بكل غضنفر
* على كل صاهل من الخيل أجرد
* فان هم أطاعونا شكرنا فعالهم
* والا أبدناهم بكل مهند
* ونخرب أهناسا ونقتل أهلها
* إذا خالفوا دين النبي محمد
* قال الراوي ونزل قريبا من الفضل ولما كان غروب الشمس أقبل زياد بن أبي سفيان رضي الله عنه بمن معه وكبر هو والمسلمون وهز الراية وأنشد يقول
* هلموا إلى أهناس يا آل هاشم
* ويا عصبة المختار نسل الأعاظم
* ودونكم ضرب السهام وبشدة
* وقطع رؤوس ثم فلق جماجم
* لننصر دينا للنبي محمد
* نبي الهدى المبعوث من آل هاشم
*
قال الراوي وبات المسلمون رضي الله عنهم يقرءون القرآن ويصلون على النبي صلى الله عليه وسلم وهم يتحارسون حتى لاح الفجر ثم اقبل المقداد رضي الله عنه
252

بأصحابه وكبر هو والمسلمون ولما قرب من أصحابه هز الراية وأنشد يقول
* أنا الفارس المشهور في كل موطن
* وناصر دين للنبي محمد
* لعلل ننال الفوز عند الهنا
* فيافوز من أضحى نزيل المؤيد
* ونقتل عباد الصليب جميعهم
* بأسمر خطى وعضب مهند
* قال الراوي ونزل بإزء الفضل وتكلم الامراء المتقدم ذكرهم قال ولما رأونا ظنوا أن ليس وراءنا أحد وقعدنا ذلك اليوم ولم نكلمهم ولم يكلمونا فلما كان اليوم الثاني عند طلوع الشمس إذا بالغبار قد طلع والقتام قد ارتفع من خيول عادية وعليها فوارس حجازية وكبر المسلمون ورفعوا راياتهم الاسلامية وأعلامهم المحمدية فسمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الصياح فخرج الامراء إلى لقائهم وإذا في أوائلهم خالد بن الوليد رضي الله عنه والى جانبه غانم بن عياض الأشعري وأبو ذر الغفاري وأبو هريرة الدوسي واسمه عبد الرحمن وبقية الامراء والمهاجرون والأنصار فلما رأت الروم ذلك من قريب دخل الرعب في قلوبهم ونزل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريبا من أهناس كل منهم في مركزه وأقاموا ذلك اليوم فلما كان اليوم الثالث جمع خالد الامراء وأصحاب الرايات واستشارهم فيمن يمضي إلى بطريق أهناس فقال المقداد أنا له فقال له خالد أنت له فخذ من شئت فأخذ معه ضرار بن الأزور وميسرة بن مسروق العبسي وقال لهم خالد أدعوه إلى الاسلام فان أبى فالجزية فان أبى فالقتال واحرصوا على أنفسكم قال الراوي وساروا إلى القوم حتى قربوا من العسكر وهم يدوسون بخيولهم أطناب الخيام والسرادقات فصاحت بهم الحجاب من تكونون فقالوا نحن رسل فأعلموا البطريق بذلك فأمر بأحضارهم فلما حضروا بين يديه صاحت بهم الحجاب والنواب أن قبلوا الأرض للملك فلم يلتفتوا إليهم ولم ينزلوا الا على باب سرادق الملك ووقفوا على الباب فأذن لهم في الدخول فدخلوا وأمسكوا لجم خيولهم فأراد الغلمان أن يمسكوها فامتنعوا من ذلك فأشار إليهم البطريق فتركوهم ثم دخلوا عليه فإذا هو جالس على سرير من الذهب مرصع بالدر والجوهر وحوله البطارقة جلوس والحجاب والنواب وأرباب الدولة قيام وبأيديهم السيوف والأعمدة والرماح فلما رآهم تغير لونه واندهش وأذن لهم بالجلوس فقالوا لا نجلس على هذا الفرش فإنه حرام علينا فأمر بالبسط الحرير فرفعت ثم فرش أنطاعا من الصوف ثم أشار إليهم فقالوا لا نجلس حتى تنزل عن سريرك قال فرطنت الروم فأشار إليهم فسكتوا وأرادوا أن ينزعوا منهم سيوفهم فامتنعوا من
253

ذلك فتركوهم وكلمهم الملك فأبوا حتى ينزل عن سريره فنزل وكلمهم بلسان عربي وسألهم عن حالهم فأجابوا أنهم لا يفارقونه حتى يسلم هو وقومه أو يؤدوا الجزية أو القتال فامتنع عن ذلك وقال اذهبوا والموعد غدا للقتال وخرجوا من عنده على ذلك ورجعوا إلى خالد وأعلموه بذلك فتأهب الامراء للحرب فلما أصبح خالد صلى بأصحابه صلاة الصبح وبادروا للحرب والقتال وصاحوا النصر النصر يا خيل الله اركبي وللجنة اطلبي فركب المسلمون خيولهم وركزوا راياتهم واصطفوا ميمنة وميسرة وقلبا وجناحين وخالد في وسط الجيش وعلى الساقة ميسرة بن مسروق العبسي ومالك الأشتر النخعي في خمسمائة فارس من المهاجرين والأنصار
قال الراوي فلم تكن غير ساعة حتى برزت الروم وأظهرت صلبانها قال حدثنا رافع بن مالك عن عباد بن مازن عن محمد بن مسلمة الأنصاري رضي الله عنه قال لما أقبلت رايات القوم عددناها فإذا هي خمسون صليبا تحت كل صليب ألف فارس فكان أول من افتتح الحرب بطريق عليه ديباجة حمراء وعلى رأسه بيضة معصب عليها بعصابة من جوهر فبرز إليه فارس من خثعم يقال له زيد بن هلال فقتله ثم طلب البراز فبرز اليه عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولم يمهله أن ضربه بالسيف على عاتقه الأيمن فخرج يلمع من عاتقه الأيسر فانجدل عدو الله يخور في دمه وعجل الله بروحه إلى النار وطلب البراز فبرز اليه فارس من الروم فقتله ثم آخر فقتله وطلب الميمنة وشوش صفوفهم وقتل أبطالهم ثم عاد إلى القلب ثم خرج من بعده شرحبيل بن حسنة وفعل كفعله ثم حمل من بعده الفضل بن العباس ثم حمل من بعده العباس بن مرداس ثم من بعده أبو ذر الغفاري ثم تبارد المسلمون بالحملة فلما رأى الروم ذلك ايقظوا أنفسهم في عددهم وعديدهم وتظاهروا البيض والدرع ولم يزل القتال بينهم حتى توسطت الشمس في قبة الفلك قال الراوي فعندها حمل خالد بن الوليد وغاص في الميمنة فقلبها على الميسرة وغاص في الميسرة فقلبها على الميمنة وقاتلت العرب قتالا شديدا حتى جاء الليل وحجز بين الفريقين وبات المسلمون يتحارسون وتفقد المسلمون بعضهم بعضا فإذا قد قتل منهم اثنان وأربعون رجلا ختم الله لهم بالشهادة الأعيان منهم ربيعة بن عامة الداودي وزيد بن ربيعة المحاربي وغانم بن نوفل المحاربي وصفوان بن مرة اليربوعي والبقية من أخلاط الناس وقتل من أعداء الله ألف وثلاثمائة وأزيد ولما خلا عدو الله بأصحابه تذاكروا ما وقع في
254

الحرب وصعب عليهم ما لقوه من العرب فأراد الملك الصلح فغلب البطارقة عليه وأعدوا للحرب والقتال فلما أصبح الله الصباح وبارق الفجر لاح صلى المسلمون صلاة الصبح ثم اصطفوا على ظهور خيولهم واصطفت الروم وبرزت البطارقة وأظهروا زينتهم وبرز بطريق عظيم يقال له صاحب طنسا وعليه لامة حربه وطلب البراز فبرز اليه الفضل بن العباس فتجاولا وتعاركا وتخالفا بضربتين فكان السابق بالضربة الفضل بن العباس فضربه بالسيف على رأسه فوصل إلى أضراسه فانجدل صريعا يخور في
دمه وعجل الله بروحه إلى النار وبئس القرار وبرز بطريق ثان فقتله ولم يزل كذلك حتى قتل أربعة من خيارهم فحملت الروم حملة واحدة وحمل المسلمون وحمل ضرار بن الأزور رضي الله عنه وأظهر شجاعته وحمل مذعور بن غانم الأشعري والفضل بن العباس ومحمد بن عقبة بن أبي معيط ومسلم وجعفر وعلي أبناء عقيل وعبد الله بن جعفر وسليمان ابن خالد وعبد الرحمن بن أبي بكر وتجاهرت الامراء وعظم الخطب وكثر الطعن والضرب وثار القتام حتى صار النهار كالظلام وتراشقوا بالنبال واشتد القتال وقطعت المعاصم وطارب الجماجم فما كنت ترى الا جوادا غائرا ودما فائرا واشتد الكرب وكثر الطعن والضرب وسال العرق واحمرت الحدق وجال خالد كالأسد وأرغى وأزبد فعند ذلك رفع غانم بن عياض طرفه إلى السمار وقال يا عظيم العظماء أنزل علينا نصرك كما أنزلته علينا في مواطن كثيرة وانصرنا على القوم الكافرين فامنت جماعة من الامراء على دعائه فما كان غير بعيد حتى رأيت الرجال الكفار يتساقطون لا ندري بماذا يقتلون فلما رأى الروم ذلك فروا إلى الباب وتبعتهم المسلمون يقتلون ويأسرون وينهبون والحجارة تأخذهم من أعلى السور وهم لا يلتفتون إلى ذلك ودخلوا إلى الأبواب ودخل اللعين وصال عليهم خالد وجماعة من الامراء واقتطعوا قطعة من الروم نحو خمسة آلاف وكان المسلمون قريبين من اللعين فاقتتلوا عند الباب ورموهم بالحجارة فقتلوا منهم نحو من ثلاثة آلاف وخرج من الباب نحو من ألف فارس وحملوا ودخل الباقون وأغلقوا بابهم وطلعوا على الاسوار واشتد القتال والحصار ورموا بالحجارة والنبال حتى فرق الليل بينهم
قال الراوي وأقام المسلمون على حصار أهناس ثلاثة أشهر وفي كل يوم يناوشونهم بالقتال والأسوار رفيعة والأبواب منيعة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كل يوم يشنون الغارات حتى يصلوا إلى أطراف الكورة قال الراوي واقام المسلمون على حصار اهناس ثلاثة أشهر وفي كل عنهم المدد وضاقت أنفسهم وطمعت فيهم الصحابة ثم إن خالدا استشار
255

أصحابه ماذا يصنعون وقد أعياه فتح الباب فقال له المرزبان رضي الله عنه وكان من مرازبة كسرى وقد أسلم وخرج إلى الجهاد وحبس نفسه لله عز وجل وهو المقتول بالبهنسا قريبا من البلد شرقي البحر اليوسفي في وقعة صاحب طنجة ذات الأعمدة وسيأتي ذكر ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى فقال المرزبان اننا كنا في بلاد الفرس إذا حاصرنا مدينة ولم نقدر على فتحها أخذنا زيتا وكبريتا ووضعناه في صناديق من خشب وجعلنا لها أعوادا تحملها رجال ورجال يذبون عنهم إلى أن يصلوا إلى الباب أو إلى قريب منه ويجعلون في الصناديق نارا ويولون فتعلق النار في الأبواب ويذوب الحديد فتفتح الأبواب وتعلق النار في الحطب والخشب والحجارة فتهدمها فقال خالد نفعلها إن شاء الله تعالى فلما أصبحوا فعلوا ذلك وأسرعوا في جمع ما ذكرنا ووضعوه في صناديق وجعلوا في أطرافها أعوادا طوالا من أسفلها وحملتها الرجال وخرج خلفهم الفرسان يقاتلون والمرزبان أمامهم يعلمهم كيف يصنعون وهم مستترون بالدرق والحجف والحجارة والنبال تتساقط عليهم من أعلى السور حتى وصلوا إلى أول باب من أبواب المدينة وهو الباب الشرقي وهو أعظم أبوابها
فلما قربوا من الباب رفعوا الصناديق على الباب وألقوا النار في الزيت والكبريت ووضعوها وانقلبوا فلم يكن أسرع من لحظة حتى تعلقت النار بحجارة الباب والأخشاب والحديد وثارت النار إلى أعلى السور حتى وصلت إلى البرج فسقط البرج بمن فيه من الروم وهلك منهم جماعة كثيرة وتبادرت المسلمون إلى الباب وملئوا قرب الماء وأطفئوا تلك النار ودخلوا من الباب وقصدوا قصر الملك وكان حصينا على أعمدة من الحجارة المنحوتة وكانوا أغلقوا أبوابه ففعلوا به كما ذكرنا ولما رأى الملعون ذلك لم يطق أن يصبر وأمر بفتح الباب وصاح الأمان ومعه جماعة من حشمه وخدمه وبطارقته فعرضوا عليهم الاسلام فأبوا فأمر خالد بضرب أعناقهم فمن أسلم تركوه ومن أبى قتلوه واستغاثت بهم السوقة والرعية وقالوا مغلوبون فمن أسلم تركوه ومن بقي على دينه ضربوا عليه الجزية وهدموا دورا وأماكن حتى صارت تلالا وغنم المسلمون أموالا كثيرة من أواني الذهب والفضة والفرش الفاخرة ووضعوا فيها عبادة بن قيس قيما ومعه ثلاثمائة من المسلمين وخرجوا بظاهر المدينة ولم يبق الا من أسلم ومن وضعت عليه الجزية وعمروا بها مسجدا ولما فرغ خالد من ذلك جمع الغنائم وأخرج خمسها وأرسله إلى عمرو بن العاص يرسله إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المدينة وأرسل لعمرو بن العاص سهمه ولأصحابه المؤمنين المقيمين بمصر ونواحيها وأقام
256

خالد بعد ذلك باهناس هو وجماعته من الامراء أربعين يوما واستدعى خالد بعدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه وأضاف اليه ميمون بن مهران وضم اليه ألف فارس وأمرهم أن ينازلوا أول بلاد البطليموس لعنه الله وينازلوا أهل الكورة وإذا وصل إلى قيس ابن الحرث يأمره بالمسير إلى قريب البهنسا ويقاتل من يقاتله ويسالم من يسالمه ويصالح من يصالحه حتى يأتيه المدد ثم أرسل في أثره غانم بن عياض الأشعري رضي الله عنه وضم اليه ألف فارس فيهم الفضل بن العباس والمسيب بن نجيبة الفزاري وأبو ذر الغفاري والمرزبان الفارسي وكذلك جعفر ومسلم وعلي وعبد الله بن المقداد وولد خالد أبا سليمان
ومحمد بن طلحة وعمرو بن سعد بن أبي وقاص وشرحبيل بن حسنة كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لهم خالد سيروا حتى تصلوا إلى مدينة البهنسا وأنا في أثركم ما لم يحصل لي ولأصحابي مانع وادعوا القوم إلى الاسلام فان أجابوكم فلهم ما لنا وعليهم ما علينا ومن أبي فالجزية ومن أبى فالحرب والقتال ونازلوا المدائن وأقرنوا المواكب ولا تسيروا الا يدا واحدة وفرقوا الكتائب وكونوا قريبين بعضكم من بعض غير متباعدين فإذا وقعت كتيبة منكم بما لا طاقة لها به تبعت النفير وثبتوا هممكم وأخلصوا نياتكم وقووا عزائمكم فإذا وصلتم إلى البهنسا التي هي دار ملكهم ومحل ولايتهم فأرسلوا إلى الملك وادعوه إلى الاسلام فان أطاع فاتركوه في ملكه وان أبى فالجزية عن يد وهم صاغرون وان أبى فالسيف حكم حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين وبلغني أنها مدينة كثير أهلها وانها كثيرة الخيل وحولها مدائن وبلاد وقرى ورساتيق فمن سالمكم وصالحكم فصالحوه ومن قاتلكم فقاتلوه وعليكم بالحزم واخلاص النية وصدق العزيمة قال الله تعالى في كتابه المكنون يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون ثم استدعى بالمغيرة بن شعبة رضي الله عنه وكان معه زياد الأكبر أبو المغيرة جد زياد الذي هو بقرية ديروط بقرب طنبدا وسيأتي ذكر زياد بن المغيرة وأصحابه هناك إن شاء الله تعالى عند وقعة الدير واستدعى بسعيد ابن زيد أحد العشرة رضي الله عنهم وأبان بن عثمان بن عفان وجدد عليهم
الوصية وودعهم
قال الراوي وسار عدي بن حاتم الطائي وميمون حتى وصلا ميدوم وما حولها فوجدوا قيس بن الحرث قد صالح أهل تلك الأرض وعقد لهم صلحا وأقرهم بالجزية ما عدا جماعة وكذلك أهل برنشت بعد قتل بطريقهم وكذلك أهل تلك البلاد إلى دهشور ونادى في ذلك الإقليم بالأمان وجبوا له أموالا عظيمة على الصلح والجزية وعبر جماعة من المسلمين إلى البر الشرقي وهم رفاعة بن زهير المحاربي وعقبة بن عامر الجهني وذو الكلاع الحميري
257

وألف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وشنوا الغارات من العقبة التي هي قريب من قبلي حلوان على تلك القرى والبلاد فمن صالحهم صحالحوه ومن أبى قاتلوه حتى وصلوا إلى اطفيح ثم إلى البرنيل وكان هناك بطريق يعرف بصول فخرج إليهم أهلها فصالحوهم على الجزية وعبروا من هناك وسار عدي بن حاتم حتى اجتمع بقيس بن الحرث قريبا من القرية المعروفة بقمن ونزل ميمون هو وجماعته بالقرية المعروفة بالميمون فقال له قيس بن الحرث لا تنزل هنا حتى يفتح لنا ما حولها من البلاد ويأتي خبر من الأمير خالد بن الوليد ويأذن لنا بما يريد فأجاب إلى ذلك ونزل عدي بأصحابه بالقرية المعروفة ببني عدي ثم سار وترك ابنه حاتما واخوته وأحاطوا بالقرية وسار قيس وأصحابه حتى وصلوا إلى القرية المعروفة بنوس والبلد المعروف بدلاص فخرج إليهم أهلها بعد قتل بطريقهم وصالحوهم وتوسطوا البلاد على ساحل البحر حتى نزلوا ببا الكبرى وغانم بن عياض على أثرهم وكان بها دير عظيم يعرف بدير أبي جرجا وكان له عيد عظيم يجتمعون اليه من سائر البلاد فوافق قدوم الصحابة قريبا من عيدهم فجاءهم رجل من المعاهدين وأعلمهم بذلك فانتدب قيس ابن الحرث رضي الله عنه عنه ومعه جماعة من أصحابه خمسمائة فأمر عليهم رفاعة بن زهير المحاربي وأمرهم ان يشنوا الغارة على الدير قال وكان جماعة من رؤساء الكورة من الروم والقبط والخيول المسومة حول الدير يحرسونهم وهم في أكلهم وشربهم وزينتهم وبيعهم وشرائهم فما أحسوا الا والخيل على رؤوسهم فما قاتلوا الا قليلا وانهزموا ونهب أصحابه جميع ما في السوق من أثاث وغيره وساقوا الغنائم وأحاطوا بالدير فقاتلوا من على الدير فقطعوا السلاسل والاقفال وتعلق جماعة من الصحابة على الحيطان ودخلوا الدير واخذوا منه أمتعة وأثاثا وأواني من ذهب وفضة وأسروا مائة أسير وساروا حتى توسطوا البلاد وكان بالقرب من البحر اليوسفي قرى كثيرة وبلدان وكان فيها مدينة تعرف بسحاق وكان بها بطريق من عظماء بطارقة البطليوس فلما بلغه قدوم الصحابة جمع جنوده إلى البلد المعروف بأقفهس والى البلدين المعروفين بشمسطا واليسلقون والى البلد المعروفة بنشابه فلما بلغه قدوم الصحابة جمع الخيل والروم والفلاحين والنصارى ستة آلاف وخرج يكشف بهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيس بن الحرث خرج اليه أهل ببا الكبرى وما حولها من السواد وكذلك أهل هوريت وعقد لهم صلحا وساروا فلما قربوا من القرية المعرفة الآن ببني صالح فبينما هم سائرون إذا بالغبار قد طلع وانكشف عن ستة صلبان تحت كل صليب ألف فلما
258

رآهم المسلمون لم يمهلوهم دون أن حملوا عليهم واقتتلوا قتالا شديدا وثار الغبار وقدحت حوافر الخيل الشرار والتقى الجمعان واصطدم الفريقان فلله در رفاعة بن زهير المحاربي وعقبة بن عامر الجهني وعمار بن ياسر العبسي وميسرة بن مسروق العبسي
قال الراوي وقاتلت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قتالا شديدا وصبروا صبر الكرام وكان عدو الله لاوي بن أرمياء صاحب شيزا فارسا شديدا وبطلا صنديدا فجال وصال وقتل الرجال فعندها برز اليه فارس من المسلمين يسمى سنان بن نوفل الدوسي فقتله فخرج اليه عمار بن ياسر العبسي فتجاولا وتعاركا وتضاربا وتطاعنا ووقع بينهما ضربتان وكان السابق بالضربة عمار فطعنه بالرمح في صدره فاطلع السنان يلمع من ظهره فانجدل عدو الله يخور في دمه وعجل الله بروحه إلى النار فعندها غضب الروم لأجل قتل صاحبهم وحملوا على عمار في كبكبة من الخيل فعقروا الجواد من تحته وتكاثروا عليه فقتلوه وقتل من المسلمين خمسة عشر رجلا
قال حدثنا سنان بن نوفل عن مالك عن غانم اليربوعي وكان في خيل رفاعة بن زهير المحاربي قال نحن في القتال وقد عظم النزال ووطنا أنفسنا على الموت ورفاعة يحرض الناس على القتال وهو ينشد ويقول
* يا معشر الناس والسادات والهمم
* ويا أهيل الصفا يا معدن الكرم
* فسددوا العزم لا تبغوا به فشلا
* ومكنوا الضرب في الهامات والقمم
* وخلفوا القوم في البيداء مطرحة
* على الثري خمشا بالذل والنقم
*
قال الواقدي وجعل يحرضهم ويقول يا معشر السادات والاقيال أبشروا فان الروم لم تقم لهم أبدا وأبشروا بالحور والولدان في غرفات الحنان وان الجنة تحت ظلال سيوفكم قال رفاعة فبينما نحن في أشد القتال إذا بغبرة قد لاحت وانقشعت وانكشف الغبار عن ألف فارس في الحديد غواطس عليهم الدروع الداودية وعلى رؤوسهم البيض العادية المجلية معتقلين بالرماح الخطية راكبين الخيول العربية فتأملناهم فإذا هم أبا سليمان
بن خالد بن الوليد وعبد الله بن المقداد وعبد الله بن طلحة وأخوه محمد وزياد بن المغيرة والوليد ومحمد بن عتبة ومحمد ابن أبي هريرة وجماعة من الصحابة والامراء وأبناؤهم رضي الله عنهم وكان غانم بن عياض الأشعري جهزهم طليعة قدامه فلما رأونا كبروا وكبرنا لتكبيرهم وخاضوا في أوساطنا وطلب كل واحد منهم بطريقا من
البطارقة فقتله فلما رأت الروم ذلك ولوا الادبار وركبوا إلى الفرار وتبعهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتلون وينهبون ويأسرون إلى بلدة سبزا وما حولها من السواد إلى سلقوس فأسروا منهم
259

نحو خمسمائة أسير وقتل منهم ثلاثة آلاف وهرب الباقون إلى القرى والبلاد ولما قتل بطريق شندا خرج إليهم أهلها من النصارى والسوقة وعقدوا معهم صلحا واتفقوا على أداء الجزية وكذا من حولهم من القرى ونزل هناك عمرو بن الزبير وجماعة من المسلمين وسار قيس بن الحرث أمام القوم حتى نزل قريبا من طنبدا والبلد المعروف باسنا وكان بها بطريق يسمى بولياص بن بطرس وكان كافرا لعينا فخرج إلى لقاء المسلمين هو وجماعته ومعه ميرة وعلوفة فكان ذلك مكيدة منه وعقد مع المسلمين صلحا ووافقهم على أداء الجزية عن بلده وعن اسنا وكانت تحت حكمه وارتحل قيس بن الحرث ومن معه وتأخر زياد بن المغيرة ونزل بالقرية المعروفة بدهروط فعقد مع أهلها صلحا ونزل أبا سليمان
بن خالد وعبد الله بن المقداد وجماعة قريبا من البلد ومنهم من نزل عند القرية المعروفة بأطينة وصار جماعة يدخلون البلد ليلا ثم يعودون خوفا من المكيدة ولا حذر من قدر الله عز وجل
قال الواقدي وكان المتخلفون خمسمائة فارس فجعلوا يسيرون على جانب البحر ويشنون أي يغيرون على أهل السواد فمن صالحهم صالحوه ومن أسلم تركوه وسار قيس ابن الحرث حتى نزل بالبلد المعروف الآن بالقيس وبه سميت وكان فيها بطريق من بطارقة البطليوس وكان من بني عمه اسمه شكور بن ميخائيل والله أعلم باسمه فدخل أهل السواد كلهم البلد وحاصروها حصارا شديدا نحو شهرين ثم أعانهم الله تعالى وحرقوا بابا من أبوابها ففتحت ودخلوا إليها وكان ذلك بعد وقعة جرت بينهم في مكان يعرف بكوم الأنصار فهزموهم هناك وحاصروهم وفتحوا المدينة وقتلوا البطريق ونهبوا الأموال وأخذوا جميع ما فيها بعد أن دعوهم إلى الاسلام فامتنعوا من ذلك ثم شنوا الغارات على ما حولها من البلدان والبلد المعروف بماطي ثم إلى الكفور فخرج إليهم بطريق كان ابن عم المقتول بدهشور لعنه الله وأخوه بطرس وعقدوا مع المسلمين عقدا على الصلح وأعطوا الجزية وسارت العرب إلى البلد المعروف بالدير وسملوط وما حولها من القرى ونزل زهير وجماعة من العرب بالمكان الذي يعرف بزهرة وأما بقية السواد الذي حول البهنسا شرقا وغربا فلما تحققوا مجيء العرب هربوا إلى البهنسا بأموالهم ونسائهم وذراريهم وتركوا البلاد جميعها خرابا وكان البطليوس لعنه الله أرسل إليهم بطارقته فحملوهم إلى البهنسا واستعد للحصار وجمع عنده ما يحتاج اليه مدة الحصار قال الواقدي هذا ما جرى لهؤلاء وأما عدو الله بولياص صاحب طنبدا فإنه كاتب البطليوس يقول اين ما صالحت العرب الا مكيدة واني
260

أريد الغدر بهم فجهز لي جيشا من البطارقة على أن أظفر بجماعة من أبطال المسلمين ونأخذ بثأر من قتل منكم قريبا قال وكان عدو الله كل يوم تأتيه الاخبار من العرب المتنصرة ومن غيرهم من أهل البلاد والسواد بما جرى للعرب وبأخبار من قتل من البطارقة وأخذ البلاد والأموال فحمل هما عظيما ولم يظهر ذلك لاحد من بطارقته وانما كان يطيب قلوبهم ويقول بلدنا حصينة وان قاتلونا قاتلناهم وان غلبونا دخلنا بلدنا فلو جاءنا أهل الحجاز جيمعهم ما وصلوا الينا ولو أقاموا عشرين سنة والله غالب على أمره وناصر دين الاسلام ومذل الكفرة اللئام فلما بلغ البطليوس مكاتبة عدو الله بولياص فرح بذلك فرحا شديدا قال واستدعى ببطريق من بطارقته يسمى روماس وضم اليه خمسة آلاف فارس من الروم والنصارى وغيرهم من أهل القرى وأمرهم أن يسيروا تحت ظلام الليل فما جاء نصف الليل حتى وصلوا إلى طنبدا ودخلوا إلى بولياص ففرح بذلك فرحا شديدا واستعدوا للهجمة على المسلمين قال وأصبح المسلمون وقد صلوا صلاة الصبح وإذا بالخيل قد أقبلت إليهم فنادوا النفير هاجمونا وغدرونا فركب المسلمون خيولهم وساروا إلى قريب الدير وإذا بالروم مقبلين في عشرة آلاف فارس وكان أعداء الله قد كمنوا كمينا قريبا من قناطر كانت هناك ونهر يجري فيه الماء من النيل في أوانه عميق غربي الدير قريب من البلد قال الواقدي ولما رأى المسلمون لمعان الأسنة والبيض وخفقان الاعلام وبريق الصلبان الذهب والفضة تبادروا إلى خيولهم فركبوا وأعلنوا بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير وأقبلوا مسرعين نحوهم ولم يفزعوا من كثرتهم وحرض بعضهم بعضا على القتال وكانوا قد سبقوا إلى شرذمة من المسلمين كانوا نزولا قريبا من الدير ووضعوا فيهم السيف وأحاطوا بهم وجالوا واتسع المجال إلى قريب من دهروط فخرج أبا سليمان
بن خالد بن الوليد وعبد الله بن المقداد وعامر بن عقبة بن عامر وشداد بن أوس وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم واشتد القتال وعظم النزال وعميت الابصار وقدحت حوافر الخيل الشرار ولمعت الأسنة وقرعت الأعنة ودهشت الانظار وحارت الافكار وأحاطوا بالمسلمين من كل جانب فلله در أبا سليمان
بن خالد بن الوليد وعبد الله بن المقداد لقد قاتلا قتالا شديدا وأبليا بلاء حسنا ولله در زياد بن المغيرة لقد كان يقاتل تارة في الميمنة وتارة في الميسرة وتارة في القلب وأحاط بهم أعداء الله من كل جانب وقد صار المسلمون بينهم كالشامة البيضاء في جلد البعير الأسود وصبروا لهم صبر الكرام
261

وكان أكثر المسلمين قد أثخن بالجراح واشتد الكفار هذا والمسلمون قد انتدبوا أبطالا وجعلوها خلف ظهورهم وقاتلوهم قتالا عظيما هذا وأعداء الله قد أحاطوا بهم وحجزوا بينهم وبين البلد وقاتل أبا سليمان
وأصحابه قتالا شديدا ووطنوا أنفسهم على الموت وشجع بعضهم بعضا وصار أبا سليمان
بن خالد يقول الله الله الجنة تحت ظلال السيوف والموعد عند حوض النبي صلى الله عليه وسلم وقاتل قتالا شديدا حتى أثخن بالجراح وقتل من المسلمين نحو مائتين وعشرين قريبا من التل الذي هو غرب البلد المذكور وما قتل الواحد منهم حتى قتل من أعداء الله خلقا كثيرا قال الواقدي ولما رأى المسلمون وسليمان بن خالد ما حل بأصحابه صار تارة يكر في الميسرة وتارة يكر في الميمنة وأعانه بالحملة عبد الله بن المقداد وبقية الصحابة وتقدم أبا سليمان
بن خالد وطعن بطريق اسنا طعنة صادقة فأرداه عن جواده وغاص في القلب
قال حدثنا أوس بن شداد عن علقمة بن سنان عن زيد بن رافع قال كنت في الخيل صحبة أبا سليمان
بن خالد وقد حجزنا المشركين وتقهقروا من بين أيدينا ولم نشعر أن لهم كمينا إذ خرج الكمين علينا وقاتلناهم قتال الموت وقتل منهم جماعة نحو ألفي فارس وقتل أبا سليمان
بن خالد من الصناديد والبطارقة من خيارهم نحو ثلاثين فارسا وكذلك عبد الله بن المقداد فأحاط بسليمان بن خالد رضي الله عنه كردوس نحو الفي فارس وعقروا جواده من تحته فضرب بالسيف فيهم حتى قطعت يده اليمنى فتناول السيف بيده اليسرى فضرب بها حتى قطعت فأحاطوا به فلما تيقن بالقتل التفلت وقال يعز عليك يا خالد بن الوليد ما حل بولدك هذا في رضا الله عز وجل وكان قد طعن في صدره نحو عشرين طعنة حتى قل حيله وسقط إلى الأرض ثم تنفس وقال الساعة نلقي الأحبة ولما رآه عبد الله بن المقداد على ذلك المصرع صاح لا حياة بعدك يا أبا محمد والملتقى في جنات عدن ثم غاص يقاتل فأحاطوا به واشتبكت عليه الأسنة وضرب ضربات كثيرة في وجهه وهو يقطع الرماح ويمسح الدم عن وجهه حتى سقط به الجواد وصاح واشوقاه إليك يا مقداد ثم تبسم وقال مرحبا ثم مات وأيقنا كلنا بالموت وان القيامة هناك وإذا بغبرة قد لاحت وانكشفت عن رايات اسلامية وعصائب محمدية وفي أوائل القوم القعقاع بن عمرو التميمي والمسيب بن نجيبة الفزاري وسمرة بن جندب والفضل بن العباس وزياد بن أبي سفيان وبنو هاشم وبنو عبد المطلب وسادات الأوس والخزرج وغانم بن عياض الأشعري ومن معه من الامراء والسادات فلم يمهلوهم دون أن حملوا عليهم حملة رجل واحد حتى أجلوهم وقتل البطريق
262

بولياص لعنه الله ومعه بطريق البطليوس وانهزمت الروم واتبعتهم المسلمون يقتلون ويأسرون وينهبون حتى بلغت الهزيمة إلى البحر اليوسفي ورموهم في البحر وغرق منهم جماعة كثيرة وقتل منهم في المعركة نحو أربعة آلاف وأسروا نحو الف ومائتي أسير وهرب منهم إلى البطليوس جماعة واختفوا إلى الليل ودخلوا لبطليوس وأعلموه بذلك فضاقت عليه الدنيا وضاق صدره وحار في أمره واستعد للقاء المسلمين
قال الواقدي هذا ما جرى لهؤلاء وأما أهل طنبدا وأهل اسنا وكانوا لم يخرجوا ولم يقاتلوا فإنهم لما وردت عليهم الاخبار ومعهم البطارقة سألوا بطريقهم القتال وكان نصرانيا ولم يكن روميا وكان اسمه لوص وبه سميت البلد فأبى فلما انهزم البطارقة وخرج أهل طنبدا وأهل اسنا من السوقة والرعية وأولادهم وغيرهم وبكوا في وجوههم وقالوا نحن قوم رعية وكنا مغلوبين على أمرنا فانا أهل ذمتكم ورعيتكم قالوا بشرط أن تدلونا على من هربوا إليكم فأجابوهم إلى ذلك وصاروا يأخذون المسلمين ويدخلون الدور والمساكن ويقبضون على الروم ويسلمونهم إلى المسلمين وكان النصراني يقبض على الرومي ويأتي به إلى المسلمين حتى قبضوا من طنبدا واسنا نحو من ألف وخمسمائة رجل من المطامير والابيار التي كانوا يحبسون فيها الأسارى من المسلمين وغيرهم ولما اجتمعت الأسارى من الروم والنصارى أمر غانم بن عياض بضرب رقابهم على تل هناك يعرف بالكوم ورجعت المسلمون إلى مكان المعركة فلما عاينوا القتلى ورأوا أبا سليمان
بن خالد وعبد الله بن المقداد وعبيدين الداري بكوا عليهم وعلى من قتل معهم من الامراء رضي الله عنهم وحزنوا عليهم حزنا شديدا وأنشد عمار بن ياسر ينعي أبا سليمان
بن خالد وعبد الله بن المقداد ومن معهما بقوله
* يا عين أذري الدمع منك الصبيب
* ثم اندبي يا عين فقد الحبيب
* وانعي لمقتول غدا في الفلا
* مجندلا وسط الفيافي غريب
* وابكي أبا سليمان
ولا تغفلي
* فأمره والله أمر عجيب
* قد كان لا يفكر كل العدا
* ان سل من غمد لسيف قضيب
* وتحذر الأعداء من بأسه
* لو أنهم أعداء رمل الكثيب
* فيا حمام الأيك نوحي إذا
* على فتى قد كان غصنا رطيب
* وأعلمي بما جرى خالدا
* لعله يبكي بدمع صبيب
* وأخبري المقداد من بعده
* بأن عبد الله أضحى سليب
* بل واندبي الأخيار من بعدهم
* وكل قرم للمعالي مصيب
* لا يلتقي البطليوس خيرا ولا
* أجناده أبناء أهل الصليب
*
263

* قد كمنوا جيشا لنا عامدا
* يوم الوغى من كل كلب مريب
* وحق من أعطى لنا نصره
* في كل واد ثم فتحا قريب
* لنأخذن الثأر من جمعهم
* جهرا ونطفي من فؤاد لهيب
* قال الواقدي وان غانما رضي الله عنه جمع الشهداء ودفنهم في ثيابهم ودروعهم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يحشر الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله يوم القيامة وجراحاتهم تقطر دماء اللون لون الدم والريح ريح المسك
قال الواقدي وأقام غانم رضي الله عنه بعد أن دفن الشهداء قريبا من التل والامراء يشنون الغارات على السواحل وعدى بن جابر بن عبد الله الأنصاري وأبو أيوب والمسيب بن نجيبة الفزاري في ألف فارس فأغاروا على أهل شرونة فخرج إليهم بطريق يعرف بصندراس الجاهل وبطريق أهريست في خمسة آلاف فارس واقتتلوا قتالا شديدا عند سفح الجبل فبلغ الخبر غانم بن عياض الأشعري فأرسل إليهم كتيبة أخرى صحبة بن المنذر والفضل بن العباس والمرزبان في ألف فارس فلما رأى الروم ذلك وقع الرعب في قلوبهم وكان بينهم حروب عظيمة ثم إن الفضل بن العباس قصد البطريق الجاهل وضربه ضربة هاشمية على رأسه فقطع الخودة والبيضة والرفادة إلى أن سمع خشخشة السيف في أضراسه فكبر وكبرت المسلمون لتكبيره فسقط عدو الله يخور في دمه وعجل الله بروحه إلى النار وبئس القرار وكان الفضل بن العباس فارسا شديدا وبطلا صنديدا فغاص في وسط المشركين وفتك فيهم والمرزبان حمل على بطريق شرونة فقتله وحمل ابن المنذر على بطريق أهريت فقتله فلما رأى الروم ذلك ولوا الادبار وركنوا إلى الفرار وتبعتهم المسلمون يقتلون ويأسرون ينهبون إلى المكان المعروف بالدير وأهريت وغرق منهم خلق كثير وقتل منهم ألف وخمسمائة فارس وأسر منهم ألف وخمسمائة وتحصن منهم جماعة من الروم والنصارى في مدينة الجاهل وكانت حصينة فحاصرها المسلمون سبعة أيام وحرقوا الأبواب وهدموا الجدران وأخرجوهم من البيوت وأخرجوا تلك المدينة إلى يومنا وخرج إلى المسلمين نصارى من شرونة وأهرينت وعقدوا مع المسلمين صلحا وأعطوا الجزية وأنزلوا مرة الكلبي في مائتين من أصحابه وغيرهم وابن عمرو بن العاص في المكان المعروف ببناء خالد في مائتي فارس وعبر المسلمين البحر ونزل عامر بالعرب في مائتي فارس قريبا من طنبدا واسنا وببا القرية وارتحل غانم بن عياض رضي الله عنه ببقية الجيش ولما تكاملت المسلمون أرسل بين يديه المسيب بن نجيبة الفزاري والعباس بن مرداس السلمي والفضل بن العباس الهاشمي
264

وعامر بن عقبة الجهني وزياد بن أبي سفيان بن الحرث في ألف وخمسمائة فارس فساروا إلى مكان يعرف بالجرنوس وكان هناك قلعة مرج للملك البطليوس وكان في زمن الربيع ينزل هناك بالخيام والمضارب حول القلعة وتجتمع عنده البطارقة ويقيم أشهرا ثم ينزل على الإقليم ثم يعود إلى البهنسا
قال الواقدي وأرسل لوص إلى البطليوس يطلب منه جيشا صحبته بطريق من بطارقته فأرسل اليه بطريقا كافرا لعينا اسمه شلقم وبه سميت البلد التي هي قريب من البهنسا وكان الجيش عشرة آلاف فارس والله أعلم قال حدثنا مسلم بن سالم اليربوعي عن شداد بن مازن عن طارق بن هلال أنه كان في خيل العباس بن مرداس السلمي قال بينما نحن نسير إذ رأينا غبرة قد ثارت وكان ذلك وقت الضحى فتأملناها فانكشف عن عشرة أعلام وعشرة صلبان من الذهب الأحمر كل صليب يلمع كأنه كوكب فتأهبنا للحملة وتأهبوا لنا فلم يمهلونا دون أن حملوا علينا وحملنا عليهم وأحاطوا بنا وقاتلت الروم قتالا شديدا ورطنوا بلغتهم وأعلنوا بكلمة كفرهم وصبرنا لهم صبر الكرام وقاتلنا قتال الموت فلله در غانم بن عقبة والمسيب بن نجيبة الفزاري والفضل بن أبي سفيان لقد قاتلوا قتالا شديدا وعصب الفضل رأسه بعصابة حمراء وكذلك فعل زياد بن أبي سفيان بن الحرث كما كان يصنع عمهما حمزة وقاتلا قتال الموت فلم تكن ألا ساعة وقد قوي الحرب والقتال حتى أشرف علينا الأمير غانم بن عياض الأشعري مع بقية الجيش فقوي قلبنا وكبرنا فأجابونا بالتهليل والتكبير فتقدم الفضل بن العباس إلى بطريق شلقم وكان فارسا شديدا وعليه ديباجة مفصصة بالذهب وفي وسطه منطقة بالذهب مرصعة بالجواهر وقد عصب رأسه بعصابة من الجواهر وبيده عمود من الذهب طوله ثلاثة أشبار وأزيد وهو تارة يضرب بالسيف وتارة يضرب بالعمود فلما رآه الفضل ظن أنه يريده فحمل عليه الفضل وهو ينشد ويقول
* يا أيها الكلب اللعين الطاغيا
* ومن أتى لجيشنا معاديا
* أبشر لقد وافاك ليث ضاريا
* بحد سيف في عداه ماضيا
* كان له الرب العظيم واقيا
* من كل كلب إذ يكون طاغيا
* قال فلم يفهم ما يقول الفضل وحمل عليه وتعاركا وتجاولا وضرب الفضل رضي الله عنه فحاد عنها وعطف عليه وانتزع العمود من يده وضربه ضربة هاشمية قرشية أبان بها رأسه عن بدنه ونظر اليه لم يسقط فعاد عليه وهو جثة بلا رأس فتلقاه فارس من المسلمين اسمه زهير فوجده مكلبا بكلاليب في سرجه فنزع الكلاليب فسقط عدو الله كالطود بعد ان تضمخ تاجه ومنطقته
265

دماء فقال له الفضل ان السلب لي فخذه لك فقد وهبتك إياه فقال لا أعدمنا الله مكاركم يا بني هاشم وعطف على لوص فقتله وقتل كل أمير بطريقا غيره وحملت المسلمون حملة رجل واحد فبددوا شملهم فولوا منهزمين بين أيديهم واتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون وينهبون إلى أن وصلوا إلى البحر اليوسفي وألقوهم في مكان قريب من شاقولة فسميت القرية بذلك وتحصنت جماعة بقلعة المرج فأحاط بها المسلمون وحرقوا الأبواب وهدموا الجدران وأستخرجوا ما هناك وقتلوا من الروم مقتلة غظيمة نحوا من ثلاثة آلاف وأسروا نحوا من ألف وقتل من المسلمين ثمانية وأربعون رجلا من أعيانهم سيف الأنصاري رضي الله عنهم أجمعين ودفن هو وأصحابه بمكان الوقعة وكان زياد بن المغيرة وجماعته نزولا في أماكنهم قريبا من طنبدا كما ذكرنا حول البلد المعروف بدهروط وكان زياد صديقا للأمير أبا سليمان
بن خالد بن الوليد فكتب كتابا للأمير خالد بن الوليد يعزيه في ولده أبا سليمان
ويقول
* يا خالد ان هذا الدهر فجعنا
* في سيد كان يوم الحرب مقداما
* مجندل الفرس في الهيجا إذا اجتمعت
* وللصناديد يوم الحرب خصاما
* لا يملك الضد من أبطالنا أملا
* ان حاز ساعده القصاص صمصاما
* يا طول ما هزم الاعدا بصارمه
* أنالهم منه تنكيسا وارغاما
* كأنه الليث وسط الغاب إذ وردت
* له العدا وعلى الأشبال قد حامى
* يا عين جودي بفيض الدمع منك دما
* بل واندبي فارسا قد كان ضرغاما
* والسيد الفرد عبد الله قد حكمت
* به المنايا وحكم الله قد داما
* نحم الفتى العلم المقداد خير فتى
* قد كان في ملتقى الأعداء هجاما
*
قال الواقدي فلما وصل الكتاب إلى خالد بن الوليد كان قريبا من الدير ببقية الجيش وهو ينفذ السرايا وأهل البلاد يأتونه بما صالحوه عليه من المال وغيره وقد جهز عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وعبد الله بن عمر بن الخطاب وعقبة بن نافع الفهري والزبير رضي الله عنهم بألف فارس إلى الفيوم وسيأتي ذكر ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى فلما ورد الكتاب على خالد سقط إلى الأرض وخر مغشيا عليه ثم أفاق واسترجع وقال لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم إنا لله وإنا إليه راجعون ثم قال اللهم أني احتسبت أبا سليمان
إليك اللهم اجعله فرطا وذخرا وأعقبني عليه صبرا وأعظم لي بذلك أجرا ولا تحرمني الثواب برحمتك يا أرحم الراحمين ثم قال والله لآخذن فيه ألف سيد من ساداتهم ولأقطعن ساداتهم وفرسانهم وانني أرجو أن آخذ بثأره إن شاء الله تعالى ولأقتلن البطليوس شر قتلة لعلي أشفي بذلك غليل صدري وحرارة كبدي وليكونن على يدي خراب دياره وانهزام جيوشه وزوال ملكه
266

وهطلت مدامعه على وجنته أحر من الجمر ثم جعل يسترجع ويقول
* جرى مدمعي فوق المحاجر منهمل
* وحر فؤادي من جوى البين يشتعل
* وهام فؤادي حين أخبرت نعيه
* فليت بشير البين لا كان قد وصل
* لقد ذوب الأحشاء وأجرى مدامعي
* صبيبا وعن نار الفؤاد فلا تسل
* سأبكي عليه كلما أقبل المسا
* وما ابتسم الصبح المنبر وما استهل
* لقد ذوب الاحشا وأجرى مدامعي
* صبيبا وعن نار الفؤاد فلا تسل
* وكان كريم العم والخال سيدا
* إذا قام سوق الحرب لا يعرف الوجل
* أحاطت به خيل اللئام بأسرهم
* وقد مكنوا منه المهند والأسل
* وعيشك تلقاهم صراعا على الثرى
* عليهم يسوق الوحش والطير محتفل
* فوا أسفا لو أنني كنت حاضرا
* بأبيض ماضي الحد في الحرب مكتمل
* وحق الذي حجت قريش لبيته
* وأرسل طه المصطفى غاية الامل
* لأقتل منهم في الوغى ألف سيد
* إذا سلم الرحمن واتسع الاجل
* قال الواقدي وأقبلت الامراء يعزون خالدا ومدامعهم تفيض من عيونهم ويقولن أعظم الله لك أجرا وأعقبك عليه صبرا وجعله لك غدا في المعاد ذخرا والله لقد عدمنا القوى وقد أبيد القلب من حشاشتنا واكتوى ونحن لقتله ذاهلون إنا لله وإنا إليه راجعون وكذلك يعزون المقداد في ولده عبد الله وبلغ الخبر عمرو بن العاص بمصر وهو مقيم بها فكتب لهما كتابا بالتعزية وبلغ الخبر المدينة لعمر بن الخطاب فاسترجع هو وبقية الصحابة مثل علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله ومن كان حاضرا من الصحابة بالمدينة الطيبة رضي الله عنهم وكتبوا إلى خالد والمقداد كتابا يعزونهما فلما وصل الكتاب إلى خالد والمقداد اطمأنا لما عليهما من الصبر وما لهما من الأجر والثواب
قال الواقدي هذا ما جرى لهؤلاء وأما البطليوس لعنه الله فإنه لما تحقق مجيء العرب إلى مدينة البهنسا فتح خزائن الأموال وفرق المال والسلاح والعدة من الملبوس والدروع وغير ذلك وفرق على البطارقة وعلى غيرهم من الجند وكان هناك بيت مقفل كما ذكرنا فيه صفة العرب وأسماؤهم فأمر بفتحه وهو يظن أن فيه مالا مدخرا فمنعه القسوس والرهبان من ذلك فأبى ففتحه فلم يجد فيه الا صفة العرب وأسماءهم كما ذكرنا أول الكتاب فنظر لذلك ودخل الكنيسة وجلس على سريره وجمع حوله البطارقة فاستشارهم في أمره فقام شيخ كبير راهب وكان مطاعا عنده مسموع الكلام كبير السن وكان عمره مائة وعشرين سنة فقام وعليه جبة سوداء وعلى رأسه قلنسوة وفي يده عكازه من الآبنوس ملبسة بالعاج والذهب فقرب من الهيكل وتكلم
267

بكلام لا يفهم ثم قال بعد ذلك يا أهل دين النصرانية وبني ماء المعمودية قد كانت دولتكم قائمة وكلمتكم مسموعة ما دمتم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتعدلون في الرعية وتأخذون للمظلوم من الظالم وتنصفون الضعيف من القوي وتواسون الفقير ولا تمدون أيديكم إلى شيء من أموال الناس وتهابون الزنا وكانت الدولة لكم وقلوب الرعية منجذبة إليكم وداعية لكم وكان الملك فيكم ولما لم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر وظلمتم الرعية وجرتم في الاحكام وحكمتم بغير الحق ولا تأخذون للضعيف حقه من القوي ومددتم أيديكم إلى أموال الرعية وفشت فيكم المعاصي فتغيرت قلوب الرعية ومدوا أيديهم بالدعاء عليكم ودعاء المظلوم مستجاب وكثرة الظلم خراب فيوشك أن تنزع هذه النعمة من أيديكم وتعود إلى غيركم بكثرة ذنوبكم وشؤم معاصيكم وبدعاء المظلومين عليكم فلأجل ذلك سلطت عليكم العرب فملكوا بلادكم وقتلوا رجالكم ونهبوا أموالكم وسكنوا منازلكم واستولوا على معاقلكم فتيقظوا من غفلتكم وذبوا عن حريمكم وأموالكم ولا تمكنوا العرب من جانبكم وهذه مقالتي لكم جميعا فلما سمع البطليوس لعنه الله كلام القس وما تكلم به التفت إلى بطارقته وجماعته ونوابه وقال هل سمعتم ما قال أبوكم قالوا سمعنا قال فما عندكم من الرأي قالوا نحن معك وبين يديك ونقاتل العرب ولا نطمعهم فينا كما طمعوا في غيرنا وان غلبونا استعددنا للحصار وعندنا من الميرة والعلوفة ما يكفينا عشر سنين وأزيد وبلدنا حصين ولا نسلم أنفسنا والا يكون علينا عارا عند الملوك قال فشكرهم البطليوس على ذلك ووثب قس اخر وكان يناظر ذلك القس في المعرفة واستخرج كتابا معلقا كان عنده في صندوق من
الآبنوس مقفل باقفال من الفولاذ وقال يا أهل دين النصرانية وبني ماء المعمودية اسمعوا ما نعته لكم العلماء والكهان والحكماء انه يبعث نبي في آخر الزمان يسمى محمد بن عبد الله من بني عدنان يموت أبوه وأمه ويكفله جده وعمه يبعثه الله نبيا إلى جميع البشر مولده بمكة ودار هجرته طيبة ثم يقيم أعواما ويتوفاه الله تعالى ثم يتولى الأمر من بعده رجل يسمى أبا بكر وتزداد العرب به فخرا ويجهز العساكر إلى الشام ثم لم يلبث إلا أياما قلائل ويتوفاه الله تعالى ويتولى الامر من بعده الرجل الأصلع الأحور المسمى بعمر وهو صاحب الفتوح ومصبح الأعداء بأشأم صبوح تفتح على يديه الأمصار وبيعث سراياه إلى سائر الأقطار وانا نجد في الكتب القديمة أن هذه المدينة تفتح على يد رجل أسمر شجاع غضنفر فارس شديد وبطل صنديد يسمى خالد بن الوليد فان سمعتم قولي وقبلتم فاعقدوا مع العرب صلحا فان الدولة لهم ودينهم الحق ولو قاتلهم أهل المشرق والمغرب غلبوهم ببركة
268

الله وببركة نبيهم محمد
قال فلما سمع البطارقة كلامه غضبوا غضبا شديدا وأرادوا قتله فمنعهم البطليوس من ذلك وقال له كأنك خفت من سيوف العرب وأنا أعلم أن الرهبان والقسوس لا قلوب لهم لأنهم ليس لهم أكل الا العدس والزيت والليمون والأشياء الرديئة ولا يعرفون اللحم فلأجل ذلك ضعفت قلوبهم فلولا مقامك من قديم الزمان ورؤيتك للملوك القدماء لبطشت بك ولئن عدت إلى مقالتك هذه لأقتلنك شر قتلة قال فسكت القس الراهب وخرج البطليوس من وقته وساعته وجلس في قصره ذي الأعمدة ثم استدعى ببطارقته وخلع عليهم ورفع لهم الاعلام والصلبان وعرض عليه جيشه فإذا هم ثمانون ألفا غير السوقة المشاة فسر بذلك سرورا عظيما ثم استدعى ببطريق من بطارقته يدعى قابيل وكان لا يقطع أمرا دونه فخلع عليه ودفع له الثمانين ألفا وأمره بملاقاة العرب ثم استشار خواص مملكته في الإقامة في البلد أو الخروج إلى ظاهرها فقال له ذوو الرأي من بطارقته أيها الملك انك إذا أقمت في البلد استضعفوا رأينا وأمرنا وإذا كنت بجانب المدينة لا تجد العرب أن تصل الينا ونجعل البلد خلف ظهرنا ونقاتل من خارج الأبواب ويساعدنا من فوق الأبراج فإذا عظم الامر فلا ندخل المدينة الا من أمر عظيم فاستصوب رأيهم ثم أنه أمر الفراشين أن يخرجوا الخيام والسرادقات والقباب بظاهر المدينة وأخرجوا له سرادقا عظيما سعته سبعون ذراعا وارتفاعه مثل ذلك على أعمدة من الخشب المصفح بالذهب والفضة وهو من الحرير الملون الأزرق والأحمر والأخضر والأبيض والأصفر والأسود ومقضب بقضبان الذهب والفضة مرصع باللؤلؤ وفيه تصاوير من داخله ومن خارجه من جميع أجناس الطير والوحوش والكواكب وفرش فيه من الفرش وبسط الحرير الملون ووضع فيه المساند والوسائد والأنطاع وأطناب السرادقات حرير ملون بأوتاد من عاج وآبنوس في حلق من ذهب وفضة وعلق فيه قناديل وسلاسل من ذهب وفضة ووضع فيه سريرا من خشب الساج المنقوش المصفح بالذهب الوهاج على قوائم بزمامين من ذهب وفضة طوله سبعة أذرع وعرضه مثل ذلك وارتفاعه مثل ذلك يصعد اليه بدرج من خشب مصفح بصفائح من ذهب وفضة وعليه فرش من حرير ووسائد ومساند ونمارق وحوله ثمانين كرسيا مصفحة بالخشب الآبنوس يجلس عليها أرباب الدولة وأصحاب الصولة وضرب حوله من الخيام والسرادقات ما لا يوصف له عد
قال الراوي حدثنا جماعة من الصحابة ممن شهد الفتح وعاين السرادقات انه لما هرب الملعون ودخل المدينة وكان السرادق منصوبا مقابل
269

الباب البحري المعروف بباب قندوس أمر بطريقا من بطارقته أسمه سمعان أن ينصب سرادقه الذي وهبه له عند باب توما وهو الباب القبلي وأمر بطريقا اسمه اصطافين أن ينزل في الجانب الشرقي قريبا من القناطر على ساباط معقود على أعمدة من الحجارة فأمره أن ينزل ومعه عشرة آلاف فارس حول القلعة قال هبار بن أبي سفيان أو سلمة بن هاشم المخزومي ما نزلنا على مدينة من مدائن الشام ولا رأينا أكثر عددا ولا أكثر زينة من مدينة البهنسا ولا أقوى قلوبا منهم وأكثروا من الصلبان ونصبوا السرادقات والمنجنيقات على الاسوار وأسبلوا على الاسوار جلود الفيلة المصفحة بصفائح الفولاذ ورتبوا الرماة والمجانيق والسهام وغير ذلك
قال الراوي هذا ما جرى لهؤلاء وأما الأمير عياض بن غانم الأشعري رضي الله عنه فإنه لما قرب من البهنسا استشار أصحابه مثل أبي ذر الغفاري وأبي هريرة الدوسي ومعاذ بن جبل وسلمة بن هاشم المخزومي ومالك الأشتر النخعي وذي الكلاع الحميري رضي الله عنهم ومعهم ألفان من أصحابهم وأمرهم بالنزول في الجهة الشرقية وقال لهم ان قاتلوكم قاتلوهم ونازلوا القلعة حتى تأخذوها وعبر الأمير عياض من الجهة البحرية ومعه أصحاب الرايات والامراء والطليعة من هؤلاء السادات وهم الفضل بن العباس وأخوه عبيد الله بن العباس وشقران وصهيب ومسلم وجعفر وعلى أولاد عقيل بن أبي طالب وعبد الله بن جعفر وزياد بن أبي سفيان وتتابعت خلفهم السادات وأصحاب المروءات مثل نعيم بن هاشم بن العاص وهبار بن أبي سفيان وعبد الله بن عمرو الدوسي وسعيد بن زبير الدوسي وحسان بن نصر الطائي وجرير بن نعيم الحيري وسالم بن فرقد اليربوعي وسيف بن أسلم الطائفي ومعمر بن خويلدة السبكي وسنان بن أوس الأنصاري ومخلد بن عون الكندي وابن زيد الخيل ومثل هؤلاء السادات أصحاب الرايات رضي الله عنهم وتتابعت الكتائب يتلو بعضها بعضا وعبروا إلى الجانب الغربي فبينما هم سائرون وإذا بعدو الله قابيل قد أقبل بالبطارقة المتقدم ذكرهم فلما التقى الجمعان عند سفح الجبل تحت المغارة أشار إلى أصحابه فأمسكوا عن المسير وتقدم إلى رابية عالية والى جانبه رجل من العرب المتنصرة وأمره بأن ينادي برفيع صوته قربوا إلى البطريق رجلا منكم ذا خبرة بكلمة فوثب اليه جرير الحيري وأتى إلى عياض وقال أيها الأمير أتأذن لي أن أكلمه قال نعم ان طلبوا الصلح ورفعوا القتال صالحناهم حتى يحضر الأمير خالد بن الوليد ويفعل أمره وان أرادوا القتال قاتلناهم واستعنا بالله تعالى عليهم وهو حسبنا ونعم الوكيل قال الراوي فعندها سار حتى وقف بإزاء البطريق وقال له سل
270

حاجتك فقال له أأنت أمير القوم قال لا ولكني متكلم عن الأمير فقال له لم تركتم بلاد الشام والنعم العظام وأتيتم إلى هذه البلاد وكنتم في بلاد الحجاز تقاسون جوعا وعريا فذقتم فواكه الشام وثمار الحجاز وخيرات اليمن فلم يكفكم ذلك حتى أتيتم إلى مصر وقهرتم القبط وأتيتم إلى بلاد الفرس وقهرتم ملوكها ولم تكتفوا حتى أتيتم الينا وهجمتم علينا في بلادنا وقتلتم ابطالنا ونهبتم أموالنا ونحن نتغافل عنكم ونهمل أمركم حتى غلظت شوكتكم وقصدتم مدينتنا التي هي دار ملكنا ومحل ولايتنا ولقد طلبها من قبلكم من
الفراعنة والجبابرة والقبط والقياصرة والأكاسرة والجرامقة ورجعوا خائبين وأنتم هجمتم علينا وقتلتم رجالنا فقولوا لنا ما الذي تريدون منا فان كنتم تريدون مالا وترجعون عنا قمت أنا عن الملك بذلك وترحلون عنا وتردون لنا ما ملكتم من بلادنا وان الملك لا يخالف لي أمرا فأخبروني ما الذي تريدون وما الذي تطلبون فقال له جرير أفرغت من كلامك فقال له نعم قال له جرير خذ جوابك أما قولك كنا في ضيق حال فهو كما ذكرت ولكن أنعم الله علينا بالاسلام وهو أول نعمة أمرنا بالجهاد وان الله تعالى أباح لنا أموال المشركين ما داموا محاربين وأمرنا أن نجاهدكم حتى تؤدوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون أو تسلموا أو تقاتلوا حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين وأما قولك المال فليس هو غرضنا ولا متاع الدنيا شهواتنا وان بلادكم عن قريب تكون لنا وأموالكم غنيمة لنا نتقاسمها قال الواقدي فلما سمع البطريق الكلام غضب غضبا شديدا وقال أنا كفء لكم دون الملك ثم أمر أصحابه بالحملة على جرير قال فما لويت عنان جوادي الا والخيل قد ركبتني فعندها تواثب المسلمون واقتتلوا قتالا شديدا وتبادرت الرجال وزمجرت الابطال وزحفت الافيال وتراشقوا بالنبال وتضاربوا بالنصال وتطاعنوا بالعوال والتقى الجمعان واصطدم الفريقان واشتد النزال وكثرت الأهوال وتقاتلت الفرسان وولى الجبان حيران فلله در المغيرة بن شعبة وعون بن ساعدة وعبادة بن تميم والفضل بن العباس رضي الله عنه لقد قاتلوا قتالا شديدا وأبلوا بلاء حسنا ولم يزل القتال يشتد من ارتفاع الشمس إلى الغروب فعندها وثب عبد الله بن جعفر إلى قابيل وضربه ضربة فحاد عنها عدو الله وولى هاربا وحمته جماعة نحو ثلاثمائة فارس ولم يزل الفريقان في قتال ونزال إلى أن غابت الشمس وافترق الجمعان وقد قتل من المسلمين نحو خمسين رجلا ختم الله لهم بالشهادة وقتل من الروم نحو ألفي فارس قال واجتمعت الروم حول قابيل حين ولى هاربا إلى أن وصل إلى البطليوس فلما رآهم وبخهم وقال لهم بأي وجه تفرون من العرب ولم تصبروا
271

لهم وقد فشلتم وجزعتم فقال له قابيل أيها الملك ليس الخبر كالعيان وهؤلاء ليسوا بأنس وانما هم جن في القتال ولولا الاجل حصين ما عدت إليك فغضب الملك وقال اسكت قد تمكن رعب العرب من قلبك وستنظر ما يكون من أمرهم ثم بات في قلق شديد حتى أصبح الصبح ولم يأمر قومه بالركوب وقال أمهلوا حتى أنظر ما يكون من أمرهم
ذكر فتوح البهنسا ونزول الصحابة وقتل البطريق قال الراوي ولما أصبح المسلمون صلوا صلاة الصبح تبادروا إلى خيولهم فركبوها فلم يجدوا لأعداء الله خبرا ولا أثرا وتيقنوا أنهم انهزموا ومضوا إلى مدينتهم فسارت المسلمون إلى أن قربوا من البهنسا فلاحت لهم المضارب والخيام والسرادقات والاعلام
قال الراوي حدثنا قيس بن منهال عن عامر بن هلال عن ابن زيد الخيل قال لما أشرفنا على مدينة البهنسا ورأينا تلك المضارب قال عياض رضي الله عنه اللهم اخذلهم وانصرنا عليهم اللهم احصهم عددا واقتلهم بددا ولا تبق منهم أحدا واخزهم انك على كل شيء قدير وأمن المسلمون على دعائه قال فلما أقبلنا على مدينة البهنسا كبرنا وهللنا فخرجوا إلى ظاهر الخيام وبأيديهم السيوف والدرق والقسي والنبال ورأينا خلقا كثيرة على الأبراج وأراد جماعة من العرب الحملة عليهم فمنعهم الأمير وبقية الامراء من ذلك وقالوا لا حملة الا بعد انذار ثم إنهم لم يأتوا الينا ولا ناوشونا بقتال واستقلونا في أعينهم
قال الواقدي ونزل المسلمون بجانب الجبل عند الكثيب الأصفر قريبا من البياض الذي على المغارة نحو المدينة هذا ما جرى لهؤلاء وأما أبو ذر الغفاري وأبو هريرة الدوسي ومعاذ بن جبل ومسلمة بن هاشم ومالك الأشتر وذو الكلاع الحميري فإنهم ساروا حتى نزلوا قريبا من القوم وباتوا تلك الليلة فلما أصبحوا خرج أعداء الله للقائهم فقال مالك الأشتر يا قوم ان أعداء الله خرجوا للقائكم فاشغلوهم بالقتال وأرسلوا جماعة منكم يملكون الجسر واستعينوا بالله فعندها خرج المرزبان ومعه ثلاثمائة فارس حتى وصلوا إلى الجسر والحجارة تتساقط عليهم من أعلى السور حتى ملكوا الجسر وجعلوا في أماكن المخاضات حراسا بسيوف محدودة واقتتل المسلمون وأعداء الله قتالا شديدا وثبتوا في القتال سبعة أيام وكلما أتوا إلى مكان المخاضة وجدوه مربوطا بالرجال وصار كل ليلة تهرب منهم جماعة من الروم ويهيمون على وجوههم يريدون الصعيد فتلقاهم رافع ابن عميرة الطائي ومعه سرية من أصحاب قيس بن الحرث عند البلد المعروف بادقار وكانوا حوالي البحر
272

اليوسفي يشنون الغارات على تلك السواحل فبينما هم كذلك يسيرون إذ سمعوا دوي حوافر الخيل فظنوا أنهم مسلمون فكلموهم فلم يرد عليهم أحد فلحقوهم وحملوا عليهم وكانوا ستمائة فارس ففروا من بين أيديهم فقتلوا منهم نحو مائتين وهرب الباقون وقتل من المسلمين ثلاثة وهرب الروم نحو المخاضة فغرق منهم مائة وأسروا منهم مائتين وهرب الباقون وسألوهم عن سبب خروجهم فأخبروهم انهم يرودون فعند ذلك أوثقوهم كتافا وأتوا بهم مكتفين مع نفر من المسلمين إلى أن أوصلوهم إلى عياض بن غانم الأشعري فأعلنوا بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير واقبلوا نحوهم ففرحوا بالأسارى ثم عرضوهم على الامراء المتقدم ذكرهم فعرضوا عليهم الاسلام فأبوا فضربت أعناقهم والروم ينظرون إلى ذلك ثم زحفت عليهم الصلبان واقتتلوا قتالا شديدا وحمي الحرب وكثر الطعن والضرب من ارتفاع الشمس إلى وقت العصر وفشا القتل في الروم فلما رأوا ذلك ولوا الادبار وركنوا إلى الفرار وصعدوا على القلعة وغلقوا الأبواب واستعدوا للحصار ونصبوا آلات القتال قال هذا ما جاء لهؤلاء وأما الصحابة رضي الله عنهم فإنهم نزلوا في سفح الجبل والوادي في المكان المتسع من الجهة البحرية والجهة الغربية فلما جاء الليل أوقدوا نيرانهم واجتمعت كل قبيلة ببني عمها يقرءون القرآن ويصلون على محمد أشرف ولد عدنان وما فيهم الا من هو راكع أو ساجد أو داع لله عز وجل لعله أن ينصرهم على عدوهم وباتت الروم اللئام يشربون الخمر داخل المدينة وخارجها وقد أعلنوا بكلمة كفرهم حتى ضجت منهم أرض البهنسا واستغاثت إلى الله عز وجل فناداها بلسان القدرة اسكتي يا بهنسا فوعزتي وجلالي لاهلكنهم ولاسكننك قوما يوحدوني من خيار خلقي ولاجعلن تلك البيع مساجد للصلاة والجمع فلما سمعت الأرض الخطاب من قبل رب الأرباب مالت فرحا واهتزت طربا وبقيت منتظرة وعد ربها بزوال كربها فلما يكن الا قليل حتى أزال الله عنها أهل الكفر والطغيان وعبدة الصلبان وأسكنها خير أمة أخيار من المهاجرين والأنصار من أصحاب محمد المختار يصلون بها آناء الليل وأطراف النهار وجعلت البرية مدافن للسادات الشهداء الأطهار وصار عليها بعد الظلام أنوار وصارت زيارتها تحط الخطايا والأوزار قال الواقدي ولما أصبح الصباح صلى المسلمون صلاة الصبح وجلسوا ينتظرون ما يكون من أمر الروم وإذا بقس قد أقبل راكبا بغلة وعليه مدرعة
من شعر وقلنسوة وزنار فسار حتى وصل قريبا من العسكر ثم
273

تكلم بلسان عربي وقال يا مسلمين أريد أمير العرب قال الراوي حدثنا قيس بن شماس عن كعب بن همام عن شداد بن أوس وكان من أصحاب الرايات قال بينما نحن جلوس نتحدث مع الأمير عياض بن غانم إذ أقبل عبد الله بن عاصم وأخبر عن ذلك القس قال فأذن له الأمير عياض بالدخول فدخل القس فوجد الأمير عياضا جالسا في خيمته على فراش من أدم وحشوه من ليف وفرش المشركين التي اكتسبوها مطوية على جانب وحوله السادات والامراء رضي الله عنه كلهم جلوس حوله وهو كأنه أحدهم وسيوفهم على أفخاذهم وعليهم هيبة ووقار فلما دخل القس اندهش وحار وأخذه الانبهار ثم التفت يمينا وشمالا وقال يا قوم أيكم الأمير حتى أكلمه فإنكم كلكم أراكم سادات وامراء وعليكم هيبة ووقار فأشاروا إلى الأمير عياض فالتفت اليه وقال يا فتى أنت أمير قومك قال كذلك يزعمون ما دمت على طاعة الله عز وجل فقال له القس ان الملك البطليوس قد أرسلني إليكم يريد ذا الرأي والخبرة ليسأله عن أمركم فلعل أن يكون ذلك سبب حقن الدماء بينكم وبينه قال فعندها التفت الأمير عياض إلى أصحابه وقال ما تقولون فيما أتاكم به هذا القس ومن ينطلق اليه ويخاطبه ويعود الينا قال فوثب المغيرة بن شعبة وقال أنا أمضي اليه وأريد معي عشرة رجال من الامراء ذوي المروءة والباس فقال له الأمير اختر من شئت وفقك الله وسددك وردك الينا سالما غانما أنت ومن معك قال فالتفت وراءه وقال أين سعيد بن عبد القادر اين أبو أيوب الأنصاري أين خالد بن زيد الأنصاري أين زيد اين ثابت الأنصاري أين مسعود البدري أين جرير بن مطعم أين أبو يزيد العقيلي أين معاوية بن العكم الثقفي أين عمار بن حصين أين زيد بن أرقم فأجابوه بالتلبية فقال لهم خذوا أهبتكم وانطلقوا معي على بركة الله وعونه قال فتبادر هؤلاء الامراء السادات إلى خيامهم ولبس كل واحد درعه وتنكبوا بحجفهم وتقلدوا بسيوفهم واعتقلوا برماحهم
قال الواقدي ثم إن المغيرة رضي الله عنه دخل إلى خيمته ولبس درعه وشد وسطه بمنطقته وهي من الادم وفيها خنجران واحد عن اليمين وواحد عن الشمال وتقلد بسيف من جوهر واعتقل برمح أسمر وركب جواده الأدهم وأخذ كل واحد منهم عبده راكبا على بغلة وودعهم فالتفت الأمير عياض وقال للمغيرة اعرف يا أبا شعبة ما تكلم به هذا الملعون فما عرفتك الا مفلح الحجة فادعه إلى الاسلام وما فرض عليه من الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وما أبيح من الحلال وما حرم من الحرام فان أبى فالجزية في
274

كل عام فان أبي فالقتال بحد الحسام ونرجو النصر من الملك الديان بجاه محمد خير الأنام قال فقال المغيرة أرجو من الله الملك الوهاب المعونة في رد الجواب وسارت الامراء والقس أمامهم راكب على بغلة وعبيدهم خلفهم على بغالهم وكل عبد عليه لامة حربه وساروا وهم معلنون بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير قال زياد بن ثابت ولما فارق القوم الأمير عياضا نظرت اليه وعيناه تذرفان بالدموع حتى بلت دموعه لحيته وهو يقرأ القرآن فقلت أنا أيها الأمير ما هذا البكاء فقال لي يا ابن ثابت هؤلاء والله أنصار الدين فان أصيب رجل منهم فما يكون عذري عند الله عز وجل قال وسار المغيرة وأصحابه حتى أشرفوا على عسكر العدو وإذا هو ملء الأرض وهو نازل حول مدينة البهنسا فصاح المغيرة ومن معه يقولون لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينما هم كذلك إذ أقبل إليهم بطريق ومعه رجل من العرب المتنصرة راكب إلى جانبه ومعهما نحو مائة ألف فارس وساروا بين أيديهم حتى وصلوا إلى قريب سرادق الملك ولاح البطليوس وهو جالس على السرير فعند ذلك خرج لهم الحجاب والنواب وأرباب الدولة والصولة وقالوا قد وصلتم وبلغتم إلى سرادق الملك فانزلوا عن خيولكم وانزعوا سيوفكم فقال المغيرة أما خيولنا فننزل عنها وأما سيوفنا فلا ننزعها فإنها عزنا وما كنا بالذي ينزع عزه الذي يعتز به دهره قال فأخبر الحجاب الملك بذلك فقال دعوهم يدخلون بسيوفهم فنادتهم الحجاب ادخلوا
قال الواقدي فعندها ترجل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خيولهم وأمسكوها لعبيدهم وأقبلوا يتبخترون في مشيهم ويجرون حمائل سيوفهم ويخترقون صفوف الكفار وهم لا يهابونهم إلى أن وصلوا إلى سرير الملك فدخلوا إلى أن وصلوا إلى النمارق والفرش والديباج والملك جالس على سريره ولما نظر المسلمون إلى ذلك عظموا الله تعالى وكبروه فارتج السرادق وتغيرت ألوان القوم وصاح بهم الحجاب قبلوا الأرض للملك فلم يلتفتوا إليهم قال المغيرة لا ينبغي السجود الا للملك المعبود ولعمري كانت هذه تحيتنا قبل فلما بعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم نهانا عن ذلك فلا يسجد بعضنا لبعض قال فسكتوا قال فأمر الملك بكراسي من ذهب وفضة فنصبت لهم فلم يجلسوا عليها وكانوا من حين دخلوا أمروا بعض عبيدهم أن يطووا البسط من تحت أرجلهم إلى أن وصلوا إلى فرش الديباج فشالوها على جنب فقالت لهم البطارقة قد أسأتم الأدب معنا إذ لم تسجدوا للملك ولم تمشوا على فرشنا فقال المغيرة ان الأدب مع الله تعالى أفضل من الأدب معكم والأرض أطهر من فرشكم لان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول جعلت لي الأرض مسجدا
275

وطهورا وقال الله تعالى * (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى) *
قال الواقدي لم يكن بين البطليوس والصحابة ترجمان لأنه كان أعرف أهل زمانه بلسان العربية فعند ذلك أمرهم بالجلوس فقال المغيرة اما أن تنزل عن سريرك وتكون معنا على الأرض أو تأذن لنا بالجلوس معك على السرير لأن الله تعالى شرفنا بالإسلام قال فأشار لهم بالجلوس معه على السرير بعد أن أزالوا تلك الفرش وجلس المغيرة إلى جانبه فالتفت البطليوس لعنه الله إليهم وقال لهم أيكم المتكلم عن أصحابه فأشاروا إلى المغيرة رضي الله عنهم والصحابة جلوس وأيديهم على مقابض سيوفهم فالتفت البطليوس إلى المغيرة وقال له ما اسمك فقال عبد الله المغيرة فقال يا مغيرة اني اكره أن أبدأك بالكلام فقال المغيرة تكلم بما شئت فأن عندي لكل كلام جوابا ثم إن البطليوس أفصح في كلامه وقال الحمد لله الذي جعل سيدنا المسيح أفضل الأنبياء وملكنا أفضل الملوك ونحن خير سادة فقطع عليه المغيرة فقالت الحجاب والنواب لقد أسأت الأدب مع الملك يا أخا العرب فابي المغيرة أن يسكت وقال الحمد لله الذي هدانا للاسلام وخصنا من بين الأمم بمبعث محمد عليه أفضل الصلاة والسلام فهدانا به من الضلالة وأنقذنا به من الجهالة وهدانا إلى الصراط المستقيم فنحن خير أمة أخرجت للناس نؤمن بنبينا ونبيكم وبجميع الأنبياء وجعل أميرنا الذي هو متولي علينا كأحدنا لو
زعم أنه ملك وجار عزلناه عنا فلسنا نرى له فضلا علينا الا بالتقوى وقد جعلنا الله نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ونقر بالذنب ونستغفر منه ونعبد الله وجه لا شريك له ولو أذنب الرجل منا ذنوبا تبلغ مثل الجبال فتاب قبلت توبته وان مات مسلما فله الجنة قال فتغير لون البطليس ثم سكت قليلا وقال الحمد الله الذي ابتلانا بأحسن البلاء وأغنانا من الفقر ونصرنا على الأمم الماضية ولقد كانت جماعة منكم قبل اليوم يأتون إلى بلادنا فيمتارون البر والشعير وغيره ونحسن إليهم وكانوا يشكرونا على ذلك وأنتم جئتمونا بخلاف ذلك تقتلون الرجال وتسبون النساء وتغنمون المال وتنهبون المدائن والحصون والقلاع وتريدون أن تخرجونا من بلادنا وديارنا وأنتم لم تكن أمة من الأمم أضعف حالا منكم لأنكم أهل الشعير والدخن وجئتم بعد ذلك تطمعون في بلادنا وأموالنا وحولنا جنود كثيرة وشوكتنا شديدة وعصابتنا عظيمة ومدينتنا حصينة والذي جرأكم علينا أنكم ملكتم الشام والعراق واليمن والحجاز وارتحلتم إلى بلادنا وأفسدتم كل الفساد وخربتم المدائن والقلاع ولبستم ثيابا فاخرة وتعرضتم لبنات الملوك والبطارقة وجعلتموهن خدما
276

لكم واكلتم طعاما طيبا ما كنتم تعرفونه وملأتم أيديكم بالذهب والفضة والمتاع الفاخر واللآلىء والجواهر ومعكم متاعنا وأموالنا التي من قومنا وأهل ديننا ونحن نترك لكم ذلك جميعه ولا ننازعكم عليه ولا نؤاخذكم بما تقدم من فعلكم من قتل رجالنا ونهب أموالنا والآن فارحلوا عنا واخرجوا من بلادنا فان فعلتم فتحنا خزائن الأموال وأمرنا لكل رجل منكم بمائة دينار وثوب حرير وعمامة مطرزة بالذهب ولاميركم هذا ألف دينار وعشرة عمائم وعشرة ثياب ولكل أمير منكم كذلك وللخليفة عليكم عشرة آلاف دينار ومائة ثوب حرير ومائة عمامة بعد ان نستوثق منكم بالايمان انكم لا تعودون إلى الإغارة على بلادنا هذا كله والمغيرة ساكت فلما فرغ البطليوس من كلامه قال له المغيرة قد سمعنا كلامك فاسمع كلامنا ثم قال الحمد لله الواحد القهار الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد فقال له البطليوس نعم ما قلت يا بدوي فقال المغيرة أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المرتضى ونبيه المجتبى فقال له البطليوس لعنه الله لا أدرى أن محمدا رسول الله ولعله كما يقال حبيب الرجل دينه ثم التفت إلى المغيرة وقال يا عربي ما أفضل الساعات فقال ساعة لا يعصي الله فيها قال صدقت يا أخا العرب لقد بان لي رجحان عقلك فهل في قومك من له رأي مثل رأيك وحزم مثل حزمك قال نعم في قومنا وعسكرنا أكثر من ألف رجل لا يستغني عن رأيهم ومشورتهم وخلفنا أمثال ذلك وهم قادمون الينا عن قريب فقال البطليوس ما كنا نظن ذلك منكم وانما بلغنا عنكم انكم جماعة جهال لا عقول لكم فقال المغيرة كنا كذلك حتى بعث الله فينا محمدا صلى الله عليه وسلم فهدانا وأرشدنا فقال البطليوس لقد أعجبني كلامك فهل لك في صحبتي فقال المغيرة يسرني ذلك إذا فعلت ما أقول لك قال ما هو قال تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله قال البطليوس لا سبيل إلى ذلك ولكن أردت أن أصلح الامر بيني وبينكم قال المغيرة رضي الله عنه الامر إلى الله وأما قولك لنا انا أهل فقر وبؤس وضر فقد كنا كذلك وكنا أهل جاهلية لا يملك أحدنا غير فرسه وقوسه وابله وكنا لا نعظم الا الأشهر الحرم حتى بعث الله الينا نبيه ورسوله صلى الله عليه وسلم نعرف أصله ونسبه صادقا أمينا نقيا اماما رسولا أظهر الاسلام وكسر الأصنام وختم به النبيين وعرفنا عبادة رب العالمين فنحن نعبد الله ولا نعبد غيره ولا نتخذ من دونه وليا ولا نصيرا ولا نسجد الا لله وحده لا شريك له ونقر بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وقد أمرنا أن نجاهد من كفر بالله واتخذ مع الله شريكا جل ربنا وعلا وهو واحد لا تأخذه
277

سنة ولا نوم فمن اتبعنا كان من اخواننا وله ما لنا وعليه ما علينا ومن أبى الاسلام فالجزية يؤديها عن يد وهو صاغر فمن أداها حقن الله دمه وماله ومن أبى الاسلام والجزية فالسيف حكم بيننا وبينه والله خير الحاكمين وهي على كل محتلم في العام دينار وليس على من يبلغ الحلم جزية ولا على امرأة ولا على راهب منقطع في صومعته فقال البطليوس لقد فهمت قولك عن الاسلام فما قولك عن الجزية عن يد وهو صاغر فاني لا أدري ما الصغار عندكم فقال المغيرة رضي الله عنه وأنت قائم والسيف على رأسك فلما سمع البطريق كلام المغيرة غضب غضبا شديدا ووثب قائما ووثب المغيرة من موضعه وانتضى سيفه من غمده وكذلك فعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كفعله وهم يقولون لا إله إلا الله محمد رسول الله
قال الراوي حدثنا مسلم بن عبد الحميد عن طارق بن هلال عن عبد الله بن رافع قال كنا مع المغيرة وجذبنا السيوف ووثبنا على القوم وأخذتنا غيرة الاسلام وما في أعيننا من جيوش البطليوس شيء وعلمنا ان المحشر من ذلك الموضع فلما رأى البطليوس منا ذلك وتبين له الموت من شفار سيوفنا نادى مهلا يا مغيرة لا تعجل فنهلك وأنا أعلم انك رسول والرسول لا يقتل وانما تكلمت بما تكلمت لاختبركم وأنظر ما عندكم والآن لا نؤاخذكم فاغمدوا سيوفكم قال فأغمدنا سيوفنا وتقدم المغيرة حتى صار في مكان البطليوس وزحزحه إلى آخر السرير وكان المغيرة رجلا جسيما فاتكأ عليه حتى كاد أن يخلع فخذه من موضعه قال ثم التفت إلى المغيرة وقال ما قولكم في المسيح بن مريم قال المغيرة عبد الله ورسوله قال فمن أي شيء خلق قال خلقه الله من تراب ثم قال له كن فكان ودل على ذلك القرآن العظيم قال عز وجل * (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) * قال فما الدليل على أن الله واحد فقال المغيرة القرآن العظيم قوله تعالى على لسان نبيه قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد فقال له البطليوس ما رأيت مثل حذقك وجوابك يا أعور وكان المغيرة رضي الله عنه أصيب في احدى عينيه يوم اليرموك فقال له المغيرة ان ذلك لا يعيبني ولقد أصيبت عيني في الجهاد في سبيل الله من كلب مثلك وأخذت بثأري من الذي فعل بي ذلك فقتلته وقتلت جملة منهم والثواب من الله عز وجل أعظم من ذلك فقال البطليوس ما أحذق جوابك فهل في قومك مثلك قال قد قلت لك فينا أهل العلم والرأي ومن لا أساوي في علمهم شيئا وأنا رجل بدوي فلو رأيت علي بن أبي طالب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم المختار مقاتل الكفار ومبيد الفجار والليث الكرار
278

والبطل المغوار قال أهو معكم في هذا الجيش فقد سمعت بشجاعته وبراعته وأريد أن أنظر اليه
فقال له المغيرة قاتلك الله ان الامام عليا كرم الله وجهه أعظم قدرا من أن يسير إلى مثلك قال فهل أحد غيره قال نعم مثل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه هو خليفتنا وعثمان بن عفان وعبد الرحمن وسعيد وسعد وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم وأمراء متفرقين في الحجاز واليمن والشام والعراق ومصر كل أمير يقوم
بألف مثلك في الشجاعة والبراعة وغير ذلك وأما سيف الله الأمير خالد بن الوليد أمير هذا الجيش ومعه عصابة من الامراء فكأنك به وقد أقبل علينا برجال سادات شداد وأمراء أمجاد فقال له عند ذلك اني أريد أن أصلح الامر بيني وبينكم وأريد قبل الحرب أن انظر إلى جماعة ممن ذكرت
قال الراوي وكان عدو الله أراد أن يغدر بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ففهم المغيرة منه ذلك فقال غداة غد آتيك منهم برجال تنظر إليهم قال ففرح عدو الله وأضمر المكر لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورد الله كيده في نحره
قال الراوي ثم وثب المغيرة وأصحابه وخرجوا من عند البطليوس وما صدقوا بالنجاة وركبوا خيولهم وأمر البطليوس حجابه ونوابه أن يسيروا معهم إلى قريب من عسكرهم قال ووصل المغيرة وأصحابه إلى الأمير عياض بن غانم الأشعري وحدثه بما جرى له مع البطليوس فقال عياض وحق صاحب الروضة والمنبر ما ترككم الا خوفا من سيوفكم وهذا رجل حكيم الا ان الشيطان قد غلب على عقله
قال الراوي ولم يناموا تلك الليلة الا وقد أخذوا أهبتهم للحرب واستعدوا فلما أصبح الصباح أذن المؤذنون في عسكر المسلمين فأسبغوا الوضوء وصلوا الصبح ثم ركبوا خيولهم وقد علموا أن العدو مصبحهم وقد عبوا صفوفهم وكانت الجواسيس من العرب يدخلون في عسكرهم وينقلون الاخبار ووصلت جواسيس عياض بن غانم اليه وأعلموه بذلك وان الروم متأهبون للقتال فرتب جيشه ميمنة وميسرة فجعل في الميمنة الفضل بن العباس وجعل في الميسرة أبا أيوب الأنصاري وجعل في القلب القعقاع بن عمرو التميمي
قال حدثنا قيس بن عبد الله قال حدثنا مالك بن رفاعة عن سعيد بن عمرو الغنوي قال حضر أرض البهنسا عشرة آلاف عين رأت النبي صلى الله عليه وسلم وفيهم سبعون بدريا والامراء وأصحاب الرايات نحو ألف وأربعمائة ودفن بأرض البهنسا من الصحابة والسادات نحو خمسة آلاف وسيأتي ذكر
279

ذلك إن شاء الله تعالى
قال الراوي وكان على الرجالة معاذ بن جبل وعلى الساقة والنسوان والصبيان سعد بن عبد القادر والضحاك بن قيس قال وصار الأمير عياض يتخلل الصفوف ويقول الله الله الجنة تحت ظلال السيوف يا أهل الاسلام اعلموا أن الصبر مقرون بالفرج وان الله مع الصابرين والصابرون هم الغالبون وان الفشل سبب من أسباب الخذلان فمن صبر على حد السيف فإذا قدم على الله أكرم منزلته وشكر سعيه والله يحب الصابرين وصار يقول ذلك لأصحاب الرايات قال وما فرغ الأمير عياض من تعبية الصفوف الا وعساكر البطليوس والروم قد أقبلت ومعهم النصارى والفلاحون والعرب المتنصرة وأمامهم صليب من الذهب الأحمر زنته خمسة أرطال وفي أربعة جوانبه أربع جواهر كالكواكب
قال حدثني سنان بن الحرث الهمداني عن شداد بن أوس وكان ممن حضر الفتوح إلى آخرها قال وأقبلت الصلبان وأنا أعدها صليبا بعد صليب حتى عددت ثمانين صليبا تحت كل صليب ألف ومعهم القسوس والرهبان وهم يتلون الإنجيل وأكثر أعداء الله في عسكرهم من الرايات والاعلام فبينما الناس كذلك إذ اقبل بطريق وعليه درع مذهب ولامة حرب وهو يرطن بلغته وطلب البراز فبرز اليه القعقاع وتعاركا وتجاولا ثم طعنه القعقاع في صدره فأطلع السنان يلمع من ظهره فخرج علج آخر وقد غضب لقتل صاحبه وكان من أصحاب الجلوس على السرير مع الملك وطلب البراز فبرز اليه رجل من الأزد فمنعه الأمير عياض من ذلك وقال اذهب فلست كفؤا له قال فبرز اليه المسيب بن نجيبة الفزاري وضربه فتلقاها العلج بحجفته فطار السيف من يده وضرب العلج المسيب فضيعها ونظر أن أحدا يناوله سيفا فلم يجد فأراد الرجوع وإذا بالقعقاع بن عمرو أقبل وبيده سيف فناوله إياه فكر راجعا وضرب البطريق على عاتقه الأيمن فأطلع السنان من عاتقه الأيسر فانجدل صريعا يخور في دمه وعجل الله بروحه إلى النار وبئس القرار فلما رأت الروم ذلك حملوا على المسلمين حملة واحدة واشتد القتال وعظم النزال وعدو الله البطليوس راكب على جواد أهداه له صاحب صقلية والبربر يساوي خمسمائة دينار وكان أيام الحصار يصعد به ويرمح على أسوار المدينة وسيأتي ذكر ذلك إن شاء الله تعالى في موضعه وعلى بدنه درع مذهب وفي وسطه منطقة من الجوهر وعلى رأسه تاج تلمع جواهره كالكواكب والصلبان والاعلام مشتبكة على رأسه وقد حمل كردوس من الروم على ميمنة المسلمين فصبروا لهم صبر الكرام ثم حمل كردوس آخر فلله در
280

الفضل بن العباس وأخيه عبيد الله وأولاد عقيل وعبد الله بن جعفر وسادات بني هاشم لقد قاتلوا قتالا شديدا وأبلوا بلاء حسنا وتقدم الفضل إلى حامل الصليب وطعنه في صدره فأطلع السنان يلمع من ظهره وسقط الصليب منكسا إلى الأرض فنظر اليه البطليوس فأيقن بالهلاك وهم أن يأخذه فلم يجد لذلك من سبيل قال فأحاط به المسلمون وصار الفضل وسادات بني هاشم يذبون ويرجعون الروم عن الصليب ولما رأى الفضل ازدحام النصارى والروم حمل عليهم حملة منكرة وأسعفه بنو عمه بالحملة والامراء فقهروا الروم وقتلوا منهم جماعة وازدحم المسلمون على الصليب يريدون أخذه فقال لهم الفضل انه لي دونكم ثم عطف عليه ومال في ركابه وأخذ الصليب وكر راجعا إلى المسلمين وسلمه لعبد الله يسلمه لعبده مقبل وكان راكبا مع المسلمين فأخذه ومضى إلى خيمته قال وحمل الفضل بن العباس ثانيا وحملت الامراء واشتد القتال وعظم النزال وسالت الدماء وكثر العرق وازورت الحدق قال ولما رأى عدو الله البطليوس ذلك حمل على المسلمين ومعه طائفة من البطارقة نحو خمسة آلاف وكانوا على جناح الميسرة فقتلوا من المسلمين جماعة وجرحوا جماعة وصبروا لهم صبر الكرام هذا والفضل رضي الله عنه تارة يكر في الميمنة وتارة يكر في الميسرة وحمل الامراء جميعهم فلله در القعقاع بن عمرو التميمي والمسيب بن نجيبة الفزاري والبراء بن عازب ومعاذ بن جبل وزيد الخيل لقد قاتلوا قتالا شديدا حتى بقي الدم على دروعهم كقطع أكباد الإبل وتوسط المسلمون كتيبة منهم فبرز بطريق عظيم الخلقة كأنه برج فحمل عليه سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأراد أن يضربه وسطا عليه وإذا بضربة أتته من خلفه فأردته عن جواده وسقط الرمح مشتبك في أضلاعه وخشخش الرمح في عظم ظهره ثم جذب الرمح وهو ملقى على الأرض ونزل جماعة
وأخذوا سلبه قال فتأملنا من ضرب البطريق فإذا هو زياد بن أبي سفيان رضي الله عنه قال فلما رأى الروم ذلك حملوا حملة منكرة وقامت الحرب على ساق واحدة وضربت الأعناق وشخصت الأحداق وتضاربوا بالصفاح وتطاعنوا بالرماح واشتد الكفاح ورطنت الروم بلغتهم ولم يزالوا في قتال ونزال حتى غابت الشمس وافترق الجمعان وقد قتل من قتل من المسلمين نحو مائتين وخمسين ختم الله لهم بالشهادة ونالوا درجة السعادة وبات الفريقان يتحارسون والمسلمون يقرءون القرآن ويصلون على محمد أشرف ولد عدنان قال وإن المسلمين أوقدوا النيران وأتوا إلى مكان المعركة وميزوا القتلى فلما رأى الامراء ما حل بهم وبأولادهم بكوا وقالوا لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم
281

قال الراوي وقتل من المشركين نحو ألفين وخمسمائة وقتل من خيارهم وعظمائهم نحو عشرين من أرباب الدولة وحاشية الملك أصحاب السرير فلما رأى البطليوس ذلك صعب عليه وكبر لديه وجلس في سرادقه وحوله أكابر دولته من حجابه ونوابه وقدم له الطعام والشراب فامتنع عن ذلك ثم التفت إلى حجابه وبطارقته ووبخهم توبيخا عظيما وقال مثلكم لا يصلح لخدمة الملوك فما هذا الخوف والفشل الذي دخل في قلوبكم وتريدون أن تصيروا معرة عند الملوك بفعالكم هذه فقالوا أيها الملك ان هذا اليوم ما أخذنا فيه أهبتنا وما كنا نظن أن العرب فيهم هذه الشجاعة فقال وما عندكم من الرأي أترضون بالعار والذل ولا سيما وقد أخذ الصليب من أيديكم وخذلتموه فقالوا أيها الملك سوف ترى منا ما يسرك في غد نكمن لهم كمينا ونخرج لهم ونقاتلهم ويخرج عليهم الكمين ونأمر جماعة يسلسلون أنفسهم وهم الرماة كعادة الروم أن يفعلوا ونقاتلهم ولا نمكنهم من مدينتنا ولو قتلنا عن آخرنا فاستوثق الملك منهم بقولهم ثم كتب كتابا وأرسله تحت الليل إلى بطريقي طنجة وقلعة الأبراج يسألهم النجدة وكانوا بطارقة شدادا كل بطريق تحت يده عشرة آلاف بطريق من حملة السلاح فلما ورد عليهم الكتاب جهزوا النجدة والأهبة وسيأتي كر ذلك إن شاء الله تعالى
قال الراوي وأصبح المسلمون فصلوا صلاة الصبح وتبادروا إلى خيولهم فركبوها ثم صفو صفوفهم ورتبوا مواقفهم كما ذكرنا أولا وصار الأمير عياض يحرض الناس وقد جعل في مكانه المغيرة بن شعبة وعطفوا على أصحاب الرايات وقال لهم أطلقوا الأعنة وقوموا الأسنة وإذا لقيتم العدو فاحملوا حملة واحدة ولا تخافوا ولا ترهبوا وركب الامراء كاليوم الأول ولم يركبوا حتى دفنوا شهداءهم في ثيابهم ودمائهم قال فما شعرنا الا والروم قد أقبلوا علينا ورطنوا بلغتهم علينا وابتدر منهم خمسة آلاف فنزلوا عن خيولهم وأرسلوها مع غلمانهم وحفروا لهم حفائر إلى أوساطهم ووضعوا غرائر النشاب أي الصناديق بين أيديهم وأقسموا بالمسيح لا يزولون ولو قتلوا عن آخرهم وكانوا ثلاثة صفوف قال الراوي حدثنا سنان بن أبي عبيدة عن زياد عن الحرث عن عبد يغوث وكان من أصحاب الرايات قال بينما نحن نتأهب للحرب وللحملة إذا بالروم قد حملوا علينا حملة واحدة وحملت ميمنتنا واختلط القلب بالقلب ورمت المسلسلة بنشابها فكان يخرج منهم عشرة آلاف سهم كأنها تخرج من كبد قوس واحدة كالجراد المنتشر أو السيل المنحدر فجرحت رجالا وقتلت أبطالا وولت خيل العرب نافرة وصبرت جماعة من الامراء وحمل الفضل بن
282

العباس وأخوه وسادات بني هاشم وكذلك زياد بن أبي سفيان والمغيرة بن شعبة والمسيب بن نجيبة الفزاري وجميع الامراء واقتتل الفريقان قتالا شديدا وفشا القتل في المسلمين وثبت القوم لقتال العرب وعدو الله البطليوس تارة يكر في الميمنة وتارة يكون في الميسرة وتارة في القلب وحوله كتائب المشركين
قال الراوي فصبرنا صبر الكرام ووطنا أنفسنا على الموت والامراء يحرضون على القتال وقد قتل من الفريقين طائفة الا أن القتل لم يبن في المشركين لكثرتهم ولم نظن أن القوم لهم كمين إذ خرج للقوم كمين من خلفنا والمسلسلة من بين أيدينا وأحاطوا بنا وصرنا بينهم كالشامة البيضاء في جلد البعير الأسود وقتل جماعة من السادة والامراء وأخلاط الناس فلله در سادات بني هاشم وأبان بن عثمان بن عفان فلقد قاتل أصحاب الرايات براياتها وقاتل عدو الله في القلب وأنكى في المسلمين وقتل رجالا وجندل أبطالا وكلما طلبه فارس من المسلمين لم يجده الا وهو قد صار في وسط الروم قال فعندها تقدم القعقاع والمسيب بن نجيبة الفزاري وقالا قربوا الجمال في وجوه القوم يا وجوه العرب فاستاقوا الإبل وجعلوها بين أيديهم تلقى النشاب وحملوا على المسلسلة وداسوهم بالإبل وسنابك الخيل وأقبلت الرجال والرماة يقتلونهم حتى قتلوا منهم مقتلة عظيمة هذا والروم على حالهم فلما رأى عدو الله ما حل بقومه من فعل المسلمين بهم ازدادوا طغيانا ولم يزالوا كذلك حتى غابت الشمس ثم أنزل الله نصره على المسلمين فتظاهروا عليهم وتقدم جعفر بن عقيل إلى كتيبة من الروم وغاص في أوساطهم وطعن البطريق المقدم عليهم فقتله فتكاثرت الروم عليه فقتلوه وكذلك فعل أخوه علي فقتل منهم جماعة فقتلوه وكذلك زيد بن زياد فقتل منهم جماعة فقتلوه وعظم النزال واشتد القتال وألجئوهم إلى ورائهم فلما رأت الامراء والسادات وبنو هاشم ما حل بهم تواثبوا كالأسود الضارية وحملوا على الروم وألجئوهم إلى الأبواب واقتتلوا قتالا شديدا عند باب الجبل والباب البحري
قال الراوي وكانت ليلة لم تر الصحابة مثلها وقتل الصحابة رضي الله عنهم ألوفا وقتل منهم جماعة بظاهر البلد نحو خمسمائة وأزيد تظاهر المسلمون بعد ذلك عليهم وألجئوهم إلى السور واقتتلوا قتالا شديدا وعظم البلاء وعدو الله يحمي أصحابه وهم في أشد القتال وكان شعار المسلمين تلك الليلة ينادون يا محمد يا محمد يا نصر الله أنزل وقتل جماعة من المسلمين عند الأبواب وعظم النزال وكان يسمع ضرب السيوف على الدرق كالرعد وبريق السيوف كالبرق ولمعان الأسنة كالكواكب وأحدقت المسلمون بالروم وعدو الله
283

يحمي قومه تارة يكون عند باب قندوس وتارة يكون عند باب توما في جماعة من قومه حتى دخل الروم جميعهم ولم يبق الا من انقطع من قومه أو كبابه جواده ولم يزالوا كذلك حتى طلع الفجر فعلوا على الاسوار وضربوا بالنواقيس والبوقات والقرون وغلقوا الأبواب ورموا الاقفال فلما أصبح الصباح صلى المسلمون صلاة الصبح وأتوا إلى موضع المعركة وتفقدوا من قتل منهم فإذا هم خمسمائة وعشرون رجلا من باب توما إلى باب قندوس ختم الله لهم بالشهادة
قال الراوي ولما رأى المسلمون ذلك بكوا بكاء شديدا وأعظم الناس حزنا الأمير عياض لأجل من قتل تحت رايته وكان أكثر الشهداء الأعيان من قريش وبني هاشم وبني المطلب وبني نوفل وبني عبد شمس فلما رأى مسلم بن عقيل أخوته وما حل بهم ورأى الفضل بن العباس وعبد الله بن جعفر وسادات بني هاشم ما حل ببني عمهم نزلوا
عن خيولهم وعانقوا شهداءهم واسترجعوا في مصابهم فعند ذلك أنشد همام بن جرير يقول
* يا عين أبكي لا تملي البكى
* سحى دموعا مثل سكب الغمام
* وابكي على السادات من هاشم
* وعصبة المختار خير الأنام
* نوحي على الليث ابن عم النبي
* هو جعفر المشكور ليث همام
* وابكي على الشهداء لا تغفلي
* ما لاح برق أو تغنى حمام
* فلا لقي البطليوس خيرا ولا
* أجناده أهل الصليب اللئام
* لنأخذن الثار يا قومنا
* بطعن خطى وحد الحسام
* قال ووارى المسلمون شهداءهم ثم إن الأمير عياضا فرق الامراء على الأبواب فنزل السادات من بني هاشم وغيرهم مثل زياد بن أبي سفيان والوليد وأخيه محمد وأسامة بن زيد وأبي أيوب الأنصاري وفضالة بن عبيد وأوس بن حذيفة وعمرو بن حصين ورافع بن خديج وأبي دجانة وجابر ابن عبد الله وبقية الامراء قال ونزل القعقاع بن عمرو التميمي والمسيب بن نجيبة الفزاري وأمثالهم من الامراء بألفي فارس على باب الجبل والمغيرة بن شعبة وأبو لبابة والمهلب الطائي ونظراؤهم من الامراء بألفي فارس عند باب توما قال وعبى القوم آلات الحصار ورتبوها على الاسوار وأقاموا مدة شهر لا يقاتل بعضهم بعضا بل كل يوم يركب البطليوس لعنه الله جواده المتقدم ذكره ويلبس لامة حربه ويطلع بالجواد على أعلى السور وحوله المشاة من خلفه وقدامه وبأيديهم السيوف المحددة والدرق والدبابيس والاطيار المذهبة والقسي والنشاب وكان عرض السور يمشي عليه خيالان متكاتفان باللبس الكامل قال هذا ما جرى لهؤلاء وأما خالد فإنه أرسل عبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن عمر إلى الفيوم وجرى بينهم وقعات وحروب اختصرنا ذكرها خوف الإطالة فان المقصود
284

الذي عليه مدار هذا الكتاب هو فتح البهنسا وما وقع فيها والله أعلم ثم أنهم ساروا حتى اتصلوا إلى مدينة الفيوم وحاصروها أياما قلائل ثم فتحوها وفتحوا الفيوم في أقل من شهر وأخذوا الأموال والغنائم ورجعوا إلى خالد رضي الله عنه وكان مقيما بالنورية كما ذكرنا
قال هذا ما جرى لهم وأما أبو ذر الغفاري وأبو هريرة الدوسي وذو الكلاع الحميري ومالك الأشتر النخعي فإنهم لما ضربوا رقاب القوم كما ذكرنا حاصروا القلعة نحو عشرين يوما واقتتلوا قتالا شديدا قال حدثنا قيس بن مالك عن منصرو بن رافع عن أبي المنهال وكان من أصحاب مالك الأشتر قال بينما نحن نحاصر القلعة وقد تظاهروا علينا إذ نحن بغبرة وقت الفجر وكانت ليلة مقمرة فلاحت لنا خيل وقعقعة لجم فتبادرنا إلى خيولنا فركبناها واتضح النهار وبان وإذا عشرون صليبا تحت كل صليب ألف فارس وكان السبب في ذلك بطريق طحا ذات الأعمدة وبطريق قلعة ذات الأبراج وما حولهم لما بلغهم كتاب البطليوس تجهزوا بأنفسهم وجمعوا ما حولهم من الروم والنصارى وخرجوا أول الليل خوفا من العرب فما أصبحوا الا على القلعة والنيل كان في أول زيادته والمسلمون قد أخذوا المعابر والقناطر التي على البحر اليوسفي فقطعوها وساروا حتى نزلوا على القلعة وكان بلغهم حصارها فلم تشعر المسلمون الا وقد أقبلوا وهجموا عليهم وأتوا إلى نحو باب المدينة الشرقي فوجدوا الأمير زيادا وأصحابه هناك قال مالك الأشتر يا وجوه العرب اجعلوا البحر خلف ظهوركم وقاتلوا أعداءكم واستعينوا بخالقكم هذا والروم صاحوا وطمطموا بلغتهم ورطنوا من أعلى السور وكذلك أهل القلعة دقوا الطبول وضربوا بالنواقيس فلم يزالوا على المسلمين متقابلين وجاءت كتيبة من الروم إلى جانب البحر كما ذكرنا نحو ثلاثة آلاف وكان الأمير زياد رضي الله عنه في نحو مائتين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فحملوا عليهم وصبروا لهم صبر الكرام وقتل الأمير زياد رحمه الله تعالى وقتل معه جماعة من المسلمين ختم الله لهم بالشهادة وركب بقية المسلمين وقاتلوا قتالا شديدا وصبروا لهم صبر الكرام قال الواقدي فسمع المسلمون وهم حول المدينة فأتوا إلى الجانب الشرقي فوجدوا السيوف مجذوبة والرايات مرفوعة وقد قتل جماعة من المسلمين على شاطىء البحر نحو أربعين رجلا فصاحت ما فعلوا بنا فعندها هجم القعقاع بفرسه البحر وقال بسم الله وعلى بركة رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم انك تعلم اننا أفضل من بني إسرائيل عندك وقد فرقت لهم البحر فسار ولم تبتل قوائم فرسه وانحدر إلى جانب القلعة وكانت بقرب البحر فاقتحم
285

البحر خلفه نحو من ألفي فارس إلى أن طلعوا إلى البر الشرقي واقتتلوا قتالا شديدا قال فبينما نحن في أشد القتال إذا بغبرة قد لاحت وانكشفت عن ألف فارس يقدمهم رفاعة بن زهير المحاربي وهم من أصحاب قيس بن الحرث وكانوا في بلد تسمى بردوها وكانوا صالحوا أهلها فجاءهم رجل من المعاهدين وأخبرهم بمسير أهل طحا ذات الأعمدة وصاحب قلعة الأبراج لقتال المسلمين وعلموا أن البحر حاجز بينهم وبين أصحابهم فأتوا إلى الأمير قيس بن الحرث واستأذنوه حتى وصلوا وهم في القتال كما ذكرنا فلما رأوا القوم كبروا فأجابوهم بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير ثم حملوا عليهم وقاتلوهم قتالا شديدا وكان الفضل بن العباس وزياد بن أبي سفيان ومسلم
بن عقيل في جملة من عبر إلى البر الشرقي فعندها وثب القعقاع بن عمرو التميمي على بطريق القلعة فقتله وكذلك الفضل بن العباس وثب على بطريق طحنا ذات الأعمدة فقتله وزياد بن أبي سفيان على بطريق عظيم فقتله فلما رأى الروم ذلك ولوا الادبار وركنوا إلى الفرار وهرب منهم جماعة فألجئوهم إلى البحر فغرق منهم جماعة وأسر منهم نحو من ثلاثة آلاف وأتوا بهم إلى نحو السور قريبا منه وضربوا أعناقهم والبطليوس ينظر إليهم هو وأصحابه ودفن الأمير زياد إلى جانب البحر تحت جدران القلعة ورجعت المسلمون ونصبوا الجسر بالأخشاب والأحجار تتساقط عليهم وهم لا يفكرون حتى عبروا إلى الجانب الغربي بأجمعهم واشتد الحصار وأقام المسلمون محاصرين مدينة البهنسا تسعة أشهر قال الواقدي وان المدينة كان لها باب سري تحت الأرض من تحت باب الجبل من عند تل هناك يظن من رآه انه مغارة أو حفر في الجبل وكان يخرج منه عيونه ومن يأتيه بالطعام وغيره سرا تحت ظلام الليل إلى ذلك المكان ويخرج الرجل وفرسه على يده إلى ظاهر السرب فلأجل هذا لا يعجزهم الحصار وكان إذا احتاج إلى أمر مهم يخرج من يثق به من ذلك المكان ويوقد الشمع والفوانيس ليلا ويخرج من يختار من ذلك الباب وكان الملوك القدماء ما وضعوا ذلك الباب الا لأجل الحصار وكانت عيونه تخرج وتأتيه بالاخبار وكان خالد بن الوليد رضي الله عنه لما فتح الفيوم صارت الميرة والعلوفة والأرز والعسل وغير ذلك تأتي للصحابة من الفيوم ومن الوجه البحري تأتي إليهم الميرة قال فأرسل الأمير عياض رضي الله عنه الأمير مياس ابن حام وأرسل معه مائتين من المسلمين ومعهم جمال وبغال يأتونهم بما ذكرنا وكان خالد قد أرسل يعلمهم بذلك وأنهم يرسلون إلى الفيوم ويأخذون ما يحتاجون اليه قال وسار مياس حتى وصل الفيوم وكان عليهم متكلما من قبل خالد الأمير عجرفة قال وسار مياس ومن
286

معه حتى قدموا الفيوم وأوسقوا الجمال والبغال وأرادوا الرجوع إلى أرض البهنسا حتى وصلوا إلى دير هناك في الجبل قال هذا ما جرى لهؤلاء وأما عيون البطليوس فأخبروه بذلك فاستدعى ببطريق من أصحاب السرير اسمه ميخائيل بن بطرس وكان معروفا بالشدة والبراعة وأمره أن يأخذ معه ألفا من الروم وينطلقوا إلى طريق الفيوم ويكمنوا لهم في الدير ثم يخرجوا عليهم فخرجوا من باب السرب واحدا بعد واحد في ظلام الليل وساروا حتى وصلوا إلى دير وكمنوا هناك حتى رأوا المسلمين فخرجوا عليهم فالتقى الجمعان واصطدم الفريقان وقاتلت المسلمون قتالا شديدا
قال الراوي حدثنا أبو محمد البدوي حدثنا أبو العلاء المحاربي قال شداد بن أوس وكان في خيل مياس لما التقى الجمعان وأحاطت بنا أعداء الله وظننا أن المحشر من ذلك المكان ووطنا أنفسنا على الموت وقاتل الأمير مياس بعد أن سلم الراية لولده منيع فقاتل حتى قتل ثم قاتل من بعده مازن حتى قتل ولم تكن غير ساعة حتى قتل من المسلمين نحو مائة فارس وأسروا الباقين قال وكان في القوم عبد الله بن أنيس الجهني رضي الله عنه أحد سعاة النبي صلى الله عليه وسلم فلما رأى ذلك خرج كالريح الهبوب وقام يجري وكان قد دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وعمرو بن أمية الضمري بالقوة والبركة في المشي وكانا لا تدركهما الخيل العتاق ولا النجب السوابق فسار حتى أشرف على العسكر وصاح النفير النفير أركبوا يا مسلمون قال فتواثبت الفرسان اليه وسألوه فقص عليهم القصة فتواثب المسلمون إلى خيولهم فركبوها وكل يقول أنا أمضي فعندها استدعى الأمير عياض بعبد الله بن جعفر الطيار أخي علي بن أبي طالب وضم اليه ألف فارس من الصحابة رضي الله عنهم من أهل الشدة وساروا أول الليل ومعهم رجل من المعاهدين يدلهم إلى أن قربوا من قرية هناك بسفح الجبل فكمنوا هناك إلى أن جن الليل إذ سمعوا حوافر الخيل فتواثبوا إلى خيولهم فركبوها وإذا بالروم أقبلوا عليهم والأسارى معهم موثوقون بالحبال على ظهور خيولهم وكانت ليلة مقمرة فصاحت المسلمون بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير وحمل القوم واقتتلوا قتالا شديدا فعندها صاح عبد الله بن جعفر رضي الله عنه يا قوم أيعجز أحدكم عن خصمه قال فتواثب الامراء والسادات رضي الله عنهم يقتلون ويأسرون وبادر عبد الله بن جعفر إلى مقدم الجيش لعنة الله وكان عليه درع مصفح فطعنه في صدره طعنة قرشية هاشمية فأطلع السنان يلمع من ظهره وعجل الله بروحه إلى النار وبئس القرار فلما رأى الروم ذلك انهزموا وتبعهم المسلمون يقتلون وياسرون وينهبون فما أصبح الصباح حتى قتل منهم نحو خمسمائة
287

وأسروا الباقين وخلصوا المسلمين من الأسر وغنموا سلاح الروم وأموالهم وخيولهم وترك عبد الله بن جعفر الأسارى وخمسمائة من المسلمين عند القرية وأمرهم ان لا يبرحوا حتى يأتيهم وأمر عليهم عبد الله بن معقل وساروا حتى أتوا إلى محل المعركة ووجدوا القتلى وعندهم نصارى من المعاهدين يبكون وحلفوا لهم أن لا علم لهم بذلك فنزلوا عن خيولهم وأخرجوا لهم زادا فأكلوا وواروا شهدائهم وكر عبد الله راجعا إلى أصحابه وحملوا رؤوس القتلى ورأس عدو الله ميخائيل أمامهم وجنبوا خيولهم وأخرجوا لهم زادا فأكلوا وساقوا الأسارى حتى وصلوا إلى العسكر بالميرة والعلوفة ومعهم من العسل والسليط
قال وأعلنوا بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير وأجابتهم المسلمون إلى مثل ذلك وانقلب العسكر والروم على الاسوار ينظرون ما الخبر فرأوا تلك الرؤوس على رؤوس عدو الله ميخائيل أمامهم فصعب عليهم وكبر لديهم ولطموا على وجوههم وذهبوا إلى البطليوس وأعلموه بذلك فصعب عليه واستدعى بجواده فركبه وصعد على السور حتى أشرف على المسلمين فلما رأى ذلك عظم عليه وقال ما هؤلاء انس وانما هم جن فلما رأى المسلمون البطليوس أتوا إلى الأمير فاعلموه بذلك فركب الامراء معه حتى أتى إلى تل هناك عال مقابل باب قندوس واستدعى بالأسارى وعرض عليهم الاسلام فأبوا فضربوا رقابهم والروم ينظرون إلى ذلك فغضب عند ذلك البطليوس غضبا شديدا وحمل هما عظيما
قال الراوي ثم إن عدو الله استشار أصحابه فيما يفعل وانه يريد الخروج بنفسه والكبسة عليهم قال فنهض اليه بطريق اسمه كراكر وكان فارسا شديدا وقال أنا أيها الملك أكفيك هذا المهم وأكبس عليهم لعلي أن أنال منهم مكالا وأريد معي جماعة شدادا فقال الملك خذ من شئت فانتدب معه عشرة بطارقة تحت يد كل بطريق ألف وجاءوا إلى كنيستهم وفتحوا الإنجيل في وجوههم وساروا إلى أن وصلوا إلى الأبواب والبطليوس يحرضهم ويوصيهم بالهجمة عليهم ما داموا على غفلة ثم أمر الحراس بفتح الباب لهم وهو باب قندوس وكانوا ألف فارس بوابين على الباب وكان للباب ثلاثة أبراج بين كل برجين باب وشراريف وخرجوا وهم مستعدون لذلك والمسلمون على غفلة مما دبر
القوم لا يدرون ما يرادبهم وكان على حرس المسلمين تلك الليلة من جهة باب قندوس زائد بن ثابت وعبيد الله بن عباس وعبد الله بن معقل والبر اء بن عازب ومالك الأشتر وذو الكلاع الحميري
قال الراوي حدثنا عوف بن سعد عن سعيد بن طارق الثقفي عن
288

أبي يزيد عن مالك الأشتر قال بينما نحن نسهر تلك الليلة والمسلمون قد هجموا في مراقدهم من شدة البرد وكثرة السهر ووضعوا أسحلتهم ومنهم من له ورد يقرؤه ومنهم من يصلي إذ رأينا فتح الباب وخرجوا كالسلاهب وبأيديهم الفوانيس ومشاعل النار وحملوا على الجيش فتبادرنا إليهم وصحنا النفير دهينا يا مسلمون ثوروا فقد غدركم القوم فلما سمع المسلمون الصياح تبادروا وثاروا من مضاجعهم كالأسود الضارية هذا يأخذ سيفه وهذا يأخذ رمحه وهذا عاري الجسد لم يمهل حتى يلبس ثيابه وهذا يشد وسطه بمئزره وهذا عليه قميص واحد وثاروا في صدور الرجال هذا وعدو الله قد عطف على جماعة من المسلمين قبل ان ينتهوا ووضع السيف في عراضهم فما أفاق بعض القوم الا والسيف قد أطاح رأس هذا وقطع زند هذا وطعن نحر هذا وهكذا وكثر الصياح وعظم البلاء وكثر القتال وعدو الله كراكر عليه ديباجة حمراء مقصبة بالذهب تلمع من فوق الدروع وعلى رأسه بيضة عليها جوهرة تضيء كالكواكب وهو يهدر كالجمل الهائج وهو يرطن بلغته وخلفه جماعة والذين على الاسوار يصيحون ويزعقون بشعارهم ويضربون بقرونهم وبوقاتهم وطبولهم وأوقدوا مشاعلهم من أعلى السور حتى بقي مثل النهار هذا وقد ثارت الامراء أصحاب النجدة وذوو المروءات واعتقلوا بسيوفهم وركبوا خيولهم فمنهم من ركب جواده عريانا ومنهم من ركب بسرج بعير لجام ومنهم من أسرع ماشيا فلله در الفضل بن العباس وابن عمه الفضل أبن أبي لهب وعبد الله بن جعفر وزياد بن أبي سفيان والقعقاع بن عمرو والمسيب بن نجيبة الفزاري والمغيرة ومسلم وأبي ذر الغفاري وأبي دجانة وأبي أمامة وغفار بن عقبة وأبي زير العقيلي ومثل هؤلاء السادات رضي الله عنهم لقد قاتلوا قتالا شديدا وأبلوا بلاء عظيما وطعن جماعة من المسلمين وجرح جماعة من المسلمين وأما الذين هاجموهم في أول الوقعة فقتل منهم جماعة نحو المائتين وثمانين رجلا واقتتل الناس قتالا شديدا وأقبل الفضل بن العباس إلى البطريق كراكر لعنة الله وضربة بالسيف على عاتقه الأيمن فأطلع السنان يلمع من عاتقه الأيسر فوقع يخور في دمه وعجل الله بروحه إلى النار وبئس القرار وأتبعه بالجملة ابن عمه عبد الله ابن حجفر فقتل بطريقا آخر ولم تكن الا ساعة وقد جاءتهم بقية الامراء من على أبوابهم وتركوا مكانهم من يثقون به وساروا إلى أن وصلوا إليهم وحملوا عليهم حملة منكرة وقتلوا منهم مقتلة عظيمة نحو من ثلاثة آلاف من الروم والنصارى فلما رأى الروم ذلك فروا نحو الباب وتبعهم المسلمون إلى الباب فخرج كردوس عظيم الروم وحموا المنهزمين
289

وأسر المسلمون من الروم نحو ألف ومائتين وخمسين واتوا إلى مكان المعركة يتفقدون من قتل منهم فإذا هم أربعمائة وخمسة وثلاثون رجلا ختم الله لهم بالشهادة فلما رأى المسلمون ذلك شق عليهم وكبر لديهم وأسرعوا تحت الليل وجمعوا الشهداء ودفنوهم في ثيابهم ودمائهم في مكان يعرف بالبطحى عند مجرى الحصى ومنقع السيل فدفنوهم هناك كل اثنين وكل ثلاثة وكل أربعة وكل خمسة في قبر وقدموا أهل السابقة وأصحاب القرآن وكان يعرف ذلك المكان بقبور الشهداء الأخيار والدعاء هناك مستجاب مجرب مرارا وتحط هناك الأوزار لمن يكثر من الدعاء والتطوع والاستغفار
قال الواقدي ما حدثت في هذا الكتاب الا على قاعدة الصدق وأذكر ما وقع من الأمور وحدث عن أصحاب التواريخ وثقات المحدثين من أصحاب السير ومن سماع كلامه كالدر فهذا كالعقد النفيس في السلوك والتأسيس لا يليق سماعه الا لذوي البصائر والعلماء والملوك فإنه نزهة الناظر ويشرح الخاطر لم يجمع أحد مثله من أهل السير لما فيه من الأمثال والعجائب والأخبار الصحيحة المنقولة عن ثقات المحدثين يتلذذ بذلك المستمعون ولنرجع إلى سياق الحديث قال الواقدي حدثنا عبد الله بن عبد الواحد القاري عن أبي سراقة بن نوفل الخزرجي عن أبي لبابة بن المنذر وكان من أصحاب الرايات قال ولما وارينا الشهداء ورجعنا إلى خيامنا وعدو الله البطليوس قد أغلق الباب وألقى الاقفال وعلوا على الاسوار قال ولما رجع المنهزمون إلى البطليوس صعب عليه وكبر لديه وأظلمت الدنيا في وجهه وحمل هما عظيما على من قتل من بطارقته وجماعته ونوى المكايد والمصائب للمسلمين
قال الراوي هذا ما جرى لهؤلاء وأما الصحابة رضي الله عنهم فإنهم اجتمعوا عند الأمير وتذاكروا ما حصل للمسلمين من البطليوس لعنه الله واتفق رأيهم أن يرسلوا إلى الأمير خالد بن الوليد رضي الله عنه ويسألوه أن يسير إليهم بنفسه وبمن معه وكتب كتابا يقول فيه بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عياض بن غانم إلى الأمير خالد بن الوليد اعلم أيها الأمير أننا فتحنا الشام والعراق واليمن والحجاز ولم نجد في الترك والروم والفرس والديلم ألعن من هذا الملعون بطريق البهنسا البطليوس ولا أكثر منه خداعا ولا مكرا ولا حيلة وانها مدينة آهلة بالخيل حصينة بالرجال وقد خدعونا مرارا وقد قتلوا منا رجالا فأنجدنا بنفسك وبمن معك من المسلمين والسلام ورحمة الله وبركاته عليكم وطوى الكتاب وسلمه إلى عبد الله بن المنذر فأخذه وأتى به إلى الأمير خالد فوجده نازلا على النورية فسلم عليه ودفع له الكتاب فلما
290

قراه وفهم ما فيه استرجع وقال لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم ثم التفت إلى عبد الله وقال قل للأمير عياض ان الأمير خالدا قادم عليك برجال وأي رجال والسلام عليك وعلى من معك من المسلمين من المهاجرين والأنصار فرجع عبد الله ثاني يوم إلى البهنسا ورد الكتاب إلى الأمير عياض بن غانم
قال ثم استدعى الأمير خالد بأبي عبد الله الزبير وضم اليه ثلاثمائة فارس وأمرهم بالمسير إلى أرض البهنسا وقال لهم إذا وصلتم إلى أرض البهنسا فأعلنوا بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير فسار الزبير رضي الله عنه فلما بعدوا دعا بالمقداد ابن الأسود وضرار ابن الأزور ودفع لهما مائتي فارس وأمرهما أن يسيرا على أثرهما وقال لهما لا تزالا حتى يدخل الزبير وابنه ثم بعبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن عمر رضي الله عنه وضم اليهما مائتي فارس وأمرهما بالمسير على أثر المقداد ثم استدعى بسعيد بن زياد بن عمر بن نوفل خال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعقبة بن عامر الفهري ودفع لهما مائتي فارس وأمرهما أن يسيرا وبات الأمير خالد تلك الليلة ولما أصبح صلى وسار معه بقية الامراء من المهاجرين والأنصار الأخيار رضي الله عنهم
قال الراوي وسار الزبير رضي الله عنه بمن معه حتى أشرف على البهنسا فكبر وكبر معه المسلمون وأنشد يقول
* أتيناكم على خيل عتاق
* شبيه الريح يوم الاستباق
* عليها كل صنديد همام
* شديد البأس يوم الحرب راقي
* نذل حماتكم بالسمر لما
* نجول بها مع البيض الرقاق
* ونقتل كل ملعون وباغ
* على الاسلام من أهل النفاق
* ونحن حماة الدين الله حقا
* نقر بأن رب العرش باقي
* وأن محمدا خير البرايا
* رسول الله للعلياء راقي
* قال وأشرفت الروم على أبواب المدينة ينظرون إليهم فما لبثوا غير قليل حتى أشرف عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وعبد الله بن عمرو رضي الله عنه وكبر وكبرت المسلمون قال ثم أنشد يقول
* أنا الفارس المشهور للحرب في الوغى
* أذل بسيفي كل باغ ومعتدي
* وأحمل في الابطال حملة من له
* إلى الغاية القصوى أعاظم مقصدى
* أنا ابن أبي بكر الذي شاع ذكره
* خليفة خير المرسلين محمد
* فياويل من عالي حسامي رأسه
* ويا ويل من عاجلته بمهند
*
قال الراوي ثم أشرف من بعده عبد الله بن عمر وكبر وكبرت المسلمون لتكبيره ثم أنشد يقول
* أتينا على خيل عتاق وضمر
* بكل يمان ذي حداد وأسمر
*
291

* بكف شجاع باع الله نفسه
* يرى الموت في الهيجاء أفخر مفخر
* نذلكم بالسيف في الحرب والقنا
* ونقتل منكم كل باغ ومفترى
* قال الراوي ولم يزل كل أمير ينزل بجماعته حتى تكاملوا وتأخر الأمير خالد وبقية الامراء الذي معه ولما بات أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصبحوا قال ضرار بن الأزور والامراء للأمير غانم أظنكم أنتم المحاصرون وأعداؤكم في أكل وشرب فما هذا القعود ثم رجعوا للأبواب وضرار ينشد ويقول
* سأضرب في العلوج بكل عضب
* شديد الباس ذي حد صقيل
* وأضرم في علو الباب نارا
* وأرمي القوم بالخطب الجليل
* وأترك دارهم منهم خرابا
* ولم أمهل بذي شبح كفيل
* فويل ثم ويل ثم ويل
* لهم مني بمشتد العويل
* سأقتل كل باغ كان منهم
* بحد السيف والباع الطويل
* قال ولم يزل يترنم بهذه الأبيات وتراموا بالسهام والمقاليع واقتتلوا قتالا شديدا فاشتدت حمية عتيد الروم وجمع الملعون البطارقة من ذوي الشدة والبأس وكان هو فارسا شديدا وبطلا كما ذكرنا وفتح باب الجبل وخرج منه كأنه شعلة نار على جرائد الخيل والرماة بين يديه يرمون بالنشاب والمجانيق من أعلى الأبراج واقتتلوا قتالا شديدا وجرح من المسلمين جماعة وكانت مقتلة عظيمة وبقية الامراء لا يعلمون وأنكى من المسلمين جماعة قال فعندها ضجت الامراء أصحاب الرايات وأقبل علج عظيم من البطارقة وطلب البراز فبرز اليه المغيرة بن شعبة فحمل عليه البطريق واقتتلا قتالا شديدا فضربه المغيرة بالسيف فطاح من يده وبادر عدو الله إلى المغيرة ليضربه وإذا بفارس قد أقبل بيده سيف مجذوب فلوح به إلى المغيرة وإذا هو عبد الرحمن ابن أبي بكر فأخذه المغيرة وضرب به البطريق فحاد عنها وقرب من المغيرة وتجاذبا وكلما أراد المغيرة أن يسطو على العلج يمانع عن نفسه ونظر ضرار بن الأزور إلى ذلك فترجل عن جواده وسعى بين الصفوف حتى قرب من البطريق وضربه في حزامه فقطعه فسقط عدو الله وهو جاذب المغيرة إلى الأرض فعندها تكاثرت الروم على ضرار والمغيرة فأرادوا قتلهما وإذ بثلاثة فوارس قد أقبلوا واخترقوا الصفوف أحدهم عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق والثاني عبد الله ابن عمر بن الخطاب والثالث المقداد ابن الأسود الكندي رضي الله عنهم فأزالوهم عن مراكزهم وقتلوا ثلاثة من الروم وفرقوا الكتائب عنهم وضرب ضرار البطريق فقتله قال ومال عبد الرحمن ابن أبي بكر وركب ضرار جوادا من خيل المقتولين وأخذوا الاسلاب هذا
292

وعدو الله البطليوس لعنة الله تارة يكر في الميمنة وتارة يكر في الميسرة وطلب البراز
فبرز اليه المقداد بن الأسود الكندي رضي الله عنه وتعاركا وتجاولا وتطاعنا قال المقداد ابن الأسود قاتلت ملوكا وفتحت قلاعا ولاقيت حروبا في الجاهلية والاسلام فلم أر أخدع من البطليوس ولا أشد بأسا ولا أصعب مراسا منه فتقاتلا حتى كل الجوادان والتفت إلي وقال ما أجرأ فرسك كيف تقاتل عليك وهو بثلاث أرجل قال المقداد فمن شفقتي على جوادي طأطأت رأسي لانظر إلى قوائمه فضربني بالسيف ضربة قوية فقطعت الخودة والرفادة وأثرت قليلا في رأسي فظن الملعون أن خصمه قد قتل فلوى عنان فرسه فاستيقظ المقداد وتبعه فساق جواده المتقدم ذكره وأحاط به أصحابه قال فبينما الناس في أشد القتال إذ أقبل الأمير خالد بن الوليد رضي الله عنه ومعه الامراء المتقدم ذكرهم وأعلنوا بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير وفي أوائل القوم خالد وهو ينشد ويقول
* رعى الله صبا للقا جاء يسرع
* وصبا على الفرسان بالرمح يقرع
* ومن باع لله المهيمن نفسه
* وكان إلى الهيجا بالامر أطوع
* فويلك يا بطليوس من سيف خالد
* إذا اشتدت الهيجاء والحرب يرفع
* فلا رحم الرحمن بطليوس كافرا
* ويلعنه كل الملائك أجمع
* فان قدر المولى سأخرب داره
* وأتركها من بعده وهي بلقع
* بحد يماني إذا ما جذبته
* تذل له كل العداة وتخضع
*
قال الراوي ثم إن خالدا رضي الله عنه حمل بمن معه واقتتلوا قتالا شديدا وقاتل البطليوس لعنة الله قتالا شديدا وقتل رجالا وجندل ابطالا فعندها حملت الامراء وأصحاب الرايت وذو المروءات واقتتلوا بين الجبل والباب قريب التل الأحمر قتالا شديدا وعطف خالد على البطليوس وصال عليه وكلما مر إلى الميسرة يراوغه إلى الميمنة ومن الميمنة إلى الميسرة فعندها عطف خالد عليه وحازه بين الصفوف وحمل عليه فعندها فر إلى القلب وأحاط به أصحابه وقومه ووضعت الامراء السيوف فيهم وتبعه الأمير خالد وساق جواده إلى الباب واقتحمه وتبعه قومه وانهموا إلى الباب ودخلوه وتبعهم المسلمون واقتتلوا عند الباب وقتل من الروم نحو أربعة آلاف ودخلوا الباب وأغلقوه وأوثقوه بالاقفال وعلوا على الاسوار وأسر المسلمون نحو ألف وخمسمائة فعرضوهم على الأمير خالد وكان فيهم من كبار البطارقة فعرض عليهم الاسلام فامتنعوا فأمر بضرب رقابهم وافتقد المسلمون أصحابهم فإذا قد قتل منهم مائتان وثمانون رجلا ختم الله لهم بالشهادة
293

قال الواقدي هذا ما جرى لهؤلاء وأما عدو الله البطليوس فإنه حمل هما وحصل له مالا ينبغي شرحه وأمر بجمع البطارقة فلما اجتمعوا شكا لهم أمر العرب وما لقوا من الحرب وقال فما الرأي عندكم فقالوا كلنا بين يديك فإذا أمرتنا بالقتال قاتلنا على سور بلدنا قال سأدبر لكم أمرا وهو تدبير من خاض الحروب وعرفها ثم أمر باجتماع الناس خاصتهم وعامتهم فاجتمعوا اليه الا من بقي على الأبواب خوفا من المسلمين فلما تكاملوا واجتمعوا قال أني عزمت أن أهجم على القوم في هذه الليلة وأكبسهم في أماكنهم والليل مدلهم وأنتم أعرف بمسالك البلد من غيركم فلا يبقى منكم أحد ويتأهب ويخرج معي من بابه ونكبس القوم وأخرج أنا بنفسي ومن معي من باب توما وأرجو وصولي إلى مسرتي والا أموت بحسرتي وأبيدهم أولا بأول لعلي أن أصل إلى أميرهم فآخذه أسيرا وأبلغ مقصدي قالوا حبا وكرامة ثم بعث فرقة إلى باب الجبل وفرقة إلى باب قندوس وفرقة إلى الباب الشرقي وانتدب معه سادات قومه ومن عرف بالشجاعة وأخذهم معه ثم أقبل على القوم قبل انصرافهم وقال سآمر صاحب الناقوس أن يخفق لكم الناقوس خفقة عند خروجي من الباب فتخرجون جميعا فامتثلوا ما أمرهم به وقاموا ينتظرون الإشارة واما صاحب الناقوس فاحتمله وصعد به على السور أي البرج وفعل ما أمره به البطليوس فخرج القوم كالسلاهب وخرج البطليوس في عشرين ألف فارس من الشجعان وهو يوصيهم وقال أسرعوا في مشيكم فإذا وصلتم إلى القوم فاحملوا عليهم ومكنوا السيوف والخناجر من رقابهم ومن صاح الأمان فلا تبقوا عليه الا أن يكون أمير القوم ومن أبصر منكم الصليب الذي أخذ منا فليأخذه ومن أتى به أكرمته
ثم أمر صاحب الناقوس أن يضربه فضربه ضربة سمعها أهل الأبواب ففتح البوابون وتبادروا للخروج وخرج اللعين وسمع المسلمون الصوت فبادروا من أماكنهم مسرعين يخفر بعضهم بعضا وهم على يقظة وتبادروا كالأسود الضارية المشتاقة إلى فرائسها فلم تصل القوم إليهم الا وهم على حذر الا أنهم غير مرتبين فتجاول القوم في ظلام الليل وسمع الأمير خالد ذلك منهم فصاح وا غوثاه وا محمداه واسلاماه كيد قومي ورب الكعبة اللهم انظر إليهم بعينك التي لا تنام وانصرهم على عدوهم ولا تسلمهم إلى شر خلقك ثم سار خالد وهو مكشوف الرأس بلا خوذة وألهته الزعقة عن لبس السلاح وسار إلى قومه وهو ينشد ويقول
* فاض دمعي واعتراني حزني
* ضاق صدري وبراني شجني
* رب سلم من نزول المحن
* وانصر الاسلام يا ذا المنن
*
294

* بالنبي الهاشمي العدني
* أحمد المختار طه المداني
*
قال الراوي ثم وصل إلى باب توما ومعه خمسمائة من السادات وأصحاب النجدة مثل الفضل بن العباس والفضل بن أبي لهب وزياد بن أبي سفيان بن الحرث وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب والمقداد بن الأسود وزيد بن ثابت وعبد الله بن زيد ومسلم بن عقيل وأبي ذر الغفاري وعبادة بن الصامت وبحر بن مسلم وعقبة بن نافع والمغيرة بن شعبة والمسيب بن نجيبة الفزاري رضي الله عنهم وعلت أصوات المسلمين بالتهليل والتكبير والقوم من أعلى الاسوار قد رطنوا بلغتهم وتصارخوا عندما استيقظ المسلمون وحمل خالد على القوم ونادى يا مسلمون أتاكم الغوث من رب العالمين أنا الفارس الصنديد والبطل المجيد أنا خالد بن الوليد ثم حمل في وسط الروم بمن معه فقتل رجالا وجندل أبطالا وهو مع ذلك مشتغل القلب بالأمير عياض وبقية الامراء الذين على الأبواب وهو يسمع صراخهم وزعقاتهم
قال الواقدي حدثنا عبد الله بن عون قال حدثنا جابر بن سنان عن عقبة بن عامر قال كان الروم والنصارى من أعلى السور يرمون بالحجارة والسهام ولقيت المسلمون من عدو الله البطليوس أمرا عظيما لم يروا قبله مثله وكان أول من وصل إليهم البطليوس لعنه الله فصبرت له المسلمون صبر الكرام وقاتل عدو الله البطليوس قتالا شديدا وقال أروني الذي أخذ صليبي بالأمس فلما سمع الفضل بن العباس صوته قصد جهته وقال ها أنا صاحبك وغريمك أنا مبيد جمعكم وآخذ صليبكم أنا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعطف عليه البطليوس عطفة الأسد على فريسته وقال إياك طلبت ثم انفرد له وصادمه فلم تر الناس في طول الأيام ضربا كضربهما في تلك الليلة ورأى الفضل منه شيئا لم يره في طول عمره ولم يزالا كذلك إلى أن مضى من الليل شطرة وكل قرم مع قرمه ولم يزالا في كر وفر وضرب ورد لم ير أحد مثله وصبر له الفضل صبر الكرام ولاح له من عدو الله ضربة فتلقاها في حجفته قانقطع سيف الفضل وطمع فيه عدو الله وظن أنه يأخذه أسيرا وإذا بفارسين قد أقبلا ومن ورائهما كتيبة من الفرسان قد هجموا على الروم وإذا بخولة بنت الأزور أخت ضرار قد حملت على فارسين من الروم فجندلتهما وهي تجندل في الابطال وفرسانهم فلحقها فارسان أحدهما عبد الرحمن بن أبي بكر والثاني عبد الله بن جعفر وتبعهما ثلاثة وهم أبان بن عثمان بن عفان فخلصوا خولة بعد أن أحاطت الروم بها وعطفوا على عدو الله البطليوس فكر راجعا في كردوس من الروم حتى دخل مدينة البهنسا وقاتلت الروم من أعلى الاسوار قتالا شديدا وكان خالد رضي الله عنه تارة يكر عند باب الجبل وتارة عند باب توما وتارة عند باب
295

قندوس وكان عياض بن غانم الأشعري عند باب الجبل في ذلك الوقت فلبس سلاحه ودنا من القوم بمن معه من الامراء مثل المقداد وضرار بن الأزور وشرحبيل ومسلم وعقيل وزياد وعبد الله بن العباس وعمرو بن أبي ذئب وعبد الرحمن ابن أبي هريرة والمسيب ولاحرث بن مسلم وزيد بن الحرث وأبي ذر الغفاري ومحمد بن مسلمة رضي الله عنه فعطفوا نحو الباب وكبروا وكبر القوم من ورائهم فخرج إليهم بطريق عظيم ومعه عشرة آلاف فارس وكان اسم البطريق يوحنا فاقتتلوا قتالا شديدا فتكاثر
الروم على عبد الله بن عبادة بن الصامت فقاتل قتالا شديدا ورمى بحجر من أعلى الباب فقتله وقتل من الامراء وفرسان المسلمين عند الباب زهاء من مائتين وقتل من الروم نحو ألف وحمل عياض والامراء والتقى القوم فصارت الأحجار والسهام تتساقط عليهم وهم لا يولون عنهم فلما ألجئوهم إلى الباب واختلطوا بهم خشيت الروم أن يصيبوا أصحابهم بسهامهم وحجارتهم فأمسكوا أيديهم وقتل من الروم مقتلة عظيمة وأما خالد فقالتل قتالا شديدا ما رؤي مثله فبينما الناس كذلك إذ أقبل ضرار بن الأزور وهو ملطخ بالدماء وهو جامد عليه كأكباد الإبل فقال له خالد ما وراءك من الاخبار يا ضرار فقال أخبرك يا أبا أبا سليمان
أني قتلت في ليلتي هذه مائة وستين رجلا وقتل قومي ما لا يعد وقد كفيتكم من خرج من باب الجبل
قال الراوي وكانت ليلة لم ير الناس مثلها وهجم الأمير عياض هو وأصحابه على من بداخل الباب واقتتلوا قتالا شديدا ووصلوا إلى ساباط الباب وكان له باب آخر فأغلق من دونهم على كردوس من الروم فقتلوا هناك وتسلق المسلمون على البرج وقتلوا من فيه وكانوا خمسمائة وقتل في تلك الليلة هناك نحو الف وأما باب قندوس فكان عليه الزبير بن العوام وعقبة بن عامر وعبد الله بن عمرو بن العاص والفضل بن أبي لهب والمغيرة وجماعة من الامراء فتواثبوا إلى الباب واقتتلوا قتالا شديدا وقتل من المسلمين نحو مائة وعشرين رجلا غير الأعيان وأما باب توما فكان عليه خالد وخرج منه البطليوس فاقتتل الفريقان وقتل من المسلمين جماعة نحو مائتين وثمانين رجلا في المكان المعروف بالمراغة وغلقوا الأبواب واستعدوا للحصار وهذا كان أول فتح
قال الواقدي حدثنا سنان بن مفرج العجلاني عن أبي محمد الشاكري عن زيد بن رافع عن أبي أمامة قال وأقام خالد بعد الوقعة على البهنسا أربعة أشهر لا يقاتلهم ولا يناوشهم فطال عليهم المكث وضجروا فأتوا
296

إلى خالد وشاوروه في القتال فأذن لهم وكان جملة من قتل في وقعة الأبواب نحو ستمائة فارس ختم الله لهم بالشهادة
قال الراوي فلما استأذنت الصحابة خالدا في القتال لم يقدر أن يمنعهم ولما أصبحوا اقتتلوا قتالا شديدا لم يسمع مثله فاشتد الحصار فقال أهل البهنسا وقالوا للبطليوس ما بقي لنا صبر على القتال والحصار فقال لهم أصبروا واثبتوا لعلي أن أكيد العرب بمكيدة ولما اشتد الحصار عليهم أتوا إلى بطريق يسمى توما صاحب الباب وأتاه السوقة والنصارى والعوام وقالوا له لقد ضاق علينا الحصار فنجعل لك مالا وافتح لنا الباب حتى نأخذ لنا أمانا من العرب فأجابهم إلى ذلك فصبرهم إلى جانب من الليل وفتح لهم الباب فمضى نحو مائتين من تجار البلد وخرجوا من باب السر وأتوا إلى خالد وصالحوه على أن يفتحوا لهم الباب وجعلوا للمسلمين جعلا معلوما واتفقوا على ذلك وكتبوا أسماءهم ورجعوا هذا ما جرى لهؤلاء وكان الكلب ابن عم توما حاضرا واسمه أرمياء فمضى إلى البطليوس وأعلمه بذلك فعندها أرسل البطليوس بطريقا يقال له حرفائيل ومعه ألف بطريق وقال اكمنوا واتوني بالخبر على جليته فمضوا وتفرقوا وهم مشاة قريبا من باب توما وإذا بهم قد أقبلوا فلما رأوهم عرفوهم وفتحوا لهم الباب فدخلوا فعندها تواثبوا عليهم وأمسكوهم وسحبوهم إلى البطليوس لعنه الله فلما رآهم وبخهم توبيخا عظيما وقال ائتوني بالسياط ونصب أخذودا من حديد ثم ضربهم ضربا شديدا وأتى بالنار وأحرق جميع أموالهم وأمر باحضار البطريق فأحضر بين يديه فأخذه ومضى إلى القصر هو وجميع أعوانه واستدعى بالخشب وصلبهم على أعلى السور وأقاموا هناك يوما وليلة ثم أمر بضرب رقابهم وطرح رؤوسهم للمسلمين قال الأمير عياض للأمير خالد هؤلاء أهل ذمتنا وقد قتلهم البطليوس لعنه الله
قال الراوي وأما الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه فإنه قلق على المسلمين قلقا شديدا فأرسل كتابا إلى عمرو بن العاص يقول فيه ما سبب انقطاع كتبك عني وأنا في قلق على المسلمين وعلى خالد ومن معه واعلم أنك لا ترسل لي الا بالفتح والغنائم وان احتاج خالد إلى نجدة فأرسل إلى أبي عبيدة فقد كاتبته بأن يرسل له جنودا من الشام والسلام فلما وصل الكتاب إلى عمرو أرسله إلى خالد فقال خالد لا نطلب النجدة والمعونة إلا من الله تعالى ثم إن خالدا عظم عليه الامر واشتد الحصار وكان كل يوم يرجع إلى المدينة ويقاتل قتالا شديدا وفقد من المسلمين جماعة كثيرة قتلوا بالحجارة والنشاب وهجم عدو الله على المسلمين وكادهم مرارا وقال خالد للأمير عياض
297

وللمسلمين لا شك أن لأصحابنا عيونا وجواسيس ثم إن خالدا ركب ومعه الفضل بن العباس والمقداد وزياد بن أبي سفيان وعياض وطافوا حول العسكر وإذا برجل من العرب المتنصرة جالس على قطيفة خارج العسكر فأنكر أمره خالد وقال له من أي العرب أنت فسكت فقالب له الأمير عياض انطق بالحق من لك من الأهل ههنا فسكت فقال له خذ الماء وتوضأ فلم يحسن ذلك فقال له صل فلم يحسن ذلك فضربوه فأقر بأنهم خرجوا ثلاثمائة من باب السر وردوا وبقي هو فضرب عنقة وانقطعت الجواسيس فكانوا يقاتلون قتالا شديدا وكان لخالد عبد في خيمته اسمه فلاح يصنع له كل يوم قرصين من شعير واحد له وواحد للعبد فقعد خالد ثلاثة أيام يأتي السفرة فلا يجد فيها شيئا ولم يكلم العبد وكان عنده بعض تمر يتقوت به حتى فرغ فعندها قال خالد للعبد يا ولدي قال الله تعالى * (وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام) * ولك ثلاثة أيام لم تصنع فيها قرص شعير قال يا سيدي ما قطعت عنك ذلك ولكن أصنع لك كل يوم وأعلقه في طبق الخيمة فلم أجده قال خالد أن لهذا شأنا عظيما ثم قال للعبد قف خلف الخيمة وأخف نفسك وانظر من يفعل هذا فلما كان الغد ركب خالد للقتال وصنع العبد القرصين وأكل قرصا ووضع قرص سيده فكان معتادا أن يشيله له فجاء كلب أسود عظيم من جهة البلد ودخل الخيمة وأخذ القرص في فمه ومضى فتبعه العبد حتى أتى إلى سرب يخرج منه الماء يجري من البحر تحت الأرض إلى تحت سور المدينة من جهة القبلة ويدخل المدينة ويظهر من الجهة البحرية من خارج البلد فلما رآه العبد رجع وأعلم الأمير خالدا فمضى معه ورأى ذلك ففرح بذلك فرحا شديدا ثم أتى إلى الامراء واعلمهم بذلك وقال وقال لهم أريد منكم مائة رجل قد باعوا أنفسهم لله عز وجل فيمضون معي وجماعة شداد يكونون مقابل الباب فإذا فتحنا الأبواب دخلوا الينا فانتدب منهم مائة رجل من خيار القوم منهم عبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر وزيد بن ثابت وعقبة بن عامر ومسلم بن عقيل وزياد بن أبي سفيان وأخوه هبار والمسيب بن نجيبة وأخوه والمقداد ابن الأسود ورافع وأبو رزين العقيلي ومثل هؤلاء السادات وقد اقتصرنا في أسمائهم خوف الإطالة ورتب خالد رضي الله عنه عبد الله بن جعفر والزبير بن العوام وابنه عبد الله والفضل بن العباس والفضل بن أبي لهب وضرار بن الأزور ومثل هؤلاء مقابل الباب وصبروا إلى غروب الشمس وأتوا إلى ذلك السرب
ودخلوا اليه في الماء كل واحد بسراويله وسيفه وكان أولهم الأمير خالد وكل من دخل يدع سيفه وحجفته مع صاحبه حتى يدخل ويأخذهما حتى دخل ثمانون رجلا ورجع
298

عشرون لم يسعهم السرب وضاق عليهم فولوا وهم متأسفون لما فاتهم من الشهادة والفتح وتواثبت الامراء المذكورون وأخفوا نفوسهم تحت الجدار إلى جزء من الليل فتبادورا إلى الباب فوجدوه موثقا من داخله فعالجوا الاقفال والروم سكارى ففتحوا الباب وذبحوا كل من وجدوه في دهليز الباب وكانوا ستين رجلا ثم علوا على السور وجماعة منهم أخذوا المفاتيح ففتحوا الباب وثاروا على الروم فقتلوا جماعة منهم في أعلى البرج وقتلوا بطريق البرج وأعلنوا بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير فأجابهم المسلمون بمثل ذلك ودخلوا من الباب إلى سوق المدينة وتبادرت جماعة إلى القصر فلما أحس عدو الله بذلك وأن المسلمين ملكوا عليه الأبواب وضع منديلا في عنقه وخرج وهو يقول الأمان الأمان وفعل جماعة كذلك فأبى خالد ووضع السيف فيهم وقاده أسيرا وقال له يا عدو الله لا أمان لك عندي الا أن تسلم وقبض على جماعة من بطارقته ووضع السيف فيهم وقتل من الروم نحو ثلاثة آلاف وقتل من المسلمين في تلك الليلة في وسط البلد مائة وأربعة وثمانون رجلا قريبا من سوق المدينة وعند الأبواب وعند القصر وجاء عياض ومعه جماعة من الامراء فشكا إليهم أهل البلد وقالوا الأمان فرق لهم الأمير عياض وصار عدو الله يتملق بين أيديهم فغلبوا على رأي خالد حتى صالحهم على ألف مثقال من الذهب الابريز وألف ألف أوقية من الفضة البيضاء وعشرة آلاف وسق من البر والشعير والجزية من العام القابل وخالد لا يطمئن قلبه إلى شيء من ذلك وغلب الامراء على رأيه وجاءوه وقالوا له لقد أضر بنا المقام بهذا البلد فما نراك الا أشفق منا علينا ونرى من الرأي أن ترسل إلى عمرو وتعلمه بذلك وهذا الكلب وجماعته موثقون إلى أن يجيء الجواب فعندها كتب خالد كتابا إلى عمرو يخبره بذلك
فلما بلغه ذلك رد لهم الجواب أنهم يستوثقون منه بالايمان ويأخذون منه ما صالحهم عليه ويتركونه ومن صاح الغوث الغوث فاتركوه والا نفر منكم أهل الصعيد ففعل خالد وقلبه نافر وأطلقه بعد ما استوثق منهم بالايمان في كتبهم المذكورة وأطلقوه وشرط عليهم أن لا ينزل عندهم أحد الا من يقبض المال فخرجوا إلى ظاهر المدينة وبقي عنده فضالة بن زيد السلمي وعون بن ساعدة الكندي ومقوم بن سعيد الجهني ومائتان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرج الميرة والعلوفة وصار كل يوم يركب ويتودد إلى الامراء ووهب وأعطى ولم يترك أميرا الا خادعه حتى طابت نفوسهم عليه الا خالدا والفضل بن العباس والمقداد وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق والزبير بن العوام فإنهم لم تطب نفوسهم اليه وأقاموا شهرين على ذلك وأرسل جميع الغلال إلى خزينته في
299

هذا الزمن وخزن ما يحتاج اليه واستدعى بكبار قومه ومن يثق به واتفق رأيهم على قتل المسلمين والغدر بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصبروا إلى أن مضى جزء من الليل وهجم على المسلمين على حين غفلة في ألف بطريق وأوثقهم كتافا وجعل في أفواههم الاكر وفتح الأبواب وأدخلهم المدينة وهجم على المسلمين ووضع السيف فيهم وهم رقود فما انتبهوا الا والسيف يقطع في نحورهم وكانت وقعة عظيمة وثار خالد بمن معه وكان الزبير راقدا فسمع الصياح فقال دهينا ورب الكعبة ثم ركب وركبت معه زوجته وقاتلت النساء قتالا شديدا وعدو الله تارة يكر ميمنة وتارة يكر ميسرة والسيف يعمل والرجال تقتل وكانت ليلة شديدة وصار خالد يقول يا قوم أما قلت لكم فما سمعتم لخالد والتجأ زياد بن أبي سفيان وأخوه هبار وميسرة ابن مسروق وفضالة بن عبد شمس وعقيب بن يعقوب وعبادة بن تميم وجندبة الكلبي إلى تل هناك وأحاط بهم طائفة من الروم من كل مكان فقاتلوا قتالا شديدا وانحدر زياد رضي الله عنه من التل وتبعه أصحابه فأحدقت بهم الروم وداروا بهم دوران السور بالمعصم وقتلوا زيادا وجميع من ذكرنا من الامراء وقاتلت نسيبة الأنصارية أم أبان وأسماء ابنة أبي بكر ونعمانة ابنة المنذر ونظائرهن في تلك الليلة قتالا شديدا وقتل جماعة من المسلمين وأتى خالد وحمل عليهم وجعل يقلب الميمنة على الميسرة والميسرة على الميمنة قال وأطبق عليهم هو وجميع الامراء فهزموهم إلى الأبواب وقد قتلوا منهم مقتلة عظيمة وهرب عدو الله وتحصن هو وقومه وغلقوا الأبواب ولما أصبح أمر بالحصار وأمر باحضار المأسورين وصعد بهم إلى أعلى البرج وضرب رقابهم فشق ذلك على المسلمين وصعب عليهم ما فعل عدو الله بأصحابهم وأتى خالد رضي الله عنه ومعه بقية الامراء إلى مكان المعركة فوجدوا الشهداء مطروحين ووجدوا زيادا رضي الله عنه وفيه عشرون طعنة بالرمح وأربعون ضربة بالسيف والى جانبه أخوه هبار وفي رأسه عشرون ضربة بالسيف وواحدة في فخذه قطعته فبكى خالد عليهم بكاء شديدا وبكى عليهم سائر الامراء وابطال المسلمين ونعاهم الأمير خالد بهذه الأبيات وهي له خصوصا
* هوام دموعي كالسحائب تهمع
* وقلبي من فقد الأحبة يفزع
* وأظلمت الدنيا على نور عبرتي
* وكاد فؤادي بالجوى يتقطع
* لفقد زياد أحرق ألبين مهجتي
* وغاب صوابي وهو في الأرض يصرع
* لقد كان في بحر المعامع صائلا
* يزلزل أركان العدا ويضعضع
* وقد كان مقدام الفوارس كلها
* بكل مكان للأعادي مقمع
* لحى الله يوما فيه حانت وفاته
* وأجفانه مع أسهم الدمع تدمع
*
300

* ايا سيدا من آل هاشم لم يزل
* له رتبة بالمجد والجود ترفع
* يعز علينا أن نراك معفرا
* ورأسك من فوق الجنادل تسفع
* بجانبك الهبار أضحى مهبرا
* طريحا على رأس الثرى وهو مطبع
* ألا لعن الرحمن بطلوس قومه
* وألعنه مع كل قوم تجمع
* لقد غدر السادات من آل هاشم
* نجوما وأقمارا على الناس تطلع
* قال الراوي ثم بكى المسلمون بكاء شديدا على من قتل منهم من الامراء والابطال وجموعهم وصلوا عليهم ووروهم في حفرهم إلى جانب التل فإذا هم ثمانون أميرا وثلاثمائة وسبعون رجلا ختم الله لهم بالشهادة
قال الراوي وأقام المسلمون ثلاث سنين الا أنهم يشنون الغارات على السواد والسواحل ومضى القعقاع بن عمرو وهاشم وأبو أيوب وعقبة بن نافع الفهري بألفي فارس وأغاروا على حد برقة ثم عادوا وهذا أحد الآراء في فتح المغرب قال رضي الله عنه ولما طال الحصار والمكث على أهل البهنسا اجتمعت المسلمون عند خالد واستشاروه فيما يفعلونه وماذا يكون من الرأي فوثب عبد الرازق الأنصاري وعبد الله بن مازن الداري وكعب بن نائل السلمي وأبو مسعود البدري وأبو سعيد البياضي وقالوا يا قوم قد وهبنا أنفسنا لله عز وجل ولعل أن يكون للإسلام فرج فاصنعوا منجنيقا واملئوا غرائر قطنا وقالوا يأخذ كل واحد منا سيفه وحجفته ويدخل في غرارة قطن فإذا كان الليل ونامت الحراس فألقونا على أعلى السور واحدا بعد واحد والمعونة من الله في فتح الباب كما فتحتم قصر الشمع بمصر ودير النحاس وكما فعلتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فاستصوبوا رأيهم فلما أصبحوا قطعوا الأخشاب وصنعوا منجنيقا وصنعوا له حبالا وأحضروا غرائر وملئوها قطنا والرجال داخلها وصبروا إلى الليل ودخل هؤلاء السادات رضي الله عنه بعد أن ضربوا بالمنجنيق حجرا بعد حجر فسقط على أعلى السور والبرج فشرعوا في رميهم منهم أبو مسعود البدري وعبد الرزاق إلى أن رموهم جميعهم وصاروا فوق أعلى السور ورتب خالد أصحابه على الأبواب وأما عبد الرزاق وأصحابه فلما صاروا بأعلى الجدار نزلوا إلى البرج فإذا هو مغلق والحراس نيام فنزلوا إلى الدهليز بين البابين فوجدوهما مغلقين موثقين فذبحوا البوابين عن آخرهم ووجدوا المفاتيح تحت رأس كبيرهم في جانب سريره فأخذوها وفتحوا الأبواب وإذا بالباب الثاني الذي ينتهي إلى القصر مسدود بالحجارة فاحتالوا على قلع حجر بعد حجر فقلعوها ورموا الأحجار وفتحوا الأبواب وكل ذلك في أقل من ساعة بمعونة الله عز وجل وصعدوا إلى البرج فعالجوه وفتحوه وقتلوا جماعة واستيقظ جماعة وثاروا عليهم وخافوا على الباب أن يؤخذ منهم وأن
301

يحال بينهم وبينه وهو باب السور الذي بظاهر المدينة ففتحوه صاحت الروم واستيقظ البطليوس وركب جواده وكان على حذر وركب المسلمون ودخلوا الباب وخرجت البطارقة والبطليوس من قصره وزحفت الروم إلى الباب وكان أول من قتل في ذلك اليوم عبد الرزاق وعنان بن مازن وكعب بن نائل السلمي بداخل الباب قال حدثنا قيس بن مازن الحميري عن عبادة بن سالم السكاكي عن أبي مسعود البدري وكان أول من فتح الباب قال ليس هو على هذه الصفة وأخبرنا سالم بن حامد عن أبي عبد الله عن أبي محمد الأنصاري عن عبد الله البدري قال كان أبو محمد الحسني يقرأ هذه الفتوح بالجامع الغزي العمري على الشيخ أبي عبد الله حتى بلغ إلى هنا وذكر الفتوح وفتح الباب وان الرجال وضعت في الغرائر قال يا بني ليس الامر كذلك فقد روى عن أبي مسعود وهو الصحيح عن فتح الباب قال أنهم قطعوا أخشابا ونصبوا سلما للتسلق عاليا علوا جدار المدينة وصبروا إلى الليل وأسندوه إلى الجدار وتسلق منهم أربعون رجلا ومنهم لسبعة المذكورون وفتحوا الباب كما ذكرنا واستيقظ الروم وخرجوا إليهم بعد فتح الباب فكان السابق إليهم عبد الرزاق رضي الله عنه فقتلوه وقتلوا معه من ذكرنا أولا وتسابق المسلمون إلى الباب فكان أول من دخل ضرار بن الأزور وهو يزعق ويقول هذه الأبيات
* الجن تفزع يوم الحرب من فزعي
* إذا أتيت إلى الهيجا بلاجزع
* يا ويل من صنع الارصاد يخدعنا
* ونحن جرثومة الامكار والخدع
* لأرضين الهي في جهادهم
* وقتل أبطالهم بالسيف والدرع
* يا ويل كلب العدا البطلوس ان وقعت
* عيني عليه لارديه إلى النزع
* عيب علي إذا ما ألتقيه هنا
* وأفلق الرأس منه غير مرتدع
* ثم دخل من بعده خالد وهو يقول
* اليوم يوم الوفا والطعن بالأسل
* والضرب بالقضب في الهامات والقلل
* يا ويل بطلوس كلب البهنساء إذا
* لاقيته بطليق الحد معتدل
* ان لم أذقه بكاسات المنون هنا
* فلا سلمت ولا بلغت من أملي
* قال ثم دخل من بعده ذو الكلاع الحميري وهو يقول
* أني لمن حمير العالين في النسب
* أهل الثنا والوفا والجود والحسب
* أسد غضافرة سود جحاجحة
* نرى الكماة غدافي الحرب بالقضب
* الحرب عادتنا والطعن همتنا
* وذو الكلاع أنا عال على الرتب
* تبت يد الروم ما يدرون أن لنا
* صوارما تترك الأعضاء كالقصب
*
302

قام ثم دخل من بعده الزبير بن العوام وهو يقول
* ايا بطليوس يا كلبا لعينا
* ويا نسل الطغاة الارذلينا
* أتتك حماة دين الله حقا
* وأولاد الجياد الخيرينا
* خيار الناس نسل بني نزار
* كراما في الأعادي قاطعينا
* إذا أحتبك العجاج بهم تراهم
* بحولك كالسباع الضاربينا
* ولا منهم جبان قط يهزم
* ولا نذل فتلقاء حزينا
* ولا منهم جبان قط يهزم
* ولا نذل فتلقاء حزينا
* وليس ترى سوى مقدام قوم
* أثار الحرب صنديدا أمينا
* قال ثم دخل من بعده عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وهو يقول
* أتينا البهنساء بكل قرم
* شديد العزم في يوم النزال
* وجيش فاق في الآفاق طرا
* على الأعداء بالسمر العوالي
* قال ثم دخل من بعده عبد الله بن جعفر وهو يقول
* اليوم طاب الطعن في اللئام
* والضرب في الأعناق بالحسام
* وأنصر الاسلام باهتمام
* ولم أزل عن سادتي أحامي
* أنا الشجاع الفارس الهمام
* ومردى الأعداء في الحمام
* قال ثم دخل بعده الفضل بن العباس وهو يقول
* ألا اننا السادات من آل هاشم
* ليوثا ذوي بطش شديد العزائم
* لنا تشهد الابطال في كل معرك
* وتذكر عنا أهل كل المواسم
* إذا اشتدت الأهوال واستبق القنا
* رأيت لنا في ذاك فعل الضراغم
* قال ثم دخل من بعده الفضل بن أبي لهب وهو يقول
* لنحوك يا بطلوس عزمي قد طلب
* بحد حسام كالشهاب إذا انتدب
* يطير شرار النار من لمعانه
* بكف شجاع الخيل أبن أبي لهب
* فويلك يا ملعون منه إذا سطا
* بصارمه يوم العجاج وان وثب
* قال ثم دخل من بعده عياض بن غانم الأشعري وهو يقول
* لا أنثني يوم الهيج عن العدا
* بمهندي الصمصام الا إذ قطع
* فالويل للبطلوس من سطواتنا
* لأفرقن بحد سيفي ما جمع
* قال ثم دخل من بعده المقداد ابن الأسود وهو يقول
* أنا الكندي كالليث الشجاع
* واني في العدا قد طال باعي
* وتشهد لي الرجال بكل حرب
* وللهيجاء منقاد الطباع
* فواثارات عبد الله اني
* عليه ذاهل حيران ناعي
* قال ثم دخل من بعده أبان بن عثمان وهو يقول
* نحن الليوث ذوو المعروف والكرم
* وفي المعامع يوم الحرب والهمم
* مجندلون العدا في كل معترك
* وقاهرون لهم كل مصطدم
*
303

* لا يعجبنك يا بطلوس جيشك في
* هذا المقام فمعنا الكل كالرخم
* قال ثم دخل من بعده مسلم بن عقيل وهو يقول
* ضناني الحرب والسهر الطويل
* وأقلقني التسهد والعويل
* فواثارات جعفر مع علي
* وما أبدى جوابك يا عقيل
* سأقتل بالمهند كل كلب
* عسى في الحرب أن يشفي الغليل
*
قال ثم دخل من بعده شرحبيل بن حسنة ثم القعقاع بن عمرو التميمي ثم مالك الأشتر ثم عبادة بن الصامت ثم أبو ذر الغفاري ثم أبو هريرة الدوسي ثم ابنه عبد الرحمن ثم معاذ بن جبل ثم شداد سن أوس ثم قيس بن هبيرة ثم أبو أبو دجانة الأنصاري ثم جابر بن عبد الله ثم البراء بن عازب ثم النعمان بن بشير ثم سعيد بن زيد أحد العشرة الكرام رضي الله عنهم قال ثم الأنصار يتلو بعضهم بعضا بهمم وعزائم قال ثم خرجت الروم وقاتلت قتالا شديدا وتواثبت جماعة من الامراء مثل الزبير بن العوام وابنه عبد الله وعبد الرحمن بن أبي بكر إلى باب البحر واقتتلوا قتالا شديدا وتقدم عبد الرحمن والزبير إلى الباب والروم على أعلى السور ونزل عن جواده وصلى ركعتين والحجارة تتساقط عليه وهو لا ينزعج لذلك وتقدم هو والفضل وعبد الرحمن بن أبي بكر إلى الباب وجعلا السلاسل من فوق وصعدوا إلى أعلى البرج وهدموا الشرافات ووضعوا السيف في الحراس وفتحوا الباب ووثب شرحبيل بن حسنة والفضل بن العباس وأبو ذر الغفاري وأبو أيوب الأنصاري إلى باب قندوس ووثب المسيب بن نجيبة الفزاري والقعقاع بن عمرو والأمير عياض بن غانم الأشعري إلى باب الجبل وفتحوا الأبواب واقتتلوا قتالا شديدا وقاتلت الروم قتال الموت إلى أن طلعت الشمس وارتفعت وقاتل عدو الله البطليوس قتالا شديدا وقتل رجالا وجندل أبطالا واقتتلوا في الأزقة والشوارع وبين الأبواب وتقدم خالد وهو يصيح واثارات أبا سليمان
وطعنه طعنة صادقة في صدره فأطلع السنان يلمع من ظهره فوقع يخور في دمه وعجل الله بروحه إلى النار وبئس القرار فلما رأى الروم ذلك ولوا الادبار وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون وينهبون وقتل من الروم نحو ثلاثين ألفا بوسط البلد وأسر منهم عشرون ألفا وأنشد خالد يقول
* وبالنهنسا الغرا أبيدت جيوشنا
* ثلاث سنين بابها ليس يفتح
* ثماني آلاف عداد جيوشنا
* وكل همام عن ثمانين يرجح
* فما فتحت الا وقد صار جيشنا
* ثلاثة آلاف عداد تسحسح
* ولم أر في أرض الصليب كمثلها
* ولا جيشها لما على السور يسرح
* ولا مر لي يوم كمثل حروبها
* لان بها البطلوس ليث مبجح
*
304

* وكان له جيش وعدة جيشه
* ثمانون ألفا بالحديد توشحوا
* وكنا غلبناهم ثمانين مرة
* يخادعنا البطليوس عنهم فنصفح
* ثلاث مرار نحن نفتح بابها
* وترتد للكفر الذميم وتجنح
* وقد لعب الهندي يوم فتوحها
* وكلت أيادينا وفي الروم نذبح
* ثلاثون ألفا قد محتها سيوفنا
* وأكبادنا من حرها النار تقدح
* إلى أن ملأنا البر والبحر منهم
* وقد شبعت أسد الفلا وترنحوا
* وولت ثلاثون الألوف شواردا
* وعشرون ألفا منهم قد تجرحوا
* فمنهم قضى نحبا ومنهم بها طغى
* ومنهم أناس في المقابر روحوا
* وبطلوسهم ذاك النهار قتلته
* وقد كان مقدام الجيوش مرجح
* فبادرته في الحال حتى تركته
* صريعا عليه الغانيات تنوح
* وعاجلته في الرأس مني بضربة
* فأضحى بها شطرين ملقى ومطرح
* وعاد بسيف ابن الوليد مجندلا
* تمر به كل الحوادث تفلح
* ولما فني بطلوسهم صار جمعهم
* كما شبه أغنام وغاب المسرح
* وقد كان في بحر الهياج مغلغلا
* تولى سرايا قومنا منه مرح
* فلله ما أعداه قد كان فارسا
* يفوق على جيش عظيم ويرجح
* وقد فرحت أكبادنا وترنمت
* لعمرك والأكباد بالنصر تفرح
* أقمنا بأرض البهنسا بعد فتحها
* ثلاثين يوما للمساجد نصلح
* وصرت إلى أرض الصعيد معاجلا
* بألفين من خيل الصحابة ترمح
* من البهنسا لاسوان جمعا فتحتها
* بعشر شهور بعدها ليس تلمح
* وعندي الثلاثون الذي شاع ذكرها
* وكل فتى يا صاح بالألف يرجح
* ورحنا فتحنا الهند والسند كله
* وأسيافنا في الغمد لله تسبح
* وفي كل أرض عسكر قد تركته
* يقيمون دين الحق والحق يوضح
* وهذا كلام ابن الوليد الذي جرى
* فكن سامعا معنى الذي لك أشرح
* فما مثله في معمع الحرب سيد
* ولا مثله في جوهر النظم أفصح
* ومن بعدذا صلوا على أشرف الورى
* نبي له كل البرية تجنح
* عليك سلام الله ما لاح بارق
* وما غرد القمري إذ الصبح يطفح
* وأصحابه والآل والعترة التي
* أقاموا لدين الله والشرك زحزحوا
قال الراوي وصار المسلمون يصعدون إلى البيت ويأخذون الرجال من بين حريمهم من الروم ويقتلونهم حتى كلت سواعدهم من الذبح وجرى الدم في الأزقة وصارت القتلى في الشوارع والأسواق مطروحين وخرجت إليهم النصارى والقبط وهم يبكون ويقولون نحن أهل ذمتكم ونحن عوام وتجار وسوقة وكلنا مغلوبون على أمرنا وقتل خيارنا بأسيافكم وبقية الامراء
305

ويقولون هؤلاء قد صاروا رعيتنا وليس لهم بطش فتركوهم وقالوا بشرط أن تدلونا على من أخفى نفسه في المغاير والمخابي ومن فر من الباب الشرقي وغرق في الماء فدلوهم على الجميع ولم يزالوا يقتلون ذلك اليوم كله وفي اليوم الثاني استدعوا بنجارين يعملون عربات لحمل القتلى من المسلمين وأخذوا دواب أهل السواد من البقر تسحب العربات والفلاحون عملوا عليها وصاروا يضعون كل ثمانية وستة وعشرة في حفيرة ويردون عليم الرمل حتى صاروا تلالا وشهروا قبورهم ووضعوهم بدروعهم وثيابهم ودمائهم رضي الله عنهم وأخذوا ألواح رخام وكتبوا عليها أسماءهم وأنزلوها في مدافن قبورهم ورجعوا إلى قتلى أهل البلد فواراهم أهلهم في قبورهم وكان جملة من قتل من المسلمين في ذلك اليوم نحو أربعمائة وأزيد الأعيان منهم صاغر بن فرقد وعبد الله بن سعيد وعبد الله بن حرملة وعبد الله بن النعمان وعبد الرزاق الأنصاري وعبد الرحيم اللخمي وأبو حذيفة اليماني وأبو سلمة الثقفي وأبو زياد اليربوعي وأبو أبا سليمان
الداراني وابن أبي دجانة الأنصاري وأبو العلاء الحضرمي وأبو كلثوم الخزاعي وأبو مسعود الثقفي وهاشم بن نوفل القرشي وعمارة بن عبد الدار الزهري ومالك بن الحرث وأبو سراقة الجهني والبقية من أخلاط الناس وقتل عند سوق التمارين نحو عشرين ودفنوا هناك وعند سوق الصابون جماعة كثيرة وقريبا من العطارين في جانب القبور نحو أربعين وقريبا من البحر اليوسفي جماعة عند السور رضي الله عنهم أجمعين
قال الراوي ولما وارى المسلمون شهداءهم صعدوا إلى قصر البطليوس والى قصور البطارقة ودورهم ومقاصيرهم فوجدوا فيها من آلية الذهب والفضة ما لا يوصف ومن المتاع والحلى والحلل واللآلىء والنمارق والجواهر والبسط والوسائد والمساند واقتتلت الروم على بغلة محملة عند باب السر فغلبهم المسلمون عليها وأخذوها فإذا عليها صندوقان فيهما أحجار معادن فاشترى رجل من المسلمين من بيت المال حجرا بستة آلاف دينار فباعه على غشوميته بمائة ألف دينار وأخذوا بساط البطليوس وكان مثل بساط كسرى سداه حرير وذهب مرصع بالمعادن فأرسلوه مع الخمس إلى المدينة فجعل لعلي بن أبي طالب فيما حصل له من البساط عشرون ألف دينار وغنمت المسلمون غنائم كثيرة من أواني الذهب والفضة وغير ذلك
قال الراوي حدثنا عون بن عبيدة عن عبد الحميد بن أبي أمية قال هدم المسلمون القصر والكنيسة وتلك الدور وفتحوا خزائن البطليوس واستخرجوا جميع ما فيها من الذهب والفضة وغير ذلك ولم يتركوا فيها شيئا أبدا وقسم خالد الغنيمة على المسلمين فكان للفارس عشرة آلاف مثقال
306

من الذهب وألف أوقية من فضة ومن الثياب والملبوس وغير ذلك ما لا يوصف ولما دخلوا الكنيسة ورأوا تصاويرها وقناديلها الذهب والفضة والستور الحرير المنقوشة والأعمدة وغير ذلك تعجبوا وقرأ خالد * (ما اتخذ الله من ولد) * الآية وقال لا إله إلا الله محمد رسول الله فصاح المسلمون بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير وقرأ عياض الأشعري كم تركوا من جنات وعيون إلى قوله وأورثناها قنوما آخرين وأخربوا تلك البيعة وجعلوا بجانبها مسجدا على أعمدة من الرخام مسقوف عليها بتلك الأخشاب وهو الجامع الأول قبل بناء حسن بن صالح هذا الجامع الان وبقية الأخشاب والحجارة جعلوا منها مساجد وربطا
قال الواقدي حدثنا عبد الحميد عن قيس بن مهران عن أبي جعدة قال بمدينة البهنسا أربعون رباطا ومن المساجد ما لا يعد وأخربت الصحابة تلك المعالم وبنوا دورا لأنفسهم واختطوا بها أماكن وشوارع وأقام خالد ومن معه بمدينة البهنسا يصلحون المساجد والربط ويخرجون المعالم شهرا كاملا ثم أخرج الخمس وأرسله لعمرو بن العاص ومن معه من المسلمين وهو نازل بمصر على قدر سهامهم وقال له أرسل الخمس مع أبي نعيم الأنصاري والفضل بن فضالة وأبي دجانة إلى عمر بن الخطاب وهو بالمدينة فلما ورد الكتاب على عمرو بن العاص فرح بذلك فرحا شديدا ثم كتب عمرو لعمر كتابا مع أبي نعيم صحبة كتاب خالد وسير معه ثلاثين صحابيا حتى دخل المدينة ودخل على عمر بن الخطاب فوجد عنده جماعة وقد أخرج لهم قصعا ومناسف من ثريد فلما رآنا عانقنا وتهلل وجهه فرحا وجلسنا كلنا نأكل وهو قائم على رؤوسنا متكى على عصا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما فرغنا من الاكل ناولته الكتابين فقرأهما وفرح فرحا شديدا ونادى في الناس الصلاة جامعة فخطب وحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأ عليهم الكتابين واستدعى بالصحابة وقسم عليهم الغنيمة ولم يترك لأهله درهما ولا دينارا ولا ثوبا رضي الله عنه وأخذني ومضى
إلى بيته بيت أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأدخلني اليه فإذا فيه فراش من أدم حشوه ليف ووسائد من صوف وقطيفة واحدة فجلست فقال لأم كلثوم هل عندك شيء من التمر قالت لا الا اللبن الحامض قال ذلك لي وان عندنا ضيفا فحضرت بعكة من سمن وقليل من عسل وفطير مع جارية فأكلت قليلا من المذكور وأخرجت الباقي لأصحابي وشرعت أحدثه عن البطليوس وهو تارة يبكي وتارة يضحك من فعله ويبكي على من قتل من المسلمين والامراء وخرجنا إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك وجاءت الناس يهرعون ويسألون عن أهاليهم منا فأخبرنا عمر
307

مات ومن قتل فضج الناس وأهل المدينة بالبكاء وعلت الأصوات على من قتل وجاء الناس لعلي ولعقيل ولبني هاشم يعزونهم فيمن قتل وأقمنا بالمدينة سبعة أيام ورجعنا إلى مصر بكتاب عمر إلى خالد فأمره بالمسير إلى الصعيد
قال الراوي هذا ما جرى لهؤلاء وأما خالد رضي الله عنه فإنه بعد شهر ترك أناسا من الصحابة بأرض البهنسا من جميع القبائل وخرج بألفي فارس إلى أرض الصعيد وكانت القبائل من بني هاشم وبني المطلب وبني مخزوم وبني زهرة وبني نزار وبني جهينة وبني مزينة وبني غفار والأوس والخزرج ومذحج وفهر وطي وخزاعة وكان الأمير عليهم مسلم بن عقيل وأحاطوا بالمساكن وجعلوا بالمدينة أسواقا وشوارع وسكن أكثر الصحابة في جانب البحر اليوسفي وخلوا من الآخر إلى الجانب الغربي شارعا واحدا لأجل أن تسبح دوابهم في البحر وأقام مسلم بن عقيل واليا عليها إلى خلافة عثمان أبن عفان رضي الله عنه فتولى محمد بن جعفر بن أبي طالب بعده ومضى مسلم وترك أولاده واخوته بها ولم يزل في المدينة حتى قتل في خلافة الحسن في الكوفة رضي الله عنه وأقام محمد بن جعفر إلى خلافة علي رضي الله عنه وتولى عليها بعده علي بن عبد الله بن العباس رضي الله عنه إلى خلافة معاوية وكان عبد العزيز بن مروان الأموي واليا وتولى بعده طاهر بن عبد الله وكانت قريش والاشراف بالجهة الغربية ويقال لها حارة الاشراف وكان لكل قبيلة حارة
قال أبو المنهال لما فتحت مدينة البهنسا كانت آهلة بالجند فاجتمعت السوقة والمتسببون من أهل البلد وكانوا أربعين ألفا
قال الواقدي حدثنا حامد بن المزيد عن أبي صالح عن ابن نوفل المرادي قال كان بمدينة البهنسا أربعمائة يقال حين فتحها يبيعون البقل وغيره وكانت مدينة عظيمة فلما وقع بين بني أمية وبني هاشم ما وقع أخرجوا منها جماعة واختل أكثرها قال وتسلسل إليها جماعة من العربان حتى جاء الحسن واخوته في خلافة بني العباس فعمر جامعا وأكثر من الزوايا والربط وأقام بها حتى مات
قال ورجعنا إلى سياق الحديث وخرج خالد بمن معه إلى الصعيد ولم يزل يفتح مدينة بعد مدينة إلى آخر الصعيد إلى عدن وسواكن وليس مقصدنا في هذا الكتاب الا فتوح البهنسا خاصة التي عليها مدار فضائل السادة الشهداء لان بتربتها خمسة آلاف صحابي وحضر فتح البهنسا نحو سبعين بدريا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي زيارتها تعظم الأجور وقد زارها جماعة من العراق مثل بشر الحافي وسرى السقطي ومالك بن دينار وسحنون
308

وزارها من أقصى المغرب أبو مدين وسعيب وأبو الحجاج وأبو عبد الله وزارها الفضيل بن عياض وروى أن إقليم البهنسا أكثر بركة من جميع الأرض كلها وكان عمرو بن العاص رضي الله عنه يقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليس بعد مكة والمدينة والأرض المقدسة والطور أرض مباركة الا أرض مصر والبركة هي في الجانب الغربي قال ولعلها البهنسا وكان علي بن الحسن يقول إنه ليس بأرض مصر بالوجه القبلي أرض مباركة ولا أكثر بركة من أرض البهنسا وكان أبو علي النوري إذا أتى أرض البهنسا وأتى الجبانة ينزع ثيابه ويتمرغ في الرمل ويقول يا لك من بقعة طالما ثار غبارك في سبيل الله وكان أبو علي الدقاق إذا مر بجبانة البهنسا يقول يا لك من بقعة ضمت أعضاء رجال وأي رجال طالما عرقت وجوههم في سبيل الله وقتلوا في سبيل الله ومرضاته وقيل للحسن بن صالح لم اخترت هذه البلدة على غيرها قال كيف لا آوي إلى بلد أوى إليها روح الله وكلمته وينزل على جبانتها كل يوم ألف رحمة ولما ولى عبد الله ابن طاهر مصر تجهز وأتى إلى البهنسا فلما قرب من الجبانة ترجل عن جواده وترجل من معه وكان الوالي عليها عبد الله بن الحسين الجعفري فخرج ماشيا وسلم عليه ولما وصل إلى الجبانة قال السلام عليكم يا أحياء الدارين وخير الفريقين ثم التفت إلى أصحابه وقال أن هذه الجبانة ينزل عليها كل يوم مائة رحمة وانها تزف بأهلها إلى الجنة ومن زارها تتساقط عنه ذنوبه كما يتساقط الورق من على الشجر في يوم ريح عاصف فكان عبد الله بعد ذلك كل يوم يخرج حافيا فيزورها حتى مات ودفن رحمه الله
قال الراوي حدثني رجل من أرض البهنسا من أهل الخير والصلاح يسمى عبد الرحمن بن ظهير قال كان لي جار مسرف على نفسه ومات ودفن قريبا من الشهداء الذين بالجانب الغربي فبينما أنا نائم تلك الليلة فرأيته وإذا عليه ثياب من السندس الأخضر وعليه تاج من الجوهر وهو في قبة من نور وحوله جماعة لم أر أحسن منهم وجها ولا ثوبا متقلدين بسيوف وهو بينهم فسلمت عليهم وقلت له يا هذا لقد سرني ما رأيت من حالك فقال يا هذا لقد نزلت بجوار قوم يحمون النزيل في الدنيا من العار وكيف لا يحمونه في الآخرة من النار وقد استوهبوني من العزيز الغفار غافر الذنوب والأوزار وأسكنني جنات تجري من تحتها الأنهار قال ذو النون المصري رضي الله عنه كنت في كل سنة آتى إلى البهنسا وأزور الجبانة لما رأيت في ذلك من الأجر والثواب فحصل لي في سنة من السنين عارض منعني من زيارتها فبينما أنا نائم ليلة من الليالي إذ رأيت رجالا لم أر أحسن منهم وجوها ولا أنقى ثيابا على خيول
309

شهب وبأيديهم رايات خضر ووجوههم تتلألأ أنوارا فسملوا علي وقالوا قد أوحشتنا يا ذا النون في هذه السنة وان لم تزرنا زرناك فقلت لهم من أنتم فقالوا نحن الشهداء الأخيار أصحاب محمد المختار بالبهنسا كنا بأرض الروم لنصرة المسلمين على أعداء الله الكافرين فمررنا بك لنسلم عليك وننظر ما سبب انقطاعك عنا قال في أي أرض أنتم قالوا نحن سكان جبانة البهنسا ولك علينا حقوق الزيارة لأنك من أهل الإشارة فقال لهم يا سادتي اني لا أعود وحبل الوصال بيننا ممدود وما كنت أعلم أنكم تعلمون من زار وما كنت أظن في نفسي انني بهذا المقدار قالوا يا ذا النون أما تعلم أن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون وبهذا نطق الكتبا المكنون ثم تركوني ومضوا فاستيقظت وفي
قلبي لهيب النار فطوبى لمن زار هؤلاء السادات الأخيار
قال المؤلف ولقد وضعت في هذا الكتاب كل نادرة عجيبة وحكاية غريبة وهو كتاب كامل المعاني والبيان عظيم القدر والشان لا يفهمه الا ذوو البصائر والألباب ولا يعقله الا أهل الخطاب ولا يقرؤه الا أهل الذوق والمعرفة فهو كالزهر في الرياض لمن اقتطفه نفع به مالكه وكاتبه وقارئه ومستمعه والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين انتهى المجلد الثاني من كتاب فتوح الشام وهو خاتمة الكتاب
310