الكتاب: سفرنامه
المؤلف: ناصر خسرو
الجزء:
الوفاة: ٤٨١
المجموعة: مصادر التاريخ
تحقيق: د. يحيى الخشاب
الطبعة: الثالثة
سنة الطبع: ١٩٨٣
المطبعة: بيروت - دار الكتاب الجديد
الناشر: دار الكتاب الجديد
ردمك:
ملاحظات:

سفر نامه ناصر خسرو
1

بسم الله الرحمن الرحيم
هذا ما يقول أبو معين الدين ناصر خسرو القبادياني المروزي تاب الله عنه كانت صناعتي الإنشاء وكنت من المتصرفين في أموال السلطان وأعماله واشتغلت بالديوان وباشرت هذا العمل مدة من الزمن وذاع صيتي بين أقراني وفي ربيع الآخر سنة 437 أيام أبي سليمان جغري بيك داود بن ميكائيل بن سلجوق حاكم خراسان ذهبت من مرو في عمل للديوان ونزلت في بنج دية مرو الرود كان ذلك يوم قران الرأس والمشتري ويقال إن الله تعالى وتقدس يستجيب فيه إلى ما يطلب الناس من حاجات فذهبت إلى زاوية وصليت ركعتين ودعوته تعالى وتبارك أن ييسر لي أمري فلما عدت لأصدقائي وأصحابي وجدت أحدهم ينشد شعرا فارسيا فجال بخاطري أبيات فكتبتها على ورقة لأعطيه إياها حتى ينشدها فإذا به ينشد ما كتبت من شعر ولما أعطه الورقة فتفاءلت بهذه الحال وقلت في نفسي إن الله تعالى وتبارك قد قضى حاجتي ثم ذهبت إلى جزجانان فمكثت بها حوالي شهر وظللت أشرب الخمر
33

قال النبي صلى الله عليه وسلم (قولوا الحق ولو على أنفسكم) حتى إذا كانت ذات ليلة رأيت في المنام رجلا يقول لي إلى متى تشرب هذا الشراب الذي يسلب لب الرجال خير لك أن تصحو فأجبت إن الحكماء لا يستطيعون شيئا غير هذا يقلل هموم الدنيا فأجاب إن التسرية عن النفس لا تتأتى بفقد الشعور والعقل والحكيم لا يستطيع أن يقول إن الرجل المسلوب الفؤاد يصلح هاديا للناس بل ينبغي عليه أن يبحث عما يزيد العقل والحكمة قلت وأنى لي هذا قال من جد وجد ثم أشار إلى القبلة ولم يقل شيئا فلما صحوت من النوم كانت هذه الرؤيا ماثلة بأكملها أمامي وقد أثرت في فقلت لنفسي صحوت من نوم البارحة وينبغي أن أصحو من نوم أربعين سنة خلت وأمعنت الفكر فوجدتني لن أسعد ما لم أعدل عن كل سلوكي
وفي يوم الخميس من جمادي الآخر سنة 437 (20 ديسمبر 1045) منتصف شهر دي من السنة الفارسية 410 من التقويم اليزدجردي اغتسلت وذهبت إلى الجامع فصليت ودعوت الله تبارك وتعالى أن يعينني على أداء الواجب وعلى ترك المنهيات والسيئات كما أمر الحق سبحانه تعالى
34

ثم توجهت من هناك إلى شبورغان وفي المساء كنت في قرية بارياب ومنها سرت إلى مرو الرود عن طريق سنكلان وطالقان فلما بلغت مرو طلبت إعفائي مما عهد إلي من عمل وقلت إني عازم على الحج ثم أديت ما علي من حساب وتركت أموالي عدا القليل الضروري منها
وفي الثالث والعشرين من شعبان (6 مارس 1046) عزمت على السفر إلى نيشابور فسرت من مرو إلى سرخس وهي على ثلاثين فرسخا منها ومن سرخس إلى نيشابور أربعون فرسخا وقد بلغتها يوم السبت الحادي عشر من شوال (22 ابريل 1046) ويوم الأربعاء آخر هذا الشهر كسفت الشمس وكان الحاكم حينئذ طغرل بيك محمد أخو جغري بيك وكانوا يشيدون مدرسة بقرب سوق السراجين أمر ببنائها وقد ذهب أثناء ولايته لأول مرة للاستيلاء على ولاية أصفهان
وفي الثاني من ذي القعدة (12 مايو 1046) غادرت نيشابور في صحبة الأستاذ الموفق الذي كان مؤدبا للسلطان فبلغنا قومس عن طريق كوان وزرت الشيخ بايزيد البسطامي قدس الله روحه
وفي الجمعة الثامن من ذي القعدة (18 مايو 1046) سرت إلى دامغان
35

ثم بلغت سمنان عن طريق آنجوري وجاشت خواران في غرة ذي الحجة سنة 437 (9 يونيو 1046) وقد مكثت هناك زمنا وتعرفت بأهل العلم وقد دلوني على رجل اسمه علي النسائي وهو شاب يتكلم الفارسية بلهجة الديالمة كان شعر رأسه مرسلا وكان وهو يتكلم يقول إني قرأت كذا على الأستاذ أبي علي سينا رحمه الله وهكذا سمعت عنه لكي أعرف أنه تلميذ ابن سينا ولما ناظرته قال إني قليل المعرفة بكل علم وأحب أن أقرأ معك قليلا في الحساب فخرجت متعجبا قلت ماذا يعلم الآخرين وهو لا يعلم شيئا
وعدت من بلخ إلى الري ثلاثمائة وخمسين فرسخا ويقال إنه من الري إلى ساوه ثلاثون فرسخا ومن ساوه إلى همدان كذلك ومن الري إلى أصفهان خمسون فرسخا وإلى آمل ثلاثون وبين الري وآمل جبل دماوند وهو كالقبة ويسمى لواسان ويقال إن بقمته بئرا يستخرج منه النوشادر ويقال والكبريت أيضا فيصعد عليها رجال يحملون جلود البقر ويملئونها بالنوشادر ثم يدحرجونها من قمة الجبل لتعذر إيجاد طريق لنقلها
وفي الخامس من محرم سنة 438 (13 يوليو 1046) الموافق العاشر من شهر مرداد سنة 415 من تاريخ الفرس توجهت ناحية قزوين فبلغت قرية قوهة وكان بها قحط حتى بيع المن من خبز الشعير بدرهمين وقد غادرتها في التاسع من محرم (17 يوليو) فبلغت قزوين وهي آهلة بالحدائق التي لا تحدها أسوار أو أشواك فلا يحول دون دخولها عائق رأيت قزوين مدينة عظيمة ذات حصن مكين عليه شرفات وبها أسواق جميلة إلا أن الماء بها قليل وهو يجري في قنوات تحت الأرض وكان حاكمها رجلا من العلويين ويشتغل معظم صناعها بصناعة الأحذية
وفي الثاني عشر من محرم سنة 438 (20 يوليو 1046) غادرت قزوين عن طريق بيل وقبان وهما من ضواحيها وسرت إلى قرية تسمى خرزويل
36

كان معنا أنا وأخي وغلام هندي كان يصحبنا زاد قليل فذهب أخي للقرية ليشتري شيئا من البقال فقال له أحدهم ماذا تريد أنا البقال فقلت كل ما عندك يناسبنا فإنا غرباء وعابرو سبيل فقال ليس عندي شيء أبدا وبعد ذلك كنت أقول إنه بقال خرزويل عن كل شخص في أي مكان يقول كلاما من هذا النوع
بعد مغادرة هذه القرية جزنا منحدرا صعبا وبعد مسيرة ثلاثة فراسخ بلغنا قرية تسمى الخير من أعمال طارم كان جوها حارا وبها شجر كثير من الرمان والتين ومعظمه بري ومن هناك اجتزنا نهرا يسمى شاه رود عليه قرية تسمى خندان تجبى فيها المكوس من قبل أمير الأمراء وهو من ملوك الديلم وحين يخرج النهر منها يلتقي بنهر آخر
اسمه سبيدرود ثم يدخل النهران واديا شرقي جبال جيلان ويمر النهر بجيلان ثم يصب في بحر آبسكون بحر قزوين ويقال إن ألفا وأربعمائة نهر تصب في هذا البحر الذي يقال إن محيطه ألف ومائتا فرسخ وإن في وسطه جزائر آهلة بالسكان وقد سمعت هذا من كثرين
والآن أعود إلى رحلتي وما كان فيها
ومن خندان إلى شميران ثلاثة فراسخ من صحراء صخرية كلها وشميران قصبة ولاية طارم وعلى حافة المدينة قلعة مرتفعة مشيدة على صخر صلد محاطة بثلاثة أسوار وقد حفرت في وسطها قناة تجري حتى شاطىء النهر ومنها يستخرجون الماء ويحملونه إلى القلعة ويقيم بها ألف رجل مختار من أبناء عظماء الولاية وذلك حتى لا يستطيع أحد أن يضل أو يثور ويقال إن لهذا الأمير قلاعا كثيرة في ولاية الديلم وإن العدل والأمن مستتبان بها فلا يستطيع أحد أن يغتصب شيئا من غيره بل إن الناس هناك يدخلون مسجد الجمعة ويتركون أحذيتهم خارجة فلا يأخذها أحد ويكتب هذا الأمير اسمه هكذا مرزبان الديلم جيل جيلان أبو صالح
37

مولي أمير المؤمنين واسمه جستان إبراهيم وقد رأيت في شميران رجلا طيبا من دربند اسمه أبو الفضل خليفة بن علي الفيلسوف كان رجلا فاضلا أضافنا وأكرمنا وقد تناظرنا معا واتصلت بيننا الصداقة سألني علام عزمت فقلت أني أنوي الحج قال أريد أن تمر بنا في عودتك حتى أراك
وفي السادس والعشرين من محرم (3 أغسطس 1046) غادرت شميران وفي الرابع عشر من صفر (21 أغسطس) بلغت مدينة سراب وغادرتها في السادس عشر (23 أغسطس) ثم مررت بسعيد آباد وبلغت تبريز في عشرين صفر 438 (27 أغسطس 1046) وكان ذلك في الخامس من شهر يور الشهر القديم وتبريز قصبة ولاية آذربيجان وهي مدينة عامرة وقد قست طولها وعرضها فكان كل منهما ألفا وأربعمائة قدم وكان ملك ولاية آذربيجان يذكر هكذا في الخطبة الأمير الأجل سيف الدولة وشرف الملة أبو منصور وهسودان بن محمد مولى أمير المؤمنين وحكوا لي أنه في ليلة الخميس السابع عشر من ربيع الأول 434 (5 ديسمبر 1042) في الأيام المسترقة بعد العشاء زلزلت الأرض فخرب جزء من المدينة ولم يصب الجزء الآخر بسوء ويقال إنه هلك فيها حينئذ أربعون ألف نسمة ورأيت في تبريز شاعرا اسمه قطران يقول شعر
38

جميلا ولكنه لم يكن يجيد الفارسية وقد زارني ومعه ديواني منجيك والدقيقي وقرأ علي منهما وسألني عما أشكل عليه من المعاني فكنت أجيبه وهو يكتب ما أقول ثم تلى علي شيئا من أشعاره
في الرابع عشر من ربيع الأول (19 سبتمبر) غادرت تبريز عن طريق مرند مع جماعة من جيش الأمير وهسودان فسرنا حتى بلغنا خوى ومن هناك سرنا إلى بر كري بصحبة رسول ومن خوى إلى بركزي ثلاثون فرسخا وقد بلغناها في الثاني عشر من جمادى الأولى (16 نوفمبر) ومن هناك ذهبنا إلى وان ثم إلى وسطان وكان لحم الخنزير يباع في سوقها كما يباع الضأن ويجلس نساؤها ورجالها أمام الحوانيت ويشربون بغير حياء
ومن هناك بلغنا مدينة أخلاط في الثامن عشر من جمادى الأولى (22 نوفمبر) وهي على الحدود ما بين بلاد المسلمين والأرمن وبينها
39

وبين بركري تسعة عشر فرسخا وعليها أمير اسمه نصر الدولة نيف على المائة وله أبناء كثيرون أعطى كلا منهم ولاية ويتكلمون بها ثلاث لغات العربية والفارسية والأرمنية وأظن أنها سميت أخلاط لهذا السبب والمعاملة هناك بالنقود النحاسية ورطلهم ثلاثمائة درهم
في العشرين من جمادى الأول (24 نوفمبر) غادرنا أخلاط ونزلنا في رباط كروانسراي كانت السماء تمطر ثلجا والبرد قارسا وقد غرسوا في جزء من الطريق عمدا ليسير المسافرون على هديها أيام الثلج والضباب ثم بلغنا مدينة بطليس وهي واقعة في واد وقد اشترينا منها عسلا المائة من بدينار حسب ما باعونا ويقال إن بها من يجني في السنة الواحدة ثلاثمائة وأربعمائة جرة عسل
وخرجنا منها فرأينا قلعة تسمى قف انظر وتركناها إلى مكان به جامع يقال بناه أويس القرني قدس الله روحه ورأيت الناس عند حدوده يطوفون بالجبل ويقطعون أشجارا تشبه السرو فسألت ماذا تعملون بها فقالوا نضع طرفا من الشجرة في النار فيخرج هذا القطران من طرفها الآخر فنجمعه في البئر ثم نضعه في أوعية ونحمله إلى الأطراف وهذه الولايات التي ذكرت بعد أخلاط وقد اختصرنا ذكرها هنا
40

تابعة لميافارقين
ثم سرنا إلى مدينة أرزن وهي مدينة عامرة وجميلة فيها أنهار جارية وبساتين وأشجار وأسواق جميلة ويبيع البرسيون هناك المائتا من عنبا بدينار واحد في شهر آذر نوفمبر وديسمبر ويسمون هذا العنب رز إرمانوش
وانتقلنا إلى مدينة ميافارقين التي يفصلها عن أخلاط ثمانية وعشرون فرسخا ومن بلخ إليها عن الطريق الذي إجتزناه اثنان وخمسون وخمسمائة فرسخ وقد دخلناها يوم الجمعة السادس والعشرين من جمادي الأول 338 (23 نوفمبر 1036) وكانت أوراق الشجر حينئذ لا تزال خضراء وميافارقين محاطة بسور عظيم من الحجر الأبيض الذي يزن الحجر منه خمسمائة من وعلى بعد كل خمسين ذراعا من هذا السور برج عظيم من الحجر نفسه وفي أعلاه شرفات وهي من الدقة بحيث تقول أن يد بناء ماهر أكملتها اليوم ولهذه المدينة باب من ناحية الغرب له عتبة عليها طاق حجري وقد ركب عليها باب من حديد لا خشب فيه ويطول وصف مسجد الجمعة بها لو ذكرته ولو أن صاحب الكتاب شرح كل شيء أتم الشرح وقد قال إن للميضأة التي عملت بهذا المسجد أربعين مرحاضا تمر أمامها قناتان كبيرتان الأولى ظاهرة ليستعمل ماؤها والثانية وهي تحت الأرض لحمل الثفل وللصرف وخارج هذه المدينة في الربض أربطة كروانسراها وأسواق وحمامات ومسجد وجامع آخر يصلون فيه الجمعة أيضا وفي ناحية الشمال سواد آخر يسمى المحدثة به سوق ومسجد
41

جامع وحمامات وكل ما ينبغي لمدينة من مهمات ويذكر اسم سلطان الولاية في الخطبة هكذا الأمير الأعظم عز الإسلام سعد الدين نصر الدولة وشرف الملة أبو نصر أحمد وقد بلغ المائة من عمره ويقال إنه حي والرطل هناك أربعمائة وثمانون درهما وقد بنى هذا الأمير مدينة على مسافة أربعة فراسخ من ميافارقين سماها الناصرية ومن آمد إلى ميافارقين تسعة فراسخ
في السادس من شهر دي القديم (22 ديسمبر 1036) بلغنا آمد التي شيدت على صخرة واحدة طولها ألفا قدم وعرضها كذلك وهي محاطة بسور من الحجر الأسود كل حجر منه يزن ما بين مائة وألف من وأكثر هذه الحجارة ملتصق بعضه بالبعض من غير طين أو جص وارتفاع السور عشرون ذراعا وعرضه عشر أذرع وقد بني على بعد كل مائة ذراع برج نصف دائرته ثمانون ذراعا وشرفاته من هذا الحجر بعينه وقد شيدت في عدة أماكن داخل المدينة سلالم من الحجر ليتيسر الصعود إلى السور وقد بنيت قلعة على قمة كل برج ولهذه المدينة أربعة أبواب كلها من الحديد الذي لا خشب فيه يطل كل منها على جهة من الجهات الأصلية ويسمى الباب الشرقي باب دجلة والغربي باب الروم والشمالي باب الأرمن والجنوبي باب التل وخارج هذا السور سور آخر من نفس الحجر ارتفاعه عشر أذرع ومن فوقه شرفات فيها ممر يتسع لحركة رجل كامل السلاح بحيث يستطيع ان يقف فيه ويحارب بسهولة ولهذا السور الخارجي أبواب من الحديد شيدت مخالفة لأبواب السور الداخلي بحيث لو اجتاز السائر أبواب السور الأول وجب عليه اجتياز مسافة لبلوغ أبواب السور الثاني وهذه المسافة تبلغ خمس عشرة ذراعا وفي وسط المدينة عين يتفجر ماؤها من الحجر الصلب وهذا الماء من الغزارة بحيث يكفي لإدارة خمس طواحين وهو غاية في العذوبة ولا يعرف أحد من أين ينبع وفي المدينة أشجار وبساتين تقي من هذا الماء وأمير المدينة وحاكمها هو ابن نصر
42

الدولة الذي مر ذكره وقد رأيت كثيرا من المدن والقلاع في أطراف العالم في بلاد العرب والعجم والهند والترك ولكني لم أر قط مثل مدينة آمد في أي مكان على وجه الأرض ولا سمعت من أحد أنه رأى مكانا آخر مثلها ومسجدها الجامع من الحجر الأسود وليس مثله متانة وإحكاما وقد أقيم في وسطه مائتا عمود ونيف من الحجر كل عمود قطعة واحدة وفوق هذه الأعمدة عقود من الحجر وقد نصبت فوقها أعمدة أقصر من تلك وجميع أسقف المسجد على هيئة الجملون وقد كملت نجارة ونقارة ونقشا ودهنا وفي ساحته صخرة كبيرة عليها حوض كبير مستدير من الحجر يبلغ ارتفاعه قامة رجل ومحيط دائرته ذراعان وفي وسط الحوض أنبوبة من النحاس يتفجر منها ماء صاف لا يظهر مدخله أو مخرجه وبالمسجد ميضأة عظيمة جميلة الصنع بحيث لا يوجد أحسن منها وقد بنيت عمارات آمد كلها من الحجر الأسود وأما ميافارقين فعماراتها من الحجر الأبيض
وبالقرب من المسجد كنيسة عظيمة غنية بالزخارف مبنية كلها من الحجر وقد فرشت أرضها بالرخام المنقوش وقد رأيت فيها على الطارم وهو مكان العبادة عند النصارى بابا من الحديد المشبك لم أر مثله في أي مكان
ومن آمد إلى حران طريقان أحدهما لا عمران فيه وهو أربعون فرسخا والثاني به أماكن معمورة وقرى كثيرة معظم أهلها من النصارى وهو ستون
43

فرسخا وقد سرنا مع القافلة في هذا الطريق وكانت الصحراء غاية في الاستواء إلا أن بها أحجارا كثيرة بحيث لا تستطيع الدواب أن تخطو خطوة واحدة من غير أن تعثر بحجر وقد بلغنا حران يوم الجمعة الخامس والعشرين من جمادى الآخر سنة 338 (28 ديسمبر 1046) الموافق اثنين وعشرين من شهر دي القديم وكان هواؤها في ذلك الوقت كهواء خراسان أيام النوروز
وسرنا من هناك فبلغنا مدينة تسمى قرول حيث أضافنا رجل كريم في بيته وهناك دخل أعرابي في الستين من عمره فاقترب مني وقال حفظني القرآن فلقنته * (قل أعوذ برب الناس) * فكان يقرؤها معي فلما وصلت إلى آية * (من الجنة والناس) * قال أقول أيضا سورة أرأيت الناس فقلت هذه السورة ليست قبل تلك فقال ما سورة نقالة الحطب ولم يعرف أنه قيل في سورة * (تبت) * حمالة الحطب لا نقالة الحطب ولم يستطع هذا الأعرابي المشرف على الستين في تلك الليلة أن يحفظ سورة * (قل أعوذ) * مع تكراري لها معه
وفي يوم السبت الثاني من رجب سنة 338 (2 يناير 1047) بلغنا مدينة سروج واجتزنا الفرات في اليوم التالي ونزلنا في منبج وهي أول مدن الشام وكان هذا أول بهمن القديم يناير فبراير والطقس هناك معتدل جدا ولم يكن خارج المدينة عمارات قط وقد سرت منها إلى حلب ومن ميافارقين إليها إلى حلب مائة فرسخ
ورأيت مدينة حلب فإذا هي جميلة بها سور عظيم قست ارتفاعه فكان خمسا وعشرين ذراعا وبها قلعة عظيمة مشيدة كلها من الصخر ويمكن مقارنة حلب ببلخ وهي مدينة عامرة أبنيتها متلاصقة وفيها تحصل المكوس عما يمر بها من بلاد الشام والروم وديار بكر ومصر والعراق
44

ويذهب إليها التجار من جميع هذه البلاد ولها أربعة أبواب باب اليهود وباب الله وباب الجنان وباب أنطاكية والوزن في سوقها بالرطل الظاهري وهو أربعمائة وثمانون درهما وتقع حما جنوبي حلب بعشرين فرسخا ومن بعدها حمص ومن حلب إلى دمشق خمسون فرسخا وإلى أنطاكية اثنا عشر فرسخا وإلى طرابلس كذلك ويقال إن من حلب حتى القسطنطينية مائتي فرسخ
وفي الحادي عشر من رجب سنة 438 (11 يناير 1047) خرجنا من حلب وعلى مسافة ثلاثة فراسخ منها قرية تسمى جند قنسرين وفي اليوم التالي سرنا ستة فراسخ وبلغنا مدينة سرمين التي لا سور لها وبعد مسيرة ستة فراسخ أخرى بلغنا معرة النعمان وهي مدينة عامرة ولها سور مبني وقد رأيت على بابها عمودا من الحجر عليه كتابة غير عربية فسألت ما هذا فقيل إنه طلسم العقرب حتى لا يكون في هذه المدينة عقرب أبدا ولا يأتي إليها وإذا أحضر من الخارج وأطلق بها فإنه يهرب ولا يدخلها وقد قست هذا العمود فكان ارتفاعه عشر أذرع ورأيت أسواق معرة النعمان وافرة العمران وقد بني مسجد الجمعة على مرتفع وسط المدينة بحيث يصعدون اليه من أي
جانب يريدون وذلك على ثلاث عشرة درجة وزراعة السكان كلها قمح وهو كثير وفيها شجر وفير من التين والزيتون والفستق والعنب ومياه المدينة من المطر والآبار
وكان بهذه المدينة رجل أعمى اسمه أبو العلاء المعري وهو حاكمها وكان واسع الثراء عنده كثير من العبيد وكان أهل البلد خدم له
45

أما هو فقد تزهد فلبس الكلتم واعتكف في البيت وكان قوته نصف من من خبز الشعير لا يأكل غيره وقد سمعت أن باب سراية مفتوح دائما وأن نوابه وملازميه يدبرون أمر المدينة ولا يرجعون إليه إلا في الأمور الهامة وهو لا يمنع نعمته أحدا يصوم الدهر ويقوم الليل ولا يشغل نفسه مطلقا بأمر دنيوي وقد سما المعري في الشعر والأدب إلى حد أن أفاضل الشام والمغرب والعراق يقرون بأنه لم يكن من يدانيه في هذا العصر ولا يكون وقد وضع كتابا سماه الفضول والغايات ذكر به كلمات مرموزة وأمثالا في لفظ فصيح عجيب بحيث لا يقف الناس إلا على قليل منه ولا يفهمه إلا من يقرأه عليه وقد اتهموه بأنك وضعت هذا الكتاب معارضة للقرآن يجلس حوله دائما أكثر من مائتي رجل يحضرون من الأطراف يقرءون عليه الأدب والشعر وسمعت أن له أكثر من مائة ألف بيت شعر سأله رجل لم تعط الناس ما أفاء الله تبارك وتعالى عليك من وافر النعم ولا تقوت نفسك فأجاب إني لا أملك أكثر مما يقيم أودي وكان هذا الرجل حيا وأنا هناك
وفي الخامس عشر من رجب سنة 338 (15 يناير 1047) سرنا إلى كويمات ومنها إلى حما وهذه المدينة جميلة عامرة على شاطىء نهر العاصي ويسمى هذا النهر بالعاصي لأنه يذهب إلى بلاد الروم فهو يخرج من بلاد الإسلام ليدخل بلاد الكفر وقد نصبوا عليه سواقي كثيرة ومن حما طريقان أحدهما بجانب الساحل غرب الشام والآخر في الجنوب وهو ينتهي إلى دمشق فسرنا عن طريق الساحل وقد رأينا في الجبل عينا قيل إن ماءها يتفجر في الثلاثة أيام التالية لنصف شعبان من كل سنة ثم ينضب فلا تخرج منه قطرة واحدة حتى السنة التالية ويذهب الكثيرون
46

لزيارة هذه العين تقربا إلى الله سبحانه وتعالى وقد بنيت هناك عمارات وأحواض ولما سرنا من هناك بلغنا سهلا كساه النرجس ثوبا أبيض وذهبنا بعد ذلك إلى مدينة تسمى عرقة وبعد مسيرة فرسخين منها بلغنا شاطىء البحر فتبعناه ناحية الجنوب حتى بلغنا مدينة طرابلس بعد مسيرة خمسة فراسخ
ومن حلب إلى طرابلس أربعون فرسخا عن هذا الطريق وكان بلوغنا إياها يوم السبت الخامس من شعبان (6 فبراير) وحول المدينة المزارع والبساتين وكثير من قصب السكر وأشجار النارنج والترنج والموز والليمون والتمر وكان عسل السكر يجمع حينذاك ومدينة طرابلس مشيدة بحيث أن ثلاثة من جوانبها مطلة على البحر فإذا ماج علت أمواجه السور أما الجانب المطل على اليابس فبه خندق عظيم عليه باب حديدي محكم وفي الجانب الشرقي من المدينة قلعة من الحجر المصقول عليها شرفات ومقاتلات من الحجر نفسه وعلى قمتها عرادات لوقايتها من الروم فهم يخافون أن يغير هؤلاء عليها بالسفن ومساحة المدينة ألف ذراع مربع وأربطتها أربع أو خمس طبقات ومنها ما هو ست طبقات أيضا وشوارعها وأسواقها جميلة ونظيفة حتى لتظن أن كل سوق قصر مزين وقد رأيت بطرابلس ما رأيت في بلاد العجم من الأطعمة والفواكه بل أحسن منه
47

مائة مرة وفي وسط المدينة جامع عظيم نظيف جميل النقش حصين وفي ساحته قبة كبيرة تحتها حوض من الرخام في وسطه فواره من النحاس الأصفر وفي السوق مشرعة ذات خمسة صنابير يخرج منها ماء كثير يأخذ منه الناس حاجتهم ويفيض باقيه على الأرض ويصرف في البحر ويقال إن بها عشرين ألف رجل ويتبعها كثير من السواد والقرى ويصنعون بها الورق الجميل مثل الورق السمرقندي بل أحسن منه وهي تابعة لسلطان مصر قيل وسبب ذلك أنه في زمن ما أغار عليها جيش الروم الكفار فحاربه جند سلطان مصر وقهروه فرفع السلطان الخراج عنها وأقام بها جيشا من قبله على رأسه قائد لحمايتها من العدو وتحصل المكوس بهذه المدينة فتدفع السفن الآتية من بلاد الروم والفرنج والأندلس والمغرب العشر للسلطان فيدفع منه أرزاق الجند وللسلطان بها سفن تسافر إلى بلاد الروم وصقلية والمغرب للتجارة وسكان طرابلس كلهم شيعة وقد شيد الشيعة مساجد جميلة في كل البلاد وهناك بيوت على مثال الأربطة ولكن لا يسكنها أحد وتسمى مشاهد ولا يوجد خارج طرابلس بيوت أبدا عدا مشهدين أو ثلاثة من التي مر ذكرها
وغادرت طرابلس وسرت على شاطىء البحر ناحية الجنوب فرأيت على مسافة فرسخ واحد قلعة تسمى قلمون في داخلها عين ماء وسرت من هناك إلى طرابزون ومن طرابلس إليها خمسة فراسخ ومنها بلغنا مدينة جبيل وهي مثلثة تطل زاوية منها على البحر ويحيطها سور حصين شاهق الارتفاع وحولها النخيل غيره من أشجار المناطق الحارة وقد رأيت في يد غلام بها وردة حمراء وأخرى بيضاء ناضرة وكان ذلك في اليوم الخامس من استدارمذ الشهر القديم (فبراير) سنة 315 من تاريخ العجم
ومن هناك بلغنا بيروت فرأيت بها طاقا حجريا شق الطريق في وسطه وقد قدرت ارتفاعه بخمسين ذراعا وجانباه من الحجر الأبيض
48

تزن كل قطعة منه أكثر من ألف من وعلى جانبيه بناء من الطوب النيىء ارتفاعه عشرون ذراعا وقد نصبت على قمته أعمدة من الرخام طول كل منها ثمانية أذرع وهي سميكة بحيث لا يستطيع رجلان أن يحيطاها بأذرعهما إلا بصعوبة وعلى رأس هذه العمد عقود على الجانبين كلها من الحجر المنحوت الذي لا يفصله عن بعضه حص أو طين وفي الوسط تماما الطاق الكبير يعلوها بخمسين ذراعا وقد قست كل حجر منه فإذا به ثمانية أذرع طولا وأربعة عرضا وأظن الحجر الواحد يزن سبعة آلاف من وقد نقشت هذه الحجارة بدقة ومهارة بحيث يقل ما يشابهها مما ينقش على الخشب ولم يبق هناك أبنية غير هذا الطاق وقد سألت أي مكان هذا فقيل لي سمعنا أنه باب حديقة فرعون وهو بالغ في القدم والوادي المجاور لهذه الناحية مملوء بأعمدة الرخام تيجانها وجذوعها وهي من الرخام المدور والمربع والمسدس والمثمن وهي من الصلابة بحيث لا يؤثر فيها الحديد وليس في هذه الجهة جبل حتى يقال إنهم جلبوها منه وهناك حجارة تبدو كأنها معجونة جرانيت وهي تفل الحديد وفي نواحي الشام أكثر من خمسمائة ألف من أعمدة وتيجان وجذوع ولا يعرف أحد ماذا كانت ولا من أين نقلت
ثم بلغنا مدينة صيدا وهي على شاطىء البحر أيضا يزرع بها قصب السكر بوفرة وبها قلعة حجرية محكمة ولها ثلاث بوابات وفيها مسجد جمعة جميل يبعث في النفس
هيبة تامة وقد فرش كله بالحصير المنقوش وفي صيدا سوق جميل نظيف وقد ظننت حين رأيته أنه زين خاصة لمقدم السلطان أو لأن بشرى سعيدة أذيعت فلما سألت قيل لي هكذا عادة هذه المدينة دائما وفيها حدائق وأشجار منسقة حتى لتقول إن سلطانا هاويا غرسها وفي كل من هذه الحدائق كشك وأغلب شجرها مثمر
49

وبعد مسيرة خمسة فراسخ على شاطىء البحر بلغنا مدينة صور وهي ساحلية أيضا وقد بنيت على صخرة امتدت في الماء بحيث أن الجزء الواقع على اليابس من قلعتها لا يزيد على مائة ذراع والباقي في ماء البحر والقلعة مبنية بالحجر المنحوت الذي سدت فجواته بالقار حتى لا يدخل الماء من خلله وقد قدرت المدينة بألف ذراع مربع وأربطتها من خمس أو ست طبقات وكلها متلاصقة وفي كثير منها نافورات وأسواقها جميلة كثيرة الخيرات وتعرف مدينة صور بين مدن ساحل الشام بالثراء ومعظم سكانها شيعة والقاضي هناك رجل سني اسمه ابن أبي عقيل وهو رجل طيب ثري وقد بني على باب المدينة مشهد به كثير من السجاجيد والحصير والقناديل والثريات المذهبة والمفضضة وصور مشيدة على مرتفع وتأتيها المياه من الجبل وقد شيد على بابها عقود حجرية يمر من فوقها إلى المدينة وفي الجبل واد مقابل لها إذا سار السائر فيه ثمانية عشر فرسخا ناحية المشرق بلغ دمشق
بعد أن سرنا سبعة فراسخ من صور بلغنا عكة وتكتب هناك مدينة عكة وهي مشيدة على مرتفع بعضه من أرض وعرة وبعضه سهل ولم تشيد المدينة في الوادي المنخفض مخافة غلبة ماء البحر عليها وخشية أمواجه التي تعج على الساحل ومسجد الجمعة في وسط المدينة وهو أعلى مبانيها وأعمدتها كلها من الرخام ويقع قبر صالح النبي عليه السلام خارجه على يمين القبلة وساحته بعضها من الحجر وبعضها الآخر مزروع ويقال إن آدم عليه السلام كان يزرع هناك ومسحت المدينة فكان طولها ألفي ذراع وعرضها خمسمائة ولها قلعة غاية في الإحكام يطل جانباها الغربي والجنوبي على البحر وعلى الأخير ميناء ومعظم مدن الساحل كذلك والميناء اسم يطلق على الجهة التي بنيت للمحافظة على السفن وهي تشبه الاسطبل وظهرها ناحية المدينة وحائطاها داخلان في البحر وعلى امتدادهما مدخل مفتوح طوله خمسون ذراعا وقد شدت السلاسل بين
50

الحائطين فإذا أريد إدخال سفينة إلى الميناء أرخيت السلسلة حتى تغوص في الماء فتمر السفينة فوقها ثم تشد حتى لا يستطيع عدو أن يقصدها بسوء وعند الباب الشرقي على اليد اليسرى عين يصلون إلى مائها بنزول ست وعشرين درجة وتسمى عين البقر ويقال آدم عليه السلام هو الذي كشفها وكان يسقي منها بقرته ولذا سميت عين البقر
وحين يذهب المسافر من عكة ناحية المشرق يجد جبلا به مشاهد الأنبياء عليهم السلام وهذا الجبل واقع على جانب الطريق المؤدي إلى الرملة وقد عزمت على التبرك بزيارة هذه المشاهد والتقرب إلى الله تبارك وتعالى وقد قال سكان عكة إن في الطريق أشرارا يتعرضون لم يرون من الغرباء وينهبون ما معهم فأودعت نفقتي بمسجد عكة وخرجت من بابها الشرقي يوم السبت الثالث والعشرين من شعبان سنة 338 (5 مارس 1037) وقد زرت في اليوم الأول قبر عك باني المدينة وهو أحد الصالحين الأولياء وكنت حائرا إذا لم يكن معي دليل يرشدني وفجأة تعرفت في اليوم نفسه بفضل من الله تبارك وتعالى برجل من العجم أتى من آذربيجان للتبرك بزيارة المشاهد مرة أخرى فشكرت لله تبارك وتعالى هبته وصليت ركعتين وسجدت له شكرا على توفيقه إياي لأفي بعزمي ثم بلغت قرية تسمى بروة وزرت قبر عيش وشمعون عليهما السلام ومن هناك بلغت مغارك التي تسمى دامون فزرت المشهد المعروف بقبر ذي الكفل عليه السلام ثم واصلت السير إلى قرية أخرى تسمى أعبلين وبها قبر هود عليه السلام فزرته وكان بحظيرته شجرة الخرتوت وكذلك زرت هناك قبر النبي عزير عليه السلام ثم يممت وجهي شطر الجنوب فبلغت قرية تسمى حظيرة
51

وفي الجانب الغربي منها واد به عين ماء عذب تخرج من الصخر وقد بني أمامها مسجد على الصخر به بيتان صخريان فوقهما سقف من الحجر أيضا وعليهما باب صغير يستطيع الزائر دخوله بصعوبة وهناك قبران متجاوران أحدهما قبر شعيب عليه السلام والثاني قبر ابنته التي كانت زوج موسى عليه السلام ويعنى أهل هذه القرية بهذا المسجد عناية فائقة من تنظيف وإنارة وغير ذلك ومن هناك بلغت قرية تسمى إربل وفي ناحية القبلة منها جبل في وسطه حظيرة بها أربعة قبور لأربعة من أبناء يعقوب إخوة يوسف عليهم السلام وذهبت من هناك فرأيت تلا من تحته غار فيه قبر أم موسى عليه السلام فزرته ثم خرجت فبدا لي واد في آخره بحر صغير تقع عليه طبرية طوله ستة فراسخ وعرضه ثلاثة وماؤه عذب لذيذ وتقع غربية المدينة وتصرف في هذا البحر كل مياه الحمامات وفضلات المدينة وكذلك يشرب منه سكانها وسكان الولاية التي على شاطئه وسمعت أن أميرا دخل هذه المدينة ذات مرة فأمر بسد قنوات القاذورات والماء الملوث حتى لا تفضي إلى البحر فنتن ماؤه وأصبح لا يصلح للشرب فأمر ثانية بفتح هذه القنوات فعاد ماء البحر عذبا ولطبرية سور حصين يبدأ من شاطئ البحر ويمتد حول المدينة والطرف المحدود بالبحر لا حائط له وبها مبان كثيرة في وسط البحر فإن قاعه صخري وقد شيدت هناك مناظر على رؤوس أعمدة رخامية أساسها في الماء وفي بحر طبرية سمك كثير ومسجد الجمعة في وسط المدينة وعند بابه عين ماء بني عند رأسها حمام ماؤه ساخن فلا يستطيع مستحم أن يصبه على جسده من غير أن يمزجه بماء بارد ويقال إن الذي بناه هو سليمان بن داود عليه السلام وقد دخلته وفي الجانب الغربي من مدينة طبرية مسجد اسمه مسجد الياسمين وهو مسجد جميل في وسطه ساحة كبيرة بها محا ريب وحولها الياسمين الذي سمي به المسجد وفي رواق بالجانب الشرقي قبر يوشع بن نون وتحت هذه الساحة قبور سبعين نبيا عليهم السلام قتلهم بنو إسرائيل
52

وجنوب طبرية بحر لوط وهو مالح المياه ويصب به ماء بحر طبرية وكانت مدينة لوط تقع على شاطئه ولم يبقى منها أثر قط وسمعت من انسان أن في مياه بحر لوط المالحة شيئا كالحجارة السوداء غير صلب يشبه البقر يخرج من قاعه فيأخذه السكان ويقطعونه ويحملونه إلى المدن والولايات ويقال إنه إذا وضعت قطعة منه تحت شجرة يمتنع الدود عنها من غير أن يمس جذرها أذى منه فلا يتلف البستان مما تحت الأرض من دود وحشرات والعهدة على الراوي وقيل كذلك إن العطارين يستخدمونه لأنه يبعد دودة تصيب البذور اسمها النقرة وفي طبرية يصنعون الحصير ومنه حصير الصلاة وتشتري الواحدة منها بخمسة جنيهات مغربية وفي الجانب الغربي من المدينة جبل فيه قطعة من حجر المرمر مكتوب عليها بخط عبري أن الثريا كانت على رأس الحمل ساعة الكتابة ويقع قبر أبي هريرة خارج المدينة ناحية القبلة ولكن لا يستطيع أحد
زيارته لأن السكان هناك شيعة فإذا ذهب أحد للزيارة تجمع عليه الأطفال وتحرشوا به وحملوا عليه وقذفوه بالحجارة ولهذا لم أستطع زيارته سرت بعد ذلك إلى قرية تسمى كفركنه بجانبها تل بنيت علي قمته صومعة جميلة بها قبر النبي يونس عليه السلام وعليها باب متين بقربه بئر ماؤها عذب
وقد عدت إلى عكا بعد زيارة هذا المشهد وبينهما مسافة أربعة فراسخ فمكثت بها يوما واحدا ثم غادرتها إلى قرية تسمى حيفا وفي طريق به كثير من هذا الرمل الذي يستخدمه صياغ العجم والمسمى بالرمل المكي وحيفا مشيدة على البحر وبها نخل وأشجار كثيرة وهناك عمال يصنعون السفن البحرية المسماة بالجودي وسرنا بعد ذلك فبلغنا بعد مسيرة فرسخ واحد قرية أخرى تسمى كنيسة وعندها ينحرف الطريق عن البحر ويدخل الجبل ناحية المشرق حيث الصحروات والمحاجر التي تسمى وادي التماسيح ويعود لمحاذاة الشاطئ بعد مسيرة فرسخين وهناك رأينا عظام حيوانات بحرية كثيرة مختلطة بالتراب
53

والطين وقد تحجرت من كثرة ما ثار عليها من الموج
وقمنا من هناك وسرنا حتى بلغنا مدينة تسمى قيسارية بينها وبين عكا سبعة فراسخ وهي مدينة جميلة بها ماء جار ونخيل وأشجار النارنج والترنج ولها سور حصين له باب حديدي وبها عيون ماء جارية ومسجد الجامع جميل ويرى المصلون البحر ويتمتعون به وهم جلوس في ساحته وهناك زير من الرخام يشبه الخزف الصيني وهو عميق بحيث يسع مائة من ماء
في يوم السبت آخر شعبان (10 مارس) قمنا من هناك وسرنا مقدار فرسخ عن طريق الرمل المكي وقد رأيت في الطريق كله سهله وجبله كثيرا من شجر التين والزيتون وبعد بضعة فراسخ بلغنا مدينة تسمى كفرسابا أو كفر سلام ومنها حتى الرملة ثلاثة فراسخ في طريق كله شجر كالذي ذكرت
وفي يوم الأحد غرة رمضان (11 مارس) بلغنا الرملة ومن قيسارية إليها ثمانية فراسخ وهي مدينة كبيرة بها سور حصين من الحجر والجص مرتفع ومتين وعليه أبواب من حديد ومن المدينة إلى الشاطئ البحر ثلاثة فراسخ والماء هناك من المطر ولذا فقد بني في كل منزل حوض لجميع مياه المطر فيبقى ذخيرة دائمة وفي وسط مسجد الجمعة أحواض تمتلى بالماء فيأخذ منه من يشاء ومساحة الجامع ثلاثمائة قدم في مائتين وقد كتب أمام الضفة إنه في الخامس عشر من شهر محرم سنة 425 (11 ديسمبر 1033) زلزلت الأرض بشدة هنا فخربت عمارات كثيرة ولم يصب أحد من السكان بسوء وفي هذه المدينة رخام كثير وقد زينت معظم السرايات والبيوت بالرخام المنقوش الكثير الزينة ويقطع الرخام بمنشار لا أسنان له وبالرمل المكي ويعملون المنشار على أعمدة الرخام بالطول لا بالعرض فيخرجون منه ألواحا كألواح الخشب ورأيت هناك أنواعا وألوانا من
54

الرخام من الملمع والأخضر والأحمر والأسود والأبيض ومن كل لون وفي الرملة صنف من التين ليس أحسن منه في أي مكان يصدر منها إلى جميع البلاد وتسمى مدينة الرملة في الشام والمغرب فلسطين
وفي الثالث من رمضان غادرت الرملة فبلغت قرية تسمى خاتون وقد سرت منها إلى قرية أخرى تسمى قرية العنب وقد رأينا في الطريق كثيرا من نبات السذاب الذي ينبت بريا على الجبال وفي الصحراء وقد رأيت في هذه القرية عين ماء عذب تخرج من الصخر وقد بنيت هناك أحواض وعمارات وقد ذهبنا صاعدين وكنا نحسب أنا بعد صعود الجبل سنهبط إلى المدينة في الطرف الآخر ولكنا وجدنا أمامنا بعد أن صعدنا قليلا سهلا واسعا بعضه صخري وبعضه كثير التراب وعلى رأس جبل فيه تقع مدينة بيت المقدس ومن طرابلس التي هي على الساحل إليها ستة وخمسون فرسخا ومن بلخ إليها ستة وسبعون وثمانمائة فرسخ
وفي الخامس من رمضان سنة 438 (16 مارس 1047) بلغنا بيت المقدس وكان قد مضى على خروجنا من بلدنا سنة شمسية وطوال رحلتنا لم نقر في مكان قط ولا وجدنا راحة كاملة وأهل الشام وأطرافها يسمون بيت المقدس القدس ويذهب إلى القدس في موسم الحج من لا يستطيع الذهاب إلى مكة من أهل هذه الولايات فيتوجه إلى الموقف ويضحي ضحية العيد كما هي العادة ويحضر هناك لتأدية السنة وفي بعض السنين أكثر من عشرين ألف شخص في أوائل ذي الحجة ومعهم أبناؤهم كذلك يأتي لزيارة بيت المقدس من ديار الروم كثير من النصارى واليهود وذلك لزيارة الكنيسة والكنيش هناك وهناك كنيسة عظيمة سيأتي وصفها في مكانه وسواد ورساتيق بيت المقدس جبلية كلها والزراعة وأشجار الزيتون والتين وغيرها تنبت كلها بغير ماء والخيرات بها كثيرة ورخيصة
55

وفيها أرباب عائلات يملك الواحد منهم خمسين ألف من من زيت الزيتون يحفظونها في الآبار والأحواض ويصدرونها إلى أطراف العالم ويقال إنه لا يحدث قحط في بلاد الشام وسمعت من ثقات أن وليا رأى النبي عليه السلام في المنام فقال له ساعدنا في معاشنا يا رسول الله فأجابه النبي عليه السلام على خبز الشام وزيته
والآن أصف مدينة بيت المقدس
وصف بيت المقدس
هي مدينة مشيدة على قمة الجبل ليس بها ماء غير الأمطار ورساتيقها ذات عيون والمدينة محاطة بسور حصين من الحجر والجص وعليها بوابات حديدية وليس بقربها أشجار قط فإنها على رأس صخر وهي مدينة كبير كان بها في ذلك الوقت عشرون ألف رجل وبها أسواق جميلة وأبنية عالية وكل أرضها مبلطة بالحجارة وقد سووا الجهات الجبلية والمرتفعات وجعلوها مسطحة بحيث تغسل الأرض كلها وتنظف حين تنزل الأمطار وفي المدينة صناع كثيرون لكل جماعة منهم سوق خاصة والجامع شرقي المدينة وسوره هو سورها الشرقي وبعد الجامع سهل كبير مستو يسمى الساهرة يقال أنه سيكون ساحة القيامة والحشر ولهذا يحضر إليه خلق كثيرون من أطراف العالم ويقيمون به حتى يموتوا فإذا جاء وعد الله كانوا بأرض الميعاد اللهم عفوك ورحمتك بعبيدك ذلك اليوم آمين يا رب العالمين وعلى حافة هذا السهل قرافة عظيمة ومقابر كثير من الصالحين يصلي بها الناس ويرفعون بالدعاء أيديهم فيقضي الله حاجاتهم اللهم تقبل حاجاتنا واغفر ذنوبنا وسيئاتنا وارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين وبين
الجامع وسهل الساهرة واد عظيم الانخفاض كأنه خندق وبه أبنية كثيرة على نسق أبنية الأقدمين ورأيت قبة من الحجر المنحوت مقامة على بيت
56

لم أر عجب منها حتى أن الناظر إليها ليسأل نفسه كيف رفعت في مكانها ويقول العامة إنها بيت فرعون واسم هذا الوادي وادي جهنم وقد سألت عمن أطلق هذا اللقب عليه فقيل أن عمر رضي الله عنه أنزل جيشه أيام خلافته في سهل الساهرة هذا فلما رأى الوادي قال هذا وادي جهنم ويقول العوام إن من يذهب إلى نهايته يسمع صياح أهل جهنم فإن الصدى يرتفع من هناك وقد ذهبت فلم أسمع شيئا وحين يسير السائر من المدينة جنوبا مسافة نصف فرسخ وينزل المنحدر يجد عين ماء تنبع من الصخر تسمى عين سلوان وقد أقيمت عندها عمارات كثيرة ويمر ماء هذا العين بقرية شيدوا فيها عمارات كثيرة وغرسوا بها البساتين ويقال إن من يستحم من ماء هذه العين يشفى مما ألم به من الأوصاب والأمراض المزمنة وقد وقفوا عليها مالا كثيرا وفي بيت المقدس مستشفى عظيم عليه أوقاف طائلة ويصرف لمرضاه العديدين العلاج والدواء وبه أطباء يأخذون مرتباتهم من الوقف المقرر لهذه المستشفى ومسجد الجمعة على حافة المدينة من الناحية الشرقية وإحدى حوائط المسجد على حافة وادي جهنم وحين ينظر السائر من خارج المسجد يرى الحائط المطل على هذا الوادي يرتفع مائة ذراع من الحجر الكبير الذي لا يفصله عن بعضه ملاط أو جص والحوائط داخل المسجد ذات ارتفاع مستو وقد بني المسجد في هذا المكان لوجود الصخرة به وهي الصخرة التي أمر الله عز وجل موسى عليه السلام أن يتخذها قبلة فلما قضي هذا الأمر واتخذها موسى قبلة له لم يعمر كثيرا بل عجلت به المنية حتى إذا كانت أيام سليمان عليه السلام وكانت الصخرة قبلة بنى مسجدا حولها بحيث أصبحت في وسطه وظلت الصخرة قبلة حتى عهد نبينا المصطفى عليه الصلاة والسلام فكان المصلون يولون وجوههم شطرها إلى أن أمرهم الله تعالى أن يولوا وجوههم شطر الكعبة وسيأتي وصف ذلك في مكانه
57

وقد أردت أن أقيس هذا المسجد ولكني آثرت أن أتقن معرفة هيأته ووضعه أولا ثم أقيسه فلبثت فيه زمنا أمعن النظر فرأيت عند الجانب الشمالي بجوار قبة يعقوب عليه السلام طاقا مكتوبا على حجر منه ان طول هذا المسجد أربع وخمسون وسبعمائة ذراع وعرضه خمس وخمسون وأربعمائة ذراع وذلك بذراع الملك المسمى في خراسان كزشايكان وهو أقل قليلا من ذراع ونصف وأرض المسجد مغطاة بحجارة موثوقة إلى بعضها البعض بالرصاص والمسجد شرقي المدينة والسوق فإذا دخله السائر من السوق فإنه يتجه شرقا فيرى رواقا عظيما جميلا ارتفاعه ثلاثون ذراعا وعرضه عشرون وللرواق جناحان وواجهتاهما وإيوانه منقوشة كلها بالفسيفساء المثبتة بالجص على الصورة التي يريدونها وهي من الدقة بحيث تبهر النظر ويرى على هذا الرواق كتابة منقوشة بالمينا وقد كتب هناك لقب سلطان مصر فحين تقع الشمس على هذه النقوش يكون لها من الشعاع ما يحير الألباب وفوق الرواق قبة كبيرة من الحجر المصقول وله بابان مزخرفان وواجهتاهما من النحاس الدمشقي الذي يلمع حتى لتظن أنهما طليا بالذهب وقد طعما بالذهب وحليا بالنقوش الكثيرة وطول كل منهما خمس عشرة ذراعا وعرضه ثمان ويسميان باب داود عليه السلام وحين يجتاز السائر هذا الباب يجد على اليمين رواقين كبيرين في كل منهما تسعة وعشرون عمودا من الرخام تيجانها وقواعدها مزينة بالرخام
58

الملون ووصلاتها مثبتة بالرصاص وعلى تيجان الأعمدة طيقان حجرية وهي مقامة فوق بعضها بغير ملاط وجص لا يزيد عدد حجارة الطاق منها على أربع أو خمس قطع وهذان الرواقان ممتدان إلى المقصورة ثم يجد على اليسار وهو ناحية الشمال رواقا طويلا به أربعة وستون طاقا كلها على تيجان أعمدة من رخام وعلى هذا الحائط نفسه باب آخر اسمه باب السقر وطول المسجد من الشمال إلى الجنوب وهو ساحة مربعة إذا اقتطعت المقصورة منه والقبلة في الجنوب وعلى الجانب الشمالي بابان آخران متجاوران عرض كل منهما سبع أذرع وارتفاعه اثنتي عشرة ذراعا ويسميان باب الأسباط فإذا اجتازه السائر وذهب مع عرض المسجد الذي هو جهة المشرق يجد رواقا أخرا عظيما كبيرا به ثلاثة أبواب متجاورة في حجم باب الأسباط وكلها مزينة بزخارف من الحديد والنحاس قل ما هو أجمل منها تسمى باب الأبواب لأن للمواضع الأخرى بابين وله ثلاثة وبين هذين الرواقين الواقعين على الجانب الشمالي في الرواق ذي الطيقان المحملة على أعمدة الرخام قبة رفعت على دعائم عالية وزينت بالقناديل والمسارج تسمى قبة يعقوب عليه السلام لأنه كان يصلي هناك وفي عرض المسجد رواق في حائطة باب خارجه صومعتان للصوفية وهناك مصليات ومحاريب جميلة يقيم بها جماعة منهم ويصلون ولا يذهبون للجامع الا يوم الجمعة لأنهم لا يسمعون التكبير حيث يقيمون
وعند الركن الشمالي للمسجد رواق جميل وقبة جميلة لطيفة مكتوب عليها هذا محراب زكريا النبي عليه السلام ويقال انه كان يصلي هناك دائما وعند الحائط الشرقي وسط الجامع رواق عظيم الزخرف من الحجر المصقول حتى تظن انه نحت من قطعة واحدة ارتفاعه خمسون ذراعا
59

وعرضه ثلاثون عليه نقوش ونقر وله بابان جميلان لا يفصلهما أكثر من قدم واحدة وعليهما زخارف كثيرة من الحديد والنحاس الدمشقي وقد دق عليهما الحلق والمسامير ويقال ان سليمان بن داود عليه السلام بنى هذا الرواق لأبيه
وحين يدخل السائر هذا الرواق متجها ناحية الشرق فالأيمن من هذين البابين هو باب الرحمة والأيسر باب التوبة ويقال ان هذا الباب هو الذي قبل الله تعالى عنده توبة داود عليه السلام وعلى هذا الرواق مسجد جميل كان في وقت ما دهليزا فصيروه جامعا وزينوه بأنواع السجاد وله خدم مخصصون ويذهب اليه كثير من الناس ويصلون فيه ويدعون الله تبارك وتعالى فإنه في هذا المكان قبل توبة داود وكل انسان هناك يأمل في التوبة والرجوع عن المعاصي ويقال ان داود عليه السلام لم يكد يطأ عتبة هذا المسجد حتى بشره الوحي بان الله سبحانه تعالى قد قبل توبته فاتخذ هذا المكان مقاما وانصرف إلى العبادة وقد صليت أنا ناصر في هذا المقام ودعوت الله تعالى أن يوفقني لطاعته وأن يغفر ذنبي الله سبحانه وتعالى يهدي عباده جميعا لما يرضاه ويغفر لهم ذنوبهم بحق محمد وآله الطاهرين
وحين يمضي السائر بحذاء الجدار الشرقي إلى أن يبلغ الزاوية الجنوبية عند القبلة التي تقع على الضلع الجنوبي يجد أمام الحائط الشمالي مسجدا بهيئة السرداب ينزل اليه بدرجات كثيرة مساحته عشرون ذراعا في خمس عشرة وسقفه من الحجر مرفوع على أعمدة الرخام وبهذا السرداب مهد عيسى عليه السلام وهو من الحجر حجمه كبير
بحيث يصلي عليه الناس وقد صليت هناك وقد أحكم وضعه في الأرض حتى لا يتحرك وهو المهد الذي أمضى فيه عيسى طفولته وكلم الناس منه وهو في المسجد مكان المحراب وفي الجانب الشرقي من هذا المسجد محراب مريم عليها السلام وبه محراب آخر
60

لزكريا عليه السلام وعلى هذين المحرابين آيات القرآن التي نزلت في حق زكريا ومريم ويقال ان عيسى عليه السلام ولد بهذا المسجد وعلى حجر من عمده نقش إصبعين كأن شخصا أمسكه ويقال ان مريم أمسكته باصبعيها وهي تلد ويعرف هذا المسجد بمهد عيسى عليه السلام وبه قناديل كثيرة من النحاس والفضة توقد كل مساء
حين يخرج السائر من هذا المسجد متبعا الحائط الشرقي يجد عندما يبلغ زاوية المسجد الكبير مسجدا آخر عظيما جدا أكبر مرتين من مسجد مهد عيسى يسمى المسجد الأقصى وهو الذي أسرى الله عز وجل بالمصطفى صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج من مكة اليه ومنه صعد إلى السماء كما جاء في القرآن * (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى) * وقد بنوا به أبنية غاية في الزخرف وفرش بالسجاد الفاخر ويقوم عليه خدم مخصصون يعملون به دواما
وحين يعود السائر إلى الحائط الجنوبي على مائتي ذراع من تلك الزاوية لا يجد سقفا وهناك ساحة المسجد وأما الجزء المسقوف من المسجد الكبير والذي به المقصورة فيقع عند الحائطين الجنوبي والغربي وطول هذا الجزء عشرون وأربعمائة ذراع وعرضه خمسون ومائة ذراع وبه ثمانون ومائتا عمود من الرخام على تيجانها طيقان من الحجارة وقد نقشت تيجان الأعمدة وهياكلها وثبتت الوصلات فيها بالرصاص في منتهى الإحكام وبين كل عمودين ست أذرع مغطاة بالرخام الملون الملبس بشقاق الرصاص والمقصورة في وسط الحائط الجنوبي وهي كبيرة جدا تتسع لستة عشر عمودا وعليها
61

قبة عظيمة جدا منقوشة بالميناء على نسق ما وصفت وهي مفروشة بالحصير المغربي وبها قناديل ومسارج معلقة بالسلاسل ومتباعد بعضها عن بعض وبها محراب كبير منقوش بالميناء وعلى جانبيه عمودان من الرخام لونهما كالعقيق الأحمر وإزار المقصورة كله من الرخام الملون وعلى يمينه محراب معاوية وعلى يساره محراب عمر رضي الله عنه وسقف هذا المسجد مغطى بالخشب المنقوش المحلى بالزخارف وعلى باب المقصورة وحائطها المطلان على الساحة خمسة عشر رواقا عليها أبواب مزخرفة ارتفاع كل منها عشرة أذرع وعرضه ست عشرة من هذه الأبواب تفتح على الجدار الذي طوله عشرون وأربعمائة ذراع وخمسة منها على الجدار الذي طوله خمسون ومائة ذراع وقد زين باب منها غاية الزينة وهو من الحسن بحيث تظن أنه من ذهب وقد نقش بالفضة وكتب عليه اسم الخليفة المأمون ويقال انه هو الذي أرسله من بغداد وحين تفتح الأبواب كلها ينير المسجد حتى لتظن أنه ساحة مكشوفة أما حين تعصف الريح وتمطر السماء وتغلق الأبواب فان النور ينبعث للمسجد من الكوات وعلى الجوانب الأربعة من الحرم المسقوف صناديق من مدن الشام والعراق يجلس بجانبها المجاورون كما هو الحال في المسجد الحرام بمكة شرفها الله تعالى
وخارج هذا الحرم عند الحائط الكبير الذي مر ذكره رواق به اثنان وأربعون طاقا وكل أعمدته من الرخام الملون وهذا الرواق متصل بالرواق المغربي
وتحت الأرض في الحرم المسقوف حوض جعل بحيث يكون في مستوى
62

الأرض حين يغطى وقد بنى لتجمع فيه مياه المطر وعلى الحائط الجنوبي باب يؤدي إلى ميضأة يذهب إليها من يحتاج إلى الوضوء فيجدده وذلك لأنه لا يلحق الصلاة إذا هو خرج من المسجد ليتوضأ إذ ان أكبر المسجد يفوت عليه الصلاة إذا اجتازه وكل الأسقف ملبسة بالرصاص
وقد حفرت في ارض المسجد أحواض وصهاريج كثيرة فان المسجد مشيد كله على صخرة فمهما يهطل من المطر لا يذهب خارج الأحواض ولا يضيع سدى بل ينصرف إلى الأحواض وينتفع به الناس وهناك ميازيب من الرصاص ينزل منها الماء إلى أحواض حجرية تحتها وقد ثقبت هذه الأحواض ليخرج منها الماء ويصب في الصهاريج بواسطة قنوات بينها غير ملوث أو عفن وقد رأيت على ثلاثة فراسخ من المدينة صهريجا كبيرا تنحدر اليه المياه من الجبل وتتجمع فيه وقد أوصلوه بقناة إلى مسجد المدينة حيث يوجد أكبر مقدار من مياه المدينة وفي المنازل كلها أحواض لجمع ماء المطر إذ لا يوجد غيره هناك ويجمع كل انسان ما على سطح بيته من مياه فان ماء المطر هو الذي يستعمل في الحمامات وغيرها
والأحواض التي بالمسجد لا تحتاج إلى عمارة أبدا لأنها من الحجر الصلب فإذا حدث بها شق أو ثقب أحكم إصلاحه حتى لا تتخرب ويقال ان سليمان عليه السلام هو الذي عمل هذه الأحواض وقد جعل القسم الأعلى منها على هيئة التنور وعلى رأس كل حوض غطاء من حجر حتى لا يسقط فيه شيء وماء هذه المدينة أعذب وأنقى من أي ماء آخر وتستمر الميازيب في قطر المياه يومين أو ثلاثة ولو كان المطر قليلا إلى أن يصفو الجو وتزول آثاره السيئة وحينئذ يبدأ المطر
قلت إن مدينة بيت المقدس تقع على قمة جبل وان أرضها غير مستوية أما المسجد فأرضه مستوية فخارج المسجد حيثما تكون الأرض منخفضة يرتفع حائطه إذ يكون أساسه في أرض واطئة وحيثما تكون الأرض مرتفعة
63

يقصر الجدار وفي الجهات الواطئة من أحياء المدينة فتحوا في المسجد أبوابا كأنها نقب تؤدي لساحته ومن هذه الأبواب باب يسمى باب النبي عليه الصلاة والسلام وهو بجانب القبلة اي في الجنوب وقد عمل بحيث يكون عرضه عشرة أذرع وأما ارتفاعه فيتفاوت حسب المكان فهو في مكان خمس أذرع اي علو سقف هذا الممر وفي مكان آخر عشرون والجزء المسقوف من المسجد الأقصى مشيد فوق هذا الممر وهو محكم بحيث يحتمل أن يقام فوقه بناء بهذه العظمة من غير أن يؤثر فيه قط وقد استخدمت في بنائه حجارة لا يصدق العقل كيف استطاعت قوة البشر نقلها واستخدامها ويقال إن سليمان بن داود عليه السلام هو الذي بناه وقد دخل فيه نبينا عليه الصلوات والسلام إلى المسجد ليلة المعراج وهذا الباب على جانب طريق مكة
وعلى الحائط بقرب هذا الباب نقش دقيق لمجن كبير يقال إن حمزة بن عبد المطلب عم النبي عليه السلام كان جالسا هناك وعلى كتفه المجن وظهره مسند إلى الحائط وأن هذا نقش مجنه
وعند بوابة المسجد حديث هذا الممر الذي عليه باب ذو مصراعين يبلغ ارتفاع الجدار من الخارج ما يقرب من خمسين ذراعا وقد قصد بهذا الباب أن يدخل منه سكان المحلة المجاورة لهذا الضلع من المسجد فلا يلجأون إلى الذهاب لمحلة أخرى حين يريدون دخوله وعلى الحائط الذي يقع يمين الباب حجر ارتفاعه خمس عشرة ذراعا وعرضه أربع أذرع فليس في المسجد حجر أكبر منه وفي الحائط على ارتفاع ثلاثين أو أربعين ذراعا من الأرض كثير من الحجارة التي تبلغ حجمها أربع أذرع
أو خمس وفي عرض المسجد باب شرقي يسمى باب العين إذا خرجوا منه نزلوا منحدرا فيه عين سلوان وهناك أيضا باب تحت الأرض يسمى الحطة يقال إنه هو الباب الذي أمر الله عز وجل بني إسرائيل ان يدخلوا منه إلى المسجد قوله تعالى * (وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين) *
64

وهناك باب آخر يسمونه باب السكينة في دهليزه مسجد به محاريب كثيرة باب أولها مغلق حتى لا يلجه أحد ويقال ان هناك تابوت السكينة الذي ذكره الله تبارك وتعالى في القرآن والذي حمله الملائكة وأبواب بيت المقدس ما تحت الأرض وما فوقها تسعة أبواب كما ذكرت
وصف الدكة التي بوسط ساحة المسجد والصخرة التي كانت قبلة الإسلام
أقيمت هذه الدكة في وسط المساحة لأنه لم يتيسر نقل الصخرة إلى الجزء المسقوف من المسجد لعلوها وهي تظل مساحة من الأرض مقدارها ثلاثون وثلاثمائة ذراع في ثلاثمائة وارتفاعها اثنتي عشرة ذراعا وصحنها مستو ومزخرف بالرخام الملبس بوصلات الرصاص وعلى جوانبها الأربعة ألواح الرخام كما يعمل في المقابر وهي مبينة بحيث لا يستطيع أحد الصعود عليها من غير المراقي المخصصة لهذا الأمر ويشرف من يصعد عليها على سقف الجامع وقد حفر في أرضها في الوسط حوض يصب فيه مياه المطر بواسطة قنوات أعدت لذلك وماء هذا الحوض أنقى وأعذب من كل ماء في الجامع وعلى هذه الدكة أربع قباب أكبرها قبة الصخرة التي كانت القبلة
وصف قبة الصخرة
بني المسجد بحيث تكون الدكة في وسط الساحة وقبة الصخرة في وسط الدكة والصخرة وسط القبة وقبة الصخرة بيت مثمن منظم كل ضلع من
65

أضلاعه الثمانية ثلاث وثلاثون ذراعا وله أربعة أبواب على الجهات الأربع الأصلية باب شرقي وآخر غربي وثالث شمالي ورابع جنوبي وبين كل بابين ضلع وجميع الحوائط من الحجر المنحوت وارتفاعها عشرون ذراعا
ومحيط الصخرة مائة ذراع وهي غير منتظمة الشكل لا هي مدورة ولا مربعة ولكنها حجر غير منتظم كحجارة الجبل وقد بنوا على جوانب الصخرة الأربعة أربعة دعائم مربعة بارتفاع حائط البيت المذكور وبين كل دعامتين على الجوانب الأربعة عمودان اسطوانيان من الرخام بنفس الارتفاع وعلى قمة تلك الدعائم وهذه الأعمدة الاثني عشر بنوا القبة التي تحتها الصخرة والتي يبلغ محيطها مائة وعشرين ذراعا
وبين حائط هذا البناء والدعائم والأعمدة أسمي المربعة المبنية ستون دعامة والمنحوتة المستديرة التي من حجر واحد أسطوانة عمودا ثمان دعائم أخرى مبنية من الحجارة المنحوتة وبين كل اثنتين منهما ثلاثة أعمدة من الرخام الملون على أبعاد متساوية بحيث يكون في الصف الأول عمودان بين كل دعامتين ويكون هنا ثلاثة أعمدة بين كل دعامتين وعلى تاج كل دعامة أربعة عقود على كل عقد طاق وعلى كل عمود عقدان فوق كل منها طاق وهكذا يكون على العمود متكأ لطاقين وعلى الدعامة متكأ لأربعة فكانت هذه القبة العظيمة في ذلك الوقت مرتكزة على هذه الدعامات الاثنتي عشرة المحيطة بالصخرة فتراها على بعد فرسخ كأنها قمة جبل لأنها من أساسها إلى قمتها ثلاثون ذراعا وهي تستند إلى أعمدة ودعامات ارتفاعها عشرون ذراعا وقبة الصخرة مشيدة على بيت ارتفاعه اثنتا عشرة ذراعا وإذا فمن ساحة المسجد إلى رأس القبة اثنتان وستون ذراعا
وسقوف هذه الدكة وقبابها مكسوة بالنجارة وكذلك الدعائم والعمد
66

والحوائط وذلك بدقة قل نظيرها والصخرة أعلى من الأرض بمقدار قامة رجل وقد أحيطت بسياج من الرخام حتى لا تصل يد أليها
والصخرة حجر أزرق لونه لم يطأها أحد برجله أبدا وفي ناحيتها المواجهة للقبلة انخفاض كأن أنسانا سار عليها فبدت آثار قدمه فيها كما تبدو على الطين الطري فان آثار أصابع قدميه باقية عليها وقد بقيت عليها آثار سبع أقدام وسمعت أن إبراهيم عليه السلام كان هناك وكان إسماعيل طفلا فمشى عليها وهذه هي آثار قدمه ويقيم في بيت الصخرة هذا جماعة من المجاورين والعابدين وقد زينت أرضه بالسجاد الجميل من الحرير وغيره وفي وسطه قنديل من الفضة معلق بسلسلة فضية فوق الصخرة وهناك قناديل كثيرة من فضة كتب عليها وزنها أمر بصنعها سلطان مصر وقد قدرت ما هناك من الفضة بألف من
ورأيت هناك أيضا شمعة كبيرة جدا طولها سبع أذرع وقطرها ثلاثة أشبار لونها كالكافور الزباجي وشمعها مخلوط بالعنبر ويقال ان سلطان مصر يرسل هناك كل سنة كثيرا من الشمع منه هذه الشمعة الكبيرة ويكتب عليها اسمه بالذهب وهذا المسجد هو ثالث بيوت الله سبحانه وتعالى والمعروف عند علماء الدين ان كل صلاة في بيت المقدس تساوي خمسة وعشرين ألف صلاة وكل صلاة في مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام تعد بخمسين ألف صلاة وان صلاة مكة المعظمة شرفها الله تعالى تساوي مائة ألف صلاة وفق الله عز وجل عباده جميعا لهذا الثواب
وقد قلت إن أسقف وظهور القباب ملبسة بالرصاص وعلى جوانب البيت الأربعة أبواب كبيرة مصاريعها من خشب الساج وهي مقفلة دائما وبعد قبة الصخرة قبة تسمى قبة السلسلة وهي السلسلة التي علقها داود عليه السلام والتي لا تصل إليها إلا يد صاحب الحق أما يد الظالم والغاصب فلا تبلغها وهذا المعنى مشهور عند العلماء وهذه القبة محمولة على رأس ثمانية أعمدة من الرخام وست دعائم من الحجر وهي مفتوحة من جميع الجوانب عدا جانب
67

القبلة فهو مسدود حتى نهايته وقد نصب عليه محراب جميل
وعلى هذه الدكة أيضا قبة أخرى مقامة على أربعة أعمدة من الرخام وهي مغلقة من ناحية القبلة أيضا حيث بني محراب جميل وتسمى هذه القبة قبة جبريل عليه السلام وليس فيها فرش بل إن أرضها من حجر سووه
ويقال ان هناك أعد البراق ليركبه النبي عليه السلام ليلة المعراج
وبعد قبة جبريل قبة أخرى يقال لها قبة الرسول عليه الصلاة والسلام وبينهما عشرون ذراعا وهي مقامة على أربع دعائم من الرخام أيضا ويقال ان الرسول عليه الصلاة والسلام صلى ليلة المعراج في قبة الصخرة أولا ثم وضع يده على الصخرة فلما خرج وقفت لجلاله فوضع الرسول عليه الصلاة السلام يده عليها لتعود إلى مكانها وتستقر وهي بعد نصف معلقة وقد ذهب الرسول عليه السلام من هناك إلى القبة التي تنتسب إليه وركب البراق وهذا سبب تعظيمها
وتحت الصخرة غار كبير يضاء دائما بالشمع ويقال انه حين قامت الصخرة خلا ما تحتها فلما استقرت بقي هذا الجزء كما كان
وصف المراقي المؤدية إلى الدكة التي بساحة الجامع
يسار إلى هذه الدكة من ستة مواضع لكل منها اسم فبجانب القبلة طريقان يصعد فيهما على درجات فإذا وقفت في وسط ضلع الدكة وجدت أحدهما على اليمين والثاني على اليسار والذي على اليمين يسمى مقام النبي عليه السلام والذي على اليسار يسمى مقام الغورى وسمي الأول مقام النبي لأن النبي عليه الصلاة والسلام صعد على درجاته إلى الدكة ليلة المعراج ودخل إلى قبة الصخرة ويقع طريق الحجاز على هذا الجانب وعرض درجاته اليوم عشرون ذراعا وهي من الحجر المنحوت المنتظم وكل درجة قطعة أو
68

قطعتان من الحجر المربع وهي معدة بحيث يستطيع الزائر الصعود عليها راكبا وعلى قمة هذه الدرجات أربعة أعمدة من الرخام الأخضر الذي يشبه الزمرد لولا أن به نقطا كثيرة من كل لون ويبلغ ارتفاع كل عمود منها عشرة اذرع وقطره بقدر ما يحتضن رجلان وعلى رأس هذه الأعمدة الأربعة ثلاثة طيقان أحدها مقابل للباب والآخران على جانبيه وسطح الطيقان أفقي من فوقه شرفات بحيث يبدو مربعا وهذه العمد والطيقان منقوشة كلها بالذهب وبالمينا ليس أجمل منها ودرابزين الدكة كله من الرخام الأخضر المنقط حتى لتقول ان عليه روضة ورد ناضر
وقد أعد مقام الغوري بحيث تكون ثلاثة سلالم على موضع واحد أحدها محاذ للدكة والآخران على جانبيها حتى يستطاع الصعود من ثلاثة أماكن ومن فوق هذه السلالم الثلاثة أعمدة عليها طريقان وشرفة والدرجات بالوصف الذي ذكرت من الحجر المنحوت كل درجة قطعتان أو ثلاث من الحجر المستطيل وكتب بخط جميل بالذهب على ظاهر الإيوان أمر به الأمير ليث الدولة نوشتكين الغوري ويقال انه كان تابعا لسلطان مصر وهو الذي أنشأ هذه الطرق والمراقي
وعلى الجانب الغربي للدكة سلمان في ناحيتين منها وهناك طريق عظيم مشابه لما ذكرت وكذلك في الجانب الشرقي طريق عظيم مماثل عليه أعمدة فوقها طيقان وشرفة يسمى المقام الشرقي
وعلى الجانب الشمالي طريق أكثر علوا وأكبر منها كلها به أعمدة فوقها طيقان يسمى المقام الشامي وأظن أنهم صرفوا على هذه الطرق الستة مائة ألف دينار
69

وفي الجانب الشمالي لساحة المسجد لا على الدكة بناء به كأنه مسجد صغير يشبه الحظيرة وهو من الحجر المنحوت يزيد ارتفاع حوائطه على قامة رجل ويسمى محراب داود وبالقرب منه حجر غير مستو يبلغ قامة رجل وقمته تتيح وضع حصيرة صلاة صغيرة عليها ويقال انه كرسي سليمان عليه السلام الذي كان يجلس عليه أثناء بنا المسجد
هذا ما رأيت في جامع بيت المقدس قد صورته وضممته إلى مذكراتي ومن النوادر التي رأيتها في بيت المقدس شجرة الحور
بعد الفراغ من زيارة بيت المقدس عزمت على زيارة مشهد إبراهيم خليل الرحمن عليه الصلاة والسلام في يوم الأربعاء غرة ذي القعدة سنة 438 (20 ابريل سنة 1047) والمسافة بينهما ستة فراسخ عن طريق جنوبي به قرى كثيرة وزرع وحدائق وشجر بري لا يحصى من عنب وتين وزيتون وسماق وعلى فرسخين من بيت المقدس أربع قرى بها عين وحدائق وبساتين كثيرة تسمى الفراديس لجمال موقعها وعلى فرسخ واحد من بيت المقدس مكان للنصارى يعظمونه كثيرا يقيم بجانبه مجاورون دائما ويحج اليه كثيرون اسمه بيت اللحم وهناك يقدم النصارى القرابين ويقصده الحجاج من بلاد الروم وقد بلغته مساء اليوم الذي قمت فيه من بيت المقدس
وصف قبر الخليل صلوات الله عليه
يسمى أهل الشام وبيت المقدس هذا المشهد الخليل ولا يذكرون
70

اسم القرية التي هو فيها قرية مطلون وهي موقوفة عليه مع قرى كثيرة وفي هذه القرية عين ماء تخرج من الصخر يتفجر ماؤها رويدا رويدا وهو ينقل من مسافة بعيدة بواسطة قناة إلى خارج القرية حيث بنى حوض مغطى يصب فيه الماء فلا يذهب هباء حتى يفي بحاجة أهل القرية وغيرهم من الزائرين
والمشهد على حافة القرية من ناحية الجنوب وهي في الجنوب الشرقي والمشهد يتكون من بناء ذي أربع حوائط من الحجر المصقول طوله ثمانون ذراعا وعرضه أربعون وارتفاعه عشرون وثخانة حوائطه ذراعان وبه مقصورة ومحراب في عرض البناء وبالمقصورة محاريب جميلة بها قبران رأسهما للقبلة وكلاهما من الحجر المصقول بارتفاع قامة الرجل الأيمن قبر إسحاق بن إبراهيم والآخر قبر زوجه عليها السلام وبينهما عشرة أذرع وأرض هذا المشهد وجدرانه مزينة بالسجاجيد القيمة والحصر المغربية التي تفوق الديباج حسنا وقد رأيت هناك حصير صلاة قيل أرسلها أمير الجيوش وهو تابع لسلطان مصر وقد اشتريت من مصر بثلاثين دينارا من الذهب المغربي ولو كانت من الديباج الرومي لما بلغت هذا الثمن ولم ار مثلها في مكان قط
71

حين يخرج السائر من المقصورة إلى وسط ساحة المشهد يجد مشهدين أمام القبلة الأيمن به قبر إبراهيم الخليل صلوات الله عليه وهو مشهد كبير ومن داخله مشهد آخر لا يستطاع الطواف حوله ولكن له أربع نوافذ يرى منها فيراه الزائرون وهو يطوفون حول المشهد الكبير وقد كسيت أرضه وجدرانه ببسط من الديباج والقبر من الحجر ارتفاعه ثلاث أذرع وعلق به كثير من القناديل والمصابيح الفضية
والمشهد الثاني الذي على يسار القبلة به قبر سارة زوج إبراهيم عليه السلام وبين القبرين ممر عليه باباهما وهو كالدهليز وبه كثير من القناديل والمسارج
وبعد هذين المشهدين قبران متجاوران الأيمن قبر النبي يعقوب عليه السلام والأيسر قبر زوجه
وبعدهما المنازل التي اتخذها إبراهيم للضيافة وبها ستة قبور
وخارج الجدران الأربعة منحدر به قبر يوسف بن يعقوب عليه السلام وهو من حجر وعليه قبة جميلة وعلى جانب الصحراء بين قبر يوسف
72

ومشهد الخليل عليهما السلام قرافة كبيرة يدفن بها الموتى من جهات عديدة
وعلى سطح المقصورة التي في المشهد حجرات للضيوف الوافدين وقد وقف عليها أوقاف كثيرة من القرى ومستغلات بيت المقدس
وأغلب الزراعة هناك الشعير والقمح قليل والزيتون كثير ويعطون الضيوف والمسافرين والزائرين الخبز والزيتون وهناك طواحين كثيرة تديرها البغال والثيران لطحن الدقيق وبالمضيفة خادمات يخبزن طول اليوم ويزن رغيفهم منا واحدا ويعطى من يصل هناك رغيفا مستديرا وطبقا من العدس المطبوخ بالزيت وزبيبا كل يوم وهذه عادة بقيت من أيام خليل الرحمن عليه السلام حتى الساعة وفي بعض الأيام يبلغ عدد المسافرين خمسمائة فتهيأ الضيافة لهم جميعا
ويقال انه لم يكن لهذا المشهد باب وكان دخوله مستحيلا بل كان الناس يزورونه من الإيوان في الخارج فلما جلس المهدي على عرش مصر
73

أمر بفتح باب فيه وزينه وفرشه بالسجاجيد وأدخل على عمارته اصلاحا كثيرا وباب المشهد وسط الحائط الشمالي على ارتفاع أربع أذرع فوق الأرض وعلى جانبيه درجات من الحجر فيصعد اليه من جانب ويكون النزول من الجانب الثاني ووضع هناك باب صغير من الحديد
ثم رجعت إلى بيت المقدس ومن هناك سرت ماشيا مع جماعة تقصد الحجاز وكان دليلنا رجلا اسمه أبو بكر الهمداني وهو رجل جلد يقدر على المشي وجهه جميل غادرت بيت المقدس في منتصف ذي القعدة سنة 437 (أول مايو 1047) وبعد ثلاثة أيام بلغت جهة تسمى أعز القرى بها ماء جار وأشجار ثم بلغنا منزلا آخر يسمى وادي القرى ومن بعده نزلنا مكانا ثالثا ثم بلغنا مكة بعد عشرة أيام لم تحضر لمكة قافلة من اي بلد في هذه السنة وشح الطعام وقد نزلت في سكة العطارين أمام باب النبي عليه السلام وفي يوم الاثنين طلعت عرفات وكان الناس مملوئين رعبا من العرب ولما عدت من عرفات لبثت بمكة يومين ثم رجعت إلى بيت المقدس عن طريق الشام
وبلغنا المقدس في الخامس من المحرم سنة 339 (7 يوليو 1037) ولا أذكر هنا وصف مكة والحج سأذكر ذلك عند الكلام على الحجة الأخيرة
كنيسة بيعة القيامة
وللنصارى في بيت المقدس كنيسة يسمونها بيعة القمامة لها عندهم مكانة عظيمة ويحج إليها كل سنة كثير من بلاد الروم ويزورها ملك الروم متخفيا حتى لا يعرفه الناس وقد زارها أيام عزيز مصر الحاكم بأمر الله
74

فبلغ ذلك الحاكم فأرسل اليه أحد حراسه بعد أن عرفه أن رجلا بهذه الحلية والصورة يجلس في كنيسة بيت المقدس وقال له اذهب عنده وقل له ان الحاكم أرسلني إليك ويقول لا تحسبني أجهل أمرك ولكن كن آمنا فلن أقصدك بسوء وقد أمر الحاكم هذا بالإغارة على الكنيسة فهدمها وخربها وظلت خربة مدة من الزمان وبعد ذلك بعث القيصر اليه رسلا وقدم كثيرا من الهدايا والخدمات وطلب الصلح والشفاعة ليؤذن له بإصلاح الكنيسة فقبل الحاكم وأعيد تعميرها
وهذه الكنيسة فسيحة تسع ثمانية آلاف رجل وهي عظيمة الزخرف من الرخام الملون والنقوش والصور وهي مزدانة من الداخل بالديباج الرومي والصور وزينت بطلاء من الذهب وفي أماكن كثيرة منها صورة عيسى عليه السلام راكبا حمارا وصور الأنبياء الآخرين مثل إبراهيم وإسحق ويعقوب وأبنائهم عليهم السلام وهذه الصور مطلية بزيت السندروس وقد غطى سطح كل صورة بلوح من الزجاج الشفاف على قدها بحيث لا يحجب منها شيء وذلك حتى لا يصل الغبار إليها وينظف الخدم هذا الزجاج كل يوم وهناك عدا ذلك عدة مواضع أخرى كلها مزينة ولو وصفتها لطالت كتابتي وفي هذه الكنيسة لوحة مقسمة إلى قسمين وعملا لوصف الجنة والنار فنصف يصف الجنة وأهلها ونصف يصف النار وأهلها ومن
75

يبقى فيها وليس لهذه الكنيسة نظير في اي جهة من العالم ويقيم بها كثير من القس والرهبان يقرأون الإنجيل ويصلون ويشتغلون بالعبادة ليل نهار
وصف مصر
ثم عزمت لي ان أغادر بيت المقدس إلى مصر بطريق البحر ثم أغادرها إلى مكة ولكن كانت الريح معاكسة وتعذر السفر بالبحر فسرنا عن طريق البر ومررنا بالرملة ثم بلغنا مدينة عسقلان بها سوق وجامع جميل رأيت بها طاقا قديما قيل إنه كان مسجدا وهو طاق من الحجر الكبير ولو أرادوا هدمه للزمهم إنفاق مال كثير وخرجت من هناك فوجدت في الطريق قرى كثيرة ومدنا يطول وصفها فحذفته اختصارا وبلغنا مكانا يسمى طينة وهو مرفأ للسفن يذهب منه إلى تنيس وقد ركبت السفينة إليها
تنيس جزيرة ومدينة جميلة وهي بعيدة عن الساحل بحيث لا يرى من أسطحها والمدينة مزدحمة وبها أسواق فخمة وجامعان وقد يبلغ عدد الدكاكين بها عشرة آلاف دكان منها مائة دكان عطار وهناك في فصل الصيف يبيعون الكشكاب فان الجو حار وتكثر الأمراض في المدينة
76

وينسج بتنيس القصب الملون من عمامات ووقايات ومما يلبس النساء ولا ينسج مثل هذا القصب في جهة ما غير تنيس والأبيض منه ينسج في دمياط وما ينسج منه في
مصانع السلطان لا يباع ولا يعطى لأحد وقد سمعت ان ملك فارس أرسل رسله إلى تنيس بعشرين ألف دينار ليشتري له بها حلة من كسوة السلطان وقد بقي رسله هناك عدة سنين ولم يستطيعوا شراءها وبتنيس صناع مختصون بنسيج ملابس السلطان وقد سمعت أن عاملا نسج عمامة السلطان فأمر به بخمسمائة دينار ذهب مغربي وقد رأيت هذه العمامة ويقال انها تساوي أربعة آلاف دينار مغربي
وينسجون في مدينة تنيس هذه البوقلمون الذي لا ينسج في مكان آخر من جميع العالم وهو قماش ذهبي يتغير لونه بتغير ساعات النهار وتحمل أثوابه من تنيس إلى المشرق والمغرب وسمعت ان سلطان الروم كان قد أوفد رسولا ليعرض على سلطان مصر أن يعطيه مائة مدينة على أن يأخذ تنيس فلم يقبل السلطان وكان قصده من هذه المدينة القصب والبوقلمون
77

حينما يزيد ماء النيل يبعد الماء الملح من حول تنيس بحيث يصبح ماء البحر عذبا حتى عشرة فراسخ حولها وقد بنوا بجزيرة تنيس ومدينتها صهاريج عظيمة تحت الأرض وهي قوية البنيان وتسمى المصانع فحين يغلب ماء النيل ويطرد الماء الملح من هناك تملأ هذه الأحواض حين يفتحون له الطريق وماء هذه المدينة من تلك المصانع التي تمتلئ وقت زيادة النيل ويستعمل السكان هذا الماء حتى السنة التالية وكل من لديه ماء فوق حاجته يبيع الفائض لغيره وبتنيس مصانع كثيرة موقوفة يعطى ماؤها للغرباء وسكانها خمسون ألفا
78

ويرابط حولها دائما ألف سفينة منها ما هو للتجار وكثير منها للسلطان ويجلب لهذه الجزيرة كل ما تحتاج اليه إذ ليس بها من خيرات الأرض شيء وتجرى المعاملات فيها بالسفن لأنها جزيرة
ويقيم بتنيس جيش كامل السلاح احتياطا حتى لا يستطيع أحد من الفرنج أو الروم أن يغير عليها وسمعت من الثقات أنه يصل منها لخزانة سلطان مصر يوميا ألف دينار مغربي ويصل ذلك المقدار مرة واحدة يحصله شخص واحد يسلمه أهل المدينة اليه في وقت معين وهو يسلم للخزانة فلا يتأخر منه شيء ولا يجبى شيء بالعنف من اي شخص
وما ينسج للسلطان من القصب والبوقلمون يدفع ثمنه كاملا بحيث يعمل الصناع برضاهم للسلطان لا كما في البلاد الأخرى حيث يفرض الديوان والسلطان السخرة على الصناع وتصنع أستار هوداج الجمال ولبود سروج الخيل الخاصة بالسلطان من البوقلمون
79

ويؤتى بالفاكهة والأغذية لتنيس من قرى مصر ويصنعون بها آلات الحديد كالمقراض والسكين وغيرهما وقد رأيت مقراضا في مصر صنع في تنيس ثمنه خمسة دنانير مغربية يفتح إذا رفع مسماره ويقص إذا انزل
وتصيب النساء هناك أحيانا علة كالصرع فيصحن مرتين أو ثلاثا ثم يعدن بعد ذلك إلى صوابهن وكنت سمعت في خراسان عن جزيرة تموء فيها النساء كالقطط وذلك على النحو الذي ذكرت
وتذهب السفينة من تنيس إلى القسطنطينية في عشرين يوما وقد سرنا بجانب مصر وحين بلغنا شاطئ البحر سارت السفينة في النيل حين يقترب نهر النيل من البحر يصير فروعا تصب متفرقة فيه ويسمى الفرع الذي سرنا فيه فرع الروم سارت السفينة حتى بلغنا مدينة تسمى الصالحية وهي مدينة كثيرة النعم والخيرات وتصنع بها سفن كثيرة حمولة كل منهما مائتا خروار وهي تنقل البضاعة إلى مدينة مصر حتى أبواب دكاكين البقالين ولو لم تكن وسائل النقل كذلك لتعذر نقل المؤن فيها على ظهور الدواب لكثرة الزحام الذي بها وقد نزلت من السفينة إلى الصالحية ثم بلغت قرب القاهرة تلك الليلة وفي يوم الأحد السابع من صفر سنة 439 (4 أغسطس 1047) وهو يوم هرمرذ من شهر يور القديم كنا في القاهرة
وصف مصر وولايتها
يخرج ماء النيل من بين الجنوب والغرب ويمر بمصر ثم يصب في بحر الروم ويبلغ نهر النيل في زيادته ضعف نهر جيحون عند ترمذ ويمر النيل بولاية النوبة ثم يجيء إلى مصر والنوبة ولاية جبلية وحين يصل النيل إلى الوادي فهناك ولاية مصر وأول مدينة يصل إليها على الحدود تسمى أسوان
80

والمسافة من مصر إليها ثلاثمائة فرسخ وتقع المدن والولايات كلها على شاطئ النيل وتسمى هذه الولاية أسوان بالصعيد الأعلى ولا تستطيع السفن عبور النيل حين تصل لأسوان لأن الماء يخرج هناك من شلالات فيندفع سريعا
وولاية النوبة جنوبي أسوان ولها ملك خاص وسكانها سود البشرة ودينهم النصرانية ويذهب اليه التجار ويبيعون الخرز والأمشاط والمرجان ويجلبون منها الرقيق والرقيق في مصر إما نوبيون وإما روم وقد رأيت قمحا وذرة من النوبة كلاهما أسود
ويقال ان حقيقة منابع النيل لم تعرف وسمعت ان سلطان مصر ارسل بعثة لتتبع شاطئ النيل سنة كاملة ودرسه ولكن أحدا لم يعرف حقيقة منبعه ويقال انه يأتي من جبل في الجنوب يسمى جبل القمر
حين تبلغ الشمس مدار السرطان يزداد النيل فيرتفع عشرين ذراعا عما كان مستقرا عليه في الشتاء وهكذا يتزايد يوما بعد يوم وقد أعدوا له في مصر مقاييس وعلامات ورتبوا عاملا وظيفته ألف دينار للمحافظة عليها ولتسجيل الزيادة ومنذ أول يوم للفيضان يطوف منادون في المدينة منادين بأن الله تعالى قد زاد النيل كذا أصبعا ويذكرون مقدار زيادته كل يوم
وحين تبلغ الزيادة ذراعا كاملا تضرب البشائر ويفرح الناس حتى تبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وهي الزيادة المعهودة يعني أنه كلما قلت الزيادة عن ذلك قيل إن النيل
ناقص فتصدقوا ونذروا النذور وعلاهم الغم فإذا زاد عن هذا القدر فرحوا وأظهروا الغبطة وما لم يصل الارتفاع إلى ثمانية
81

عشر ذراعا لا يأخذ السلطان الخراج ويتفرع من النيل فروع كثيرة تسير في الأطراف كما يتفرغ منها ترع صغيرة وعليها تقع الولايات والقرى وأقيمت بمصر سواق كثيرة يصعب حصرها أو قياسها وشيدت قرى مصر كلها على المرتفعات والتلول وذلك حتى لا تغرق فان الماء يغمر البلاد كلها وقت الفيضان وحينئذ يسيرون من قرية لأخرى بالزوارق وقد أنشأوا على الشاطئ من أول الولاية لأخرها جسرا من الطين ليسير عليه
82

الناس أي بجانب النيل وتصرف خزينة السلطان كل سنة للعامل المعتمد عشرة آلاف دينار مغربي لتجديد عمارته ويجهز أهل الولاية حاجاتهم الضرورية كلها لهذه الأشهر الأربعة التي تكون بلادهم أثناءها مغمورة بالماء ويخبز كل شخص في الريف ما يكفيه من الخبز هذه المدة ويقدده حتى لا يتعفن
ونظام الفيضان هو الآتي
يتزايد الماء أربعين يوما من بدء الفيضان إلى أن يبلغ ثمانية عشر ذراعا ويبقى على هذا أربعين يوما لا يزيد ولا ينقص ثم يتدرج نحو النقصان مدة أربعين يوما أخرى حتى يصل إلى الحد الذي كان عليه في الشتاء وحينما يبدأ الماء في التناقص يتبعه الزراع فكلما حفت بقعة زرعوها الزرع الذي يريدون
وعلى هذا النحو زرعهم الصيفي والشتوي فلا يتطلب ماء آخر قط
تقع مصر بين النيل والبحر والنيل يأتي من الجنوب ويتجه شمالا ويصب في البحر والمسافة من مصر إلى الإسكندرية ثلاثون فرسخا
وتقع الإسكندرية على شاطئ بحر الروم وشاطئ النيل وتصدر منهما بالسفن فاكهة كثيرة لمصر وفي الإسكندرية منارة رأيتها قائمة وأنا هناك وقد كان فوقها حراقة مرآة محرقة فكلما جاءت سفينة رومية من القسطنطينية أصابتها نار من هذه الحراقة فأحرقتها وقد بذل الروم كثيرا من الجد والجهد والحيلة فبعثوا شخصا فكسر المرآة وفي عهد الحاكم
83

سلطان مصر جاءه شخص وعرض عليه ان يعيدها كما كانت فقال الحاكم لا حاجة إلى ذلك فان الروم يرسلون الينا الآن الذهب والمال كل سنة وهم راضون بأن يذهب جيشنا إليهم ونحن معهم في سلام تام وماء الشرب في الإسكندرية من المطر وصحراؤها مملوء بهذه الأعمدة المبعثرة التي قدمت وصفها
ويمتد بحر الإسكندرية حتى القيروان التي يفصلها عن مصر مسافة مائة
84

وخمسين فرسخا والقيروان ولاية مدينتها الكبرى سجلماسة التي تقع على بعد أربعة فراسخ من البحر وهي مدينة كبيرة في الصحراء وبها حصن محكم وبجانبها المهدية التي بناها المهدي أحد أبناء أمير المؤمين الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما بعد استيلائه على المغرب والأندلس وهي في هذه الأيام تابعة لسلطان مصر ويسقط البرد في القيروان ولكنه لا يمكث على أرضها ويتجه البحر شمالا ويسير ناحية اليمين إلى الأندلس
وبين مصر والأندلس ألف فرسخ وسكانها جميعا مسلمون وهي ولاية كبيرة جبلية ينزل فيها البرد ويتجمد سكانها بيض وشعرهم أحمر وأكثرهم كالصقالبة عيونهم كعيون القطط وتقع الأندلس في نهاية بحر الروم فالبحر شرقي بالنسبة لأهلها وإذا ذهب السائر من الأندلس شمالا جهة اليمين متتبعا الشاطئ فإنه يبلغ بلاد الروم وكثيرا ما يغزون الروم من الأندلس
ومن الممكن أن يركب المسافر البر إلى القسطنطينية إذا أراد ولكن لا بد من اجتياز خلجان كثيرة عرض كل منها مائتا فرسخ أو ثلاثمائة فرسخ لا يمكن اجتيازها الا بالسفن والمعابر
وقد سمعت من ثقة أن محيط هذا البحر أربعة آلاف فرسخ وأن فرعا منه يدخل بلاد الظلمات كما يقال وأن نهاية هذا الفرع متجمدة دائما لأن الشمس لا تبلغه
ومن جزائر هذا البحر صقلية وتبلغها السفينة من مصر في عشرين يوما وهناك جزر كثيرة غيرها ويقال ان صقلية ثمانون فرسخا في ثمانين وهي ملك سلطان مصر وتغادرها كل سنة سفينة تحمل المال إلى مصر ويجلبون منها كتانا رقيقا وثيابا منقوشة يساوي الثوب منها في مصر عشرة دنانير مغربية
وإذا سار السائر من مصر شرقا يبلغ بحر القلزم والقلزم مدينة على شاطئ البحر بينها وبين مصر ثلاثون فرسخا وهذا البحر فرع من محيط يتفرع
85

عند عدن ويتجه نحو الشمال فإذا بلغ القلزم انقطع ويقال أن عرضه مائتا فرسخ ويفصله عن مصر جبال وصحراء لا ماء فيها ولا نبات
ومن يريد الذهاب إلى مكة من مصر يلزمه الاتجاه نحو الشرق فإذا بلغ القلزم وجد طريقين أحدهما بري والآخر بحري وهو يبلغ مكة عن الطريق الأول في خمسة عشر يوما في صحراء طولها ثلاثمائة فرسخ وتذهب عن هذا الطريق معظم القوافل الآتية من مصر فإذا سار عن طريق البحر يبلغ الجار في عشرين يوما وهي مدينة صغيرة من الحجاز تقع على شاطئ البحر ومنها إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ومن المدينة إلى مكة مائة فرسخ
فإذا جاوز الجار وواصل السير في البحر بلغ ساحل اليمن ومن هناك إلى ساحل عدن فإذا جاوزه ينتهي إلى الهند وهكذا حتى الصين وإذا سار من عدن إلى الجنوب مائلا نحو الغرب فإنه يذهب إلى زنجبار والحبشة وسأشرح ذلك في مكانه
وإذا سار من مصر إلى الجنوب وجاوز ولاية النوبة بلغ ولاية المصامدة وهي أرض ذات مراع واسعة وفيها دواب كثيرة وسكانها سود كبار العظام غلاظ أقوياء البنية ويكثر الجند منهم في مصر وهم قباح الصورة ضخام الجثة يسمون المصامدة يحاربون راجلين بالسيف والحربة ولا يستطيعون استعمال غيرها من الآلات
وصف مدينة القاهرة
أول مدينة يصل إليها المسافر من الشام إلى مصر هي القاهرة وتقع مدينة مصر جنوبها وتسمى القاهرة (المعزية) ويقال للمعسكر (الفسطاط) يروى أن أحد أبناء أمير
المؤمنين الحسين بن علي صلوات الله عليهن أجمعين
86

وهو المعز لدين الله استولى على بلاد المغرب حتى الأندلس ثم سير جيشا نحو مصر وكان لابد لهذا الجيش أن يعبر النيل وهذا أمر غير مستطاع أولا لأن النيل عظيم الاتساع وثانيا لأنه مملوء بالتماسيح التي تجذب إلى قاعه في الحال كل من يعبر ويقال إنه في الطريق قرب مدينة مصر طلسم يحمي الإنسان والدواب من هذا الشر ولكن أثره يبطل على مسافة رمية سهم من المدينة فلا يجرؤ أحد أن يقترب من النيل قيل إن المعز أرسل جيشه فنزل حيث القاهرة اليوم وقد أمر جنوده قائلا حين تصلون إلى النيل ينزل الماء أمامكم كلب أسود فيعبر النهر فاتبعوه واعبروا آمنين قيل وقد بلغ هذا المكان ثلاثون ألف فارس كلهم خدم المعز وقد انطلق الكلب سابحا أمامهم وساروا على أثره وعبروا من غير حادث ولم يقل أحد قط ان فارسا عبر نهر النيل راكبا وكانت هذه الحادثة سنة ثلاث وستين وثلاثمائة 973 قد حضر السلطان إلى مصر عن طريق البحر فأفرغت السفن التي حضر بها قرب القاهرة وأخرجت من الماء وتركت كأنها أشياء لا غناء فيها وقد رأى راوي هذه القصة ناصر خسرو تلك السفن وهي سبع طول الواحدة مائة وخمسون ذراعا وعرضها سبعون وقد مضى عليها هناك ثمانون سنة وكان ذلك سنة إحدى وأربعين وأربعمائة 1046 حين بلغ الراوي هذا المكان
87

وحين دخل المعز لدين الله مصر تقدم له بالطاعة قائد الجيش الذي ولاه خليفة بغداد ونزل المعز بالجيش في هذا الموضع الذي هو القاهرة اليوم وقد سمى المعسكر بالقاهرة لأن ذلك الجيش كان قاهرا وقد أمر المعز بأن لا يتجول أحد من جيشه في المدينة أو يدخل بيت أحد ثم أمر أن تبنى مصر في هذه الصحراء وأن يشيد كل من أفراد حاشيته بيتا وهكذا بنيت المدينة التي قل نظيرها
وقدرت أن في القاهرة ما لا يقل عن عشرين ألف دكان كلها ملك للسلطان وكثير منها يؤجر بعشرة دنانير مغربية في الشهر وليس بينها ما تقل أجرته عن دينارين والأربطة والحمامات والأبنية الأخرى كثيرة لا يحدها
88

الحصر وكلها ملك السلطان إذ ليس لأحد ان يملك عقارا أو بيتا غير المنازل وما يكون قد بناه الفرد لنفسه وسمعت أن للسلطان ثمانية ألف بيت في القاهرة ومصر وأنه يؤجرها ويحصل أجرتها كل شهر يؤجرونها للناس برغبتهم ثم يتقاضون الأجر فلا يجبر شخص على شيء
ويقع قصر السلطان في القاهرة وهو طلق من جميع الجهات ولا يتصل به أي بناء وقد مسحه المهندسون فوجدوه مساويا لمدينة ميافارقين وكل ما حوله فضاء ويحرسه كل ليلة ألف رجل خمسمائة فارس وخمسمائة رجل وهم ينفخون البوق ويدقون الطبل والكوس من وقت صلاة المغرب ويدورون حول القصر حتى الصباح ويبدو هذا القصر من خارج المدينة كأنه جبل لكثرة ما فيه من الأبنية المرتفعة وهو لا يرى من داخل المدينة لارتفاع أسواره وقيل إن به اثني عشر ألف خادم مأجور ومن يعرف عدد من فيه من النساء والجواري إلا أنه يقال إن به ثلاثين ألف آدمي وهذا القصر يتكون من اثني عشر جوسقا وله عشرة أبواب فوق الأرض لكل منها اسم على هذا التفصيل وذلك فضلا عن أبواب أخرى تحت الأرض باب الذهب باب البحر باب السريج باب الزهومة باب السلام
89

باب الزبرجد باب العيد باب الفتوح باب الزلاقة باب السرية وتحت الأرض باب يخرج منه السلطان راكبا وهذا الباب على سرداب يؤدي إلى قصر آخر خارج لمدينة ولهذا السرداب الذي يصل بين القصرين سقف محكم وجدران القصر من الحجر المنحوت بدقة تقول إنها قدت من صخر واحد وفوق القصر المناظر والإيوانات العالية وفي داخله دهليز به دكك
وأركان الدولة والخدم من العبيد السود أو الروم والوزير رجل يمتاز عن الجميع بالزهد والورع والأمانة والصدق والعقل
ولم يكن شرب الخمر مباحا أعني أيام الحاكم هذا وفي أيامه حرم على النساء الخروج من بيوتهن وما كان أحد يجفف العنب في بيته لجواز عمل السيكي (نوع من الشراب) منه ولم يكن أحدهم يجرؤ على شرب الخمر ولا كانوا يشربون الفقاع فقد قيل إنه مسكر فهو محرم
وللقاهرة خمسة أبواب باب النصر وباب الفتوح وباب القنطرة وباب الزويلة وباب الخليج وليس للمدينة قلعة ولكن أبنيتها أقوى وأكثر ارتفاعا من القلعة وكل قصر حصن ومعظم العمارات تتألف من خمس أو ست طبقات
ويجلب ماء الشرب من النيل ينقله السقاءون على الجمال والآبار القريبة
90

من النيل عذب ماؤها وأما البعيدة عنه فماؤها ملح ويقال إن في القاهرة ومصر اثنين وخمسين ألف جمل يحمل عليها السقاءون الروايا وهولأء عدا من يحمل الماء على ظهره في الجرار النحاسية أو القرب وذلك في الحارات الضيقة التي لا تسير فيها الجمال
وفي المدينة بساتين وأشجار بين القصور تسقى من ماء الآبار وفي قصر السلطان بساتين لا نظير لها وقد نصبت السواقي لريها وغرست الأشجار فوق الأسطح فصارت متنزهات
وحين كنت هناك أجر منزل مساحته عشرون ذراعا في اثني عشر ذراعا بخمسة عشر دينارا مغربيا في الشهر وكان أربعة طوابق ثلاثة منها مسكونة والرابع خال وقد عرض على صاحبه خمسة دنانير مغربية كأجرة شهرية فرفض معتذرا بأنه يلزمه أن يقيم به أحيانا ولو أنه لم يحضر مرتين في السنة التي أقمتها هناك
وكانت البيوت من النظافة والبهاء بحيث تقول إنها بنيت من الجواهر لا من الجص والآجر والحجارة وهي بعيدة عن بعضها فلا تنمو أشجار بيت على سور بيت آخر ويستطيع كل مالك أن يجعل ما ينبغي لبيته في كل وقت من هدم أو إصلاح دون أن يضايق جاره
ويرى السائر خارج المدينة ناحية الغرب ترعة كبيرة تسمى الخليج حفرها والد السلطان وله على شاطئيها ثلاثمائة قرية ويبتدئ فم الخليج من مدينة مصر ويمر بالقاهرة ويدور بها مارا أمام قصر السلطان وقد شيد على رأسه قصران أولهما قصر اللؤلؤة وثانيهما قصر
91

الجوهرة
وفي القاهرة أربعة مساجد جمعة الأزهر وجامع النور وجامع الحاكم وجامع المعز والأخير خارج القاهرة على شاطئ النيل
92

ويتوجه المصريون نحو مطلع الحمل حين يولون وجوههم شطر القبلة وبين مدينتي مصر والقاهرة أقل من ميل والأولى في الجنوب والثانية في الشمال ويمر النيل بهما وبساتينهما وبيوتهما متصلة أما البقية فتحت مستوى الماء وتغمر المياه الوادي بأجمعه في الصيف كأنه بحر عدا حديقة السلطان لأنها على مرتفع أما البقية فتحت مستوى الماء
وصف فتح الخليج
حين يبلغ النيل الوفاء أي من العاشر شهر يور أغسطس وسبتمبر إلى العشرين من آبان (أكتوبر ونوفمبر) ويبلغ ارتفاع الماء ثمانية عشر ذراعا عن مستواه في الشتاء وتكون أفواه الترع والجداول مسدودة في البلاد كلها يحضر السلطان راكبا ليفتح النهر الذي يسمى الخليج والذي يبدأ قبل مدينة مصر ثم يمر بالقاهرة وهو ملك خاص للسلطان وفي ذلك اليوم يوم ركوب السلطان لفتح الخليج تفتح الخلجان والترع الأخرى في الولايات كلها
وهذا اليوم أعظم الأعياد في مصر ويسمى عيد ركوب فتح الخليج
حينما يقترب ينصب للسلطان على رأس الخليج سرادق عظيم التكاليف من الديباج الرومي وموشى كله بالذهب ومكلل بالجواهر ومعد أعظم إعداد بحيث يتسع ظله لمائة فارس وأمام هذا السرادق خيمة من البوقلمون وسرادق آخر كبير
وقبل الاحتفال بثلاثة أيام يدقون الطبل وينفخون البوق ويضربون الكوس في الإصطبل لتألف الخيل هذه الأصوات
وحين يركب السلطان يصطف عشرة آلاف فارس على خيولهم سروج
93

مذهبة وأطواق وألجمة مرصعة وجميع لبد السروج من الديباج الرومي والبوقلمون نسجت لهذا الغرض خاصة فلم تفصل ولم تخط وطرزت حواشيها باسم سلطان مصر وعلى كل حصان درع أو جوشن وعلى قمة السرج خوذة وجميع أنواع الأسلحة الأخرى وكذلك تسير جمال كثيرة عليها هوادج مزينة وبغال عمارياتها (هوادجها) كلها مرصعة بالذهب والجواهر وموشاة باللؤلؤ وإن الكلام ليطول إذا وصفت كل ما يكون يوم فتح الخليج
وفي ذلك اليوم يخرج جيش السلطان كله فرقة فرقة وفوجا فوجا فرقة تسمى الكتاميين وهم من القيروان أتوا في خدمة المعز لدين الله وقيل إن عددهم عشرون ألف فارس
وفرقة تسمى الباتليين وهو رجال من المغرب دخلوا مصر قبل مجيء السلطان إليها وقيل إن عددهم خمسة عشر ألف فارس
وفرقة تسمى المصامدة وهو سود من بلاد المصامدة قيل أن عددهم عشرون ألف رجل
وفرقة تسمى المشارقة وهم ترك وعجم وسبب هذه التسمية أن أصلهم ليس عربيا ولو أن أكثرهم ولد في مصر وقد اشتق اسمهم من الأصل قيل إنهم عشرة آلاف رجل وهم ضخام الجثة
وفرقة تسمى عبيد الشراء وهم عبيد مشترون قيل أن عددهم ثلاثون ألف رجل
وفرقة تسمى البدو وهم من أهل الحجاز يقال لهم الرماة وهم خمسون ألف فارس
وفرقة تسمى الأستاذين كلهم خدم بيض وسود اشتروا للخدمة وهم ثلاثون ألف فارس
وفرقة تسمى السرائيين وهم مشاة جاءوا من كل ولاية ولهم قائد خاص يتولى رعايتهم وكل منهم يستعمل سلاح ولايته وعددهم عشرة آلاف رجل
94

وفرقة تسمى الزنوج يحاربون بالسيف وحده وقيل أنهم ثلاثون ألف رجل
ونفقة هذا الجيش كله من مال السلطان ولكل جندي منه مرتب شهري على قدر درجته ولا يجبر على دفع دينار منها أحد الرعايا أو العمال ولكن هؤلاء يسلمون للخزانة أموال ولايتهم سنة فسنة وتصرف أرزاق الجند من الخزانة في وقت معين بحيث لا يرهق وال أو واحد من الرعية بمطالبة الجند
وهناك فرقة من أبناء الملوك والأمراء الذين جاءوا لمصر من أطراف العالم ولا يعدون من الجيش وهم من المغرب واليمن والروم وبلاد الصقالبة والنوبة وأولاد ملوك الكرج (جورجيا) وأبناء ملوك الديلم وأبناء خاقان تركستان
وكذلك وجد في يوم فتح الخليج طبقات أخرى من الرجال ذوي الفضل والأدباء والشعراء والفقهاء ولكل منهم أرزاق معينة ولا يقل رزق الواحد من أبناء الأمراء عن خمسمائة دينار وقد يبلغ الألفين وليس لهم عمل إلا أن يذهبوا ليسلموا على الوزير حين يركب ثم يعودون
والآن نعود إلى حديث فتح الخليج
95

في اليوم الذي ذهب السلطان في صباحه لفتح الخليج استأجروا عشر آلاف رجل أمسك كل واحد منهم إحدى الجنائب التي ذكرتها وساروا مائة مائة وأمامهم الموسيقيون ينفخون البوق ويضربون الطبل والمزمار وسار خلفهم فوج من الجيش مضى هؤلاء من قصر السلطان حتى رأس الخيول أتت الجمال وعليها المهود والمراقد ومن بعدها البغال وعليها العماريات
وقد ابتعد السلطان عن الجيش والجنائب وهو شاب كامل الجسم طاهر الصورة من أبناء أمير المؤمنين حسين بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهما كان حليق شعر الرأس يركب على بغل ليس في سرجه أو لجامه حلية فليس عليه ذهب أو فضة وقد ارتدى قميصا أبيض عليه فوطة فضفاضة كالتي تلبس في بلاد المغرب والتي تسمى
في بلاد العجم دراعة وقيل أن اسم هذا القميص الدبيقي وإنه يساوي عشر آلاف دينار وكان على رأسه عمامة من لونه ويمسك بيده سوطا ثمينا وأمامه ثلاثمائة راجل ديلمي عليهم ثياب رومية مذهبة وقد حزموا خصورهم وأكمامهم واسعة كما يلبس رجال مصر ومعهم النشاب والسهام وقد عصبوا سيقانهم
ويسير مع السلطان حامل المظلة راكبا حصانا وعلى رأسه عمامة مذهبة مرصعة وعليه حلة قيمتها عشرة آلف دينار ذهبي مغربي والمظلة التي بيده ثمينة جدا وهي مرصعة ومكللة وليس مع السلطان فارس غير حامل المظلة وقد سار أمامه الديالمة وعلى يمينه ويساره جماعة من الخدم
96

يحملون المجامر ويحرقون العنبر والعود
والعادة في مصر أن يسجد الرجال للسلطان وأن يدعوا له كلما قرب منهم وجاء بعد السلطان الوزير مع قاضي القضاة وفوج كبير من أهل العلم وأركان الدولة وقد ذهب السلطان إلى حيث ضرب الشراع على رأس سد الخليج أي فم النهر وظل ممتطيا البغل تحت السرادق مدة ساعة وبعد ذلك سلموه مزراقا ليضرب به السد ثم عجل الرجال بهدمه بالمعاول والفؤوس والمخارف فانساب الماء وقد كان مرتفعا وجرى دفعة واحدة في الخليج
وفي هذا اليوم يخرج جميع سكان مصر والقاهرة للتفرج على فتح الخليج وتجرى فيه أنواع الألعاب العجيبة
وكان في أول سفينة نزلت الخليج جماعة من الخرس يسمون بالفارسية كنكت ولآل لعلهم يتفاءلون بنزولهم ويجري السلطان عليهم صدقاته في هذا اليوم
وكان للسلطان إحدى وعشرون سفينة وقد عمل لها حوض خاص قرب القصر في اتساع ميدانين أو ثلاثة وطول كل سفينة منها خمسون ذراعا وعرضها عشرون ذراعا وكلها مزينة بالذهب والفضة والجواهر والديباج ولو وصفتها لسطرت أوراقا كثيرة وهذه السفن كلها مربوطة في الحوض معظم الوقت كالبغال في الإصطبل
97

وللسلطان حديقة تسمى حديقة عين شمس على فرسخين من القاهرة وهناك عين ماء عذبة سمي البستان بها ويقال إن هذه الحديقة كانت لفرعون
وقد رأيت قربها بناية قديمة بها أربع قطع من الحجارة الكبيرة كل قطعة مثل المنارة وطول كل منها ثلاثون ذراعا وكان الماء يقطر من رؤوسها ولا يدري أحد ما هي وفي الحديقة شجرة البلسان يقال إن آباء هذا
98

السلطان أتوا ببذرتها من بلاد المغرب وزرعوها في الحديقة ولا يوجد غيرها في جميع الآفاق وهي غير معروفة في بلاد المغرب ومع أن لهذه الشجرة بذرا إلا أنه لا ينبت حيثما زرع وإذا نبت فلا يخرج الزيت منه وهذه الشجرة مثل شجرة الآس يشذبون غصونها بالنصل حينما تكبر ويربطون زجاجة عند موضع كل قطع فيخرج منه الدهن كالصمغ وحين ينفذ ما فيها من دهن تجف ويحمل البستانيون غصونها إلى المدينة ويبيعونها ولحاؤها ثخين وطعمه كاللوز حين يقشر وينبت في جزعها أغصان في السنة التالية فيعملون بها كما فعلوا في السنة الغابرة
ولمدينة القاهرة عشر محلات وهم يسمون المحلة حارة وهي حارات برجوان وزويله والجودرية والأمراء والديالمة
99

والروم والباطلية وقصر الشوق وعبيد الشرا والمصامدة
وصف مدينة مصر
شيدت مصر على ربوة وجانبها الشرقي جبلي يتكون من جبال حجرية غير عالية كالتلال وفي طرف المدينة جامع ابن طولون وهو مشيد على ربوة وله جداران محكمان ولم أر أعظم منهما غير جدار آمد وميافارقين وقد بناه أمير من أمراء العباسين كان حاكما على مصر وفي أيام الحاكم بأمر الله جد هذا السلطان المستنصر باعه أحفاد ابن طولون بثلاثين ألف دينار
100

مغربي وبعد مدة شرعوا في هدم المئذنة بحجة أنها لم تبع فأرسل لهم الحاكم قائلا بقد بعتموني هذا المسجد فكيف تهدمونه فأجابوا نحن لم نبع المئذنة فأعطاهم خمسة آلاف دينار ثمنا لها وكان السلطان يصلي في هذا المسجد طوال شهر رمضان وأيام الجمع من بقية الشهور
ومدينة مصر مشيدة على ربوة خشية فيضان الماء عليها وهذه الربوة كانت مغطاة في وقت ما بأحجار كبيرة جدا فكسرت وسويت ويقال الآن للأماكن التي لم تسو عقبة وتبدو مصر كأنها جبل حين ينظر إليها من بعيد
وبمصر بيوت مكونة من أربع عشرة طبقة وبيوت من سبع طبقات وسمعت من ثقات أن شخصا غرس حديقة على سطح بيت من سبعة أدوار وحمل إليها عجلا رباه فيها حتى كبر ونصب فيها ساقية كان هذا الثور يديرها ويرفع الماء إلى الحديقة من البئر وزرع على هذا السطح شجر النارنج والترنج والموز وغيرهما وقد أثمرت كلها كما زرع فيها الورد والريحان وأنواع الزهور الأخرى
وسمعت من تاجر ثقة أن بمصر دورا كثيرة فيها حجرات للاستغلال أي للإيجار ومساحتها ثلاثون ذراعا في ثلاثين وتسع ثلاثمائة وخمسين شخصا وهناك أسواق وشوارع تضاء فيها القناديل دائما لأن الضوء لا يصل إلى أرضها ويسير فيها الناس
وفي مصر سبعة جوامع غير جوامع القاهرة والمدينتان متصلتان وفيهما معا خمسة عشر جامعا (مسجد جمعة) وذلك لتلقى خطبة الجمعة والصلاة
101

في كل حي منهما
وفي وسط سوق مصر جامع يسمى باب الجوامع شيده عمرو بن العاص أيام إمارته على مصر من قبل عمر بن الخطاب وهذا المسجد قائم على أربعمائة عمود في الرخام والجدار الذي عليه المحراب مغطى كله بألواح الرخام الأبيض التي كتب القرآن عليها بخط جميل ويحيط بالمسجد من جهاته الأربع الأسواق وعليها تفتح أبوابه ويقيم بهذا المسجد المدرسون والمقرئون وهو مكان اجتماع سكان المدينة الكبيرة ولا يقل من من فيه في أي وقت عن خمسة آلاف من طلاب العلم والغرباء والكتاب الذين يحررون
الصكوك والعقود وغيرها وقد اشترى الحاكم بأمر الله هذا المسجد من أبناء عمرو بن العاص وكانوا قد ذهبوا اليه وقالوا نحن فقراء معوزون وقد بنى جدنا هذا المسجد فإذا اذن السلطان نهدمه ونبيع أحجاره ولبناته فاشتراه الحاكم بمائة آلف دينار وأشهد على ذلك كل أهل مصر ثم أدخل عليه عمارات كثيرة عظيمة منها ثريا فضية لها ستة عشر جانبا كل جانب منها ذراع ونصف فصارت دائرتها أربعا وعشرين ذراعا
ويوقدون في ليالي المواسم أكثر من سبعماية قنديل ويقال ان وزن هذه الثريا خمسة وعشرون قنطارا فضة كل قنطار مائة رطل وكل رطل أربعة وأربعون ومائة درهم ويقال انه حين تم صنعها لم يتسع لها باب من أبواب المسجد لكبرها فخلعوا بابا وأدخلوها منه ثم أعادوا الباب مكانه ويفرش هذا المسجد بعشر طبقات من الحصير الجميل الملون بعضها فوق بعض ويضاء كل ليلة بأكثر من مائة قنديل
وفي هذا المسجد مجلس قاضي القضاة
102

وعلى الجانب الشمالي للمسجد سوق يسمى سوق القناديل لا يعرف سوق مثله في أي بلد وفيه كل ما في العالم من طرائف ورأيت هناك الأدوات التي تصنع من الذبل كالأوعية والأمشاط ومقابض السكاكين وغيرها ورأيت كذلك معلمين مهرة ينحتون بلورا غاية في الجمال وهم يحضرونه من المغرب وقيل إنه ظهر حديثا عند بحر القلزم بلور ألطف وأكثر شفافية من بلور المغرب ورأيت أنياب الفيل أحضرت من زنجبار وكان وزن كثير منها يزيد على مائتي من كما أحضر جلد البقر من الحبشة يشبه جلد النمر ويعملون منه النعال وقد جلبوا من الحبشة طائرا أليفا كبيرا به نقط بيضاء وعلى رأسه تاج مثل الطاووس
وتنتج مصر عسلا وسكرا كثيرا
وفي اليوم الثالث من شهر دي القديم (ديسمبر يناير) من السنة الفارسية ست عشرة وأربعمائة رأيت في يوم واحد هذه الفواكه والرياحين الورد الأحمر والنيلوفر والنرجس والترنج والنارنج والليمون والمركب والتفاح والياسمين والريحان الملكي والسفرجل والرمان والكمثري والبطيخ والعطر والموز والزيتون والبليج (الإهليلج) والرطب والعنب وقصب السكر والباذنجان والقرع واللفت والكرنب والفول الأخضر والخيار والقثاء والبصل والثوم والجزر والبنجر
وكل من يفكر كيف تجتمع هذه الأشياء التي بعضها خريفي وبعضها ربيعي وبعضها صيفي وبعضها شتوي لا يصدق هذا ولكن ليس لي قصد فيما ذكرت ولم أكتب الا ما رأيت وأما ما سمعته ثم كتبته فليست عهدته على فولاية مصر عظيمة الاتساع بها كل أنواع الجو من البارد والحار وتجلب كل الحاجيات لمدينة مصر من جميع البلاد ويباع بعضها في الأسواق
ويصنعون بمصر الفخار من كل نوع وهو لطيف وشفاف بحيث إذا وضعت يدك عليه من الخارج ظهرت من الداخل وتصنع منه الكؤوس
103

والأقداح والأطباق وغيرها وهم يلونونها بحيث تشبه البوقلمون فتظهر مختلف في كل جهة تكون بها ويصنعون بمصر قوارير كالزبرجد في الصفاء والرقة ويبيعونها بالوزن
وسمعت من بزاز ثقة أن وزن الدرهم الواحد من الخيط يشترى بثلاثة دنانير مغربية وهي تساوي ثلاثة دنانير ونصف نيسابورية وقد سألت في نيسابور بكم يشترون أجود الخيط فقالوا إن الخيط الذي لا نظير له يشترى الدرهم منه بخمسة دراهم
ومدينة مصر ممتدة على شاطئ النيل الذي بنيت عليه القصور والمناظر الكثيرة بحيث إذا احتاجوا إلى الماء رفعوه بالحبال من النيل أما ماء المدينة فيحضره السقاءون من النيل أيضا يحمله بعضهم على الإبل وبعضهم على كتفه ورأيت قدورا من النحاس الدمشقي كل واحد منها يسع ثلاثين منا وكانت من الطلاوة بحيث تظنها من ذهب وقد حكوا لي أن امرأة تملك خمسة آلاف قدر وأنها تؤجر الواحد منها بدرهم في الشهر وينبغي أن يردها المستأجر سليمة
وأمام مصر جزيرة وسط النيل كان عليها مدينة في وقت ما والجزيرة غربي المدينة وبها مسجد جمعة وحدائق وهي صخرة وسط النهر تقسمه قسمين كل منهما في اتساع جيحون ولكن أكثر هدوءا وبطأ في جريانه وثبت بين الجزيرة والمدينة جسر من ست وثلاثين سفينة
ويقع جزء من مدينة مصر على جانب النيل الآخر ويسمونه الجيزلا وبها مسجد لصلاة الجمعة ولكن ليس لها جسر ولذا يعبر الناس بالزوار أو بالمعابر وهي كثيرة في مصر أكثر مما في بغداد أو البصرة
104

وتجار مصر يصدقون في كل ما يبيعونه وإذا كذب أحدهم على مشتر فإنه يوضع على جمل ويعطى جرسا بيده ويطوف به في المدينة وهو يدق الجرس وينادي قائلا قد كذبت وها أنا أعاقب وكل من يقول الكذب فجزاؤه العقاب
ويعطي التجار في مصر من بقالين وعطارين وبائعي خردوات الأوعية اللازمة لما يبيعون من زجاج أو خزف أو ورق حتى لا يحتاج المشتري أن يحمل معه وعاء
ويستخرجون من بذور الفجل واللفت زيتا للمصابيح يسمونه الزيت الحار والسمسم هناك قليل وزيته عزيز وزيت الزيتون رخيص والفستق أغلى من اللوز ولا تزيد العشرة أمنان من اللوز المقشور على دينار واحد
ويركب أهل السوق وأصحاب الدكاكين الحمر المسرجة في ذهابهم وإيابهم من البيوت إلى السوق وفي كل حي على رأس الشوارع حمر كثيرة عليها برادع مزينة يركبها من يريد نظير أجر زهيد وقيل إنه يوجد خمسون ألف بهيمة مسرجة تزين كل يوم وتكرى ولا يركب الخيل إلا الجند والعسكر فلا يركبها التجار أو القرويون أو أصحاب الحرف والعلماء ورأيت كثيرا من الحمر البلق كالخيل بل أجمل
وكان أهل مدينة مصر في غنى عظيم حين كنت هناك
وفي سنة تسع وثلاثين وأربعمائة (1047) ولد للسلطان ولد فأمر الناس بإقامة الأفراح فزينت المدينة والأسواق زينة لو وصفتها لما اعتقد بعض الناس صحة ما أقول ولما صدقوني فقد كانت دكاكين البزازين والصرافين وغيرهم مملوءة بالذهب والجواهر والنقد والأمتعة المختلفة والملابس المذهبة والمقصبة بحيث لا يوجد فيها متسع لمن يريد أن يجلس
وكان الناس جميعا يثقون بالسلطان فلا يخشون الجواسيس ولا الغمازين معتمدين على أن السلطان لا يظلم أحد ولا يطمع في مال أحد ورأيت أموالا يملكها بعض المصرين لو ذكرتها أو وصفتها لما صدقني الناس في فارس فإني
105

لا أستطيع أن أحدد أموالهم أو أحصرها أما الأمن الذي رأيته هناك فإني لم أره في بلد من قبل
وقد رأيت هناك نصرانيا من سراة مصر قيل إن سفنه وأمواله وأملاكه لا يمكن أن تعد وحدث في سنه ما أن كان النيل ناقصا وكانت الغلة عزيزة فأرسل الوزير إلى هذا النصراني وقال ليست السنة رخاء والسلطان مشفق على الرعية فاعط ما استطعت من الغلة إما نقدا وإما قرضا قال النصراني أسعد الله السلطان والوزير إن لدي من الغلة ما يمكنني من إطعام أهل مصر الخبز ست سنوات ولا شك ان سكان مصر في ذلك الوقت كانوا كثرين فإن سكان نيسابور خمسهم مع الإسراف في التقدير وكل من يستطيع الحكم يدرك كم ينبغي أن يكون لهذا الثري لتبلغ غلته هذا المقدار وأي سلام كانت فيه الرعية وأي عدل كان للسلطان بحيث تكون أحوال الناس على هذا الوضع وأموالهم بهذا القدر لم يكن السلطان يظلم أو يجور على أحد ولا كان أحد من الرعية يخفي أو ينكر شيئا مما يملك
ورأيت هناك خانا يسمى دار الوزير لا يباع فيه سوى القصب وفي الدور الأسفل منه يجلسن الخياطون وفي الأعلى الرفاءون وسألت القيم عن أجرة هذا الخان الكبير فقال كانت سنة عشرين ألف دينار مغربي ولكن جانبا منه قد تخرب وهو يعمر الآن فيحصل منه كل شهر ألف دينار يعني اثني عشر ألف دينار في السنة وقيل إن في هذه المدينة مائتي خان أكبر منه أو مثله
وصف مائدة السلطان
يقيم السلطان مأدبة في كل من العيدين ويأذن بالاستقبال في قصره
106

للخواص والعوام وتنصب مائدة الخواص في حضرته ومائدة العوام في سرايات أخرى وقد سمعت كثيرا عن هذه المآدب فرغبت في رؤيتها رأي العين فذهبت عند أحد كتاب السلطان وكنت قد صاحبته فتوطدت الصداقة بيننا وقلت له رأيت مجالس ملوك وسلاطين العجم مثل السلطان محمود الغزنوي وابنه السلطان مسعود وقد كانا ملكين عظيمين ذوي نعمة وجلال وأريد أن أرى مجالس أمير المؤمنين فنقل رغبتي إلى الموكل بالستار المسمى صاحب الستر وقد تفضل هذا فسمح لي بالذهاب في آخر رمضان سنة أربعين وأربعمائة (7 مارس 1049) وكان المجلس قد أعد لليوم الثاني وهو يوم العيد حيث يحضر السلطان بعد الصلاة فيجلس في صدر المائدة
حين دخلت من باب السراي رأيت عمارات وصفف وإيوانات إن أصفها يطل الكتاب كان هناك اثنا عشر جناحا أبنيتها مربعة وكلها متصلة بعضها ببعض وكلما دخلت جناحا منها وجدته أحسن من سابقه ومساحة كل واحد منها مائة ذراع في مائة عدا واحدا منها كانت مساحته ستين ذراعا في ستين كان بهذا الأخير تخت يشغل عرضه بتمامه وعلوه أربع أذرع وهو مغطى بالذهب من جهاته الثلاث وعليه صور المصطاد والميدان وغيرهما كما أن عليه كتابة جميلة وكل ما في هذا الحرم من الفرش والطرح من الديباج الرومي والبوقلمون نسجت على قدر كل موضع تشغله وحول التخت درابزين من الذهب المشبك يفوق حد الوصف ومن خلف التخت بجانب الحائط درجات من الفضة وبلغ هذا التخت من العظمة أني لو قصرت هذا الكتاب كله على وصفه ما استوفيت الكلام وما كفى
107

وقيل إن راتب السكر في ذلك اليوم الذي تنصب فيه مائدة السلطان خمسون ألف من وقد رأيت على المائدة شجرة أعدت للزينة تشبه شجرة الترنج كل غصونها وأوراقها وثمارها مصنوعة من السكر وعليها ألف صورة وتمثال مصنوعة كلها من السكر أيضا
ومطبخ السلطان خارج القصر ويعمل فيه دائما خمسون غلاما ويصل القصر بالمطبخ طريق تحت الأرض وجرت العادة في مصر أن يحمل إلى دار الشراب السلطانية (شرابخانة) كل يوم أربعة عشر حملا من الثلج وكان لمعظم الأمراء والخواص راتب من هذا الثلج ويصرف منه لمن يطلبه من مرضى المدينة وكذلك كل من يطلب من أهلها مشروبا أو دواء من الحرم السلطاني فإنه يعطاه كما أن هناك زيوتا أخرى كزيت البلسان وغيره كان للناس كافة أن يطلبوها فلا تمنع عنهم
سيرة سلطان مصر
بلغ أمن المصريين واطمئنانهم إلى حد أن البزازين وتجار الجواهر والصيارفة لا يغلقون أبواب دكاكينهم بل يسدلون عليها الستائر ولم يكن أحد يجرؤ على مد يده إلى شيء منها يحكى أنه كان بمصر يهودي وافر الثراء يتجر بالجواهر وكان مقربا من السلطان الذي كان يعتمد عليه في شراء ما يريد من الجواهر الكريمة وذات يوم اعتدى عليه الجنود وقتلوه فلما ارتكبوا هذا الجرم خشوا بطش السلطان فركب عشرون ألف فارس منهم وخرجوا إلى الميدان وهكذا خرج الجيش إلى الصحراء وخاف أهل المدينة مغبة هذه المظاهرة إذ ظل الجيش في الصحراء حتى منتصف النهار فخرج إليهم خادم القصر ووقف بباب السراي وقال إن السلطان يسأل إذا كنتم مطيعين أم لا فصاحوا صيحة واحدة نحن عبيد مطيعون ولكننا أذنبنا فقال الخادم يأمركم السلطان بأن تعودوا فعادوا في الحال
108

واسم هذا اليهودي المقتول أبو سعيد وكان له ابن وأخ وقيل إنه لا يعرف مدى غناه إلا الله فقد كان على سقف داره ثلاثمائة جرة من الفضة زرع في كل منها شجرة كأنها حديقة وكلها أشجار مثمرة وقد كتب أخوه لما ملكه من الفزع رسالة للسلطان يقول فيها إني أقدم للخزانة مائتي ألف دينار مغربي حالا فأمر السلطان بعرض الرسالة على الناس وتمزيقها على الملأ وقال كونوا آمنين وعودوا إلى بيوتكم فليس لأحد شأن بكم ولسنا بحاجة لمال أحد واستمالهم إليه
وكان لكل مسجد في جميع المدن والقرى التي نزلت بها من الشام إلى القيروان نفقات يقدمها وكيل السلطان من زيت السرج والحصير والبوريا وسجاجيد الصلاة ورواتب القوام والفراشين والمؤذنين وغيرهم وكتب والي الشام في بعض السنين إلى السلطان بأن الزيت قليل ثم استأذن في أن يصرف للمساجد الزيت الحار المستخرج من بذور الفجل واللفت فأجيب إنك مأمور لا وزير وليس من الجائز أن تغير أو تبدل في شيء يتعلق ببيت الله
ويتقاضى قاضي القضاة ألفي دينار مغربي في الشهر ومرتب كل قاض على قدر مرتبته ذلك حتى لا يطمع القضاة في أموال الناس أو يظلمونهم
والعادة في مصر أن يقرأ مرسوم السلطان في المساجد في منتصف رجب وهو
يا معشر المسلمين حل موسم الحج وسيجهز ركب السلطان كالمعتاد وسيكون معه الجنود والخيل والجمال والزاد وينادى بذلك في شهر رمضان
109

أيضا ويبدأ الناس في السفر ابتداء من أول ذي القعدة وينزلون في موضع معين ثم يسيرون في منتصف هذا الشهر ويبلغ خرج الجيش الذي يرافق السلطان ألف دينار مغربي في اليوم هذا عدا عشرين دينارا مرتبة لكل رجل فيه ويبلغون مكة في خمسة وعشرين يوما ويمكثون بها عشرة أيام ثم يعودون إلى مصر في خمسة وعشرين يوما ونفقاتهم في الشهرين ستون ألف دينار مغربي عدا التعهدات والصلات والمشاهرات وثمن الجمال التي تنفق في الطريق
وقد قرى على الناس سنة تسع وثلاثين وأربعمائة المرسوم التالي من سجل السلطان
يقول أمير المؤمنين أنه ليس من الخير أن يسافر الحجاج للحجاز هذا العام فإن به قحطا وضيقا وقد هلك به خلق كثيرون وأني أقول هذا شفقة بالمسلمين فلم يسافر الحجاج وكان السلطان يرسل الكسوة للكعبة كالمعتاد لأنه يرسلها مرتين كل سنة فلما سافرت الكسوة مع وفد السلطان عن طريق القلزم سافرت معهم فخرجت من مصر أول ذي القعدة وبلغت القلزم في الثامن منه ومن هناك أقلعت السفينة فبلغنا بعد خمسة عشر يوما مدينة تسمى الجار في الثاني والعشرين من ذي القعدة وقمنا من هناك فبلغنا مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أربعة أيام
المدينة
والمدينة بلد على حافة الصحراء أرضها رطبة وملحة يجري بها ماء قليل وهي كثيرة النخل والقبلة هناك ناحية الجنوب ومسجد الرسول عليه الصلاة والسلام قدر المسجد الحرام ومقامه عليه الصلاة والسلام بجانب المنبر يسار المصلين وهو متوجهون ناحية القبلة فحين يذكر الخطيب وهو فوق
110

المنبر النبي عليه السلام ويصلي عليه يلتفت ناحية اليمين ويشير إلى المقام الشريف وهذا المقام مخمس ترتفع حوائطه من بين أعمدة المسجد ويحيط به خمسة أعمدة وكان في آخره حظيرة أحيطت بسياج حتى لا يدخلها أحد وأسدل على الجزء المكشوف منها شبكة حتى لا تدخلها الطيور وبين قبر الرسول والمنبر مسافة من الرخام تشبه الساحة وتسمى الروضة ويقال إنها روضة من رياض الجنة كما قال رسول الله عليه الصلاة والسلام ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة ويقول الشيعة إن هناك قبر فاطمة الزهراء عليها السلام وللمسجد باب واحد وخارج المدينة ناحية الجنوب صحراء بها مقبرة فيها قبر (أمير المؤمنين) حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه يسمونها قبور الشهداء
وقد أقمنا يومين بالمدينة ثم غادرناها لضيق الوقت فسرنا شرقا وعلى منزلين منها جبل ومضيق يشبه الوادي يسمى الجحفة وهناك ميقات حجاج المغرب والشام ومصر والميقات هو الموضع الذي يحرم منه الحجاج ويقال إن الحجاج نزلوا هناك في سنة ما وكانوا كثيرين فنزل عليهم السيل فجأة فأهلكهم لذلك سمي هذا المكان الحجفة وبين مكة والمدينة مائة فرسخ من الصخر قطعناها في ثمانية أيام
وقد بلغنا مكة في يوم الأحد السادس من ذي الحجة ونزلنا عند باب الصفا وكان بمكة قحط فكانت الأربعة أمنان من الخبز بدينار نيسابوري وقد هاجر منها المجاورون ولم يفد عليها حاج من أي بلد وقد أدينا فريضة الحج لله الحق سبحانه وتعالى يوم الأربعاء في عرفات ولبثنا بمكة يومين قد خرج من الحجاز خلق كثير مما أصابهم من الجوع والفقر وتفرقوا في البلاد
111

ولا أذكر مناسك الحج ووصف مكة الآن سأذكر ذلك عند ذكر آخر نوبة للحج حين بقيت ستة أشهر بمكة مجاورا وسأشرح ما رأيت
ثم توجهنا ناحية مصر فبلغناها بعد خمسة وسبعين يوما وقد هاجر إليها من الحجاز في هذا العام خمسة وثلاثون ألف آدمي فكساهم السلطان وأجرى عليهم الرزق سنة كاملة وقد كانوا جميعا جائعين عرايا ولما أمطرت السماء في بلادهم وكثر فيها الطعام كساهم السلطان صغيرهم وكبيرهم وأغدق عليهم الصلات ثم رحلهم إلى الحجاز وفي شهر رجب سنة أربعين وأربعمائة (ديسمبر سنة 1048) قرأوا على الناس مرة أخرى مثالا للسلطان بأن في الحجاز قحطا وليس من الخير أن يسافر الحجاج فلينفقوا المال على أنفسهم وليفعلوا ما أمر الله به وفي هذه السنة أيضا لم يسافر الحجاج ولكن السلطان لم يقصر البتة في إرسال ما كان يرسله كل سنة من الكسوة وأجور الخدم والحاشية وأمراء مكة والمدينة وصلة أمير مكة وقد كانت ثلاثة آلاف دينار في الشهر وكانت ترسل اليه الخيول والخلع مرتين في السنة وعهد بهذا في هذه السنة إلى رجل اسمه القاضي عبد الله من قضاة الشام وقد ذهبت معه من طريق القلزم وقد بلغت السفينة الجار في الخامس والعشرين من ذي القعدة وكان موعد الحج قد قرب كثيرا وكان الجمل يؤجر بخمسة دنانير فذهبنا مسرعين
بلغت مكة في الثامن من ذي الحجة وأديت فريضة الحج بعون الله سبحانه وتعالى وقد حدث أن قافلة عظيمة أتت للحج من بلاد المغرب وفي أثناء عودة حجاجها عند باب المدينة المنورة طلب العرب الخفارة منهم فقامت الحرب بينهم وقتل من المغاربة أكثر من ألفي رجل ولم يعد كثير منهم إلى المغرب وفي هذه الحجة أيضا قام جماعة من أهل خراسان عن
112

طريق الشام ومصر فبلغوا المدينة في سفينة وقد بقي عليهم أن يقطعوا مائة فرسخ وأربعة حتى عرفات وهم في السادس من ذي الحجة فقالوا إن كلا منا يدفع أربعين دينارا لمن يرحلنا إلى مكة في هذه الأيام الثلاثة الباقية لنلحق الحج فجاء الأعراب وأوصلوهم إلى عرفات في يومين ونصف يوم وأخذوا أجورهم ذهبا وكانوا قد شدوهم إلى جمال سريعة وأتوا بهم من المدينة إلى عرفات وقد هلك اثنان منهم وكانوا موثقين على الجمال وكان أربعة منهم نصف أموات وقد بلغوا عرفات ونحن هناك ساعة صلاة العصر وكانوا لا يستطيعون الوقوف أو الكلام قالوا إنا توسلنا كثيرا في الطريق أن يأخذ هؤلاء الأعراب الذهب الذي اشترطنا وأن يتركونا فإنه لا طاقة لنا على مواصلة السفر ولكنهم لم يسمعوا لنا وساقونا على هذا النحو ومهما يكن فقد حج هؤلاء الأربعة وعادوا عن طريق الشام
وبعد أن أكملت الحج توجهت نحو مصر فقد كانت لي بها كتب ولم يكن في نيتي أن أعود إليها وقد صحبت أمير مكة إلى مصر هذا العام فقد كان له رسم على السلطان يعطاه كل سنة لقرابته من أبناء الحسين بن علي صلوات الله عليهما فركبت السفينة معه حتى مدينة القلزم ومن هناك سرنا إلى مصر
في سنة إحدى وأربعين وأربعمائة (1049) وأنا بمصر جاء الخبر أن ملك حلب قد شق عصا الطاعة على السلطان وكان تابعا له وكان آباؤه ملوكا على حلب وكان للسلطان خادم اسمه عمدة الدولة هو أمير المطالبين وكان عظيم الجاه والمال ويسمى مطالبا من يبحث عن تلال مصر عن الكنوز والدفائن ويأتي لهذا الأمر رجال من المغرب وأديار مصر والشام ويتحمل
113

كل منهم المشاق وينفق المال الكثير في تلال مصر ومحاجرها وكثيرا ما لا يجدون الدفائن والكنوز وكثيرا ما ينفقون المال ولا يهتدون إلى شيء منها فإنهم يقولون إن أموال فرعون مدفونة في هذه المواضع ويأخذ السلطان خمس ما يكشفه المطالب والباقي له قصارى القول إن السلطان بعث هذا الخادم إلى حلب وأمده بقوة ليشد أزره وأعطاه كل ما ينبغي للملوك من الدهاليز والسرر فلما بلغ حلب وقاتل وقتل وكانت أمواله من الكثرة بحيث استغرق نقلها من خزائنه إلى خزائن السلطان شهرين وكان من جملتها ثلاثمائة جارية أكثرهن كالبدور وبعض سراريه وقد أمر السلطان بأن يكن مخيرات فمن رغبن في الزواج منهن زوجهن ومن لم يردن أعدن إلى بيوتهن وصرفت إليهن أموالهن كاملة فلم تجبر واحدة منهن على شيء
ولما قتل عمدة الدولة خاف ملك حلب أن يرسل له السلطان جيشا فبادر بإرسال ابنه وهو في السابعة من عمره مع زوجه ومعهما كثير من التحف والهدايا للسلطان وذلك ليعتذرا عما فعل فلما جاءا مكثا ما يقرب من شهرين خارج مصر ولم يؤذن لهما بالدخول ولم تقبل تحفهما إلى أن شفع لهما الأئمة والقضاة عند السلطان وتوسلوا اليه أن يقابلهما ففعل ثم رجعا بالتشريف والخلع
ومن جملة ما رأيت في مصر أنه إذا أراد أحدهم غرس حديقة يستطيع ذلك في أي فصل من فصول السنة فإنه يحصل دائما على الشجر الذي يريد
114

فيزرعه مثمرا أو بغير ثمر وهناك تجار لذلك يقدمون كل ما يطلب منهم فقد زرعوا الأشجار في أصص ووضعوها فوق الأسطح وكثير من سقوف بيوتهم حدائق أكثرها مثمر من النارنج والترنج والرمان والتفاح والسفرجل والورد والريحان والزهر فإذا اشترى أحدهم شجرا حمل الحمالون الأصص بالشجر بعد شدها على لوح من خشب ونقلوها إلى حيث يشاء ثم يحفر الزراع الأرض لغرس الشجر إما بكسر الأصص أو بنزع الشجر منها من غير أن يضار الشجر بهذا ولم أر هذا النظام في أي مكان آخر كما أني لم أسمع به والحق أنه نظام جميل جدا
العودة إلى خراسان عن طريق الصعيد الأعلى وبلاد العرب والعراق
والآن أعود إلى وطني من مصر عن طريق مكة حرسها الله تعالى من الآفات أقول
أديت صلاة العيد في القاهرة وغادرت مصر في سفينة يوم الثلاثاء الرابع عشر من ذي الحجة سنة إحدى وأربعين وأربعمائة (10 ابريل 1050) واتجهنا نحو الصعيد الأعلى وهو ولاية مصرية في الجنوب يأتي منها ماء النيل إلى مصر وأكثر رغدها منه وهناك على ضفتي النيل كثير من المدن والقرى يطول وصفها
وقد بلغنا مدينة تسمى أسيوط يزرع فيها الأفيون وهو الخشخاش وحبه أسود حين تنمو الشجرة تكسر ويربط كيس في موضع الكسر فيخرج منه عصير يشبه اللبن فيجمعونه ويحفظونه وهو الأفيون وبذور هذا الخشخاش صغيرة مثل الكمون وينسجون في أسيوط عمائم من صوف
115

الخراف لا مثيل لها في العالم والصوف الدقيق الذي يصدر إلى بلاد العجم والمسمى الصوف المصري كله من الصعيد الأعلى لأنهم لا ينتجون الصوف بمدينة مصر نفسها وقد رأيت في أسيوط فوطة من صوف الغنم لم أر مثلها في لهاور أو ملتان وهي من الرقة بحيث تحسبها حريرا
ومن هناك بلغنا مدينة تسمى قوص رأيت فيها أبنية عظيمة من الحجارة تبعث على العجب في نفس من يراها وهي مدينة قديمة محاطة بسور من الحجر وأكثر أبنيتها من الحجارة الكبيرة التي يزن الواحد منها عشرين أو ثلاثين ألف من والعجيب أنه ليس على مسافة عشرة أو خمسة عشر فرسخا منها جبل أو محجر فمن أين وكيف نقلوا هذه الحجارة
ومن قوص بلغت مدينة تسمى إخميم وهي مدينة واسعة عامرة رجالها أشداء لها سور حصين وبها نخل وبساتين كثيرة وقد أقمت بها عشرين يوما وفي هذه الجهة طريقان أحدهما صحراوي لا ماء فيه والثاني طريق النيل وقد ترددنا أي الطريقين نسلك وأخيرا سرنا في طريق النيل وبلغنا مدينة أسوان
عند الجانب الجنوبي من أسوان جبل يخرج من وسطه النيل ويقال إن السفن لا تستطيع المضي في النيل وراء هذا الجبل لأن الماء هناك ينحدر من شلالات عظيمة وعلى مسافة أربعة فراسخ من هذه المدينة طريق ولاية النوبة وهي ولاية أهلها جميعا نصارى ويرسل ملوكها من قديم الهدايا لسلطان مصر وبين البلدين عهود ومواثيق فلا يذهب جيش السلطان هناك ولا يؤذي أهلها ومدينة أسوان محصنة جدا بحيث لا يستطيع أحد أن يقصدها من النوبة وبها جيش دائم للمحافظة عليها وعلى ولايتها ويقابل المدينة
جزيرة وسط النيل كأنها حديقة فيها نخل وزيتون وأشجار أخرى
116

وزرع كثير ويروى زرعها بالسواقي وقد لبثت بها واحدا وعشرين يوما وكان أمامنا حتى شاطئ البحر صحراء فسيحة طولها أكثر من مائتي فرسخ
وكان حينذاك الموسم الذي يعود فيه الحجاج على الجمال فانتظرناهم لنستأجرها ونذهب بها وهي راجعة وكنت عرفت وأنا في أسوان رجلا تقيا صالحا يعرف شيئا من علم المنطق اسمه عبد الله محمد بن فليج وقد عاونني في اكتراء الجمل واختيار الرفيق وغير ذلك وقد استأجرت جملا بدينار ونصف دينار ورحلت عن هذا البلد في الخامس من ربيع الأول سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة (29 يوليو 1050) وكان الطريق يتجه نحو الجنوب
بعد ثمانية فراسخ من رحلتنا بلغنا جهة تسمى ضيقة وهي واد في الصحراء على جانبيه حائطان من الجبال وسعته مائة ذراع وقد حفر فيه بئر يخرج منه ماء كثير ولكنه ليس عذبا وبعد أن تركنا ضيقة سرنا خمسة أيام في صحراء لا ماء فيها وكان مع كل منا قربة ماء ثم بلغنا منزلا يسمى الحوض وهو جبل حجري فيه عينان يتفجر منهما ماء عذب يستقر في حفرة ولم يكن بد من أن يذهب رجل إلى حيث العينان ليحضر الماء لشرب الإبل التي مضى عليها سبعة أيام لم تشرب فيها ولم تأكل إذ أن علفها قد نفد كله وكانت تستريح مرة في الأربع وعشرين ساعة وذلك من الوقت الذي تشتد فيه حرارة الشمس حتى صلاة العصر وتسير بقية الوقت والمنازل التي ينزلون بها معلومة فليس ممكنا النزول في أي مكان لتعذر وجود ما توقد به النار أما في هذه المنازل فإنهم يجدون بعر الإبل فيتخذونه وقودا يطبخون عليه ما تيسر وكأن الإبل تعلم أنها إن أبطأت ماتت عطشا فهي تسير غير محتاجة لأن يسوقها أحد متجهة من تلقاء نفسها ناحية المشرق في هذه الصحارى حيث لا أثر أو علامة تدل على الطريق وهناك أمكنة يقل فيها الماء مسافة خمسة عشر فرسخا ويكون ملحا وأمكنة لا يوجد فيها ماء قط مسافة ثلاثين أو أربعين فرسخا
117

وفي العشرين من ربيع الأول سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة أغسطس 1050 بلغنا مدينة عيذاب ومن أسوان حتى عيذاب التي بلغناها بعد خمسة عشر يوما مائتا فرسخ بالتحديد ومدينة عيذاب هذه تقع على شاطئ البحر وبها مسجد جمعة وسكانها خمسمائة وهي تابعة لسلطان مصر وفيها تحصل المكوس على ما في السفن الوافدة من الحبشة وزنجبار واليمن ومنها تنقل البضائع على الإبل إلى أسوان في هذه الصحراء التي اجتزناها ومن هناك تنقل بالسفن إلى مصر في النيل وعلى يمين عيذاب ناحية القبلة جبل من خلفه صحراء عظيمة بها مراع واسعة وخلق كثيرون يسمون البجة وهم قوم لا دين لهم ولا ملة لا يؤمنون بنبي أو إمام وذلك لبعدهم عن العمران وهم يسكنون الصحراء طولها أكثر من ألف فرسخ وعرضها ثلاثمائة فرسخ وليس في هذه المسافة الشاسعة سوى مدينتين صغيرتين تسمى الأولى بحر النعام والثانية عيذاب وتمتد هذه الصحراء من مصر إلى الحبشة وذلك من الشمال إلى الجنوب وعرضها من بلاد النوبة حتى بحر القلزم وذلك من الغرب إلى الشرق ويقيم بها البجة وهم ليسوا أشرار فهم لا يسرقون ولا يغيرون بل يشتغلون بتربية ماشيتهم ويسرق المسلمون وغيرهم أبناءهم ويحملونهم إلى المدن الإسلامية ليبيعوهم فيها
وبحر القلزم هذا خليج يتفرع من المحيط عند ولاية عدن ويسير شمالا حتى مدينة القلزم الصغيرة ويسمى هذا البحر بكل مدينة تقع عليه فمرة يسمى القلزم ومرة عيذاب ومرة بحر النعام وقيل إن به أكثر من ثلاثمائة جزيرة تأتي السفن منها محملة بالزيت والكشك وقيل إن هناك بقرا وخرافا كثيرة والناس هناك مسلمون بعضهم تابع لمصر وبعضهم لليمن وليس
118

في مدينة عيذاب الصغيرة غير ماء المطر فلا بئر فيها ولا عين فإذا لم تمطر السماء أحضر البجة الماء وباعوه وقد بقينا هناك ثلاثة أشهر وكنا نشتري قربة الماء بدرهم أو بدرهمين وسبب بقائنا هذه المدة أن السفينة لم تقلع إذ كانت الريح شمالية وكان ينبغي لرحلتنا ريح الجنوب وحينما رآني الناس طلبوا إلي أن أكون خطيبهم فلم أردهم وخطبت لهم تلك المدة حتى أتى الموسم ثم سارت السفينة شمالا إلى أن بلغنا جدة ويقال إن الجمال النجيبة لا توجد في مكان آخر غير هذه الصحراء وهي تنقل منها إلى مصر والحجاز
وقد حكى لي رجل أعتمد على قوله من مدينة عيذاب قال كنت في سفينة محملة بالجمال لأمير مكة فمات جمل منها فرموه في البحر فابتلعنه سمكة في الحال ولم يبق خارج فمها غير رجله فجاءت سمكة أخرى وابتلعت هذه السمكة بالجمل ولم يظهر عليها أي أثر من ذلك ويسمى هذا السمك بالقرش
ورأيت في هذه المدينة جلد سمك يسمونه في خراسان الشفق ويظنون انه نوع من الضب ولكني رأيت في عيذاب أنه سمك وله كل ما للسمك من زعانف
حينما كنت في أسوان كان لي صديق ذكرت اسمه قبلا وهو أبو عبد الله محمد بن فليج فلما ذهبت من هناك إلى عيذاب كتب من إخلاصه لي لوكيله بها كتابا يقول فيه إعط ناصرا ما يريد وهو يعطيك صكا للحساب فلما بقيت بها ثلاثة أشهر وأنفقت ما معي اضطررت أن أعطي هذه الورقة للوكيل فأكرمني وقال إن له والله لدي أشياء كثيرة وإني معطيك ما تريد وأعطني صكا به فتعجبت من حسن صنع هذا الرجل محمد ابن فليج الذي أظهر كل هذه الطيبة بغير سابقة مني اليه ولو كنت رجلا دنيئا واستحللت لنفسي أن آخذ لأخذت بهذه الورقة أشياء كثيرة وقد أخذت
119

منه مائة من من الدقيق وهو مقدار كبير هناك وأعطيته صكا به أرسله إلى أسوان وقبل رحيلي من عيذاب ورد خطاب من محمد فليج لوكيله يقول فيه أعط ناصرا كل ما يريد مهما تكن قيمته مما لي عندك وإذا أراد فأعطه من مالك وأنا أعطيك عوضا عنه فقد قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه المؤمن لا يكون محتشما ولا مغتنما وقد كتبت هذا الخبر حتى يعرف القارئ أن الرجل يعتمد على الرجل وان الكرم في كل مكان وأن أهله كانوا وسيكونون دائما
وصف بلاد العرب
جدة
وجدة مدينة كبيرة لها سور حصين تقع على شاطئ البحر وبها خمسة آلاف رجل وهي شمال البحر (الأحمر) وفيها أسواق جميلة وقبلة مسجدها الجامع ناحية المشرق
وليس بخارجها عمارات أبدا عدا المسجد المعروف بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولها بوابتان إحداهما شرقية تؤدي إلى مكة والثانية غربية تؤدي إلى البحر ويبلغ السائر من جدة جنوبا على شاطئ البحر اليمن ومدينة صعدة والمسافة إلى هناك خمسون فرسخا وإذا سار شمالا بلغ الجار وهي تابعة للحجاز وليس في جدة شجر ولا زرع وكل ما يلزمها يحضرونه إليها من القرى وبينها وبين مكة إثنا عشر فرسخا وأمير جدة تابع لأمير مكة تاج المعالي بن أبي الفتوح الذي هو أمير المدينة أيضا وقد ذهبت إلى أمير جدة فأكرم وفادتي وأعفاني مما كان يجب علي
120

من المكس ولم يطلبه وهكذا خرجت من البوابة في سلام وقد كتب إلى مكة يقول عني هذا رجل عالم فلا يجوز أن يؤخذ منه وفي يوم الجمعة بعد صلاة العصر قمت من جدة فبلغت باب مكة يوم الأحد سلخ جمادى الثاني وكان قد حضر إلى مكة للعمرة خلق كثيرون من نواحي الحجاز واليمن في أول رجب وهو موسم عظيم مثل عيد رمضان وهم يحضرون وقت الحج ولأن طريقهم قريب وسهل يأتون إلى مكة ثلاث مرات كل سنة
وصف مكة
تقع مكة بين جبال عالية ولا ترى من بعيد من أي جانب يقصدها السائر وأقرب جبل منها هو جبل أبي قبيس وهو مستدير كالقبة لو رمي سهم من أسفله لبلغ قمته وهو شرقي مكة فترى الشمس من داخل المسجد الحرام وهي تشرق من فوقه في شهر دي (ديسمبر) وقد نصب على قمته برج من الحجر يقال إن إبراهيم عليه السلام رفعه عليه
وتشغل هذه المدينة الوادي الذي بين الجبال والذي لا تزيد مساحته عن رمية سهمين في مثلها والمسجد الحرام وسط هذا الوادي ومن حوله مكة والشوارع والأسواق وحيثما وجدت ثغرة بين الجبال سدت بسور قوي وضعت عليه بوابة وليس بمكة شجر أبدا إلا عند باب الغربي للمسجد الحرام المسمى باب إبراهيم حيث يوجد كثير من الشجر الكبير الذي يرتفع على حافة البئر
وعند الجانب الشرقي للمسجد سوق تمتد من الجنوب إلى الشمال وفي
121

أولها ناحية الجنوب جبل أبي قبيس الذي تقع الصفا على سفحه وتبدو على هذا السفح درجات كبيرة من الحجارة المستوية التي يصعد الحجاج عليها ويدعون ربهم والمروة في نهاية السوق شمالي الجبل وهي أقل ارتفاعا في وسط مكة وقد شيدت عليها منازل كثيرة وما يسمى السعي بين الصفا والمروة هو المسعى في هذه السوق من أولها لآخرها ويجد من يرغب العمرة وهو آت من بعيد أبراجا ومساجد على مسافة نصف فرسخ حول مكة فيحرم منها للعمرة والإحرام هو نزع الملابس المخيطة من على الجسد وشد المحرم وسطه بإزار ولف جسده بإزار أو وشاح آخر وصياحه بصوت عال أن لبيك اللهم لبيك ثم يسير نحو مكة فإذا أراد حاج أن يعتمر وهو بمكة فإنه يذهب إلى تلك الأبراج ويرتدي ثوب الإحرام ويهتف لبيك ويدخل مكة بنية العمرة فحين يبلغ مكة يدخل المسجد الحرام ويسير نحو الكعبة ثم يطوف ناحية اليمين بحيث تكون هذه على يساره ويتوجه إلى الركن الذي به الحجر الأسود فيقبله ثم يمضي ويستمر في الطواف حتى يعود إلى الحجر الأسود مرة أخرى فيقبله وبهذا يكون قد أتم طوفة واحدة وعلى هذا النحو يطوف سبع مرات ثلاثا منها بسرعة وأربعا على مهل وبعد إتمام الطواف يتوجه نحو مقام إبراهيم عليه السلام وهو أمام الكعبة فيقف خلفه بحيث يكون المقام بينه وبين الكعبة وهناك يصلي ركعتين هما صلاة الطواف ثم يذهب إلى حيث بئر زمزم فيشرب من مائها أو يمسح بها وجهه ثم يخرج من المسجد الحرام من باب الصفا الذي سمي كذلك لأن جبل الصفا يقع خارجه فيصعد على عتبات الصفا موليا وجهه شطر مكة ويدعو بالدعاء المعلوم ثم ينزل ويتجه ناحية المروة مارا بالسوق التي يسير فيها من الجنوب إلى الشمال وعليه أن ينظر إلى أبواب الحرام حين يمر بها وأن يحث الخطى في المسافة التي سعاها الرسول عليه الصلاة والسلام مسرعا والتي أمر الناس باجتيازها مسرعين وهي خمسون خطوة وعلى طرفي هذا الموضع (الذي يسار فيه بسرعة) أربع منارات على الجانبين فإذا بلغ الحاج الآتي من
122

الصفا ما بين المنارتين الأوليين أسرع حتى يصل إلى ما بين المنارتين الثانيتين ثم يسير الهوينى حتى يبلغ المروة فيصعد عتباتها ويدعو ذلك الدعاء المعلوم وهكذا يكرر هذا السعي في السوق بحيث يسعى من الصفا إلى المروة أربع مرات ومن المروة إلى الصفا ثلاث مرات فيكون قد سعى في هذه السوق سبع مرات
وعندما ينزل الحاج من جبل المروة يجد سوقا فيها عشرون دكانا متقابلة يشغلها جميعا حجامون لحلق شعر الرأس وحين يتم الحاج شعائر العمرة ويخرج من المسجد الحرام يدخل السوق الكبيرة التي تقع ناحية الشرق والمسماة سوق العطارين وهي سوق جميلة البنايات وكلها عطارون
وبمكة حمامان بلاطهما من الحجر الأخضر السنان وقدرت أن سكانها القاطنين بها لا يزيدون على ألفين والباقي ويقربون من الخمسمائة من الغرباء والمجاورين وفي ذلك الوقت كان بمكة قحط فكان الستة عشر منا من القمح بدينار مغربي وقد هاجر منها كثيرون
وقد كان لأهالي كل مدينة من خراسان وما وراء النهر والعراق وغيرها منازل بمكة ولكن أغلبها كان خرابا وقتذاك وقد بنى بها خلفاء بغداد عمارات كثيرة وأبنية جميلة وكان بعضها وأنا هناك خربا والبعض الآخر اشتراه الناس (أصبح ملكا خاصا) وماء آبار مكة مالح ومر لا يساغ شربه ولكن بها كثيرا من الأحواض والمصانع الكبيرة بلغت تكاليف الواحد منها أكثر من عشرة آلاف دينار وهي تملأ من ماء الأمطار الذي يتدفق من الأودية وكانت فارغة ونحن هناك
وقد أنشأ ابن أحد أمراء عدن مجرى للماء تحت الأرض وأنفق عليه أموالا كثيرة يسقى منه ما على حافتيه من شجر في عرفات وقد حبس هذا الماء هناك حيث غرست الحدائق فلا يصل (قرب) مكة منه إلا القليل لأن القناة لا تبلغها وهذا القليل يجمع في حوض خارج مكة فيأخذ منه
123

السقاءون ويذهبون به إليها ويبيعونه
وعلى مسافة نصف فرسخ من طريق برقة بئر يسمى بئر الزاهد عنده مسجد جميل وماء هذا البئر عذب ويحمله السقاءون إلى مكة لبيعه وجو مكة حار جدا وفي آخر بهن
القديم (يناير فبراير) رأيت بها الخيار والأترنج والباذنجان وكانت كلها طازجة
هذه هي المرة الرابعة التي أزور بها مكة وقد مكثت بها مجاورا من غرة رجب 442 (10 نوفمبر 1050) إلى العشرين من ذي الحجة (3 مايو 1051) وقد أثمر بها العنب في الخامس عشر من فروردين (مارس أبريل) فأحضر من السواد إلى مكة وبيع في السوق وكان البطيخ كثيرا في أول اردبهشت (ابريل مايو) وكانت الفاكهة متوفرة طول الشتاء فلم تنقطع قط
وصف بلاد العرب واليمن
وحين يسير المسافر مرحلة واحدة جنوبي مكة يبلغ ولاية اليمن التي تمتد حتى شاطئ البحر والحجاز واليمن متجاوران ولغتهما العربية وفي الاصطلاح يقال لليمن حمير وللحجاز العرب ويحيط البحر البلدين من ثلاث جهات فهما شبه جزيرة يحدها شرقا بحر البصرة وغربا بحر القلزم الذي تقدم أنه خليج وجنوبا البحر المحيط وطول شبه الجزيرة هذه التي هي اليمن والحجاز من الكوفة إلى عدن أي من الشمال إلى الجنوب خمسمائة فرسخ
124

وعرضها من عمان إلى الجار أي من الشرق إلى الغرب أربعمائة فرسخ وبلاد العرب من الكوفة إلى مكة وبلاد اليمن من مكة إلى عدن
وبلاد العرب قليلة الخصب ويسكن أهلها الصحراء ويملكون الدواب والمواشي ويقيمون في الخيام
وبلاد حمير (اليمن) ثلاثة أقسام قسم منها يسمى تهامة وهو يمتد على ساحل القلزم الذي هو غربي تهامة وبه كثير من المدن والخصب مثل صعدة وزبيد وصنعاء وغيرها وهذه المدن مشيدة في الصحراء وأمير هذا القسم عبد حبشي من أبناء شاددل
والقسم الثاني من حمير جبلي يسمى نجدا وبه أماكن مقفرة وأخرى شديدة البرد كما أن به أودية ضيقة وقلاعا محكمة
والقسم الثالث ناحية المشرق وبه مدن كثيرة منها نجران وعثر وبيشة وغيرها وبهذا القسم طوائف كثيرة لكل منها ملك أو رئيس فليس له حاكم واحد فإن سكانه عتاة وأغلبهم لصوص وسفاكو دماء وهم كثيرون ومن كل جنس ومساحة هذا القسم مائتا فرسخ في مائة وخمسين
وفي اليمن قصر غمدان بمدينة اسمها صنعاء وقد بقي من أطلال
125

كالتل في وسطها ويقال هناك إن رب هذا القصر كان ملكا على العالم كله كما يقال إن بهذا التل كنوزا ودفائن كثيرة ولكن أحدا لا يجرؤ على مد يده إليها سلطانا كان أو من الرعية ويصنعون بصنعاء العقيق وهو حجارة تقطع من الجبل وتسوى على النار في بواتق محاطة بالرمل ثم تعرض هكذا وسط الرمل لحرارة الشمس وبعد هذا يصقلونها بعجلة وقد رأيت في مصر سيفا أحضر للسلطان من اليمن مقبضه قطعة واحدة من العقيق الأحمر كأنه ياقوت
وصف المسجد الحرام والكعبة
قلنا إن الكعبة تقوم وسط المسجد الحرام وإن المسجد الحرام يقوم وسط مكة والمسجد ممتد طولا من الشرق إلى الغرب وعرضا من الشمال إلى الجنوب وسوره ليس قائم الزوايا بل أركانه مقوسة تميل إلى الاستدارة وذلك حتى تكون وجوه جميع المصلين شطر الكعبة في أي جهة كانوا يصلون بالمسجد وأقصى طول للمسجد من باب إبراهيم إلى باب بني هاشم أربع وعشرون وأربعمائة ذراع وعرضه من باب الندوة وهو جهة الشمال حتى باب الصفا وهو جهة الجنوب وأقصى اتساعه أربع وثلاثمائة ذراع وبسبب استدارته تبدو ساحة المسجد أضيق في جهة وأوسع في جهة أخرى وحوله ثلاثة أروقة رفعت أسقفها على أعمدة من الرخام ووسط هذه الأروقة مربع وعلى طول السقف من ناحية ساحة المسجد خمسة وأربعون طاقا وعلى عرضه ثلاثة وعشرون وعدد الأعمدة الرخامية التي فيه أربعة وثمانون وأربعمائة عمود قيل إنها كلها أرسلت من الشام عن طريق البحر بأمر خلفاء بغداد وقيل أنه حين بلغت هذه العمد مكة بلغ ثمن الحبال التي شدت بها إلى السفن والعجلات والتي قطعت قطعا ستين ألف دينار مغربي ومن
126

هذه العمد عمود من الرخام الأحمر وضع عند باب الندوة قيل إنه اشترى بوزنه ذهبا ويقدر وزنه بثلاثة آلاف من وللمسجد الحرام ثمانية عشر بابا عليها طيقان مقامة على عمد من الرخام وضعت بحيث لا تعوق فتح الأبواب وعلى الجانب الشرقي أربعة أبواب هي من الركن الشمالي باب النبي وبه ثلاثة طيقان مقفلة وعلى هذا الجانب نفسه عند الطرف الجنوبي (للباب الأول) باب آخر يسمى باب النبي أيضا وبين هذين البابين أكثر من مائة ذراع ولهذا الباب طاقان وفي خارجه سوق العطارين وقد كان منزل النبي عليه السلام في هذه السوق وكان يدخل من هذا الباب للصلاة في المسجد فإذا جاوز السائر هذا الباب وجد على السور الشرقي أيضا باب علي عليه السلام وهو الباب الذي كان يدخل منه أمير المؤمنين علي عليه السلام للصلاة بالمسجد وله ثلاثة طيقان فإذا جاوزه يجد عن ركن المسجد منارة أخرى يبدأ منها السعي وهي غير المنارة التي بباب بني هاشم ومن عندها ينبغي الإسراع في السعي وهي إحدى المنارات الأربع المذكورة (المنارات الأربع في طرق السعي)
وعلى الحائط الجنوبي الذي هو طول المسجد سبعة أبواب أولها على الركن المقوس واسمه باب الدقاقين وله طاقان وغربيه بقليل باب آخر ذو طاقين يقال له باب الفسانين وبعده بقليل باب الصفا وله خمسة طيقان أكبرها الطاق الأوسط وعلى كل من جانبيه طاقان صغيران وكان رسول الله عليه السلام يخرج من هذا الباب ويذهب إلى الصفا ويدعو وعتبة
127

الطاق الأوسط مكونة من حجر أبيض كبير وكان بها حجر أسود وطئه الرسول عليه السلام بقدمه فارتسم نقش القدم المبارك عليه وقد نزع هذا الجزء من الحجر الأسود وركب في الحجر الأبيض بحيث تكون أطراف أصابع القدم داخل المسجد ويضع بعض الحجاج وجوههم على هذا الحجر وبعضهم يضعون أقدامهم تبركا وأعرف أن الأفضل أن أضع وجهي وبعد هذا الباب بقليل ناحية المغرب باب السطوى وله طاقان ثم من بعده بقليل باب التمارين وله طاقان ثم باب المعامل وله طاقان ويقابله بيت أبي
جهل وهو الآن مرحاض
وعلى الحائط الغربي وهي عرض المسجد ثلاثة أبواب الأول عند الركن الجنوبي واسمه باب عروة وله طاقان وفي الوسط باب إبراهيم وله ثلاثة طيقا
وعلى الحائط الشمالي وهي طول المسجد أربعة أبواب ففي الركن الغربي باب الوسيط وله طاق واحد ومن بعده ناحية المشرق باب العجلة وله طاق واحد ومن بعده في الوسط باب الندوة وله طاقان ثم باب المشاورة وله طاق واحد وعند زاوية المسجد في الشمال الشرقي باب يسمى باب بني شيبة
والكعبة في وسط ساحة المسجد وهي مستطيل طوله من الشمال إلى
128

الجنوب ثلاثون ذراعا وعرضه من الشرق إلى الغرب ست عشرة ذراعا وبابها شرقي بحيث يكون الركن العراقي على يمين الداخل وركن الحجر الأسود على يساره ويسمى ركنها الجنوبي الغربي بالركن اليماني وركنها الشمالي الغربي بالركن الشامي والحجر الأسود مركب على زاوية الحائط في حجر كبير بحيث إذا وقف رجل طويل القامة يكون مقابلا لصدره وطول هذا الحجر شبر أربعة أصابع وعرضه ثمانية أصابع وهو مستدير الشكل وبينه وبين باب الكعبة أربع أذرع ويسمى ما بينهما الملتزم
ويرتفع باب الكعبة عن الأرض أربع أذرع بحيث إذا وقف رجل مديد القامة على الأرض يصل إلى عتبته وقد صنع سلم من الخشب يضعونه وقت الحاجة أمام الباب فيصعد عليه الناس ويدخلون الكعبة ويسع عرض هذا السلم عشرة رجال يصعدون وينزلون بعضهم بجانب بعض وأرض الكعبة عالية بهذا المقدار
وصف باب الكعبة
وهو باب من خشب الساج له مصراعان ارتفاعه ست أذرع ونصف
129

ذراع وعرض كل من مصراعيه ذراع وثلاثة أرباع الذراع فعرضهما معا ثلاث أذرع ونصف وعلى صدر الباب وأعلاه كتابة كما أن عليه دوائر زخرفية من فضة وكتابات منقوشة بالذهب والفضة وقد كتبت عليه هذه الآية حتى آخرها * (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين) * وله حلقتان كبيرتان من الفضة أرسلتا من غزنين وقد ركبتا في مصراعيه بحيث لا تصل إليهما يد إنسان ومن تحتها حلقتان أخريان من الفضة أصغر حجما وموضوعتان بحيث تصل اليد إليهما وفيهما قفل كبير من الفضة أيضا يقفل به الباب ولا يفتح ما لم ينزع القفل
وصف الكعبة من الداخل
يبلغ سمك حائطها ستة أشبار وأرضها مغطاة بالرخام الأبيض وبالكعبة ثلاث خلوات صغيرة كأنها دكاكين إحداها تقابل الباب والأخريان على الجانب الشمالي والأعمدة التي بالكعبة والتي أقيم عليها السقف كلها من خشب الساج المربع إلا عمودا واحدا مدورا وفي الجانب الشمالي قطعة مستطيلة من الرخام الأحمر يقال إن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يصلي عليها ويجتهد كل من يعرف ذلك أن يصلي هناك وقد غطيت حوائط الكعبة بألواح الرخام الملون وعلى الجانب الغربي منها ستة محاريب من الفضة ألصقت بالحائط بمسامير ويبلغ ارتفاع كل منها قامة الرجل وهي مزينة بنقوش كثيرة من الذهب والفضة وهي مرتفعة عن الأرض وحوائط الكعبة الأربعة حتى أربعة أذرع من الأرض خالية من النقوش وأما بعد ذلك إلى السقف فمزينة بالرخام المنقوش والموشى أغلبه بالذهب
130

وفوق كل من الخلوات الثلاث التي ذكرتها والتي توجد إحداها في الركن العراقي والأخرى في الركن الشامي والثالثة في الركن اليماني فوق كل ركن منها لوحان من الخشب مثبتان على الحائط بمسامير من فضة وهي ألواح من خشب سفينة نوح عليه السلام طول كل منها خمس أذرع وعرضه ذراع واحد
وقد أسدل على الخلوة التي خلف الحجر الأسود ستار من الديباج الأحمر وحين يدخل السائر في الكعبة يجد على اليد اليمنى زاوية مربعة بمقدار ثلاث أذرع في مثلها وهناك سلم يؤدي إلى سطح الكعبة عليه باب من الفضة له مصراع واحد يسمى باب الرحمة وعليه قفل من الفضة فإذا صار فوق سطح الكعبة يجد بابا آخر مثل الباب السابق منقوش بالفضة على وجهيه وقد غطى سقف الكعبة بالخشب المغطى بالحرير الذي يحجبه عن الأنظار وعلى حائط الكعبة الأمامي فوق العمد الخشبية كتابة ذهبية فيها اسم العزيز بالله سلطان مصر الذي استولى على مكة من الخلفاء العباسين وعلى الحائط أربعة ألواح أخرى كبيرة من الفضة متقابلة ومثبتة بمسامير من فضة وعلى كل لوح منها اسم السلطان الذي أرسله من سلاطين مصر وكان كل منهم يرسل لوحا في عهده
وبين الأعمدة ثلاثة قناديل فضية معلقة وبلاط سطح الكعبة من الرخام اليمني الذي يلمع كأنه البلور وفي أركانها أربع روازن على كل منها لوح من الزجاج لينفذ منه النور ولمنع تسرب المطر
والميزاب في وسط الحائط الشمالي وطوله ثلاث أذرع وكله مطلي بالذهب
والكسوة التي تغطي بها الكعبة بيضاء وقد طرزت في موضعين عرض كل منها ذراع وبينهما عشر أذرع تقريبا ومن فوقهما وتحتهما عشر أذرع أيضا بحيث ينقسم ارتفاع الكعبة إلى ثلاثة أقسام كل منها عشر أذرع بواسطة طرازي الكسوة وعلى جوانب هذه الكسوة الأربعة نسجت محاريب
131

ملونة مزينة بخيوط من ذهب وعلى كل ناحية ثلاثة محاريب محراب كبير في الوسط ومحرابان صغيران على جانبيه فعلى النواحي الأربعة إثنا عشر محرابا
وخارج الكعبة حائط علوه ذراع ونصف وتتصل نهايتهاه بركني الكعبة لأن هذا الحائط مقوس كنصف الدائرة وهو يبعد من منتصفه عن الكعبة مقدار خمس عشرة ذراعا وأرض هذا الموضع مبلطة بالرخام الملون المنقوش ويسمى الحجر وبه يصب ماء الميزاب الذي فوق الكعبة وقد وضع تحته قطعة من الحجر الأخضر على شكل محراب يسقط عليها الماء وهي كبيرة بحيث يستطيع رجل أن يصلي عليها
ومقام إبراهيم عليه السلام شرقي الكعبة وهو الحجر الذي به آثار قدمي إبراهيم عليه السلام وهو مركب في حجر آخر وعليه غلاف مربع من الخشب بارتفاع قامة الرجل وهو في غاية الدقة ووضعت عليه ألواح من الفضة وقد أحكم ربط الغلاف بالحائط بسلاسل من الجانبين وعليه قفلان وذلك حتى لا يستطيع أحد أن يلمس الحجر وبين الكعبة ومقام إبراهيم ثلاثون ذراعا
بئر زمزم
بئر زمزم شرقي الكعبة حذاء ركن الحجر الأسود وبين زمزم والكعبة ست وأربعون ذراعا وسعة البئر ثلاث أذرع ونصف في مثلها
132

وماؤها ملح ولكنه يستساغ وقد بنوا عند فوهتها خرزة من الرخام الأبيض ارتفاعه ذراعان وفي جوانب حجرة زمزم الأربعة أحواض يصب فيها الماء ويتوضأ الناس به وأرضها من الخشب المشبك ليسيل الماء الذي يراق بها وبابها ناحية المشرق
وأمام البئر ناحية المشرق بناء آخر مربع عليه قبة يسمى سقاية الحاج وضع به أزيار يشرب منها الحجاج وبعد هذا البناء ناحية الشرق بناء آخر مستطيل عليه ثلاث قباب يسمى خزانة الزيت به الشمع والزيت والقناديل
وحول الكعبة أعمدة يتصل بعضها بالبعض بواسطة عروق من الخشب عليها زخارف ونقوش من الفضة ومعلق بها الحلق والكلابات حتى يوضع الشمع في هذه وتدلى المصابيح من تلك بالليل ويسمى هذا الموضع المشاعل ويفصله عن الكعبة خمسون ومائة ذراع وهي مسافة الطواف
فجملة المباني التي بساحة المسجد الحرام عدا الكعبة المعظمة شرفها الله تعالى ثلاثة هي بيت زمزم وسقاية الحاج وخزانة الزيت
133

وتحت السقف المحيط بالمسجد بجانب الحائط صناديق من جميع مدن المغرب ومصر والشام والروم والعراقين وخراسان وما وراء النهر وغيرها
وعلى مسافة أربعة فراسخ شمالي مكة ناحية تسمى برقة بها أمير مكة مع جيش خاص به وهناك ماء جار وأشجار ومساحتها فرسخان طولا في مثلهما عرضا
في هذه السنة كنت بمكة مجاورا منذ أول رجب وعادتهم أن يفتحوا باب الكعبة كل يوم في هذا الشهر منذ شروق الشمس
وصف فتح باب الكعبة
امتازت قبيلة من العرب تسمى بني شيبة بحفظ مفتاح باب الكعبة وهم خدمها وكان لهم خلع ومشاهرات من سلطان مصر ولهم رئيس بيده المفتاح وحين يجيء يصاحبه خمسة أو ستة أفراد وحين يصلون ينضم إليهم عشرة من الحجاج فيرفعون السلم الذي قدمنا وصفه ويضعونه أمام الباب فيصعد هذا الشيخ ويقف على العتبة ويصعد بعده رجلان ويرفعان الستار والديباج الأصفر يمسك كل منهما طرفا منه بحيث يحجب الشيخ وهو يفتح الباب يفتح الشيخ القفل وينزعه من الحلق بينما الحجاج وقوف أمام الكعبة فحين يفتح الباب يرفعون أيديهم بالدعاء فيعرف كل من يسمع صوتهم بمكة أن باب الكعبة قد فتح فيرفع الناس جميعا أصواتهم عالية ويدعون ربهم وتحدث جلجلة عظيمة بالبلد ثم يدخل الشيخ بينما الرجلان يمسكان الستار ويصلي ركعتين ثم يعود فيفتح الباب على مصراعيه ويقف على العتبة ويقرأ الخطبة عليهم بصوت مرتفع ويصلي على رسول الله عليه الصلوات والسلام وعلى أهل بيته ثم يقف الشيخ وأصحابه على جانبي باب الكعبة بينما يأخذ الحجاج في الصعود ودخول الكعبة فيصلي كل منهم
134

ركعتين ثم يخرج ويدوم ذلك إلى قرب منتصف النهار ويولون وجوههم أثناء صلاتهم بالكعبة نحو الباب مع جواز التوجه نحو الجوانب الأخرى وقد أحصيت الناس في وقت كانت الكعبة ممتلئة فيه حتى لم يكن بها مكان لداخل فكانوا عشرين وسبعمائة رجل وعامة حجاج اليمن يشبهون الهنود فكل منهم يتشح بفوطه وشعورهم متدلية ولحاهم مضفرة وفي وسط كل منهم حربة قطيفية كالتي يتمنطق بها الهنود ويقال إن أصل الهنود من اليمن وأن قتالة أصلها كتارة (الحربة) ثم عربت وبفتح باب الكعبة أيام الاثنين والخميس والجمعة من أشهر شعبان ورمضان وشوال فإذا جاء ذو القعدة أغلق الباب
عمرة الجعرانة
على أربعة فراسخ من شمال مكة مكان يسمى الجعرانة كان به النبي عليه السلام مع جيشه في السادس عشر من ذي القعدة فأحرم منه وجاء إلى مكة وأعتمر وهناك بئران بئر الرسول وبئر علي بن أبي طالب صلوات الله عليهما وماء البئرين عذب جدا وبينهما عشر أذرع وقد اتخذت هذه العمرة النبوية سنة تؤدي في هذا الموسم وقرب البئرين صخرة كبيرة فيها فجوات كأنها كؤوس يقال إن النبي عليه السلام عجن الدقيق فيها بيديه والذين يزورون هذا المكان يعجنون الدقيق بأيديهم بماء هذين البئرين ويتخذون من الأشجار الكثيرة هناك وقودا للخبز الذي يرسلونه إلى الأقطار تبركا وهناك أيضا صخرة كبيرة مرتفعة يقال إن بلالا الحبشي كان يقف عليها ويؤذن للصلاة ويصعد عليها الزائرون ويؤذنون وحين كنت بالجعرانة كان بها ناس كثيرون وكان بها أكثر من ألف جمل بالعمارات مما يبين كثرة الزائرين الآخرين
135

ومن مصر إلى مكة عن الطريق الذي سرت فيه هذه المرة ثلاثمائة فرسخ ومن مكة إلى اليمن إثنا عشر فرسخا
وتقع صحراء عرفات بين جبال صغيرة كالتلال ومساحتها فرسخان في مثلهما وكان بها مسجد بناء إبراهيم عليه السلام لم يبق منه هذه الساعة غير منبر خرب من الطوب النيئ يصعد عليه الخطيب في صلاة الظهر ويخطب ثم يؤذنون للصلاة ثم يصلون جماعة ركعتين سنة المسافرين ثم يقيمون الصلاة ويصلون جماعة ركعتين أخريين ثم يجلس الخطيب على جمل ويتجه شرقا والناس وراءه وعلى بعد فرسخ جبل حجري صغير يسمى جبل الرحمة هناك يقفون ويدعون حتى وقت الغروب
وقد أوصل ابن شاد دل الذي كان أميرا لعدن الماء إلى جبل الرحمة من مكان بعيد وأنفق في ذلك مالا طائلا ويحمل الماء من هذا الجبل إلى صحراء عرفات حيث عملت أحواض تملأ ماء أيام الحج حتى يتيسر الماء للحجيج وقد بنى هذا الأمير فوق جبل الرحمة طاقا مربعا كبيرا يضعون فوق قبته كثيرا من القناديل والشموع ليلة عرفة ويومه فيرى نورها من مسافة فرسخين وقيل إن أمير مكة أخذ ألف دينار من ابن شادن دل ليجيز له إقامة هذا الطاق
في التاسع من ذي الحجة سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة (27 ابريل 1051) قضيت الحجة الرابعة بعون الله سبحانه وتعالى ولما غابت الشمس عاد الحجاج والخطيب من عرفات وساروا فرسخا إلى المشعر الحرام ويسمونه المزدلفة وهناك بناء جميل كالمقصورة يصلي فيه الناس ويأخذون منه حجارة الرجم التي يرمونها بمنى والعادة أن يقضي الحجاج هذه الليلة وهي ليلة العيد هناك حيث يصلون الفجر وعند طلوع الشمس يتوجهون إلى منى حيث يضحون وهناك مسجد كبير يسمى مسجد الخيف وليس من المفروض إلقاء خطبة وصلاة
136

العيد بمنى في ذلك اليوم ولم يأمر بهما المصطفى عليه السلام ويكون الحجاج بمنى في العاشر من ذي الحجة وهناك يرمون الحجارة وشرح ذلك مذكور في مناسك الحج وفي الثاني عشر من ذي الحجة يغادر منى من عزم على العودة لبلاده ويذهب إلى مكة أهلها
إلى الحسا عن طريق الطائف ومطار والثريا وجزع وسربا وفلج واليمامة
بعد اتمام الحج استأجرت جملا من أعرابي لأذهب إلى الحسا وقيل إنهم يبلغونها من مكة في ثلاثة عشر يوما وقد ودعت بيت الله يوم الجمعة تاسع عشر ذي الحجة سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة (7 مايو 1051) الموافق أول خرداد القديم (مايو يونيو) وقد وجدنا مرجا بعد سبعة فراسخ من مكة عنده جبل ولما بلغناه وجدنا سهلا وقرى وبئرا اسمها بئر الحسين بن سلامة وكان الجو باردا وقد سرنا ناحية المشرق
بلغنا الطائف يوم الاثنين الثاني والعشرين من ذي الحجة ومن مكة إلى هناك إثنا عشر فرسخا والطائف ناحية على رأس جبل وكان الجو باردا في شهر خرداد (مايو يونيو) حتى لزم الجلوس في الشمس بينما يكثر البطيخ بمكة في هذا الوقت وقصبة الطائف هذه مدينة صغيرة بها حصن محكم وسوق وجامع صغيران وبها ماء جار وأشجار رمان وتين كثيرة وبجوارها قبر عبد الله بن عباس رضي الله عنه وقد بنى خلفاء بغداد هناك مسجدا كبيرا يقع القبر في زاويته على يمين المحراب والمنبر وبنى الناس هناك بيوتا يسكنونها
سرنا من الطائف واجتزنا جبالا وأراضي صخرية وكنا نجد حيثما سرنا قلاعا محصنة وقرى وقد أروني وسط الصخور قلعة خربة قيل إنها كانت بيت ليلى وقصتهم في هذا عجيبة ومن هناك بلغنا قلعة تسمى مطار
137

وبينها وبين الطائف إثنا عشر فرسخا ثم بلغنا ناحية تسمى الثريا بها نخيل كثير وتزرع أرضها بمياه الآبار والسواقي قالوا وليس لهذه الناحية حاكم أو سلطان فإن على كل جهة رئيسا أو سيدا مستقلا ويعيش الناس على السرقة والقتل وهم في حرب دائم بعضهم مع بعض ومن الطائف إلى هناك خمسة وعشرون فرسخا وبعد ذلك مررنا بقلعة تسمى جزع وعلى مساحة نصف فرسخ منها أربع قلاع نزلنا عند أكبرها وتسمى حصن بني نسير وهناك قليل من النخيل وبيت العربي الذي استأجرنا حمله في الجزع هذه ولبثنا هناك خمسة عشر يوما إذ لم يكن معنا خفير يهدينا الطريق ولكل قوم من عرب هذا المكان ارض محددة ترعى بها ماشيتهم ولا يستطيع أجنبي أن يدخلها فهم يمسكون كل من يدخل بغير خفير ويجردونه مما معه فيلزم استصحاب خفير من كل جماعة حتى يتيسر المرور من أرضهم فهو وقاية للمسافر ويسمونه أيضا مرشد الطريق (قلاوز) وقد اتفق أن جاء إلى الجزع رئيس الأعراب الذين كانوا في طريقنا وهم بنو سواد واسمه أبو غانم عبس بن
138

البعير فاتخذناه خفيرا وذهبنا معه وقابلنا قومه فظنوا أنهم لقوا صيدا إذ أن كل أجنبي يرونه يسمى صيدا فلما رأوا رئيسهم معنا أسقط في أيديهم ولولا ذلك لأهلكونا وفي الجملة لبثنا معهم زمنا إذ لم يكن معنا خفير يصحبنا ثم أخذنا من هناك خفيرين أجر كل منهما عشرة دنانير ليسيرا بنا بين قوم آخرين وقد كان من هؤلاء العرب شيوخ في السبعين من عمرهم قالوا لي إنهم لم يذوقوا شيئا غير لبن الإبل طوال حياتهم إذ ليس في هذه الصحراء غير علف فاسد تأكله الجمال وكانوا يظنون أن العالم هكذا وظللت أتحول من قوم إلى قوم وأجد في كل مكان خطرا وخوفا إلا أن الله تبارك وتعالى سلمنا منها
وبلغنا مكانا في وسط أرض ملؤها الصخور يسمى سربا رأيت به جبالا كل منها كالقبة لم أر مثلها في أي ولاية وهي من الارتفاع بحيث لا يصل إليها السهم وملساء وصلبة بحيث لا يظهر عليها شق أو التواء وقد سرنا من هناك فكان زملاؤنا في الطريق كلما رأوا ضبا قتلوه وأكلوه وكانوا يحلبون لبن الجمال حيث وجد الأعراب ولم أكن أستطيع أكل الضب أو شرب لبن الجمال وفي كل جهة في الطريق بها شجر به ثمر في حجم حبة السلة كنت أقنع بأكل حبات منها وبعد معاناة مشاق ومتاعب كثيرة بلغنا فلج في الثالث والعشرين من صفر (433 1051))
فلج
ومن مكة إليها ثمانون ومائة فرسخ وتقع فلج هذه وسط الصحراء وهي ناحية كبيرة ولكنها خربت بالتعصب وكان العمران حين زرناها قاصرا على نصف فرسخ في ميل عرضا وفي هذه المسافة أربع عشرة قلعة
139

للصوص والمفسدين والجهلة وهي مقسمة بين فريقين بينهما خصومة وعداوة دائمة وقد قالوا نحن من أصحاب الرسيم الذين ذكروا في القرآن الكريم وهناك أربع قنوات يسقى منها النخيل أما زرعهم ففي أرض عالية يرفع إليها معظم الماء من الآبار وهم يستخدمون في زراعتهم الجمال لا الثيران ولم أرها هناك وزراعتهم قليلة واجر الرجل في اليوم عشرة سيرات من غلة يخبزها أرغفة ولا يأكلون إلا قليلا من صلاة المغرب حتى صلاة المغرب التالية كما في رمضان ويأكلون التمر أثناء النهار وقد رأيت هناك تمرا طيبا جدا أحسن مما في البصرة وغيرها والسكان هناك فقراء جدا وبؤساء ومع فقرهم فإنهم كل يوم في حرب وعداء وسفك دماء وهناك تمر يسمونه ميدون تزن الواحدة منه عشرة دراهم ولا يزيدون وزن النوى به عن دانق ونصف ويقال انه لا يفسد ولو بقي عشرين سنة ومعاملتهم بالذهب النيشابوري وقد لبثت بفلج هذه أربعة أشهر في حالة ليس أصعب منها لم يكن معي من شؤون الدنيا سوى سلتين من الكتب والناس جياع وعراة وجهلاء ويلتزمون حمل الترس والسيف إذا ذهبوا للصلاة
ولا يشترون الكتب وكان هناك مسجدا نزلنا فيه وكان معي قليل من اللونين القرمزي واللازورد فكتبت على حائط المسجد بيت شعر ووضعت في وسطه ورق الشجر فرأوه وتعجبوا وتجمع أهل القلعة كلها ليتفرجوا عليه وقالوا لي إذا تنقش محراب هذا المسجد نعطيك مائة من تمرا ومائة من تمرا عندهم شيء كثير فقد أتى وأنا هناك جيش من العرب وطلب منهم خمسمائة من تمرا فلم يقبلوا وحاربوا وقتل من أهل القلعة عشرة رجال وقلعت ألف نخلة ولم يعطوهم عشرة أمنان تمرا وقد نقشت المحراب كما اتفقوا معي وكان لنا في المائة من من التمر عون كبير إذ لم يكن ميسورا أن نجد
140

غذاء ولم يكن لدينا أمل في الحياة ولم نكن نستطيع أن نتصور خروجنا من هذه البادية إذ كان ينبغي للخروج منها عن أي طريق اجتياز مائتي فرسخ من الصحراء كلها مخاوف ومهالك ولم أر في الأشهر الأربعة التي أقمتها بفلج خمسة أمنان من القمح في أي مكان وأخيرا أتت قافلة من اليمامة لأخذ الأديم وحمله إلى الحسا فإنه يحصر من اليمن إلى فلج حيث يباع للتجار قال لي أعرابي أنا أحملك إلى البصرة ولم يكن معي شيء قط لأعطيه أجرا والمسافة مائتا فرسخ وأجرة الجمل دينار ويباع الجمل العظيم هناك بدينارين أو ثلاثة ولكني رحلت نسيئة إذ لم يكن معي نقود فقال الأعرابي أحملك إلى البصرة على أن تأجرني ثلاثين دينارا فقبلت مضطرا ولم أكن قد رأيت البصرة قط فوضع هؤلاء الأعراب كتبي على جمل أركبوا عليه أخي وسرت أنا راجلا وتوجهنا في اتجاه مطلع بنات النعش (الدب الأكبر) كان الطريق مستويا لا جبال فيه ولا مرتفعات وكان ماء المطر متجمعا حيثما كانت الأرض أشد صلابة ومضت ليال وأيام ولم يبد في أي جهة أثر الطريق إلا أنهم كانوا يسيرون بالغريزة (بالسمع) ومن العجيب أنهم كانوا يبلغون فجاة بئر ماء مع عدم وجود أي علامة
اليمامة
وبالاختصار بلغنا اليمامة بعد مسيرة أربعة أيام بلياليها وباليمامة حصن كبير قديم والمدينة والسوق حيث صناع من كل نوع يقعان خارج الحصن وبها مسجد جميل وأمراؤها علويون منذ القديم ولم ينتزع
141

أحد هذه الولاية منهم إذ ليس بجوارهم سلطان أو ملك قاهر وهؤلاء العلويون ذوو شوكة فلديهم ثلاثمائة أو أربعمائة فارس ومذهبهم الزيدية وهم يقولون في الإقامة (محمد وعلي خير البشر وحي على خير العمل) وقيل إن سكان هذه المدينة شريفية (خاضعون للأشراف) وبالنامة مياه جارية في القنوات وفيها نخيل وقيل إنه حين يكثر التمر يباع الألف من منه بدينار ومن اليمامة إلى الحسا أربعون فرسخا ولا يتيسر الذهاب إليها إلا في فصل الشتاء حين تتجمع مياه المطر فيشرب الناس منها ولا يكون ذلك في الصيف
وصف الأحساء
والحسا مدينة في الصحراء ولبلوغها عن أي طريق ينبغي اجتياز صحراء واسعة والبصرة أقرب البلاد الإسلامية التي بها سلطنة إلى الحسا وبينهما خمسون ومائة فرسخ ولم يقصد سلطان من البصرة الحسا أبدا
والحسا مدينة وسواد أيضا وبها قلعة ويحيط بها أربعة أسوار قوية متعاقبة من اللبن المحكم البناء بين كل اثنين منها ما يقرب من فرسخ وفي المدينة عيون ماء عظيمة تكفي كل منها لإدارة خمس سواق ويستهلك كل هذا الماء بها فلا يخرج منها ووسط القلعة مدينة جميلة بها كل وسائل الحياة التي في المدن الكبيرة وفيها أكثر من عشرين ألف محارب وقيل إن سلطانهم كان شريفا وقد ردهم عن الإسلام وقال إني أعفيتكم من الصلاة والصوم ودعاهم إلى أن مرجعهم لا يكون إلا إليه وأسمه أبو سعيد وحين يسألون عن مذهبهم يقولون إنا أبو سعيديون وهم لا يصلون ولا يصومون ولكنهم يقرون بمحمد المصطفى صلى الله عليه وسلم وبرسالته وقد قال لهم أبو سعيد إني أرجع إليكم يعني بعد الوفاة وقبره داخل المدينة وقد
142

بنوا عنده قبرا جميلا وقد أوصى أبناءه قائلا (يرعى الملك ويحافظ عليه ستة من أبنائي يحكمون الناس بالعدل وللقسطاس ولا يختلفون فيما بينهم حتى أعود) ولهؤلاء الحكام الآن قصر منيف هو دار ملكهم وبه تخت يجلسون هم الستة عليه ويصدرون أوامرهم بالاتفاق وكذلك يحكمون ولهم ستة وزراء على تخت آخر ويتداولون في كل أمر وكان لهم في ذلك الوقت ثلاثون ألف عبد زنجي حبشي يشتغلون بالزراعة وفلاحة البساتين وهم لا يأخذون عشورا من الرعية وإذا افتقر إنسان أو استدان يتعهدونه حتى يتيسر عمله وإذا كان لأحدهم دين على آخر لا يطالبه بأكثر من رأس المال الذي له وكل غريب ينزل في هذه المدينة وله صناعة يعطى ما يكفيه من المال حتى يشتري ما يلزم صناعته من عدد وآلات ويرد (إلى الحكام) ما أخذ حين يشاء وإذا تخرب بيت أو طاحون أحد الملاك ولم تكن لديه القدرة على الإصلاح أمروا جماعة من عبيدهم بأن يذهبوا اليه ويصلحوا المنزل أو الطاحون ولا يطلبون من المالك شيئا وفي الحسا مطاحن مملوكة للسلطان تطحن الحبوب للرعية مجانا ويدفع فيها السلطان نفقات إصلاحها وأجور الطحانين وهؤلاء السلاطين الستة يسمون السادات ويسمى وزراؤهم الشائرة وليس في مدينة الحسا مسجد جمعة ولا تقام بها صلاة أو خطبة إلا أن رجلا فارسيا اسمه علي بن أحمد بنى مسجدا وهو مسلم حاج غني كان يتعهد الحجاج الذين يبلغون الحسا والبيع والشراء والعطاء والأخذ يتم هناك بواسطة رصاص في زنابيل يزن كل منها ست آلاف درهم فيدفع الثمن عددا من الزنابيل وهذه العملة لا تسري في الخارج وينسجون هناك فوطا جميلة ويصدرونها للبصرة وغيرها وإذا
143

صلى أحد فإنه لا يمنع ولكنهم أنفسهم لا يصلون ويجيب السلاطين من يحدثهم من الرعية برقة وتواضع ولا يشربون مطلقا وعلى باب قبر أبي سعيد حصان مهيأ بعناية عليه طوق ولجام يقف بالنوبة ليلا ونهارا يعنون بذلك أن أبا سعيد يركبه حين يرجع إلى الدنيا ويقال إنه قال لأبنائه حين أعود ولا تعرفونني اضربوا رقبتي بسيفي فإذا كنت أنا حييت في الحال وقد وضعت هذه الدلالة حتى لا يدعي أحد أنه أبو سعيد
وقد ذهب أحد هؤلاء السلاطين بجيش إلى مكة أيام خلفاء بغداد فاستولى عليها وقتل من كان يطوف بالكعبة وانتزع الحجر الأسود من مكانه ونقله إلى الحسا وقد زعموا أن
هذا الحجر مغناطيس يجذب الناس اليه من أطراف العالم ولم يفقهوا أن شرف محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم وجلاله هما اللذان يجذبان الناس فقد لبث الحجر الأسود في الحسا سنين عديدة ولم يذهب إليها أحد وأخيرا اشتري منهم الحجر الأسود وأعيد إلى مكانه
وفي الحسا تباع لحوم الحيوانات كلها من قطط وكلاب وحمير وبقر وخراف وغيرها وتوضع رأس الحيوان وجلده بقرب لحمه ليعرف المشتري ماذا يشتري وهم يسمنون الكلاب هناك كما تعلف الخراف حتى لا تستطيع الحركة من سمنها ثم يذبحونها ويبيعون لحمها
والبحر على مسيرة سبعة فراسخ من الحسا إلى ناحية الشرق فإذا اجتازه المسافر وجد البحرين وهي جزيرة طولها خمسة عشر فرسخا والبحرين مدينة كبيرة أيضا بها نخل كثير ويستخرجون من هذا البحر اللؤلؤ ولسلاطين الحسا نصف ما يستخرجه الغواصون منه وإذا سار المسافر جنوب الحسا يبلغ عمان وهي في بلاد العرب وثلاثة جوانب منها صحراء لا يمكن اجتيازها وولاية عمان ثمانون فرسخا في مثلها وهي حارة الجو ويكثر بها الجوز الهندي المسمى نارجيل وإذا أبحر المسافر من عمان نحو الشرق
144

يبلغ شاطئ كيش ومكران وإذا سار جنوبا يبلغ عدن فإذا سار في الجانب الآخر يبلغ فارس
وفي الحسا تمر كثير حتى أنهم يسمنون به المواشي ويأتي وقت يباع فيه أكثر من ألف من بدينار واحد وحين يسير المسافر من الحسا إلى الشمال سبعة فراسخ يبلغ جهة القطيف وهي مدينة كبيرة بها نحل كثير وقد ذهب أمير عربي إلى أبواب الحسا ورابط هناك سنة واستولى على سور من أسوارها الأربعة وشن عليها غارات كثيرة ولكنه لم ينل من أهلها شيئا وقد سألني حين رآني عما تنبئ به النجوم قال أريد أن أستولي على الحسا فهل أستطيع أم لا فإن أهلها قوم لا دين لهم فأجبته بما فيه الخير له
وعندي أن كل البدو يشبهون أهل الحسا فلا دين لهم ومنهم أناس لم يمس الماء أيديهم مدة سنة أقول هذا عن بصيرة لا شيء فيه من الأراجيف فقد عشت في وسطهم تسعة شهور دفعة واحدة لا فرقة بينها ولم أكن أستطيع أن أشرب اللبن الذي كانوا يقدمونه إلي كلما طلبت ماء لأشرب فحين أرفضه وأطلب الماء يقولون اطلبه حيثما تراه ولكن عند من تراه وهم لم يروا الحمامات أو الماء الجاري في حياتهم
وصف فارس
البصرة
والآن أعود إلى حكايتي
حينما غادرنا الحسا إلى البصرة كنا نجد الماء في بعض الجهات ولا نجده في أخرى حتى بلغنا البصرة في العشرين من شعبان سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة (28 ديسمبر 1051) للبصرة سور عظيم يحيط بها ما عدا
145

الجزع المطل على النهر وهذا النهر هو شط العرب ويلتقي دجلة والفرات عند حدود مدينة البصرة ويلتقي بهما أيضا قناة المويزة فيسمى النهر حينئذ شط العرب ويتفرع من شط العرب هذا قناتان كبيرتان بين منبعهما مسافة فرسخ وقد شقا صوب القبلة مسافة أربعة فراسخ ثم يلتقيان ويكونان قناة واحدة تسير مسافة فرسخ واحد ناحية الجنوب ومن هاتين القناتين شقت ترع كثيرة مدت في كل الأطراف وغرست أشجار النخيل والحدائق على شواطئها والقناة العليا وهي الشمالية الشرقية تسمى نهر معقل والثانية وهي الغربية الجنوبية تسمى نهر الأبله ومنهما تتكون جزيرة كبيرة مستطيلة والبصرة على أقصر ضلع من هذا المستطيل والجنوب الغربي للبصرة صحراء ليس بها عمران ولا ماء ولا شجر مطلقا وكان معظم البصرة خرابا ونحن هناك والجهات العامرة متباعدة جدا من واحدة لأخرى نصف فرسخ من الخراب ولكن بابها وسورها محكمان وقويان وبها خلق كثير ودخل سلطانها كبير كان أميرها في ذلك الوقت ابن أبي كاليجار الديلمي الذي كان ملك فارس وكان وزيره رجلا فارسيا اسمه أبو منصور شاه مردان
وينصب السوق في البصرة في ثلاث جهات كل يوم ففي الصباح يجري التبادل في سوق خزاعة وفي الظهر في سوق عثمان وفي المغرب في سوق القداحين والعمل في السوق هكذا كل من معه مال يعطيه للصراف ويأخذ منه صكا ثم يشتري كل ما يلزمه ويحول الثمن على الصراف فلا يستخدم المشتري شيئا غير صك الصراف طالما يقيم بالمدينة
حين بلغنا البصرة كنا من العري والفاقة كأنا مجانين وكنا قد لبثنا ثلاثة
146

شهور لم نحلق شعر رأسنا فأردت أن أذهب إلى الحمام التمس الدفء فقد كان الجو باردا ولم يكن علينا ملابس كنت أنا وأخي كلانا نلبس فوطة بالية وعلى ظهرينا خرقة من الصوف متدلية من الرأس حتى قلت لنفسي من الذي يسمح لنا الآن بدخول الحمام فبعت السلتين اللتين كانت بهما كتبي ووضعت بعض دراهم من ثمنها في ورقة لأعطيها للحمامي عسى أن يسمح لنا بوقت أطول في الحمام لنزيل ما علينا من كدر فلما قدمت اليه هذه الدريهمات نظر إلينا شذرا وظن أننا مجانين وانتهرنا قائلا اذهبوا فالآن يخرج الناس من الحمام ولم يأذن لنا بالدخول فخرجنا في خجل ومشينا مسرعين وكان بباب الحمام أطفال يلعبون فحسبونا مجانين فجروا في أثرنا ورشقونا بالحجارة وصاحوا بنا فلجأنا إلى زاوية وقد تملكنا العجب من أمر الدنيا وكان الأعرابي يطلب منا الثلاثين دينارا مغربيا ولم نكن نعرف وسيلة للسداد وكان بالبصرة وزير ملك الأهواز واسمه أبو الفتح علي بن أحمد وهو رجل أخلاق وفضل يجيد معرفة الشعر والأدب وكان كريما وقد جاء البصرة مع أبنائه وحاشيته وأقام بها ولم يكن لديه ما يشغله وكنت عرفت رجلا فارسيا فاضلا من أصدقاء الوزير والمترددين عليه كل وقت وكان هذا الفارسي فقيرا لا وسعة عنده لإعانتنا فقص على الوزير قصتنا فلما سمعها أرسل إلي رجلا ومعه حصان أن اركب واحضر عندي كما أنت فخجلت من سوء حالي وعريي ولم أر الذهاب مناسبا فكتبت رقعة معتذرا وقلت فيها إني سأكون في
خدمته (بعد وصول ورقتي اليه) وكان قصدي من الكتابة شيئين أن يعرف فقري وعلمي حين يطلع على كتابتي وأن يقدر أهليتي وذلك حتى لا أخجل من زيارته وقد أرسل إلي في الحال ثلاثين دينارا لشراء كسوة فاشتريت حلتين جميلتين وفي اليوم الثالث ذهبت لمجلس الوزير فرأيته رجلا كاملا أديبا فاضلا جميل الخلقة متواضعا دينا حلو الحديث وله أربعة أبناء أكبرهم شاب فصيح أديب عاقل اسمه الرئيس أبو عبد الله أحمد بن علي بن أحمد وكان شاعرا
147

وكاتبا فيه فتوة الشباب ورجاحة العقل ومظاهر التقوى وقد أضافنا الوزير عنده من أول شعبان إلى نصف رمضان ثم أمر بإعطاء الأعرابي الذي استأجرنا جمله الثلاثين دينارا التي له علي فكفاني مؤونة هذا الدين اللهم تباركت وتعاليت فرج ضيق المدينين من عبيدك من هم القرض بحق الحق وأهله ولما أردنا السفر رحلنا عن طريق البحر بعد أن أفاض علينا بنعمه وأفضاله فبلغنا فارس في كرامة وهدوء ببركة هذا الرجل الحر رضي الله عز وجل عن الرجال الأحرار
وفي البصرة ثلاثة عشر مشهدا باسم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه يقال لأحدها مشهد بني مازن وذلك أن أمير المؤمنين عليا صلى الله عليه وسلم جاء إلى البصرة في ربيع الأول سنة خمس وثلاثين (سبتمبر 655) من هجرة النبي عليه الصلاة والسلام وكانت عائشة رضي الله عنها قد أتت محاربة وقد تزوج أمير المؤمنين عليه السلام ليلى بنت مسعود النهشلي وكان هذا المشهد بيتها وقد أقام أمير المؤمنين اثنين وسبعين يوما ثم رجع إلى الكوفة وبجانب المسجد الجامع مشهد آخر يسمى مشهد باب الطيب ورأيت في مسجد البصرة عمودا من الخشب طوله ثلاثون ذراعا وسمكه خمسة أشبار وأربعة أصابع وكان أحد طرفيه أسمك من الطرف الآخر قيل إنه من أخشاب بلاد الهند استولى عليه أمير المؤمنين علي عليه السلام وأحضره للبصرة والأحد عشر مشهدا الأخرى كل منها بموضع وقد زرتها كلها
بعد أن أيسرنا ارتدينا ملابسنا وذهبنا يوما إلى ذلك الحمام الذي لم يسمح لنا بدخوله من قبل فوقف الحمامي عند دخولنا من الباب وكذلك وقف كل من الحاضرين حتى دخلنا ثم جاء المدلك والقيم وقاما بخدمتنا فلما فرغنا ودخلنا غرفة الملابس وقف كل من بها ولم يجلسوا حتى لبسنا ثيابنا وخرجنا وفي أثناء ذلك كان الحمامي يقول لصاحب له هذان هما
148

الرجلان اللذان لم ندخلهما الحمام يوم كذا وكان يظن أنني لا أعرف لغته فقلت له بالعربية حقا ما تقول فنحن اللذان كنا نلبس خرقة من الصوف على ظهرنا فخجل الرجل واعتذر وكان بين هذين الحالين عشرون يوما وقد ذكرت هذا الفصل حتى يعرف الناس أنه لا ينبغي التذمر من أزمات الزمان واليأس من رحمة الخالق جل جلاله وعم نواله فإنه تعالى رحيم
وصف المد والجزر بالبصرة ووصف أنهارها
يحدث المد ببحر عمان عادة مرتين كل أربع وعشرين ساعة فيرتفع الماء بمقدار عشر أذرع وحين يبلغ الارتفاع أقصى مداه يبدأ الجزر بالتدريج فينخفض الماء عشرا أو اثنتي عشرة ذراعا ويعرف بلوغ ارتفاع الماء مقدار الأذرع العشر بظهوره على عمود أقيم هناك أو على حائط ولو كانت الأرض مستوية وغير عالية لعظم امتداد البحر إليها ويسير النهران دجلة والفرات بغاية البطء حتى يتعذر في بعض الجهات معرفة اتجاه التيار فيهما وحين يبدأ المد بدفع البحر ماءهما مسافة أربعين فرسخا حتى يظن إنهما يرتدان إلى منبعيهما أما في الأماكن الأخرى التي تقع على شاطئ البحر فإن امتداد المد إليها يتوقف على ارتفاعها وانخفاضها فحيثما استوت الأرض ازداد المد وحيثما ارتفعت قل ويقال إن المد والجزر متعلقان بالقمر فيبلغ المد أقصى مداه حين يكون القمر على الأفقين يعني أفقي المشرق والمغرب ومن ناحية أخرى حين يكون القمر في اجتماع الشمس واستقبالها يزداد الماء أي ان المد يزيد في هذه الأوقات ويعظم ارتفاعه وحين يكون القمر في التربيعات تأخذ المياه في النقصان يعني لا يكون علوها كثيرا وقت المد ولا ترتفع ارتفاعها وقت الاجتماع والاستقبال وكذلك يكون جزرها في هذه الحالة أقل هبوطا منه في وقت الاجتماع والاستقبال وبهذه الدلائل يقولون إن المد والجزر متعلقان بالقمر والله تعالى أعلم
149

والأبلة التي تقع على النهر المسمى بها مدينة عامرة وقد رأيت قصورها وأسواقها ومساجدها وأربطتها وهي من الجمال بحيث لا يمكن حدها أو وصفها والمدينة الأصلية تقع الجانب الشمالي للنهر وعلى جانبه الجنوبي يوجد من الشوارع والمساجد والأربطة والأسواق والأبنية الكبيرة ما لا يوجد أحسن منه في العالم وهذا الجانب الجنوبي يسمى شق عثمان والشط الكبير الذي هو دجلة والفرات مجتمعين والمسمى شط العرب يقع شرقي الأبلة والمدينة في الجنوب ويلتقي نهرا الأبلة ومعقل عند البصرة وقد ذكرت ذلك من قبل
وصف أحياء البصرة
والبصرة عشرون ناحية في كل منها كثير من القرى والمزارع وهي حشان شربه بلاس عقر ميسان المقيم نهر حرب شط العرب سعد سام الجعفرية المشان الصمد الجونة الجزيرة العظمى مروت الشرير جزيرة العرش الحميدة الحويزة المنفردات
ويقال انه كان من المتعذر في وقت ما أن تمر سفينة من فم نهر الأبلة لعظم عمق مائه فأمرت امرأة من أثرياء البصرة بتجهيز أربعمائة مركب وملأتها كلها بنوى التمر وأغرقتها هناك بعد أحكام سدادها فارتفع القاع وتيسر عبور السفن وفي الجملة فقد غادرنا البصرة في منتصف شوال سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة (20 فبراير 1052) فركبنا الزورق وسرنا في نهر الأبلة ورأينا طوال أربعة فراسخ في اجتيازه حدائق وجواسق ومناظر لا تنقطع على شاطئيه ويتفرع من هذا النهر ترع كل منها في سعة نهر فلما بلغنا شق عثمان وهي أمام الأبلة نزلنا وأقمنا بها وفي السابع عشر من شوال (22 فبراير) ركبنا سفينة تسمى بوصي وكان الناس الكثيرون الواقفون على الجانبين يصيحون قائلين سلمك الله يا بوصي وقد بلغنا عبادان فنزل
150

فنزل الركاب من السفينة
وتقع عبادان على شاطئ البحر وهي كالجزيرة إذ أن الشط ينقسم هناك إلى قسمين مما يجعل بلوغها متعذرا من أي ناحية بغير عبور الماء ويقع المحيط جنوب عبادان ولذا فإن الماء يبلغ سورها وقت المد كما أنه يبتعد عنها أقل من فرسخين أثناء الجزر ويشتري بعض المسافرين الحصير من عبادان ويشتري البعض الآخر المأكولات منها وفي صباح اليوم التالي أجريت السفينة في البحر وسارت بنا شمالا وكان المد حلوا مستساغا لغاية عشرة فراسخ ذلك لأن الشط يسير كاللسان في وسط البحر ولما ارتفعت الشمس ظهر في البحر شيء يشبه العصفور الدري وكان يكبر كلما اقتربنا منه فلما واجهناه من اليسار على مسافة فرسخ خالفت الرياح فرموا المرساة ولفوا الشراع فسألت ما هذا قالوا إنه الخشاب
وصف الخشاب (المنار)
يتكون من أربعة أعمدة كبيرة من خشب الساج على هيئة المنجانيق وهو مربع قاعدته متسعة وقمته ضيقة ويرتفع عن سطح البحر أربعين ذراعا وعلى قمته حجارة وقرميد مقامة على عمد من خشب كأنها سقف ومن فوقها أربعة عقود يقف بها الحراس ويقول البعض إن الذي بنى الخشاب هذا تاجر كبير ويقول آخرون بل بناه أحد الملوك وكان الغرض منه شيئين أحدهما أنه بني في جهة ضحلة يضيق البحر عندها فإذا بلغتها سفينة كبيرة ارتطمت بالأرض ففي الليل يشعلون سراجا في زجاجة بحيث لا تطفئه الرياح وذلك حتى يراه الملاحون من بعيد فيحتاطون وينجون والثاني ليعرف الملاحون الاتجاه وليروا القرصان إن وجدوا فيتقونهم بتحويل اتجاه السفينة
151

ولما اجتزنا الخشاب بحيث أصبح لا يرى رأينا آخر مثله ولكن ليس على سطحه قبة لأنهم لم يستطيعوا إكماله
ومن هناك بلغنا مدينة مهروبان وهي مدينة كبيرة على شاطئ البحر الشرقي بها سوق كبير وجامع جميل ولكن ماءها من المطر وليس بها آبار أو قنوات من الماء العذب وقد اتخذ أهلها أحواضا ومصانع ليكون الماء متوفرا دائما وقد بني بها ثلاثة أربطة كل منها كأنه حصن محكم ومرتفع وقد رأيت على منبر مسجدها الجامع اسم يعقوب بن الليث فسألت واحدا كيف كان ذلك فقال إن يعقوب بن الليث الصفار استولى على البلاد لغاية هذه المدينة ولم يكن لأمير آخر من أمراء خراسان هذه القوة وفي الوقت الذي كنت بها كانت مهروبان ملكا لأبناء أبي كاليجار الذي كان ملك فارس ومأكولات هذه المدينة تحمل إليها من المدن والولايات الأخرى إذ ليس بها شيء سوى السمك وفيها تحصل المكوس فهي ميناء وحين يسير المسافر منها جنوبا على شاطئ البحر يبلغ توه وكازرون وقد لبثت بمهروبان زمنا لأنه قيل إن الطرق ليست آمنة لما بين أبناء أبي كاليجار من الحروب فقد كان كل منهم على رأس جيش وكان الملك مضطربا وسمعت أن بأرجان رجلا عظيما فاضلا هو الشيخ السديد محمد بن عبد
152

الملك وكنت قد سئمت من كثرة ما أقمت بمروبان فكتبت له خطابا وأعلمته بحالي والتمست منه أن يرحلني من هذه المدينة إلى بلد أمين فلما أرسلت الكتاب جاءني في اليوم الثالث ثلاثون راجلا مدججون بالسلاح وقالوا قد أرسلنا الشيخ لنكون في خدمتك إلى أرجان وقد اصطحبونا آمنين إليها
أرجان مدينة كبيرة بها عشرون ألف رجل وفي الجانب الشرقي منها نهر ينحدر من الجبل الذي شقت عند جانبه الشمالي أربع ترع عظيمة تتخلل المدينة وقد أنفق في إنشائها مال كثير وتسير هذه الترع إلى ما وراء أرجان وقد زرعت على شواطئها الحدائق والبساتين وبها كثير من النحل وأشجار النارنج والترنج والزيتون وبنيت أرجان بحيث يكون ما تحت الأرض من بيوتها مساويا لما فوقها ويتخلل الماء هذه المساكن الأرضية والسراديب في جميع جهات المدينة حيث يستريح الناس في فصل الصيف والناس هناك على مذاهب شتى وإمام المعتزلة اسمه أبو سعيد البصري وهو رجل فصيح يدعي العلم بالهندسة والحساب وقد تباحثت معه وسأل كل منا الآخر وأجابه كما سمعت منه في علمي الكلام والحساب وغيرهما
غادرت أرجان في أول المحرم سنة أربع وأربعين وأربعمائة (2 مايو 1052) وقد اتجهنا ناحية أصفهان عن طريق كوهستان فبلغنا في الطريق جبلا به شق ضيق يقول العامة إن بهرام جور شقه بسيفه ويسمونه شمشير بريد ورأينا في هذا المكان ماء متدفقا يتفجر من عين على يميننا وينزل من مكان عال ويقول العامة إن هذا الماء يجوم تفجره في الصف أما في الشتاء فيقف ويتجمد
ثم بلغنا لوردغان وبينها وبين أرجان أربعون فرسخا ولوردغان هذه هي حدود فارس ومن هناك بلغنا خان لنجان ورأيت اسم السلطان طغرل بيك مكتوبا على بابها ومنها إلى أصفهان سبعة فراسخ ويعيش أهل خان
153

لنجان آمنين هادئين كل منهم مشتغل بعمله وشؤون بيته وفي الثامن من صفر سنة أربع وأربعين وأربعمائة (10 يونيو 1052) قمنا من هناك فبلغنا مدينة أصفهان ومن البصرة إليها ثمانون ومائة فرسخ وهي مشيدة على أرض مستوية ماؤها عذب وهواؤها عليل وحيثما حفرت الأرض عشر أذرع خرج ماء عذب بارد وللمدينة سور مرتفع حصين به بوابات ومقاتلات وعلى السور شرفات وفيها أنهار جارية وأبنية جميلة مرتفعة وفي وسطها مسجد جمعة جميل جدا ويقال إن طول سورها ثلاثة فراسخ ونصف وكلها عامرة من الداخل فلم أر بها خرابا قط وفيها أسواق كثيرة ورأيت فيها سوقا من أسواق الصرافين كان بها مائتا صراف ولكل سوق سور وبوابة محكمة وكذلك للأحياء والشوارع وأربطتها نظيفة وفي شارع اسمه كوطراز (شارع الطرازين) خمسون رباطا جميلا في كل منها تجار ومستأجرون كثيرون والقافلة التي صحبناها في الطريق كانت تحمل ثلاثمائة وألف خروار من البضائع ولما دخلنا أصفهان لم يتحر عن دخولنا أحد إذ لا تضيق أماكن السكنى أو تتعذر الإقامة أو المؤن بها ولما استولى السلطان طغرل بيك أبو طالب محمد بن ميكائيل بن سلجوق رحمة الله عليه على هذه المدينة ولى عليها شابا نيسابوريا كان كاتبا مجيدا حسن الخط هادئا حسن اللقاء ولقبه الخواجة العميد كان صاحب فضل حلو الحديث كريما وكان السلطان قد أمر بأن لا يطالب الناس بشيء مدة ثلاث سنين فسار على ذلك وأعاد المهاجرين إلى أوطانهم وكان هذا الرجل من كتاب الشورى وكان بأصفهان قبل مجيئنا قحط عظيم ولكن حين بلوغنا إياها كان الشعير قد جمع وكان المن والنصف من خبز القمح يساوي درهما عدلا وكذلك كانت ثلاثة الأمنان من الشعير وقال الناس هناك إن أحدا منهم لم ير
154

إنه بيع بها بدرهم أقل من ثمانية أمنان من الخبز ولم أر قي كل البلاد التي تتكلم الفارسية مدينة أجمل ولا أكثر سكانا وعمرانا من أصفهان وقيل إنه إذا خزن بها القمح أو الشعير أو غيرهما من الحبوب مدة عشرين سنة لالم يفسد وقال البعض إن هواءها كان أحسن قبل إنشاء السور وإنه تغير بعد إنشائه بحيث تفسد بعض الأشياء أما الريف فقد ظل هواؤه كما كان وقد قمت بأصفهان عشرين يوما بسبب تأخر قيام القافلة وفي الثامن والعشرين من صفر سنة أربع وأربعين وأربعمائة (30 يونيو 1052) بلغنا قرية تسمى هيم آباد ومن هناك بلغنا قصبة نايين عن طريق الصحراء وجبل مسكيان ومن أصفهان إلى هناك ثلاثون فرسخا وقد سرنا من نايين مسافة ثلاثة وأربعين فرسخا حتى بلغنا قرية كرمة من ناحية بيابان التي بها عشر أو اثنتا عشرة وهي جهة جوها حار وبها نخيل وكانت تابعة قديما للقفص وحين بلغناها كان الأمير كليكى قد استولى عليها منهم ونصب عليها نائبا من قبله وجعل مقامه في قرية ذات قلعة تسمى بيادة وقد ضبط هذا الحاكم الولاية وجعل طرقها آمنة وإذا قطع القفص الطريق يرسل إليهم الأمير كليكى جنده فيقبضون عليهم ويستردون منهم المال ويقتلونهم وقد أصبح الطريق آمنا واستراح الناس بفضل هذا الأمير العظيم اللهم تباركت وتعاليت احفظ وانصر وأعن السلاطين العادلين وارحم المتوفين منهم وقد بنيت في هذا الطريق الصحراوي بين كل فرسخين في المواضع غير الملحة قباب صغيرة وخزانات يتجمع فيها ماء المطر وقد شيدت القباب حتى لا يضل المسافرون الطريق ولكي يأووا إليها ساعات في الحر والبرد وقد رأينا في الطريق الرمل المتحرك وكل من يتحول عن العلامات التي وضعت في الطريق للإرشاد فإنه لا يستطيع
155

الخروج من وسط هذا الرمل ويهلك وبدا لنا طوال ستة فراسخ أرض ملحة متحركة يختفي فيها من ينحرف إليها عن الطريق المحدود ومن هناك ذهبنا عن طريق رباط زبيدة المسمى رباط المرامي وهو يحتوي على خمس آبار ولولا هذا الرباط والماء الذي به لما استطاع أحد اجتياز هذه الصحراء ثم دخلنا ناحية طبس في قرية تسمى رستاباد وفي التاسع من ربيع الأول سنة أربع وأربعين وأربعمائة (9 يوليو 1052) بلغنا طبس ويقال إن بينها وبين أصفهان عشرة ومائة فرسخ وطبس مدينة مزدحمة ولو أنها تشبه القرية ماؤها قليل وزراعتها أقل وبها النخل والبساتين وتقع نيسابور على مسيرة أربعين فرسخا منها شمالا وخبيص على مسيرة أربعين فرسخا جنوبا في طريق الصحراء وناحية المشرق جبل صعب المرتقى وكان أميرها في ذلك الوقت كيلكى بن محمد الذي استولى عليها بالسيف والناس هناك في سلام وأمن عظيمين حتى أنهم لا يغلقون بيوتهم ليلا ويتركون البهائم في الطريق مع أن المدينة غير مسورة ولا تجرؤ امرأة على الكلام مع شخص أجنبي عنها فإذا فعلت قتل الاثنان وكذلك لا سرقة ولا قتل بفضل حزم الأمير وعدله
وقد رأيت الأمن والعدل فيما رأيت من بلاد العرب والعجم في أربعة مواضع الأول بالدشت أيام لشكر خان والثاني في الديلم أيام أمير الأمراء جستان بن إبراهيم والثالث بمصر أيام المستنصر بالله أمير المؤمنين والرابع بطبس أيام الأمير أبي الحسن كيلكى بن محمد فلم أسمع على كثرة ما سافرت بمثل ما في هذه الجهات من الأمن ولم أره
وقد استبقانا الأمير رضي الله عنه سبعة عشر يوما بطبس و أضافنا وأمر لنا بصلات وقت الرحيل معتذرا عن ضآلتها وأرسل معنا أحد فرسانه
156

حتى زوزن التي تقع على مسيرة اثنين وسبعين فرسخا
وبعد اثني عشر فرسخا من قيامنا من طبس بلغنا قصبة تسمى الرقة بها مياه جارية وزرع وبساتين وأشجار وحصن ومسجد جمعة وقرى ومزارع كبيرة وفي التاسع من ربيع الآخر (8 أغسطس) غادرنا الرقة وفي الثاني عشر من هذا الشهر بلغنا تون وبينهما عشرون فرسخا وتون مدينة كبيرة ولكن معظمها كان خرابا حين رأيتها وهي على حافة واد به الماء الجاري والقنوات وفي جانبها الشرقي بساتين كثيرة ولها حصن محكم وقيل إنه كان بها أربعمائة مصنع للسجاد وفي المدينة كثير من شجر الفستق في بساتين المنازل ويعتقد سكان بلخ وطخارستان أن الفستق لا ينبت ولا ينمو إلا على الجبال
ولما رحلنا من تون حكى لي الرجل الذي بعثه معنا الأمير كيلكي فقال كنا ذاهبين ذات مرة من تون إلى كنايد فخرج علينا اللصوص وتغلبوا علينا فألقى بعضنا من الخوف بنفسه في بئر تجري تحت الأرض وكان لواحد من هؤلاء والد شفوق فجاء واستأجر رجلا لينزل إلى البئر ويخرج ولده منها واستعان الجماعة بكل ما لديهم من الحبال وأتى رجال كثيرون ونزل الرجل مسافة سبعمائة ذراع حتى بلغ القاع وربط الولد بالحبل وجروه ميتا وقد قال الرجل حين طلع من البئر إن بها ماء عظيما يتدفق جاريا تحت الأرض مسافة أربع فراسخ ويقال إن كيخسرو هو الذي أمر بحفرها
وفي الثالث والعشرين من شوال (23 أغسطس) بلغنا مدينة قاين وبينها وبين تون ثمانية عشر فرسخا تجتازها القافلة في أربعة أيام وهي مسافة شاقة وقاين مدينة كبيرة حصينة حولها خندق وبها مسجد جمعة به مقصورة عليها عقد عظيم لم أر أكبر منه في خراسان وهو غير متناسب مع حجم المسجد وعلى جميع بيوت المدينة قباب وزوزن على مسيرة ثمانية
157

عشر فرسخا من الجانب الشرقي الشمالي لقاين ومنها جنوبا إلى هراة ثلاثون فرسخا ورأيت بقاين رجلا اسمه أبو منصور محمد بن دوست ملم بكل علم من طب وفلك ومنطق فسألني أي شيء خارج هذه الأفلاك والأنجم قلت يسمى شيئا ما يكون داخل الأفلاك أما ما وراءها فلا يجوز أن يسمى شيئا فقال ما وراء السماوات معنوي أم مادي قلت لا جدال أن العلم محدود وحده فلك الأفلاك والحد ما يقصل فلكا عما عداه فإذا علم هذا وجب أن يكون ما وراء الأفلاك مخالفا لما في داخلها قال هذا المعنى الذي يثبته العقل هل له نهاية من هذه الناحية إن كانت له نهاية فأين وإن كان لا نهاية له فكيف يقبل الللامتناهي الفناء وتكلمنا زمنا على هذا النحو فقال أنا كثير الحيرة من هذا فقلت ومن لا يحار فيه وعلى كل حال فقد لبثنا بقاين شهرا بسبب ثورة كانت في زوزون أثارها عبيد النيسابوري ولتمرد رئيس زوزن وقد أرجعت من هناك الفارس الذي بعثه معنا الأمير كيلكي وخرجنا من قاين قاصدين سرخس فبلغناها في الثاني من جمادى الآخرة (أول أكتوبر) وقدرت من البصرة إلى سرخس تسعين وثلاثمائة فرسخ وقد غادرنا سرخس عن طريق الرباط الجعفري والرباط العمري والرباط النعمتي وهي ثلاثة أربطة متقاربة على الطريق
وفي الثاني عشر من جمادى الآخر بلغنا مدينة مرو الرود وخرجنا منها بعد يومين وتبعنا طريق آب كرم وفي التاسع عشر بلغنا فارياب بعد ان سرنا ستة وثلاثين فرسخا وكان أمير خراسان جعفري بيك أبو سليمان داود ابن ميكائيل بن سلجوق في شبورغان وكان يقصد الذهاب إلى دار ملكه مرو وقد اتبعنا طريق سنكلان بسبب الثورات ثم اتجهنا ناحية بلخ عن طريق سه دره فلما بلغنا رباطها سمعنا أن أخي أبا الفتح عبد الجليل كان في حاشية وزير أمير خراسان المسمى أبا نصر
وقد مضى على خروجنا من خراسان سبعة أعوام فلما بلغنا دستكرد رأينا أمتعة تنقل إلى شبورغان فسأل أخي الذي كان معي لمن هذه فقيل له
158

إنها لهذا الوزير فسألهم هل تعرفون أبا الفتح عبد الجليل فقالوا إنه كان معنا ثم اقترب منا خادم وسألنا من أين أتيتم فقلنا من الحج قال إن لسيدي أبي الفتح عبد الجليل أخوين ذهبا للحج منذ سنوات وهو دائم الشوق إليهما وكلما سأل عنهما أحد لا يدله قال أخي إنا نحمل من ناصر كتابا فحين يصل سيدك نسلمه إياه وبعد قليل سارت القافلة وسرنا معها فقال هذا الخادم إن سيدي يصل الآن فإذا لم يجدكما يضيق صدره فإذا أعطيتماني الكتاب لأسلمه له يسر به فقال له أخي أتريد خطاب ناصر أم ناصرا نفسه هذا هو ناصر ففرح الخادم ولم يعرف ماذا يفعل وسرنا نحن إلى بلخ عن طريق ميان روستا
وقد جاء أخي الخواجة أبو الفتح عبد الجليل إلى دسنكرد عن طريق الصحراء وكان ذاهبا مع الوزير إلى أمير خراسان فلما سمع بأمرنا عاد من دستكرد وانتظرنا على رأس قنطرة جموكيان إلى أن وصلنا وكان هذا في يوم السبت السادس والعشرين من جمادى الآخر سنة أربع وأربعين وأربعمائة (26 أكتوبر 1052) وقد التقينا وفرحنا باللقاء وشكرنا الله سبحانه وتعالى وذلك بعد أن فقدنا الأمل في اللقاء وبعد أن تعرضنا للتهلكة مرات حتى يئسنا من الحياة وفي هذا التاريخ نفسه بلغنا بلخ فقلت هذه الأبيات الثلاثة في هذا المقام
* فإن يكن تعب الدنيا وعناءها طويلين فشرها وخيرها لا محالة منتهيان
* إن الفلك يتحرك من أجلنا ليل نهار وكلما راح منا واحد تلاه آخر
* إنا نروح ونغدو في الحياة إلى أن تحين الروحة التي لا عودة منها
* وتبلغ المسافة التي قطعناها من بلخ إلى مصر ومن مصر إلى مكة ومنها إلى فارس عن طريق البصرة ثم إلى بلخ عدا الأطراف التي زرناها في الطريق ألفين ومائتين وعشرين فرسخا
159

وقد وصفت بأمانة ما رأيت في رحلتي وأما ما سمعته وكان عليه اعتراض فلا ينسبه القراء إلي ولا يؤاخذوني أو يلوموني عليه وإن وفقني الله سبحانه وتعالى وسافرت إلى المشرق فسأضم وصف ما أشاهده هناك إلى هذه الرحلة إن شاء الله تعالى وحده العزيز والحمد لله رب العالمين والصلاة على محمد وآله وصحبه أجمعين
160