الكتاب: الكامل في التاريخ
المؤلف: ابن الأثير
الجزء: ٤
الوفاة: ٦٣٠
المجموعة: مصادر التاريخ
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع: ١٣٨٦ - ١٩٦٦م
المطبعة: دار صادر - دار بيروت
الناشر: دار صادر للطباعة والنشر - دار بيروت للطباعة والنشر
ردمك:
ملاحظات:

الكامل في التاريخ
4
1

الكامل في التاريخ
تأليف
الشيخ العلامة عز الدين أبي الحسن علي بن أبي الكرم
محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني المعروف
بابن الأثير
المجلد الرابع
دار صادر
للطباعة والنشر
دار بيروت
للطباعة والنشر
بيروت
1385 ه‍ _ 1965 م
3

بسم الله الرحمن الرحيم
60
ثم دخلت سنة ستين
في هذه السنة كانت غزوة مالك بن عبد الله سورية ودخول جنادة رودس وهدمه مدينتها في قول بعضهم وفيها توفي معاوية بن أبي سفيان وكان قد أخذ على وفد أهل البصرة البيعة ليزيد.
ذكر وفاة معاوية بن أبي سفيان
خطب معاوية قبل مرضه وقال إني كزارع مستحصد وقد طالت إمرتي عليكم حتى مللتكم ومللتموني وتمنيت فراقكم وتمنيتم فراقي ولن يأتيكم بعدي إلا من أنا خير منه كما إن من قبلي كان خيرا مني وقد قيل من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه اللهم إني قد أحببت لقاءك فاحبب لقائي وبارك لي فيه!
فلم يمض غير قليل حتى ابتدأ به مرضه، فلما طال المرض الذي مات
5

فيه دعا ابنه يزيد فقال يا بني إني قد كفيتك الشد والترحال ووطأت لك الأمور وذللت لك الأعداء وأخضعت لك رقاب العرب وجمعت لك ما لم يجمعه أحد فانظر أهل الحجاز فإنهم أصلك وأكرم من قدم عليك منهم وتعاهد من غاب وأنظر أهل العراق فإن سألوك أن تعزل عنهم كل يوم عاملا فافعل فإن عزل عامل أيسر من أن يشهر عليك مائة ألف سيف وانظر أهل الشام فليكونوا بطانتك وعيبتك فان رابك من عدوك شيء فانتصر بهم فإذا أصبتهم فاردد أهل الشام إلى بلادهم فإنهم إن أقاموا بغير بلادهم تغيرت أخلاقهم؛ وإني لست أخاف عليك أن ينازعك في هذا الأمر إلا أربعة نفر من قريش الحسين بن علي وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وعبد الرحمن بن أبي بكر فأما ابن عمر فإنه رجل قد وقذته العبادة فإذا لم يبق أحد غيره بايعك وأما الحسين بن علي فهو رجل خفيف ولن يتركه أهل العراق حتى يخرجوه فإن خرج وظفرت به فاصفح عنه فإن له رحما ماسة وحقا عظيما وقرابة من محمد وأما ابن أبي بكر فإن رأى أصحابه صنعوا شيئا صنع مثله ليس له همة إلا في النساء واللهو وأما الذي يجثم لك جثوم الأسد ويراوغك مراوغة الثعلب فإن أمكنته فرصة وثب فذاك ابن الزبير فإن هو فعلها بك فظفرت به فقطعه إربا إربا واحقن دماء قومك ما استطعت.
هكذا في هذه الرواية ذكر عبد الرحمن بن أبي بكر وليس بصحيح فإن عبد الرحمن بن أبي بكر كان قد مات قبل معاوية.
وقيل إن يزيد كان غائبا في مرض أبيه وموته وإن معاوية أحضر الضحاك بن قيس ومسلم بن عقبة المري فأمرهما أن يؤديا عنه هذه الرسالة إلى يزيد ابنه وهو الصحيح. ثم مات بدمشق لهلال رجب وقيل للنصف منه وقيل لثمان بقين منه،
6

وكان ملكه تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر وسبعة وعشرين يوما مذ اجتمع له الأمر وبايع له الحسن بن علي وقيل كان ملكه تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر وقيل وثلاثة أشهر إلا أياما وكان عمره خمسا وسبعين سنة وقيل ثلاثا وسبعين سنة وقيل توفي وهو ابن ثمان وسبعين سنة وقيل خمس وثمانين وقيل لما اشتدت علته وأرجف به قال لأهله احشوا عيني إثمدا وادهنوا رأسي ففعلوا وبرقوا وجهه بالدهن ثم مهد له فجلس وأذن للناس فسلموا قياما ولم يجلس أحد فلما خرجوا عنه قالوا هو أصح الناس فقال معاوية عند خروجهم من عنده:
(وتجلدي للشامتين أريهم * أني لريب الدهر لا أتضعضع)
(وإذا المنية أنشبت أظفارها * ألفيت كل تميمة لا تنفع)
وكان به التفاتات فمات من يومه فلما حضرته الوفاة قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كساني قميصا فحفظته وقلم أظفاره يوما فأخذت قلامته فجعلتها في قارورة فإذا مت فألبسوني ذلك القميص واسحقوا تلك القلامة وذروها في عيني وفمي فعسى الله أن يرحمني ببركتها ثم تمثل بشعر الأشهب بن زميلة النهشلي:
(إذا مت مات الجود وانقطع الندى * من الناس إلا من قليل مصرد)
(وردت أكف السائلين وأمسكوا * من الدين والدنيا بخلف مجدد)
7

فقالت إحدى بناته: كلا يا أمير المؤمنين بل يدفع الله عنك فقال متمثلا بشعر الهذلي وإذا المنية البيت وقال لأهله اتقوا الله فإنه لا واقي لمن لا يتقي الله ثم قضي وأوصي أن يرد نصف ماله إلى بيت المال كأنه أراد أن يطيب له الباقي لأن عمر قاسم أعماله وأنشد لما حضرته الوفاة:
(إن تناقش يكن نقاشك يا رب * عذابا لا طوق لي بالعذاب)
(أو تجاوز فأنت رب صفوح * عن مسيء ذنوبه كالتراب)
ولما اشتد مرضه أخذت ابنته رملة رأسه في حجرها وجعلت تقلبه فقال إنك لتفلينه حوله قلبا جمع المال من شب إلى دب فليته لا يدخل النار! ثم تمثل:
(لقد سعيت لكم من سعي ذي نصب * وقد كفيتكم التطواف والرحلا)
وبلغه أن قومه يفرحون بموته فأنشد:
(فهل من خالد إن ما هلكنا * وهل بالموت يا للناس عار؟)
وكان في مرضه ربما اختلط في بعض الأوقات فقال مرة كم بيننا وبين الغوطة؟ فصاحت بنته وا حزناه! فأفاق فقال: إن تنفري فقد رأيت منفرا.
فلما مات خرج الضحاك بن قيس حتى صعد المنبر وأكفان معاوية على يديه، فحمد الله وأثني عليه ثم قال: إن معاوية كان عود العرب وحد العرب
8

وجد العرب، قطع الله به الفتنة وملكه على العباد وفتح به البلاد ألا أنه قد مات وهذه أكفانه ونحن مدرجوه فيها ومدخلوه قبره ومخلون بينه وبين عمله ثم هو الهرج إلى يوم القيامة فمن كان يريد [أن] يشهده فعند الأولي. وصلى عليه الضحاك.
وقيل لما اشتد مرضه أي مرض معاوية كان ولده يزيد بحوارين فكتبوا إليه يحثونه على المجيء ليدركه، فقال يزيد شعرا:
(جاء البريد بقرطاس يخب به * فأوجس القلب من قرطاسه فزعا)
(قلنا لك الويل ماذا في كتابكم؟ * قال الخليفة أمسي مثبتا وجعا)
(ثم انبعثنا إلى خوص مزممة * نرمي الفجاج بها لا نأتلي سرعا)
(فمادت الأرض أو كادت تميد بنا * كأن أعبر من أركانها انقطعا)
(من لم تزل نفسه توفي على شرف * توشك مقاليد تلك النفس أن تقعا)
(لما انتهينا وباب الدار منصفق * وصوت رملة ريع القلب فانصدعا)
(ثم ارعوى القلب شيئا بعد طيرته * والنفس تعلم أن قد أثبتت جزعا)
(أودي ابن هند وأودي المجد يتبعه * كانا جميعا فماتا قاطنين معا)
(أغر أبلج يستسقي الغمام به * لو قارع الناس عن أحسابهم قرعا)
فأقبل يزيد وقد دفن فأتي قبره فصلي عليه.
9

ذكر نسبه وكنيته وأزواجه وأولاده
أما نسبه فهو: معاوية بن أبي سفيان واسم أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب وكنيته أبو عبد الرحمن.
وأما نساؤه وولده، فمنهن: ميسون بنت بحدل الكلبية أم يزيد ابنه وقيل ولدت بنتا اسمها أمة رب المشارق فماتت صغيرة ومنهن فاختة ابنة قرظة بن عبد عمرو بن نوفل بن عبد مناف بن عبد مناف فولدت له عبد الرحمن وعبد الله ابني معاوية وكان عبد الله أحمق اجتاز يوما بطحان وبغله يطحن وفي عنقه جلاجل فسأل عن الجلاجل فقال جعلتها في عنقه لأعلم أن قد نام فلم تدر الرحا فقال أرأيت إن قام وحرك رأسه كيف تعلم فقال الطحان إن بغلي ليس له عقل مثل عقل الأمير وأما عبد الرحمن فمات صغيرا ومنهن نائلة ابنة عمارة الكلابية تزوجها وقال لميسون انظري إليها فنظرت إليها وقالت رأيتها جميلة كاملة ولكني رأيت تحت سرتها خالا ليوضعن رأس زوجها في حجرها فطلقها معاوية وتزوجها حبيب بن مسلمة الفهري ثم خلف عليها بعده النعمان بن بشير وقتل فوضع رأسه في حجرها ومنهن كتوة بنت قرظة أخت فاختة غزا قبرص وهي معه فماتت هناك.
10

ذكر بعض سيرته وأخباره وقضاته وكتابه
لما بويع معاوية بالخلافة استعمل على شرطته قيس بن حمزة الهمداني ثم عزله واستعمل زمل بن عمرو العذري وقيل السكسكي وكان كاتبه وصاحب أمره سرجون الرومي وعلي حرسه رجل من الموالي يقال له المختار وقيل أبو المخارق مالك مولي حمير وكان أول من اتخذ الحرس وكان على حجابه سعد مولاه وعلي القضاء فضالة بن عبيد الأنصاري فمات فاستقضى أبا إدريس الخولاني وكان على ديوان الخاتم عبد الله بن محصن الحميري وكان أول من اتخذ ديوان الخاتم وكان سبب ذلك أن معاوية أمر لعمرو بن الزبير في معونته وقضاء دينه بمائة ألف درهم وكتب له بذلك إلى زياد ففتح عمرو الكتاب وصير المائة مائتين فلما رفع زياد حسابه أنكرها معاوية وطلبها من عمرو فقضاها عنه أخوه عبد الله بن الزبير فأحدث عند ذلك معاوية ديوان الخاتم وحزم الكتب، ولم تكن تحزم.
قال عمر بن الخطاب: تذكرون كسري وقيصر ودهاءهما وعندكم معاوية!
قيل: وقدم عمرو بن العاص من مصر على معاوية ومعه أهل مصر فقال لهم عمرو لا تسلموا على معاوية بالخلافة فإنه أهيب لكم في قلبه وصغروه ما استطعتم فلما قدموا قال معاوية لحجابه كأني بابن النابغة وقد صغر عند القوم فانظروا إذا دخل القوم فتعتعوهم أشد ما يحضركم فكان أول من دخل عليه رجل منهم يقال له ابن الخياط فقال السلام عليك يا رسول الله وتتابع القوم على ذلك فلما خرجوا قال لهم عمرو لعنكم الله نهيتكم أن تسلموا عليه بالإمارة فسلمتم عليه النبوة!
11

قيل: ودخل عبيد الله بن أبي بكرة على معاوية ومعه ولد له فأكثر من الأكل فلحظه معاوية وفطن عبيد الله وأراد أن يغمز ابنه فلم يرفع رأسه حتى فرغ من الأكل ثم عاد عبيد الله وليس معه ابنه فقال معاوية ما فعل ابنك التلقامة؟ قال: اشتكي. قال قد علمت أن أكله سيورثه داء.
قال جويرية بن أسماء: قدم أبو موسى الأشعري على معاوية في برنس أسود فقال السلام عليك يا أمين الله قال وعليك السلام فلما خرج قال معاوية قدم الشيخ لأوليه والله لا أوليه!
وقال عمرو بن العاص لمعاوية ألست أنصح الناس لك قال بذلت نلت ما نلت.
وقال جويرية بن أسماء كان بسر بن أرطأة عند معاوية فنال من علي وزيد بن عمر بن الخطاب حاضر وأمه أم كلثوم بنت علي فعلاه بالعصا وشجه فقال معاوية لزيد عمدت إلى شيخ من قريش وسيد أهل الشام فضربته وأقبل على بسر فقال تشتم عليا وهو جده وهو ابن الفاروق على رؤوس الناس أترى أن يصبر على ذلك؟ فأرضاهما جميعا.
وقال معاوية: إني لأرفع نفسي من أن يكون ذنب أعظم من عفوي وجهل أكبر من حلمي وعورة لا أواريها بستري وإساءة أكثر من إحساني.
وقال معاوية لعبد الرحمن بن الحكم يا بن أخي إنك قد لهجت بالشعر فإياك والتشبيب بالنساء فتعر الشريفة والهجاء فتعر كريما وتستثير لئيما والمدح فإنه طعمة الوقاح ولكن افخر بمفاخر قومك وقل من الأمثال ما تزين به نفسك وتؤدب به غيرك.
قال عبد الله بن صالح قيل لمعاوية أي الناس أحب إليك قال أشدهم لي تحبيبا إلى الناس.
12

وقال معاوية العقل والحلم والعلم أفضل ما أعطي العباد فإذا ذكر ذكر وإذا أعطي شكر وإذا ابتلي صبر وإذا غضب كظم وإذا قدر غفر وإذا أساء استغفر وإذا وعد أنجز.
قال عبد الله بن عمير أغلظ لمعاوية رجل فأكثر فقيل له أتحلم عن هذا؟ فقال إني لا أحول بين الناس وبين ألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين ملكنا.
وقال محمد بن عامر لام معاوية عبد الله بن جعفر على الغناء فدخل عبد الله على معاوية ومعه بديح ومعاوية قد وضع رجلا على رجل فقال عبد الله لبديح إيه يا بديح فتغني فحرك معاوية رجله فقال عبد الله مه يا أمير المؤمنين فقال معاوية إن الكريم طروب.
قال ابن عباس ما رأيت أخلق للملك من معاوية إن كان ليرد الناس منه [على] أرجاء واد رحب ولم يكن كالضيق الحصحص الحسر يعني ابن الزبير وكان مغضبا.
وقال صفوان بن عمرو مر عبد الملك بقبر معاوية فوقف عليه فترحم فقال رجب قبر من هذا فقال قبر رجل كان والله فيما علمته ينطق عن علم ويسكت عن حلم إذا أعطي أغني وإذا حارب أفني ثم عجل له الدهر ما أخره لغيره ممن بعده هذا قبر أبي عبد الرحمن معاوية.
ومعاوية أول خليفة بايع لولده في الإسلام وأول من وضع البريد وأول من سمي الغالية التي تتخذ من الطبيب غالية وأول من عمل المقصورة في المساجد وأول من خطب جالسا في قول بعضهم
13

ذكر بيعة يزيد
قيل وفي رجب من هذه السنة بويع يزيد بالخلافة بعد موت أبيه على ما سبق من الخلاف فيه فلما تولى كان على المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان وعلي مكة عمرو بن سعيد بن العاص وعلي البصرة عبيد الله بن زياد وعلي الكوفة النعمان بن بشير ولم يكن ليزيد همة حين ولي إلا بيعة النفر الذين أبوا على معاوية بيعته فكتب إلى الوليد يخبره بموت معاوية وكتابا آخر صغيرا فيه أما بعد فخذ حسينا وعبد الله بن عمر وابن الزبير بالبيعة أخذا ليس فيه رخصة حتى يبايعوا والسلام.
فلما أتاه نعي معاوية فظع به وكبر عليه وبعث إلى مروان بن الحكم فدعاه وكان مروان عاملا على المدينة من قبل الوليد فلما قدمها الوليد كان مروان يختلف إليه متكارها فلما رأى الوليد ذلك منه شتمه عند جلسائه فبلغ ذلك مروان فانقطع عنه ولم يزل مصارما له حتى جاء نعي معاوية، فلما عظم على الوليد هلاكه وما أمر به من بيعة هؤلاء النفر استدعي مروان فلما قرأ الكتاب بموت معاوية استرجع وترحم عليه واستشاره الوليد كيف يصنع قال أرى أن تدعوهم الساعة وتأمرهم بالبيعة فإن فعلوا قبلت منهم وكففت عنهم وأن أبوا ضربت أعناقهم قبل أن يعلموا بموت معاوية فإنهم إن علموا بموته وثب كل رجل منهم بناحية وأظهر الخلاف ودعا إلى نفسه أما ابن عمر فلا يرى القتال ولا يحب أن يلي على الناس إلا أن يدفع إليه هذا الأم عفوا.
فأرسل الوليد عبد الله بن عمرو بن عثمان وهو غلام حدث إلى الحسين وابن الزبير يدعوهما فوجدهما في المسجد وهما جالسان فأتاهما في ساعة
14

لم يكن الوليد يجلس فيها للناس فقال أجيبا الأمير فقالا انصرف الآن نأتيه وقال ابن الزبير للحسين ما تراه بعث إلينا في هذه الساعة التي لم يكن يجلس فيها؟ فقال الحسين: أظن أن طاغيتهم قد هلك فبعث إلينا ليأخذنا بالبيعة
قبل أن يفشو في الناس الخبر فقال وأنا ما أظن غيره فما تريد أن تصنع؟ قال الحسين: أجمع فتياني الساعة ثم أمشي إليه وأجلسهم على الباب وأدخل عليه. قال: فإني أخافه عليك إذا دخلت قال: لا آتيه إلا وأنا قادر على الامتناع.
فقام فجمع إليه أصحابه وأهل بيته ثم أقبل على باب الوليد وقال لأصحابه إني داخل فإذا دعوتكم أو سمعتم صوتي قد علا فأدخلوا علي بأجمعكم وإلا فلا تبرحوا حتى أخرج إليكم ثم دخل فسلم ومروان عنده فقال الحسين الصلة خير من القطيعة والصلح خير من الفساد وقد آن لكما أن تجتمعا أصلح الله ذات بينكما وجلس فأقرأه الوليد الكتاب ونعي له معاوية ودعاه إلى البيعة فاسترجع الحسين وترحم على معاوية وقال أما البيعة فإن مثلي لا يبايع سرا ولا يجترئ بها مني سرا فإذا خرجت إلى الناس ودعوتنا معهم كان الأمر واحدا فقال له الوليد وكان يحب العافية انصرف فقال له مروان انصرف فقال له مروان لئن فارقك الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبدا حتى تكثر القتلى بينكم وبينه احبسه فإن بايع وإلا ضربت عنقه فوثب عند ذلك الحسين وقال ابن الزرقاء أأنت تقتلني أم هو كذبت والله ولؤمت ثم خرج حتى أتى منزله.
فقال مروان للوليد عصيتني لا والله لا يمكنك من نفسه بمثله أبدا فقال الوليد ويح غيرك يا مروان والله ما أحب أن لي ما طلعت عليه
15

الشمس وغربت عنه من مال الدنيا وملكها وأني قتلت حسينا إن قال لا أبايع والله إني لأظن أن امرأ يحاسب بدم الحسين لخفيف الميزان عند الله يوم القيامة قال مروان قد أصبت يقول له هذا وهو غير حامد له على رأيه.
وأما ابن الزبير فقال الآن آتيكم ثم أتى داره فكمن فيها ثم بعث إليه الوليد فوجده قد جمع أصحابه واحترز وهو يقول أمهلوني فبعث إليه الوليد مواليه فشتموه وقالوا له يا بن الكاهلية لتأتين الأمير أو ليقتلنك فقال لهم والله لقد استربت لكثرة الإرسال فلا تعجلوني حتى أبعث إلى الأمير من يأتيني برأيه فبعث إليه أخاه جعفر بن الزبير فقال رحمك الله كف عن عبد الله فإنك قد أفزعته وذعرته بكثرة رسلك وهو يأتيك غدا إنشاء الله فمر رسلك فلينصرفوا عنه فبعث إليهم فانصرفوا. وخرج ابن الزبير من ليلته فأخذ طريق الفرع هو وأخوه جعفر ليس معهما ثالث وساروا نحو مكة فسرح الرجال في طلبه فلم يدركوه فرجعوا وتشاغلوا به عن الحسين ليلتهم ثم أرسل الرجال إلى الحسين فقال لهم أصبحوا ثم ترون ونري وكانوا يبقون عليه فكفوا عنه.
فسار من ليلته وكان مخرج ابن الزبير قبله بليلة وأخذ معه بنيه واخوته وبني أخيه وجل أهل بيته إلا محمد بن الحنفية فإنه قال له يا أخي أنت أحب الناس إلي وأعزهم علي ولست أدخر النصيحة لأحد من الخلق أحق بها منك تنح ببيعتك عن يزيد وعن الأمصار ما استطعت وأبعث رسلك إلى الناس وادعهم إلى نفسك فإن بايعوا لك حمدت الله على ذلك وأن اجمع الناس على غيرك لم ينقض الله بذلك دينك ولا عقلك ولا تذهب به مروءتك ولا فضلك إني أخاف أن تأتي مصرا أو جماعة من الناس فيختلفوا عليك فمنهم طائفة معك وأخري عليك فيقتتلون فتكون لأول الأسنة فإذا خير هذه الأمة كلها نفسا وأبا وأما
16

أضيعها دما وأذلها أهلا قال الحسين فأين أذهب يا أخي قال انزل مكة فإن اطمأنت بك الدار فبسبيل ذلك وأن نأت بك لحقت بالرمال وشعف الجبال وخرجت من بلد إلى بلد حتى تنظر إلى ما يصير أمر الناس ويفرق لك الرأي فأنت أصوب ما يكون رأيا وأحزمه عملا حين تستقبل الأمور استقبالا ولا تكون الأمور عليك أبدا أشكل منها حين تستدبرها قال يا أخي قد نصحت وأشفقت وأرجو أن يكون رأيك سديدا وموفقا إن شاء الله ثم دخل المسجد وهو يتمثل بقول يزيد بن مفرغ:
(لا ذعرت السوام في شفق الصب‍ * ‍ح مغيرا ولا دعيت يزيدا)
(يوم أعطي من المهانة ضيما * والمنايا يرصدنني أن أحيدا)
ولما سار الحسين نحو مكة قرأ: (فخرج منها خائفا يترقب) الآية فلما دخل مكة قرأ: (ولما توجه تلقاء مدين) الآية ثم إن الوليد أرسل إلى ابن عمر ليبايع فقال إذا بايع الناس بايعت فتركوه وكانوا لا يتخوفونه وقيل إن ابن عمر كان هو وابن عباس بمكة فعادا إلى المدينة فلقيهما الحسين وابن الزبير فسألاهما ما وراءكما؟ فقالا: موت معاوية وبيعة يزيد فقال ابن عمر لا تفرقا جماعة المسلمين وقدم هو وابن عباس المدينة فلما بايع الناس بايعا قال ودخل ابن الزبير مكة وعليها عمرو بن سعيد فلما دخلها قال أنا عائذ بالبيت ولم يكن يصلي بصلاتهم ولا يفيض بإفاضتهم وكان يقف هو وأصحابه ناحية.
17

ذكر عزل الوليد عن المدينة وولاية عمرو بن سعيد
في هذه السنة عزل الوليد بن عتبة عن المدينة عزله يزيد واستعمل عليها عمرو بن سعيد الأشدق فقدمها في رمضان فدخل عليه أهل المدينة وكان عظيم الكبر واستعمل على شرطته عمرو بن الزبير لما كان بينه وبين أخيه عبد الله من البغضاء فأرسل إلى نفر من أهل المدينة فضربهم ضربا شديدا لهواهم في أخيه عبد الله منهم أخوه المنذر بن الزبير وابنه محمد بن المنذر وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث وعثمان بن عبد الله بن حكيم بن حزام ومحمد بن عمار بن ياسر وغيرهم فضربهم الأربعين إلى الخمسين إلى الستين.
فاستشار عمرو بن سعيد عمرو بن الزبير فيمن يرسله إلى أخيه فقال لا توجه إليه رجلا أنكأ له منه فجهز معه الناس وفيهم أنيس بن عمرو الأسلمي في سبعمائة فجاء مروان بن الحكم إلى عمرو بن سعيد فقال له لا تغز مكة واتق الله ولا تحل حرمة البيت وخلوا ابن الزبير فقد كبر وله ستون سنة وهو لجوج فقال عمرو بن الزبير والله لنغزونه في جوف الكعبة على رغم أنف من رغم.
وأتى أبو شريح الخزاعي إلى عمرو فقال له لا تغز مكة فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إنما أذن لي بالقتال فيها ساعة من نهار ثم عادت كحرمتها بالأمس فقال له عمرو نحن أعلم بحرمتها منك أيها الشيخ فسار أنيس في مقدمته.
وقيل إن يزيد كتب إلى عمرو بن سعيد ليرسل عمرو بن الزبير إلى أخيه
18

عبد الله، ففعل، فأرسله ومعه جيش نحو ألفي رجل فنزل أنيس بذي طوي ونزل عمرو بالأبطح فأرسل عمرو إلى أخيه بر يمين يزيد وكان حلف أن لا يقبل بيعته إلا أن يؤتي بيعته إلا أن يؤتي به في جامعة وتعال حتى أجعل في عنقك جامعة من فضة لا تري ولا يضرب الناس بعضهم بعضا فإنك في بلد حرام فأرسل عبد الله بن الزبير عبد الله بن صفوان نحو أنيس فيمن معه من أهل مكة ممن اجتمع إليه فهزمه ابن صفوان بذي طوي وأجهز على جريحهم وقتل أنيس بن عمرو وسار مصعب بن عبد الرحمن إلى عمرو بن الزبير فتفرق عن عمرو وأصحابه فدخل دار ابن علقمة فاتاه أخوه عبيدة فأجاره ثم أتى عبد الله فقال له إني قد أجرت عمرا فقال أتجير من حقوق الناس هذا ما لا يصلح وما أمرتك أن تجير هذا الفاسق المستحيل لحرمات الله ثم أقاد عمرا من كل من ضربه إلا المنذر وابنه فإنهما أبيا أن يستقيدا ومات تحت السياط.
ذكر الخبر عن مراسلة الكوفيين الحسين بن علي ليسير
إليهم وقتل مسلم بن عقيل
لما خرج الحسين من المدينة إلى مكة لقيه عبد الله بن مطيع فقال له: جعلت فداءك! أين تريد؟ قال أما الآن فمكة وأما بعد فإني أستخير الله قال خار الله لك وجعلنا فداءك! فإذا أتيت مكة فإياك أن تقرب الكوفة فإنها بلدة مشؤومة بها قتل أبوك وخذل أخوك وأعتل بطعنة كادت تأتي على نفسه الزم الحرم فإنك سيد العرب لا تعدل بك أهل الحجاز أحدا ويتداعى إليك الناس
19

من كل جانب لا تفارق الحرم فداك عمي وخالي فوالله لئن هلكت لنسترقن بعدك.
فأقبل حتى نزل مكة وأهلها يختلفون إليه ويأتونه ومن بها من المعتمرين وأهل الآفاق وابن الزبير بها قد لزم جانب الكعبة فهو قائم يصلي عندها عامة النهار ويطوف ويأتي الحسين فيمن يأتيه ولا يزال يشير عليه بالرأي وهو أثقل خلق الله على ابن الزبير لأن أهل الحجاز لا يبايعونه ما دام الحسين باقيا بالبلد.
ولما بلغ أهل الكوفة موت معاوية وامتناع الحسين وابن عمر وابن الزبير عن البيعة أرجفوا بيزيد واجتمعت الشيعة في منزل سليمان بن صرد الخزاعي فذكروا مسير الحسين إلى مكة وكتبوا إليه عن نفر منهم سليمان بن صرد الخزاعي والمسيب بن نجبة ورفاعة بن شداد وحبيب بن مظاهر وغيرهم:
بسم الله الرحمن الرحيم سلام عليك فإننا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فالحمد لله الذي قصم عدوك
الجبار العنيد الذي انتزى على هذه الأمة فابتزها أمرها وغصبها فيئها وتأمر عليها بغير رضا منها ثم قتل خيارها واستبقي شرارها وإنه ليس علينا إمام فأقبل لعل الله أن يجمعنا بك على الحق، والنعمان بن بشير في قصر الإمارة لسنا نجتمع معه في جمعة ولا عيد ولو بلغنا إقبالك إلينا أخرجناه حتى نلحقه بالشام إن شاء الله تعالى والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. وسيروا الكتاب مع عبد الله بن سبع الهمداني وعبد الله بن وال ثم كتبوا إليه كتابا آخر وسيروه بعد ليلتين فكتب الناس معه نحوا من مائة وخمسين صحيفة ثم أرسلوا إليه رسولا ثالثا يحثونه على المسير إليهم، ثم كتب إليه شبث بن ربعي وحجار بن أبجر ويزيد بن
20

الحارث ويزيد بن رويم وعروة بن قيس وعمرو بن الحجاج الزبيدي ومحمد بن عمير التميمي بذلك.
فكتب إليهم الحسين عند اجتماع الكتب عنده أما بعد فقد فهمت كل الذي اقتصصتم وقد بعثت إليكم بأخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل وأمرته أن يكتب إلي بحاكم وأمركم ورأيكم فإن كتب إلي أنه قد اجتمع رأي ملئكم فلعمري ما الإمام إلا العامل بالكتاب والقائم بالقسط والدائن بدين الحق والسلام.
واجتمع ناس من الشيعة بالبصرة في منزل امرأة من عبد القيس يقال لها مارية بنت سعد وكانت تتشيع وكان منزلها لهم مألفا يتحدثون فيه. فعزم يزيد بن نبيط على الخروج إلى الحسين وهو من عبد القيس وكان له بنون عشرة فقال أيكم يخرج معي فخرج معه ابنان له عبد الله وعبيد الله فساروا فقدموا عليه بمكة ثم ساروا معه فقتلوا معه.
ثم دعا الحسين مسلم بن عقيل فسيره نحو الكوفة وأمره بتقوى الله وكتمان أمره واللطف فإن رأي الناس مجتمعين له عجل إليه بذلك. فأقبل مسلم إلى المدينة فصلي في مسجد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وودع أهله واستأجر دليلين من قيس فأقبلا به فضلا الطريق وعطشوا فمات الدليلان من العطش وقالا لمسلم هذا الطريق إلى الماء فكتب مسلم إلى الحسين إني أقبلت إلى المدينة واستأجرت دليلين فضلا الطريق واشتد عليهما العطش فماتا وأقبلنا حتى انتهينا إلى الماء فلم ننج إلا بحشاشة أنفسنا وذلك الماء بمكان يدعي المضيق من بطن الخبيت وقد تطيرت من وجهي هذا فإن رأيت أعفيتني
21

وبعثت غيري. فكتب إليه الحسين فقد خشيت أن لا يكون حملك على الكتاب إلي إلا الجبن فامض لوجهك والسلام.
فسار مسلم حتى أتى الكوفة ونزل في دار المختار وقيل غيرها وأقبلت الشيعة تختلف إليه فكلما اجتمعت إليه جماعة منهم قرأ عليهم كتاب الحسين فيبكون ويعدونه من أنفسهم القتال والنصرة واختلفت [إليه] الشيعة حتى علم بمكانه وبلغ ذلك النعمان بن بشير وهو أمير الكوفة فصعد المنبر فقال أما بعد فلا تسارعوا إلى الفتنة والفرقة فإن فيهما تهلك الرجال وتسفك الدماء وتغصب الأموال وكان حليما ناسكا يحب العافية، ثم قال إني لا أقاتل من لم يقاتلني ولا أثب على من لا يثب علي ولا أنبه نائمكم ولا أتحرش بكم ولا آخذ بالقرف ولا الظنة ولا التهمة ولكنكم إن أبديتم صفحتكم ونكثتم بيعتكم وخالفتم إمامكم فوالله الذي لا إله إلا غيره لأضربنكم بسيفي ما ثبت قائمة بيدي، و [لو] لم يكن لي منكم ناصر ولا معين أما إني أرجو أن يكون من يعرف الحق منكم أكثر ممن يرديه الباطل.
فقام إليه عبد الله بن مسلم بن سعيد الحضرمي حليف بني أمية فقال أنه لا يصلح ما تري إلا الغشم إن هذا الذي أنت عليه رأي المستضعفين فقال لأن أكون من المستضعفين في طاعة أحب إلي من أن أكون من الأعزين في معصية الله ونزل. فكتب عبد الله بن مسلم إلى يزيد يخبره بقدوم مسلم بن عقيل الكوفة ومبايعة الناس له ويقول له إن كان لك في الكوفة حاجة فابعث إليها رجلا قويا ينفذ أمرك ويعمل مثل عملك في عدوك فإن النعمان رجل ضعيف أو هو يتضعف وكان هو أول من كتب إليه، ثم كتب إليه عمارة بن الوليد بن عقبة وعمرو بن سعد بن أبي وقاص بنحو ذلك.
فلما اجتمعت الكتب عند يزيد دعا سرجون مولي معاوية فأقرأه الكتب
22

واستشاره فيمن يوليه الكوفة وكان يزيد عاتبا على عبيد الله بن زياد فقال له سرجون: أرأيت لو نشر لك معاوية كنت تأخذ برأيه. قال: نعم. فأخرج عهد عبيد الله على الكوفة فقال هذا رأي معاوية ومات وقد أمر بهذا الكتاب. فأخذ برأيه وجمع الكوفة والبصرة لعبيد الله وكتب إليه بعهده وسيره إليه مع مسلم بن عمرو الباهلي والد قتيبة فأمره مسلم بن عقيل وبقتله أو نفيه فلما وصل كتابه إلى عبيد الله أمر بالتجهز ليبرز من الغد.
وكان الحسين قد كتب إلى أهل البصرة نسخة واحدة إلى الأشراف فكتب إلى مالك بن مسمع البكري والأحنف بن قيس والمنذر بن الجارود ومسعود بن عمرو وقيس بن الهيثم وعمر بن عبيد الله بن معمر يدعوهم إلى كتاب الله وسنة رسوله وأن السنة قد ماتت والبدعة قد أحييت فكلهم كتموا كتابه إلا المنذر بن الجارود فإنه خاف أن يكون دسيسا من ابن زياد فأتاه بالرسول والكتاب فضرب عنق الرسول وخطب الناس وقال:
أما بعد فوالله ما بي تقرن الصعبة وما يقعقع لي بالشنان وإني لنكل لمن عاداني وسلم لمن حاربني وأنصف القارة من راماها يا أهل البصرة إن أمير المؤمنين قد ولاني الكوفة وأنا غاد إليها بالغداة وقد استخلفت عليكم أخي عثمان بن زياد فإياكم الخلاف والإرجاف فوالله لئن بلغني عن رجل منكم خلاف لأقتلنه وعريفه ووليه ولآخذن الأدنى بالأقصى حتى تستقيموا
23

ولا يكون فيكم مخالف ولا مشاق وإني انا ابن زياد أشبهته من بين من وطئ الحصى فلم ينتزعني شبه خال ولا ابن عم.
ثم خرج من البصرة ومعه مسلم بن عمرو الباهلي وشريك بن الأعور الحارثي وحشمه وأهل بيته وكان شريك شيعيا وقيل كان معه خمسمائة فتساقطوا عنه فكان أول من سقط في الناس شريك ورجوا أن يقف عليهم ويسبقه الحسين إلى الكوفة فلم يقف على أحد منهم حتى دخل الكوفة وحده فجعل يمر بالمجالس فلا يشكون أنه الحسين فيقولون مرحبا بك يا ابن رسول الله وهو لا يكلمهم وخرج إليه الناس من دورهم فساءه ما رأى منهم وسمع النعمان فأغلق عليه الباب وهن لا يشك أنه الحسين وانتهى إليه عبيد الله ومعه الخلق يصيحون فقال له النعمان أنشدك الله ألا تنحيت عني فوالله ما أنا بمسلم إليك أمانتي ومالي في قتالك من حاجة فدنا منه عبد الله وقال له افتح لا فتحت فسمعها إنسان خلفه فرجع إلى الناس وقال لهم إنه ابن مرجانه ففتح له النعمان فدخل وأغلقوا الباب وتفرق الناس وأصبح فجلس على المنبر وقيل بل خطبهم من يومه فقال أما بعد فإن أمير المؤمنين ولاني مصركم وثغركم وفيئكم وأمرني بإنصاف مظلومكم وإعطاء محرومكم وبالإحسان إلى سامعكم ومطيعكم وبالشدة على مريبكم وعاصيكم وأنا متبع فيكم أمره منفذ فيكم عهده فأنا لمحسنكم كالوالد البر ولمطيعكم كالأخ الشقيق وسيفي وسوطي على من ترك أمري وخالف عهدي فليبق امرؤ على نفسه.
ثم نزل فأخذ العرفاء والناس أخذا شديدا وقال اكتبوا لي الغرباء ومن فيكم من طلبه أمير المؤمنين ومن فيكم من الحرورية وأهل الريب الذين رأيهم الخلاف والشقاق فمن كتبهم إلى فبرئ ومن لم يكتب لنا أحدا فليضمن لنا
24

ما في عرافته أن لا يخالفنا فيهم مخالف ولا يبغ علينا منهم باغ فمن لم يفعل فبرئت منه الذمة وحلال لنا دمه وماله وأيما عريف وجد في عرافته من بغية أمير المؤمنين أحد لم يرفعه إلينا صلب على باب داره وألغيت تلك العرافة من العطاء وسير إلى موضع بعمان الزارة ثم نزل.
وسمع مسلم بمقالة عبيد الله فخرج من دار المختار وأتى دار هانئ بن عروة المرادي فدخل بابه واستدعى هانئا فخرج إليه لما رآه كره مكانه فقال له مسلم أتيتك لتجيرني وتضيفني فقال له هانئ لقد كلفتني شططا، ولولا دخولك داري لأحببت أن تنصرف عني غير أنه يأخذني من ذلك ذمام ادخل فآواه فاختلفت الشيعة إليه في دار هانئ.
ودعا ابن زياد مولى له وأعطاه ثلاثة آلاف درهم وقال له اطلب مسلم بن عقيل وأصحابه وألفهم وأعطهم هذا المال وأعلمهم أنك منهم واعلم أخبارهم ففعل ذلك وأتى مسلم بن عوسجة الأسدي بالمسجد فسمع الناس يقولون هذا يبايع للحسين وهو يصلى فلما فرغ من صلاته قال له يا بعد الله إني امرؤ من أهل الشام أنعم الله على بحب أهل هذا البيت وهذه ثلاثة آلاف درهم أردت بها لقاء رجل منهم بلغني أنه قدم الكوفة يبايع لابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سمعت نفرا يقولون أنك تعلم أمر هذا البيت وإني أتيتك لتقبض المال وتدخلني على صاحبك أبايعه وإن شئت أخذت بيعتي له قبل لقائي إياه.
فقال لقد سرني لقاؤك إياي لتنال الذي تحب وينصر الله بك أهل بيت نبيه وقد ساءني معرفة الناس هذا الأمر مني قبل أن يتم مخافة هذا الطاغية وسطوته.
25

فأخذ بيعته والمواثيق المعظمة ليناصحن وليكتمن واختلف إليه أياما ليدخله على مسلم بن عقيل.
ومرض هانئ بن عروة فأتاه عبيد الله يعوده فقال له عمارة بن عبد السلولي إنما جماعتنا وكيدنا قتل هذا الطاغية وقد أمكنك الله فاقتله فقال هانئ ما أحب أن يقتل في داري. وجاء ابن زياد فجلس عنده ثم خرج فما مكث إلا جمعة حتى مرض شريك بن الأعور وكان قد نزل على هانئ وكان كريما على ابن زياد وعلي غيره من الأمراء وكان شديد التشيع قد شهد صفين مع عمار فأرسل إليه عبيد الله إني رائح إليك العشية فقال لمسلم إن هذا الفاجر عائدي العشية فإذا جلس فأخرج إليه فاقتله ثم اقعد في القصر ليس أحد يحول بينك وبينه فإن برئت من وجعي سرت إلى البصرة حتى أكفيك أمرها.
فلما كان من العشى أتاه عبيد الله فقام مسلم بن عقيل ليدخل فقال له شريك لا يفوتنك إذا جلس فقال هانئ بن عروة لا أحب أن يقتل في داري فجاء عبيد الله فجلس وسأل شريكا عن مرضه فأطال فلما رأى شريك أن مسلما لا يخرج خشي أن يفوته فأخذ يقول:
(ما تنظرون بسلمى لا تحيوها * اسقونيها وإن كانت بها نفسي)
فقال ذلك مرتين أو ثلاثا، فقال عبيد الله ما شأنه ترونه يخلط فقال له هانئ نعم ما زال هذا دأبه قبيل الصبح حتى ساعته هذه فانصرف.
وقيل إن شريكا لما قال اسقونيها وخلط كلامه فطن به مهران فغمز عبيد الله فوثب فقال له شريك أيها الأمير إني أريد أن أوصي إليك فقال أعود إليك فقال له مهران إنه أراد قتلك فقال وكيف مع إكرامي
26

له في بيت هانئ ويد أبي عنده فقال له مهران هو ما قلت لك.
فلما قام ابن زياد خرج مسلم بن عقيل فقال له شريك ما منعك من قتله؟ قال: خصلتان، إما إحداهما فكراهية هانئ أن يقتل في منزله وأما الأخرى فحديث حدثه علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الإيمان قيد الفتك فلا يفتك مؤمن بمؤمن فقال له هانئ لو قتلته لقتلت فاسقا فاجرا كافرا غادرا!
ولبث شريك بعد ذلك ثلاثا ثم مات فصلي عليه عبيد الله فلما علم عبيد الله أن شريكا كان حرض مسلما على قتله قال والله لا أصلي على جنازة عراقي أبدا ولولا أن قبر زياد فيهم لنشبت شريكا.
ثم إن مولي زياد الذي دسه بالمال اختلف إلى مسلم بن عوسجة بعد موت شريك فأدخله على مسلم بن عقيل فأخذ بيعته وقبض ماله وجعل يختلف إليهم ويعلم أسرارهم وينقلها إلى ابن زياد. وكان هانئ قد انقطع عن عبيد الله بعذر المرض فدعا عبيد الله محمد بن الأشعث وأسماء بن خارجة وقيل دعا معهما بعمرو بن الحجاج الزبيدي فسألهم عن هانئ وانقطاعه فقالوا إنه مريض فقال بلغني أنه يجلس على باب داره وقد برأ فالقوه فمروه أن لا يدع ما عليه في ذلك.
فأتوه فقالوا له إن الأمير قد سأل عنك وقال لو أعلم أنه شاك لعدته، وقد بلغه أنك تجلس على باب دارك وقد استبطأك والجفاء لا يحتمله السلطان أقسمنا عليك لو ركبت معنا فلبس ثيابه وركب معهم فلما دنا من القصر أحست نفسه بالشر فقال لحسان بن أسماء بن خارجة يا بن أخي إني لهذا
27

الرجل لخائف فما تري فقال ما أتخوف عليك شيئا فلا تجعل على نفسك سبيلا ولم يعلم أسماء مما كان شيئا وأما محمد بن الأشعث فإنه علم به قال فدخل القوم على ابن زياد وهانئ معهم فلما رآه ابن زياد قال لشريح القاضي أتتك بحائن رجلاه فلما دنا منه قال عبيد الله:
(أريد حياته ويريد قتلي * عذيرك من خليلك من مراد)
وكان ابن زياد مكرما له فقال هانئ وما ذاك فقال يا هانئ ما هذه الأمور التي تربص في دارك لأمير المؤمنين والمسلمين جئت بمسلم فأدخلته دارك وجمعت له السلاح والرجال وظننت أن ذلك يخفي علي لك قال ما فعلت قال بلي وطال بينهما النزاع فدعا ابن زياد مولاه ذاك العين فجاء حتى وقف بين يديه فقال أتعرف هذا قال نعم وعلم هانئ عند ذلك أنه كان عينا عليهم فسقط في يده ساعة ثم راجعته نفسه قال اسمع مني وصدقني فوالله لا أكذبك والله ما دعوته ولا علمت بشيء من أمره حتى رأيته جالسا على بابي يسألني النزول على فاستحييت من رده ولزمني من ذلك ذمام فأدخلته داري وضفته وقد كان من أمره الذي بلغك فإن شئت أعطيتك الآن موثقا تطمئن به ورهينة تكون في يدك حتى انطلق وأخرجه من داري وأعود إليك فقال لا والله لا تفارقني أبدا حتى تأتيني به قال لا آتيك بضيفي تقتله أبدا.
فلما كثر الكلام قام مسلم بن عمرو الباهلي وليس بالكوفة شامي ولا بصري غيره فقال خلني وإياه حتى أكلمه لما رأى من لجاجه وأخذ هانئا وخلا به ناحية من ابن زياد بحيث يراهما فقال له يا هانئ أنشدك الله
28

أن تقتل نفسك وتدخل البلاء على قومك إن هذا الرجل ابن عم القوم وليسوا بقاتليه ولا ضائريه فادفعه إليه فليس عليك بذلك مخزاة ولا منقصة إنما تدفعه إلى السلطان قال بلي والله إن علي في ذلك خزيا وعارا لا أدفع ضيفي وأنا صحيح شديد الساعد كثير الأعوان والله لو كنت واحدا ليس لي ناصر لم أدفعه حتى أموت دونه.
فسمع ابن زياد ذلك فقال أدنوه مني فأدنوه منه فقال والله لتأتيني به أو لأضربن عنقك قال إذن والله تكثر البارقة حول دارك وهو يرى أن عشيرته ستمنعه فقال أبالبارقة تخوفني؟
وقيل إن هانئا لما رأى ذلك الرجل الذي كان عينا لعبيد الله علم أنه قد أخبره الخبر فقال أيها الأمير قد كان الذي بلغك ولن أضيع يدك عندي وأنت آمن وأهلك فسر حيث شئت. فأطرق عبيد الله عند ذلك ومهران قائم على رأسه وفي يده معكزة فقال وا ذلاه هذا الحائك يؤمنك في سلطانك فقال خذه، فأخذ مهران ضفيرتي هانئ وأخذ عبيد الله القضيب ولم يزل يضرب أنفه وجبينه وخده حتى كسر أنفه وسيل الدماء على ثيابه ونثر لحم خديه وجبينه على لحيته حتى كسر القضيب وضرب هانئ يده إلى قائم سيف شرطي وجبذه فمنع منه فقال له عبيد الله أحروري أحللت بنفسك وحل لنا قتلك ثم أمر به فألقي في بيت وأغلق عليه.
فقام إليه أسماء بن خارجة فقال أرسله يا غادر أمرتنا أن نجيئك بالرجل فلما أتيناك به هشمت وجهه وسيلت دماءه وزعمت أنك تقتله فأمر به عبيد الله فلهز وتعتع ثم ترك فجلس فأما ابن الأشعث فقال رضينا بما رأى الأمير لنا كان أو علينا.
29

و بلغ عمرو بن الحجاج أن هانئا قد قتل فأقبل في مذحج حتى أحاطوا بالقصر ونادى أنا عمرو بن الحجاج هذه فرسان مذحج ووجوهها لم نخلع طاعة ولم نفارق جماعة فقال عبيد الله لشريح القاضي وكان حاضرا ادخل على صاحبهم فانظر إليه ثم اخرج إليهم فأعلمهم أنه حي ففعل شريح فلما دخل عليه قال له هانئ يا للمسلمين! أهلكت عشيرتي؟ أين أهل الدين؟ أين أهل النصر أيحذرونني عدوهم وسمع الضجة فقال يا شريح إني لأظنها أصوات مذحج وشيعتي من المسلمين إنه إن دخل على عشرة نفر أنقذوني. فخرج شريح ومعه عين أرسله ابن زياد قال شريح لولا مكان العين لأبلغتهم قول هانئ فلما خرج شريح إليهم قال قد نظرت إلى صاحبكم وإنه حي لم يقتل فقال عمرو وأصحابه [فأما] إذ لم يقتل فالحمد لله ثم انصرفوا.
وأتى الخبر مسلم بن عقيل فنادي في أصحابه يا منصور أمت وكان شعارهم وكان قد بايعه ثمانية عشر ألفا وحوله في الدور أربعة آلاف فاجتمع إليه ناس كثير فعقد مسلم لعبد الله بن عزيز الكندي على ربع كندة وقال سر إمامي وعقد لمسلم بن عوسجة الأسدي على ربع مذحج وأسد وعقد لأبي ثمامة الصائدي على ربع تميم وهمدان وعقد لعباس بن جعدة الجدلي على ربع المدينة وأقبل نحو القصر. فلما بلغ ابن زياد إقباله تحرز في القصر وأغلق الباب وأحاط مسلم بالقصر وامتلاء المسجد والسوق من الناس وما زالوا يجتمعون حتى المساء وضاق بعبيد الله أمره وليس معه في القصر إلا ثلاثون رجلا من الشرط وعشرون رجلا من الأشراف وأهل بيته ومواليه، وأقبل
30

أشراف الناس يأتون ابن زياد من قبل الباب الذي يلي دار الروميين والناس يسبون ابن زياد وأباه فدعا ابن زياد كثير بن شهاب الحارثي وأمره أن يخرج فيمن أطاعه من مذحج فيسير ويخذل الناس عن ابن عقيل ويخوفهم وأمر محمد بن الأشعث أن يخرج فيمن أطاعه من كندة وحضرموت فيرفع راية أمان لمن جاءه من الناس وقال مثل ذلك للقعقاع بن شور الذهلي وشبث بن ربعي التميمي وحجار بن أبجر العجلي وشمر بن ذي الجوشن الضبابي
وترك وجوه الناس عنده استئناسا بهم لقلة عدد من معه.
وخرج أولئك النفر يخذلون النفر وأمر عبيد الله من عنده من الأشراف أن يشرفوا على الناس من القصر فيمنوا أهل الطاعة ويخوفوا أهل الطاعة ففعلوا فلما سمع الناس مقالة أشرافهم أخذوا يتفرقون حتى أن المرأة تأتي ابنها وأخاها وتقول انصرف الناس يكفونك ويفعل الرجل مثل ذلك فما زالوا يتفرقون حتى بقي ابن عقيل في المسجد في ثلاثين رجلا.
فلما رأى ذلك خرج متوجها نحو أبواب كندة فلما خرج [إلى] الباب لم يبق معه أحد فمضي في أزقة الكوفة لا يدري أين يذهب فانتهى إلى باب امرأة من كندة يقال لها طوعة أم ولد كانت للأشعث أعتقها فتزوجها أسيد الحضرمي فولدت له بلالا وكان بلال قد خرج مع الناس وهي تنتظره فسلم عليها ابن عقيل وطلب الماء فسقته فجلس فقالت له يا عبد الله ألم تشرب قال بلي قالت فاذهب إلى أهلك فسكت، فقالت له ثلاثا فلم يبرح فقالت سبحان الله إني لا أحل لك الجلوس على بابي فقال لها ليس لي في هذا المصر منزل ولا عشيرة فهل لك إلى أجر ومعروف ولعلي أكافئك به بعد اليوم قالت وما ذاك قال أنا مسلم بن عقيل كذبني هؤلاء القوم وغروني قالت ادخل فأدخلته بيتا في دارها وعرضت عليه العشاء فلم يتعش وجاء
31

ابنها فرآها تكثر الدخول في ذلك البيت فقال لها إن لك لشأنا في ذلك البيت وسألها فلم تخبره فألح عليها فأخبرته واستكتمته وأخذت عليه الإيمان بذلك فسكت.
وأما ابن زياد فلما لم يسمع الأصوات قال لأصحابه انظروا هل ترون منهم أحدا، فنظروا فلم يروا أحدا فنزل إلى المسجد قبيل العتمة وأجلس أصحابه حول المنبر وأمر فنودي: [ألا] برئت الذمة من رجل من الشرط والعرفاء والمناكب والمقاتلة صلى العتمة إلا في المسجد فامتلأ المسجد فصلي بالناس ثم قام فحمد الله ثم قال أما بعد فإن ابن عقيل السفيه الجاهل قد أتى ما رأيتم من الخلاف والشقاق فبرئت الذمة من رجل وجدناه في داره ومن أتانا به فله ديته. وأمرهم بالطاعة ولزومها وأمر الحصين بن تميم أن يمسك أبواب السكك ثم يفتش الدور وكان على الشرط وهو من بني تميم.
ودخل ابن زياد وعقد لعمرو بن حريث وجعله على الناس فلما أصبح جلس للناس. ولما أصبح بلال ابن تلك العجوز التي آوت مسلم بن عقيل أتى عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فأخبره بمكان ابن عقيل فأتي عبد الرحمن أباه وهو عند ابن زياد فأسره بذلك فأخبر به محمد ابن زياد فقال له ابن زياد قم فأتني به الساعة وبعث معه عمرو بن عبيد الله بن عباس السلمي في سبعين من قيس حتى أتوا الدار التي فيها ابن عقيل فلما سمع الأصوات عرف أنه قد أتى فخرج إليهم بسيفه حتى أخرجهم من الدار ثم عادوا إليه فحمل عليهم فأخرجهم مرارا وضرب بكير بن حمران الأحمري فم سلم فقطع شفته العليا وسقط ثنيتاه وضربه مسلم على رأسه وثني بأخرى على حبل العاتق كادت تطلع على جوفه فلما رأوا ذلك أشرفوا على سطح البيت وجعلوا يرمونه بالحجارة ويلهبون النار في القصب ويلقونها عليه فلما رأى ذلك خرج عليهم
32

بسيفه فقاتلهم في السكة فقال له محمد بن الأشعث لك الأمان فلا تقتل نفسك فأقبل يقاتلهم وهو يقول:
(أقسمت لا أقتل إلا حرا * وإن رأيت الموت شيئا نكرا)
(أو يخلط البارد سخنا مرا * رد شعاع الشمس فاستقرا)
(كل امرئ يوما يلاقي شرا * أخاف أن أكذب أو أغرا)
فقال له محمد: إنك لا تكذب ولا تخدع إن القوم بنو عمك وليسوا بقاتليك ولا ضاربيك وكان قد أثخن بالحجارة وعجز عن القتال فأسند ظهره إلى حائط تلك الدار فأمنه ابن الأشعث والناس غير عمرو بن عبيد الله السلمي فإنه قال لا ناقة لي في هذا ولا جمل وأتى ببغلة فحمل عليها وانتزعوا سيفه فكأنه أيس من نفسه فدمعت عيناه ثم قال هذا أول الغدر قال محمد أرجو ألا يكون عليك بأس قال وما هو إلا الرجاء أين أمانكم ثم بكي فقال له عمرو بن عبيد الله بن عباس السلمي من يطلب مثل الذي تطلب إذ نزل به مثل الذي نزل بك لم يبك فقال ما أبكي لنفسي ولكني أبكي لأهلي المنقلبين إليكم أبكي للحسين وآل الحسين. ثم قال لمحمد بن الأشعث إني أراك ستعجز عن أماني فهل تستطيع أن تبعث من عندك رجلا يخبر الحسين بحالي ويقول له عني ليرجع بأهل بيته ولا يغره أهل الكوفة فإنهم أصحاب أبيك الذين كان يتمنى فراقهم بالموت أو القتل فقال له ابن الأشعث والله لأفعلن ثم كتب بما قال مسلم إلى الحسين فلقيه الرسول بزبالة فأخبره فقال كل ما قدر نازل عند الله نحتسب أنفسنا وفساد أمتنا.
وكان سبب مسيره من مكة كتاب مسلم إليه يخبره أنه بايعه ثمانية عشر ألفا ويستحثه للقدوم. وأما مسلم فإن محمدا قدم به القصر ودخل محمد على
33

عبيد الله فأخبره الخبر وأمانه له فقال له عبيد الله ما أنت والأمان ما أرسلناك لتؤمنه إنما أرسلناك لتؤمنه إنما أرسلناك لتأتينا به فسكت محمد ولما جلس مسلم على باب القصر رأى جرة فيها ماء بارد فقال اسقوني من هذا الماء فقال له مسلم بن عمرو الباهلي أتراها ما أبردها والله لا تذوق منها قطرة حتى تذوق الحميم في نار جهنم فقال له ابن عقيل من أنت قال أنا من عرف الحق إذ تركته ونصح الأمة والإمام إذ غششته وسمع وأطاع إذ عصيته أنا مسلم بن عمرو فقال له ابن عقيل لأمك الثكل ما أجفاك وأفظك وأقسى قلبك وأغلظك أنت يا ابن باهلة أولي بالحميم والخلود في نار جهنم مني قال فدعا عمارة بن عقبة بماء بارد فصب له في قدح فأخذ ليشرب فامتلأ القدح دما ففعل ذلك ثلاثا فقال لو كان من الرزق المقسوم شربته وأدخل على ابن زياد فلم يسلم عليه بالإمارة فقال له الحرسي ألا تسلم على الأمير فقل إن كان يريد قتلي فما سلامي عليه وإن كان لا يريد قتلي فليكثرن تسليمي عليه فقال له ابن زياد لعمري لتقتلن فقال كذلك قال نعم قال فدعني أوص إلى بعض قومي قال افعل فقال لعمر بن سعد إن بيني وبينك قرابة ولي إليك حاجة وهي سر فلم يمكنه من ذكرها فقال له ابن زياد لا تمتنع من حاجة ابن عمك فقام معه فقال إن على بالكوفة دينا استدنته [منذ قدمت الكوفة] سبعمائة درهم فاقضها عني وانظر جثتي فاستوهبها فوارها وابعث إلى الحسين من يرده.
فقال عمر لابن زياد إنه قال كذا وكذا فقال ابن زياد لا يخونك الأمين ولكن قد يؤتمن الخائن أما مالك فهو لك تصنع به ما شئت وأما الحسين فإن لم يردنا لم نرده وإن أرادنا لم نكف عنه وأما جثته فإنا لن نشفعك فيها وقيل إنه قال أما جثته فإنا إذا قتلناه لا نبالي مع صنع بها.
34

ثم قال لمسلم: يا بن عقيل أتيت الناس وأمرهم جميع وكلمتهم واحدة لتشتت بينهم وتفرق كلمتهم فقال كلا ولكن أهل هذا المصر زعموا أن أباك قتل خيارهم وسفك دماءهم وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر فأتيناهم لنأمر بالعدل وندعو إلى حكم الكتاب والسنة فقال وما أنت وذاك يا فاسق ألم يكن يعمل بذلك فيهم إذ أنت تشرب الخمر بالمدينة قال أنا أشرب الخمر والله إن الله يعلم أنك تعلم أنك غير صادق وأني لست كما ذكرت وأن أحق الناس بشرب الخمر مني من بلغ في دماء المسلمين فيقتل النفس التي حرم الله قتلها على الغضب والعداوة وهو يلهو ويلعب كأنه لم يصنع شيئا.
فقال له ابن زياد قتلني الله إن لم أقتلك قتلة لم يقتلها أحد في الإسلام قال أما إنك أحق من أحدث في الإسلام ما ليس فيه أما إنك لا تدع سوء القتلة وقبح المثلة وخبث السيرة ولؤم الغلبة ولا أحد من الناس أحق بها منك فشتمه ابن زياد وشتم الحسين وعليا وعقيلا فلم يكلمه مسلم ثم أمر به فأصعد فوق القصر لتضرب رقبته ويتبعوا رأسه جسده فقال مسلم لابن الأشعث والله لولا أمانك ما استسلمت قم بسيفك دوني قد أخفرت ذمتك فاصعد مسلم فوق القصر وهو يستغفر ويسبح وأشرف به على موضع الحدائين فضربت عنقه وكان الذي قتله بكير بن حمران الذي ضربه مسلم ثم أتبع رأسه جسده.
فلما نزل بكير قال له زياد ما كان يقول وأنتم تصعدون به؟ قال: كان يسبح الله ويستغفر، فلما قتلته قلت له ادن مني، الحمد لله الذي أمكن منك وأقادني منك فضربته ضربة لم تغن شيئا، فقال: أما تري في
35

خدش تخدشنيه وفاء من دمك أيها العبد فقال ابن زياد وفخرا عند الموت! قال: ثم ضربته الثانية فقتلته.
وقام محمد بن الأشعث فكلم زياد في هانئ وقال له: قد عرفت منزلته في المصر وبيته وقد علم قومه أني أنا وصاحبي سقناه إليك فأنشدك الله لما وهبته لي فإني أكره عداوة قومه فوعده أن يفعل فلما كان من مسلم ما كان بدا له فيه وأبي أن يفي له بما قال فأمر بهانئ حين قتل مسلم فأخرج إلى السوق فضربت عنقه قتله مولي تركي لابن زياد قال فبصر به عبد الرحمن بن الحصين المرادي بعد ذلك بخازر مع ابن زياد فقتله فقال عبد الله بن
الزبير الأسدي في قتل هانئ ومسلم وقيل قاله الفرزدق.
(الزبير بفتح الزاي وكسر الباء الموحدة):
(فإن كنت لا تدرين ما الموت فانظري * إلى هانئ في السوق وابن عقيل)
(إلى بطل قد هشم السيف وجهه * وآخر يهوى من طمار قتيل)
وهي أبيات. وبعث ابن زياد برأسيهما إلى يزيد فكتب إليه يزيد يشكره ويقول له وقد بلغني أن الحسين قد توجه نحو العراق فضع المراصد والمسالح واحترس واحبس على التهمة وخذ على الظنة غير أن لا تقتل إلا من قاتلك.
وقيل: وكان مخرج ابن عقيل بالكوفة لثمان ليال مضين من ذي الحجة سنة ستين وقيل لتسع مضين منه وقيل وكان فيمن خرج معه المختار بن أبي عبيد وعبد الله بن الحارث بن نوفل فطلبهما ابن زياد وحبسهما وكان فيمن قاتل مسلما محمد بن الأشعث وشبث بن ربعي التميمي والقعقاع بن شور وجعل شبث يقول انتظروا بهم الليل لئلا يتفرقوا فقال له القعقاع إنك قد سددت عليهم وجه مهربهم فافرج لهم يتفرقوا.
36

ذكر مسير الحسين إلى الكوفة
قيل: لما أراد الحسين المسير إلى الكوفة بكتب أهل العراق إليه أتاه عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وهو بمكة فقال له إني أتيتك لحاجة أريد ذكرها نصيحة لك فإن كنت تري أنك مستنصحي قلتها وأديت ما علي من الحق فيها وإن ظننت أنك لا مستنصحي كففت عما أريد فقال له قل فوالله ما استغشك وما أظنك بشيء من الهوى.
قال له قد بلغني أنك تريد العراق وإني مشفق عليك إنك تأتي بلدا فيه عماله وأمراؤه ومهم بيوت الأموال وإنما الناس عبيد الدينار والدرهم فلا آمن عليك أن يقاتلك من وعدك نصره ومن أنت أحب إليه ممن يقاتلك معه فقال له الحسين جزاك الله خيرا يا بن عم فقد علمت أنك مشيت بنصح وتكلمت بعقل ومهما يقض من أمر يكن أخذت برأيك أو تركته فأنت عندي أحمد مشير وأنصح ناصح.
قال وأتاه عبد الله بن عباس فقال له قد أرجف الناس أنك سائر إلى العراق فبين لي ما أنت صانع فقال له قد أجمعت السير في أحد يومي هذين إن شاء الله تعالى فقال له ابن عباس فإني أعيذك بالله من ذلك خبرني رحمك الله أتسير إلى قوم قتلوا أميرهم وضبطوا بلادهم ونفوا عدوهم فإن كانوا فعلوا ذلك فسر إليهم وإن كانوا إنما دعوك إليهم وأميرهم عليهم قاهر لهم وعماله تجبي بلادهم فإنما دعوك إلى الحرب ولا آمن عليك أن يغروك ويكذبوك ويخالفوك ويخذلوك ويستنفروا إليك فيكونوا أشد الناس عليك فقال الحسين فإني استخير الله وأنظر ما يكون.
37

فخرج ابن عباس وأتاه ابن الزبير فحدثه ساعة ثم قال ما أدري ما تركنا هؤلاء القوم وقد كففنا عنهم ونحن أبناء المهاجرين وولاة هذا الأمر دونهم خبرني ما تريد أن تصنع فقال الحسين لقد حدثت نفسي بإتيان الكوفة ولقد كتبت إلى شيعتي بها وأشراف الناس وأستخير بالله فقال له ابن الزبير أما لو كان لي بها مثل شيعتك لما عدلت عنها ثم خشي أن يتهمه فقال له أما إنك لو أقمت بالحجاز ثم أردت هذا الأمر ها هنا لما خالفنا عليك وساعدناك وبايعناك ونصحنا لك فقال له الحسين إن أبي حدثني أن لها كبشا به تستحل حرمتها فما أحب أن أكون أنا ذلك الكبش قال فأقم إن شئت وتوليني أنا الأمر فتطاع ولا تعصي قال ولا أريد هذا أيضا ثم إنهما أخفيا كلامهما [دوننا]، فالتفت الحسين إلى من هناك وقال أتدرون ما يقول قالوا لا ندري جعلنا الله فداءك قال إنه يقول أقم في المسجد أجمع لك الناس ثم قال له الحسين والله لأن أقتل خارجا منها بشبر أحب إلي من أن أقتل فيها ولأن أقتل خارجا منها بشبرين أحب إلي من أن أقتل خارجا منها بشبر أحب إلي من أن أقتل فيها ولأن أقتل خارجا منها بشبرين أحب إلي من أن أقتل خارجا منها بشبر وأيم الله لو كنت في حجر هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتى يقضوا بي حاجتهم والله ليعتدن علي كما اعتدت اليهود في السبت فقام ابن الزبير فخرج من عنده.
فقال الحسين إن هذا ليس شيء من الدنيا أحب إليه من أن أخرج من الحجاز وقد علم أن الناس لا يعدلونه بي فود أني خرجت حتى يخلو له.
قال فلما كان من العشي أو من الغد أتاه ابن عباس فقال يا بن عم إني أتصبر ولا أصبر إني أتخوف عليك في هذا الوجه الهلاك والاستئصال إن أهل العراق قوم غدر فلا تقربنهم أقم في هذا البلد فإنك سيد أهل الحجاز فإن كان أهل العراق يريدونك كما زعموا فاكتب إليهم فلينفوا عاملهم
38

وعدوهم ثم اقدم عليهم فإن أبيت إلا أن تخرج فسر إلى اليمن فإن بها حصونا وشعابا وهي أرض عريضة طويلة ولأبيك بها شيعة وأنت عن الناس في عزلة فتكتب إلى الناس وترسل وتبث دعاتك فإني أرجو أن يأتيك عند ذلك الذي تحب في عافية.
فقال له الحسين: يا بن عم إني لأعلم أنك ناصح مشفق وقد أزمعت وأجمعت المسير. فقال له ابن عباس: فإن كنت سائرا فلا تسر بنسائك وصبيتك فإني لخائف أن تقتل كما قتل عثمان ونساؤه وولده ينظرون إليه ثم قال له ابن عباس لقد أقررت عين ابن الزبير بخروجك من الحجاز وهو اليوم لا ينظر إليه أحد معك والله الذي لا إله إلا هو لو أعلم أني إن أخذت بشعرك وناصيتك حتى يجتمع علينا الناس أطعتني فأقمت لفعلت ذلك.
ثم خرج ابن عباس من عنده فمر بابن الزبير فقال قرت عينك يا بن الزبير ثم أنشد قائلا:
(يا لك من قنبرة بمعمر * خلا لك الجو فبيضي واصفري * ونقري ما شئت أن تنقري)
هذا الحسين يخرج إلى العراق ويخليك والحجاز.
وقيل وكان الحسين يقول والله لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي فإذا فعلوا سلط الله عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذل من فرام المرأة قال والفرام خرقة تجعلها المرأة في قبلها إذا حاضت.
ثم خرج الحسين يوم التروية فاعترضه رسل عمرو بن سعيد بن العاص وهو أمير على الحجاز ليزيد بن معاوية مع أخيه يحيي يمنعونه فأبي عليهم ومضي وتضاربوا بالسياط وامتنع الحسين وأصحابه فمروا بالتنعيم،
39

فرأى بها عيرا قد أقبلت من اليمن بعث بها بحير بن ريسان من اليمن إلى يزيد بن معاوية وكان عامله على اليمن وعلي العير الورس والحلل فأخذها الحسين وقال لأصحاب الإبل من أحب منكم أن يمضي معنا إلى العراق أوفينا كراءه وأحسنا صحبته ومن أحب أن يفارقنا من مكاننا أعطيناه نصيبه من الكراء فمن فارق منهم أعطاه حقه ومن سار معه أعطاه كراءه وكساه.
ثم سار، فلما انتهي إلى الصفاح لقيه الفرزدق الشاعر فقال له أعطاك الله سؤلك وأملك فيما تحب فقال له الحسين بين لي خبر الناس خلفك قال الخبير سألت قلوب الناس معك وسيوفهم مع بني أمية والقضاء ينزل من السماء والله يفعل ما يشاء فقال الحسين صدقت لله الأمر يفعل ما يشاء وكل يوم ربنا في شأن إن نزل القضاء بما نحب فنحمد الله على نعمائه وهو المستعان على أداء الشكر وإن حال القضاء دون الرجاء فلم يعتد من كان الحق نيته والتقوي سريرته.
قال وأدرك الحسين كتاب عبد الله بن جعفر مع ابنيه عون ومحمد وفيه أما بعد فإني أسألك بالله لما انصرفت حين تقرأ كتابي هذا فإني مشفق عليك من هذا الوجه أن يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك إن هلكت اليوم طفئ نور الأرض فإنك علم المهتدين ورجاء المؤمنين فلا تعجل بالسير فإني في أثر كتابي والسلام.
قيل وقام عبد الله بن جعفر إلى عمرو بن سعيد بن العاص فقال له اكتب للحسين كتابا تجعل له الأمان فيه وتمنيه فيه البر والصلة واسأله الرجوع وكان عمرو عامل يزيد على مكة ففعل عمرو ذلك وأرسل الكتاب مع أخيه يحيي بن سعيد ومع عبد الله بن جعفر فلحقاه وقرأ عليه الكتاب وجهدا أن يرجع فلم يفعل،
40

وكان مما اعتذر به إليهما أن قال إني رأيت رؤيا رأيت فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرت فيها بأمر أنا ماض له على كان أولي فقالا ما تلك الرؤيا؟ قال: ما حدثت بها أحدا وما أنا محدث بها أحدا حتى ألقي ربي.
ولما بلغ ابن زياد مسير الحسين من مكة بعث الحصين بن نمير التميمي صاحب شرطته فنزل القادسية ونظم الخيل ما بين القادسية إلى خفان وما بين القادسية إلى القطقطانة وإلي جبل لعلع فلما بلغ الحسين الحاجر كتب إلى أهل الكوفة مع قيس بن مسهر الصيداوي يعرفهم قدومه ويأمرهم بالجد في أمرهم فلما انتهي قيس إلى القادسية أخذه الحصين فبعث به إلى ابن زياد فقال له ابن زياد اصعد القصر فسب الكذاب ابن الكذاب الحسين بن علي
فصعد قيس فحمد الله وأثني عليه ثم قال إن هذا الحسين بن علي خير خلق الله ابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا رسوله إليكم وقد فارقته بالحجاز فأجيبوه ثم لعن ابن زياد وأباه واستغفر لعلي فأمر به ابن زياد فرمي من أعلي القصر فتقطع فمات.
ثم أقبل الحسين يسير نحو الكوفة فانتهى إلى ماء من مياه العرب فإذا عليه عبد الله بن مطيع فلما رآه قام إليه فقال بأبي أنت وأمي يا ابن رسول الله! ما أقدمك؟ فاحتمله فأنزله فأخبره الحسين فقال له عبد الله أذكرك الله يا ابن رسول الله وحرمة الاسلام أن أنشدك الله في حرمة قريش أنشدك الله في حرمة العرب فوالله لئن طلبت ما في أيدي بني أمية ليقتلنك ولئن قتلوك لا يهابون بعدك أحدا أبدا والله أنها لحرمة الإسلام [تنتهك] وحرمة قريش وحرمة العرب فلا تفعل ولا تأت الكوفة ولا تعرض نفسك لبني أمية فأبي إلا أن يمضي.
41

وكان زهير بن القين البجلي قد حج وكان عثمانيا فلما عاد جمعهما الطريق وكان يساير الحسين من مكة إلا أنه لا ينزل معه فاستدعاه يوما الحسين فشق عليه ذلك ثم أجابه على كره فلما عاد من عنده نقل ثقله إلى ثقل الحسين ثم قال لأصحابه من أحب منكم أن يتبعني وإلا فإنه آخر العهد وسأحدثكم حديثا غزونا بلنجر ففتح علينا وأصبنا غنائم ففرحنا وكان معنا سليمان الفارسي فقال لنا إذا أدركتم سيد شباب أهل محمد فكونوا أشد فرحا بقتالكم معه بما أصبتم اليوم من الغنائم فأما أنا فأستودعكم الله ثم طلق زوجته وقال لها الحقي بأهلك فإني لا أحب أن يصيبك في سببي إلا خير ولزم الحسين حتى قتل معه.
وأتاه خبر قتل مسلم بن عقيل بالثعلبية فقال له بعض أصحابه ننشدك الله إلا رجعت من مكانك فإنه ليس لك بالكوفة ناصر ولا شيعة بل نتخوف عليك أن يكونوا عليك فوثب بنو عقيل وقالوا والله لا نبرح حتى يدرك ثأرنا أو نذوق كما ذاق مسلم فقال الحسين لا خير في العيش بعد هؤلاء فقال له بعض أصحابه إنك والله ما أنت مثل مسلم بن عقيل ولو قدمت الكوفة لكان الناس إليك أسرع. ثم ارتحلوا فانتهوا إلى زبالة وكان لا يمر بماء إلا أتبعه من عليه حتى انتهي إلى زبالة فأتاه خبر مقتل أخيه من الرضاعة عبد الله بن بقطر وكان سرحه إلى مسلم بن عقيل من الطريق وهو لا يعلم بقتله فأخذته خيل الحصين فسيره من القادسية إلى ابن زياد فقال له اصعد فوق القصر والعن الكذاب ابن الكذاب ثم انزل حتى أرى فيك رأيي فصعد فأعلم الناس بقدوم الحسين ولعن ابن زياد وأباه فألقاه من القصر فتكسرت
42

عظامه وبقي به رمق فأتاه رجل يقال له عبد الملك بن عمير اللخمي فذبحه فلما عيب ذلك عليه قال: إنما أردت أن أريحه.
قال بعضهم لم يكن الذي ذبحه عبد الملك بن عمير ولكنه رجل يشبه عبد الملك.
فلما أتى الحسين خبر قتل أخيه من الرضاعة ومسلم بن عقيل أعلم الناس ذلك وقال قد خذلنا شيعتنا فمن أحب أن ينصرف فلينصرف ليس عليه منا ذمام فتفرقوا يمينا وشمالا حتى بقي في أصحابه الذين جاؤوا معه من مكة وإنما فعل ذلك لأنه علم أن الأعراب ظنوا أنه يأتي بلدا قد استقامت له طاعة أهله فأراد أن يعلموا عليم يقدمون عليه.
ثم سار حتى نزل بطن العقبة فلقيه رجل من العرب فقال له أنشدك الله لما انصرفت فوالله ما تقدم إلا على الأسنة وحد السيوف إن هؤلاء الذي بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤنة القتال ووطأوا لك الأشياء فقدمت عليهم لكان ذلك رأيا فأما على هذه الحال التي تذكرها فلا أرى لك أن تفعل فقال إنه لا يخفي على ما ذكرت ولكن الله عز وجل لا يغلب على أمره ثم ارتحل منها.
ذكر عدة حوادث
وفي هذه السنة حج بالناس عمرو بن سعيد العاص الأشدق وكان العامل على مكة والمدينة وفيها مات جرهد الأسلمي له صحبة. وفي أيام معاوية
43

مات حارثة بن النعمان الأنصاري وهو بدري وفي أيامه أيضا مت دحية بن خليفة الكلبي الذي كان يشبهه جبريل إذا نزل بالوحي وفي أول خلافته مات رفاعة بن رافع بن مالك بن العجلان الأنصاري وكان بدريا وشهد مع علي الجمل وصفين وفي أيامه مات عمرو بن أمية الضمري بالمدينة وفي أيامه مات عثمان بن حنيف الأنصاري وعثمان بن أبي العاص الثقفي.
وفي أيامه مات عتبان بن مالك الأنصاري شهد بدرا وفي أيام معاوية مات سهل بن الحنظلية وهو ابن الربيع الأنصاري بدمشق وفي أيامه بعد سنة سبع وخمسين مات السائب بن أبي وداعة السهمي ومات في أيامه سراقة بن عمرو الأنصاري وهو بدري وفي أيامه مات زياد بن لبيد الأنصاري في أولها وهو بدري وفي أيامه مات معقل بن يسار المزني وإليه ينسب نهر معقل بالبصرة وقيل مات في أيام يزيد.
(معقل بالعين المهملة والقاف ويسار بالياء المثناة والسين المهملة).
وفي أيامه مات ناجية بن جندب بن عمير صاحب بدن النبي صلى الله عليه وسلم وفيها مات نعيمان بن عمرو بن رفاعة الأنصاري وهو الذي كان فيه مزاح ودعابة وشهد بدرا وقيل بل الذي مات ابنه وفي آخر أيامه مات عبد الله بن مالك بن بحينة له صحبة وفيها مات عبد الله بن مغفل بن عبد غنم المزني بالبصرة.
(مغفل بضم الميم وفتح الغين المعجمة وفتح الفاء المشددة).
وفي أيامه مات هند بن جارية بن هند الأسلمي وفي سنة ستين توفي حكيم بن حزام وله مائة وعشرون سنة ستون في الجاهلية وستون في الإسلام وفيها مات أبو أسيد الساعدي واسمه مالك بن ربيعة وهو بدري،
44

وقيل مات سنة خمس وستين، وهو آخر من مات من البدريين وقيل مات سنة ثلاثين ولا يصح وفي أول أيام معاوية مات أبو بردة هانئ بن نيار البلوي حليف الأنصار وهو عقبي بدري وشهد مع علي حروبه كلها وفي أيامه مات أبو ثعلبة الخشني له صحبة وقيل مات سنة خمس وسبعين. وفي أيامه مات أبو جهم بن حذيفة العدوي القرشي في آخرها وقيل شهد بنيان الكعبة أيام ابن الزبير وكان قد شهد قريشا حين بنتها وفي أول أيامه مات أبو حثمة الأنصاري والد سهل وفي آخر أيامه مات أبو قيس الجهني شهد الفتح وفي سنة ستين توفي صفوان بن المعطل السلمي بسميساط وقيل إنه قتل شهيدا قبل هذا وفيها توفيت الكلابية التي استعاذت من النبي صلى الله عليه وسلم حين تزوجها ففارقها وكانت قد أصابها جنون وتوفي بلال بن الحارث المزني أبو عبد الرحمن وفي آخر أيامه مات وائل بن حجر الحضرمي وأبو إدريس الخولاني.
(هند بن جارية بالجيم والياء المثناة من تحتها وحارثة بن النعمان بالحاء المهملة والثاء المثلثة أبو أسيد بضم الهمزة وفتح السين).
45

61
ثم دخلت سنة إحدى وستين
ذكر مقتل الحسين رضي الله عنه
وسار الحسين من شراف فلما انتصف النهار كبر رجل من أصحابه فقال له مم كبرت؟ قال رأيت النخل فقال رجلان من بني أسد ما بهذه الأرض نخلة قط! فقال الحسين: فما هو فقالا لا نراه إلا هوادي الخيل فقال وأنا أيضا أراه ذلك وقال لهما أما لنا ملجأ نلجأ إليه نجعله في ظهورنا ونستقبل القوم من وجه واحد؟ فقالا: بلي، هذا ذو حسم إلى جنبك تميل إليه عن يسارك فإن سبقت القوم إليه فهو كما تريد فمال إليه فما كان بأسرع من أن طلعت الخيل وعدلوا إليهم فسبقهم الحسين إلى الجبل فنزل وجاء القوم وهم ألف فارس مع الحر بن يزيد التميمي ثم اليربوعي فوقفوا مقابل الحسين وأصحابه في نحر الظهيرة فقال الحسين لأصحابه وفتيانه اسقوا القوم ورشفوا الخيل ترشيفا ففعلوا وكان مجيء الحر من القادسية أرسله الحصين بن نمير التميمي في هذه الألف يستقبل الحسين فلم يزل موافقا الحسين حتى حضرت صلاة الظهر فأمر الحسين مؤذنه بالأذان فأذن وخرج الحسين إليهم فحمد الله وأثني عليه ثم قال:
46

أيها الناس إنها معذرة إلى الله وإليكم إني لم آتكم حتى أتتني كتبكم ورسلكم أن أقدم إلينا فليس لنا إمام لعل الله أن يجعلنا بك على الهدى فقد جئتكم فإن تعطوني ما اطمئن إليه من عهودكم اقدم مصركم وإن لم تفعلوا أو كنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي أقبلت منه.
فسكتوا وقالوا للمؤذن أقم فأقام وقال الحسين للحر أتريد أن تصلي أنت بأصحابك؟ فقال بل صل أنت ونصلي بصلاتك. فصلي بهم الحسين، ثم دخل واجتمع إليه أصحابه وانصرف الحر إلى مكانه ثم صلى بهم الحسين
العصر ثم استقبلهم بوجهه فحمد الله وأثني عليه ثم قال:
أما بعد أيها الناس فإنكم إن تتقوا الله وتعرفوا الحق لأهله يكن أرضى لله ونحن أهل البيت أولى بولاية هذا الأمر من هؤلاء المدعين ما ليس لهم والسائرين فيكم بالجور والعدوان فإن أنتم كرهتمونا وجهلتم حقنا وكان رأيكم غير ما أتتني به كتبكم ورسلكم انصرفت عنكم.
فقال الحر: إنا والله ما ندري ما هذه الكتب والرسل التي تذكر فأخرج خرجين مملوءين صحفا فنثرها بين أيديهم. فقال الحر: فإنا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك وقد أمرنا أنا إذا نحن لقيناك أن لا نفارقك حتى نقدمك الكوفة على عبيد الله بن زياد فقال الحسين: الموت أدني إليك من ذلك ثم أمر أصحابه فركبوا لينصرفوا فمنعهم الحر من ذلك فقال له الحسين: ثكلتك أمك! ما تريد؟ قال له أما والله لو غيرك من العرب يقولها [لي] ما تركت أمه بالثكل كائنا من كان ولكني والله ما لي إلى ذكر أمك من سبيل إلا بأحسن ما يقدر عليه فقال له الحسين ما تريد قال الحر أريد أن انطلق بك إلى ابن زياد. قال الحسين: إذن والله لا
47

أتبعك قال الحر إذن والله لا أدعك فترادا الكلام ثلاث مرات فقال له الحر إني لم أؤمر بقتالك وإنما أمرت أن لا أفارقك حتى أقدمك الكوفة، [فإذا أبيت] فخذ طريقا لا تدخلك الكوفة ولا تردك إلى المدينة حتى أكتب إلى ابن زياد وتكتب أنت إلى يزيد أو إلى ابن زياد فلعل الله أن يأتي بأمر يرزقني فيه العافية من أن أبتلي بشيء من أمرك. فتياسر عن طريق العذيب والقادسية والحر يسايره.
ثم أن الحسين خطبهم فحمد الله وأثني عليه ثم قال أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من رأى سلطانا جائرا مستحلا لحرم الله ناكثا لعهد الله مخالفا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغير ما عليه بفعل ولا قول كان حقا على الله أن يدخله مدخله ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلوا حرام الله وحرموا حلاله وأنا أحق من غيري وقد أتتني كتبكم ورسلكم ببيعتكم وأنكم لا تسلموني ولا تخذلوني فإن أقمتم على بيعتكم تصيبوا رشدكم وأنا الحسين بن علي ابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسي مع نفسكم وأهلي مع أهلكم فلكم في أسوة وإن لم تفعلوا ونقضتم عهدي وخلعتم بيعتي فلعمري ما هي لكم بنكير لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمي مسلم بن عقيل والمغرور من اغتر بكم فحظكم أخطأتم ونصيبكم ضيعتم، (ومن أنكث فإنما ينكث على نفسه) وسيغني الله عنكم والسلام.
فقال له الحر إني أذكرك الله في نفسك فإني أشهد لئن قاتلت لتقتلن.
48

فقال له الحسين: أبالموت تخوفني وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني وما أدري ما أقول لك ولكني أقول كما قال أخو الأوسي لابن عمه وهو يريد نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أين تذهب فإنك مقتول فقال:
(سأمضي وما بالموت عار على الفتي * إذا ما نوي خيرا وجاهد مسلما)
(وواسي رجالا صالحين بنفسه * وخالف مثبورا وفارق مجرما)
(فإن عشت لم أندم وإن مت لم ألم * كفي بك ذلا أن تعيش وترغما)
فلما سمع ذلك الحر تنحي عنه، فكان يسير ناحية عنه حتى انتهي إلى عذيب الهجانات كان به هجائن النعمان ترعي هناك فنسب إليها فإذا هو بأربعة نفر قد أقبلوا من الكوفة على رواحلهم يجنبون فرسا لنافع بن هلال يقال له الكامل ومعهم دليلهم طرماح بن عدي فانتهوا إلى الحسين فأقبل إليهم الحر وقال إن هؤلاء النفر من أهل الكوفة وأنا حابسهم أو رادهم فقال الحسين لأمنعنهم مما أمنع منه نفسي إنما هؤلاء أنصاري وهم بمنزلة من جاء معي فإن تممت على ما كان بيني وبينك وإلا ناجزتك.
فكف الحر عنهم فقال لهم الحسين أخبروني خبر الناس خلفكم فقال له مجمع بن عبيد الله العامري وهو أحدهم أما أشراف الناس فقد أعظمت رشوتهم وملئت غرائرهم فهم ألب واحد عليك وأما سائر الناس فقد أعظمت قلوبهم تهوي إليك وسيوفهم غدا مشهورة عليك.
49

وسألهم عن رسوله قيس بن مسهر فأخبروه بقتله وما كان منه قترقرقت عيناه بالدموع ولم يملك دمعته ثم قرأ: (فمنهم من قضي نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا) اللهم اجعل لنا ولهم الجنة واجمع بيننا وبينهم في مستقر رحمتك وغائب مذخور ثوابك.
وقال له الطرماح بن عدي والله ما أرى معك كثير أحد ولو لم يقاتلك إلا هؤلاء الذين أراهم ملازميك لكان كفي بهم ولقد رأيت قبل خروجي من الكوفة بيوم ظهر الكوفة وفيه من الناس ما لم تر عيناي جمعا في صعيد واحد أكثر منه قط ليسيروا إليك فأنشدك الله إن قدرت على أن تقدم إليهم شبرا فافعل فإن أردت أن تنزل بلدا يمنعك الله به حتى تري رأيك ويستبين لك ما أنت صانع فسر حتى أنزلك جبلنا أجأ فهو والله جبل امتنعنا به من ملوك غسان وحمير والنعمان بن المنذر ومن الأحمر والأبيض والله ما إن دخل علينا ذل قط فأسير معك حتى أنزلك [القرية]، ثم تبعث إلى الرجال ممن بأجأ وسلمي من طئ فوالله لا يأتي عليك عشرة أيام حتى يأتيك طئ رجالا وركبانا ثم أقم فينا ما بدا لك فإن هاجك هيج فأنا زعيم لك بعشرين ألف طائي يضربون بين يديك بأسيافهم فوالله لا يوصل إليك أبدا وفيهم عين تطرف. فقال له جزاك الله وقومك خيرا إنه قد كان بيننا وبين هؤلاء القوم قول لسنا نقدر معه على الانصراف ولا ندري على ما تتصرف بنا وبهم الأمور فودعه وسار إلى أهله ووعده أن يوصل الميرة إلى أهله ويعود إلى نصره ففعل ثم عاد إلى الحسين فلما بلغ عذيب الهجانات لقيه خبر قتله فرجع إلى أهله.
ثم سار إلى الحسين حتى بلغ قصر بني مقاتل فنزل به فرأى فسطاطا مضروبا فقال:
50

لمن هذا فقيل لعبيد الله بن الحر الجعفي فقال ادعوه لي فلما أتاه الرسول يدعوه قال إنا لله وإنا إليه راجعون والله ما خرجت من الكوفة إلا كراهية أن يدخلها الحسين وأنا بها والله ما أريد أن أراه ولا يراني. فعاد الحسين إلى الحسين فأخبره فلبس الحسين نعليه ثم جاء فسلم عليه ودعاه إلى نصره فأعاد عليه ابن الحر تلك المقالة قال فإلا تنصرني فاتق الله أن تكون ممن يقاتلنا فوالله لا يسمع داعيتنا أحد ثم لا ينصرنا إلا هلك فقال له أما هذا فلا يكون أبدا إن شاء الله تعالى.
ثم قام الحسين إلى رحله ثم سار ليلا ساعة فخفق برأسه خفقة ثم انتبه وهو يقول إنا لله وإنا إليه راجعون والحمد لله رب العالمين. فأقبل إليه ابنه علي بن الحسين فقال يا أبت جعلت فداك مم حمدت واسترجعت قال يا بني إني خفقت [برأسي] خفقة فعن لي فارس على فرس فقال القوم يسيرون والمنايا تسير إليهم فعلمت أن أنفسنا نعيت إلينا فقال يا أبت لا أراك الله سوءا ألسنا على الحق؟ قال: بلي والذي يرجع إليه العباد. قال: إذن لا نبالي أن نموت محقين. فقال له: جزاك الله من ولد خيرا ما جزي ولد عن والده.
فلما أصبح نزل فصلي ثم عجل الركوب فأخذ يتياسر بأصحابه يريد أن يفرقهم فأتي الحر فرده وأصحابه فجعل إذا ردهم نحو الكوفة ردا شديدا امتنعوا عليه وارتفعوا فلم يزالوا يتياسرون حتى انتهوا إلى نينوى المكان الذي نزل به الحسين فلما نزلوا إذا راكب مقبل من الكوفة فوقفوا ينتظرونه فسلم على الحر ولم يسلم على الحسين وأصحابه ودفع إلى الحر كتابا من ابن زياد فإذا فيه أما بعد فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي ويقدم عليك
51

رسولي فلا تنزله إلا بالعراء في غير حصن وعلي غير ماء وقد أمرت رسولي أن يلزمك فلا يفارقك حتى يأتيني بإنفاذك أمري والسلام.
فلما قرأ الكتاب قال لهم الحر: هذا كتاب الأمير يأمرني أن أجعجع بكم في المكان الذي يأتيني فيه كتابي وقد أمر رسوله أن لا يفارقني حتى أنفذ رأيه وأمره وأخذهم الحر بالنزول على غير ماء ولا في قرية فقالوا دعنا ننزل في نينوى أو الغاضرية أو شفية فقال لا أستطيع هذا الرجل قد بعث عينا علي فقال زهير بن القين للحسين إنه لا يكون والله بعد ما ترون إلا ما هو أشد منه يا ابن رسول الله وإن قتال هؤلاء الساعة أهون علينا من قتال من يأتينا من بعدهم فلعمري ليأتينا من بعدهم ما لا قبل لنا به فقال الحسين ما كنت لأبدأهم بالقتال فقال له زهير سر بنا إلى هذه القرية حتى ننزلها فإنها حصينة وهي على شاطئ الفرات فإن منعونا قاتلناهم فقتالهم أهون علينا من قتال من يجئ بعدهم فقال الحسين ما هي قال العقر قال اللهم إني أعوذ بك من العقر ثم نزل وذلك يوم الخميس الثاني من محرم سنة إحدى وستين.
فلما كان الغد قدم عليهم عمر بن سعد بن أبي وقاص من الكوفة في أربعة آلاف وكان سببه مسيره إليه أن عبيد الله بن زياد كان قد بعثه على أربعة آلاف إلى دستبى وكانت الديلم قد خرجوا إليها وغلبوا عليها وكتب له عهده
على الري فعسكر بالناس في حمام أعين فلما كان من أمر الحسين ما كان دعا ابن زياد عمر بن سعد وقال له سر إلى الحسين فإذا فرغنا مما بينا وبينه سرت إلى عملك فاستعفاه فقال نعم على أن ترد عهدنا فلما قال له ذلك قال أمهلني اليوم حتى أنظر فاستشار نصحاءه فكلهم نهاه وأتاه حمزة بن المغيرة بن شعبة وهو ابن أخته فقال أنشدك الله يا خالي
52

أن لا تسير إلى الحسين فتأثم وتقطع رحمك فوالله لأن تخرج من دنياك ومالك وسلطان الأرض لو كان لك خير من أن تلقي الله بدم الحسين فقال أفعل وبات ليلته مفكرا في أمره فسمع وهو يقول:
(أأترك ملك الري والري رغبة * أم أرجع مذموما بقتل حسين)
(وفي قتله النار التي ليس دونها * حجاب وملك الري قرة عين)
ثم أتى ابن زياد فقال له إنك وليتني هذا العمل وسمع الناس به فإن رأيت أن تنفذ لي ذلك فافعل وابعث إلى الحسين من أشراف الكوفة من لست أغني في الحرب منه وسمي أناسا فقال له ابن يزيد لست أستأمرك فيمن أريد أن أبعث فإن سرت بجندنا وإلا فابعث إلينا بعهدنا قال فإني سائر. فأقبل في ذلك الجيش حتى نزل بالحسين فلما نزل به بعث إليه رسولا يسأله ما الذي جاء به فقال الحسين كتب إلى أهل مصركم هذا أن أقدم عليهم فأما إذ كرهوني فإني أنصرف عنهم فكتب عمر إلى ابن زياد يعرفه ذلك فلما قرأ ابن زياد الكتاب قال:
(الآن إذ علقت مخالبنا به * يرجو النجاة ولات حين مناص)
ثم كتب إلى عمر يأمره أن يعرض على الحسين بيعة يزيد فإذا فعل ذلك رأينا رأينا وأن يمنعه ومن معه الماء فأرسل عمر بن سعد عمرو بن الحجاج على خمسمائة فارس، فنزلوا على الشريعة وحالوا بن الحسين وبين الماء وذلك قبل قتل الحسين بثلاثة أيام ونادى عبد الله بن أبي الحصين الأزدي وعداده في بجيلة يا حسين أما تنظر إلى الماء؟ كأنه كبد السماء والله لا تذوق منه قطرة حتى تموت عطشا!
53

فقال الحسين: اللهم اقتله عطشا ولا تغفر له أبدا قال فمرض فيما بعد فكان يشرب ماء القلة ثم يقيء ثم يعود فيشرب حتى يتغرغر ثم يقيء ثم يشرب فما يروي فما زال كذلك حتى مات.
فلما اشتد العطش على الحسين وأصحابه أم أخاه العباس بن علي فسار في عشرين راجلا يحملون القرب وثلاثين فارسا فدنوا من الماء فقاتلوا عليه وملأوا القرب وعادوا، ثم بعث الحسين إلى عمرو بن سعد عمرو بن قرظة بن كعب الأنصاري أن القني الليلة بين عسكري وعسكرك فخرج إليه عمر فاجتمعا وتحادثا طويلا ثم انصرف كل واحد منهما إلى عسكره وتحدث الناس أن الحسين قال لعمر بن سعد اخرج معي إلى يزيد بن معاوية وندع العسكرين فقال عمر أخشى أن تهدم داري قال أبنيها لك خيرا منها قال تؤخذ ضياعي قال أعطيك خيرا منها من مالي بالحجاز فكره ذلك عمر.
وتحدث الناس بذلك ولم يسمعوه، وقيل بل قال له اختاروا مني واحدة من ثلاث إما إن أرجع إلى المكان الذي أقبلت منه وإما أن أضع يدي في يد يزيد بن معاوية فيري فيما بيني وبين رأيه وإما أن تسيروا بي إلى أي ثغر من ثغور المسلمين شئتم فأكون رجلا من أهله لي ما لهم وعلي ما عليهم.
وقد روي عن عقبة بن سمعان أنه قال صحبت من المدينة إلى مكة ومن مكة إلى العراق ولم أفارقه حتى قتل وسمعت جميع مخاطباته الناس إلى يوم مقتله فوالله ما أعطاهم ما يتذاكر به الناس من أنه يضع يده في يد يزيد ولا أن يسيروه إلى ثغر من ثغور المسلمين ولكنه قال دعوني أرجع إلى
54

المكان الذي أقبلت منه أو دعوني أذهب في هذه الأرض العريضة حتى ننظر إلى ما يصير إليه أمر الناس فلم يفعلوا.
ثم التقي الحسين وعمر بن سعد مرارا ثلاثا أو أربعا فكتب عمر بن سعد إلى عبيد الله بن زياد أما بعد فإن الله أطفأ النائرة وجمع الكلمة وقد أعطاني الحسين أن يرجع إلى المكان الذي أقبل منه أو أن نسيره إلى أي ثغر من الثغور شئنا أو أن يأتي يزيد أمير المؤمنين فيضع يده في يده وفي هذا لكم رضا وللأمة صلاح. فلما قرأ ابن زياد الكتاب قال هذا كتاب رجل ناصح لأميره مشفق على قومه نعم قد قبلت.
فقام إليه شمر بن ذي الجوشن فقال أتقبل هذا منه وقد نزل بأرضك وإلي جنبك والله لئن رحل من بلادك ولم يضع يده في يدك ليكونن أولي بالقوة والعزة ولتكونن أولي بالضعف والعجز، [فلا تعطه هذه المنزلة فإنها من الوهن]، ولكن لينزل على حكمك هو وأصحابه فإن عاقبت كنت ولي العقوبة وإن عفوت كان ذلك لك والله لقد بلغني أن الحسي وعمر يتحدثان عامة الليل بين العسكرين.
فقال ابن زياد: نعم ما رأيت اخرج بهذا الكتاب إلى عمر فليعرض على الحسين وأصحابه النزول على حكمي فإن فعلوا فليبعث بهم إلى سلما وإن أبوا فليقاتلهم وإن فعل فاسمع له وأطع وإن أبي فأنت الأمير عليه وعلي الناس واضرب عنقه وابعث إلي برأسه. وكتب معه إلى عمر بن سعد أما بعد فإني لم أبعثك إلى الحسين لتكف عنه ولا لتمنيه ولا لتطاوله ولا لتقعد له عندي شافعا انظر فإن نزل الحسين وأصحابه على الحكم واستسلموا فابعث بهم إلى سلما وإن أبوا فازحف إليهم حتى تقتلهم وتمثل بهم فإنهم لذلك مستحقون فإن قتل الحسين فأوطئ الخيل صدره وظهره فإنه عاق شاق قاطع ظلوم
55

فإن أنت مضيت لأمرنا جزيناك جزاء السامع المطيع وإن أنت أبيت فاعتزل جندنا وخل بين شمر وبين العسكر والسلام.
فلما أخذ شمر الكتاب كان معه عبد الله بن أبي المحل بن حزام عند ابن زياد وكانت عمته أم البنين بنت حزام عند علي فولدت له العباس وعبد الله وجعفرا وعثمان فقال لابن زياد إن رأيت أن تكتب لبني أختنا أمانا فافعل فكتب لهم أمانا فبعث به مع مولي له إليهم فلما رأوا الكتاب قالوا لا حاجة لنا في أمانكم أمان الله خير من أمان ابن سمية. فلما أتى شمر بكتاب ابن زياد إلى عمر قال له ما لك ويلك قبح الله ما جئت به والله إني لأظنك أنت ثنيته أن يقبل ما كنت كتبت إليه به أفسدت علينا أمرا كنا رجونا أن يصلح والله لا يستسلم الحسين أبدا والله إن نفس أبيه لبين جنبيه فقال له شمر ما أنت صانع قال أتولي ذلك ونهض إليه عشية الخميس لتسع مضين من المحرم وجاء شمر فدعا العباس بن علي وإخوته فخرجوا إليه فقال أنتم يا بني أختي آمنون فقالوا له لعنك الله ولعن أمانك لئن كنت خالنا أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له؟
ثم ركب عمرو والناس معه بعد العصر والحسين جالس أمام بيته محتبيا برأسه إذ خفق برأسه علي ركبته وسمعت أخته زينب الضجة فدنت منه فأيقظته فرفع رأسه فقال إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال إنك تروح إلينا قال فلطمت أخته وجهها وقالت يا ويلتاه قال ليس لك الويل يا أخية اسكتي رحمك الله قال له العباس أخوه يا أخي أتاك القوم فنهض فقال يا أخي أركب بنفسي فقال له العباس بل أروح أنا فقال أركب أنت حتى تلقاهم فتقول ما لكم وما بدا لكم وتسألهم عما جاء بهم فأتاهم في نحو عشرين فارسا فيهم زهير بن القين فسألهم،
56

فقالوا جاء [أمر] الأمير بكذا وكذا. قال فلا تعجلوا حتى أرجع إلى أبي عبد الله فأعرض عليه ما ذكرتم فوقفوا ورجع العباس إليه بالخبر ووقف أصحابه يخاطبون القوم ويذكرونهم الله فلما أخبره العباس بقولهم قال له الحسين ارجع إليهم فإن استطعت أن تؤخرهم إلى غدوة لعلنا نصلي لربنا هذه الليلة وندعوه ونستغفره فهو يعلم أني كنت أحب الصلاة له وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والاستغفار وأراد الحسين أيضا أن يوصي أهله فرجع إليهم العباس وقال لهم انصرفوا عنا العشية حتى ننظر في هذا الأمر فإذا أصبحنا التقينا إن شاء الله فإما رضيناه وإما رددناه.
فقال عمر بن سعد ما تري يا شمر قال أنت الأمير فأقبل على الناس فقال ما ترون فقال له عمرو بن الحجاج الزبيدي سبحان الله والله لو كان من الديلم ثم سألكم هذه المسألة لكان ينبغي أن تجيبوهم وقال قيس بن الأشعث بن قيس أجبهم لعمري ليصبحنك بالقتال غدوة فقال لو أعلم أن يفعلوا ما أخرتهم العشية ثم رجع عنهم.
فجمع الحسين أصحابه بعد رجوع عمر فقال أثني على الله أحسن الثناء أحمده على السراء والضراء اللهم إني أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة وجعلت لنا أسماعا وأبصارا وأفئدة وعلمتنا القرآن وفقهتنا في الدين فاجعلنا لك من الشاكرين أما بعد فإني لا أعلم أصحابا أوفي ولا أخير من أصحابي ولا أهل بيت أبر ولا أوصل من أهل بيتي فجزاكم الله جميعا عني خيرا ألا وإني لأظن يومنا من هؤلاء الأعداء غدا وإني قد أذنت لكم جميعا فانطلقوا في
حل ليس عليكم مني ذمام هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه وليأخذ كل
57

رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي فجزاكم الله جميعا خيرا ثم تفرقوا في البلاد في سوادكم ومدائنكم حتى يفرج الله فإن القوم يطلبوني ولو أصابوني لهوا عن طلب غيري فقال له أخوته وأبناؤه وأبناء إخوته وأبناء عبد الله بن جعفر لم نفعل؟ هذا لنبقي! بعدك لا أرانا الله ذلك أبدا فقال الحسين يا بني عقيل حسبكم من القتل بمسلم اذهبوا فقد أذنت لكم قالوا وما نقول للناس نقول تركنا شيخنا وسيدنا وبني عمومتنا خير الأعمام ولم نرم معهم بسهم ولم نطعن معهم برمح ولم نضرب بسيف ولا ندري ما صنعوا لا والله لا نفعل ولنا نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا ونقاتل معك حتى نرد موردك فقبح الله العيش بعدك!
وقام إليه مسلم بن عوسجة الأسدي فقال أنحن نتخلى عنك ولم نعذر إلى الله في أداء حقك أما والله لا أفارقك حتى أكسر في صدورهم رمحي وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي والله لو لم يكن معي سلاحي لقذفتهم بالحجارة دونك حتى أموت معك.
وتكلم أصحابه بنحو هذا، فجزاهم الله خيرا.
وسمعته أخته تلك العشية وهو في خباء له يقول وعنده حوي مولي أبي ذر الغفاري يعالج سيفه:
(يا دهر أف [لك] من خليل * كم لك بالإشراق والأصيل)
(من صاحب أو طالب قتيل * والدهر لا يقنع بالبديل)
(وإنما الأمر إلى الجليل * وكل حي سالك السبيل)
فأعادها مرتين أو ثلاثا فلما سمعته لم تملك نفسها أن وثبت تجر ثوبها
58

حتى انتهت إليه ونادت: وا ثكلاه! ليت الموت أعدمني الحياة اليوم ماتت فاطمة أمي وعلي أبي وحسن أخي يا خليفة الماضي وثمال الباقي! فذهب فنظر إليها وقال: يا أخية لا يذهبن حلمك الشيطان قال بأبي أنت وأمي استقلت نفسي لنفسك الفداء فردد غصته وترقرقت عيناه ثم قال لو ترك القطا ليلا لنام فلطمت وجهها وقالت وا ويلتاه أفتغصبك نفسك اغتصابا فذلك أقرح لقلبي وأشد على نفسي ثم لطمت وجهها وشقت جيبها وخرت مغشيا عليها فقام إليها الحسين فصب الماء على وجهها وقال اتقي الله وتعزي بعزاء الله واعلمي أن أهل الأرض يموتون وأهل السماء لا يبقون وأن كل شيء هالك إلا وجه الله أبي خير مني وأمي خير مني وأخي خير مني لي ولهم ولكل مسلم برسول الله أسوة. فعزاها بهذا ونحوه وقال لها يا أخية إني أقسم عليك فأبري قسمي لا تشقي علي جيبا ولا تخمشي علي وجها ولا تدعي علي بالويل والثبور إن أنا هلكت.
ثم خرج إلى أصحابه فأمرهم أن يقربوا بعض بيوتهم من بعض وأن يدخلوا الأطناب بعضها في بعض ويكونوا بين يدي البيوت فيستقبلوا القوم من وجه واحد والبيوت على أيمانهم وعن شمائلهم ومن ورائهم.
فلما أمسوا قاموا الليل كله يصلون ويستغفرون ويتضرعون ويدعون. فلما صلى عمر بن سعد الغداة يوم السبت وقيل الجمعة يوم عاشوراء خرج فيمن معه من الناس وعبأ الحسين أصحابه وصلى بهم صلاة الغداة وكان معه اثنان وثلاثون فارسا وأربعون راجلا، فجعل زهير بن القين في ميمنة أصحابه وحبيب بن مطهر في ميسرتهم وأعطي رايته العباس أخاه وجعلوا البيوت في ظهورهم وأمر بحطب وقصب فألقي في مكان منخفض
59

من ورائهم كأنه ساقية عملوه في ساعة من الليل لئلا يؤتوا من ورائهم وأضرم نارا فنفعهم ذلك.
وجعل عمر بن سعد على ربع أهل المدينة عبد الله بن زهير الأزدي وعلي ربع ربيعة وكندة قيس بن الأشعث بن قيس وعلي ربع مذحج وأسد عبد الرحمن بن أبي سبرة الجعفي وعلي ربع تميم وهمدان الحر بن يزيد الرياحي فشهد هؤلاء كلهم مقتل الحسين إلا الحر بن يزيد فإنه عدل إلى الحسين وقتل معه، وجعل عمر على ميمنته عمرو بن الحجاج الزبيدي وعلي ميسرته شمر بن ذي الجوشن وعلي الخيل عروة بن قيس الأحمسي وعلي الرجال شبت بن ربعي اليربوعي التميمي وأعطي الراية دريدا مولاه.
فلما دنوا من الحسين أمر فضرب له فسطاط ثم أمر بمسك فميث في جفنة ثم دخل الحسين فاستعمل النورة ووقف عبد الرحمن بن عبد ربة وبرير بن حضير الهمداني على باب الفسطاط وازدحما أيهما يطلي بعده فجعل يزيد يهازل عبد الرحمن فقال له والله ما هذه بساعة باطل فقال يزيد والله إن قومي لقد علموا أني ما أحببت الباطل شابا ولا كهلا ولكني مستبشر بما نحن لاقون والله ما بيننا وبين الحور العين إلا أن يميل هؤلاء بأسيافهم. فلما فرغ الحسين دخلا ثم ركب الحسين دابته ودعا بمصحف فوضعه أمامه واقتتل أصحابه بين يديه فرفع يديه ثم قال اللهم أنت ثقتي في كل كرب ورجائي في كل شدة وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدة كم من هم يضعف فيه الفؤاد وتقل فيه الحيلة ويخذل فيه الصديق ويشمت به
60

العدو أنزلته بك وشكوته إليك رغبة إليك عمن سواك ففرجته وكشفته وكفيتنيه فأنت ولي كل نعمة وصاحب كل حسنة ومنتهى كل رغبة.
فلما رأى أصحاب عمر النار تلتهب في القصب نادى شمر الحسين تعجلت النار في الدنيا قبل القيامة! فعرفه الحسين فقال أنت أولي بها صليا!
ثم ركب الحسين راحلته وتقدم إلى الناس ونادى بصوت عال يسمعه كل الناس فقال: أيها الناس اسمعوا قولي ولا تعجلوني حتى أعظكم بما يجب لكم علي وحتى اعتذر إليكم من مقدمي عليكم فإن قبلتم عذري وصدقتم قولي وأنصفتموني كنتم بذلك أسعد ولم يكن لكم علي سبيل وأن لم تقبلوا مني العذر (فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون) (إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين)! قال فلما سمع أخواته قوله بكين وصحن وارتفعت أصواتهن فأرسل إليهم أخاه العباس وابنه عليا ليسكتاهن وقال لعمري ليكثرن بكاؤهن فلما ذهبا قال لا يبعد ابن عباس وإنما قالها حين سمع بكاءهن لأنه كان نهاه أن يخرج بهن معه.
فلما سكتن حمد الله وأثنى عليه وصلى على محمد وصلى على الملائكة والأنبياء وقال ما لا يحصي كثرة فما سمع أبلغ منه ثم قال: أما بعد فانسبوني فانظروا من أنا ثم راجعوا أنفسكم فعاتبوها وانظروا هل يصلح ويحل لكم قتلي وانتهاك حرمتي ألست ابن بنت نبيكم وابن وصيه وابن عمه، وأولي المؤمنين
61

بالله والمصدق لرسوله؟ أوليس حمزة سيد الشهداء عم أبي أوليس جعفر الشهيد الطيار في الجنة عمي أو لم يبلغكم قول مستفيض [فيكم]: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي ولأخي أنتما سيد شباب أهل الجنة وقرة عين أهل السنة؟ فإن صدقتموني بما أقول وهو الحق والله ما تعمدت كذبا مذ علمت أن الله يمقت عليه وإن كذبتموني فإن فيكم من إن سألتموه عن ذلك أخبركم سلوا جابر بن عبد الله أو أبا سعيد أو سهل بن سعد أو زيد بن أرقم أو أنسا يخبروكم أنهم سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أما في هذا حاجز يحجزكم عن سفك دمي؟
فقال له شمر: وهو يعبد الله على حرف إن كان يدري ما يقول فقال له حبيب بن مطهر والله إني أراك تعبد الله على سبعين حرفا وإن الله قد طبع على قلبك فلا تدري ما تقول.
ثم قال الحسين: فإن كنتم في شك مما أقول أو تشكون في أني ابن بنت نبيكم فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري منكم ولا من غيركم أخبروني أتطلبوني بقتيل منكم قتلته أو بمال لكم استهلكته أو قصاص من جراحة فلم يكلموه فنادي يا شبث بن ربعي ويا حجار بن أبجر ويا قيس بن الأشعث ويا زيد بن الحارث ألم تكتبوا لي في القدوم عليكم قالوا لم نفعل ثم قال بلي والله قد فعلتم ثم قال أيها الناس إذ كرهتموني فدعوني أنصرف إلى مأمني من الأرض.
قال: فقال له قيس بن الأشعث: أولا تنزل على حكم ابن عمك يعني ابن زياد فإنك لن تري إلا ما تحب فقال له الحسين أنت أخو أخيك أتريد أن يطلبك بنو هاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل؟ لا والله ولا أعطيهم
62

بيدي إعطاء الذليل، ولا أقر إقرار العبد عباد الله إني عذت بربي وربكم أن ترجموني أعوذ بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب. ثم أناخ راحلته ونزل عنها.
وخرج زهير بن القين على فرس له في السلاح فقال: يا أهل الكوفة نذار لكم من عذاب الله نذار إن حقا على المسلم نصيحة المسلم ونحن حتى الآن أخوة على دين واحد ما لم يقع بيننا وبينكم السيف وأنتم للنصيحة منا أهل فإذا وقع السيف انقطعت العصمة وكنا نحن أمة وأنتم أمة إن الله قد ابتلانا وإياكم بذرية نبيه محمد لينظر ما نحن
فاعلون وأنتم عاملون إنا ندعوكم إلى نصره وخذلان الطاغية ابن الطاغية عبيد الله بن زياد فإنكم لا تدركون منهما إلا سوءا يسملان أعينكم ويقطعان أيديكم وأرجلكم ويمثلان بكم ويرفعانكم على جذوع النخل ويقتلان أمثالكم وقراءكم أمثال حجر بن عدي وأصحابه وهانئ بن عروة وأشباهه!
قال: فسبوه وأثنوا على ابن زياد وقالوا والله لا نبرح حتى نقتل صاحبك ومن معه أو نبعث به وبأصحابه إلى الأمير عبيد الله بن زياد سلما. فقال لهم: يا عباد الله إن ولد فاطمة رضوان الله عليها أحق بالود والنصر من ابن سمية فإن كنتم لا تنصرون فأعيذكم بالله أن تقتلوهم خلوا بين الرجل وبين ابن عمه يزيد بن معاوية فلعمري إن يزيد ليرضي من طاعتكم بدون قتل الحسين فرماه شمر بسهم وقال اسكت أسكت الله نأمتك، أبرمتنا بكثرة كلامك! فقال زهير: يا بن البوال على عقبيه! ما إياك أخاطب إنما أنت بهيمة! والله ما أظنك تحكم من كتاب الله آيتين وأبشر بالخزي يوم القيامة والعذاب الأليم فقال شمر: إن الله قاتلك وصاحبك عن ساعة. قال: أفبالموت
63

تخوفني والله للموت معه أحب إلي من الخلد معكم! ثم رفع صوته وقال: عباد الله لا يغرنكم من دينكم هذا الجلف الجافي فوالله لا تنال شفاعة محمد قوما أهرقوا دماء ذريته وأهل بيته وقتلوا من نصرهم وذب عن حريمهم فأمره الحسين فرجع.
ولما زحف عمر نحو الحسين أتاه الحر بن يزيد فقال له أصلحك الله! أمقاتل أنت هذا الرجل؟ قال له: أي أي والله قتالا أيسره أن تسقط الرؤوس وتطيح الأيدي. قال: أفما لكم في واحدة من الخصال التي عرض عليكم رضى؟ فقال عمر بن سعد: والله لو كان الأمر إلي لفعلت لكن أميرك قد أبي ذلك. فأقبل يدنو نحو الحسين قليلا قليلا وأخذته رعدة فقال له رجل من قومه يقال له المهاجر بن أوس والله إن أمرك لمريب والله ما رأيت منك في موقف قط مثل ما أراه الآن ولو قيل من أشجع أهل الكوفة لما عدوتك فقال له إني والله أخير نفسي بين الجنة والنار ولا أختار على الجنة شيئا ولو قطعت وحرقت ثم ضرب فرسه فلحق بالحسين فقال له جعلني الله فداك يا ابن رسول الله أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع وسايرتك في الطريق وجعجعت بك في هذا المكان ووالله الذي لا إله إلا هو ما ظننت أن القوم يردون عليك ما عرضت عليهم أبدا ولا يبلغون منك هذه المنزلة أبدا فقلت في نفسي لا أبالي أن أطيع القوم في بعض أمرهم ولا يرون أني خرجت من طاعتهم وأما هم فيقبلون بعض ما تدعوهم إليه ووالله لو طننت أنهم لا يقبلونها منك ما ركبتها منك وإني قد جئتك تائبا مما كان مني إلى ربي مواسيا لك بنفسي حتى أموت بين يديك أفتري ذلك توبة قال نعم يتوب الله عليك ويغفر لك.
وتقدم الحر أمام أصحابه ثم قال أيها القوم ألا تقبلون من الحسين خصلة من هذه الخصال التي عرض عليكم فيعافيكم الله من حربه وقتاله فقال عمر:
64

لقد حرصت لو وجدت إلى ذلك سبيلا. فقال: يا أهل الكوفة لأمكم الهبل والعبر أدعوتموه حتى إذا أتاكم أسلمتموه وزعمتم أنكم قاتلوا أنفسكم دونه ثم عدوتم عليه لتقتلوه أمسكتم بنفسه وأحطتم به ومنعتموه من التوجه في بلاد الله العريضة حتى يأمن ويأمن أهل بيته فأصبح كالأسير لا يملك لنفسه نفعا ولا يدفع عنها ضرا ومنعتموه ومن معه عن ماء الفرات الجاري يشربه اليهودي والنصراني والمجوسي ويتمرغ فيه كلاب السواد وكلابه وها هو وأهله قد صرعهم العطش بئسما خلفتم محمدا في ذريته لا سقاكم الله يوم الظمأ إن لم تتوبوا وتنزعوا عما أنتم عليه فرموه بالنبل فرجع حتى وقف أمام الحسين.
ثم قدم عمر بن سعد برايته وأخذ سهما فرمي به وقال اشهدوا لي أني أول رام! ثم رمى الناس، وبرز يسار. مولى زياد، وسالم، مولى عبيد الله، وطلبا البراز، فخرج إليهما عبد الله بن عمير الكلبي وكان قد أتى الحسين من الكوفة وسارت معه امرأته فقالا له من أنت فتنسب لهما فقالا لا نعرفك ليخرج إلينا زهير بن القين أو حبيب بن مطهر أو برير بن خضير وكان بسار أمام سالم فقال له الكلبي: يا ابن الزانية وبك رغبة عن مبارزة أحد من الناس، و [ما] يخرج إليك أحد إلا وهو خير منك ثم حمل عليه فضربه بسيفه حتى برد فاشتغل به يضربه فحمل عليه سالم فلم يأبه له حتى غشيه فضربه فاتقاه الكلبي بيده فأطار أصابع كفه اليسرى ثم مال عليه الكلبي فضربه حتى قتله وأخذت امرأته عمودا وكانت تسمي أم وهب وأقبلت نحو زوجها وهي تقول فداك أبي وأمي قاتل دون الطيبين ذرية محمد فردها نحو النساء فامتنعت وقالت لن أدعك دون أن أموت معك فناداها
65

الحسين فقال: جزيتم من أهل بيت خيرا! ارجعي رحمك الله، ليس الجهاد إلى النساء. فرجعت.
فزحف عمرو بن الحجاج في ميمنة عمر فلما دنا من الحسين جثوا له على الركب واشرعوا الرماح نحوهم فلم تقدم خيولهم على الرماح فذهبت الخيل لترجع فرشقوهم بالنبل فصرعوا منهم رجالا وجرحوا آخرين.
وتقدم رجل منهم يقال له ابن حوزة فقال أفيكم الحسين فلم يجبه أحد فقالها ثلاثا، فقالوا: نعم، فما حاجتك؟ قال يا حسين أبشر بالنار! قال له كذبت بل أقدم على رب رحيم وشفيع مطاع فمن أنت قال ابن حوزة. فرفع الحسين يديه فقال اللهم حزه إلى النار فغضب ابن حوزة فأقحم فرسه في نهر فتعلقت قدمه بالركاب وجالت به الفرس فسقط عنها فانقطعت فخده وساقه وقدمه وبقي جنبه الآخر متعلقا بالركاب يضرب به كل حجر وشجر حتى مات.
وكان مسروق بن وائل الحضرمي قد خرج معهم وقال لعلي أصيب رأس الحسين فأصيب به منزلة عند ابن زياد فلما رأى ما صنع الله بابن حوزة بدعاء الحسين رجع وقال لقد رأيت من أهل هذا البيت شيئا لا أقاتلهم أبدا.
ونشب القتال وخرج يزيد بن معقل حليف عبد القيس فقال يا برير بن خضير كيف تري الله صنع بك قال والله لقد صنع بي خيرا وصنع بك شرا فقال كذبت وقبل اليوم ما كنت كذابا وأنا أشهد أنك من الضالين. فقال له ابن خضير هل لك أن أباهلك أن يلعن الله الكاذب ويقتل المبطل، ثم أخرج أبارزك! فخرجا فتباهلا أن يلعن الله الكاذب ويقتل المحق المبطل ثم تبارزا فاختلفا ضربتين فضرب يزيد بن معقل برير بن خضير فلم يضره شيئا وضربه ابن خضير ضربة قدت المغفر وبلغت الدماغ فسقط والسيف في رأسه فحمل عليه رضي بن منقذ العبدي فاعتنق ابن خضير فاعتركا ساعة ثم إن
66

ابن خضير قعد على صدره فحمل كعب بن جابر الأزدي عليه بالرمح فوضعه في ظهره حتى غيب السنان فيه فلما وجد مس الرمح نزل عن رضي فعض أنفه وقطع طرفه وأقبل إليه كعب بن جابر فضربه بسيفه حتى قتله وقام رضي ينفض التراب عن قبائه فلما رجع كعب قالت له امرأته أعنت علي ابن فاطمة وقتلت بريرا سيد القراء، [والله] لا أكلمك أبدا!
وخرج عمرو بن قرظة الأنصاري وقاتل دون الحسين فقتل وكان أخوه مع عمر بن سعد فنادي يا حسين يا كذاب ابن الكذاب أضللت أخي وغررته حتى قتلته! فقال إن الله لم يضل أخاك بل هداه وأضلك قال قتلني الله إن لم أقتلك أو أموت دونك فحمل واعترضه نافع بن هلال المرادي فطعنه فصرعه فحمل أصحابه فاستنقذوه [فدووي بعد] فبرأ.
وقاتل الحر بن يزيد مع الحسين قتالا شديدا وبرز إليه يزيد بن سفيان فقتله الحر وقاتل نافع بن هلال مع الحسين أيضا فبرز إليه مزاحم بن حريث فقتله نافع.
فصاح عمرو بن الحجاج بالناس أتدرون من تقاتلون فرسان المصر قوما مستميتين لا يبرز إليهم منكم أحد فإنهم قليل وقلما يبقون والله لو لم ترموهم إلا بالحجارة لقتلتموهم يا أهل الكوفة الزموا طاعتكم وجماعتكم لا ترتابوا في قتل من مرق من الدين وخالف الإمام فقال عمر الرأي ما رأيت ومنع الناس من المبارزة قال وسمعه الحسين فقال يا عمرو بن الحجاج أعلي تحرض الناس؟ أنحن مرقنا من الدين أم أنتم والله لتعلمن لو قبضت أرواحكم ومتم على أعمالكم أينا المارق.
ثم حمل عمرو بن الحجاج على الحسين من نحو الفرات فاضطربوا ساعة فصرع مسلم بن عوسجة الأسدي وانصرف عمرو ومسلم صريع فمشي إليه الحسين وبه رمق فقال رحمك الله يا مسلم بن عوسجة، (فمنهم من
67

قضي نحبه ومنهم من ينتظر) ودنا منه حبيب بن مطهر وقال عز علي مصرعك أبشر بالجنة ولولا أني أعلم أنني في أثرك لاحق بك لأحببت أن توصيني حتى أحفظك بما أنت له أهل. فقال: أوصيك بهذا، رحمك الله، وأومأ بيده نحو الحسين أن تموت دونه فقال أفعل ثم مات مسلم وصاحت جارية له فقالت يا بن عوسجة فنادي أصحاب عمرو قتلنا مسلما فقال شبث لبعض من حوله ثكلتكم أمهاتكم إنما تقتلون أنفسكم بأيديكم وتذلون أنفسكم لغيركم أتفرحون بقتل مثل مسلم أما والذي أسلمت له لرب موقف له قد رأيته في المسلمين فلقد رأيته يوم سلق
أذربيجان قتل ستة من المشركين قبل أن تنام خيول المسلمين أفيقتل مثله وتفرحون؟
وكان الذي قتله مسلم بن عبد الله الضبابي وعبد الرحمن بن أبي خشكارة البجلي.
وحمل شمر في الميسرة فثبتوا له وحملوا على الحسين وأصحابه من كل جانب فقتل الكلبي وقد قتل رجلين بعد الرجلين الأولين وقاتل قتالا شديدا فقتله هانئ بن ثبيت الحضرمي وبكير بن حي التميمي من تيم الله بن ثعلبة وقاتل أصحاب الحسين قتالا شديدا وهم اثنان وثلاثون فارسا فلم تحمل على جانب من خيل الكوفة إلا كشفته فلما رأى ذلك عروة بن قيس وهو على خيل الكوفة بعث إلى عمر فقال ألا تري ما تلقي خيلي هذا اليوم من هذه العدة اليسيرة ابعث إليهم الرجال والرماة فقال لشبث بن ربعي ألا تقدم إليهم فقال سبحان الله شيخ مضر وأهل المصر عامة تبعثه في الرماة لم تجد لهذا غيري ولم يزالوا يرون من شبث الكراهة للقتال حتى أنه كان يقول في إمارة مصعب لا يعطي الله أهل هذا المضر خيرا أبدا ولا يسددهم لرشد،
68

ألا تعجبون أنا قاتلنا مع علي بن أبي طالب ومع ابنه الحسن آل أبي سفيان خمس سنين ثم عدونا على ابنه وهو خير أهل الأرض نقاتله مع آل معاوية وابن سمية الزانية ضلال يا لك من ضلال!
فلما قال شبث ذلك دعا عمر بن سعد الحصين بن نمير فبعث معه المجففة وخمسمائة من المرامية فلما دنوا من الحسين وأصحابه رشقوهم بالنبل فلم يلبثوا أن عقروا خيولهم وصاروا رجالة كلهم وقاتل الحر بن يزيد راجلا قتالا شديدا فقاتلوهم إلى أن انتصف النهار أشد قتال خلقه الله لا يقدرون أن يأتوهم إلا من وجه واحد لاجتماع مضاربهم فلما رأى ذلك عمر أرسل رجالا يقوضون البيوت عن أيمانهم وشمائلهم ليحيطوا بهم فكان النفر من أصحاب الحسين الثلاثة والأربعة يتخللون البيوت فيقتلون الرجل وهو يقوض وينهب ويرمونه من قريب أو يعقرونه فأمر بها عمر بن سعد فأحرقت فقال لهم الحسين دعوهم فليحرقوها فإنهم إذا أحرقوها لا يستطيعون أن يجوزوا إليكم منها فكان كذلك.
وخرجت امرأة الكلبي تمشي إلى زوجها فجلست عند رأسه تمسح التراب عن وجهه وتقول هنيئا لك الجنة فأمر شمر غلاما اسمه رستم فضرب رأسها بالعمود فشدخه فماتت مكانها.
وحمل شمر حتى بلغ فسطاط الحسين ونادى علي بالنار حتى أحرق هذا البيت على أهله فصاحت النساء وخرجن وصاح به الحسين أنت تحرق بيتي على أهلي أحرقك الله بالنار! فقال حميد بن مسلم لشمر: إن هذا لا يصلح [لك]، تعذب بعذاب الله وتقتل الولدان والنساء والله إن في قتل الرجال لما يرضي به أميرك فلم يقبل منه فجاءه شبث بن ربعي فنهاه فانتهى وذهب لينصرف
69

فحمل عليه زهير بن القين في عشرة فكشفهم عن البيوت وقتلوا أبا عزة الضبابي وكان من أصحاب شمر وعطف الناس عليهم فكثروهم وكانوا إذا قتل منهم الرجل والرجلان يبين فيهم لقلتهم وإذا قتل في أولئك لا يبين فيهم لكثرتهم.
ولما حضر وقت الصلاة قال أبو ثمامة الصائدي للحسين نفسي لنفسك الفداء أرى هؤلاء قد اقتربوا منك والله لا تقتل حتى أقتل دونك وأحب أن ألقي ربي وقد صليت هذه الصلاة التي قد دنا وقتها فرفع الحسين رأسه وقال ذكرت الصلاة جعلك الله من المصلين الذاكرين نعم هذا أول وقتها ثم قال سلوهم أن يكفوا عنا حتى نصلي ففعلوا فقال لهم الحصين إنها لا تقبل. فقال له حبيب بن مطهر زعمت أن لا تقبل الصلاة من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقبل منك يا حمار فحمل عليه الحصين وخرج إليه حبيب فضرب وجه فرسه بالسيف فشب فسقط عنه الحصين فاستنقذه أصحابه وقاتل حبيب قتالا شديدا فقتل رجلا من بني تميم اسمه بديل بن صريم وحمل عليه آخر من تميم فطعنه فذهب ليقوم فضربه الحصين على رأسه بالسيف فوقع ونزل إليه التميمي فاحتز رأسه فقال له الحصين أنا شريكك في قتله. فقال الآخر لا والله فقال له الحصين أعطنيه أعلقه في عنق فرسي كيما يرى الناس أني شركت في قتله ثم خذه وامض به إلى ابن زياد فلا حاجة لي فيما تعطاه.
70

ففعل وجال به في الناس ثم دفعه إليه فلما رجعوا إلى الكوفة أخذ الرأس وجعله في عنق رأسه ثم أقبل به إلى ابن زياد في القصر فبصر به القاسم بن حبيب وقد راهق فأقبل مع الفارس لا يفارقه فارتاب به الرجل فسأله عن حاله فأخبره وطلب الرأس ليدفنه فقال إن الأمير لا يرضي أن يدفن وأرجو أن يثيبني الأمير. فقال له لكن الله لا يثيبك إلا أسوأ الثواب ولم يزل يطلب غرة قاتل أبيه حتى كان زمان مصعب وغزا مصعب باجميرى دخل القاسم عسكره فإذا قاتل أبيه في فسطاطه فدخل عليه نصف النهار فقتله.
فلما قتل حبيب هد ذلك الحسين وقال عند ذلك احتسب حماة أصحابي وحمل الحر وزهير بن القين فقاتلا قتالا شديدا وكان إذا حمل أحدهما وغاص فيهم حمل الآخر حتى يخلصه فعلا ذلك ساعة ثم إن رجالة حملت على الحر بن يزيد فقتلته وقتل أبو ثمامة الصائدي ابن عم له كان عدوه. ثم صلوا الظهر صلى بهم الحسين صلاة الخوف ثم اقتتلوا بعد الظهر فاشتد قتالهم ووصلوا إلى الحسين فاستقدم الحنفي أمامه فاستهدف لهم يرمونه بالنبل وهو بين يديه حتى سقط.
وقاتل زهير بن القيم قتالا شديدا فحمل عليه كثير بن عبيد الله الشعبي ومهاجر بن أوس فقتلاه، وكان نافع بن هلال البجلي قد كتب اسمه على فوق نبله وكانت مسمومة فقتل بها اثني عشر رجلا
71

سوي من جرح فضرب حتى كسرت عضداه وأخذ أسيرا فأخذه شمر بن ذي الجوشن فأتي به عمر بن سعد والدم على وجهه وهو يقول لقد قتلت منكم اثني عشر رجلا سوي من جرحت ولو بقيت لي عضد وساعد ما أسرتموني فانتضى شمر سيفه ليقتله فقال له نافع والله لو كنت من المسلمين لعظم عليك أن تلقي الله بدمائنا فالحمد لله الذي جعل منايانا على يدي شرار خلقه فقتله شمر ثم حمل على أصحاب الحسين.
فلما رأوا أنهم قد كثروا وأنهم لا يقدرون أن يمنعوا الحسين ولا أنفسهم تنافسوا أن يقتلوا بين يديه فجاء عبد الله وعبد الرحمن ابنا عروة الغفاريان إليه فقالا قد حازنا الناس إليك فجعلا يقاتلان بين يديه وأتاه الفتيان الجابريان وهما سيف بن الحارث بن سريع ومالك بن عبد بن سريع وهما ابنا عم وأخوان لأم وهما يبكيان فقال لهما ما يبكيكما إني لأرجو أن تكونوا عن ساعة قريري عين فقالا والله ما على أنفسنا نبكي ولكن نبكي عليك نراك قد أحيط بك ولا نقدر أن نمنعك! فقال جزاكما الله جزاء المتقين!
وجاء حنظلة بن أسعد الشبامي فوقف بين يدي الحسين وجعل ينادي: (يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد يا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد يوم تولون مدبرين مالكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد) يا قوم لا تقتلوا الحسين فيسحتكم الله بعذاب (وقد خاب من افتري)، فقال له الحسين: رحمك الله! إنهم قد استوجبوا العذاب حين ردوا ما دعوتهم إليه من الحق ونهضوا ليستبيحوك وأصحابك فكيف
72

بهم الآن وقد قتلوا إخوانك الصالحين! فسلم على الحسين وصلى عليه وعلى أهل بيته وتقدم وقاتل حتى قتل.
وتقدم الفتيان الجابريان فودعا الحسين وقاتلا حتى قتلا.
وجاء عابس بن أبي شبيب الشاكري وشوذب مولي شاكر إلى الحسين فسلما عليه وتقدما فقاتلا حتى قتلا فقتل شوذب وأما عابس فطلب البراز فتحاماه الناس لشجاعته فقال لهم عمر ارموه بالحجارة فرموه من كل جانب فلما رأى ذلك ألقي درعه ومغفره وحمل على الناس فهزمهم بين يديه ثم رجعوا عليه فقتلوه وادعى قتله جماعة.
وجاء الضحاك بن عبد الله المشرفي إلى الحسين فقال يا ابن رسول الله قد علمت إني قلت أني أقاتل عنك ما رأيت مقاتلا فإذا لم أر مقاتلا فأنا في حل من الانصراف فقال له الحسين صدقت وكيف لك بالنجاة إن قدرت عليه فأنت في حل قال فأقبلت في فرسي وكنت قد تركته في خباء حيث رأيت خيل أصحابنا تعقر وقاتلت راجلا وقتلت رجلين وقطعت يد آخر ودعا إلى الحسين مرارا قال واستخرجت فرسي واستويت عليه وحملت على عرض القوم فأفرجوا لي وتبعني منهم خمسة عشر رجلا ففتهم وسلمت.
وجثا أبو الشعثاء الكندي وهو يزيد بن أبي زياد بين يدي الحسين فرمي بمائة سهم ما سقط منها خمسة أسهم وكلما رمى يقول له الحسين اللهم سدد رميته واجعل ثوابة الجنة! وكان يزيد هذا فيمن خرج مع عمر ابن سعد، فلما ردوا الشروط على الحسين عدل إليه فقاتل بين يديه وكان أول من قتل.
73

وأما الصيداوي عمرو بن خالد وجبار بن حارث السلماني وسعد مولي عمرو بن خالد ومجمع بن عبيد الله العائذي فإنهم قاتلوا أول القتال فلما وغلوا فيهم عطفوا إليهم فقطعوهم عن أصحابهم فحمل العباس بن علي فاستنقذهم وقد
جرحوا فلما دنا منهم عدوهم حملوا عليهم فقاتلوا فقتلوا في أول الأمر في مكان واحد.
وكان آخر من بقي من أصحاب الحسين سويد بن أبي المطاع الخثعمي، وكان أول من قتل من آل بني أبي طالب يومئذ علي الأكبر بن الحسين وأمة ليلي بنت أبي مرة بن عروة بن مسعود الثقفية وذلك أنه حمل عليهم وهو يقول:
(أنا علي بن الحسين بن علي * نحن ورب البيت أولي بالنبي)
(تالله لا يحكم فينا ابن الدعي)
ففعل ذلك مرارا فحمل عليه مرة بن منقذ العبدي فطعنه فصرع وقطعه الناس بسيوفهم فلما رآه الحسين قال قتل الله قوما قتلوك يا بني ما أجرأهم على الله وعلي انتهاك حرمة الرسول على الدنيا بعدك العفاء وأقبل الحسين إليه ومعه فتيانه فقال احملوا أخاكم فحملوه حتى وضعوه بين يدي الفسطاط الذي كانوا يقاتلون أمامه.
ثم إن عمرو بن صبيح الصدائي رمى عبد الله بن مسلم بن عقيل بسهم فوضع كفه على جبهته فلم يستطع أن يحركها ثم رماه بسهم آخر فقتله.
وحمل الناس عليهم من كل جانب فحمل عبد الله بن قطبة الطائي على عون بن عبد الله بن جعفر فقتله وحمل عثمان بن خالد بن أسير الجهني
74

وبشر بن سوت الهمداني على عبد الرحمن بن عقيل بن أبي طالب فقتلاه ورمي عبد الله بن عروة الخثعمي جعفر بن عقيل فقتله ثم حمل القاسم بن الحسن بن علي وبيده السيف فحمله عليه عمرو بن سعد بن نفيل الأسدي فضرب رأسه بالسيف فسقط القاسم إلى الأرض لوجهه وقال يا عماه فانقض الحسين إليه كالصقر ثم شد شدة ليث أغضب فضرب عمرا بالسيف فاتقاه بيده فقطع يده من المرفق فصاح فحملت خيل الكوفة ليستنقذوا عمرا فاستقبلته بصدورها فجالت عليه فوطئته حتى مات، وانجلت الغبرة والحسين واقف على رأس القاسم وهو يفحص برجليه والحسين يقول: بعدا لقوم قتلوك ومن خصمهم يوم القيامة فيك جدك ثم قال عز والله على عمك أن تدعوه فلا يجيبك أو يجيبك ثم لا ينفعك صوته والله هذا يوم كثر واتره وقل ناصره! ثم احتمله على صدره حتى ألقاه مع ابنه علي ومن قتل معه من أهل بيته.
ومكث الحسين طويلا من النهار كلما انتهي إليه رجل من الناس رجع وكره أن يتولي قتله وعظم إثمه [عليه]، ثم إن رجلا من كندة يقال له مالك بن النسير أتاه فضربه على رأسه بالسيف فقطع البرنس وأدمي رأسه وامتلأ البرنس دما فقال له الحسين لا أكلت بها ولا شربت وحشرك الله مع الظالمين وألقي البرنس ولبس القلنسوة وأخذ الكندي البرنس فلما قدم على أهله أخذ البرنس يغسل الدم عنه فقالت له امرأته أسلب ابن [بنت] رسول الله تدخله بيتي؟ أخرجه عني! فقال فلم يزل ذلك الرجل فقيرا بشر حتى مات.
ودعا الحسين بابنه عبد الله وهو صغير فأجلسه في حجره فرماه رجل من بني أسد فذبحه فأخذ الحسين من دمه فصبه في الأرض ثم قال: ربي إن تكن حبست عنا النصر من السماء فاجعل ذلك لما هو خير وانتقم من هؤلاء الظالمين.
ورمي عبد الله بن عقبة الغنوي أبا بكر بن الحسين بن علي بسهم فقتله،
75

وقال العباس بن علي لأخوته من أمه عبد الله وجعفر وعثمان تقدموا حتى أرثكم فإنه لا ولد لكم ففعلوا فقتلوا، وحمل هانئ بن ثبيت الحضرمي على عبد الله بن علي فقتله ثم حمل على جعفر بن علي فقتله ورمي خولي بن يزيد الأصبحي عثمان بن علي ثم حمل عليه رجل من بني أبان بن دارم فقتله وجاء برأسه ورمي رجل من بني أبان أيضا محمد بن علي بن أبي طالب فقتله وجاء برأسه.
وخرج غلام من خباء من تلك الأخبية فأخذ بعود من عيدانه وهو ينظر كأنه مذعور فحمل عليه رجل قيل إنه هانئ بن ثبيت الحضرمي فقتله.
واشتد عطش الحسين فدنا من الفرات ليشرب فرماه حصين بن نمير بسهم فوقع في فمه فجعل يتلقى الدم بيده ورمي به إلى السماء ثم حمد الله وأثني عليه ثم قال: اللهم أشكو إليك ما يصنع بابن بنت نبيك اللهم أحصهم عددا وأقتلهم بددا ولا تبقي منهم أحدا!
وقيل الذي رماه رجل من بني أبان بن دارم فمكث ذلك الرجل يسيرا ثم صب الله عليه الظمأ فجعل لا يروى فكان يروح عنه ويبرد له الماء فيه السكر وعساس فيها اللبن ويقول اسقوني فيعطي القلة أو العس فيشربه فإذا شربه اضطجع هنيهة ثم يقول اسقوني قتلني الظمأ فما لبث إلا يسيرا حتى انقدت بطنه انقداد بطن البعير.
ثم إن شمر بن ذي الجوشن أقبل في نفر نحو عشرة من رجالهم نحو منزل الحسين فحالوا بينه وبين رحله فقال لهم الحسين: ويلكم! إن لم يكن لكم دين ولا تخافون يوم المعاد فكونوا أحرارا ذوي أحساب، امنعوا رحلي وأهلي من طغاتكم وجهالكم. فقالوا: ذلك يا ابن فاطمة. وأقدم عليه شمر
76

بالرجالة منهم: أبو الجنوب، واسمه عبد الرحمن الجعفي، والقشعم بن نذير الجعفي، وصالح بن وهب اليزني، وسنان بن أنس النخعي، وخولي ابن يزيد الأصبحي، وجعل شمر يحرضهم على الحسين وهو يحمل عليهم فينكشفون عنه، ثم إنهم أحاطوا به. وأقبل إلى الحسين غلام من أهله فقام إلى جنبه وقد أهوى بحر بن كعب بن تيم الله بن ثعلبة إلى الحسين بالسيف، فقال الغلام: يا ابن الخبيثة أتقتل عمي! فضربه الحسين وقال له: يا ابن أخي اصبر على ما نزل بك فإن الله يلحقك بآبائك الطاهرين الصالحين، برسول الله، صلي الله عليه وسلم، وعلي وحمزة وجعفر والحسن. وقال الحسين: اللهم أمسك عنهم قطر السماء وامنعهم بركات الأرض! اللهم فإن متعهم إلى حين ففرقهم فرقا واجعلهم طرائق قددا ولا ترض عنهم الولاة أبدا، فإنهم دعونا لينصرونا فعدوا علينا فقتلونا!
ثم ضارب الرجالة حتى انكشفوا عنه، ولما بقي الحسين في ثلاثة أو أربعة دعا بسراويل ففزره ونكثه لئلا يسلبه، فقال له بعضهم: لو لبست تحته التبان. قال: ذلك ثوب مذلة ولا ينبغي [لي] أن ألبسه. فلما قتل سلبه بحرين كعب، وكانت يداه في الشتاء تنضحان بالماء، وفي الصيف تيبسان كأنهما عود. وحمل على الذين عن يساره فتفرقوا، فلما رؤي مكثور قط قد قتل ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشا منه ولا أمضى جنانا ولا أجرأ مقدما منه، إن كانت الرجالة لتنكشف عن يمينه وشماله انكشاف المعزي إذا شد فيها الذئب.
77

فبينما هو كذلك إذ خرجت زينب وهي تقول: ليت السماء انطبقت على الأرض! وقد دنا عمر بن سعد، فقالت: يا عمر أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر [إليه]؟ فدمعت عيناه حتى سالت دموعه على خديه ولحيته وصرف وجهه عنها.
وكان على الحسين جبة من خز، وكان معتما مخضوبا بالوسمة، وقاتل راجلا قتال الفارس الشجاع يتقي الرمية ويفترص العورة ويشد على الخيل وهو يقول: أعلى قتلي تجتمعون؟ أما والله لا تقتلون بعدي عبدا من عباد الله الله أسخط عليكم لقتله مني! وأيم الله إني لأرجوا أن يكرمني الله بهوانكم ثم ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون! أما والله لو قتلتموني لألقي الله بأسكم بينكم وسفك دماءكم ثم لا يرضي بذلك منكم حتى يضاعف لكم العذاب الأليم.
قال: ومكث طويلا من النهار، ولو شاء الناس أن يقتلوه لقتلوه ولكنهم كان يتقي بعضهم ببعض ويحب هؤلاء، فنادي شمر في الناس: ويحكم ماذا تنتظرون بالرجل؟ اقتلوه ثكلتكم أمهاتكم! فحموا عليه من كل جانب، فضرب زرعة بن شريك التميمي على كفه اليسرى، وضرب أيضا على عاتقه، ثم انصرفوا عنه وهو يقوم ويكبو، وحمل عليه تلك الحال سنان بن أنس النخعي فطعنه بالرمح فوقع، وقال لخولي بن يزيد الأصبحي: احتز رأسه، فأراد أن يفعل فضعف وأرعد، فقال له سنان: فت الله عضدك! ونزل إليه فذبحه واحتز رأسه فدفعه إلى خولي، وسلب الحسين ما كان عليه، فأخذ سراويله بحر بن كعب وأخذ قيس بن الأشعث قطيفته، وهي من خز، فكان يسمي بعد قيس قطيفة، وأخذ نعليه الأسود الأودي، وأخذ سيفه رجل
78

من دارم، ومال الناس على الورس والحلل والإبل فانتهبوها، ونهبوا ثقله ومتاعه وما على النساء حتى إن كانت المرأة لتنزع ثوبها من ظهرها فيؤخذ منها.
ووجد بالحسين ثلاث وثلاثون طعنة وأربع وثلاثون ضربة غير الرمية.
وأما سويد بن المطاع فكان قد صرع فوقع بين القتلى مثخنا بالجراحات، فسمعهم يقولون: قتل الحسين! فوجد
خفة فوثب ومعه سكين، وكان سيفه قد أخذ، فقاتلهم بسكينة ساعة ثم قتل، وقتله عروة بن بطان الثعلبي وزيد ابن رقاد الجنبي، وكان آخر من قتل أصحاب الحسين.
ثم انتهوا إلى على بن الحسين زين العابدين، فأراد شمر قتله، فقال له حميد بن مسلم: سبحان الله أتقتل الصبيان! وكان مريضا، وجاء عمر بن سعد فقال: لا يدخلن بيت هذه النسوة أحد ولا يعرضن لهذا الغلام المريض، ومن أخذ من متاعهم شيئا فليرده. فلم يرد أحد شيئا. فقال الناس لسنان بن أنس النخعي: قتلت الحسين بن علي وابن فاطمة بنت رسول الله، صلي الله عليه وسلم، قتلت أعظم العرب خطرا، وأراد أن يزيل ملك هؤلاء، فأت أمراءك فاطلب ثوابك منهم فإنهم لو أعطوك بيوت أموالهم في قتله كان قليلا. فأقبل على فرسه، وكان شجاعا شاعرا به لوثة، وحتى وقف على باب فسطاط عمر بن سعد ثم نادى بأعلى صوته:
(أوقر ركابي فضة وذهبا * إني قتلت السيد المحجبا)
(قتلت خير الناس أما وأبا * وخيرهم إذ ينسبون نسبا)
79

فقال عمر بن سعد: أشهد أنك مجنون، أدخلوه علي. فلما دخل حذفه بالقضيب وقال: يا مجنون أتتكلم بهذا الكلام؟ والله لو سمعك ابن زياد لضرب عنقك! وأخذ عمر بن سعد عقبة بن سمعان مولى الرباب ابنة امرئ القيس الكلبية امرأة الحسين، فقال: ما أنت؟ أنا عبد مملوك. فخلى سبيله، فلم ينج منهم غيره وغير المرقع بن ثمامة الأسدي، وكان قد نثر نبله فقاتل، فجاء نفر من قومه فآمنوا فخرج إليهم، فلما أخبر ابن زياد خبره نفاه إلى الزارة.
ثم نادى عمر بن سعد في أصحابه من ينتدب إلى الحسين فيوطئه فرسه، فانتدب عشرة، منهم إسحاق بن حيوة الحضرمي، وهو الذي سلب قميص الحسين، فبرص بعد، فأتوا فداسوا الحسين بخيولهم حتى رضوا ظهره وصدره.
وكان عدة من قتل من أصحاب الحسين اثنتين وسبعين رجلا.
ودفن الحسين وأصحابه أهل الغاضرية من بني أسد قتلهم بيوم.
وقتل من أصحاب عمر بن سعد ثمانية وثمانون رجلا سوى الجرحى فصلى عليهم عمر ودفنهم.
* * *
و لما قتل الحسين أرسل رأسه ورؤوس أصحابه إلى ابن زياد مع خولي بن يزيد وحميد بن مسلم الأزدي، فوجد خولي القصر مغلقا فأتى منزله فوضع الرأس تحت إجانة في منزله ودخل فراشه وقال لامرأته النوار: جئتك بغنى الدهر، هذا رأس الحسين معك في الدار. فقالت: ويلك! جاء الناس بالذهب والفضة وجئت برأس ابن رسول الله، صلي الله عليه وسلم! والله لا يجمع رأسي ورأسك بيت أبدا! وقامت من الفراش فخرجت إلى الدار، وقالت: فلما زلت أنظر إلى نور مثل العمود من السماء إلى الإجانة، ورأيت طيرا
80

أبيض يرفرف حولها. فلما أصبح غدا بالرأس إلى ابن زياد.
و قيل: بل الذي حمل الرؤوس كان شمر وقيس بن الأشعث وعمرو بن الحجاج وعروة بن قيس، فجلس ابن زياد وأذن للناس فأحضرت الرؤوس بين يديه وهو ينكت بقضيب بين ثنيتيه ساعة، فلما رآه زيد بن الأرقم لا يرفع قضيبه قال: أعل هذا القضيب عن هاتين الثنتين، فوالذي لا إله غيره لقد رأيت شفتي رسول الله، صلي الله عليه وسلم، على هاتين الشفتين يقبلهما! ثم بكى، فقال له ابن زياد: أبكى الله عينيك! فوالله لو لا أنك شيخ قد خرفت وذهب عقلك لضربت عنقك. فخرج وهو يقول: أنتم يا معشر العرب العبيد بعد اليوم، قتلهم ابن فاطمة، وأمرتم ابن مرجانة، فهو يقتل خياركم ويستعبد شراركم، فرضيتم بالذل، فبعدا لمن يرضي بالذل!
* * *
فأقام عمر بعد قتله يومين ثم ارتحل إلى الكوفة وحمل معه بنات الحسين وأخواته ومن كان معه من الصبيان، وعلي بن الحسين مريض، فاجتازوا بهم على الحسين وأصحابه صرعي، فصاح النساء ولطمن خدودهن، وصاحت زينب أخته: يا محمداه، صلي عليك ملائكة السماء! هذا الحسين بالعراء، مرمل بالدماء، مقطع الأعضاء، وبناتك سبايا، وذريتك مقتلة تسفي عليها الصبا فأبكت كل عدو وصديق.
فلما أدخلوهم على ابن زياد لبست زينب أرذل ثيابها وتنكرت وحفت بها إماؤها، فقال عبيد الله: من هذه الجالسة؟ فلم تكلمه، فقال ذلك ثلاثا وهي لا تكلمه، فقال بعض إمائها: هذه زينب بنت فاطمة. فقال لها ابن زياد: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم فقالت: الحمد لله الذي أكرمنا بمحمد وطهرنا تطهيرا، لا كما تقول، وإنما يفتضح الفاسق ويكذب
81

الفاجر. فقال: فكيف رأيت صنع الله بأهل بيتك؟ قالت: كتب عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتختصمون عنده. فغضب ابن زياد وقال: قد شفى الله غيظي من طاغيتك والعصاة المردة من أهل بيتك. فبكت وقالت: لعمري لقد قتلت كهلي، وأبرزت أهلي، وقطعت فرعي، واجتثثت أصلي، فإن يشفك هذا فقد اشتفيت. فقال لها: هذه شجاعة، لعمري لقد كان أبوك شجاعا! فقالت: ما للمرأة والشجاعة!
و لما نظر ابن زياد إلى علي بن الحسين قال: ما اسمك؟ قال: علي بن الحسين. قال: أولم يقتل الله علي بن الحسين؟ فسكت. فقال: ما لك لا تتكلم؟ فقال: كان لي أخ يقال له أيضا علي فقتله الناس. فقال: إن الله قتله. فسكت علي. فقال: ما لك لا تتكلم؟ فقال: (الله يتوفى الأنفس حين موتها)، (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله). قال: أنت والله منهم. ثم قال الرجل: ويحك! انظر هذا هل أدرك؟ أني لأحسبه رجلا. قال: فكشف عنه مري بن معاذ الأحمري فقال: نعم قد أدرك. قال: اقتله. فقال علي: من توكل بهذه النسوة؟ وتعلقت به زينب فقالت: يا ابن زياد حسبك منا، أما رويت من دمائنا، وهل أبقيت منا أحدا! واعتنقته وقالت: أسألك بالله إن كنت مؤمنا إن قتلته لما قتلتني معه! وقال له علي: يا ابن زياد إن كانت بينك وبينهن قرابة فابعث معهن رجلا تقيا لأظنها ودت لو أني قتلته أني قتلتها معه، دعوا الغلام ينطلق مع نسائه.
ثم نادى: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، فصعد المنبر فخطبهم وقال: الحمد لله الذي أظهر الحق وأهله، ونصر أمير المؤمنين يزيد وحزبه، وقتل الكذاب
82

ابن الكذاب الحسين بن علي وشيعته.
فوثب إليه عبد الله بن عفيف الأزدي ثم الوالبي، وكان ضريرا قد ذهب إحدى عينيه يوم الجمل مع علي والأخرى بصفين معه أيضا، وكان لا يفارق المسجد يصلي فيه إلى الليل ثم ينصرف، فلما سمع مقالة ابن زياد قال: يا ابن مرجانة! إن الكذاب ابن الكذاب أنت وأبوك والذي ولاك وأبوه! يا ابن مرجانة أتقتلون أبناء النبيين وتتكلمون بكلام الصديقين؟ فقال: علي به. فأخذوه، فنادى بشعار الأزد: يا مبرور! فوثب إليه فتية من الأزد فانتزعوه، فأرسل إليه من أتاه به فقتله وأمر بصلبه في المسجد، فصلب، رحمه الله.
وأمر ابن زياد برأس الحسين فطيف به في الكوفة، وكان رأسه أول رأس حمل في الإسلام على خشبة في قول، والصحيح أن أول رأس حمل في الإسلام رأس عمرو بن الحمق.
ثم أرسل ابن زياد رأس الحسين ورؤوس أصحابه مع زحر بن قيس إلى الشام إلى يزيد ومعه جماعة، وقيل: مع شمر وجماعة معه، وأرسل معه النساء والصبيان، وفيهم علي بن الحسين، قد جعل ابن زياد الغل في يديه ورقبته، وحملهم على الأقتاب، فلم يكلمهم علي بن الحسين في الطريق حتى بلغوا الشام، فدخل زحر بن قيس على يزيد، فقال: ما وراءك؟ فقال: أبشر يا أمير المؤمنين بفتح الله وبنصره، ورد علينا الحسين بن علي في ثمانية عشر من أهل بيته، وستين من شيعته، فسرنا إليهم فسألناهم أن ينزلوا على حكم الأمير عبيد الله أو القتال فاختاروا القتال فعدونا عليهم مع شروق الشمس فأحطنا بهم من كل ناحية حتى إذا أخذت السيوف مآخذها من هام القوم جعلوا يهربون إلى غير وزر، ويلوذون بالإكام والحفر، كما لا ذا الحمائم من صقر، فوالله ما كان إلا جزر جزور، أو نومة قائل، حتى أتينا على آخرهم! فهاتيك
83

أجسادهم مجرده، وثيابهم مرملة، وخدودهم معفرة، تصهرهم الشمس، وتسفي عليهم الريح، زوارهم العقبان والرخم بقي سبسب.
قال: فدمعت عينا يزيد وقال: كنت أرضي من طاغيتكم بدون قتل الحسين، لعن الله ابن سمية! أما والله لو أني صاحبه لعفوت عنه، فرحم الله الحسين! ولم يصله بشيء.
وقيل: إن آل الحسين لما وصلوا إلى الكوفة حبسهم ابن زياد وأرسل إلى يزيد بالخبر، فبينما هم في الحبس إذ سقط عليهم حجر فيه كتاب مربوط وفيه: إن البريد سار بأمركم إلى يزيد فيصل يوم كذا ويعود يوم كذا، فإن سمعتم التكبير فأيقنوا بالقتل، وإن لم تسمعوا تكبيرا فهو الأمان. فلما كان قبل قدوم البريد بيومين أو ثلاثة إذا حجر قد ألقي وفيه كتاب يقول فيه: أوصوا واعهدوا فقد قارب وصول البريد. ثم جاء البريد بأمر يزيد بإرسالهم إليه، فدعا ابن زياد محفر بن ثعلبة وشمر بن ذي الجوشن وسيرهما بالثقل والرأس، فلما وصلوا إلى دمشق نادى محفر بن ثعلبة على باب يزيد: جئنا برأس الناس وألأمهم! فقال يزيد: ما ولدت أم محفر الأم وأحمق منه، ولكنه قاطع ظالم.
ثم دخلوا على يزيد فوضعوا الرأس بين يديه وحدثوه، فسمعت الحديث هند بنت عبد الله بن عامر بن كريز، وكانت تحت يزيد، فتقنعت بثوبها وخرجت فقالت: يا أمير المؤمنين أرأس الحسين بن علي بن فاطمة بنت رسول الله، صلي الله عليه وسلم؟ قال: نعم، فأعولي عليه وحدي علي ابن بنت
84

رسول الله، صلي الله عليه وسلم، وصريحة قريش، عجل عليه ابن زياد فقتله، قتله الله! ثم أذن للناس فدخلوا عليه والرأس بين يديه ومعه قضيب وهو ينكت به ثغره، ثم قال: إن هذا وإيانا كما قال الحصين بن الحمام:
(أبى قومنا أن ينصفونا فأنصفت * قواضب في أيماننا تقطر الدما)
(يفلقن هاما من رجال أعزة * علينا وهم كانوا أعمق وأظلما)
فقال له أبو برزة الأسلمي: أتنكت بقضيبك في ثغر الحسين؟ أما لقد أخذ قضيبك في ثغره مأخذا، لربما رأيت رسول الله، صلي الله عليه وسلم، يرشفه، أما إنك يا يزيد تجيء يوم القيامة وابن زياد شفيعك. ويجيء هذا ومحمد شفيعه. ثم قام فولى.
فقال يزيد: والله يا حسين لو كنت أنا صاحبك ما قتلتك. ثم قال: أتدرون من أين أتى هذا؟ قال: أبي علي خير من أبيه، وفاطمة أمي خير من أمه، وجدي رسول الله خير من جده، وأنا خير منه وأحق بهذا الأمر منه؛ فأما قوله أبوه خير من أبي فقد حاج أبي إلى الله وعلم الناس أيهما حكم له؛ وأما قوله جدي رسول الله خير من جده فلعمري ما أحد يؤمن بالله واليوم الآخر يرى لرسول الله فينا عدلا ولا ندا، ولكنه إنما أتى من قبل فقهه، ولم يقرأ: (قل اللهم مالك الملك).
ثم أدخل نساء الحسين عليه والرأس بين يديه، فجعلت فاطمة وسكينة ابنتا الحسين تتطاولان لتنظرا إلى الرأس، وجعل يزيد يتطاول ليستر عنهما
85

الرأس. فلما رأين الرأس صحن، فصاح نساء يزيد وولول بنات معاوية. فقالت فاطمة بنت الحسين، وكانت أكبر من سكينة: أبنات رسول الله سبايا يا يزيد؟ قال: يا ابنة أخي أنا لهذا كنت أكره. قالت: والله ما ترك لنا خرص. فقال: يا أتى إليكن أعظم مما أخذ منكن. فقام رجل من أهل الشام فقال: هب لي هذه، يعني فاطمة، فأخذت بثياب أختها زينب، وكانت أكبر منها، فقالت زينب: كذبت ولؤمت، ما ذلك ولا له. فغضب يزيد واستطار ثم قال: إياي تستقبلين بهذا؟ إنما خرج من الدين أبوك وجدك. قال كذبت يا عدوة الله! قالت: أنت أمير تشم ظالما وتقهر بسلطانك؟ يزيد إلا أتتهن وأقمن المأتم وسألهن عما أخذ منهن فأضعفه لهن، فكانت سكينة تقول: ما رأيت كافرا بالله خيرا من يزيد بن معاوية.
ثم أمر بعلي بن الحسين فأدخل مغلولا فقال: لو رآنا رسول الله، صلي الله عليه وسلم، مغلولين لفك عنا. قال: صدقت. وأمر بفك غله عنه. فقال علي: لو رآنا رسول الله، صلي الله عليه وسلم، بعداء لاحب أن يقربنا. فأمر به فقرب منه، ونازعني سلطاني، فصنع الله به ما رأيت. فقال علي: (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكيلا
86

تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور). فقال يزيد: (ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم). ثم سكت عنه وأمر بإنزاله وإنزال نسائه في دار علي جده، وكان يزيد لا يتغدى ولا يتعشى إلا دعا علينا إليه، فدعاه ذات يوم ومعه عمرو بن الحسن، وهو غلام صغير، فقال لعمرو: أتقاتل هذا؟ يعني خالد بن يزيد. فقال عمرو: أعطني سكينا وأعطه سكينا حتى أقاتله. فضمه يزيد إليه وقال: شنشنة أعرفها من أخزم، هل تلد الحية إلا حية!
وقيل: ولما وصل رأس الحسين إلى يزيد حسنت حال ابن زياد عنده وزاده ووصله وسره ما فعل، ثم لم يلبث إلا يسيرا حتى بلغه بغض الناس له ولعنهم وسبهم، فندم على قتل الحسين، فكان يقول: وما علي لو احتملت الأذى وأنزلت الحسين معي في داري وحكمته فيما يريد وإن كان علي في ذلك وهن في سلطان حفظا لرسول الله، صلي الله عليه وسلم، ورعاية لحقه وقرابته، لعن الله ابن مرجانة فإنه اضطره، وقد سأله أن يضع يده أو يلحق بثغر حتى يتوفاه الله، فلم يحبه إلى ذلك فقتله، فبغضي بقتله إلى المسلمين، وزرع في قلوبهم العداوة فأبغضني البر والفاجر بما استعظموه من قتل الحسين مالي ولابن مرجانة لعنه الله وغضب عليه.
ولما أراد أن يسيرهم إلى المدينة أمر يزيد النعمان بن بشير أن يجهزهم بما يصلحهم ويسير معهم رجلا أمينا من أهل الشام ومعه خيل يسير بهم إلى المدينة ودعا عليا ليودعه وقال له: لعن الله ابن مرجانة! أما والله لو أني صاحبه
87

ما سألني خصلة أبدا إلا أعطيته إياها ولدفعت الحتف عنه بكل ما استطعت ولو بهلاك بعض ولدي ولكن قضي الله ما رأيت يا بني كاتبني حاجة تكون لك. وأوصي بهم هذا الرسول فخرج بهم فكان يسايرهم ليلا فيكونون أمامه بحيث لا يفوتون طرفه فإذا نزلوا تنحوا عنهم هو وأصحابه فكانوا حولهم كهيئة الحرس وكان يسألهم عن حاجتهم ويلطف بهم حتى دخلوا المدينة فقالت فاطمة بنت علي لأختها زينب لقد أحسن هذا الرجل إلينا فهل لك أن نصله بشيء فقالت والله ما معنا ما نصله به إلا حلينا فأخرجتا سوارين ودملجين لهما فبعثتا به إليه واعتذرتا فرد الجميع وقال لو كان الذي صنعت للدنيا لكان في هذا ما يرضيني ودونه ولكن والله ما فعلته إلا لله ولقرابتكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان مع الحسين امرأته الرباب بنت امرئ القيس وهي أم ابنته سكينة وحملت إلى الشام فيمن حمل من أهله ثم عادت إلى المدينة فخطبها الأشراف من قريش فقالت ما كنت لأتخذ حموا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقيت بعده سنة لم يظلها سقف بيت حتى بليت وماتت كمدا وقيل إنها أقامت على قبره سنة وعادت إلى المدينة فماتت أسفا عليه.
وأرسل عبيد الله بن زياد مبشرا إلى المدينة بقتل الحسين إلى عمرو بن سعيد فلقيه رجل من قريش فقال ما الخبر فقال الخبر عند الأمير فقال القرشي إنا لله وإنا إليه راجعون، قتل الحسين.
ودخل البشير على عمرو بن سعيد فقال ما وراءك قال ما سر الأمير قتل الحسين بن علي فقال ناد بقتله فنادي فصاح نساء بني هاشم وخرجت ابنه عقيل بن أبي طالب ومعها نساؤها حاسرة تلوي بثيابها وهي تقول:
88

(ماذا تقولون إن قال النبي لكم * ماذا فعلتم وأنتم آخر الأمم)
(بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي * منهم أسارى وقتلي ضرجوا بدم)
(ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم * أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي)
فلما سمع عمرو أصواتهم ضحك وقال:
(عجت نساء بني زياد عجة * كعجيج نسوتنا غداة الأرانب)
والأرنب وقعة كانت لبني زبيد على بني زياد من بني الحارث بن كعب وهذا البيت لعمرو بن معد كرب.
ثم قال عمرو ناعية كناعية عثمان ثم صعد المنبر فأعلم الناس قتله.
ولما بلغ عبد الله بن جعفر قتل ابنيه مع الحسين دخل عليه بعض مواليه يعزيه والناس يعزونه فقال مولاه هذا ما لقيناه من الحسين فحذفه ابن جعفر بنعله وقال يا بن اللخناء أللحسين تقول هذا والله لو شهدته لأحببت أن لا أفارقه حتى أقتل معه والله إنه لمما يسخي بنفسي عنهما ويهون على المصاب بهما أنهما أصيبا مع أخي وابن عمي مواسيين له صابرين معه ثم قال إن لم تكن آست الحسين يدي فقد آساه ولدي.
ولما وفد أهل الكوفة بالرأس إلى الشام ودخلوا مسجد دمشق أتاهم مروان بن الحكم فسألهم كيف صنعوا فأخبروه فقام عنهم ثم أتاهم أخوه يحيي بن الحكم فسألهم فأعادوا عليه الكلام فقال حجبتم عن محمد يقوم القيامة لن أجامعكم
على أمر أبدا ثم انصرف عنهم فلما دخلوا على يزيد قال يحيي بن أكثم:
89

(لهام بجنب الطف أدني قرابة * من ابن زياد العبد ذي الحسب الوغل)
(سمية أمسي نسلها عدد الحصي * وليس لآل المصطفى اليوم من نسل)
فضرب يزيد في صدره وقال اسكت قيل وسمع بعض أهل المدينة ليلة قتل الحسين مناديا ينادي:
(أيها القاتلون جهلا حسينا * أبشروا بالعذاب والتنكيل)
(كل أهل السماء يدعو عليكم * من نبي وملائك وقبيل)
(قد لعنتم على لسان ابن داو * د وموسى صاحب الإنجيل)
ومكث الناس شهرين أو ثلاثة كأنما تلطخ الحوائط بالدماء ساعة تطلع الشمس حتى ترتفع قال رأس جالوت ذلك الزمان ما مررت بكربلاء إلا وأنا أركض دابتي حتى أخلف المكان لأنا كنا نتحدث أو ولد نبي يقتل بذلك المكان فكنت أخاف فلما قتل الحسين آمنت فكنت أسير ولا أركض.
قيل وكان عمر الحسين يوم قتل خمسا وخمسين سنة وقيل قتل وهو ابن إحدى وستين وليس بشيء.
وكان قتله يوم عاشوراء سنة إحدى وستين.
(برير بن خضير بضم الباء الموحدة وفتح الراء المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وآخره راء وخضير بالخاء والضاد المعجمتين وثبيت بضم الثاء المثلثة وفتح الباء الموحدة وسكون الياء المثناة من تحتها وآخره تاء
90

مثناة من فوقها محفر بضم الميم وفتح الحاء المهملة وتشديد الفاء المكسورة وآخره راء).
[وقال]... التيمي تيم مرة يرثي الحسين وأهله وكان منقطعا إلى بني [هاشم]:
(مررت على أبيات آل محمد * فلم أرها أمثالها يوم حلت)
(فلا يبعد الله الديار وأهلها * وإن أصبحت من أهلها قد تخلت)
(وإن قتيل الطف من آل هاشم * أذل رقاب المسلمين فذلت)
(وكانوا رجاء ثم أضحوا رزية * لقد عظمت تلك الرزايا وجلت)
(وعند غني قطرة من دمائنا * سنجزيهم يوما بها حيث حلت)
(إذا افتقرت قيس جبرنا فقيرها * وتقتلنا قيس إذا النعل زلت)
ذكر أسماء من قتل معه
قال سليمان لما قتل الحسين ومن معه حملت رؤوسهم إلى ابن زياد فجاءت كندة بثلاث عشر رأسا وصاحبهم قيس بن الأشعث وجاءت هوازن بعشرين رأسا وصاحبهم شمر بن ذي الجوشن الضبابي وجاءت بنو تميم بسبعة عشر رأسا وجاءت بنو أسد بستة رؤوس وجاءت مذحج بسبعة
91

أرؤس وجاء سائر الجيش بسبعة أرؤس فذلك سبعون رأسا.
وقتل الحسين وقتله سنان بن أنس النخعي لعنه الله وقتل العباس بن علي وأمه أم البنين بنت حزام قتله زيد بن داود الجنبي وحكيم بن الطفيل السنبسي وقتل جعفر بن علي وأمه أم البنين أيضا وقتل عبد الله بن علي وأمه أم البنين أيضا وقتل عثمان بن علي وأمه أم البنين أيضا رماه خولي بن يزيد بسهم فقتله وقتل محمد بن علي وأمه أم ولد قتله رجل من بني دارم وقتل أبو بكر بن علي وأمه ليلي بنت مسعود الدارمية وقد شك في قتله وقتل علي بن الحسين بن علي وأمه ليلي ابنة أبي مرة بن عروة الثقفي وأمها ميمونة ابنة أبي سفيان بن حرب قتله منقذ بن النعمان العبدي وقتل عبد الله بن الحسين بن علي وأمه الرباب ابنة امرئ القيس الكلبي قتله هانئ بن ثبيت الحضرمي وقتل أبو بكر ابن أخيه الحسن أيضا وأمه أم ولد قتله حرملة بن الكاهن رماه بسهم وقتل القاسم بن الحسن أيضا قتله سعد بن عمرو بن نفيل الأزدي وقتل عون بن أبي جعفر بن أبي طالب وأمه جمانة بنت المسيب بن نجية الفزاري قتله عبد الله بن قطبة الطائي وقتل محمد بن عبد الله بن جعفر وأمه الخوصاء بنت خصفة بن تيم الله بن ثعلبة قتله عامر بن نهشل التيمي وقتل جعفر بن عقيل بن أبي طالب وأمه أم بنين ابنة الشقر بن الهضاب قتله بشر بن الخوط الهمداني وقتل عبد الرحمن بن عقيل وأمه أو ولد قتله عثمان بن خالد الجهني وقتل عبد الله بن عقيل وأمه أم ولد رماه عمرو بن صبيح الصيداوي بسهم فقتله.
92

وقتل مسلم بن عقيل بالكوفة وأمه أو ولد وقتل عبد الله بن مسلم بن عقيل وأمه رقية ابنة علي بن أبي طالب قتله عمرو بن صبيح الصيداوي ويقال قتله مالك بن أسيد الحضرمي وقتل محمد بن أبي سعيد بن عقيل وأمه أو ولد قتله لقيط بن ياسر الجهني.
واستصغر الحسن بن الحسن بن علي وأمه خولة بنت منظور بن زياد الفزاري واستصغر عمرو بن الحسن وأمه أم ولد فلم يقتلا.
وقتل من الموالي [سليمان مولي] الحسين، قتله سليمان بن عوف الحضرمي وقتل منجح مولي الحسين أيضا وقتل عبد الله بن بقطر رضيع الحسين.
قال ابن عباس: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم الليلة التي قتل فيها الحسين وبيده قارورة وهو يجمع فيها دما فقلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هذا قال هذه دماء الحسين وأصحابه أرفعها إلى الله تعالى فأصبح ابن عباس فاعلم الناس بقتل الحسين وقص رؤياه فوجد قد قتل في ذلك اليوم.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطي أم سلمة ترابا من تربة الحسين حمله إليه جبريل فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأم سلمة إذا صار هذا التراب دما فقد قتل الحسين فحفظت أم سلمة ذلك التراب في قارورة عندها فلما قتل الحسين صار التراب دما فأعلمت الناس بقتله أيضا وهذا يستقيم على قول من يقول أم سلمة توفيت بعد الحسين.
ثم إن ابن زياد قال لعمر بن سعد بعد عوده من قتل الحسين يا عمر ائتي بالكتاب الذي كتبته إليك في قتل الحسين قال مضيت لأمرك وضاع الكتاب قال لتجئني به قال ترك والله يقرأ علي
93

عجائز قريش بالمدينة اعتذارا إليهن أما والله لقد نصحتك في الحسين نصيحة لو نصحتها أبي سعد بن أبي وقاص لكنت قد أديت حقه فقال عثمان بن زياد أخو عبيد الله صدق والله لوددت أنه ليس من بني زياد رجل إلا وفي أنفه خزامة إلى يوم القيامة وأن الحسين لم يقتل فما أنكر ذلك عبيد الله بن زياد. آخر المقتل.
ذكر قتل أبي بلال مرداس بن حدير الحنظلي
قد تقدم ذكر سبب خروجه وتوجيه عبيد الله بن زياد العساكر إليه في الفي رجل فالتقائهم بآسك وهزيمة عسكر ابن زياد فلما هزمهم أبو بلال وبلغ ذلك ابن زياد أرسل إليه ثلاث آلاف عليهم عباد بن الأخضر والأخضر زوج أمه نسب إليه وهو عباد بن علقمة بن عباد التميمي فاتبعه حتى لحقه بتوج فصف له عباد وحمل عليهم أبو بلال فيمن معه فثبتوا واشتد القتال حتى دخل وقت العصر فقال أبو بلال هذا يوم جمعة وهو يوم عظيم وهذا وقت العصر فدعونا حتى نصلي فأجابهم ابن الأخضر وتحاجزوا فعجل ابن الأخضر الصلاة وقيل قطعها والخوارج يصلون فشد عليهم هو وأصحابه وهم ما بين قائم وراكع وساجد لم يتغير منهم أحد من حاله فقتلوا من آخرهم
94

وأخذ رأس أبي بلال.
ورجع عباد إلى البصرة فرصد بها عبيدة بن هلال ومعه ثلاثة نفر فأقبل عباد يريد قصر الإمارة وهو مردف ابنا صغيرا له فقالوا له قف حتى نستفتيك فوقف فقالوا نحن أخوة أربعة قتل أخونا فما تري قال استعدوا الأمير قالوا قد استعديناه فلم يعدنا قال فاقتلوه قتله الله فوثبوا عليه وحكموا به فالقي ابنه فنجا وقتل هو فاجتمع الناس على الخوارج فقتلوا غير عبيدة.
ولما قتل ابن عباد كان ابن زياد بالكوفة ونائبه بالبصرة عبيد الله بن أبي بكرة فكتب إليه يأمره أن يتبع الخوارج ففعل ذلك وجعل يأخذهم فإذا شفع في أحدهم ضمنه إلى أن يقدم ابن زياد ومن لم يكفله أحد حبسه وأتى بعروة بن أدية فاطلقه وقال أنا كفيلك فلما قدم ابن زياد أخذ من في الحبس من الخوارج فقتلهم وطلب الكفلاء بمن كفلوا به فمن أتى بخارجي أطلقه وقتل الخارجي ومن لم يأت بالخارجي قتله ثم طلب عبيد الله بن أبي بكرة بعروة بن أدية قال لا أقدر عليه فقال اذن أقتلك به فلم يزل يبحث عنه حتى ظفر به وأحضره عند ابن زياد فقال له ابن زياد لأمثلن بك فقال اختر لنفسك من القصاص ما شئت به فامر به فقطعت يداه ورجلاه وصلبه وقيل إنه قتل سنة ثمان وخمسين.
ذكر ولاية سلم بن زياد على خراسان وسجستان
قيل في هذه السنة استعمل يزيد سلم بن زياد على خراسان.
وسبب ذلك أن سلما قدم على يزيد فقال له يزيد يا أبا حرب أوليك
95

عمل أخويك عبد الرحمن وعباد فقال ما أحب أمير المؤمنين فولاه خراسان وسجستان فوجه سلم الحرث بن معاوية الحارثي جد عيسى بن شبيب إلى خراسان وقدم سلم البصرة فتجهز منها فوجه أخاه يزيد إلى سجستان فكتب عبيد الله بن زياد إلى أخيه عباد يخبره بولاية سلم فقسم عباد ما في بيت المال [على] عبيده وفضل فضل فنادي من أراد سلفا فليأخذ فأسلف كل من أتاه وخرج عباد من سجستان فلما كان بجيرفت بلغه مكان سلم وكان بينهما جبل فعدل عنه فذهب لعباد تلك الليلة ألف مملوك أقل ما مع أحدهم عشرة آلاف وسار عباد على فارس فقدم على يزيد فسأله عن المال فقال كنت صاحب ثغر فقسمت ما أصبت بين الناس.
ولما سار سلم إلى خراسان كتب معه يزيد إلى أخيه عبيد الله بن زياد ينتخب له ستة آلاف فارس وقيل ألفي فارس وكان سلم ينتخب الوجوه فخرج معه عمران بن الفضيل البرجمي والمهلب بن أبي صفرة وعبد الله بن خازم السلمي وطلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعي وحنظلة بن عرادة ويحيي بن يعمر العدواني وصلة بن أشيم العدوي وغيرهم وسار سلم إلى خراسان وعبر النهر غازيا وكان عمال خراسان قبله يغزون فإذا دخل الشتاء رجعوا إلى مرو الشاهجان فإذا انصرف المسلمون اجتمع ملوك خراسان بمدينة مما يلي خوارزم فيتعاقدون أن لا يغزو بعضهم بعضا ويتشاورون في أمورهم فكان المسلمون يطلبون إلى أمرائهم غزو تلك المدينة فيأبون عليهم فلما قدم سلم غزا فشتا في بعض مغازيه فألح عليه المهلب بن أبي صفرة وسأله التوجه إلى تلك المدينة فوجهه في ستة آلاف وقيل أربعة آلاف فحاصرهم،
96

فطلبوا أن يصالحهم على أن يفدوا أنفسهم فأجابهم إلى ذلك وصالحوه على نيف وعشرين ألف ألف وكان في صلحهم أن يأخذ منهم عروضا فكان يأخذ الرأس والدابة والمتاع بنصف ثمنه فبلغت قيمته ما أخذ منهم خمسين ألف ألف فحظي بها المهلب عند سلم وأخذ سلم من ذلك ما أعجبه وبعث به إلى يزيد.
وغزا سلم سمرقند وعبرت معه النهر امرأته أم محمد ابنة عبيد الله بن عثمان بن أبي العاص الثقفية وهي أول امرأة من العرب قطع بها النهر فولدت له ابنا سماه صغدي واستعارت امرأة من امرأة صاحب الصغد حليها فلم تعده إليها وذهبت به ووجه جيشا إلى خجندة فيهم أعشي همدان فهزموا فقال أعشي:
(ليت خيلي يوم الخجندة لم ته * زم وغودرت في المكر سليبا)
(تحضر الطير مصرعي وتروح * ت إلى الله بالدماء خضيبا)
ذكر ولاية يزيد بن زياد وطلحة الطلحات سجستان
ولما استعمل يزيد بن معاوية سلم بن زياد على خراسان استعمل أخاه يزيد على سجستان فغدر أهل كابل فنكثوا وأسروا أبا عبيدة بن زياد فسار إليهم يزيد بن زياد في جيش فاقتتلوا وانهزم المسلمون وقتل منهم كثير فممن قتل يزيد بن عبد الله بن أبي مليكة وصلة بن أشيم أبو الصهباء العدوي زوج معاذة العدوية فلما بلغ الخبر سلم بن زياد سير طلحة بن عبد الله بن خلف
97

الخزاعي، وهو طلحة الطلحات، ففدي أبا عبيدة بن زياد بخمسمائة ألف درهم وسار طلحة من كابل إلى سجستان واليا عليها فجبي المال وأعطي زواره ومات بسجستان واستخلف رجلا من بني يشكر فأخرجته المضرية ووقعت العصبية فطمع فيهم رتبيل.
ذكر ولاية الوليد بن عتبة المدينة والحجاز وعزل عمرو بن سعيد
قيل وفي هذه السنة عزل يزيد عمرو بن سعيد عن المدينة وولاها الوليد بن عتبة بن أبي سفيان.
وكان سبب ذلك أن عبد الله بن الزبير أظهر الخلاف على يزيد وبويع بمكة بعد قتل الحسين فإنه لما بلغه قتل الحسين قام في الناس فعظم قتله وعاب أهل الكوفة خاصة وأهل العراق عامة فقال بعد حمد الله والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أهل العراق غدر فجر إلا قليلا وإن أهل الكوفة شرار أهل العراق وإنهم دعوا الحسين لينصروه ويولوه عليهم فلما قدم عليهم ثاروا عليهم ثاروا عليه فقالوا إما أن تضع يدك في أيدينا فنبعث بك إلى ابن زياد بن سمية فيمضي فيك حكمه وإما أن تحارب فرأى والله أنه هو وأصحابه قليل في كثير فإن كان الله لم يطلع على الغيب أحدا أنه مقتول ولكنه اختار الميتة الكريمة على الحياة الذميمة فرحم الله الحسين وأخزى قاتله لعمري لقد كان من خلافهم إياه وعصيانهم بما كان في مثله واعظ وناه عنهم،
98

ولكنه ما قرر نازل وإذا أراد الله أمرا لم يدفع أفبعد الحسين نطمئن إلى هؤلاء القوم ونصدق قولهم ونقبل لهم عهدا لا والله لا نراهم لذلك أهلا أما والله لقد قتلوه طويلا بالليل قيامه كثيرا في النهار صيامه أحق بما هم فيه منهم وأولي به في الدين والفضل أما والله ما كان يبدل القرآن غيا ولا بالبكاء من خشية الله حدا ولا بالصيام شرب الخمر ولا بالمجالس في حلق الذكر بكلاب الصيد يعني بيزيد، (فسوف يلقون غيا).
فثار إليه أصحابه وقالوا أظهر بيعتك فإنك لم يبق أحد إذ هلك الحسين ينازعك هذا الأمر وقد كان يبايع سرا ويظهر أنه عائذ بالبيت فقال لهم لا تعجلوا وعمرو بن سعيد يومئذ عامل مكة وهو أشد شيء على ابن الزبير وهو مع ذلك يداري ويرفق.
فلما استقر عند يزيد ما قد جمع ابن الزبير بمكة من الجموع أعطي الله عهدا ليوثقنه في سلسلة فبعث إليه سلسلة من فضة مع ابن عطاء الأشعري وسعد وأصحابهما ليأتوه به فيها وبعث معهم برنس خز ليلبسوه عليهما لئلا تظهر للناس.
فاجتاز ابن عطاء المدينة وبها مروان بن الحكم فأخبره ما قدم له فأرسل مروان معه ولدين له أحدهما عبد العزيز وقال إذا بلغته رسل يزيد فتعرضا له وليتمثل أحدكما بهذا القول فقال:
99

(فخذها فليست للعزيز بخطة * وفيها فعال لامرئ متذلل)
(أعامر إن القوم ساموك خطة * وذلك في الجيران غزلا بمغزل)
(أراك إذا ما كنت للقوم ناصحا * يقال له بالدلو أدبر وأقبل)
فلما بلغه الرسول قال عبد العزيز الأبيات فقال ابن الزبير يا ابني مروان قد سمعت ما قلتما فأخبرا أباكما:
(إني لمن نبعة صم مكاسرها * إذا تناوحت البكاء والعشر)
(فلا ألين لغير الحق أسأله * حتى يلين لضرس الماضغ الحجر)
وامتنع ابن الزبير من رسل يزيد فقال الوليد بن عتبة وناس من بني أمية ليزيد لو شاء عمرو لأخذ ابن الزبير وسرحه إليك فعزل عمرا وولي وليد الحجاز وأخذ الوليد غلمان عمرو ومواليه فحبسهم فكلمه عمرو فأبي أن يخليهم فسار عن المدينة ليلتين وأرسل إلى غلمانه بعدتهم من الإبل فكسروا الحبس وساروا إليه فلحقوه عند وصوله إلى الشام فدخل على يزيد وأعلمه ما كان فيه من مكابدة ابن الزبير فعذره وعلم صدقه.
100

ذكر عدة حوادث
حج بالناس الوليد هذه السنة وكان الأمير بالعراق عبيد الله بن زياد وعلي خراسان سلم بن زياد وعلي قضاء الكوفة شريح وعلي قضاء البصرة هشام بن هبيرة وفي هذه السنة مات علقمة بن قيس النخعي صاحب ابن مسعود وقيل سنة اثنتين وقيل خمس وله تسعون سنة وفيها توفي المنذر بن الجارود العبدي وجابر بن عتيك الأنصاري وقيل حر وكان عمره إحدى وتسعين سنة وشهد بدرا وفيها مات حمزة بن عمرو الأسلمي وعمره إحدى وسبعون سنة وقيل ثمانون سنة له صحبة وفيها توفي خالد بن عرفطة الليثي وقيل العذري حليف بني زهرة وقيل مات سنة ستين وله صحبة.
101

62
ثم دخلت سنة اثنتين وستين
ذكر وفد أهل المدينة إلى الشام
لما ولي الوليد الحجاز أقام يريد غرة ابن الزبير فلا يجده إلا محترزا ممتنعا وثار نجده بن عامر النخعي باليمامة حين قتل الحسين وثار ابن الزبير بالحجاز وكان الوليد يفيض من المعرف ويفيض معه سائر الناس وابن الزبير واقف في أصحابه ثم يفيض ابن الزبير بأصحابه ونجدة بأصحابه وكان نجدة يلقي ابن الزبير فيكثر حتى ظن
الناس أنه سيبايعه ثم إن الزبير عمل بالمكر في أمر الوليد فكتب إلى يزيد إنك بعثت إلينا رجلا أخرق لا ينجد لرشد ولا يرعوي لعظة الحكيم فلو بعثت رجلا سهل الخلق رجوت أن يسهل من الأمور ما استوعر منها وأن يجتمع ما تفرق.
فعزل يزيد الوليد وولي عثمان بن محمد بن أبي سفيان وهو فتي غر حدث لم يجرب الأمور ولم يحنكه السن لا يكاد ينظر في شيء من سلطانه ولا عمله فبعث إلى يزيد وفدا من أهل المدينة فيهم عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة وعبد الله بن أبي عمرو بن حفص بن المغيرة المخزومي والمنذر بن الزبير،
102

ورجالا كثيرة من أشراف أهل المدينة فقدموا على يزيد فأكرمهم وأحسن إليهم وأعظم جوائزهم فأعطي عبد الله بن حنظلة وكان شريفا فاضلا عابدا سيدا مائة ألف درهم وكان معه ثمانية بنين فأعطي كل ولد عشرة آلاف.
فلما رجعوا قدموا المدينة كلهم إلا المنذر بن الزبير فإنه قدم العراق على ابن زياد وكان يزيد قد أجازه بمائة ألف فلما قدم أولئك النفر الوفد المدينة قاموا فيهم فأظهروا شتم يزيد وعيبه وقالوا قدمنا من عند رجل ليس له دين يشرب الخمر ويضرب بالطنابير ويعزف عنده القيان ويلعب الكلاب ويسمر عنده الخراب وهم اللصوص وإنا نشهدكم أنا قد خلعناه.
وقام عبد الله بن حنظلة الغسيل فقال جئتكم من عند رجل لو لم أجد إلا بني هؤلاء لجاهدته بهم وقد أعطاني وأكرمني وما قبلت منه عطاءه إلا لأتقوى به فخلعه الناس وبايعوا عبد الله بن حنظلة الغسيل على خلع يزيد وولوه عليهم.
وأما المنذر بن الزبير فإنه قدم على ابن زياد فأكرمه وأحسن إليه وكان صديق زياد فأتاه كتاب يزيد حيث بلغه أمر المدينة يأمره بحبس المنذر فكره ذلك لأنه ضيفه وصديق أبيه فدعاه وأخبره بالكتاب فقال له إذا اجتمع الناس عندي فقم وقل ائذن لي لأنصرف إلى بلادي فإذا قلت بل تقم عندي فلك الكرامة والمواساة فقل إن لي ضيعة وشغلا ولا أجد بدا لي من الانصراف فتلحق بأهلك.
فلما اجتمع الناس على ابن زياد فعل المنذر ذلك فأذن له في الانصراف، فقدم المدينة، فكان ممن يحرض الناس على يزيد، وقال: إنه قد أجازني
103

بمائة ألف ولا يمنعني ما صنع بي أن أخبركم خبره وأصدقكم عنه والله إنه ليشرب الخمر والله إنه ليسكر حتى يدع الصلاة وعابه بمثل ما عابه به أصحابه وأشد فبعث يزيد النعمان بن بشير الأنصاري وقال له إن عدد الناس بالمدينة قومك فإنهم ما يمنعهم [شيء] عما يريدون، فإنهم إن لم ينهضوا في هذا الأمر لم يجترئ الناس على خلافي.
فأقبل النعمان فأتي قومه فأمرهم بلزوم الطاعة وخوفهم الفتنة وقال لهم إنكم لا طاقة لكم بأهل الشام فقال عبد الله بن مطيع العدوي يا نعمان ما عملك على فساد ما أصلح الله من أمرنا وتفريق جماعتنا فقال النعمان والله كأني بك لو نزل بك الجموع ودارت رحى الموت بين الفريقين قد ركبت بغلتك إلى مكة وخلفت هؤلاء المساكين يعني الأنصار يقتلون في سككهم ومساجدهم وعلي أبواب دورهم فعصاه الناس وانصرف وكان الأمر كما قال.
104

ذكر ولاية عقبة بن نافع إفريقية ثانية
وما افتتحه فيها وقتله
قد ذكرنا عزل عقبة عن إفريقية وعوده إلى الشام فلما وصل إلى معاوية وعده بإعادته إلى إفريقيا وتوفي معاوية وعقبة بالشام فاستعمله يزيد على إفريقية في هذه السنة وأرسله إليها فوصل إلى القيروان مجدا وقبض أبا المهاجر أميرها وأوثقه في الحديد وترك بالقيروان جندا مع الذراري والأموال واستخلف بها زهير بن قيس البلوي وأحضر أولاده فقال لهم إني قد بعثت نفسي من الله عز وجل فلا أزال مجاهدا من كفر بالله وأوصي بما يفعل بعده.
ثم سار في عسكر عظيم حتى دخل مدينة باغاية وقد اجتمع بها خلق كثير من الروم فقاتلوه قتالا شديدا وانهزموا عنه وقتل فيهم قتلا ذريعا وغنم منهم غنائم كثيرة ودخل المنهزمون المدينة وحاصرهم عقبة ثم كره المقام عليهم فسار إلى بلاد الزاب وهي بلاد واسعة فيها عدة مدن وقري كثيرة فقصد مدينتها العظمي واسمها أربة فامتنع بها من هناك من الروم والنصارى عدة دفعات ثم انهزم النصارى وقتل كثير من فرسانهم ورحل إلى تاهرت.
فلما بلغ الروم خبره استعانوا بالبربر فأجابوهم ونصروهم فاجتمعوا في جمع كثير والتقوا واقتتلوا قتالا شديدا واشتد الأمر على المسلمين لكثرة العدو ثم إن الله تعالى نصرهم فانهزمت الروم والبربر وأخذهم السيف وكثر فيهم القتل
105

وغنم المسلمون أموالهم وسلاحهم.
ثم سار حتى نزل على طنجة فلقيه بطريق من الروم اسمه يليان فأهدي له هدية حسنة ونزل على حكمه ثم سأله عن الأندلس فعظم الأمر عليه فسأله عن البربر فقال هم كثيرون لا يعلم عددهم إلا الله وهم بالسوس الأدنى وهم كفار لم يدخلوا في النصرانية ولهم بأس شديد.
فسار عقبة إليهم نحو السوس الأدنى وهم كفار لم يدخلوا في النصرانية ولهم بأس شديد فسار عقبة إليهم نحو السوس الأدنى وهو مغرب طنجة فانتهى إلى أوائل البربر فلقوه في جمع كثير فقتل فيهم قتلا ذريعا وبعث خيله في كل مكان هربوا إليه وسار هو حتى وصل إلى السوس الأقصى وقد اجتمع له البربر في عالم لا يحصي فلقيهم وقاتلهم وهزمهم وقتل المسلمون فيهم حتى ملوا وغنموا منهم وسبوا سبيا كثيرا وسار حتى بلغ ماليان ورأي البحر المحيط فقال يا رب لولا هذا البحر لمضيت في البلاد مجاهدا في سبيلك.
ثم عاد فنفر الروم والبربر عن طريقه خوفا منه واجتاز بمكان يعرف اليوم بماء الفرس فنزله ولم يكن به ماء فلحق الناس عطش كثير أشرفوا [منه] على الهلاك فصلي عقبة ركعتين ودعا فبحث فرس له في الأرض بيديه فكشف له عن صفاة فانفجر الماء فنادي عقبة في الناس فحفروا أحساء كثيرة وشربوا فسمي ماء الفرس.
فلما وصل إلى مدينة طبنة وبينها وبين القيروان ثمانية أيام أمر أصحابه أن يتقدموا فوجا فوجا ثقة منه بما نال من العدو وأنه لم يبق أحد يخشاه وسار إلى تهوذة لينظر إليها في نفر يسير فلما رآه الروم في قلة طمعوا فيه فأغلقوا باب الحصن وشتموه وقاتلوه وهو يدعوهم إلى الإسلام فلم يقبلوا منه.
106

ذكر خروج كسيلة بن كمرم البربري على عقبة
هذا كسيلة بن كمرم البربري كان قد أسلم لما ولي أبو المهاجر إفريقية وحسن إسلامه وهو من أكابر البربر وأبعدهم صوتا وصحب أبا المهاجر فلما ولي عقبة عرفه أبو المهاجر محل كسيلة وأمره بحفظه فلم يقبل واستخف به وأتى عقبة بغنم فأمر كسيلة بذبحها وسلخها مع السلاخين فقال كسيلة هؤلاء فتياني وغلماني يكفونني المؤنة فشتمه وأمره بسلخها ففعل فقبح أبو المهاجر هذا عند عقبة فلم يرجع فقال له أوثق الرجل فإني أخاف عليك منه فتهاون به عقبة فأضمر كسيلة الغدر.
فلما كان الآن ورأي الروم قلة من مع عقبة فأرسلوا إلى كسيلة وأعلموه حاله وكان في عسكر عقبة مضمرا للغدر وقد أعلم الروم ذلك وأطمعهم فلما راسلوه أظهر ما كان يضمره وجمع أهله وبني عمه وقصد عقبة فقال أبو المهاجر عاجله قبل أن يقوي جمعه وكان أبو المهاجر موثقا في الحديد مع عقبة فزحف عقبة إلى كسيلة فتنحي كسيلة عن طريقه ليكثر جمعه فلما رأى أبو المهاجر ذلك تمثل بقول أبي محجن الثقفي:
(كفى حزنا أن ترتدي الخيل بالقنا * وأترك مشدودا على وثاقيا)
(إذا قمت عناني الحديد وأغلقت * مصارع من دوني تصم المناديا)
فبلغ عقبة ذلك فأطلقه فقال له الحق بالمسلمين وقم بأمرهم وأنا أغتنم
107

الشهادة. فلم يفعل وقال وأنا أيضا أريد الشهادة فكسر عقبة والمسلمون أجفان سيوفهم وتقدموا إلى البربر وقاتلوهم فقتل المسلمون جميعهم لم يفلت منهم أحد وأسر محمد بن أوس الأنصاري في نفر يسير فخلصهم صاحب قفصة وبعث بهم إلى القيروان فعزم زهير بن قيس البلوي على القتال فخالفه جيش الصنعاني وعاد إلى مصر فتبعه أكثر الناس فاضطر زهير إلى العود معهم فسار إلى برقة وأقام بها.
وأما كسيلة فاجتمع إليه جمع أهل إفريقية وقصد إفريقية وبها أصحاب الأنفال والذراري من المسلمين فطلبوا الأمان من كسيلة فأمنهم ودخل القيروان واستولى على إفريقية وأقام بها إلى أن قوي أمر عبد الملك بن مروان
فاستعمل على إفريقية زهير بن قيس البلوي وكان مقيما ببرقة مرابطا
ذكر ولاية زهير بن قيس إفريقية وقتله وقتل كسيلة
لما ولي عبد الملك بن مروان ذكر عنده من بالقيروان من المسلمين وأشار عليه أصحابه بإنفاذ الجيوش إلى أفريقية لاستنقاذهم فكتب إلى زهير بن قيس البلوى بولاية إفريقية وجهز له جيشا كثيرا فسار سنة تسع وستين إلى أفريقية.
فبلغ خبره إلى كسيلة فاحتفل وجمع وحشد البربر والروم وأحضر أشراف أصحابه وقال قد رأيت أن أرحل إلى ممش فأنزلها فإن بالقيروان خلقا كثيرا من المسلمين ولهم علينا عهد فلا نغدر بهم ونخاف إن قاتلنا زهيرا أن يثب هؤلاء
108

من ورائنا، فإذا نزلنا ممش أمناهم وقاتلنا زهيرا فإن ظفرنا بهم تبعناهم إلى طرابلس وقطعنا أثرهم من إفريقية وإن ظفروا بنا تعلقوا بالجبال ونجونا فأجابوه إلى ذلك ورحل إلى ممش وبلغ ذلك زهيرا فلم يدخل القيروان بل أقام ظاهرها ثلاثة أيام حتى أراح واستراح ورحل في طلب كسيلة فلما قاربه نزل وعبي أصحابه وركب إليه فالتقي العسكران واشتد القتال وكثر القتل في الفريقين حتى أيس الناس من الحياة فلم يزالوا كذلك أكثر النهار ثم نصر الله المسلمين وانهزم كسيلة وأصحابه وقتل هو وجماعة من أعيان أصحابه بممش وتبع المسلمون البربر والروم فقتلوا من أدركوا منهم فأكثروا وفي هذه الوقعة ذهب رجال البربر والروم وملوكهم وأشرافهم وعاد زهير إلى القيروان.
ثم إن زهيرا رأى بإفريقية ملكا عظيما فأبي أن يقيم وقال إنما قدمت للجهاد فأخاف أن أميل إلى الدنيا فأهلك.
وكان عابدا زاهدا فترك بالقيروان عسكرا وهم آمنون لخلو البلاد من عدو أو ذي شوكة ورحل في جمع كثير إلى مصر.
وكان قد بلغ الروم بالقسطنطينية مسير زهير من برقة إلى إفريقية لقتال كسيلة فاغتنموا خلوها فخرجوا إليها في مراكب كثيرة وقوة قوية من جزيرة صقلية وأغاروا على برقة فأصابوا منها سبيا كثيرا وقتلوا ونهبوا ووافق ذلك قدوم زهير من إفريقية إلى برقة فأخبر الخبر فأمر العسكر بالسرعة والجد في قتالهم ورحل هو ومن معه وكان الروم خلقا كثيرا فلما رآه المسلمون استغاثوا به فلم يمكنه الرجوع وباشر القتال واشتد الأمر وعظم الخطب وتكاثر
109

الروم عليهم فقتلوا زهيرا وأصحابه ولم ينج منهم أحد وعاد الروم بما غنموا إلى القسطنطينية.
ولما سمع عبد الملك بن مروان بقتل زهير عظم عليه واشتد ثم سير إلى إفريقية حسان بن النعمان الغساني وسنذكره سنة أربع وسبعين إن شاء الله.
وكان ينبغي أن نذكر ولاية زهير وقتله سنة تسع وستين وإنما ذكرناه ههنا ليتصل خبر كسيلة ومقتله فإن الحادثة واحدة وإذا تفرقت لم تعلم حقيقتها.
ذكر عدة حوادث
حج بالناس هذه السنة الوليد بن عتبة.
وفيها ولد محمد بن علي بن عبد الله بن عباس والد السفاح والمنصور.
وفيها توفي عبد المطلب بن ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب بن هاشم الهاشمي وله صحبة ومسلمة بن مخلد الأنصاري وكان عمره لما مات النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين وتوفي بمصر مسروق بن الأجدع وقيل توفي سنة ثلاث وستين.
(مخلد بضم الميم وفتح الخاء المعجمة وفتح اللام وتشديدها).
110

63
ثم دخلت سنة ثلاث وستين
ذكر وقعة الحرة
كان أول وقعة الحرة ما تقدم من خلع يزيد فلما كانت هذه السنة أخرج أهل المدينة عثمان بن محمد بن أبي سفيان عامل يزيد وحصروا بني أمية بعد بيعتهم عبد الله بن حنظلة فاجتمع بنو أمية ومواليهم ومن يرى رأيهم في ألف رجل حتى نزلوا دار مروان بن الحكم فكتبوا إلى يزيد يستغيثون به فقدم الرسول إليه وهو جالس على كرسي وقد وضع قدميه في طشت فيه ماء لنقرس كان بهما قرأ الكتاب تمثل:
(لقد بدلوا الحكم الذي في سجيتي * فبدلت قومي غلظة بليان)
ثم قال أما يكون بنو أمية ومواليهم ألف رجل فقال الرسول بلي والله وأكثر قال فما استطاعوا أن يقاتلوا ساعة من النهار فبعث إلى عمرو بن سعيد فاقرأه الكتاب وأمره أن يسير إليهم في الناس فقال قد كنت ضبطت لك الأمور والبلاد فأما الآن صارت دماء قريش تهرق بالصعيد فلا أحب أن أتولي ذلك.
وبعث إلى عبيد الله بن زياد يأمره بالمسير إلى المدينة ومحاصرة ابن الزبير
111

بمكة، فقال والله لا جمعتهما للفاسق قتل ابن رسول الله وغزو الكعبة ثم أرسل إليه يعتذر.
فبعث إلى مسلم بن عقبة المري وهو الذي سمي مسرفا وهو شيخ كبير مريض فأخبره الخبر فقال أما يكون بنو أمية ألف رجل فقال الرسول بلي قال فما استطاعوا أن يقاتلوا ساعة من النهار ليس هؤلاء بأهل أن ينصروا فإنهم الأذلاء دعهم يا أمير المؤمنين حتى يجهدوا أنفسهم في جهاد عدوهم ويتبين لك من يقاتل على طاعتك ومن يستسلم قال ويحك إنه لا خير في العيش بعدهم فأخرج بالناس.
وقيل إن معاوية قال: ليزيد إن لك من أهل المدينة يوما فإن فعلوا فارمهم بمسلم بن عقبة فإنه رجل قد عرفت نصيحته فلما خلع أهل المدينة أمر مسلما بالمسير إليهم فنادي في الناس بالتجهز إلى الحجاز وأن يأخذوا عطاءهم ومعونة مائة دينار فانتدب لذلك اثنا عشر ألفا وخرج يزيد يعرضهم وهو متقلد سيفا متنكب قوسا عربية وهو يقول:
(ألغ أبا بكر إذا الليل سري * وهبط القوم على وادي القري)
(أجمع سكران من القوم تري * أم جمع يقظان نفي عنه الكري)
(يا عجبا من ملحد يا عجبا * مخادع بالدين يعفو بالعري)
وسار الجيش وعليهم مسلم فقال له يزيد إن حدث بك حدث فاستخلف الحصين بن نمير السكوني وقال له ادع القوم ثلاثا فإن أجابوك وإلا فقاتلهم فإذا ظهرت عليهم فأبحها ثلاثا فكل ما فيها من مال أو دابة أو
112

سلاح أو طعام فهو للجند فإذا مضت الثلاث فاكفف عن الناس وانظر علي بن الحسين فاكفف عنه واستوص به خيرا فإنه لم يدخل مع الناس وإنه قد أتاني كتابه.
وقد كان مروان بن الحكم كلم ابن عمر لما اخرج أهل المدينة عامل يزيد وبني أمية في أن يغيب أهله عنده فلم يفعل فكلم علي بن الحسين فقال إن لي حرما وحرمي يكون مع حرمك فقال أفعل فبعث بامرأته وهي عائشة ابنة عثمان بن عفان وحرمه إلى علي بن الحسين فخرج علي بحرمه وحرم مروان إلى ينبع وقيل بل أرسل حرم مروان وأرسل معهم ابنه عبد الله بن علي إلى الطائف.
ولما سمع عبد الملك بن مروان أن يزيد قد سير الجنود إلى المدينة قال ليت السماء وقعت على الأرض إعظاما لذلك.
ثم إنه ابتلي بعد ذلك بأن وجه الحجاج فحصر مكة ورمي الكعب بالمنجنيق وقتل ابن الزبير. وأما قتل ابن الزبير فإنه أقبل بالجيش فاشتد حصارهم لبني أمية بدار مروان وقالوا والله لا نكف عنكم حتى نستنزلكم ونضرب أعناقكم أو تعطونا عهد الله وميثاقه أن لا تبغونا غائلة ولا تدلوا لنا على عورة ولا تظاهروا علينا عدوا فنكف عنكم ونخرجكم عنا فعاهدوهم على ذلك فأخرجوهم من المدينة.
وكان أهل المدينة قد جعلوا في كل منهل بينهم وبين الشام زقا من قطران فأرسل الله السماء عليهم يستقوا بدلو حتى وردوا المدينة.
فلما أخرج أهل المدينة بني أمية ساروا بأثقالهم حتى لقوا مسلم بن عقبة بوادي القرى فدعا عمرو بن عثمان بن عفان أول الناس فقال له: خبرني ما
113

وراءك وأشر علي. فقال: لا أستطيع، قد أخذ علينا العهود والمواثيق أن لا ندل على عورة ولا نظاهر عدونا فانتهره وقال والله لولا أنك ابن عثمان لضربت عنقك وأيم الله لا أقيلها قرشيا بعدك فخرج إلى أصحابه فأخبرهم خبره فقال مروان بن الحكم لابنه عبد الملك ادخل قبلي لعله يجتزئ بك عني فدخل عبد الملك فقال هات ما عندك فقال أرى أن تسير بمن معك فإذا انتهيت إلى ذي نخلة نزلن فاستظل الناس في ظله فأكلوا من صقره فإذا أصبحت من الغد مضيت وتركت المدينة ذات اليسار ثم درت بها حتى تأتيهم من قبل الحرة مشرقا ثم تستقبل القوم فإذا استقبلتهم وقد أشرقت عليهم الشمس طلعت بين أكتاف أصحابك فلا تؤذيهم ويصيبهم أذاها ويرون من ائتلاق بيضكم وأسنة رماحكم وسيوفكم ودروعكم ما لا ترونه أنتم ما داموا مغربين ثم قاتلهم واستعن الله عليهم.
فقال له مسلم: لله أبوك أي امرئ ولد!
ثم إن مروان دخل عليه فقال له: إيه! فقال: أليس قد دخل عليك عبد الملك؟ قال: بلي، وأي رجل عبد الملك! قل ما كلمت من رجال قريش رجلا شبيها به فقال مروان إذا لقيت عبد الملك فقد لقيتني ثم إنه صار في كل مكان يصنع ما أمر به عبد الملك فجاءهم من قبل المشرق ثم دعاهم مسلم فقال إن أمير المؤمنين يزعم أنكم الأصل وإني أكره إراقة دمائكم وإني أؤجلكم ثلاثا فمن ارعوى وراجع الحق قبلنا منه وانصرفت عنكم وسرت
114

إلى هذا المحل الذي بمكة وان أبيتم كنا قد اعتذرنا إليكم.
فلما مضت الثلاث قال يا أهل المدينة ما تصنعون أتسالمون أم تحاربون فقالوا بل نحارب فقال لهم لا تفعلوا بل ادخلوا في الطاعة ونجعل جدنا وشوكتنا على أهل هذا الملحد الذي قد جمع إليه المراق والفساق من كل أوب يعني ابن الزبير فقالوا له يا أعداء الله لو أردتم أن تجوزوا إليه ما تركناكم نحن قد نعلم أن تأتوا بيت الله الحرام فتخيفوا أهله وتلحدوا فيه وتستحلوا حرمته لا والله لا نفعل.
وكان أهل المدينة قد اتخذوا خندقا وعليه جمع منهم وكان عليه عبد الرحمن بن زهير بن عبد عوف وهو ابن عم عبد الرحمن بن عوف وكان عبد الله بن مطيع على ربع آخر وهم قريش في جانب المدينة وكان معقل بن سنان الأشجعي وهو من الصحابة على ربع آخر وهم المهاجرون وكان أمير جماعتهم عبد الله بن حنظلة الغسيل الأنصاري في أعظم تلك الأرباع وهم الأنصار.
وصمد مسلم فيمن معه فأقبل من ناحية الحرة حتى ضرب فسطاطه عن طريق الكوفة وكان مريضا فأمر فوضع له كرسي بين الصفين وقال يا أهل الشام قاتلوا عن أميركم أو دعوا فأخذوا لا يقصدون ربعا من تلك الأرباع إلا هزموه ثم وجه الخيل نحو ابن الغسيل فحمل عليهم ابن الغسيل فيمن معه فكشفهم فانتهوا إلى مسلم فنهض في وجوههم بالرجال وصاح بهم فقاتلوا قتالا شديدا.
ثم إن الفضل بن عباس بن ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب جاء إلى ابن الغسيل فقاتل معه في نحو من عشرين فارسا قتلا حسنا ثم قال لابن الغسيل:
115

من كان معك فارسا فليأتني فليقف معي، فإذا حملت فليحملوا، فوالله لا أنتهي حتى أبلغ مسلما فأقتله أو أقتل دونه ففعل ذلك وجمع الخيل إليه فحمل بهم الفضل على أهل الشام فاكشفوا فقال لأصحابه احملوا أخرى جعلت فداءكم فوالله لئن عاينت أميرهم لأقتلنه أو أقتل دونه إنه ليس بعد الصبر إلا النصر! ثم حمل وحمل أصحابه فانفجرت خيل الشام عن مسلم بن عقبة ومهم مسلم بن عقبة ومعه نحو خمسمائة راجل جثاة على الركب مشرعي الأسنة نحو القوم، ومضي الفضل كما هو نحو راية مسلم فضرب رأس صاحبها، فقط المغفر وفلق هامته وخر ميتا، وقال: خذها مني وأنا ابن عبد المطلب! وظن أنه مسلم، فقال: قتلت طاغية القوم ورب الكعبة! فقال أخطأت استك الحفرة!
وإنما كان ذلك غلاما روميا وكان شجاعا فأخذ مسلم رايته وحرض أهل الشام وقال شدوا مع هذه الراية فمشي برايته وشدت تلك الرجال أمام الراية وحرض أهل الشام وقال شدوا مع هذه الراية فمشي برايته وشدت تلك الرجال أمام الراية فصرع الفضل بن عباس فقتل وما بينه وبين أطناب مسلم بن عقبة إلا نحو من عشرة أذرع وقتل معه زيد بن عبد الرحمن بن عوف.
وأقبلت خيل مسلم ورجالته نحو ابن الغسيل وهو يحرض أصحابه ويذم أهل المدينة ويقدم أصحابه إلى ابن الغسيل، [وأصحابه]، فلم يقدم عليهم للرماح التي بأيديهم والسيوف وكانت تتفرق عنهم فنادي مسلم الحصين بن نمير وعبد الله بن عضاة الأشعري وأمرهما أن ينزلا في جندهما ففعلا وتقدما إليهم فقال ابن الغسيل لأصحابه إن عدوكم قد أصاب وجه القتال الذي كان ينبغي
116

أن يقاتلكم به وإني قد ظننت أن لا يلبثوا إلا ساعة حتى يفصل الله بينكم وبينهم إما لكم وأما عليكم أما إنكم أهل النصرة ودار الهجرة وما أظن ربكم أصبح عن أهل بلد من بلدان المسلمين بأرضي منه عنكم ولا على أهل بلد من بلدان العرب بأسخط منه على هؤلاء الذين يقاتلونكم وإن لكل امرئ منكم ميتة وهو ميت بها لا محالة ووالله ما [من] ميتة أفضل من ميتة الشهادة وقد ساقها الله إليكم فاغتنموها ثم دنا بعضهم من بعض فأخذ أهل الشام يرمونهم بالنبل فقال ابن الغسيل لأصحابه عليهم تستهدفون لهم من أراد التعجيل إلى الجنة فليلزم هذه الراية فقام إليه كل مستميت فنهض بعضهم إلى بعض فاقتتلوا أشد قتال رؤى لأهل هذا القتال وأخذ ابن الغسيل يقدم بنيه واحدا واحدا حتى قتلوا بين يديه وهو يضرب [بسيفه] ويقول:
(بعدا لمن رام الفساد وطغي * وجانب الحق وآيات الهدى)
(لا يبعد الرحمن إلا مع عصي)
ثم قتل وقتل معه أخوه لأمه محمد بن ثابت بن قيس بن شماس فقال ما أحب أن الديلم قتلوني مكان هؤلاء القوم وقتل معه عبد الله بن زيد بن عاصم ومحمد بن عمرو بن حزم الأنصاري فمر به مروان بن الحكم فقال رحمك الله رب السارية قد رأيتك تطيل القيام في الصلاة إلى جنبها وانهزم الناس وكان فيمن انهزم محمد بن سعد بن أبي وقاص بعدما أبلي.
وأباح مسلم المدينة ثلاثا يقتلون الناس ويأخذون المتاع والأموال فأفزع
117

ذلك من بها من الصحابة. فخرج أبو سعيد الخدري حتى دخل في كهف الجبل فتبعه رجل من أهل الشام فاقتحم عليه الغار فانتضى أبو سعيد سيفه يخوفه به الشامي فلم ينصرف عنه فعاد أبو سعيد وأغمد سيفه وقال (لئن بسطت يدك إلي لتقتلني ما أنا باسط يدي إليك لأقتلك) فقال من أنت؟ قال: أنا أبو سعيد الخدري. قال: صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال نعم فتركه ومضي.
وقيل إن مسلما لما نزل بأهل المدينة خرج إليه أهلها بجموع كثيرة وهيئة حسنة فهابهم أهل الشام وكرهوا أن يقاتلوهم فلما رآهم مسلم وكان شديد الوجع سبهم وذمهم وحرضهم فقاتلوهم.
فبينما الناس في قتالهم إذ سمعوا تكبيرا من خلفهم في جوف المدينة وكان سببه أن بني حارثة أدخلوا أهل الشام المدينة فانهزم الناس فكان من أصيب في الخندق أكثر ممن قتل.
ودعا مسلم الناس إلى البيعة ليزيد على أنهم خول له يحكم في دمائهم وأموالهم وأهليهم ما شاء فمن امتنع من ذلك قتله وطلب الأمان ليزيد بن عبد الله بن ربيعة بن الأسود ولمحمد بن أبي الجهم بن حذيفة ولمعقل بن سنان الأشجعي فأتي بهم بعد الوقعة بيوم فقال بايعوا على الشرط.
فقال القرشيان نبايعك على كتاب الله وسنة رسوله فضرب أعناقهما. فقال مروان: سبحان الله! أتقتل رجلين من قريش أتيا بأمان؟ فطعن بخاصرته بالقضيب، فقال: وأنت والله لو قلت بمقالتهما لقتلتك!
118

وجاء معقل بن سنان فجلس مع القوم فدعا بشراب ليسقي فقال [له] مسلم: أي الشراب أحب إليك قال العسل قال اسقوه فشرب حتى ارتوى فقال له أرويت قال نعم قال والله لا تشرب بعدها شربة إلا في نار جهنم فقال: أنشدك الله والرحمن! فقال له أنت الذي لقيتني بطبرية ليلة خرجت من عند يزيد فقلت سرنا شهرا ورجعنا شهرا وأصبحت صفرا فنرجع إلى المدينة فنخلع هذا الفاسق ابن الفاسق ونبايع لرجل من المهاجرين أو الأنصار فيم غطفان وأشجع من الخلق والخلافة إني آليت بيمين لا ألقاك في حرب أقدر منه على قتلك إلا فعلت ثم أمر به فقتل.
وأتى بيزيد بن وهب فقال له بايع قال أبايعك على الكتاب والسنة قال اقتلوه قال أنا أبايعك قال لا والله فتكلم فيه مروان لصهر كان بينهما فأمر بمروان فوجئت أنفه ثم قتل يزيد.
ثم أتى مروان بعلي بن الحسين فجاء يمشي بين مروان وابنه عبد الملك حتى جلس بينهما عنده فدعا مروان بشراب ليحترم بذلك [من مسلم]، فشرب منه يسيرا ثم ناوله علي بن الحسين فلما وقع في يده قال له مسلم لا تشرب من شرابنا فارتعد كفه ولم يأمنه على نفسه وأمسك القدح بكفه لا يشربه ولا يضعه فقال له أجئت تمشي بين هؤلاء لتأمن عندي والله لو كان إليهما أمر لقتلتك ولكن أمير المؤمنين أوصاني بك وأخبرني أنك كاتبته فإن شئت فاشرب فشرب ثم أجلسه معه على السرير ثم قال له لعل أهلك فزعوا قال أي والله. فأمر بدابة
119

فأسرجت له فحمله عليها فرده ولم يلزمه بالبيعة ليزيد على ما شرط على أهل المدينة.
وأحضر علي بن عبد الله بن عباس ليبايع فقال الحصين بن نمير السكوني لا يبايع ابن أختنا إلا كبيعة علي بن الحسين وكانت أم علي بن عبد الله كندة مع الحصين فتركه مسلم فقال علي:
(أبي العباس قرم بني قصي * وأخوالي الملوك بنو وليعة)
(هموا منعوا ذماري يوم جاءت * كتائب مسرف وبنو اللكيعة)
(أرادوني التي لا عز فيها * فحالت دونه أيد سريعة)
يعني بقوله مسرف مسلم بن عقبة فإنه سمي بعد وقعة الحرة مسرفا وبنو وليعة بطن من كندة منهم أمه، واللكيعة أم أمه.
وقيل: إن عمرو بن عثمان بن عفان لم يكن فيمن خرج من بني أمية فأتي به يومئذ إلى مسلم فقال يا أهل الشام تعرفون هذا قالوا لا قال هذا خبيث بن الطيب هذا عمرو بن عثمان هي يا عمرو إذا ظهر أهل المدينة قلت أنا رجل منكم وإن ظهر أهل الشام قلت أنا ابن أمير المؤمنين عثمان فأمر به فنتفت لحيته ثم قال يا أهل الشام إن أم هذا كانت تدخل الجعل في فيها ثم تقول يا أمير المؤمنين حاجيتك ما في فمي وفي فمها ما شاهي وباهي وكانت من دوس ثم خلي سبيله.
* * *
وكانت وقعة الحرة لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة ثلاث وستين.
120

قال محمد بن عمارة قدمت الشام في تجارة فقال لي رجل من أين أنت فقلت من المدينة فقال خبيثة فقلت يسميها رسول الله صلى الله عليه وسلم طيبة وتسميها خبيثة فقال إن لي ولها شأنا لما خرج الناس إلى وقعة الحرة رأيت في المنام إني قتلت رجلا اسمه محمد أدخل بقتله النار فاجتهدت في أني لا أسير معهم فلم يقبل مني فسرت معهم ولم أقاتل حتى انقضت الوقعة فمررت برجل في القتلى به رمق فقال تنح يا كلب فأنفت من كلامه وقتلته ثم ذكرت رؤياي فجئت برجل من أهل المدينة يتصفح القتلى فلما رأى الرجل الذي قتلته قال انا لله لا يدخل قاتل هذا الجنة قلت ومن هذا قال هو محمد بن عمرو بن حزم ولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسماه محمدا وكناه أبا عبد الملك فأتيت أهله فعرضت عليهم أن يقتلوني فلم يفعلوا وعرضت عليهم الدية فلم يأخذوا.
وممن قتل بالحرة عبد الله بن عاصم الأنصاري وليس بصاحب الأذان ذاك ابن زيد بن ثعلبة وقتل أيضا فيها عبيد الله بن عبد الله بن موهب ووهب بن عبد الله بن زمعة بن الأسود وعبد الله بن عبد الرحمن بن حاطب وزبير بن عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن نوفل بن الحرث بن عبد المطلب.
121

ذكر عدة حوادث
وفي هذه السنة توفي الربيع بن خثيم الكوفي الزاهد وحج بالناس هذه السنة عبد الله بن الزبير وكان يسمي يومئذ العائذ وكانوا يرون الأمر شوري وأتاه الخبر بوقعة الحرة هلال المحرم مع مولي المسور بن مخرمة فجاءه أمر عظيم فأعد هو وأصحابه واستعدوا وعرفوا أن مسلما نازل بهم.
122

64
ثم دخلت سنة أربع وستين
ذكر مسير مسلم لحصار ابن الزبير وموته
فلما فرغ مسلم من قتال أهل المدينة ونهبها شخص بمن معه نحو مكة يريد ابن الزبير ومن معه واستخلف على المدينة روح بن زنباع الجذامي وقيل استخلف عمرو بن مخرمة الأشجعي فلما انتهي إلى المشلل نزل به الموت وقيل بثينة هرشي فلما حضره الموت أحضر الحصين بن نمير وقال له يا ابن برذعة الحمار لو كان الأمر إلي ما وليتك هذا الجند ولكن أمير المؤمنين ولاك بعدي خذ عني أربعا أسرع السير وعجل المناجزة، [وعم الأخبار]، ولا تمكن قريشا من أذنك. ثم قال اللهم إني لم أعمل قط بعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله عملا أحب إلي من قتلي أهل المدينة ولا أرجي عندي في الآخرة.
فلما مات سار الحصين بالناس فقدم مكة لأربع بقين من المحرم سن أربع وستين وقد بايع أهلها وأهل الحجاز عبد الله بن الزبير واجتمعوا عليه ولحق به المنهزمون من أهل المدينة وقدم عليه نجدة بن عامر الحنفي في الناس من
123

الخوارج يمنعون البيت وخرج ابن الزبير إلى لقاء أهل الشام ومعه أخوه المنذر فبارز رجلا من أهل الشام فضرب كل واحد منهما صاحبه ضربة مات منها ثم حمل أهل الشام عليهم حملة انكشفت منها أصحاب عبد الله وعثرت بغلة عبد الله فقال تعسا ثم نزل فصاح بأصحابه إلي فأقبل إليه المسور بن مخرمة ومصعب بن عبد الرحمن بن عوف فقاتلا حتى قتلا جميعا وضاربهم ابن الزبير إلى الليل ثم انصرفوا عنه.
هذا في الحصر الأول ثم أقاموا عليه يقاتلونه بقية المحرم وصفر كله حتى إذا مضت ثلاثة أيام من شهر ربيع الآخر سنة أربع وستين رموا بالبيت بالمجانيق وحرقوه بالنار وأخذوا يرتجزون ويقولون:
(خطارة مثل الفنيق المزبد * نومي بها أعواد هذا المسجد)
وقيل إن الكعبة احترقت من نار كان يوقدها أصحاب عبد الله حول الكعبة وأقبلت شرارة هبت بها الريح فاحترقت ثياب الكعبة واحترق خشب البيت والأول أصح لأن البخاري قد ذكر في صحيحه ان ابن الزبير ترك الكعبة ليراها الناس محترقة يحرضهم على أهل الشام.
وأقام أهل الشام يحاصرون ابن الزبير حتى بلغهم نعي يزيد بن معاوية لهلال ربيع الآخر.
124

ذكر وفاة يزيد بن معاوية
وفي هذه السنة توفي يزيد بن معاوية بحوارين من أرض الشام لأربع عشرة خلت من شهر ربيع الأول وهو ابن ثمان وثلاثين سنة في قول بعضهم وقيل تسع وثلاثين وكانت ولايته ثلاث سنين وستة أشهر وقيل ثمانية أشهر وقيل توفي في ربيع الأول سنة ثلاث وستين وكان عمره خمسا وثلاثين سنة وكانت خلافته سنتين وثمانية أشهر، والأول أصح.
وأمه ميسون بنت بحدل بن أنيف الكلبية.
وكان له من الولد معاوية وكنيته أبو عبد الرحمن وأبو ليلي وهو الذي ولي بعده وخالد ويكني أبا هاشم يقال إنه أصاب علم الكيمياء ولا يصح ذلك لأحد وأبو سفيان وأمهم أم هاشم بنت أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة تزوجها بعده مروان بن الحكم وله أيضا عبد الله بن يزيد كان أرمي العرب وأمه أم كلثوم بنت عبد الله بن عامر وهو الأسوار وعبد الله الأصغر وعمر وأبو بكر وعتبة وحرب وعبد الرحمن ومحمد لأمهات شتى.
125

ذكر بعض سيرته وأخباره
قال محمد بن عبيد الله بن عمرو العتبي نظر معاوية ومعه امرأته ابنة قرظة إلى يزيد وأمه ترجلة فلما فرغت منه قبلته بين عينيه فقالت ابنة قرظة لعن الله سواد ساقي أمك! فقال معاوية أما والله لما تفرجت عنه وركاها خير مما تفرجت عنه وركاك! وكان لمعاوية من ابنة قرظة عبد الله وكان أحمق فقالت لا والله ولكنك تؤثر هذا عليه فقال سوف أبين لك ذلك فأمر فدعي له عبد الله فلما حضر قال أي بني إني أردت أن أعطيك ما أنت أهله ولست بسائل شيئا إلا أجبتك له فقال حاجتي أن تشتري [لي] كلبا فارها وحمارا. فقال: أي بني، أنت حمار واشتري لك حمار قم فأخرج ثم أحضر يزيد وقال له مثل قوله لأخيه فخر ساجدا ثم قال حين رفع رأسه الحمد لله الذي بلغ أمير المؤمنين هذه المدة وأراه في هذا الرأي حاجتي أن تعتقني من النار لأن من ولي أمر الأمة ثلاثة أيام اعتقه الله من النار فتعقد لي العهد بعدك وتوليني العام الصائفة وتأذن لي في الحج إذا رجعت وتوليني الموسم وتزيد لأهل الشام كل رجل عشرة دنانير وتفرض لأيتام بني جمح وبني سهم وبني عدي لأنهم حلفائي فقال معاوية قد فعلت وقبل وجهه فقال لامرأته ابنة قرظة كيف رأيت قالت أرصه به يا أمير المؤمنين ففعل.
* * *
126

وقال عمر بن سبيئة حج يزيد في حياة أبيه فلما بلغ المدينة جلس على شراب له فاستأذن عليه أبن عباس والحسين فقيل له ان ابن عباس أو وجد ريح الشراب مع الطيب فقال لله در طيبك ما أطيبه فما هذا قال هو طيب يصنع بالشام ثم دعا بقدح فشربه ثم دعا بآخر فقال أسق أبا عبد الله فقال له الحسين عليك شرابك أيها المرء لا عين عليك مني، فقال يزيد:
(ألا يا صاح للعجب * دعوتك ذا ولم تجب)
(إلى الفتيات والشهوا * ت والصهباء والطرب)
(وباطية مكللة * عليها سادة العرب)
(وفيهن التي تبلت * فؤادك ثم لم تتب)
فنهض الحسين وقال بل فؤادك يا ابن معاوية تبلت.
* * *
وقال شقيق بن سلمة لما قتل الحسين ثار عبد الله بن الزبير فدعا ابن عباس إلى بيعته فامتنع وظن يزيد أن امتناعه تمسك منه ببيعته فكتب إليه أما بعد فقد بلغني أن الملحد ابن الزبير دعاك إلى بيعته وأنك اعتصمت ببيعتنا وفاء منك لنا فجزاك الله من ذي رحم خير ما يجزي المواصلين لأرحامهم الموفين بعهودهم فما أنسي من الأشياء فلست بناس برك وتعجيل صلتك بالذي أنت له أهل فانظر من طلع عليك من الآفاق ممن سحرهم ابن الزبير بلسانه فأعلمهم بحاله فإنهم منك أسمع الناس ولك أطوع منهم للمحل.
فكتب إليه ابن عباس أما بعد فقد جاءني كتابك فأما تركي بيعة
127

ابن الزبير فوالله ما أرجو بذلك برك ولا حمدك ولكن الله بالذي أنوي عليم وزعمت أنك لست بناس بري فاحبس أيها الانسان برك عني فإني حابس عنك بري وسألت أن أحبب الناس إليك وأبغضهم وأخذلهم لابن الزبير فلا ولا سرور ولا كرامة كيف وقد قتلت حسينا وفتيان عبد المطلب مصابيح الهدى ونجوم الأعلام غادرتهم خيولك بأمرك في صعيد واحد مرملين بالدماء مسلوبين بالعراء مقتولين بالظماء لا مكفنين ولا مسودين تسفي عليهم الرياح وينشي بهم عرج البطاح حتى أتاح الله بقوم لم يشركوا في دمائهم كفنوهم وأجنوهم وبي وبهم لو عززت وجلست مجلسك الذي جلست فما أنس من الأشياء فلست بناس اطرادك حسينا من حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حرم الله وتسييرك الخيول إليه فما زلت بذلك حتى أشخصته إلى العراق فخرج خائفا يترقب فنزلت به خيلك عداوة منك لله ولرسوله ولأهل بيته اللذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا فطلب إليكم الموادعة وسألكم الرجعة فاغتنمتم قلة أنصاره واستئصال أهل بيته وتعاونتم عليه كأنكم قتلتم أهل بيت من الترك والكفر فلا شيء أعجب عندي من طلبتك ودي وقد قتلت ولد أبي وسيفك يقطر من دمي وأنت أحد ثاري ولا يعجبك ان ظفرت بنا اليوم فلنظفرن بك يوما والسلام.
* * *
قال الشريف أبو يعلي حمزة بن محمد بن أحمد بن جعفر العلوي وقد جري عنده ذكر يزيد أنا لا أكفر يزيد لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إني سألت الله أن لا يسلط على بني أحدا من غيرهم فأعطاني ذلك.
128

ذكر بيعة معاوية بن يزيد بن معاوية وعبد الله بن الزبير
في هذه السنة بويع لمعاوية بن يزيد بالخلافة بالشام ولعبد الله بن الزبير بالحجاز ولما هلك يزيد بلغ الخبر عبد الله بن الزبير بمكة قبل أن يعلم الحصين بن نمير ومن معه من عسكر الشام وكان الحصار قد اشتد من الشاميين على ابن الزبير فناداهم ابن الزبير وأهل مكة علام تقاتلون وقد هلك طاغيتكم فلم يصدقوهم.
فلما بلغ الحصين خبر موته بعث إلى ابن الزبير فقال موعد ما بيننا الليلة الأبطح فالتقيا وتحادثا فراث فرس الحصين فجاء حمام الحرم يلتقط روث الفرس فكف الحصين فرسه عنهم وقال أخاف أن يقتل فرسي حمام الحرم فقال ابن الزبير تتحرجون من هذا وأنتم تقتلون المسلمين في الحرم فكان فيما قال له الحصين أنت أحق بهذا الأمر هلم فلنبايعك ثم اخرج معنا إلى الشام فإن هذا الجند الذين معي هم وجوه الشام وفرسانهم فوالله لا يختلف عليك اثنان وتؤمن الناس وتهدر هذه الدماء التي كانت بيننا وبينك وبين أهل الحرم فقال له أنا لا أهدر الدماء والله لا أرضي أن أقتل بكل رجل منهم عشرة منكم وأخذ الحصين يكلمه سرا وهو يجهر ويقول والله لا أفعل فقال له الحصين قبح الله من يعدك بعد ذاهبا وآيبا قد كنت
129

أظن أن لك رأيا وأنا أكلمك سرا وتكلمني جهرا وأدعوك إلى الخلافة وأنت لا تريد إلا القتل والهلكة ثم فارقه ورحل هو وأصحابه نحو المدينة وندم ابن الزبير على ما صنع فأرسل إليه أما المسير إلى الشام فلا أفعله ولكن بايعوا لي هناك فإني مؤمنكم وعادل فيكم فقال الحصين إن لم تقدم بنفسك لا يتم الأمر فإن هناك ناسا من بني أمية يطلبون هذا الأمر.
ثم سار الحصين إلى المدينة فاجترأ أهل المدينة على أهل الشام فكان لا ينفرد منهم أحد إلا أخذت دابته فلم يتفرقوا وخرج معهم بنو أمية من المدينة إلى الشام ولو خرج معهم ابن الزبير لم يختلف عليه أحد.
فوصل أهل الشام دمشق وقد بويع معاوية بن يزيد فلم يمكث إلا ثلاثة أشهر حتى هلك وقيل بل ملك أربعين يوما ومات وعمره إحدى وعشرون سنة وثمانية عشر يوما.
ولما كان في آخر امارته أمر فنودي الصلاة جامعة فاجتمع الناس فحمد الله وأثني عليه ثم قال أما بعد فإني ضعفت عن أمركم فابتغيت لكم مثل عمر بن الخطاب حين استخلفه أبو بكر فلم أجده فابتغيت ستة مثل ستة الشورى فلم أجدهم فأنتم أولي بأمركم فاختاروا له من أحببتم ثم دخل منزله وتغيب حتى مات.
وقيل: إنه مات مسموما وصلى عليه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان ثم أصابه الطاعون من يومه فمات أيضا وقيل لم يمت وكان معاوية أوصي أن يصلي الضحاك بن قيس بالناس حتى يقوم لهم خليفة وقيل لمعاوية لو استخلفت فقال لا أتزود مرارتها واترك لبني أمية حلاوتها.
130

ذكر حال ابن زياد بعد موت يزيد
لما مات يزيد وأتى الخبر عبيد الله بن زياد مع مولاه حمران وكان رسوله إلى معاوية بن أبي سفيان ثم إلى يزيد بعده فلما أتاه الخبر أسره إليه وأخبره باختلاف الناس في الشام فأمر فنودي الصلاة جامعة فاجتمع الناس وصعد المنبر فنعي يزيد وثلبه فقال الأحنف انه قد كانت ليزيد في أعناقنا بيعة ويقال في المثل أعرض عن ذي فترة فأعرض عنه عبيد الله وقال يا أهل البصرة إن مهاجرنا إليكم ودارنا فيكم ومولدي فيكم ولقد وليتكم وما يحصي ديوان مقاتليكم إلا سبعين ألفا ولقد أحصي اليوم مائة ألف وما كان يحصي ديوان عمالكم إلا تسعين ألفا ولقد أحصي اليوم مائة وأربعين ألفا وما تركت لكم قاطبة من أخافه عليكم إلا وهو في سجنكم وإن يزيد قد توفي وقد اختلف الناس بالشام وأنتم اليوم أكثر الناس عددا وأعرضهم فناء وأغني عن الناس وأوسعهم بلادا فاختاروا لأنفسكم رجلا ترضونه لدينكم وجماعتكم فانا أول راض من رضيتموه فإن اجتمع أهل الشام على رجل ترضونه لدينكم وجماعتكم دخلتم فيما دخل فيه المسلمون وإن
131

كرهتم ذلك كنتم على أحد يليكم حتى تقضوا حاجتكم، فما بكم إلى أحد من أهل البلدان حاجة ولا يستغني الناس عنكم فقام خطباء أهل البصرة وقالوا قد سمعنا مقالتك وما نعلم أحدا أقوي عليها منك فهلم فلنبايعك فقال لا حاجة لي في ذلك فكرروا عليه فأبي عليهم ثلاثا ثم بسط يده فبايعوه ثم انصرفوا ومسحوا أيديهم بالحيطان وقالوا أيظن ابن مرجانة اننا ننقاد له في الجماعة والفرقة!
فلما بايعوه أرسل إلى أهل الكوفة مع عمرو بن مسمع وسعد بن القرحاء التميمي يعلمهم ما صنع أهل البصرة ويدعوهم إلى البيعة له فلما وصلا إلى الكوفة وكان خليفته عليها عمرو بن حريث جمع الناس وقام الرسولان فخطبا أهل الكوفة وذكرا لهم ذلك فقال يزيد بن الحرث بن يزيد الشيباني وهو ابن رويم فقال الحمد لله الذي أراحنا من ابن سمية أنحن نبايعه لا ولا كرامة وحصبهما أول الناس ثم حصبهما الناس بعده فشرفت تلك الفعلة يزيد بن رويم في الكوفة ورفعته.
ورجع الرسولان إلى البصرة فأعلماه الحال فقال أهل البصرة أيخلعه أهل الكوفة ونوليه نحن فضعف سلطانه عندهم فكان يأمر بالأمر فلا يقضي ويري الرأي فيرد عليه ويأمر بحبس المخطئ فيحال بين أعوانه وبينه.
ثم جاء إلى البصرة سلمة بن ذؤيب الحنظلي التميمي فوقف في السوق وبيده لواء وقال: أيها الناس هلموا إلي إني أدعوكم إلى ما لم يدعكم إليه أحد أدعوكم إلى العائذ بالحرم يعني عبد الله بن الزبير فاجتمع إليه ناس وجعلوا يصفقون على يديه يبايعونه فبلغ الخبر ابن زياد فجمع الناس فخطبهم وذكر
132

لهم أمره معهم وأنه دعاهم إلى من يرتضونه فبايعه منهم أهل البصرة وأنهم أبوا غيره وقال إني بلغني أنكم مسحتم أكفكم بالحيطان وباب الدار وقلتم ما قلتم وإني آمر بالأمر فلا ينفذ ويرد على رأيي ويحال بين أعواني وبين طلبتي ثم إن هذا سلمة بن ذؤيب يدعو إلى الخلاف عليكم ليفرق جماعتكم ويضرب بعضكم رقاب بعض بالسيف.
فقال الأحنف والناس نحن نأتيك بسلمة فأتوه بسلمة فإذا جمعه قد كثف والفتق قد اتسع فلما رأوا ذلك قعدوا عن ابن زياد فلم يأتوه فدعا عبيد الله رؤساء محاربة السلطان وأرادهم ليقاتلوا معه قالوا إن أمرنا فؤادنا فعلنا فقال له إخوته ما لنا خليفة فنقاتل عنه فإن هزمت رجعت إليه فأمدك ولعل الحرب تكون عليك وقد اتخذنا بين هؤلاء القوم أموالا فإن ظفروا بنا أهلكونا وأهلكوها فلم تبق لك بقية.
فلما رأى ذلك أرسل إلى الحرث بن قيس بن صهباء الجهضمي الأزدي فأحضره وقال له يا حرث إن أبي أوصاني أني إن احتجت إلى العرب يوما أن اختاركم فقال الحرث إن قومي قد اختبروا أباك فلم يجدوا عنده مكانا ولا عندك مكافأة ولا أردك إذا اخترتنا ما أدري كيف أماني لك إن أخرجتك نهارا أخاف أن تقتل وأقتل ولكني أقيم معك إلى الليل ثم أردفك خلفي لئلا تعرف فقال عبيد الله نعم ما رأيت فأقام عنده فلما كان الليل حمله خلفه.
133

وكان في بيت المال تسعة عشر ألف ألف ففرق ابن زياد بعضها في مواليه وادخر الباقي لآل زياد.
وسار الحرث بعبيد الله بن زياد فكان يمر به على الناس وهم يتحارسون مخافة الحرورية وعبيد الله يسأله أين نحن والحرث يخبره فلما كانوا في بني سليم قال أين نحن؟ قال في بني سليم فقال سلمنا إن شاء الله فلما أتى بني ناجية قال أين نحن؟ قال في بني ناجية قال نجونا إن شاء الله فقال بنو ناجية من أنت؟ قال: الحارث بن قيس، وكان يعرف رجل منهم عبيد الله فقال ابن مرجانه! وأرسل سهما فوقع في عمامته.
ومضي به الحرث فأنزله في داره نفسه في الجهاضم فقال له ابن زياد يا حرث إنك أحسنت فاصنع ما أشير به عليك قد علمت منزلة مسعود بن عمرو في قومة وشرفه وسنة وطاعة قومه له فهل لك أن تذهب بي إليه فأكون في داره فهي في وسط الأزد فإنك إن لم تفعل فرق عليك أمر قومك فأخذه الحرث ودخلا على مسعود ولم يشعر وهو جالس يصلح خفا له فلما رآهما عرفهما فقال للحرث أعوذ بالله من شر ما طرقتني به قال ما طرقتك إلا بخير قد علمت ان قومك أنجوا زيادا ووفوا له فصارت مكرمة يفتخرون بها على العرب وقد بايعتم عبيد الله بيعة الرضي من مشورة وبيعة أخرى قبل هذه يعني بيعة الجماعة فقال مسعود أترى لنا أن نعادي أهل مصرنا في عبيد الله ولم نجد من أبيه مكافاة ولا شكرا فيما صنعنا معه فقال الحرث إنه لا يعاديك أحد على الوفاء على بيعتك حتى تبلغه مأمنه أفتخرجه من بيتك بعدما دخله عليك؟
134

وأمره مسعود فدخل بيت أخيه عبد الغافر بن عمرو، ثم ركب مسعود من ليلته ومعه الحرث وجماعة من قومه فطافوا في الأزد فقالوا إن ابن زياد فقد وإنا لا نأمن إن تلطخوا به فأصبحوا في السلاح وفقد الناس ابن زياد فقالوا ما هو إلا في الأزد.
وقيل: إن الحرث لم يكلم مسعودا بل أمر عبيد الله فحمل معه مائة ألف وأتى بها أم بسطام امرأة مسعود وهي بنت عمرو بن الحرث ومعه عبيد الله فاستأذن عليها فأذنت له فقال لها قد أتيتك بأمر تسودين به نساء العرب وتتعجلين به الغنى وأخبرها الخبر وأمرها أن تدخل ابن زياد البيت وتلبسيه ثوبا من ثياب مسعود ففعلت فلما جاء مسعود أخذ برأسها يضربها فخرج عبيد الله والحرث عليه وقال له قد أجارتني وهذا ثوبك علي وطعامك في بطني وشهد الحرث وتلطفوا به حتى رضي فلم يزل ابن زياد في بيته حتى قتل مسعود فسار إلى الشام.
ولما فقد ابن زياد بقي أهل البصرة في غير أمير فاختلفوا فيمن يؤمرون عليهم ثم تراضوا بقيس بن الهيثم السلمي وبالنعمان بن سفيان الراسبي الحرمي ليختارا من يرضيان لهم وكان رأي قيس في بني أمية ورأي النعمان في بني هاشم فقال النعمان ما أرى أحدا أحق بهذا الأمر من فلان لرجل من بني أمية وقيل بل ذكر له عبد الله بن الأسود الزهري وكان هوى قيس فيه وإنما قال النعمان ذلك خديعة ومكرا بقيس فقال قيس قد قلدتك أمري ورضيت من رضيت ثم خرجا إلى الناس فقال قيس قد رضيت من رضي النعمان.
135

ذكر ولاية عبد الله بن الحرث البصرة
لما اتفق قيس والنعمان ورضي قيس بمن يؤمره النعمان أشهد عليه النعمان بذلك وأخذ على قيس وعلى الناس العهود بالرضا ثم أتى عبد الله بن الأسود وأخذ بيده واشترط عليه حتى ظن الناس أنه بايعه ثم تركه وأخذ بيده واشترط عليه حتى ظن الناس إنه بايعه ثم تركه وأخذ بيد عبد الله بن الحرث بن نوفل بن الحرث بن عبد المطلب الملقب بببة واشترط عليه مثل ذلك ثم حمد الله وأثني عليه وذكر النبي صلى الله عليه وسلم وحق أهل بيته وقرابته وقال أيها الناس ما تنقمون من رجل من بني عم نبيكم وأمة هند بنت أبي سفيان فقد كان الأمر فيهم فهو ابن أختكم ثم أخذ بيده وقال رضيت لكم به فنادوه قد رضينا وبايعوه وأقبلوا به إلى دار الإمارة حتى نزلها وذلك أول جمادي الآخرة سنة أربع وستين وقال الفرزدق في بيعته:
(وبايعت أقواما وفيت بعهدهم * وببة قد بايعته غير نادم)
ذكر هرب ابن زياد إلى الشام
ثم إن الأزد وربيعة جددوا الحلف الذي كان بينهم وبين الجماعة وأنفق ابن زياد مالا كثيرا فيهم حتى تم الحلف وكتبوا بذلك بينهم كتابين فكان أحدهما عند مسعود بن عمرو فلما سمع الأحنف أن الأزد طلبت إلى ربيعة ذلك قال لا يزالون لهم اتباعا إذا أتوهم فلما تحالفوا اتفقوا على أن يردوا ابن زياد إلى دار الإمارة فساروا ورئيسهم مسعود بن عمرو، وقالوا لابن
136

زياد: سر معنا، فلم يفعل وأرسل معه مواليه على الخيل وقال لهم لا تتحدثوا بخير ولا بشر إلا أتيتموني به فجعل مسعود لا يأتي سكة ولا يتجاوز قبيلة إلا أتي بعض أولئك الغلمان ابن زياد بالخبر وسارت ربيعة وعليهم مالك بن مسمع فأخذوا سكة المربد وجاء مسعود فدخل المسجد فصعد المنبر وعبد الله بن الحرث في دار الإمارة فقيل له إن مسعودا وأهل اليمن وربيعة قد ساروا وسيهيج بين الناس شر فلو أصلحت بينهم وركبت في بني تميم [عليهم]. فقال: أبعدهم الله لا والله لا أفسد نفسي في اصلاحهم وجعل رجل من أصحاب مسعود يقول:
(لأنكحن ببه * جارية في قبه * تمشط رأس لعبه)
هذا قول الأزد وأما مضر فيقولون إن أمة كانت ترقصه وتقول هذا.
وصعد مسعود المنبر وسار مالك بن مسمع نحو دور بني تميم حتى دخل سكة بني العدوية فحرق دورهم لما في نفسه لاستعراض ابن خازم ربيعة بهراة. وجاء بنو تميم إلى الأحنف فقالوا يا أبا بحر إن ربيعة والأزد قد تحالفوا وقد ساروا إلى الرحبة فدخلوها فقال لستم بأحق بالمسجد منهم فقالوا قد دخلوا الدار فقال لستم بأحق بالدار منهم فأتته امرأة بمجمر وقالت له:
137

مالك وللرياسة إنما أنت امرأة تتجمر فقال است امرأة أحق بالمجمر منك فما سمع منه كلمة أسوأ منها ثم أتوه فقالوا إن امرأة منا قد نزعت خلخالها وقد قفلوا الضياع الذي على طريقك وقفلوا المقعد الذي على باب المسجد، وقد دخل مالك بن مسمع سكة بني العدوية فحرق فقال الأحنف أقيموا البينة على هذا ففي دون هذا ما يحل قتالهم فشهدوا عنده على ذلك فقال الأحنف أجاء عباد بن الحصين؟ قالوا لا، وهو عباد بن الحصين بن يزيد بن عمرو بن أوس من بني عمرو بن تميم ثم قال أجاء عباد قالوا لا قال أههنا عبس بن طلق بن ربيعة الصريمي من بني سعد بن زيد مناه بن تميم؟ قالوا: نعم، فدعاه فانتزع معجرا في رأسه فعقده في رمح ثم دفعة إليه وقال: سر، فلما ولي قال: اللهم إن لم تخزها اليوم فإنك لم تخزها فيما مضي وصاح الناس هاجت زبرا وهي أمة الأحنف كنوا بها عنه.
فسار عبس إلى المسجد فلما سار عبس جاء عباد فقال ما صنع الناس فقيل سار بهم عبس فقال لا أسير تحت لواء عبس وعاد إلى بيته ومعه ستون فارسا فلما وصل عبس إلى المسجد قاتل الأزد على أبوابه ومسعود على المنبر يحضض الناس فقاتل غطفان بن أنيف التميمي وهو يقول:
138

(يال تميم إنها مذكورة * إن فات مسعود بها مشهوره)
(فاستمسكوا بجانب المقصورة)
أي لا يهرب [فيفوت] وأتوا مسعودا وهو على المنبر فاستنزلوه وقتلوه وذلك أول شوال سنة أربع وستين وانهزم أصحابه وهرب أشيم بن شقيق بن ثور فطعنه أحدهم فنجا بها فقال الفرزدق:
(لو أن أشيم لم يسبق أسنتنا * وأخطأ الباب إذ نيراننا تقد)
(إذا لصاحب مسعودا وصاحبه * وقد تهافتت الأعفاج والكبد)
ولما صعد مسعود المنبر أتى ابن زياد فقيل له ذلك فتهيأ ليجيء إلى دار الأمارة فأتوه وقالوا له إنه قتل مسعود فركب ولحق بالشام.
فأما مالك بن مسمع فأتاه ناس من مضر فحضروه في داره وحرقوا داره ولما هرب ابن زياد تبعوه فأعجزهم فنهبوا ما وجدوا له وفي ذلك يقول واقد بن خليفة التميمي:
(يا رب جبار شديد كلبه * قد صار فينا تاجه وسلبه)
(منهم عبيد الله يوم نسلبه * جياده وبزه وننهبه)
(يوم التقي مقنبنا ومقنبه * لو لم ينج ابن زياد هربه)
وقد قيل في قتل مسعود ومسير ابن زياد غير ما تقدم وهو إنه لما استجار ابن زياد بمسعود بن عمرو وأجاره ثم سار ابن زياد إلى الشام وأرسل معه مسعود مائة
139

من الأزد عليهم قرة بن عمرو بن قيس حتى قدموا به إلى الشام فبينما هو يسير ذات ليلة قال قد ثقل على ركوب الإبل فوطئوا لي على ذي حافر فجعلوا له قطيفة على حمار فركبه ثم سار وسكت طويلا.
قال مسافر بن شريح إليشكري: فقلت في نفسي: لئن كان نائما لأنغضن عليه نومه، فقلت أنائم أنت قال لا كنت أحدث نفسي قلت أفلا أحدثك بما كنت تحدث به نفسك قال هات قلت كنت تقول ليتني كنت لم أقتل حسينا قال وماذا قلت تقول ليتني لم أكن قتلت من قتلت قال وماذا قلت تقول ليتني لم أكن لمست البيضاء قال وماذا قلت تقول ليتني لم أكن استعملت الدهاقين قال وماذا قلت تقول ليتني كنت أسخى مما كنت.
قال والله ما نطقت بصواب ولا سكت عن خطأ أما قتلي الحسين فإنه أشار على يزيد بقتله أو قتلي فاخترت قتله وأما البيضاء فإني اشتريتها من عبد الله بن عثمان الثقفي وأرسل إلى يزيد بألف ألف فأنفقتها عليها فإن بقيت فلأهلي وإن هلكت لم آس عليها وأما استعمال الدهاقين فإن عبد الرحمن بن أبي بكرة وزاذان فروخ وقعا في عند معاوية [حتى ذكروا قشور الأرز] فبلغا بخراج العراق مائة ألف ألف فخيرني معاوية بين العزل والضمان فكرهت العزل فكنت إذا استعملت العربي كسر الخراج فإن أغرمت عشيرته أو طالبته أوغرت صدورهم وإن تركته تركت مال الله
140

وأنا أعرف مكانه فوجدت الدهاقين أبصر بالجباية وأوفي بالأمانة وأهون بالمطالبة منكم مع إني قد جعلتكم أمناء عليهم لئلا يظلموا أحدا وأما قولك في السخاء فما كان لي مال فأجود به عليكم ولو شئت لأخذت بعض ما لكم فخصصت به بعضكم دون بعض فيقولون ما أسخاه وأما قولك ليتني لم أكن قتلت من قتلت فما عملت بعد كلمة الإخلاص عملا هو أقرب إلى الله عندي من قتل من قتلت من الخوارج ولكني سأخبرك بما حدثت به نفسي قلت ليتني كنت قاتلت أهل البصرة فإنهم بايعوني طائعين ولقد حرصت على ذلك ولكن بني زياد قالوا إن قاتلتهم فظهروا عليك لم يبقوا منا أحدا وإن تركتهم يغيب الرجل منا عند أخواله وأصهاره فرفقت بهم وكنت أقول ليتني أخرجت أهل السجن فضربت أعناقهم وأما إذ فاتت هاتان فليتني أقدم الشام ولم يبرموا أمرا.
قال: فقدم الشام ولم يبرموا أمرا فكان معه صبيان وقيل بل قدم وقد أبرموا فنقض عليهم ما أبرموا.
فلما سار من البصرة استخلف مسعودا عليها فقال بنو تميم وقيس لا نرضي به ولا نولي إلا رجلا ترضاه جماعتنا فقال مسعود: قد استخلفني ولا أدع ذلك أبدا.
وخرج حتى انتهي إلى القصر ودخله، واجتمعت تميم إلى الأحنف فقالوا له إن الأزد قد دخلوا المسجد. قال إنما هو لهم ولكم قالوا قد دخلوا القصر وصعد مسعود المنبر وكانت خوارج قد خرجوا فنزلوا نهر الأساورة حين خرج عبيد الله إلى الشام فزعم الناس إن الأحنف بعث إليهم إن هذا الرجل الذي قد دخل القصر هو لنا ولكم عدو فما يمنعكم عنه إن تبدؤوا به فجاءت عصابة منهم حتى
141

دخلوا المسجد ومسعود على المنبر يبايع من أتاه فرماه علج يقال له مسلم من أهل فارس دخل البصرة فأسلم ثم دخل في الخوارج فأصاب قلبه فقتله فقال الناس قتله الخوارج فخرجت الأزد إلى تلك الخوارج فقتلوا منهم وجرحوا فطردوهم عن البصرة.
ثم قيل للأزد إن تميما قتلوا مسعودا فأرسلوا يسألون فإذا ناس من تميم تقوله فاجتمعت الأزد عند ذلك فرأسوا عليهم زياد بن عمرو أخا مسعود بن عمرو ومعهم مالك بن مسمع في ربيعة، وجاءت تميم إلى الأحنف يقولون قد خرج القوم وهو يتمكث لا يخف للفتنة فجاءته امرأة بمجمر فقالت اجلس على هذا أي إنما أنت امرأة.
فخرج الأحنف في بني تميم ومعهم من بالبصرة من قيس فالتقوا فقتل بينهم قتلي كثيرة فقال لهم بنو تميم الله الله يا معشر الأزد في دمائنا ودمائكم بيننا وبينكم القران ومن شئتم من أهل الإسلام فإن كان لكم علينا بينة فاختاروا أفضل رجل فينا فاقتلوه وإن لم تكن لكم بينة فإنا نحلف بالله ما قتلنا ولا أمرنا ولا نعلم له قاتلا وإن لم تريدوا ذلك فنحن ندي صاحبكم بمائة ألف درهم وأتاهم الأحنف واعتذر إليهم مما قيل وسفر بهم عمر بن عبيد الله بن معمر وعبد الرحمن بن الحرث بن هشام فطلبوا عشر ديات فأجابهم إلى ذلك واصطلحوا عليه.
وأما عبد الله بن الحرث ببه فإنه أقام يصلي بينهم حتى قدم عليهم عمر بن عبيد الله بن معمر أميرا من قبل ابن الزبير وقيل بل كتب ابن الزبير إلى عمر بعهده على البصرة فأتاه الكتاب وهو متوجه إلى العمرة فكتب عمر إلى أخيه عبيد الله يأمره إن يصلي بالناس فصلي بهم حتى قدم عمر فبقي
142

عمر أميرا شهرا حتى قدم الحرث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي بعزله ووليها الحرث وهو القباع.
وقيل: اعتزل عبيد الله بن الحرث ببه أهل البصرة بعد قتل مسعود بسبب العصبية وانتشار الخوارج فكتب أهل البصرة إلى ابن الزبير فكتب ابن الزبير إلى أنس بن مالك يأمره إن يصلي بالناس فصلي بهم أربعين يوما وكان عبيد الله بن الحرث يقول ما أحب أن أصلح الناس بفساد نفسي وكان يتدين.
وفي أيامه سار نافع بن الأزرق إلى الأهواز من البصرة.
وأما أهل الكوفة فإنهم لما ردوا رسل ابن زياد، على ما ذكرناه قبل، عزلوا خليفته عليهم وهو عمرو بن حريث واجتمع الناس وقالوا نؤمر علينا رجلا إلى أن يجتمع الناس على خليفة فاجتمعوا على عمر بن سعد فجاءت نساء همدان يبكين الحسين ورجالهم متقلدو السيوف فأطافوا بالمنبر فقال محمد بن الأشعث جاء أمر غير ما كنا فيه وكانت كندة تقوم بأمر عمر بن سعد لأنهم أخواله فاجتمعوا على عامر بن مسعود ابن أمية بن خلف بن وهب بن حذافة الجمحي فخطب أهل الكوفة فقال إن لكل قوم اشربه ولذات فاطلبوها في مظانها وعليكم بما يحل ويحمد واكسروا شرابكم بالماء وتواروا عني بهذه الجدران فقال ابن همام:
(اشرب شرابك وانعم غير محسود * واكسره بالماء لا تعص ابن مسعود)
(إن الأمير له في الخمر مأربة * فاشرب هنيئا مريئا غير مرصود)
(من ذا يحرم ماء المزن خالطه * في قعر خابية ماء العناقيد)
143

(إني لأكره تشديد الرواة لنا * فيها ويعجبني قول ابن مسعود)
ولما بايعه أهل الكوفة وكتبوا بذلك إلى ابن الزبير أقره عليها وكان يلقب دحروجة الجعل وكان قصيرا فمكث ثلاثة اشهر من مهلك يزيد بن معاوية ثم قدم عليهم عبد الله بن يزيد الخطمي الأنصاري على الصلاة وإبراهيم بن محمد بن طليحة على الخراج من عند ابن الزبير واستعمل محمد بن الأشعث بن قيس على الموصل فاجتمع لابن الزبير أهل الكوفة والبصرة ومن بالقبلة من العرب وأهل الجزيرة وأهل الشام إلا أهل الأردن في امارة عمر بن عبيد الله بن معمر.
وكان طاعون الجارف بالبصرة فماتت أمة فما وجد لها من يحملها حتى استأجروا لها أربعة أعلاج فحملوها.
ذكر خلاف أهل الري
في هذه السنة بعد موت يزيد خالف أهل الري وكان عليهم الفرخان الرازي، فوجه إليهم عامر بن مسعود وهو
أمير الكوفة محمد بن عمير بن عطارد بن حاجب بن زرارة بن عدس التميمي فلقيه أهل الري فانهزم محمد فبعث إليهم عامر عتاب بن ورقاء الرياحي التميمي فاقتتلوا قتالا شديدا فقتل الفرخان وانهزم المشركون وكان محمد بن عمير هذا مع علي بصفين على تميم الكوفة ثم عاش بعد ذلك فلما ولي الحجاج الكوفة فارقها وسار إلى الشام لكراهته ولاية الحجاج.
144

ذكر بيعة مروان بن الحكم
في هذه السنة بويع مروان بن الحكم بالشام.
وكان السبب فيها إن ابن الزبير لما بويع له بالخلافة ولي عبيد الله بن الزبير المدينة وعبد الرحمن بن جحدم الفهري مصر وأخرج بني أمية ومروان بن الحكم إلى الشام وعبد الملك بن مروان يومئذ ابن ثمان وعشرين سنة فلما قدم الحصين بن نمير ومن معه إلى الشام أخبر مروان بما كان بينه وبين ابن الزبير وقال له ولبني أمية نراكم في اختلاط فأقيموا أميركم قبل أن يدخل عليكم شأنكم فتكون فتنة عمياء صماء. وكان من رأي مروان أن يسير إلى ابن الزبير فيبايعه بالخلافة فقدم ابن زياد من العراق وبلغه ما يريد مروان أن يفعل فقال له قد استحييت لك من ذلك أنت كبير قريش وسيدها تمضي إلى أبي خبيب فتبايعه يعني ابن الزبير لأنه كان يكنى بابنه خبيب فقال ما فات شيء بعد فقام إليه بنو أمية ومواليهم وتجمع إليه أهل اليمن فسار إلى دمشق وهو يقول ما فات شيء بعد فقدم دمشق والضحاك بن قيس قد بايعه أهلها على أن يصلي بهم ويقيم لهم أمرهم حتى يجتمع الناس وهو يدعو إلى ابن الزبير سرا.
وكان زفر بن الحرث الكلابي بقنسرين يبايع لابن الزبير والنعمان بن البشير بحمص يبايع له أيضا وكان حسان بن مالك بن بحدل الكلبي بفلسطين عاملا لمعاوية ولابنه يزيد وهو يريد بني أمية فسار إلى الأردن واستخلف على فلسطين روح بن زنباع الجذامي فثار ناتل بن قيس بروح فأخرجه من
145

فلسطين وبايع لابن الزبير.
وكان حسان في الأردن يدعو إلى بني أمية فقال لأهل الأردن ما شهادتكم على ابن الزبير وقتلي الحرة قالوا نشهد إنه منافق وإن قتلي الحرة في النار قال فما شهادتكم على يزيد وقتلاكم بالحرة قالوا نشهد أنه على الحق وإن قتلانا في الجنة قال فأنا أشهد لئن كان يزيد وشيعته على حق إنهم اليوم على حق ولئن كان ابن الزبير وشيعته على باطل إنهم اليوم عليه قالوا له صدقت نحن نبايعك على أن نقاتل من خالفك وأطاع ابن الزبير على أن تجنبنا هذين الغلامين يعنون ابني يزيد عبد الله وخالدا فإنا نكره أن يأتينا الناس بشيخ ونأتيهم بصبي.
وكتب حسان إلى الضحاك كتابا يعظم فيه حق بني أمية وحسن بلائهم عنده ويذم ابن الزبير وأنه خلع خليفتين وأمره أن يقرأ كتابه على الناس وكتب كتابا آخر وسلمه إلى الرسول واسمه ناغضة وقال له إن قرأ كتابي على الناس وإلا فاقرأ هذا الكتاب عليهم وكتب حسان إلى بني أمية يأمرهم إن يحضروا ذلك فقدم ناغضة فدفع كتاب الضحاك إليه وكتاب بني أمية إليهم فلما كانت الجمعة صعد الضحاك المنبر فقال له ناغضة لتقرأ كتاب حسان علي الناس فقال له الضحاك اجلس فقام إليه الثانية والثالثة وهو يقول له اجلس فأخرج ناغضة الكتاب وقرأه على الناس فقال الوليد بن عتبه بن أبي سفيان صدق حسان وكذب ابن الزبير وشتمه.
وقيل: كان الوليد قد مات بعد موت معاوية بن يزيد وقام يزيد بن أبي الغمس الغساني وسفيان بن الأبرد الكلبي فصدقا حسانا وشتما ابن الزبير وقام عمرو بن يزيد الحكمي فشتم حسانا واثني على ابن الزبير فأمر الضحاك بالوليد ويزيد بن أبي الغمس وسفيان فحبسوا وحال الناس ووثبت كلب
146

على عمرو بن يزيد الحكمي فضربوه ومزقوا ثيابه وقام خالد بن يزيد فصعد مرقاتين من المنبر وسكن الناس ونزل الضحاك فصلي الجمعة ودخل القصر فجاءت كلب فأخرجوا سفيان وجاءت غسان فأخرجوا يزيد وجاء خالد بن يزيد وأخوه عبد الله معهما أخوالهما من كلب فأخرجوا الوليد بن عتبه وكان أهل الشام يسمون ذلك اليوم يوم جيرون الأول.
ثم خرج الضحاك إلى المسجد فجلس فيه وذكر يزيد بن معاوية فسبه فقام إليه شاب من كلب فضربه بعصا فقام الناس بعضهم إلى بعض فاقتتلوا قيس تدعو إلى ابن الزبير ونصرة الضحاك وكلب تدعو إلى بني أمية ثم إلى خالد بن يزيد لأنه ابن أختهم.
ودخل الضحاك دار الأمارة ولم يخرج من الغد إلى صلاه الفجر وبعث إلى بني أمية فاعتذر إليهم وإنه لا يريد ما يكرهون وأمرهم أن يكتبوا إلى حسان ويكتب معهم ليسير من الأردن إلى الجابية ويسيروا هم من دمشق فيجتمعوا معه بالجابية ويبايعوا الرجل من بني أمية فرضوا وكتبوا إلى حسان، وسار الضحاك وبنو أمية نحو الجابية فأتاه ثور بن معن السلمي فقال دعوتنا إلى ابن الزبير فبايعناك على ذلك وأنت تسير إلى هذا الأعرابي من كلب تستخلف ابن أخته خالد بن يزيد فقال الضحاك فما الرأي قال الرأي أن تظهر ما كنا نكتم وتدعو إلى ابن الزبير.
فرجع الضحاك ومن معه من الناس فنزل بمرج راهط ودمشق بيده واجتمع بنو أمية وحسان وغيرهم بالجابية فكان حسان يصلي بهم أربعين يوما والناس يتشاورون وكان مالك بن هبيرة السكوني يهوى خالد بن يزيد والحصين بن نمير يميل إلى مروان فقال مالك للحصين هل نبايع هذا الغلام الذي نحن ولدنا أباه وقد عرفت منزلتنا من أبيه فإنه يحملنا على رقاب العرب
147

غدا؟ يعني خالدا فقال الحصين لا والله لا تأتينا العرب بشيخ ونأتيها بصبي فقال مالك والله لئن استخلفت مروان ليحسدك على سوطك وشراك نعلك وظل شجرة تستظل بها إن مروان أبو عشيرة وأخو عشيرة فإن بايعتموه كنتم عبيدا لهم ولكن عليكم بابن أختكم فقال الحسين إني رأيت في المنام قنديلا معلقا من السماء وإن من يلي الخلافة يتناوله فلم ينله أحد إلا مروان والله لنستخلفه.
وقام روح بن زنباع الجذامي فقال أيها الناس إنكم تذكرون عبد الله بن عمر وصحبته وقدمه في الإسلام وهو كما تذكرون ولكنه ضعيف وليس بصاحب أمر أمة محمد الضعيف وتذكرون ابن الزبير وهو كما تذكرون إنه ابن حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن ذات النطاقين ولكنه منافق قد خلع خليفتين يزيد وابنه معاوية وسفك الدماء وشق عصا المسلمين وليس المنافق بصاحب أمة محمد وأما مروان بن الحكم فوالله ما كان في الإسلام صدع إلا كان ممن يشعبه وهو الذي قاتل على بن أبي طالب يوم الجمل وإنا نري للناس أن يبايعوا الكبير ويستشيروا الصغير يعني بالكبير مروان وبالصغير خالد بن يزيد.
فاجتمع رأيهم على البيعة لمروان بن الحكم ثم لخالد بن يزيد ثم لعمرو بن سعيد بن العاص من بعد خالد على إن امرة دمشق لعمرو وإمرة حمص لخالد بن يزيد.
فدعا حسان خالدا فقال يا ابن أختي إن الناس قد أبوك لحداثة سنك وإني والله ما أريد هذا الأمر إلا لك ولأهل بيتك وما أبايع مروان إلا نظرا لكم فقال خالد بل عجزت عنا قال والله ما عجزت عنكم ولكن الرأي لك ما رأيت.
148

ثم بايعوا مروان لثلاث خلون من ذي القعدة سنة أربع وستين وقال مروان حين بويع له:
(لما رأيت الأمر أمرا نهبا * يسرت غسانا لهم وكلبا)
(والسكسكيين رجالا غلبا * وطيئا يأباه إلا ضربا)
(والقين يمشي في الحديد نكبا * ومن تنوخ مشمخرا صعبا)
(لا يأخذون الملك إلا غصبا * فإن دنت قيس فقل لا قربا)
(خبيب بضم الخاء المعجمة وفتح الباء الموحدة وسكون الباء تحتها نقطتان وآخرة باء موحدة).
ذكر وقعة مرج راهط وقتل الضحاك والنعمان بن بشير
ثم إن مروان لما بايعه الناس سار من الجابية إلى مرج راهط وبه الضحاك بن قيس ومعه ألف فارس، وكان قد استمد الضحاك النعمان بن بشير وهو على حمص فأمده بشرحبيل بن ذي الكلاع واستمد أيضا زفر بن الحرث وهو على قنسرين فأمده بأهل قنسرين وأمده ناتل بأهل فلسطين فاجتمعوا عنده واجتمع على مروان كلب وغسان والسكاسك والسكون وجعل على ميمنته عمرو بن سعيد وعلى ميسرته عبيد الله بن زياد وكان يزيد بن أبي الغمس
149

الغساني مختفيا بدمشق لم يشهد الجابيه فغلب على دمشق وأخرج عامل الضحاك بن قيس وغلب على الخزائن وبيت المال وبايع لمروان وأمده بالأموال والرجال والسلاح فكان أول فتح على بني أمية.
وتحارب مروان والضحاك بمرج راهط عشرين ليلة واقتتلوا قتالا شديدا فقتل الضحاك قتله دحية بن عبد الله وقتل معه ثمانون رجلا من أشراف أهل الشام وقتل أهل الشام مقتله عظيمة وقتلت قيس مقتلة لم يقتل مثلها في موطن قط وكان فيمن قتل هانئ بن قبيصة النميري سيد قومه كان مع الضحاك قتله وازع بن ذؤالة الكلبي فلما سقط جريحا قال:
(تعست ابن ذات النوف أجهز على فتى * يرى الموت خيرا من فرار وألزما)
(ولا تتركني بالحشاشة إنني * صبور إذا [ما] النكس مثلك أحجما)
فعاد إليه وازع فقتله وكانت الوقعة في المحرم سنة خمس وستين وقيل بل كانت في آخر سنة أربع وستين.
ولما رأى مروان رأس الضحاك ساءه ذلك وقال الآن حين كبرت سني ودق عظمي وصرت في مثل طم الحمار أقبلت بالكتائب أضرب بعضها ببعض!
ولما انهزم الناس من المرج لحقوا بأجنادهم فانتهى أهل حمص إليها وعليها النعمان بن بشير فلما بلغة الخبر خرج هاربا ليلا ومعه امرأته نائلة
150

بنت عمارة الكلبية وثقله وأولاده فتحير ليلته كلها وأصبح أهل حمص فطلبوه وكان الذي طلبه عمرو بن الجلي الكلاعي فقتله ورد أهله والرأس معه وجاءت كلب من أهل حمص فأخذوا نائلة وولدها معها.
ولما بلغت الهزيمة زفر بن الحارث الكلابي بقنسرين هرب منها فلحق بقرقيسيا وعليها عياض الحرسي كان يزيد ولاه إياها فطلب منه أن يدخل الحمام ويحلف له بالطلاق والعتاق على أنه لما يخرج من الحمام لا يقيم بها فأذن له فدخلها فغلب عليها وتحصن بها ولم يدخل حمامها فاجتمعت إليه قيس.
وهرب ناتل بن قيس الجذامي من فلسطين فلحق بابن الزبير بمكة واستعمل مروان بعده على فلسطين روح بن زنباع واستوثق الشام لمروان واستعمل عماله عليها.
وقيل إن عبيد بن زياد إنما جاء إلى بني أمية وهم بتدمر ومروان يريد أن يسير إلى ابن الزبير ليبايعه ويأخذ منه الأمان لبني أمية فرده عن ذلك وأمره أن يسير بأهل تدمر إلى الضحاك فيقاتله ووافقه عمرو بن سعيد وأشار على مروان بأن يتزوج أم خالد بن يزيد ليسقط من أعين الناس فتزوجها وهي فاختة ابنة أبي هشام بن عتبة ثم جمع بني أمية فبايعوه وبايعه أهل تدمر وسار إلى الضحاك في جمع عظيم فخرج الضحاك إليه فتقاتلا فانهزم الضحاك ومن معه وقتل الضحاك.
وسار زفر بن الحرث إلى قرقيسيا واجتمعت عليه قيس وصحبه في هزيمته إلى قرقيسيا شابان من بني سليم فجائت خيل مروان تطلبهم فقال الشابان
151

لزفر: انج بنفسك فإنا نحن نقتل فمضي زفر وتركهما فقتلا؛ وقال زفر في ذلك:
(أريني سلاحي لا أبالك إنني * أرى الحرب لا تزداد إلا تماديا)
(أتاني عن مروان بالغيب إنه * مقيد دمي أو قاطع من لسانيا)
(ففي العيش منجاة وفي الأرض مهرب * إذا نحن رفعنا لهن المثانيا)
(فلا تحسبوني إن تغيبت غافلا * ولا تفرحوا إن جئتكم بلقائيا)
(فقد ينبت المرعي على دمن الثري * له ورق من تحته الشر باديا)
(وتمضي ولا يبقي على الأرض دمنه * وتبقي حزازات النفوس كما هيا)
(لعمري لقد أبقت وقيعة راهط * لحسان صدعا بينا متنائيا)
(فلم تر مني نبوة قبل هذه * فراري وتركي صاحبي ورائيا)
(عشية أدعو في القران فلا أرى * من الناس إلا من على ولا ليا)
(أيذهب يوم واحد إن أسأته * بصالح أيامي وحسن بلائيا)
(فلا صلح حتى تشحط الخيل بالقنا * وتثأر من نسوان كلب نسائيا)
(ألا ليت شعري هل تصيبن غارتي * تنوخا وحيي طيئ من شقائيا)
فأجابه جواس بن القعطل:
(لعمري لقد أبقت وقيعة راهط * على زفر مرا من الداء باقيا)
152

(مقيما ثوي بين الضلوع محله * وبين الحشا أعيا الطبيب المداويا)
(تبكي على قتلي سليم وعامر * وذبيان معذورا وتبكي البواكيا)
(دعا بالسلاح ثم أحجم إذ رأى * سيوف جناب والطوال المذاكيا)
(عليها كأسد الغاب فتيان نجدة * إذا شرعوا نحو الطوال العواليا)
وقال عمرو بن الجلي الكلبي:
(بكي زفر القيسي من هلك قومه * بعبرة عين ما يجف سجومها)
(يبكي على قتلي أصيبت براهط * تجاوبها هام القفار وبومها)
(أبحنا حمى للحي قيس براهط * وولت شلالا واستبيح حريمها)
(يبكيهم حران تجري دموعه * ترجي نزارا أن تؤوب حلومها)
(فمت كمدا أو عش ذليلا مهضما * بحسرة نفس لا تنام همومها)
في أبيات.
(يزيد بن أبي الغمس بالسين المهملة وقيل بالشين المعجمة وكان قد ارتد عن الإسلام ودخل الروم مع جبلة بن الأيهم ثم عاود الإسلام وشهد صفين مع معاوية وعاش إلى أيام عبد الملك بن مروان وناتل بالنون والتاء المعجمة من فوق باثنتين).
153

ذكر فتح مروان مصر
فلما قتل الضحاك وأصحابه واستقر الشام لمروان سار إلى مصر فقدمها وعليها عبد الرحمن بن جحدم القرشي يدعو إلى ابن الزبير فخرج إلى مروان فيمن معه وبعث مروان عمرو بن سعيد من ورائة حتى دخل مصر فقيل لابن جحدم ذلك فرجع وبايع الناس مروان ورجع إلى دمشق فلما دنا منه بلغه أن ابن الزبير قد بعث إليه أخاه مصعبا في جيش فأرسل إليه مروان عمرو بن سعيد قبل أن يدخل الشام فقاتله فانهزم مصعب وأصحابه وكان مصعب شجاعا ثم عاد مروان إلى دمشق واستقر بها.
وقد كان الحصين بن نمير ومالك بن هبيرة قد اشترطا على مروان شروطا لهما ولخالد بن يزيد فلما توطن ملكه قال ذات يوم ومالك عنده إن قوما يدعون شروطا منهم عطارة مكحلة يعني مالكا وكان يتطيب ويتكحل قال مالك هذا ولما تردي تهامة ويبلغ الحزام الطبيين فقال مروان مهلا يا أبا سليمان إنما داعبناك فقال هو ذاك.
ذكر بيعة أهل خراسان سلم بن زياد وأمر عبد الله بن خازم
ولما بلغ سلم بن زياد وهو بخراسان موت يزيد كتم ذلك فقال ابن عرادة:
(يا أيها الملك المغلق بابه * حدثت أمور شأنهن عظيم)
154

(قتلي بحرة والذين بكابل * ويزيد أغلق بابه المكتوم)
(أبني أمية إن آخر ملككم * جسد بحوارين ثم مقيم)
(طرقت منيته وعند وساده * كوب وزق راعف مرثوم)
(ومرنة تبكي على نشوانه * بالصبح تقعد مرة وتقوم)
فلما أظهر شعره أظهر سلم موت يزيد بن معاوية بن يزيد ودعا الناس إلى البيعة على الرضا حتى يستقيم أمر الناس على خليفة فبايعوه ثم نكثوا به بعد شهرين وكان محسنا إليهم محبوبا فيهم فلما خلع عنهم استخلف عليهم المهلب بن أبي صفرة ولما كان بسرخس لقيه سليمان بن مرثد أحد بني قيس بن ثعلبه بن ربيعه فقال له ضاقت عليك نزار حتى خلفت على خراسان رجلا من اليمن؟ يعني المهلب وكان أزديا والأزد من اليمن فولاه مرو الروذ والفارياب والطالقان والجوزجان وولي أوس بن ثعلبه بن زفر وهو صاحب قصر أوس بالبصرة هراة فلما وصل إلى نيسابور لقيه عبد الله بن خازم فقال من وليت خراسان؟ فأخبره، فقال: أما وجدت في المصر من تستعمله حتى فرقت خراسان بين بكر بن وائل واليمن اكتب لي عهدا على خراسان فكتب له وأعطاه مائة ألف
درهم.
وسار ابن خازم إلى مرو وبلغ خبره المهلب فاقبل واستخلف رجلا من بني جشم بن سعد بن زياد مناة بن تميم فلما وصلها ابن خازم منعه الجشمي
155

وجرت بينهما مناوشة فأصابت الجشمي رمية بحجر في جبهته وتحاجزوا ودخلها ابن خازم ومات الجشمي بعد ذلك بيومين.
ثم سار ابن خازم إلى سليمان بن مرثد بمرو الروذ فقاتله أياما فقتل سليمان ثم سار إلى عمرو بن مرثد وهو بالطالقان فاقتتلوا طويلا فقتل عمرو بن مرثد وانهزم أصحابه فلحقوا بهراة بأوس بن ثعلبة ورجع ابن خازم إلى مرو وهرب من كان بمرو الروذ من بكر بن وائل إلى هراة وانضم إليها من كان بكور خراسان من بكر وكثر جمعهم وقالوا لأوس بن ثعلبة نبايعك على أن تسير إلى ابن خازم وتخرج مضر من خراسان فأبي عليهم فقال له بنو صهيب وهم موالي بني جحدم لا نرضي أن نكون نحن فأبي عليهم فقال له بنو صهيب وهم موالي بني جحدم لا نرضي أن نكون نحن ومضر في بلد واحد وقد قتلوا سليمان وعمرا ابني مرثد فإما أن تبايعنا على هذا وإلا بايعنا غيرك فأجابهم فبايعوه فسار إليهم ابن خازم فنزل على واد بينه وبين هراة فأشار البكريون بالخروج من هراة وعمل خندق فقال أوس بل نلزم المدينة فإنها حصينة ونطاول ابن خازم ليضجر ويعطينا ما نريد فأبوا عليه فخرجوا وخندقوا خندقا وقاتلهم ابن خازم نحو سنة وقال له هلال الضبي إنما تقاتل إخوتك وبني أبيك فإن نلت منهم الذي تريد فما في العيش خير فلو أعطيتهم شيئا يرضون به وأصلحت هذا الأمر وقال والله لو خرجنا لهم من خراسان ما رضوا قال هلال والله لا أقاتل معك أنا ولا رجل أو تطيعني حتى تعذر إليهم. قال فأنت رسولي إليهم فأرضهم.
فأتي هلال أوس بن ثعلبة فناشده الله والقرابة في نزار وأن يحفظ ولاءها فقال هل لقيت بني صهيب قال لا قال فالقهم قال فخرج فلقي جماعة من رؤساء أصحابه فأخبرهم ما أتى له فقالوا له هل لقيت بني صهيب فقال لقد عظم أمر بني صهيب عندكم فأتاهم فكلمهم فقالوا: لولا
156

أنك رسول لقتلناك قال فهل يرضيكم شئ قالوا واحدة من اثنتين اما أن تخرجوا من خراسان وإما إن تقيموا وتخرجوا لنا عن كل سلاح وكراع وذهب وفضة.
فرجع إلى ابن خازم فقال ما عندك فأخبره فقال إن ربيعة لم تزل غضابا على ربها منذ بعث نبيه من مضر وأقام من خازم يقاتلهم فقال يوما لأصحابه قد طال مقامنا وناداهم يا معشر ربيعة أرضيتم من خراسان بخندقكم فأحفظهم ذلك فتنادوا للقتال فنهاهم أوس بن ثعلبة عن الخروج بجماعتهم وأن يقاتلوا كما كانوا يقاتلون فعصوه فقال ابن خازم لأصحابه اجعلوه يومكم فيكون الملك لمن غلب وإذا لقيتم الخيل فاطعنوها في مناخرها فاقتتلوا ساعة وانهزمت بكر بن وائل حتى انتهوا إلى خندقهم وتفرقوا يمينا وشمالا وسقط الناس في الخندق وقتلوا قتلا ذريعا وهرب أوس بن ثعلبه إلى سجستان فمات بها أو قريبا منها. وقتل من بكر يومئذ ثمانية آلاف, وغلب ابن خازم على هراة واستعمل عليها ابنه محمدا وضم إليه شماس بن دثار العطاري وجعل بكير بن وشاح الثقفي على شرطته ورجع ابن خازم إلى مرو.
وأغارت الترك على قصر أسغاد وابن خازم على هراه وكان فيه ناس من الأزد فحصروهم فأرسلوا إلى ابن خازم فوجه إليهم زهير بن حيان في بني تميم وقال له إياك مناوأة الترك إذا رأيتموهم فاحملوا عليهم فوافاهم في يوم بارد، فلما التقوا حمل عليهم فانهزمت الترك واتبعوهم حتى مضى عامة الليل فرجع زهير وقد يبست يده على رمحه من البرد فجعلوا يسخنون الشحم فيضعه على يده ودهنوه وأوقدوا له نارا فانتفخت يده ثم رجع إلى هراة فقال في ذلك ثابت قطنة:
157

(فدت نفسي فوارس من تميم * على ما كان من ضنك المقام)
(بقصر الباهلي وقد أراني * أحامي حين قل به المحامي)
(بسيفي بعد كسر الرمح فيهم * أذودهم بذي شطب حسام)
(أكر عليهم اليحموم كرا * ككر الشرب آنية المدام)
(فلولا الله ليس له شريك * وضربي قونس الملك الهمام)
(إذا فاضت نساء بني دثار * أمام الترك بادية الخدام)
ذكر أمر التوابين
قيل: لما قتل الحسين ورجع ابن زياد من معسكرة بالنخيلة ودخل الكوفة تلاقته الشيعة بالتلاوة والمنادمة ورأت أن قد أخطأت خطأ كبيرا بدعائهم الحسين وتركهم نصرته وإجابته حتى قتل إلى جانبهم ورأوا أنه لا يغسل عارهم والإثم عليهم إلا قتل من قتله والقتل فيهم فاجتمعوا بالكوفة إلى خمسة نفر من رؤساء الشيعة إلى سليمان بن صرد الخزاعي وكانت له صحبة وإلى المسيب بن نجبة الفزاري وكان من أصحاب علي وإلى عبد الله بن سعد بن نفيل الأزدي وإلى عبد الله بن وال التيمي تيم بكر بن وائل وإلى
158

رفاعة بن شداد البجلي وكانوا من خيار أصحاب علي فاجتمعوا في منزل سليمان بن صرد الخزاعي فبدأهم المسيب بن نجبة فقال بعد حمد الله.
أما بعد فإنا ابتلينا بطول العمر والتعرض لأنواع الفتن فنرغب إلى ربنا أن لا يجعلنا ممن يقول له غدا (أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير) فإن أمير المؤمنين عليا قال العمر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون سنة وليس فينا رجل إلا وقد بلغه وقد كنا مغرمين بتزكية أنفسنا فوجدنا الله كاذبين في كل موطن من مواطن ابن بنت نبيه وقد بلغنا قبل ذلك كتبه ورسله واعذر إلينا فسألنا نصره عودا وبدءا وعلانية فبخلنا عنه بأنفسنا حتى قتل إلى جانبنا لا نحن نصرناه بأيدينا ولا جادلنا عنه بألسنتنا ولا قويناه بأموالنا ولا طلبنا له النصرة إلى عشائرنا فما عذرنا عند ربنا وعند لقاء نبينا وقد قتل فينا ولد حبيبه وذريته ونسله لا والله لا عذر دون أن تقتلوا قاتله والموالين عليه أو تقتلوا في طلب ذلك فعسى ربنا أن يرضى عنا عند ذلك ولا أنا بعد لقائه لعقوبته بآمن أيها القوم ولوا عليكم رجلا منكم فإنه لا بد لكم من أمير تفزعون إليه وراية تحفون بها.
وقام رفاعة بن شداد وقال أما بعد فإن الله قد هداك لأصوب القول وبدأت بأرشد الأمور بدعائك إلى جهاد الفاسقين وإلى التوبة من الذنب العظيم فمسموع منك مستجاب إلى قولك وقلت ولوا أمركم رجلا تفزعون إليه وتحفون برايته وقد رأينا مثل الذي رأيت فإن تكن أنت ذلك الرجل تكن عندنا مرضيا وفينا منتصحا وفي جماعتنا محبوبا ورأي أصحابنا
159

ذلك ولينا هذا الأمر شيخ الشيعة وصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم السابقة والقدم سليمان بن صرد الخزاعي المحمود في بأسه ودينه الموثوق بحزمه.
وتكلم عبد الله بن سعد بنحو ذلك وأثنيا على المسيب وسليمان فقال المسيب قد أصبتم فولوا أمركم سليمان بن صرد.
فتكلم سليمان فقال بعد حمد الله أما بعد فإني لخائف أن لا يكون أخرنا إلى هذا الدهر الذي نكدت فيه المعيشة وعظمت فيه الرزية وشمل فيه الجور أولى الفضل من هذه الشيعة لما هو خير إنا كنا نمد أعناقنا إلى قدوم أل بيت نبينا محمد النصر ونحثهم على القدوم فلما قدموا ونينا وعجزنا وأدهنا وتربصنا حتى قتل فينا ولد نبينا وسلالته وعصارته وبضعة من لحمة ودمه إذا جعل يستصرخ ويسأل النصف فلا يعطي اتخذه الفاسقون غرضا للنبل ودريئة للرماح حتى أقصدوه وعدوا عليه فسلبوه ألا انهضوا فقد سخط عليكم ربكم ولا ترجعوا إلى الحلائل والأبناء حتى يرضي الله والله ما أظنه راضيا دون أن تناجزوا من قتله ألا لا تهابوا الموت فما هابه أحد قط إلا ذل وكونوا كبني إسرائيل إذ قال لهم نبيهم (إنكم
160

ظلمتم أنفسكم) (فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم) ففعلوا وجثوا على الركب ومدوا الأعناق حين علموا أنهم لا ينجيهم من عظيم الذنب إلا القتل فكيف بكم لو دعيتم إلى ما دعوا أحدوا السيوف وركبوا الأسنة (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل) حتى تدعوا وتستنفروا.
فقال خالد بن سعد بن نفيل أما أنا فوالله لو أعلم إنه ينجيني من ذنبي ويرضي ربي عني قتلي نفسي لقتلتها وأنا أشهد كل من حضر أن كل ما أصبحت أملكه سوي سلاحي الذي أقاتل به عدوي صدقة على المسلمين أقويهم به
على قتال الفاسقين قال أبو المعتمر بن حنش بن ربيعة الكناني مثل ذلك فقال سليمان حسبكم من أراد من هذا شيئا فليأت به عبد الله بن وال التيمي فإذا اجتمع عنده كل ما تريدون اخراجه جهزنا به ذوي الخلة والمسكنة من أشياعكم.
وكتب سليمان بن صرد إلى سعد بن حذيفة بن اليمان يعلمه بما عزموا عليه ويدعوه إلى مساعدتهم ومن معه من الشيعة بالمدائن فقرأ سعد بن حذيفة الكتاب على من بالمدائن من الشيعة فأجابوا إلى ذلك فكتبوا إلى سليمان بن صرد يعلمونه أنهم على الحركة إليه والمساعدة له.
وكتب سليمان أيضا كتابا إلى المثني بن مخربة العبدي بالبصرة مثل ما كتب إلى سعد بن حذيفة فأجابه المثني اننا معشر الشيعة حمدنا الله على
161

ما عزمتم عليه ونحن موافوك إن شاء الله للأجل الذي ضربت وكتب في أسفل الكتاب:
(تبصر كأني قد أتيتك معلما * على أتلع الهادي أجش هزيم)
(طويل القري نهد الشواء مقلص * ملح على فأس اللجام أزوم)
(بكل فتى لا يملأ الروع قلبه * محش لنار الحرب غير سؤوم)
(أخي ثقة ينوي الإله بسعيه * ضروب بنصل السيف غير أثيم)
فكان أول ما ابتدؤوا به أمرهم بعد قتل الحسين سنة إحدى وستين فما زالوا بجمع آلة الحرب ودعاء الناس في السر إلى الطلب بدم الحسين فكان يجيبهم النفر بعد النفر ولم يزالوا على ذلك إلى أن هلك يزيد بن معاوية سنة أربع وستين فلما مات يزيد جاء إلى سليمان أصحابه فقالوا قد هلك هذا الطاغية والأمر ضعيف فإن شئت وثبنا على عمرو بن حريث وكان خليفة ابن زياد على الكوفة ثم أظهرنا الطلب بدم الحسين وتتبعنا قتلته ودعونا الناس إلى أهل هذا البيت المستأثر عليهم المدفوعين عن حقهم.
فقال سليمان بن صرد: لا تعجلوا إني قد نظرت فيما ذكرتم فرأيت أن قتلة الحسين هم أشراف الكوفة وفرسان العرب وهم المطالبون بدمه ومتى علموا ما تريدون كانوا أشد الناس عليكم ونظرت فيمن تبعني منكم فعلمت أنهم لو خرجوا لم يدركوا ثأرهم ولم يشفوا نفوسهم وكانوا جزرا
162

لعدوهم ولكن بثوا دعاتكم في المصر وادعوا إلى أمركم هذا شيعتكم وغير شيعتكم ففعلوا واستجاب لهم ناس كثير بعد هلاك يزيد.
ثم ان أهل الكوفة أخرجوا عمرو بن حريث وبايعوا لابن الزبير وسليمان وأصحابه يدعون الناس.
فلما مضت سته أشهر بعد هلاك يزيد قدم المختار بن أبي عبيد الكوفة في النصف من رمضان وقدم عبد الله بن يزيد الأنصاري أميرا على الكوفة من قبل ابن الزبير لثمان بقين من رمضان وقدم إبراهيم بن محمد بن طلحة معه على خراج الكوفة فأخذ المختار يدعو الناس إلى قتال قتلة الحسين ويقول جئتكم من عند المهدي محمد بن الحنفية وزيرا أمينا فرجع إليه طائفة من الشيعة وكان يقول إنما يريد سليمان أن يخرج فيقتل نفسه ومن معه وليس له بصرة بالحرب وبلغ الخبر عبد الله بن يزيد بالخروج عليه بالكوفة في هذه الأيام وقيل له ليحبسه وخوف عاقبة أمره إن تركه.
فقال عبد الله إن هم قاتلونا قاتلناهم وإن تركونا لم نطلبهم إن هؤلاء القوم يطلبون بدم الحسين بن علي فرحم الله هؤلاء القوم، [إنهم] آمنون، فليخرجوا ظاهرين وليسيروا إلى من قاتل الحسين فقد أقبل إليهم يعني ابن زياد وأنا لهم ظهير هذا ابن زياد قاتل الحسين وقاتل أخياركم وأمثالكم قد توجه إليكم وقد فارقوه على ليله من جسر منبج فالقتال والاستعداد إليه أولي من أن تجعلوا بأسكم بينكم فيقتل بعضكم بعضا فيلقاكم عدوكم وقد ضعفتم وتلك أمنيته وقد قدم عليكم أعدي خلق الله لكم من ولي عليكم هو وأبوه سبع سنين
163

لا يقلعان عن قتل أهل العفاف والدين هو الذي من قبله أتيتم والذي قتل من تنادون بدمه قد جاءكم فاستقبلوه بحدكم وشوكتكم واجعلوها به ولا تجعلوها بأنفسكم إني لكم ناصح.
وكان مروان قد سير ابن زياد إلى الجزيرة ثم إذا فرغ منها سار إلى العراق.
فلما فرغ عبد الله بن يزيد من قوله قال إبراهيم بن محمد بن طلحة أيها الناس لا يغرنكم من السيف والغشم مقالة هذا المداهن والله لئن خرج علينا خارج لنقتلنه ولئن استيقنا ان قوما يريدون الخروج علينا لنأخذن الوالد بولده والمولود بولده والحميم بالحميم والعريف بما في عرافته حتى يدينوا للحق ويذللوا للطاعة.
فوثب إليه المسيب بن نجبة فقطع عليه منطقه ثم قال يا ابن الناكثين أنت تهددنا بسيفك وغشمك أنت والله أذل من ذلك إنا لا نلومك على بغضنا وقد قتلنا أباك وجدك وأما أنت أيها الأمير فقد قلت قولا سديدا.
فقال إبراهيم والله لتقتلن وقد أدهن هذا يعني عبد الله بن يزيد فقال له عبد الله بن وال ما اعتراضك فيما بيننا وبين أميرنا ما أنت علينا بأمير إنما أنت أمير هذه الجزية فأقبل على خراجك ولئن أفسدت أمر هذه الأمة فقد أفسده والداك وكانت عليهما دائرة السوء فشتمهم جماعة ممن مع إبراهيم
164

فشاتموه فنزل الأمير من على المنبر وتهدده إبراهيم بأنه يكتب إلى ابن الزبير يشكوه فجاءه عبد الله في منزله واعتذر إليه فقبل عذره ثم إن أصحاب سليمان خرجوا يشترون السلاح ظاهرين ويتجهزون.
ذكر فراق الخوارج عبد الله بن الزبير وما كان منهم
وفي هذه السنة فارق الخوارج الذين كانوا قدموا مكة عبد الله بن الزبير وكانوا قد قاتلوا معه أهل الشام.
وكان سبب قدومهم عليه أنهم لما اشتد عليهم ابن زياد بعد قتل أبي بلال اجتمعوا فتذاكروا ذلك فقال لهم نافع بن الأزرق إن الله قد أنزل عليكم الكتاب وفرض عليكم الجهاد واحتج عليكم [بالبيان]، وقد جرد أهل الظلم فيكم السيوف فأخرجوا بنا إلى هذا الذي قد ثار بمكة فإن كان على رأينا جاهدنا معه وإن يكن على غير رأينا دافعناه عن البيت وكان عسكر الشام قد سار نحو ابن الزبير.
فسار الخوارج حتى قدموا على ابن الزبير فسر بمقدمهم وأخبرهم أنه على مثل رأيهم من غير تفتيش فقاتلوا معه أهل الشام حتى مات يزيد بن معاوية وانصرف أهل الشام.
ثم انهم اجتمعوا وقالوا إن الذي صنعتم أمس لغير رأي تقاتلون مع رجل لا تدرون لعله ليس على مثل رأيكم وقد كان أمس يقاتلكم هو وأبوه وينادي يا ثارات عثمان فأتوه واسألوه عن عثمان فإن برئ منه كان وليكم،
165

وإن أبى كان عدوكم فأتوه فسألوه فنظر فإذا أصحابه حوله قليل فقال إنكم أتيتموني حين أردت القيام ولكن روحوا [إلى] العشية حتى أعلمكم.
فانصرفوا وبعث إلى أصحابه فجمعهم حوله بالسلاح وجاءت الخوارج وأصحابه حوله وعلى رأسه وبأيديهم العمد، فقال ابن الأزرق لأصحابه: إن الرجل قد أزمع خلافكم، فتقدم إليه نافع بن الأزرق وعبيدة بن هلال، فقال عبيدة بعد حمد الله:
أما بعد فإن الله بعث محمدا يدعو إلى عبادته وإخلاص الذي له فدعا إلى ذلك فأجابه المسلمون فعمل فيهم بكتاب الله حتى قبضه الله واستخلف الناس أبا بكر واستخلف أبو بكر عمر فكلاهما عملا بكتاب الله وسنة نبيه ثم ان الناس استخلفوا عثمان فحمى الأحماء وآثر القربى واستعمل الغني ورفع الدرة ووضع السوط ومزق الكتاب وضرب منكر الجور وآوي طريد رسول الله صلى الله عليه وسلم السابقين بالفضل وحرمهم واخذ فيء الله الذي أفاء عليهم فقسمه في فساق قريش ومجان العرب فسارت إليه طائفة فقتلوه فنحن لهم أولياء ومن ابن عفان وأوليائه برآء فما تقول أنت يا ابن الزبير فقال قد فهمت الذي ذكرت به النبي صلى الله عليه وسلم فوق ما ذكرت وفوق ما وصفت وفهمت ما ذكرت به أبا بكر وعمر وقد وفقت وأصبت وفهمت الذي ذكرت به عثمان وإني لا أعلم مكان أحد من خلق الله اليوم أعلم بابن عفان وأمره مني كنت معه حيث نقم القوم عليه واستعتبوه فلم يدع شيئا إلا أعتبهم ثم رجعوا إليه بكتاب له يزعمون أنه كتبه يأمر فيه بقتلهم فقال لهم ما كتبته فإن شئتم فهاتوا بينتكم فإن لم تكن حلفت لكم فوالله ما جاؤوه ببينة ولا استحلفوه ووثبوا عليه فقتلوه وقد
166

سمعت ما عبته به فليس كذلك بل هو لكل خير أهل وأنا أشهدكم ومن حضرني إني ولي لابن عفان وعدو أعدائه فبرئ الله منكم.
وتفرق القوم فأقبل نافع بن الأزرق الحنظلي وعبد الله بن الصفار السعدي وعبد الله بن أباض وحنظله بن بيهس وبنو الماحوز وعبيد الله والزبير من بني سليط بن يربوع وكلهم من تميم حتى أتوا البصرة وانطلق أبو طالوت من
بني بكر بن وائل وأبو فديك عبد الله بن ثور بن قيس بن ثعلبة وعطيه بن الأسود اليشكري إلى اليمامة فوثبوا بها مع أبي طالوت.
ثم أجمعوا بعد ذلك على نجدة بن عامر الحنفي وتركوا أبا طالوت فأما نافع وأصحابه فإنهم قدموا البصرة وهم على رأي أبي بلال واجتمعوا وتذاكروا فضيلة الجهاد فخرج نافع على ثلاثمائة وذلك عند وثوب الناس بابن زياد وكسر الخوارج باب السجن وخرجوا واشتغل الناس عنهم بحرب الأزد وربيعة وتميم، فلما خرج نافع تبعوه واصطلح أهل البصرة على عبد الله بن الحرث فتجرد الناس للخوارج وأخافوهم فلحق نافع بالأهواز في شوال سنة أربع وستين وخرج من بقي منهم بالبصرة إلى ابن الأزرق إلا من لم يرد لخروج يومه ذلك منهم عبد الله بن الصفار وعبد الله بن أباض ورجال معهما على رأيهما ونظر نافع فرأى أن ولاية من تخلف عن الجهاد من الذين قعدوا من الخوارج لا تحل له وإن من تخلف عنه لا نجاة له فقال لأصحابه ذلك ودعاهم إلى البراءة منهم وأنهم لا يحل لهم مناكحتهم ولا أكل ذبائحهم ولا يجوز قبول شهادتهم وأخذ علم الدين عنهم ولا يحل ميراثهم ورأى قتل الأطفال والإستعراض وأن جميع المسلمين كفار مثل كفار العرب لا يقبل منهم إلا الإسلام أو القتل.
فأجابه إلى ذلك بعضهم وفارقه بعضهم وممن فارقه نجدة بن عامر،
167

وسار إلى اليمامة، فأطاعه الخوارج الذين بها وتركوا أبا طالوت فكتب نافع إلى ابن أباض وابن الصفار يدعوهما ومن معهما إلى ذلك فقرأ ابن الصفار الكتاب ولم يقرأه على أصحابه خشية أن يتفرقوا ويختلفوا فأخذه ابن أباض فقرأه وقال قاتله الله أي رأي رأي صدق نافع لو كان القوم مشركين كان أصوب الناس رأيا وكانت سيرته كسيرته في المشركين ولكنه قد كذب فيما يقول إن القوم برآء من الشرك ولكنهما كفار بالنعم والأحكام ولا يحل لنا إلا دماؤهم وما سوي ذلك فهو حرام علينا.
فقال له ابن الصفار برئ الله منك فقد قصرت وبرئ الله من ابن الأزرق فقد غلا فقال الآخر برئ الله منك ومنه.
فتفرق القوم واشتدت شوكة ابن الأزرق وكثرت جموعه وأقام بالأهواز يجبي الخراج ويتقوى به ثم أقبل نحو البصرة حتى دنا من الجسر فبعث إليه عبد الله بن الحرث مسلم بن عبيس بن كريز بن ربيعة من أهل البصرة.
(عبيس بالعين المهملة المضمومة والباء الموحدة والياء المثناة من تحت وبالسين المهملة وعبيد بن بلال بضم العين المهملة والباء الموحدة).
ذكر قدوم المختار الكوفة
كانت الشيعة تسب المختار وتعيبه لما كان منه في أمر الحسن بن علي حين طعن في ساباط وحمل إلى أبيض المدائن حتى [إذا] كان زمن الحسين وبعث
168

الحسين مسلم بن عقيل إلى الكوفة كان المختار في قرية له تدعى لفغا فجاءه خبر ابن عقيل عند الظهر أنه قد ظهر ولم يكن خروجه عن ميعاد كما سبق فأقبل المختار في مواليه فانتهى إلى باب الفيل بعد المغرب وقد أقعد عبيد الله بن زياد عمرو بن حريث بالمسجد ومعه راية فوقف المختار لا يدري ما يصنع فبلغ خبره عمرا فاستدعاه وآمنه فحضر عنده.
فلما كان الغد ذكر عمارة بن الوليد بن عقبة أمره لعبيد الله فأحضره فيمن دخل وقال له أنت المقبل في الجموع لتنصر ابن عقيل قال لم أفعل ولكني أقبلت ونزلت تحت راية عمرو فشهد له عمرو فضرب وجه المختار فشتر عينه وقال لولا شهادة عمرو لقتلتك ثم حبسه حتى قتل الحسين.
ثم أن المختار بعث إلى عبد الله بن عمر بن الخطاب يسأله أن يشفع فيه وكان ابن عمر تزوج أخت المختار صفيه بنت أبي عبيد فكتب ابن عمر إلى يزيد يشفع فيه فأرسل يزيد إلى ابن زياد يأمره بإطلاقه فأطلقه وأمره أن لا يقيم غير ثلاث.
فخرج المختار إلى الحجاز فلقيه ابن العرق وراء واقصة فسلم عليه وسأله عن عينه فقال خبطها ابن الزانية بالقضيب فصارت كما تري ثم قال قتلني الله إن لم أقطع أنامله وأعضاءه إربا إربا! ثم سأله المختار عن ابن الزبير فقال إنه عائذ بالبيت وإنه يبايع سرا ولو اشتدت شوكته وكثرت رجاله لظهر.
فقال المختار إنه رجل العرب اليوم وإن اتبع رأيي أكفه أمر الناس. إن الفتنة أرعدت وأبرقت وكان قد انبعث فإذا سمعت بمكان قد ظهرت
169

به [فقل إن المختار] في عصابة من المسلمين يطلب بدم الشهيد المظلوم المقتول بالطف سيد المسلمين وابن بنت سيد المرسلين وابن سيدها الحسين بن علي فوربك لأقتلن بقتله عدة من قتل على دم يحي بن زكريا.
ثم سار وابن العرق يعجب من قوله قال ابن العرق فوالله لقد رأيت ما ذكره وحدثت به الحجاج بن يوسف فضحك وقال لله دره أي رجل دنيا ومسعر حرب ومقارع أعداء كان!
ثم قدم المختار على ابن الزبير فكتم عنه ابن الزبير أمره ففارقه وغاب عنه سنة ثم سأل عنه ابن الزبير فقيل إنه بالطائف وإنه يزعم أنه صاحب الغضب ومسير الجبارين فقال ابن الزبير ماله قاتله الله لقد انبعث كذابا متكهنا ان يهلك الله الجبارين يكن المختار أولهم.
فهو في حديثه إذ دخل المختار المسجد فطاف وصلى ركعتين وجلس فأتاه معارفه يحدثونه ولم يأت ابن الزبير فوضع ابن الزبير عليه عباس بن سهل بن مسعر فأتاه وسأله عن حاله ثم قال له مثلك يغيب عن الذي اجتمع عليه الأشراف من قريش والأنصار وثقيف ولم تبق قبيلة إلا وقد أتاه زعيمها فبايع هذا الرجل فقال إني أتيته العام الماضي وكتم عني خبره فلما استغني عني أحببت أن أريه أنى مستغن عنه فقال له العباس القه الليلة وأنا معك فأجابه إلى ذلك، ثم حضر عند ابن الزبير بعد العتمة فقال المختار أبايعك على أن لا تقضي الأمور دوني وعلي أن أكون أول داخل وإذا ظهرت استعنت بي على أفضل عملك فقال ابن الزبير أبايعك على كتاب الله وسنة رسوله.
170

فقال وشر غلماني تبايعه على ذلك.
والله لا أبايعك أبدا إلا على ذلك فبايعه فأقام عنده وشهد معه قتال الحصين بن نمير وأبلى أحسن بلاء وقاتل أشد قتال وكان أشد الناس على أهل الشام.
فلما هلك يزيد بن معاوية وأطاع أهل العراق ابن الزبير أقام عنده خمسة أشهر فلما رآه لا يستعمله جعل لا يقدم عليه أحد من أهل الكوفة إلا سأله عن حال الناس فأخبره هانئ بن جبه الوداعي باتساق أهل الكوفة على طاعة ابن الزبير إلا أن طائفة من الناس هم عدد أهلها لو كان لهم من يجمعهم على رأيهم أكل بهم الأرض إلى يوم [ما].
فقال المختار: أنا أبو إسحاق أنا والله لهم أن اجمعهم على الحق وألقى بهم ركبان الباطل وأهلك بهم كل جبار عنيد ثم ركب راحلته نحو الكوفة فوصل إلى نهر الحيرة يوم الجمعة فاغتسل ولبس ثيابه ثم ركب فمر بمسجد السكون وجبانة كندة لا يمر على مجلس إلا وسلم على أهله وقال أبشروا بالنصرة والفلج أتاكم ما تحبون.
ومر ببني بداء فلقي عبيدة بن عمرو البدئي من كندة فسلم عليه وقال له ابشر بالنصر والفلج أنك أبو عمرو على رأي حسن لن يدع الله لك معه إثما إلا غفره لك ولا ذنبا إلا ستره وكان عبيدة من أشجع الناس وأشعرهم وأشدهم تشيعا وحبا لعلي وكان لا يصبر عن الشراب فقال له بشرك الله بالخير فهل أنت مبين لنا قال نعم القني الليلة.
ثم مر ببني هند فلقي إسماعيل بن كثير فرحب به وقال له القني أنت
171

وأخوك الليلة فقد أتيتكم بما تحبون ومر على حلقة من همدان فقال قد قدمت عليكم بما يسركم ثم أتى المسجد واستشرف له الناس فقام إلى سارية فصلي عندها حتى أقيمت الصلاة وصلى مع الناس ثم صلى ما بين الجمعة والعصر ثم انصرف إلى داره واختلف إليه الشيعة وأتى إسماعيل بن كثير وأخوه وعبيد بن عمرو فسألهم فأخبروه خبر سليمان بن صرد وأنه على المنبر فحمد الله ثم قال إن المهدي بن الوصي بعثني إليكم أمينا ووزيرا ومنتخبا وأميرا وأمرني بقتل الملحدين والطلب بدم أهل بيته والدفع عن الضعفاء فكونوا أول خلق الله إجابة.
فضربوا على يده وبايعوه وبعث إلى الشيعة وقد اجتمعت عند سليمان بن صرد وقال لهم نحو ذلك وقال لهم إن سليمان ليس له بصر بالحرب ولا تجربة بالأمور وإنما يريد أن يخرجكم فيقتلكم ويقتل نفسه وأنا أعمل على مثال مثل لي وأمر بين لي أعين وليكم وأقتل عدوكم وأشفي صدوركم فاسمعوا قولي وأطيعوا أمري ثم انتشروا.
وما زال بهذا ونحوه حتى استمال طائفة من الشيعة وصاروا يختلفون إليه ويعظمونه وعظماء الشيعة مع سليمان
لا يعدلون به أحدا وهو أثقل خلق الله على المختار وهو ينظر إلى ما يصير إليه أمر سليمان.
فلما خرج سليمان نحو الجزيرة قال عمرو بن سعد وشبث بن ربعي وزيد بن الحرث بن رويم لعبد الله بن يزيد الخطمي وإبراهيم بن محمد بن طلحة إن المختار أشد عليكم من سليمان إنما خرج يقاتل عدوكم وإن المختار
172

يريد أن يثب عليكم في مصركم فسيروا إليه فأوثقوه واسجنوه حتى يستقيم أمر الناس.
فأتوه فأخذوه بغته، فلما رآهم قال: ما لكم؟ فوالله ما ظفرت أكفكم! فقال إبراهيم بن محمد بن طلحة لعبد الله شده كتافا ومشه حافيا فقال عبد الله ما كنت لأفعل هذا برجل لم يظهر لنا غدره إنما أخذناه على الظن فقال إبراهيم ليس هذا بعشك فادرجي ما هذا الذي بلغنا عنك يا ابن أبي عبيد فقال ما بلغك عني إلا باطل وأعوذ بالله من غش كغش أبيك وجدك!
ثم حمل إلى السجن غير مقيد وقيل بل كان مقيدا فكان يقول في السجن أما ورب البحار والنخيل والأشجار والمهامه والقفار والملائكة الأبرار والمصطفين الأخيار لأقتلن كل جبار بكل لدن خطار ومهند بتار بجموع الأنصار ليس بمثل أغمار ولا بعزل أشرار حتى إذا أقمت عمود الدين وزايلت شعب صدع المسلمين وشفيت غليل صدور المؤمنين وأدركت ثار النبيين لم يكبر على زوال الدنيا ولم أحفل بالموت إذا أتى.
وقيل في خروج المختار إلى الكوفة وسببه غير ما تقدم وهو أن المختار قال لابن الزبير وهو عنده إني لأعلم قوما لو أن لهم رجلا له فقه وعلم بما يأتي ويذر لأستخرج لك منهم جندا تقاتل بهم أهل الشام قال من هم قال شيعة على بالكوفة قال فكن أنت ذلك الرجل فبعثه إلى الكوفة فنزل ناحية منها يبكي على الحسين ويذكر مصابه حتى لقوه وأحبوه فنقلوه إلى وسط الكوفة وأتاه منهم بشر كثير فلما قوي أمره سار إلى ابن مطيع.
173

ذكر عدة حوادث
حج بالناس هذه السنة عبد الله بن الزبير وكان عامله على المدينة فيها أخوه عبيدة بن الزبير وعلى الكوفة عبد الله بن يزيد الخطمي وعلى قضائها هشام بن هبيرة وعلى البصرة عمر بن عبد الله بن عمر التيمي وعلى خراسان عبد الله بن خازم.
وفيها مات شداد بن أوس بن ثابت وهو ابن أخي حسان بن ثابت وفيها توفي المسور بن مخرمة بمكة في اليوم الذي ورد فيه خبر موت يزيد بن معاوية وكان سبب موته أن أصابته فلقه حجر منجنيق في جانب وجهه فمرض أياما ومات وفيها توفي أبو برزة الأشهلي بخراسان وفيها توفي الوليد بن عتبة بن أبي سفيان في قول وفي أيام يزيد مات أبو ثعلبه الخشني وقيل مات سنة خمس وسبعين له صحبة وفي أيامه أيضا مات عائذ بن عمرو المزني بالبصرة وشهد بيعة الرضوان وفي أيام ابن زياد بالكوفة مات قيس بن خرشة وهو صحابي وخبر موته عجيب مع ابن زياد لأنه كان قوالا بالحق وفي أيامه مات نوفل بن معاوية بن عمرو الدؤلي وفي أيامه مات أبو خيثمة الأنصاري شهد أحدا وذكره في تبوك مشهور وفي أيامه مات عتبان بن مالك وهو بدري وفي هذه السنة توفي شقيق بن ثور السدوسي.
174

65
ثم دخلت سنة خمس وستين
ذكر مسير التوابين وقتلهم
لما أراد سليمان بن صرد الخزاعي الشخوص سنة خمس وستين بعث إلى رؤوس أصحابه فأتوه فلما أهل ربيع الآخر خرج في وجوه أصحابه وكانوا تواعدوا للخروج تلك الليلة فلما أتى النخيلة دار في الناس فلم يعجبه عددهم فأرسل حكيم من منقذ الكندي والوليد بن عصير الكناني فناديا في الكوفة يا لثارات الحسين فكانا أول خلق الله دعا يا لثارات الحسين.
فأصبح من الغد وقد أتاه نحو مما في عسكره ثم نظر في ديوانه فوجدهم ستة عشر ألفا ممن بايعه فقال سبحان الله ما وافانا من ستة عشر ألفا إلا أربعة آلاف فقيل له إن المختار يثبط الناس عنك إنه قد تبعه ألفان فقال قد بقي عشرة آلاف أما هؤلاء بمؤمنين أما يذكرون الله والعهود والمواثيق فأقام بالنخيلة ثلاثا يبعث إلى من تخلف عنه فخرج إليه نحو من ألف رجل فقام إليه المسيب بن نجبة فقال رحمك الله انه لا ينفعك الكاره ولا يقاتل معك إلا من أخرجته النية فلا تنتظر أحدا وجد في أمرك.
175

قال نعم ما رأيت.
ثم قام سليمان في أصحابه فقال أيها الناس من كان خرج يريد بخروجه وجه الله والآخرة فذلك منا ونحن منه فرحمة الله عليه حيا وميتا ومن كان إنما يريد الدنيا فوالله ما يأتي فيء نأخذه وغنيمة نغنمها ما خلا رضوان [الله]، وما معنا من ذهب ولا فضة ولا متاع ما هو إلا سيوفنا على عواتقنا وزاد قدر البلغة فمن كان ينوي هذا فلا يصحبنا فتنادى أصحابه من كل جانب إنا لا نطلب الدنيا وليس لها خرجنا إنما خرجنا نطلب التوبة والطلب بدم ابن بنت رسول الله نبينا صلى الله عليه وسلم.
فلما عزم سليمان على المسير قال له عبد الله بن سعد بن نفيل إني قد رأيت رأيا إن يكن صوابا فالله الموفق وإن يكن ليس صوابا فمن قبلي إنا خرجنا نطلب بدم الحسين وقتلته كلهم بالكوفة منهم عمر بن سعد ورؤوس الأرباع والقبائل فأين نذهب من هنا وندع الأوتار؟ فقال أصحابه كلهم: هذا هو الرأي.
فقال سليمان: لكن أنا لا أرى ذلك إن الذي قتله وعبأ الجنود إليه وقال لا أمان له عندي دون أن يستسلم فأمضي فيه حكمي هذا الفاسق ابن الفاسق عبيد الله بن زياد فسيروا إليه على بركة الله فإن يظهركم الله عليه رجونا أن يكون من بعده أهون علينا منه ورجونا أن يدين لكم أهل مصركم في عافية فينظرون إلى كل من شرك في دم الحسين فيقتلونه ولا يغشون وإن تستشهدوا فإنما قاتلتم المحلين وما عند الله خير للأبرار إني لا أحب أن تجعلوا جدكم بغير
176

المحلين ولو قاتلتم أهل مصركم ما عدم رجل أن يرى رجلا قد قتل أخاه وأباه وحميمه ورجلا يريد قتله فاستخيروا الله وسيروا.
وبلغ عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد بن طلحة خروج ابن صرد فأتياه في أشراف أهل الكوفة ولم يصحبهم من شرك في دم الحسين خوفا منه وكان عمر بن سعد تلك الأيام يبيت في قصر الإمارة خوفا منهم فلما أتياه قال عبد الله بن يزيد إن المسلم أخو المسلم لا يخونه ولا يغشه وأنتم إخواننا وأهل بلدنا وأحب أهل مصر خلقه الله إلينا فلا تفجعونا بأنفسكم ولا تنقصوا عددنا بخروجكم من جماعتنا أقيموا معنا حتى نتهيأ فإذا سار عدونا إلينا خرجنا إليه بجماعتنا فقاتلناه.
وجعل لسليمان وأصحابه خراج جوخى إن أقاموا وقال إبراهيم بن محمد مثله؛ فقال سليمان لهما: قد محضتما النصيحة واجتهدتما في المشورة فنحن بالله وله نسأل الله العزيمة على الرشد ولا نرانا إلا سائرين فقال عبد الله فأقيموا حتى نعبي معكم جريدا كثيفا فتلقوا عدوكم بجمع كثيف وكان قد بلغهم إقبال عبيد الله بن زياد من الشام في جنود كثيرة فلم يقم سليمان فسار عشية الجمعة لخمس مضين من ربيع الآخر سنة خمس وستين فوصل دار الأهواز وقد تخلف عنه ناس كثير فقال ما أحب أن تتخلفوا ولو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا إن الله كره انبعاثهم فثبطهم واختصكم بفضل ذلك.
177

ثم ساروا فانتهوا إلى قبر الحسين فلما وصلوا صاحوا صيحة واحدة. فما رئي أكثر باكيا من ذلك اليوم فترحموا عليه وتابوا عنده من خذلانه وترك القتال معه وأقاموا عنده يوما وليلة يبكون ويتضرعون ويترحمون عليه وعلى أصحابه وكان من قولهم عند ضريحه اللهم ارحم حسينا الشهيد ابن الشهيد المهدي ابن المهدي الصديق ابن الصديق اللهم إنا نشهدك أنا على دينهم وسبيلهم وأعداء قاتليهم وأولياء محبيهم اللهم إنا خذلنا ابن بنت نبينا فاغفر لنا ما مضى منا وتب علينا فارحم حسينا وأصحابه الشهداء الصديقين وإنا نشهدك أنا على دينهم وعلى ما قتلوا عليه وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين وزادهم النظر إليه حنقا.
ثم ساروا بعد أن كان الرجل يعود إلى ضريحه كالمودع له فازدحم الناس عليه أكثر من ازدحامهم على الحجر الأسود ثم ساروا على الأنبار وكتب إليهم عبد الله بن يزيد كتابا منه يا قومنا لا تطيعوا عدوكم أنتم في أهل بلادكم خيار كلكم ومتى يصبكم عدوكم يعلموا أنكم أعلام مصركم فيطمعهم ذلك فيمن وراءكم يا قومنا (إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا)، يا قوم إن أيدينا وأيديكم واحدة وعدونا وعدوكم واحد
ومتى تجتمع كلمتنا على عدونا نظهر على عدونا ومتى تختلف تهن شوكتنا على من خالفنا،
178

يا قومنا لا تستغشوا نصحي ولا تخالفوا أمري وأقبلوا حين يقرأ كتابي عليكم والسلام.
فقال سليمان وأصحابه فقد أتانا هذا ونحن في مصرنا فحين وطأنا أنفسنا على الجهاد ودنونا من أرض عدونا ما هذا برأي فكتب إليه سليمان يشكره ويثني عليه ويقول إن القوم قد استبشروا ببيعهم أنفسهم من ربهم وإنهم قد تابوا من عظيم ذنبهم وتوجهوا إلى الله وتوكلوا عليه ورضوا بما قضى الله عليهم.
فلما جاء الكتاب إلى عبد الله قال استمات القوم أول خير يأتيكم عنهم قتلهم والله ليقتلن كراما مسلمين.
ثم ساروا حتى انتهوا إلى قرقيسيا على تعبية وبها زفر بن الحرث الكلابي قد تحصن بها منهم ولم يخرج إليهم، فأرسل إليه المسيب بن نجبة يطلب إليه أن يخرج إليه سوقا فأتى المسيب إلى باب قرقيسيا فعرفهم نفسه وطلب الإذن على زفر فأتى هذيل بن زفر أباه فقال هذا رجل حسن الهيئة اسمه المسيب بن نجبة يستأذن عليك فقال أبوه أما تدري يا بني من هذا هذا فارس مضر الحمراء كلها إذ عد من أشرافها عشرة كان أحدهم هو وهو متعبد رجل ناسك له دين ائذن له فأذن له. فلما دخل عليه أجلسه إلى جانبه وسأله فعرفه المسيب حاله وما عزموا عليه فقال زفر إنا لم نغلق أبواب المدينة إلا لنعلم إيانا تريدون أم غيرنا وما بنا عجز عن الناس وما نحب قتالكم وقد بلغنا عنكم صلاح وسيرة جميلة.
ثم أمر ابنه فأخرج لهم سوقا وأمر للمسيب بألف درهم وفرس فرد
179

المال وأخذ الفرس وقال لعلي احتاج إليه إذا عرج فرسي وبعث زفر إليهم بخبز كثير وعلف ودقيق حتى استغنى الناس عن السوق إلا أن كان الرجل يشتري سوطا أو ثوبا.
ثم ارتحلوا من الغد وخرج إليهم زفر يشيعهم وقال لسليمان إنه قد سار خمسة أمراء من الرقة هم الحصين بن نمير وشرحبيل بن ذي الكلاع وأدهم بن محرز وجبلة بن عبد الله الخثعمي وعبيد الله بن زياد في عدد كثير مثل الشوق والشجر فإن شئتم دخلتم مدينتنا وكانت أيدينا واحدة فإذا جاءنا هذا العدو قاتلناهم جميعا فقال سليمان قد طلب أهل مصرنا ذلك منا فأبينا عليهم.
قال زفر: فبادروهم إلى عين الوردة وهي رأس عين فاجعلوا المدينة في ظهوركم ويكون الرستاق والماء والمادة في أيديكم وما بيننا وبينكم فأنتم آمنون منه فاطووا المنازل فوالله ما رأيت جماعة قط أكرم منكم فإني أرجو أن تسبقوهم وإن قاتلتموهم فلا تقاتلوهم في فضاء ترامونهم وتطاعنونهم فإنهم أكثر منكم ولا آمن أن يحيطوا بكم فلا تقفوا لهم فيصرعوكم ولا تصفوا لهم فإني لا أرى معكم رجالة ومعهم الرجالة والفرسان بعضهم يحمي بعضا ولكن القوهم في الكتائب والمقانب ثم بثوها فيما بين ميمنتهم وميسرتهم واجعلوا مع كل كتيبة أخرى إلى جانبها فإن حمل على إحدى الكتيبتين رحلت الأخرى فنفست عنها ومتى شاءت كتيبة ارتفعت وما شاءت كتيبة انحطت ولو كنتم صفا واحدا فزحفت إليكم الرجالة فدفعتم عن الصف انتقض فكانت الهزيمة ثم ودعهم ودعا لهم ودعوا له وأثنوا عليه.
ثم ساروا مجدين فانتهوا إلى عين الوردة فنزلوا غربيها وأقاموا خمسا فاستراحوا وأراحوا.
180

وأقبل أهل الشام في عساكرهم حتى كانوا من عين الوردة على مسيرة يوم وليلة فقام سليمان في أصحابه وذكر الآخرة ورغب فيها ثم قال أما بعد فقد أتاكم عدوكم الذي دأبتم إليه في السير آناء الليل والنهار فإذا لقيتموهم فأصدقوهم القتال واصبروا إن الله مع الصابرين ولا يولينهم امرؤ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة ولا تقتلوا مدبرا ولا تجهزوا على جريح ولا تقتلوا أسيرا من أهل دعوتكم إلا أن يقاتلكم بعد أن تأسروه فإن هذه كانت سيرة علي في أهل هذه الدعوة.
ثم قال: إن أنا قتلت فأمير الناس مسيب بن نجبة فإن قتل فالأمير عبد الله بن سعد بن نفيل فإن قتل فالأمير عبد الله بن وال فإن قتل فالأمير رفاعة بن شداد رحم الله امرأ صدق ما عاهد الله عليه.
ثم بعث المسيب في أربعمائة فارس ثم قال سر حتى تلقى أول عساكرهم فشن عليهم [الغارة]، فإن رأيت ما تحبه وإلا رجعت وإياك أن تنزل [أو تدع] أحدا من أصحابك [ينزل] أو تستقبل آخر ذلك، حتى لا تجد منه بدا. فسار يومه وليلته ثم نزل السحر فلما أصبحوا أرسل أصحابه في الجهات ليأتوه بمن يلقون فأتوه بأعرابي فسأله عن أدنى العساكر منه فقال أدنى عسكر من عساكرهم منك عسكر شرحبيل بن ذي الكلاع وهو منك على رأس ميل وقد اختلف هو والحصين ادعى الحصين أنه على الجماعة وأبى شرحبيل ذلك وهما ينتظران أمر ابن زياد.
فسار المسيب ومن معه مسرعين فأشرفوا عليهم وهم غارون فحملوا في جانب عسكرهم فانهزم العسكر وأصاب المسيب منهم رجالا فأكثروا فيهم
181

الجراح وأخذوا الدواب وخلى الشاميون معسكرهم وانهزموا فغنم منه أصحاب المسيب ما أرادوا ثم انصرفوا إلى سليمان موفورين.
وبلغ الخبر ابن زياد فسرح الحصين بن نمير مسرعا حتى نزل في اثني عشر ألفا فخرج أصحاب سليمان إليه لأربع بقين من جمادى الأولى وعلى ميمنتهم عبد الله بن سعد وعلى ميسرتهم المسيب بن نجبة وسليمان في القلب وجعل الحصين على ميمنته جبلة بن عبد الله وعلى ميسرته ربيعة بن المخارق الغنوي. فلما دنا بعضهم من بعض دعاهم أهل الشام إلى الجماعة على عبد الملك بن مروان ودعاهم أصحاب سليمان إلى خلع عبد الملك وتسليم عبيد الله بن زياد إليهم وأنهم يخرجون من بالعراق من أصحاب ابن الزبير ثم يرد الأمر إلى أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم فأبى كل منهم، فحملت ميمنة سليمان على ميسرة الحصين والميسرة على الميمنة وحمل سليمان في القلب على جماعتهم فانهزم أهل الشام إلى معسكرهم وما زال الظفر لأصحاب سليمان إلى أن حجز بينهم الليل.
فلما كان الغد صبح الحصين جيش مع ابن ذي الكلاع ثمانية آلاف أمدهم بهم عبيد الله بن زياد وخرج أصحاب سليمان فقاتلوهم قتالا لم يكن أشد منه جميع النهار لم يحجز بينهم إلا الصلاة فلما أمسوا تحاجزوا وقد كثرت الجراح في الفريقين وطاف القصاص على أصحاب سليمان يحرضونهم.
فلما أصبح أهل الشام أتاهم أدهم بن محرز الباهلي في نحو من عشرة آلاف من ابن زياد فاقتتلوا يوم الجمعة قتالا شديدا إلى ارتفاع الضحى، ثم إن أهل الشام كثروهم وتعطفوا عليهم من كل جانب ورأى سليمان ما لقي أصحابه، فنزل ونادى: عباد الله من أراد البكور إلى ربه والتوبة
182

من ذنبه فإلي! ثم كسر جفن سيفه ونزل معه ناس كثير وكسروا جفون سيوفهم ومشوا معه فقاتلوهم فقتلوا من أهل الشام مقتلة عظيمة وجرحوا فيهم فأكثروا الجراح فلما رأى الحصين صبرهم وبأسهم بعث رجالا ترميهم بالنبل واكتنفتهم الخيل والرجال فقتل سليمان رحمه الله رماه يزيد بن الحصين فوقع ثم وثب ثم وقع.
فلما قتل سليمان أخذ الراية المسيب بن نجبة وترحم على سليمان ثم تقدم فقاتل بها ساعة ثم رجع ثم حمل فعل ذلك ثم قتل رضي الله عنه بعد أن قتل رجالا.
فلما قتل أخذ الراية عبد الله بن نفيل وترحم عليهما ثم قرأ (فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا). وحف به من كان معه من الأزد فبينما هم في القتال أتاهم فرسان ثلاثة من سعد بن حذيفة يخبرون بمسيرة في سبعين ومائة من أهل المدائن ويخبرون أيضا بمسير أهل البصرة مع المثنى بن مخربة العبدي في ثلاثمائة فسر الناس فقال عبد الله بن سعد ذلك لو جاؤونا ونحن أحياء.
فلما نظر الرسل إلى مصارع إخوانهم ساءهم ذلك واسترجعوا وقاتلوا معهم وقتل عبد الله بن نفيل قتله ابن أخي ربيعة بن مخارق وحمل خالد بن سعد بن نفيل على قاتل أخيه فطعنه بالسيف واعتنقه الآخر فحمل أصحابه عليه فخلصوه بكثرتهم وقتلوا خالدا وبقيت الراية ليس عندها أحد فنادوا عبد الله بن وال فإذا هو اصطلى الحرب في عصابة معه فحمل رفاعة بن شداد فكشف أهل الشام عنه فآتى فآخذ الراية وقاتل مليا ثم قال
183

لأصحابه: من أراد الحياة التي ليس بعدها موت والراحة التي ليس بعدها نصب والسرور الذي ليس بعده حزن فليتقرب إلى الله بقتال هؤلاء المحلين الرواح إلى الجنة وذلك عند العصر فحمل هو وأصحابه فقتلوا رجالا وكشفوهم.
ثم إن أهل الشام تعطفوا عليهم من كل جانب حتى ردوهم إلى المكان الذي كانوا فيه وكان مكانهم لا يؤتى إلا من
وجه واحد فلما كان المساء تولى قتالهم أدهم بن محرز الباهلي فحمل عليهم في خيله ورجله فوصل ابن محرز إلى ابن وال وهو يتلوا (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا) فغاظ ذلك أدهم بن محرز فحمل عليه فضرب يده فأبانها ثم تنحى عنه وقال إني أظنك وددت أنك عند أهلك قال ابن وال بئسما ظننت والله ما أحب أن يدك مكانها إلا أن يكون لي من الأجر ليعظم وزرك ويعظم أجري. فغاظه ذلك أيضا فحمل عليه فطعنه فقتله وهو مقبل ما يزول وكان ابن وال من الفقهاء العباد.
فلما قتل أتوا رفاعة بن البجلي وقالوا لا تأخذ الراية ارجعوا بنا لعل الله يجمعنا ليوم شر لهم فقال له عبد الله ابن عوف ابن الأحمر هلكنا والله لئن انصرفنا ليركبن أكتافنا فلا نبلغ فرسخا حتى نهلك عن آخرنا وإن نجا منا ناج أخذته العرب يتقربون به إليهم فقتل صبرا هذه الشمس قد قاربت الغروب فنقاتلهم على خيلنا فإذا غسق ركبنا خيولنا أول الليل وسرنا حتى نصبح على مهل ويحمل الرجل صاحبه وجريحه ونعرف الوجه الذي نأخذه فقال رفاعة نعم ما رأيت! وأخذ الراية وقاتلهم قتالا شديدا،
184

ورام أهل الشام إهلاكهم قبل الليل فلم يصلوا إلى ذلك لشدة قتالهم وتقدم عبد الله بن عزيز الكناني فقاتل أهل الشام ومعه ولده محمد وهو صغير فنادى بني كنانة من أهل الشام وسلم ولده إليهم ليوصلوه إلى الكوفة فعرضوا عليه الأمانة فأبى ثم قاتلهم حتى قتل.
وتقدم كرب بن يزيد الحميري عند المساء في مائة من أصحابه فقاتلهم أشد قتال فعرض عليه وعلى أصحابه ابن ذي الكلاع الحميري الأمان، قال قد كنتم آمنين في الدنيا وإنما خرجنا نطلب أمان الآخرة فقاتلوهم حتى قتلوا وتقدم صخر بن هلال المزني في ثلاثين من مزينة فقاتلوا حتى قتلوا.
فلما أمسوا رجع أهل الشام إلى معسكرهم ونظر رفاعة إلى كل رجل قد عقر به فرسه وجرح فدفعة إلى قومه ثم سار بالناس ليلته وأصبح الحصين ليلتقيهم فلم يرهم فلم يبعث في آثارهم وساروا حتى أتوا قرقيسيا فعرض عليهم زفر الإقامة فأقاموا ثلاثا فأضافهم ثم زودهم وساروا إلى الكوفة.
ثم أقبل معد بن حذيفة بن اليمان في أهل المدائن فبلغ هيت فأتاه الخبر فرجع فلقي المثنى بن مخربة العبدي في أهل البصرة بصدود فأخبره فأقاموا حتى أتاهم رفاعة فاستقبلوه وبكى بعضهم إلى بعض وأقاموا يوما وليلة ثم تفرقوا فسار كل طائفة إلى بلدهم.
ولما بلغ رفاعة الكوفة كان المختار محبوسا فأرسل إليه اما بعد فمرحبا بالقصبة الذين عظم الله لهم الأجر حين انصرفوا ورضي فعلهم حين قتلوا،
185

أما ورب البيت ما مطا خاط منكم خطوة ولا ربا ربوة إلا كان ثواب الله له أعظم من الدنيا إن سليمان قد قضى ما عليه وتوفاه الله وجعل روحه مع أرواح النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ولم يكن بصاحبكم الذي به تنصرون إني الأمير المأمور والأمين المأمون وقاتل الجبارين والمنتقم من أعداء الدين المقيد من الأوتار فأعدوا واستعدوا وأبشروا أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه والطلب بدم أهل البيت والدفع عن الضعفاء وجهاد المحلين والسلام.
وكان قتل سليمان ومن معه في شهر ربيع الآخر.
ولما سمع عبد الملك بن مروان بقتل سليمان وانهزام أصحابه صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال أما بعد فإن الله قد أهلك من رؤوس أهل العراق ملقح فتنة ورأس ضلالة سليمان بن صرد ألا وإن السيوف تركن لرأس المسيب خذاريف وقد قتل الله منهم رأسين عظمين ضالين مضلين عبد الله بن سعد الأزدي وعبد الله بن وال البكري ولم يبق بعدهم من عنده امتناع وفي هذا نظر فإن أباه كان حيا قال أعشى همدان في ذلك وهي مما يكتم ذلك الزمان:
(ألم خيال منك يا أم غالب * فحييت عنا من حبيب مجانب)
(وما زلت في شجو وما زلت مقصدا * لهم عراني من فراقك ناصب)
186

(فما أنس لا أنس انفتالك في الضحى * إلينا مع البيض الحسان الخراعب)
(تراءت لنا هيفاء مهضومة الحشا * لطيفة طي الكشح ريا الحقائب)
(مبتلة غراء رؤد شبهائها * كشمس الضحى تنكل بين السحائب)
(فلما تغشاها السحاب وحوله * بدا حاجب منها وضنت بجانب)
(فتلك الهوى وهي الجوى ليا والمنى * فأحبب بها من خلة لم تصاقب)
(ولا يبعد الله الشباب وذكره * وحب تصافي المعصرات السواكب)
(ويزداد ما أحببته من عتابنا * لعابا وسقيا للخدين المقارب)
(فإني وإن لم أنسهن لذاكر * روية مخبات كريم المناصب)
(توسل بالتقوى إلى الله صادقا * وتقوى الإله خير تكساب كاسب)
(وخلى عن الدنيا فلم يلتبس بها * وتاب إلى الله الرفيع المراتب)
(تخلى عن الدنيا وقال طرحتها * فلست إليها ماحييت بآيب)
(وما أنا فيما يكره الناس فقده * ويسعى له الساعون فيها براغب)
187

(توجهه نحو السوية سائرا * إلى ابن زياد في الجموع الكتائب)
(بقوم همو أهل التقية والنهى * مصاليت أنجاد سراة مناخب)
(مضوا تاركي رأي ابن طلحة حسبة * ولم يستجيبوا للأمير المخاطب)
(فساروا وهم ما بين ملتمس التقى * وآخر مما جر بالأمس تائب)
(فلاقوا بعين الوردة الجيش ناضلا * إليهم فحسوهم ببيض قواضب)
(يمانية تذري الأكف وتارة * بخيل عتاق مقربات سلاهب)
(فجائهم جمع من الشام بعده * جموع كموج البحر من كل جانب)
(فما برحوا حتى أبيدت سراتهم * فلم ينجوا منهم ثم غير عصائب)
(وغودر أهل الصبر صرعى فأصبحوا * تعاورهم ريح الصبا والجنائب)
(فأضحى الخزاعي الرئيس مجدلا كأن لم يقاتل مرة ويحارب)
(ورأس بني شمخ وفارس قومه * شنوءة والتيمي هادي الكتائب)
(وعمرو بن بشر والوليد وخالد * وزيد بن بكر والحليس غالب)
(وضارب من همدان كل مشيع * إذا شد لم ينكل كريب المكاسب)
(ومن كل قوم قد أصبت زعيمهم * وذا حسب في ذروة المجد ثاقب)
(أبوا غير ضرب يفلق الهام وقعه * وطعن بأطراف الأسنة صائب)
188

(وإن سعيدا يوم يدمر عامرا * لأشجع من ليث بدرب مواثب)
(فيا خير جيش بالعراق وأهله * سقيتم روايا كل أسحم ساكب)
(فلا يبعدن فرساننا وحماتنا * إذا البيض أبدت عن خدام الكواعب)
(وما قتلوا حتى أثاروا عصابة * تجلينا نورا كالشموس الضوارب)
وقيل قتل سليمان ومن معه في شهر ربيع الآخر.
الخزاعي الذي هو في هذا الشعر هو سليمان بن صرد الخزاعي ورأس بني شمخ هو المسيب بن نجبة الفزاري وفارس شنوءة هو عبد الله بن سعد بن نفيل الأزدي أزد شنوءة والتيمي هو عبد الله بن وال التيمي من تيم اللات بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل والوليد [هو] ابن عصير الكناني. وخالد هو خالد بن سعد بن نفيل أخو عبد الله.
(نجبة بالنون والجيم والباء الموحدة المفتوحات).
ذكر بيعة عبد الملك وعبد العزير ابني مروان بولاية العهد
في هذه السنة أمر مروان بن الحكم بالبيعة لابنيه عبد الملك وعبد العزيز.
وكان السبب في ذلك أن عمرو بن سعيد بن العاص لما هزم مصعب بن الزبير حين وجهه أخوه عبد الله إلى
فلسطين رجع إلى مروان وهو بدمشق قد غلب على الشام ومصر فبلغ مروان أن عمرا يقول: إن الأمر لي بعد مروان، فدعا
189

مروان حسان بن ثابت بن بحدل فأخبره أنه يريد أن يبايع لابنيه عبد الملك وعبد العزيز وأخبره بما بلغه عن عمرو فقال أنا أكفيك عمرا فلما اجتمع الناس عند مروان عشيا قام حسان فقال انه قد بلغنا أن رجالا يتمنون أماني قوموا فبايعوا لعبد الملك وعبد العزيز من بعده فبايعوا عن آخرهم.
ذكر بعث ابن زياد وحبيش
في هذه السنة سير مروان بن الحكم بعثين أحدهما مع عبيد الله بن زياد إلى الجزيرة ومحاربة زفر بن الحرث بقرقيسيا واستعمله على كل ما يفتحه فإذا فرغ من الجزيرة توجه لقصد العراق وأخذه من ابن الزبير فلما كان بالجزيرة بلغه موت مروان وأتاه كتاب عبد الملك بن مروان يستعمله على ما استعمله عليه أبوه ويحثه على المسير إلى العراق.
والبعث الآخر إلى المدينة مع حبيش بن دلجة القيني فسار بهم حتى انتهى إلى المدينة وعليها جابر بن الأسود بن عوف ابن أخي عبد الرحمن بن عوف من قبل ابن الزبير فهرب منه جابر.
ثم إن الحرث بن أبي ربيعة وهو أخو عمرو بن ربيعة وجه جيشا من البصرة وكان واليا عليها لابن الزبير وجعل عليهم الحنيف بن السجف التيمي لحرب حبيش فلما سمع بهم حبيش سار إليهم من المدينة وأرسل عبد الله بن الزبير العباس بن سهل بن سعد الساعدي إلى المدينة أميرا وأمره أن
190

يسير في طلب حبيش حتى يوافي الجند من أهل البصرة الذين عليهم الحنيف فأقبل عباس في آثارهم حتى لحقهم بالربذة فقاتلهم حبيش فرماه يزيد بن سنان بسهم فقتله وكان معه يومئذ يوسف بن الحكم وابنه الحجاج وهما على جمل واحد وانهزم أصحابه فتحرز منهم خمسمائة بالمدينة فقال العباس بن سهل انزلوا على حكمي فنزلوا فقتلهم ورجع فل حبيش إلى الشام ولما دخل يزيد بن سنان المدينة كان عليه ثياب بيض فاسودت مما مسحه الناس ومما صبوا عليه من الطيب.
ذكر موت مروان بن الحكم وولاية ابنه عبد الملك
في شهر رمضان من هذه السنة مات مروان بن الحكم.
وكان سبب موته أن معاوية بن يزيد لما حضرته الوفاة لم يستخلف أحدا وكان حسان بن بحدل يريد أن يجعل الأمر بن بعده في أخيه خالد بن يزيد وكان صغيرا وحسان خال أبيه يزيد فبايع حسان مروان بن الحكم وهو يريد أن يجعل الأمر بعده لخالد فلما بايعه هو وأهل الشام قيل لمروان تزوج أم خالد وهي بنت أبي هاشم بن عتبة حتى يصغر شأنه فلا يطلب الخلافة فتزوجها فدخل خالد يوما على مروان وعنده جماعة وهو يمشي بين صفين فقال مروان والله إنك لأحمق تعال يا ابن الرطبة الاست يقصر به ليسقطه من أعين أهل الشام.
191

فرجع خالد إلى أمه فأخبرها فقالت له لا يعلمن ذلك منك الا أنا أنا أكفيكه فدخل عليها مروان فقال لها هل قال لك خالد شيئا قالت لا إنه أشد لك تعظيما من أن يقول فيك شيئا فصدقها ومكث أياما ثم إن مروان نام عندها يوما فغطته بوسادة حتى قتلته فمات بدمشق وهو ابن ثلاث وستين سنة وقيل إحدى وستين وأراد عبد الملك قتل أم خالد فقيل له يظهر عند الخلق ان امرأة قتلت أباك فتركها.
ولما توفي مروان قام بأمر الشام بعده ابنه عبد الملك وكان بمصر ابنه عبد العزيز بطاعة أخيه عبد الملك.
وكان عبد الملك ولد لسبعة أشهر فكان الناس يذمونه لذلك قيل إنه اجتمع عنده قوم من الأشراف فقال لعبيد الله بن زياد بن ظبيان البكري بلغني أنك لا تشبه أباك فقال بلى والله إني لأشبه به من الماء بالماء والغراب بالغراب ولكن إن شئت أخبرتك بمن لم تنضجه الأرحام ولم يولد بالتمام ولم يشبه الأخوال والأعمام قال من ذاك قال سويد بن منجوف فلما خرج عبيد الله وسويد قال له سويد ما سرني بمقالتك له حمر النعم فقال عبيد الله وما سرني والله باحتمالك إياي وسكوتك سودها.
192

ذكر صفته ونسبه وأخباره
هو مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس وأمه آمنة بنت علقمة بن صفوان بن أمية من كنانة وكان مولده سنة اثنين من الهجرة وكان أبوه قد أسلم عام الفتح ونفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف لأنه يتجسس عليه ورآه النبي صلى الله عليه وسلم يوما يمشي ويتخلج في مشيه كأنه يحكيه فقال له كن كذلك فما زال كذلك حتى مات.
ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم كلم عثمان أبا بكر في رده لأنه عمه فلم يفعل فلما توفي أبو بكر وولي عمر كلمه أيضا في رده فلم يفعل فلما ولي عثمان رده وقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدني أن يرده إلى المدينة فكان ذلك مما أنكر الناس عليه.
وتوفي في خلافة عثمان فصلى عليه وقد رويت أخبار كثيرة في لعنه ولعن [من] في صلبه، رواها الحفاظ، وفي أسانيدها كلام.
وكان مروان قصيرا أحمر أوقص يكنى أبا الحكم وأبا عبد الملك واعتق في يوم واحد مائة رقبة وولى المدينة لمعاوية مرات فكان إذا ولي يبالغ في سب علي وإذا عزل وولي سعيد بن العاص كف عنه فسئل عنه محمد بن علي الباقر وعن سعيد فقال كان مروان خيرا لنا في السر وسعيد خيرا لنا في العلانية.
وقد أخرج حديث مروان في الصحيح وكان الحسن والحسين يصليان
193

خلفه ولا يعيدان الصلاة. وهو أول من قدم الخطبة في صلاة العيد قبل الصلاة.
ولما مات بويع لولده عبد الملك بن مروان في اليوم الذي مات فيه وكان يقال له ولولده بنو الزرقاء يقول ذلك من يريد ذمهم وعيبهم وهي الزرقاء بنت موهب جدة مروان بن الحكم لأبيه وكانت من ذوات الرايات التي يستدل بها على ثبوت البغاء فلهذا كانوا يذمون بها ولعل هذا كان منها قبل أن يتزوجها أبو العاص بن أمية والد الحكم فإنه كان من أشراف قريش ولا يكون هذا من امرأة له وهي عنده والله أعلم.
(حبيش بن دلجة بضم الحاء المهملة وفتح الباء الموحدة المفتوحة ثم الياء المثناة من تحت وآخره شين معجمة ودلجة بفتح الدال واللام).
ذكر مقتل نافع بن الأزرق
في هذه السنة اشتدت شوكة نافع بن الأزرق وهو الذي ينتسب اليه الأزارقة من الخوارج.
وكان سبب قوته اشتغال أهل البصرة واختلافهم بسبب مسعود بن عمرو وقتله وكثرة جموعه وأقبل نحو الجسر فبعث إليه عبد الله بن الحرث مسلم بن عبيس بن كريز بن ربيعة فخرج إليه فدفعه عن أرض البصرة حتى بلغ دولاب من أرض الأهواز فاقتتلوا هناك وجعل مسلم بن عبيس على ميمنته الحجاج بن باب الحميري وعلى ميسرته حارثة بن بدر الغداني وجعل
194

ابن الأزرق على ميمنته عبيدة بن هلال وعلى ميسرته الزبير بن الماحوز التميمي واشتد قتالهم فقتل مسلم أمير أهل البصرة وقتل نافع بن الأزرق أمير الخوارج في جمادى الآخرة فأمر أهل البصرة عليهم الحجاج بن باب الحميري وأمرت الخوارج عبد الله بن الماحوز التميمي واقتتلوا فقتل عبد الله والحجاج فأمر أهل البصرة عليهم ربيعة بن الأجرم التميمي وأمرت الخوارج عبيد الله بن الماحوز التميمي ثم عادوا فاقتتلوا حتى أمسوا وقد كره بعضهم بعضا وملوا القتال.
فإنهم كذلك متواقفون متحاجزون إذ جاءت الخوارج سرية مستريحة لم تشهد القتال فحملت على الناس من ناحية عبد القيس فانهزم الناس وقتل أمير أهل البصرة ربيعة بعد أن قتل أيضا دغفل بن حنظلة الشيباني النسابة، وأخذ الراية حارثة بن زيد فقاتل ساعة وقد ذهب الناس عنه فقاتل وحمى الناس ومعه جماعة من أهل البصرة ثم أقبل حتى نزل بالأهواز وبلغ ذلك أهل البصرة فأفزعهم وبعث عبد الله بن الزبير الحرث بن أبي ربيعة وعزل عبد الله بن الحرث فأقبلت الخوارج نحو البصرة.
ذكر محاربة المهلب الخوارج
لما قربت الخوارج من البصرة أتى أهلها الأحنف بن قيس وسألوه أن يتولى حربهم فأشار بالمهلب بن أبي صفرة لما يعلم فيه من الشجاعة الرأي والمعرفة
195

بالحرب وكان قد قدم من عند ابن الزبير وقد ولاه خراسان فقال الأحنف ما لهذا الأمر غير المهلب.
فخرج إليه أشراف أهل البصرة فكلموه فأبى فكلمه الحرث بن أبي ربيعة فاعتذر بعهده على خراسان فوضع الحرث وأهل البصرة كتابا إليه عن ابن الزبير يأمره بقتال الخوارج وأتوه بالكتاب فلما قرأه قال والله لا أسير إليهم إلا أن تجعلوا لي ما غلبت عليه وتقطعوني من بيت المال ما أقوى به من معي.
فأجابوه إلى ذلك وكتبوا له به كتابا وأرسلوا إلى ابن الزبير فأمضاه فاختار المهلب من أهل البصرة ممن يعرف نجدته وشجاعته اثني عشر ألفا منهم محمد بن واسع وعبد الله بن رياح الأنصاري ومعاوية بن قرة المزني وأبو عمران الجوني وخرج المهلب إلى الخوارج وهم عند الجسر الأصغر فحاربهم وهو في وجوه الناس وأشرافهم فدفعهم عن الجسر ولم يكن بقي إلا أن يدخلوا فارتفعوا إلى الجسر الأكبر فسار إليهم في الخيل والرجال فلما رأوه قد قاربهم ارتفعوا فوق ذلك.
ولما بلغ حارثة بن زيد تأمير المهلب على قتال الأزارقة قال لمن معه [من] الناس:
(كرنبوا ودولبوا * وحيث شئتم فاذهبوا)
وأقبل بمن معه نحو البصرة فرد الحرث بن أبي ربيعة إلى المهلب وركب حارثة في سفينة في نهر دجيل يريد البصرة فأتاه رجل من تميم وعليه سلاحه والخوارج وراءه فصاح التميمي بحارثة يستغيث به ليحمله معه فقرب السفينة
196

إلى شاطئ النهر وهو جرف فوثب التميمي إليها فغاصت بجميع من فيها فغرقوا.
وأما المهلب فإنه سار حتى نزل بالخوارج وهم بنهر تيرى فتنحوا عنه إلى الأهواز فسير المهلب إلى عسكرهم الجواسيس تأتيه بأخبارهم فلما أتاه خبرهم سار نحوهم واستخلف أخاه المعارك بن أبي صفرة على نهر تيرى فلما وصل الأهواز قاتلت الخوارج مقدمته وعليهم ابنه المغيرة بن المهلب بي أبي صفرة فجال أصحابه ثم عادوا.
فلما رأى الخوارج صبرهم ساروا عن سوق الأهواز إلى مناذر فسار يريدهم فلما قاربهم سير الخوارج جمعا عليهم واقد مولى أبي صفرة إلى نهر تيرى وبها المعارك فقتلوه وصلبوه وبلغ الخبر إلى المهلب فسير ابنه المغيرة إلى نهر تيرى فانزل عمه المعارك ودفنه وسكن الناس واستخلف بها جماعة وعاد إلى أبيه وقد نزل سولاف.
وكان المهلب شديد الاحتياط والحذر لا ينزل إلا في خندق وهو على تعبية ويتولى الحرس نفسه فلما نازل الخوارج بسولاف ركبوا ووقفوا له واقتتلوا قتالا شديدا صبر فيه الفريقان ثم حملت الخوارج حملة صادقة على المهلب وأصحابه فانهزموا وقتل منهم وثبت المهلب وأبلى ابنه المغيرة يومئذ بلاء حسنا ظهر فيه أثره ونادى المهلب أصحابه فعادوا إليه معهم جمع كثير نحو أربعة آلاف فارس فلما كان الغد أراد القتال بمن معه فنهاه بعض أصحابه لضعفهم وكثرة الجراح فيهم فترك القتال وسار وقطع دجيل ونزل بالعاقول وهو لا يؤتى إلا من جهة واحدة وفي يوم سولاف يقول ابن قيس الرقيات:
(ألا طرقت من آل مية طارقه * على أنها معشوقة الدل عاشقه)
197

(تميس وأرض السوس بيني وبينها * وسولاف رستاق حمته الأزارقة)
(إذا نحن شتى صادفتنا عصابة * حرورية أضحت من الدين مارقة)
(أجازت إلينا العسكرين كليهما * فباتت لنا دون اللحاف معانقه)
وقال فيه بعض الخوارج:
(وكائن تركنا يوم سولاف منهم * أسارى وقتلى في الجحيم مصيرها)
وأكثر الشعراء فيه.
فلما وصل المهلب إلى العاقول نزل فيه وأقام ثلاثة أيام ثم ارتحل وسار نحو الخوارج وهم بسلى وسلبرى فنزل قريبا منهم وكان كثيرا ما يفعل أشياء يحدث بها الناس لينشطوا إلى القتال فلا يرون لها أثرا حتى قال الشاعر:
(أنت الفتى كل الفتى * لو كنت تصدق ما تقول)
وسماه بعضهم الكذاب وبعض الناس يظن انه كذاب في كل حال وليس كذلك إنما كان يفعل ذلك مكايدة للعدو.
فلما نزل المهلب قريبا من الخوارج وخندق عليه وضع المسالح وأذكى العيون والحرس والناس على راياتهم ومواقفهم وأبواب الخندق محفوظة فكان الخوارج إذا أرادوا بياته وغرته وجدوا أمرا محكما فرجعوا فلم يقاتلهم انسان
198

كان أشد عليهم منه.
ثم ان الخوارج أرسلوا عبيدة بن هلال والزبير بن الماحوز في عسكر ليلا إلى عسكر المهلب ليبيتوه فصاحوا بالناس عن يمينهم ويسارهم فوجدوهم على تعبية قد حذروا فلم ينالوا منهم شيئا وأصبح المهلب فخرج إليهم في تعبية وجعل الأزد وتميما ميمنة وبكر بن وائل وعبد القيس ميسرة وأهل العالية في القلب وخرجت الخوارج وعلى ميمنتهم عبيدة بن هلال اليشكري وعلى ميسرتهم الزبير بن الماحوز وكانوا أحسن عدة وأكرم خيلا من أهل البصرة لأنهم مخروا الأرض وجردوها ما بين كرمان إلى الأهواز فالتقى الناس واقتتلوا أشد قتال وصبر الفريقان عامة النهار ثم ان الخوارج شدت على الناس شدة منكرة فأجفلوا وانهزموا لا يلوي أحد [على أحد]، حتى بلغت الهزيمة البصرة وخاف أهلها السباء.
وأسرع المهلب حتى سبق المنهزمين إلى مكان مرتفع ثم نادى إلى عباد الله فاجتمع إليه ثلاثة آلاف أكثرهم من قومه من الأزد فلما رآهم رضي عدتهم فخطبهم وحثهم على القتال ووعدهم النصر وأمرهم أن يأخذ كل رجل منهم عشرة أحجار وقال سيروا بنا نحو عسكرهم فإنهم الآن آمنون وقد خرجت خيلهم في طلب إخوانهم فوالله إني لأرجو أن لا ترجع إليهم خيلهم حتى تستبيحوا عسكرهم وتقتلوا أميرهم فأجابوه فأقبل بهم راجعا فما شعرت الخوارج إلا والمهلب يقاتلهم في جانب عسكرهم فلقيهم عبد الله بن الماحوز والخوارج فرماهم أصحاب المهلب بالأحجار حتى أثخنوهم ثم طعنوهم بالرماح وضربوهم بالسيوف فاقتتلوا ساعة فقتل عبد الله بن الماحوز وكثير من أصحابه وغنم المهلب عسكرهم وأقبل من كان في طلب أهل البصرة راجعا وقد وضع المهلب لهم خيلا ورجالا تختطفهم وتقتلهم،
199

وانكفؤوا راجعين مذلولين مغلوبين فارتفعوا إلى كرمان وجانب أصبهان.
وقال بعض الخوارج لما رأى قتال أصحاب المهلب بالحجارة:
(أتانا بأحجار ليقتلنا بها * وهل تقتل الأقران ويحك بالحجر)
ولما فرغ المهلب منهم أقام مكانه حتى قدم مصعب بن الزبير على البصرة أميرا وعزل الحرث بن أبي ربيعة وفي هذا اليوم يقول الصلتان العبدي:
(بسلى وسلبرا مصارع فتية * كرام وقتلى لم توسد خدودها)
فلما قتل عبد الله بن الماحوز استخلف الخوارج الزبير بن الماحوز وكتب المهلب إلى الحرث بن أبي ربيعة يعرفه ظفره فأرسل الحرث الكتاب إلى ابن الزبير بمكة ليقرأه على الناس هناك وكتب الحرث إلى المهلب أما بعد فقد بلغني كتابك تذكر فيه نصر الله وظفر المسلمين فهنيئا لك يا أخا الأزد شرف الدنيا وعزها وثواب الآخرة وفضلها فلما قرأ المهلب كتابه ضحك وقال أما يعرفني إلا بأخي الأزد فما هو إلا أعرابي جاف.
وقيل ان عثمان بن عبيد الله بن معمر قاتل الخوارج ونافع بن الأزرق قبل مسلم فقتل عثمان وانهزم أصحابه بعد أن قتل من الخوارج خلق كثير فسير إليهم من البصرة بعده حارثة بن زيد الغداني فلما رآهم عرف أنه لا طاقة له بهم فقال لأصحابه:
(كرنبوا ودولبوا * وكيف شئتم فاذهبوا)
يعني ما شاء ثم سار بعده مسلم بن عبيس.
200

وقيل إن المهلب لما دفع الخوارج من البصرة إلى ناحية الأهواز أقام بقية سنته يجبي كور دجلة ورزق أصحابه وأتاه المدد من البصرة حتى بلغ أصحابه ثلاثين الفا.
فعلى هذا تكون هزيمة الخوارج سنة ست وستين.
ذكر نجدة بن عامر الحنفي
هو نجدة بن عامر بن عبد الله بن ساد بن المفرج الحنفي كان مع نافع بن الأزرق ففارقه لاحداثه في مذهبه ما تقدم ذكره وسار إلى اليمامة ودعا أبو طالوت إلى نفسه فمضى إلى الحضارم فنهبها وكانت لبني حنيفة فأخذها منهم معاوية بن أبي سفيان فجعل فيها من الرقيق ما عدتهم وعدة أبنائهم ونسائهم أربعة آلاف فغنم ذلك وقسمه بين أصحابه وذلك سنة خمس وستين فكثر جمعه.
ثم ان عيرا خرجت من البحرين وقيل من البصرة تحمل مالا وغيره يراد بها ابن الزبير فاعترضها نجدة فأخذها وساقها حتى أتى بها أبا طالوت بالحضارم فقسمها بين أصحابه وقال اقتسموا هذا المال وردوا هؤلاء العبيد واجعلوهم يعملون الأرض لكم فإن ذلك أنفع فاقتسموا المال وقالوا نجدة خير لنا من أبي طالوت فخلعوا أبا طالوت وبايعوا نجدة وبايعه أبو طالوت وذلك في سنة ست وستين ونجدة يومئذ ابن ثلاثين سنة.
ثم سار في جمع إلى بني كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة فلقيهم بذي المجاز فهزمهم وقتلهم قتلا ذريعا وصبر كلاب وعطيف ابنا قرة بن
201

هبيرة القشيريان وقاتلا حتى قتلا، وانهزم قيس بن الرقاد الجعدي فلحقه أخوه لأبيه معاوية فسأله أن يحمله ردفا فلم يفعل.
ورجع نجدة إلى اليمامة فكثر أصحابه فصاروا ثلاثة آلاف ثم سار نجدة إلى البحرين سنة سبع وستين فقالت الأزد نجدة أحب إلينا من ولاتنا لأنه ينكر الجور وولاتنا يجوزونه فعزموا على مسالمته واجتمعت عبد القيس ومن بالبحرين غير الأزد على محاربته فقال بعض الأزد نجدة أقرب إليكم منه إلينا لأنكم كلكم من ربيعة فلا تحاربوه وقال بعضهم لا ندع نجدة هو حروري مارق تجري علينا أحكامه فالتقوا بالقطيف فانهزمت عبد القيس وقتل منهم جمع كثير وسبى نجدة من قدر عليه من أهل القطيف فقال الشاعر:
(نصحت لعبد القيس يوم قطيفها * وما نفع نصح قبل لا يتقبل)
وأقام نجدة بالقطيف ووجه ابنه المطرح في جمع إلى المنهزمين من عبد القيس فقاتلوه بالثوير فقتل المطرح بن نجدة وجماعة من أصحابه.
وأرسل نجدة سرية إلى الخط فظفر بأهله وأقام نجدة بالبحرين فلما قدم مصعب بن الزبير إلى البصرة سنة تسع وستين بعث إليه عبد الله بن عمير الليثي الأعور في أربعة عشر ألفا فجعل يقول أثبت نجدة فإنا لا نفر فقدم ونجدة بالقطيف فأتى نجدة عسكر ابن عمير وهو غافل فقاتلهم طويلا وافترقوا وأصبح ابن عمير فهاله ما رأى في عسكره من القتلى والجرحى وحمل عليهم نجدة فلم يلبثوا أن انهزموا فلم يبق عليهم نجدة وغنم ما في عسكرهم وأصاب جواري فيهم أم ولد لابن عمير فعرض عليها أن يرسلها إلى مولاها فقالت لا حاجة بي إلى من فر عني وتركني.
202

وبعث نجدة أيضا بعد هزيمة ابن عمير جيشا إلى عمان واستعمل عليهم عطية بن الأسود الحنفي وقد غلب عليها عباد بن عبد الله وهو شيخ كبير وابناه سعيد وسليمان يعشران السفن ويجبيان البلاد فلما أتاهم عطية قاتلوه فقتل عباد واستولى عطية على البلاد فأقام بها أشهرا ثم خرج منها واستخلف رجلا قاتلوه فقتل عباد واستولى عطية على البلاد فأقام بها أشهرا ثم خرج منها واستخلف رجلا يكنى أبا القاسم فقتله سعيد وسليمان ابنا عباد وأهل عمان.
ثم خالف عطية نجدة، على ما نذكره إن شاء الله فعاد إلى عمان فلم يقدر عليها فركب في البحر وأتى كرمان وضرب بها دراهم سماها العطوية وأقام بكرمان فأرسل إليه المهلب جيشا فهرب إلى سجستان ثم إلى السند فلقيته خيل المهلب بقندابيل فقتلته، وقيل: قتله الخوارج.
ثم بعث نجدة إلى البوادي بعد هزيمة ابن عمير أيضا من يأخذ من أهلها الصدقة فقاتل أصحابه بني تميم بكاظمة وأعان أهل طويلع بني تميم فقتلوا من الخوارج رجلا فأرسل نجدة إلى أهل طويلع من أغار عليهم وقتل منهم نيفا وثلاثين رجلا وسبى ثم إنه دعاهم بعد ذلك فأجابوه فأخذ منهم الصدقة ثم سار نجدة إلى صنعاء في خف من الجيش فبايعه أهلها وظنوا أن وراءه جيشا كثيرا فلما لم يروا مددا يأتيه ندموا على بيعته وبلغه ذلك فقال إن شئتم أقلتكم بيعتكم وجعلتكم في حل منها وقاتلتكم فقالوا لا نستقيل بيعتنا فبعث إلى مخالفيها فاخذ منهم الصدقة وبعث نجدة أبا فديك إلى حضرموت فجبى صدقات أهلها.
وحج نجدة سنة ثمان وستين وقيل سنة تسع وستين وهو في ثمانمائة وستين رجلا وقيل في الفي رجل وستمائة رجل وصالح ابن الزبير على أن يصلي كل واحد بأصحابه ويقف بهم ويكف بعضهم عن بعض.
فلما صدر نجدة عن الحج سار إلى المدينة فتأهب أهلها لقتاله وتقلد عبد الله بن عمر سيفا فلما كان نجدة بنخل أخبر بلبس ابن عمر السلاح،
203

فرجع إلى الطائف وأصاب بنتا لعبد الله بن عمرو بن عثمان كانت عند ظئر لها فضمها إليه فقال بعض أصحابه إن نجدة ليتعصب لهذه الجارية فامتحنوه فسأله بعضهم بيعها منه فقال قد أعتقت نصيبي منها فهي حرة قال فزوجني إياها قال هي بالغ وهي أملك بنفسها فأنا استأمرها فقام من مجلسه ثم عاد فقال قد استأمرتها فكرهت الزواج.
فقيل: إن عبد الملك أو عبد الله بن الزبير كتب إليه والله لئن أحدثت فيها حدثا لأطأن بلادك وطأة لا يبقى معها بكري.
وكتب نجدة إلى ابن عمر يسأله عن أشياء فقال سلوا ابن عباس فسألوه ومسألة ابن العباس مشهورة.
ولما سار نجدة من الطائف أتاه عاصم بن عروة بن مسعود الثقفي فبايعه عن قومه ولم يدخل نجدة الطائف، فلما قدم الحجاج الطائف لمحاربة ابن الزبير قال لعاصم يا ذا الوجهين بايعت نجدة قال أي والله وذو عشرة أوجه أعطيت نجدة الرضا ودفعته عن قومي وبلدي.
واستعمل الحاروق وهو حراق على الطائف وتبالة والسراة واستعمل سعد الطلائع على ما يلي نجران ورجع نجدة إلى البحرين فقطع الميرة عن أهل الحرمين منها ومن اليمامة، فكتب اليه ابن عباس أن ثمامة بن أثال لما أسلم قطع الميرة عن أهل مكة وهم مشركون فكتب اليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ان أهل مكة أهل الله فلا تمنعهم الميرة فجعلها لهم وأنك قطعت الميرة عنا ونحن مسلمون فجعلها نجدة لهم.
ولم يزل عمال نجدة على النواحي حتى اختلف عليه أصحابه فطمع فيهم
204

الناس فأما الحاروق فطلبوه بالطائف فهرب فلما كان في العقبة في طريقه لحقه قوم يطلبونه فرموه بالحجارة حتى قتلوه.
ذكر الاختلاف على نجدة وقتله وولاية أبي فديك
ثم ان أصحاب نجدة اختلفوا عليه لأسباب نقموها عليه فمنها أن أبا سنان حيان بن وائل أشار على نجدة بقتل من أجابه تقية فشتمه نجدة فهم بالفتك به فقال له نجدة كلف الله أحدا علم الغيب قال لا قال فإنما علينا أن نحكم بالظاهر فرجع أبو سنان إلى نجدة.
ومنها: أن عطية بن الأسود خالف على نجدة وسببه أن نجدة سير سرية بحرا وسرية برا فأعطى سرية البحر أكثر من سرية البر فنازعه عطية حتى أغضبه فشتمه نجدة فغضب عليه وألب الناس عليه وكلم نجدة في رجل يشرب الخمر في عسكره فقال هو رجل شديد النكاية على العدو وقد استنصر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمشركين وكتب عبد الملك إلى نجدة يدعوه إلى طاعته ويوليه اليمامة ويهدر له ما أصاب من الأموال والدماء فطعن عليه عطية وقال ما كاتبه عبد الملك حتى علم منه دهانا في الدين، وفارقه إلى عمان.
ومنها أن قوما فارقوا نجدة واستنابوه فحلف أن لا يعود ثم ندموا على استنابته وتفرقوا ونقموا علية أشياء أخر فخالف عليه عامة من معه وانحازوا عنه وولوا أمرهم أبا فديك عبد الله بن ثور أحد بني قيس بن ثعلبة، واستخفى
205

نجدة، فأرسل أبو فديك في طلبه جماعة من أصحابه وقال إن ظفرتم به فجيئوني به وقيل لأبي فديك إن لم تقتل نجدة تفرق أناس عنك فألح في طلبه وكان نجدة مستخفيا في قرية من قرى هجر وكان للقوم الذين اختفى عندهم جارية يخالف إليها راع لهم فأخذت الجارية من طيب كان مع نجدة فسألها الراعي عنه فأخبرته فأخبر الراعي أصحاب أبي فديك بنجدة فطلبوه فنذر بهم فأتى أخواله من بني تميم فاستخفى عندهم ثم أراد السير إلى عبد الملك
فأتي بيته ليعهد إلى زوجته فعلم به الفديكية وقصدوه فسبق إليه رجل منهم فأعلمه فخرج وبيده السيف فنزل الفديكي عن فرسه وقال إن فرسي هذا لا يدرك فاركبه فلعلك تنجو عليه فقال ما أحب البقاء ولقد تعرضت للشهادة في مواطن ما هذا بأحسنها وغشيه أصحاب أبي فديك فقتلوه وكان شجاعا كريما وهو يقول:
(وإن جر مولانا علينا جريرة * صبرنا لها إن الكرام الدعائم)
ولما قتل نجدة سخط قتله قوم من أصحاب أبي فديك ففارقوه وثار به مسلم بن جبير فضربه اثنتي عشرة ضربة بسكين فقتل مسلم وحمل أبو فديك إلى منزله فبرأ.
ذكر استعمال مصعب على المدينة
في هذه السنة عزل عبد الله بن الزبير أخاه عبيدة بن الزبير عن المدينة واستعمل أخاه مصعبا.
206

وسبب ذلك أن عبيدة خطب الناس فقال لهم قد ترون ما صنع الله بقوم في ناقة قيمتها خمسة دراهم فسمى مقوم الناقة فبلغ ذلك أخاه عبد الله فعزله واستعمل مصعبا.
ذكر بناء ابن الزبير الكعبة
لما احترقت الكعبة حين غزا أهل الشام عبد الله بن الزبير أيام يزيد تركها ابن الزبير يشنع بذلك على أهل الشام فلما مات يزيد واستقر الأمر لابن الزبير شرع في بنائها فأمر بهدمها حتى ألحقت بالأرض وكانت قد مال حيطانها من حجارة المنجنيق وجعل الحجر الأسود عنده وكان الناس يطوفون من وراء الأساس وضرب عليها السور وأدخل في الحجر واحتج بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: لولا حدثان عهد قومك بالكفر لرددت الكعبة على أساس إبراهيم وأزيد فيها الحجر.
فحفر ابن الزبير فوجد أساسا أمثال الجمال فحركوا منها صخرة فبرقت بارقة فقال أقروها على أساسها وبنائها وجعل لها بابين يدخل من أحدهما ويخرج من الآخر.
وقيل كانت عمارتها سنة أربع وستين.
ذكر الحرب بين ابن خازم وبني تميم
في هذه السنة كانت الحرب بين ابن خازم السلمي وبني تميم بخراسان.
وسبب ذلك أن من كان بخراسان من بني تميم أعانوا ابن خازم على
207

من بها من ربيعة وقد تقدم ذكر ذلك فلما صفت له خراسان جفا بني تميم وكان قد جعل ابنه محمدا على هراة وجعل على شرطته بكير بن وشاح وضم إليه شماس بن دثار العطاردي وكانت أم محمد تميمية فلما جفا ابن خازم بني تميم أتوا ابنه محمدا بهراة فكتب ابن خازم إلى ابنه محمد والى بكير وشماس يأمرهم بمنعهم عن هرة فأما شماس فصار مع بني تميم وأما بكير فإنه منعهم من الدخول فأقاموا ببلاد هراة فأرسل بكير إلى شماس إني أعطيتك ثلاثين ألفا فاعط كلا رجل من بني تميم ألفا على أن ينصرفوا.
فأبوا عليه وأقاموا يترصدون محمدا فخرج يتصيد فأخذوه وشدوه وثاقا وشربوا ليلتهم وجعلوا يبولون عليه كلما أرادوا البول فقال لهم شماس أما إذا بلغتم هذا منه فاقتلوه بصاحبيكما اللذين قتلهما بالسياط وكان قد ضرب رجلين من تميم بالسياط حتى ماتا فقاموا إليه ليقتلوه فنهاهم عنه جيهان بن مشجعة الضبي وألقى نفسه عليه فلم يقبلوا منه وقتلوا محمدا فشكر ابن خازم لحيان ذلك [فلم] يقتله فيمن قتل [يوم] فرتنا.
وكان الذي تولى قتل محمد رجلين اسم أحدهما عجلة واسم الآخر كسيب فقال أين خازم بئس ما اكتسب كسيب لقومه ولقد عجل عجلة لقومه شرا.
وأقبلت تميم إلى مرو وأمروا عليهم الحريش بن هلال القريعي وأجمع أكثرهم على قتال ابن خازم فقاتل الحريش به هلال عبد الله بن خازم سنتين فلما طالت الحرب خرج الحريش فنادى ابن خازم وقال له طالت الحرب بيننا فعلام نقتل قومي وقومك ابرز إلي فأينا قتل صاحبه صارت الأرض له.
208

فقال له ابن خازم: قد أنصفت. فبرز إليه فتضاربا وتصاولا تصاول الفحلين لا يقدر أحدهما على صاحبه ثم غفل ابن خازم فضربه الحريش على رأسه فألقى فروة رأسه على وجهه وانقطع ركاب الحريش وانتزع السيف ولزم ابن خازم عنق فرسه راجعا إلى أصحابه ثم غاداهم القتال فمكثوا بذلك بعد الضربة أياما ثم مل الفريقان فتفرقوا ثلاث فرق فرقة إلى نيسابور مع بحير بن ورقاء وفرقة إلى ناحية أخرى وفرقة فيها الحريش إلى مرو الروذ فاتبعه ابن خازم إلى قرية تسمى الملحمة والحريش في اثني عشر رجلا وقد تفرقت عنه أصحابه وهم في خربة فلما انتهى إليه ابن خازم خرج إليه في أصحابه فحمل مولى لابن خازم على الحريش فضربه فلم يصنع شيئا فقال الحريش لرجل معه إن سيفي لا يصنع في سلاحه شيئا فاعطني خشبة فأعطاه عودا من عناب فحمل على المولى فضربه فسقط وقيذا ثم قال لابن خازم ما تريد مني وقد خليتك والبلاد قال إنك تعود إليها قال لا أعود فصالحه على أن يخرج من خراسان ولا يعود إلى قتاله فأعطاه ابن خازم أربعين ألفا وفتح له الحريش باب القصر فدخله ابن خازم وضمن له وفاء دينه وتحدثا طويلا.
وطارت قطنة عن الضربة التي برأس ابن خازم فأخذها الحريش ووضعها مكانها فقال له ابن خازم مسك اليوم ألين من مسك أمس فقال الحريش معذرة إلى الله وإليك أما والله لولا ركابي انقطع لخالط السيف رأسك؛ وقال الحريش في ذلك:
(أزال عظم ذراعي عن مركبه * حمل الرديني في الإدلاج بالسحر)
209

(حولين ما اغتمضت عيني بمنزلة * إلا وكفي وساد لي على حجر)
(بزي الحديد وسربالي إذا هجعت * عني العيون مجال الفالح الذكر)
(بحير بن ورقاء بفتح الباء الموحدة والحاء المهملة المكسورة والحريش بالحاء والراء المهملتين والشين المعجمة).
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة وقع طاعون الجارف بالبصرة وعليها عبيد الله بن معمر فهلك به خلق كثير فماتت أم عبيد الله فلم يجدوا لها من يحملها حتى استأجروا من حملها وهو الأمير.
وحج بالناس عبد الله بن الزبير وكان على المدينة مصعب وعلى الكوفة ابن مطيع وعلى البصرة الحرث بن ربيعة المخزومي وعلى خراسان عبد الله ابن خازم.
وفيها توفي عبد الله بن عمرو بن العاص السهمي وكان عمي آخر عمره وكانت وفاته بمصر وقيل توفي سنة ثمان وستين.
210

66
ثم دخلت سنة ست وستين
ذكر وثوب المختار بالكوفة
في هذه السنة رابع عشر ربيع الأول وثب المختار بالكوفة وأخرج عنها عبد الله بن مطيع عامل عبد الله بن الزبير.
وسبب ذلك أن سليمان بن صرد لما قتل قدم من بقي من أصحابه الكوفة فلما قدموا وجدوا المختار محبوسا قد حبسه عبد الله بن يزيد الحطمي وإبراهيم بن محمد بن طلحة وقد تقدم ذكر ذلك فكتب إليهم من الحبس يثني عليهم ويمنيهم الظفر ويعرفهم أنه هو الذي أمره محمد بن علي المعروف بابن الحنفية بطلب الثأر فقرأ كتابه رفاعة بن شداد والمثنى بن مخربة العبدي وسعد بن حذيفة بن اليمان ويزيد بن أنس وأحمر بن شميط الأحمسي وعبد الله بن شداد البجلي وعبد الله بن كامل فلما قرؤوا كتابه بعثوا إليه ابن كامل يقولون له إننا بحيث يسرك فإن شئت أن نأتيك ونخرجك من الحبس فعلنا فأتاه فأخبره فسر بذلك وقال لهم إني أخرج في أيامي هذه.
وكان المختار قد أرسل إلى ابن عمر يقول له إنني قد حبست مظلوما ويطلب إليه أن يشفع فيه إلى عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد بن طلحة فكتب إليهما ابن عمر في أمره فشفعاه وأخرجاه من السجن وضمناه وحلفاه
211

أنه لا يبغيهما عائله ولا يخرج عليهما ما كان لهما سلطان فإن فعليه ألف بدنة ينحرها عند الكعبة ومماليكه أحرار ذكرهم وأنثاهم.
فلما خرج نزل بداره فقال لمن يثق به قاتلهم الله ما أحمقهم حين يرون أني أفي لهم أما حلفي بالله فإنني إذا حلفت
على يمين فرأيت خيرا منها أن أكفر عن يميني وخروجي عليهم خير من كفي عنهم وأما هدي البدن وعتق المماليك فهو أهون على من بصقة فوددت أن تم لي أمري ولا أملك بعده مملوكا أبدا.
ثم اختلفت إليه الشيعة واتفقوا على الرضا به ولم يزل أصحابه يكثرون وأمره يقوى حتى عزل ابن الزبير عبد الله بن يزيد الحطمي وإبراهيم بن محمد بن طلحة واستعمل عبد الله بن مطيع على عملهما بالكوفة فلقيه بحير بن رستان الحميري عند مسيره إلى الكوفة فقال له لا تسر الليلة فإن القمر بالناطح فلا تسر فقال له وهل نطلب إلا النطح فلقى نطحا كما يريد فكان البلاء موكلا بمنطقه وكان شجاعا.
وسار إبراهيم إلى المدينة وكسر الخراج وقال كانت فتنة فسكت عنه ابن الزبير.
وكان قدوم ابن مطيع في رمضان لخمس يقين منه وجعل على شرطته إياس بن أبي مضارب العجلي وأمره بحسن السيرة والشدة على المريب ولما قدم صعد المنبر فخطبهم وقال أما بعد فإن أمير المؤمنين بعثني على مصركم وثغوركم وأمرني بجباية فيئكم وأن لا أحمل فضل فيئكم عنكم إلا برضا
212

منكم وأن أتبع وصية عمر بن الخطاب التي أوصى بها عند وفاته وسيرة عثمان بن عفان فاتقوا الله واستقيموا ولا تختلفوا وخذوا على أيدي سفهائكم فإن لم تفعلوا فلوموا أنفسكم [ولا تلوموني]، فوالله لأوقعن بالسقيم العاصي، ولأقيمن درء الأصعر المرتاب.
فقام إليه السائب بن مالك الأشعري فقال أما حمل فيئنا برضانا فإنا نشهد أنا لا نرضى أن يحمل عنا فضله وأن لا يقسم إلا فينا وأن لا يسار فينا إلا بسيرة علي بن أبي طالب التي سار بها في بلادنا هذه حتى هلك ولا حاجة لنا في سيرة عثمان في فيئنا ولا في أنفسنا ولا في سيرة عمر بن الخطاب فينا وإن كانت أهون السيرتين علينا وقد كان يفعل بالناس خيرا.
فقال يزيد بن أنس: صدق السائب وبر.
فقال ابن مطيع: نسير فيكم بكل سيرة أحببتموها ثم نزل.
وجاء إياس بن مضارب إلى ابن مطبع فقال له ان السائب بن مالك من رؤوس أصحاب المختار فابعث إلى المختار فليأتك فإذا جاءك فاحبسه حتى يستقيم أمر الناس فإن أمره قد استجمع له وكأنه قد وثب بالمصر.
فبعث ابن مطيع إلى المختار زائدة بن قدامة وحسين بن عبد الله البرسمي من همدان فقالا أجب الأمير فعزم على الذهاب فقرأ زائدة (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك) فألقى المختار ثيابه وقال ألقوا على قطيفة فقد وعكت إني لأجد بردا شديدا ارجعا إلى الأمير فأعلماه حالي فعادا إلى ابن مطيع فأعلماه، فتركه.
213

ووجه المختار إلى أصحابه فجمعهم حوله في الدور وأراد أن يثب في الكوفة في المحرم فجاء رجل من الكوفة في المحرم فجاء رجل من أصحاب شبام وشبام حي من همدان وكان شريفا اسمه عبد الرحمن بن شريح فلقي سعيد بن منقذ الثوري وسعر بن أبي الحنفي والأسود بن جراد الكندي وقدامة بن مالك الجشمي فقال لهم إن المختار يريد يخرج بنا ولا ندري أرسله ابن الحنفية أم لا فانهضوا بنا إلى ابن الحنفية نخبره بما قدم علينا به المختار فإن رخص لنا في اتباعه تبعناه وإن نهانا عنه اجتنبناه فوالله ما ينبغي أن يكون شيء من الدنيا آثر عندنا من سلامة ديننا قالوا له أصبت.
فخرجوا إلى ابن الحنفية فلما قدموا عليه سألهم عن حال الناس فأخبروه عن حالهم وما هم عليه وأعلموه حال المختار وما دعاهم إليه واستأذنوه في اتباعه فلما فرغوا من كلامهم قال لهم بعد أن حمد الله وأثنى عليه وذكر فضيلة أهل البيت والمصيبة بقتل الحسين ثم قال لهم وأما ما ذكرتم ممن دعاكم إلى الطلب بدمائنا فوالله لوددت أن الله انتصر لنا من عدونا بمن شاء من خلقه ولو كره لقال لا تفعلوا.
فعادوا وناس من الشيعة ينتظرونهم ممن أعلموه بحالهم وكان ذلك قد شق على المختار وخاف أن يعودوا بأمر يخذل الشيعة عنه فلما قدموا الكوفة دخلوا على المختار قبل دخولهم إلى بيوتهم فقال لهم ما وراءكم فقد فتنتم وارتبتم فقالوا له إنا قد أمرنا بنصرك فقال الله أكبر اجمعوا لي الشيعة فجمع من كان قريبا منهم فقال لهم إن نفرا قد أحبوا أن يعلموا مصداق ما جئت به فرحلوا إلى الامام المهدي فسألوه عما قدمت به عليكم فنبأهم أني وزيره وظهيره ورسوله وأمركم باتباعي وطاعتي فيما دعوتكم إليه من قتال المحلين والطلب بدماء أهل بيت نبيكم المصطفين.
فقام عبد الرحمن بن شريح وأخبرهم بحالهم ومسيرهم وأن ابن الحنفية
214

أمرهم بمظاهرته وموازرته وقال لهم ليبلغ الشاهد الغائب واستعدوا وتأهبوا. وقام جماعة من أصحابه فقالوا نحوا من كلامه.
فاستجمعت له الشيعة وكان من جملتهم الشعبي وأبوه شراحيل، فلما تهيأ أمره للخروج قال له بعض أصحابه إن أشراف أهل الكوفة مجمعون على قتالكم مع ابن مطيع فإن أجابنا إلى أمرنا إبراهيم بن الأشتر رجونا القوة على عدونا فإنه فتى رئيس وابن رجل شريف له عشيرة ذات عز وعدد.
فقال لهم المختار: فالقوه وادعوه فخرجوا إليه ومعهم الشعبي فأعلموه حالهم وسألوه مساعدتهم عليه وذكروا له ما كان أبوه من ولاء علي وأهل بيته. فقال لهم: إني قد أجبتكم إلى الطلب بدم الحسين وأهل بيته على أن تولوني الأمر. فقالوا له: أنت لذلك أهل ولكن ليس إلى ذلك سبيل هذا المختار قد جاءنا من قبل المهدي وهو المأمور بالقتال وقد أمرنا بطاعته فسكت إبراهيم ولم يجبهم فانصرفوا عنه فأخبروا المختار فمكث ثلاثا ثم سار في بضعة عشر من أصحابه والشعبي وأبوه فيهم إلى إبراهيم فدخلوا عليه فألقى لهم الوسائد فجلسوا عليها وجلس المختار معه على فراشه فقال له المختار هذا كتاب من المهدي محمد بن علي أمير المؤمنين وهو خير أهل الأرض اليوم وابن خير أهلها قبل اليوم بعد أنبياء الله ورسله وهو يسألك أن تنصرنا وتوازرنا.
قال الشعبي: وكان الكتاب معي، فلما قضى كلامه قال لي: ادفع الكتاب إليه، فدفعه إليه الشعبي، فقرأه فإذا فيه من محمد المهدي إلى إبراهيم بن مالك الأشتر سلام عليك فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو أما بعد فإني قد بعثت إليكم وزيري وأميني الذي ارتضيته لنفسي وأمرته بقتال عدوي والطلب بدماء أهل بيتي فانهض معهم بنفسك وعشيرتك ومن أطاعك فإنك
215

إن نصرني وأجبت دعوتي كانت لك بذلك عندي فضيلة ولك أعنة الخيل وكل جيش غاز وكل مصر ومنبر وثغر ظهرت عليه فيما بين الكوفة وأقصى بلاد الشام.
فلما فرغ من قراءة الكتاب قال قد كتب إلى ابن الحنيفة قبل اليوم وكتبت فلم يكتب إلي إلا بإسمه واسم أبيه قال المختار إن ذلك زمان وهذا زمان قال فمن يعلم أن هذا كتابه [إلى]؟ فشهد جماعة ممن معه منهم زيد بن أنس وأحمر بن شميط وعبد الله بن كامل وجماعتهم إلا الشعبي.
فلما شهدوا تأخر إبراهيم عن صدر الفراش وأجلس المختار عليه وبايعه ثم خرجوا من عنده وقال إبراهيم للشعبي قد رأيتك لم تشهد مع القوم أنت ولا أبوك أفترى هؤلاء شهدوا على حق فقال له هؤلاء سادة القراء ومشيخة المصر وفرسان العرب ولا يقول مثلهم إلا حقا.
فكتب أسماءهم وتركها عنده ودعا إبراهيم عشيرته ومن أطاعه وأقبل يختلف إلى المختار كل عشية عند المساء يدبرون أمورهم واجتمع رأيهم على أن يخرجوا ليلة الخميس لأربع عشرة من ربيع الأول سنة ست وستين.
فلما كانت تلك الليلة عند المغرب صلى إبراهيم بأصحابه ثم خرج يريد المختار وعليه وعلى أصحابه السلاح وقد أتى اياس بن مضارب عبد الله بن مطيع فقال له ان المختار خارج عليك بإحدى هاتين الليلتين وقد بعثت ابني إلى الكناسة فلو بعثت في كل جبانة عظيمة بالكوفة رجلا من أصحابك في جماعة من أهل الطاعة لهاب المختار وأصحابه الخروج عليك.
فبعث ابن مطبع عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني إلى جبانة السبيع،
216

وقال: اكفني قومك ولا تحدثن بها حدثا. وبعث كعب بن أبي كعب الخثعمي إلى جبانة بشر وبعث زحر بن قيس الجعفي إلى جبانة كندة وبعث عبد الرحمن بن مخنف إلى جبانة الصائديين وبعث شمر بن ذي الجوشن إلى جبانة سالم وبعث يزيد بن رويم إلى جبانة المراد وأوصى كلا منهم أن لا يؤتى من قبله وبعث شبث بن ربعي إلى السبخة وقال إذا سمعت صوت القوم فوجه نحوهم.
وكان خرجهم إلى الجبابين يوم الاثنين وخرج إبراهيم بن الأشتر يريد المختار ليلة الثلاثاء وقد بلعه أن الجبابين قد ملئت رجالا وأن إياس بن مضارب في الشرط قد أحاط بالسوق والقصر فأخذ معه من أصحابه نحو مائة دارع وقد لبسوا عليها الأقبية فقال له أصحابه تجنب الطريق فقال والله لأمرن وسط السوق بجنب القصر ولأرعبن عدونا ولأرينهم هوانهم علينا.
فسار على باب الفيل ثم على دار عمرو بن حريث فلقيهم إياس بن مضارب في الشرط مظهرين السلاح فقال من أنتم فقال إبراهيم أنا إبراهيم بن الأشتر فقال اياس ما هذا الجمع الذي معك وما تريد ولست بتاركك حتى آتي بك الأمير فقال إبراهيم خل سبيلا قال لا أفعل وكان مع اياس بن مضارب رجل من همدان يقال له أبو قطن وكان يكرمه وكان صديقا لابن الأشتر فقال له ابن الأشتر ادن مني يا أبا قطن فدنا منه وهو يظن ان إبراهيم يطلب منه أن يشفع فيه إلى إياس فلما دنا منه أخذ رمحا كان معه وطعن به إياسا في ثغرة نحره فصرعه وأمر رجلا من قومه فأخذ رأسه وتفرق أصحاب إياس ورجعوا إلى ابن مطيع.
فبعث مكانه ابنه راشد بن أياس على الشرط وبعث كان راشد إلى
217

الكناسة سويد بن عبد الرحمن المنقري أبا القعقاع بن سويد. وأقبل إبراهيم بن الأشتر إلى المختار وقال له إنا اتعدنا للخروج القابلة وقد جاء أمر لا بد من الخروج الليلة وأخبره الخبر ففرح المختار بقتل إياس وقال هذا أول الفتح إن شاء الله تعالى ثم قال لسعيد بن منقذ قم فأشعل النيران في الهوادي والقصب وارفعها وسر أنت يا عبد الله بن شداد فناد يا منصور أمت وقم أنت يا سفيان بن ليلى وأنت ياقدامة بن مالك فناد يا لثارات الحسين ثم لبس سلاحه.
فقال له إبراهيم: هؤلاء الذين في الجبابين يمنعون أصحابنا من إتياننا فلو سرت إلى قومي بمن معي ودعوت من أجابني وسرب بهم في نواحي الكوفة ودعوت بشعارنا لخرج إلينا من أراد الخروج ومن أتاك حبسته عندك إلى من معك فإن عوجلت كان عندك من يمنعك إلى أن آتيك فقال له افعل وعجل وإياك أن تسير إلى أميرهم تقاتله ولا تقاتل أحدا وأنت تستطيع أن لا تقاتله إلا أن يبدأك أحد بقتال.
فخرج إبراهيم وأصحابه حتى أتى قومه واجتمع إليه جل من كان أجابه وسار بهم في سكك المدينة ليلا طويلا وهو يتجنب المواضع التي فيها الأمراء الذين وضعهم ابن مطيع فلما انتهى إلى مسجد السكون أتاه جماعة من خيل زحر بن قيس الجعفي ليس عليهم أمير فحمل عليهم إبراهيم فكشفهم حتى أدخلهم جبانة كندة وهو يقول اللهم إنك تعلم أنا غضبنا لأهل بيت نبيك وثرنا لهم فانصرنا على هؤلاء.
ثم رجع عنهم إبراهيم عنهم بعد ان هزمهم. ثم سار إبراهيم حتى أتى جبانة أثير فتنادوا بشعارهم فوقف فيها فأتاه سويد بن عبد الرحمن المنقري
218

ورجا أن يصيبهم فيحظى بها عند ابن مطيع فلم يشعر به إبراهيم إلا وهو معه فقال إبراهيم لأصحابه يا شرطة الله انزلوا فإنكم أولى بالنصر من هؤلاء الفساق الذين خاضوا في دماء أهل بيت نبيكم فنزلوا ثم حمل عليهم إبراهيم حتى أخرجهم إلى الصحراء فانهزموا فركب بعضهم بعضا وهم يتلاومون وتبعهم حتى أدخلهم الكناسة فقال لإبراهيم أصحابه اتبعهم واغتنم ما دخلهم من الرعب فقال لا ولكن نأتي صاحبنا يؤمن الله بنا وحشته ويعلم ما كان من نصرنا له فيزداد هو وأصحابه قوة مع أني لا آمن أن يكون قد أتى.
ثم سار إبراهيم حتى أتى باب المختار فسمع الأصوات عالية والقوم يقتتلون وقد جاء شبث بن ربعي من قبل السبخة فعبأ له المختار يزيد بن أنس وجاء حجار بن أبجر العجلي فجعل المختار في وجهه أحمر بن شميط فبينما الناس يقتتلون إذ جاء إبراهيم من قبل القصر فبلغ حجارا وأصحابه أن إبراهيم قد أتاهم من ورائهم فتفرقوا في الأزقة قبل أن يأتيهم وجاء قيس بن طهفة النهدي في قريب من مائة وهو من أصحاب المختار فحمل على شبث بن ربعي وهو يقاتل يزيد بن أنس فخلى لهم الطريق حتى اجتمعوا وأقبل شبث إلى ابن مطيع وقال له اجمع الامراء الذين بالجبابين وجميع الناس ثم انفذ إلى هؤلاء القوم فقاتلهم فإن أمرهم قد قوي وقد خرج المختار وظهر واجتمع له أمره.
فلما بلع قوله المختار خرج في جماعة من أصحابه حتى نزل في ظهر دير هند في السبخة وخرج أبو عثمان النهدي فنادى في شاكر وهي مجتمعون في
219

دورهم يخافون أن يظهروا لقرب كعب الخثعمي منهم وكان قد أخذ عليهم أفواه السكك فلما أتاهم أبو عثمان في جماعة من أصحابه نادى يا لثارات الحسين يا منصور أمت أمت يا أيها الحي المهتدون إن أمين آل محمد ووزيرهم قد خرج فنزل دير هند وبعثني إليكم داعيا ومبشرا فأخرجوا رحمكم الله فخرجوا من الدور يتداعون يا لثارات الحسين وقاتلوا كعبا حتى خلى لهم الطريق فأقبلوا إلى المختار فنزلوا معه وخرج عبد الله بن قتادة في نحو من مائتين فنزل مع المختار وكان قد تعرض لهم كعب فلما عرف أنهم من قومه خلى عنهم.
وخرجت شبام وهم حي من همدان من آخر ليلتهم فبلغ خبرهم عبد الرحمن بن سعيد الهمداني فأرسل إليهم إن كنتم تريدون المختار فلا تمروا على جبانة السبيع فلحقوا بالمختار فتوافى إلى المختار ثلاثة آلاف وثمانمائة من اثني عشر ألفا كانوا بايعوه فاجتمعوا له قبل الفجر فأصبح وقد فرغ من تعبيته وصلى بأصحابه بغلس.
وأرسل ابن مطيع إلى الجبابين فأمر من بها أن يأتوا المسجد، وأمر راشد بن إياس فنادى في الناس برئت الذمة من رجل لم يأت المسجد الليلة فاجتمعوا فبعث ابن مطيع شبث بي ربعي في نحو ثلاثة آلاف إلى المختار وبعث راشد بن إياس في أربعة آلاف من الشرط.
فسار شبث اى المختار فبلغه خبره وقد فرغ من صلاة الصبح فأرسل من أتاه بخبرهم وأتى إلى المختار ذلك الوقت سعر بن أبي سعر الحنفي وهو من أصحابه لم يقدر على اتيانه إلا تلك الساعة فرأى راشد بن إياس
220

في طريقه فأخبر المختار خبره أيضا، فبعث المختار إبراهيم بن الأشتر إلى راشد في سبعمائة وقيل في ستمائة فارس وستمائة راجل وبعث نعيم بن هبيرة أخا مصقلة بن هبيرة في ثلاثمائة فارس وستمائة راجل وأمره بقتال شبث بن ربعي ومن معه وأمرهما بتعجيل القتال وأن لا يستهدفا لعدوهما فإنه أكثر منهما فتوجه إبراهيم إلى راشد وقدم المختار يزيد بن أنس في موضع مسجد شبث بن ربعي في تسعمائة أمامه فتوجه نعيم إلى شبث فقاتله قتالا شديدا فجعل نعيم سعر بن أبي سعر على الخيل ومشى هو في الرجالة فقاتلهم حتى أشرقت الشمس وانبسطت فانهزم أصحاب شبث حتى دخلوا البيوت فناداهم شبث وحرضهم فرجع إليه منهم جماعة فحملوا على أصحاب نعيم وقد تفرقوا فهزمهم وصبر نعيم فقتل وأسر سعر بن أبي سعر وجماعة من أصحابه فأطلق العرب وقتل الموالي وجاء شبث حتى أحاط بالمختار وكان قد وهن لقتل نعيم.
وبعث ابن مطيع يزيد بن الحرث بن رويم في ألفين فوقفوا في أفواه السكك، وولى المختار يزيد بن أنس خيله وخرج هو في الرجالة فحملت عليه خيل شبث فلم يبرحوا مكانهم فقال لهم يزيد بن أنس يا معشر الشيعة إنكم كنتم تقتلون وتقطع أيديكم وأرجلكم وتسمل أعينكم وترفعون على جذوع النخل في حب أهل بيت نبيكم وأنتم مقيمون في بيوتكم وطاعة عدوكم فما ظنكم بهؤلاء القوم إذا ظهروا عليكم اليوم والله لا يدعون منكم عينا تطرف وليقتلنكم صبرا ولترون منهم في أولادكم وأزواجكم وأموالكم ما الموت خير منه والله لا ينجيكم منهم إلا الصدق والصبر والطعن الصائب والضرب الدارك فتهيؤوا للحملة فتيسروا ينتظرون أمره وجثوا على ركبهم.
221

وأما إبراهيم بن الأشتر فإنه لقي راشدا فإذا معه أربعة آلاف فقال إبراهيم لأصحابه لا يهولنكم كثرة هؤلاء فوالله رب رجل خير من عشرة والله مع الصابرين وقدم خزيمة بن نصر إليهم في الخيل ونزل هو يمشي في الرجالة وأخذ إبراهيم لصاحب رايته تقدم برايتك امض بهؤلاء وبهؤلاء بها.
واقتتل الناس قتالا شديدا، وحمل خزيمة بن نصر العبسي على راشد فقتله ثم نادى قتلت راشدا ورب الكعبة وانهزم أصحاب راشد وأقبل إبراهيم وخزيمة ومن معهما بعد قتل راشد نحو المختار وأرسل البشير إلى المختار بقتل راشد فكبر هو وأصحابه وقويت نفوسهم ودخل أصحاب ابن مطيع الفشل.
وأرسل ابن مطيع حسان بن فائد بن بكر العبسي في جيش كثيف نحو ألفين فاعترض إبراهيم ليرده عمن بالسبخة من أصحاب ابن مطيع فتقدم إليهم إبراهيم فانهزموا من غير قتال وتأخر حسان يحمي أصحابه فحمل عليه خزيمة فعرفه فقال يا حسان لولا القرابة لقتلتك فانج بنفسك فعثر به فرسه فوقع فابتدره الناس فقاتل ساعة فقال له خزيمة أنت آمن فلا تقتل نفسك وكف عنه الناس وقال لإبراهيم هذا ابن عمي وقد أمنته فقال أحسنت وأمر بفرسه
فأحضر وقال الحق بأهلك.
وأقبل إبراهيم نحو المختار وشبث بن ربعي محيط به فلقيه يزيد بن الحرث وهو على أفواه السكك التي تلي السبخة فأقبل إلى إبراهيم ليصده عن شبث وأصحابه فبعث إبراهيم إليه طائفة من أصحابه مع خزيمة بن نصر وسار نحو المختار وشبث فيمن بقي معه فلما دنا منهم إبراهيم حمل على شبث وحمل يزيد بن أنس فانهزم شبث ومن معه إلى أبيات الكوفة، وحمل خزيمة بن نصر على يزيد بن الحرث فهزمه وازدحموا على أفواه السكك وقوق
222

البيوت واقبل المختار. فلما انتهى إلى أفواه السكك رمته الرماة بالنبل فصدوه عن الدخول إلى الكوفة من ذلك الوجه.
ورجع الناس من السبخة منهزمين إلى ابن مطيع وجاءه قتل راشد بن إياس فسقط في يده فقال له عمرو بن الحجاج الزبيدي أيها الرجل لا تلق بيدك واخرج إلى الناس وأندبهم إلى عدوك فإن الناس كثير وكلهم معك إلا هذه الطائفة التي خرجت والله يخزيها وأنا أول منتدب فانتدب معي طائفة ومع غيري طائفة.
فخرج ابن مطيع فقام في الناس ووبخهم على هزيمتهم وأمرهم بالخروج إلى المختار وأصحابه.
ولما رأى المختار أنه قد منعه يزيد بن الحرث من دخول الكوفة عدل إلى بيوت مزينة وأحمس وبارق وبيوتهم منفردة فسقوا أصحابه الماء ولم يشرب هو فإنه كان صائما فقال احمر بن شميط لابن كامل أتراه صائما قال نعم قال لو أفطر كان أقوى له قال إنه معصوم وهو أعلم بما يصنع فقال أحمر صدقت أستغفر الله.
فقال المختار: نعم المكان للقتال هذا فقال إبراهيم إن القوم قد هزمهم الله وأدخل الرعب في قلوبهم سر بنا فوالله ما دون القصر مانع فترك المختار هناك كل شيخ ضعيف ذي علة وثقلهم واستخلف عليهم أبا عثمان النهدي وقدم إبراهيم أمامه وبعث ابن مطيع عمرو بن الحجاج في ألفين فخرج عليهم فأرسل المختار إلى إبراهيم أن اطوه ولا تقم عليه فطواه وأقام؛
223

وأمر المختار يزيد بن أنس أن يواقف عمرو بن الحجاج فمضى إليه وسار المختار في أثر إبراهيم ثم وقف في موضع مصلى خالد بن عبد الله ومضى إبراهيم ليدخل الكوفة من نحو الكناسة فخرج إليه شمر بن ذي الجوشن في ألفين فسرح إليه المختار سعيد بن منقذ الهمذاني فواقعه وأرسل إلى إبراهيم يأمره بالمسير فسار حتى انتهى إلى سكة شبث فإذا نوفل بن مساحق في ألفين وقيل خمسة آلاف وهو الصحيح، وقد أمر ابن مطيع مناديا في الناس ان الحقوا بابن مساحق.
وخرج ابن مطيع فوقف بالكناسة واستخلف شبث بن ربعي على القصر فدنا ابن الأشتر من ابن مطيع فأمر أصحابه بالنزول وقال لهم لا يهولنكم أن يقال جاء شبث وآل عتيبة بن النهاس وآل الأشعث وآل يزيد بن الحرث وآل فلان فسمى بيوتات أهل الكوفة ثم قال ان هؤلاء لو وجدوا حر السيوف لانهزموا عن ابن مطيع انهزام المعزى من الذئب. ففعلوا ذلك.
وأخذ ابن الأشتر أسفل قبائه فأدخله في منطقته وكان القباء على الدرع فلم يلبثوا حين حمل عليهم أن انهزموا يركب بعضهم بعضا على أفواه السكك وازدحموا وانتهى ابن الأشتر إلى ابن مساحق فأخذ بعنان دابته ورفع السيف عليه فقال له يا ابن الأشتر أنشدك الله هل بيني وبينك من إحنة أو تطلبني بثأر فخلى سبيله وقال اذكرها فكان يذكرها له.
ودخلوا الكناسة في آثارهم حتى دخلوا السوق والمسجد وحصروا ابن مطيع ومعه الاشراف من الناس غير عمرو بن حريث فإنه أتى داره ثم خرج إلى البر وجاء المختار حتى نزل جانب السوق وولى إبراهيم حصار القصر ومعه
224

يزيد بن أنس وأحمر بن شميط فحصروهم ثلاثا فاشتد الحصار عليهم فقال شبث لابن مطيع انظر لنفسك ولمن معك فوالله ما عندهم غنى عنك ولا عن أنفسهم فقال أشيروا علي فقال شبث الرأي أن تأخذ لنفسك ولنا أمانا وتخرج ولا تهلك نفسك ومن معك فقال ابن مطيع إني لأكره أن آخذ منه أمانا والأمور لأمير المؤمنين مستقيمة بالحجاز والبصرة قال فتخرج ولا يشعر بك أحد فتنزل بالكوفة عند من تثق إليه حتى تلحق بصاحبك.
وأشار بذلك عبد الرحمن بن سعيد وأسماء بنت خارجة وابن مخنف وأشراف الكوفة فأقام حتى أمسى وقال لهم قد علمت أن الذين صنعوا هذا بكم أنهم أرذلكم وأخسؤكم وإن أشرافكم وأهل الفضل منكم سامعون مطيعون وأنا مبلغ ذلك صاحبي ومعلمه طاعتكم وجهادكم حتى كان الله الغالب على أمره فأثنوا عليه خيرا.
وخرج عنهم وأتى دار أبي موسى فجاء ابن الأشتر ونزل القصر ففتح أصحابه الباب وقالوا يا ابن الأشتر آمنون نحن قال أنتم آمنون فخرجوا فبايعوا المختار ودخل المختار القصر فبات فيه وأصبح أشراف الناس في المسجد وعلى باب القصر. وخرج المختار فصعد المنبر فحمد الله وأثنى فقال:
الحمد لله الذي وعد وليه النصر وعدوه الخسر وجعله فيه إلى آخر الدهر وعدا مفعولا وقضاءا مقضيا وقد خاب من افترى أيها الناس إنا رفعت
225

لنا راية ومدت لنا غاية فقيل لنا في الراية أن ارفعوها وفي الغاية أن أجروا إليها فسمعنا دعوة الداعي ومقالة الواعي فكم من ناع وناعية لقتلى في الواعية وبعدا لمن طغى وأدبر وعصى وكذب وتولى ألا فأدخلوا أيها الناس وبايعوا بيعة هدى فلا والذي جعل السماء سقفا مكفوفا والأرض فجاجا سبلا ما بايعتم بعد بيعة علي بن أبي طالب وآل علي أهدى منها!
ثم نزل ودخل عليه أشراف الكوفة فبايعوه على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والطلب بدماء أهل البيت وجهاد المحلين والدفع عن الضعفاء وقتال من قاتلنا وسلم من سالمنا.
وكان ممن بايعه المنذر بن حسان وابنه حسان فلما خرجا من عنده استقبله سعيد بن منقذ الثوري في جماعة من الشيعة فلما رأوهما قالوا هذان والله من رؤوس الجبارين فقتلوا المنذر وابنه حسان فنهاهم سعيد حتى يأخذوا أمر المختار فلم ينتهوا فلما سمع المختار ذلك كرهه وأقبل المختار يمني الناس ويستجر مودة الأشراف ويحسن السيرة.
وقيل له أن ابن مطيع في دار أبي موسى فسكت فلما أمسى بعث له بمائة ألف درهم وقال تجهز بهذه فقد علمت مكانك وأنك لم يمنعك من الخروج إلا عدم النفقة وكان بينهما صداقة.
ووجد المختار في بيت المال تسعة آلاف ألف فأعطى أصحابه الذين قاتل بهم حين حصر ابن مطيع في القصر وهم ثلاثة [آلاف] وخمسمائة لكل رجل منهم خمسمائة درهم وأعطى ستة آلاف من أصحابه أتوه بعدما أحاط بالقصر
226

وأقاموا معه تلك الليلة وتلك الأيام الثلاثة مائتين مائتين واستقبل الناس بخير وجعل الأشراف جلساءه وجعل على شرطته عبد الله بن كامل الشاكري وعلى حرسه كيسان أبا عمرة.
فقام أبو عمرة على رأسه ذات يوم وهو مقبل على الأشراف بحديثه ووجهه فقال لأبي عمرة بعض أصحابه من الموالي أما ترى أبا إسحاق قد أقبل على العرب ما ينظر إلينا فسأله المختار عما قالوا له فأخبره فقال قل لهم لا يشق عليهم ذلك فأنتم مني وأن منكم وسكت طويلا ثم قرأ: (إنا من المجرمين منتقمون) فلما سمعوها قال بعضهم لبعض أبشروا كأنكم والله قد قاتلتم، يعني الرؤساء.
وكان أول راية عقدها المختار لعبد الله بن الحرث أخي الأشتر على أرمينية وبعث محمد بن عمير بن عطارد على أذربيجان وبعث عبد الرحمن بن سعيد بن قيس على الموصل وبعث إسحاق بن مسعود على المدائن وأرض جوخى وبعث قدامة بن أبي عيسى بن زمعة النصري حليف ثقيف على بهقباذ الأعلى وبعث محمد بن كعب بن قرظة على بهقباذ الأوسط وبعث سعد بن حذيفة بن اليمان على حلوان وأمره بقتال الأكراد وإقامة الطرق.
وكان ابن الزبير قد استعمل على الموصل محمد بن الأشعث بن قيس فلما ولي المختار وبعث عبد الرحمن به سعيد إلى الموصل أميرا سار محمد عنها إلى تكريت ينظر ما يكون من الناس ثم سار إلى المختار فبايعه.
فلما فرغ المختار مما يريد صار يجلس للناس ويقضي بينهم ثم قال إن لي فيما أحاول لشغلا عن القضاء ثم أقام شريحا يقضي بين الناس ثم خافهم شريح فتمارض وكانوا يقولون إنه عثماني وإنه شهد على حجر
227

ابن عدي، وإنه لم يبلغ هانئ بن عروة ما أرسله به، وإن عليا عزله عن القضاء فلما بلغ شريحا ذلك منهم
تمارض فجعل المختار مكانه عبد الله بن عتبة بن مسعود ثم إن عبد الله مرض فجعل مكانه عبد الله بن مالك الطائي.
ذكر قتل المختار قتلة الحسين عليه السلام
وفي هذه السنة وثب المختار بمن بالكوفة من قتلة الحسين.
وكان سبب ذلك أن مروان بن الحكم لما استوثقت له الشام بعث جيشين أحدهما إلى الحجاز عليه حبيش بن دلجة القيني وقد ذكرنا أمره وقتله والجيش الآخر إلى العراق مع عبيد الله بن زياد وقد ذكرنا ما كان من أمره وأمر التوابين وكان قد جعل لابن زياد ما غلب عليه وأمره أن ينهب الكوفة ثلاثا فاحتبس بالجزيرة وبها قيس عيلان مع زفر بن الحرث على طاعة ابن الزبير فلم يزل عبيد الله بن زياد مشتغلا بهم عن العراق نحو سنة.
فتوفي مروان وولي بعده ابنه عبد الملك بن مروان فأقر ابن زياد على ما كان أبوه ولاه وأمره بالجد في أمره.
فلما لم يمكنه في زفر ومن معه من قيس شيء أقبل إلى الموصل فكتب عبد الرحمن بن سعيد عامل المختار إلى المختار يخبره بدخول ابن زياد أرض الموصل وأنه قد تنحى له عن الموصل إلى تكريت فدعا المختار يزيد بن أنس الأسدي وأمره أن يسير إلى الموصل فينزل بأداني أرضها حتى يمده بالجنود،
228

فقال له يزيد: خلني انتخب ثلاثة آلاف فارس، وخلني مما توجهني إليه، فإن احتجت كتبت إليك أستمدك فأجابه المختار فانتخب له ثلاثة آلاف وسار عن الكوفة وسار معه المختار والناس يشيعونه فلما ودعه قال له إذا لقيت عدوك فلا تناظرهم وإذا أمكنتك الفرصة فلا تؤخرها وليكن خبرك كل يوم عندي وإن احتجت إلى مدد فاكتب إلي مع أني ممدك وإن لم تستمد لأنه أشد لعضدك وأرعب لعدوك ودعا الناس له بالسلامة ودعا لهم فقال لهم سلوا الله لي الشهادة فوالله لئن فاتني النصر لا تفوتني الشهادة.
فكتب المختار إلى عبد الرحمن بن سعيد أن خل بين يزيد وبين البلاد فسار يزيد إلى المدائن ثم سار إلى أرض جوخى والراذانات إلى أرض الموصل فنزل بباقلي وبلغ خبره ابن زياد فقال لأبعثن إلى كل ألف ألفين فأرسل ربيعة بن مخارق الغنوي في ثلاثة آلاف وعبد الله بن جملة الخثعمي في ثلاثة آلاف فسار ربيعة قبل عبد الله بيوم فنزل يزيد بن أنس بباقلي فخرج يزيد بن أنس وهو مريض شديد المرض راكب على حمار يمسكه الرجال فوقف على أصحابه وعبأهم وحثهم على القتال وقال إن هلكت فأميركم ورقاء بن العازب الأسدي فإن هلك فأميركم عبد الله بن ضمرة العذري فإن هلك فأميركم سعر بن أبي سعر الحنفي وجعل على ميمنته عبد الله وعلى مسيرته سعرا وعلى الخيل ورقاء ونزل هو فوضع بين الرجال على سرير وقال قاتلوا عن أميركم إن شئتم أو فروا عنه وهو يأمر الناس بما يفعلون ثم يغمى عليه ثم يفيق.
229

واقتتل الناس عند فلق الصبح يوم عرفة واشتد قتالهم إلى ارتفاع الضحى فانهزم أهل الشام وأخذ عسكرهم وانتهى أصحاب يزيد إلى ربيعة بن مخارق وقد انهزم عنه أصحابه وهو نازل ينادي يا أولياء الحق أنا ابن مخارق إنما تقاتلون العبيد الإباق ومن ترك الإسلام وخرج منه فاجتمع إليه جماعة فقاتلوا معه فاشتد القتال ثم انهزم أهل الشام وقتل ربيعة بن مخارق قتله عبد الله بن ورقاء الأسدي وعبد الله بن ضمرة العذري فلم يسر المنهزمون غير ساعة حتى لقيهم عبد الله بن جملة في ثلاثة آلاف فرد معه المنهزمين.
ونزل يزيد بباقلي فباتوا ليلتهم يتحارسون فلما صبحوا يوم الأضحى خرجوا إلى القتال فاقتتلوا قتالا شديدا ثم نزلوا فصلوا الظهر ثم عادوا إلى القتال فانهزم أهل الشام وترك ابن جملة في جماعة فقاتل قتالا شديدا فحمل عليه عبد الله بن قراد الخثعمي فقتله وحوى أهل الكوفة عسكرهم وقتلوا فيهم قتلا ذريعا وأسروا منهم ثلاثمائة أسير وأمر يزيد بن أنس بقتلهم وهو بآخر رمق فقتلوا ثم مات آخر النهار فدفنه أصحابه وسقط في أيديهم.
وكان قد استخلف ورقاء بن عازب الأسدي فصلى عليه ثم قال لأصحابه ماذا ترون انه قد بلغني أن ابن زياد قد أقبل إليكم في ثمانين ألفا وإنما أنا رجل منكم فأشيروا علي فإني لا أرى لنا بأهل الشام طاقة على هذه الحال وقد هلك يزيد وتفرق عنا بعض من معنا فلو انصرفنا اليوم من تلقاء أنفسنا لقالوا إنما رجعنا عنهم لموت أميرنا ولم يزالوا هائبين وإن لقيناهم اليوم كنا مخاطرين فإن هزمونا اليوم لم تنفعنا هزيمتنا إياهم بالأمس فقالوا نعم ما رأيت فانصرفوا.
فبلغ ذلك المختار وأهل الكوفة فأرجف الناس بالمختار وقالوا إن يزيد
230

قتل، ولم يصدقوا أنه مات فدعا أنس المختار إبراهيم بن الأشتر وأمره عل سبعة آلاف وقال له سر فإذا لقيت جيش يزيد بن أنس فأنت الأمير عليهم فارددهم معك حتى تلقى ابن زياد وأصحابه فتناجزهم فخرج إبراهيم فعسكر بحمام أعين وسار فلما سار اجتمع أشراف الكوفة عند شبث بن ربعي وقالوا والله إن المختار تأمر علينا بغير رضا منا ولقد أذرى بموالينا فحملهم على الدواب وأعطاهم فيئنا وكان شبث شيخهم وكان جاهليا إسلاميا فقال لهم شبث دعوني حتى ألقاه.
فذهب إليه فلم يدع شيئا أنكروه إلا ذكره له فأخذ لا يذكر خصلة إلا قال له المختار أنا أرضيهم في هذا الخصلة وآتي لهم كل ما أحبوا وذكر له الموالي ومشاركتهم في الفيء فقال له إن أنا تركت مواليكم وجعلت فيئكم لكم تقاتلون معي بني أمية وابن الزبير وتعطوني على الوفاء عهد الله وميثاقه وما أطمئن إليه من الأيمان فقال شبث حتى أخرج إلى أصحابي فاذكر لهم ذلك فخرج إليهم فلم يرجع إليه وأجمع رأيهم على قتاله.
فاجتمع شبث بن ربعي بن ومحمد بن الأشعث وعبد الرحمن بن سعيد بن قيس وشمر حتى دخلوا على كعب بن أبي كعب الخثعمي فكلموه في ذلك فأجابهم إليه فخرجوا من عنده حتى دخلوا على عبد الرحمن بن مخنف الأزدي فدعوه إلى ذلك فقال لهم ان أطعتموني لم تخرجوا فقالوا له لم فقال لأني أخاف أن تتفرقوا وتختلفوا ومع الرجل شجعانكم وفرسانكم مثل فلان وفلان ثم معه عبيدكم ومواليكم وكلمة هؤلاء واحدة ومواليكم أشد حنقا عليكم من عدوكم فهم مقاتلوكم بشجاعة العرب وعداوة العجم، وإن
231

انتظرتموه قليلا كفيتموه بقدوم أهل الشام ومجئ أهل البصرة فتكونوا بغيركم ولم تجعلوا بأسكم بينكم فقالوا ننشدك الله أن تخالفنا وتفسد علينا رأينا وما أجمعنا عليه فقال إنما أنا رجل منكم فإذا شئتم فأخرجوا.
فوثبوا بالمختار بعد مسير إبراهيم بن الأشتر وخرجوا بالجبابين كل رئيس بحبانة فلما بلغ المختار خروجهم أرسل قاصدا مجدا إلى إبراهيم بن الأشتر فلحقه وهو بساباط فأمره بالرجوع والسرعة وبعث المختار إليهم في ذلك أخبروني ماذا تريدون فإني صانع كل ما أحببتم قالوا أن تعتزلنا فإنك زعمت أن ابن الحنفية بعثك ولم يبعثك قال فأرسلوا إليه وفدا من قبلكم وأرسل أنا إليه وقدا ثم أنظروا في ذلك حتى يظهر لكم وهو يريد أن يريثهم بهذه المقالة حتى يقدم عليه إبراهيم بن الأشتر وأمر أصحابه فكفوا أيديهم وقد أخذ عليهم أهل الكوفة بأفواه السكك فلا يصل إليهم شيء إلا القليل وخرج عبد الله بن سبيع في الميدان فقاتله بنو شاكر قتالا شديدا فجاءه عقبة بن طارق الجشمي فقاتل معه ساعة حتى ردهم عنه ثم أقبل فنزل عقبة مع شمر ومعه قيس عيلان في جبانة سلول ونزل عبد الله بن سبيع مع أهل اليمن في جبانة السبيع.
ولما سار رسول المختار وصل إلى ابن الأشتر عشية يومه فرجع ابن الأشتر بقية عشيته تلك الليلة ثم نزل حتى امسى [فتعشي أصحابه] وأراحوا
232

دوابهم قليلا ثم سار ليلته كلها ومن الغد فوصل العصر وبات ليلته في المسجد ومعه من أصحابه أهل القوة. ولما اجتمع أهل اليمن بجبانة السبيع حضرت الصلوات فكره كل رأس من أهل اليمن أن يتقدمه صاحبه فقال لهم عبد الرحمن بن مخنف هذا أول الاختلاف قدموا الرضى فيكم سيد القراء رفاعة بن شداد البجلي ففعلوا فلم يزل يصلي بهم حتى كانت الوقعة.
ثم إن المختار عبأ أصحابه في السوق وليس فيه بنيان فأمر ابن الأشتر فسار إلى مضر وعليهم شبث بن ربعي ومحمد بن عمير بن عطارد وهم بالكناسة وخشي أن يرسله إلى أهل اليمن فلا يبالغ في قتال قومه وسار المختار نحو أهل اليمن بجبانة السبيع ووقف عند دار عمرو بن سعيد وسرح بين يديه أحمر بن شميط البجلي وعبد الله بن كامل الشاكري وأمر كلا منهما بلزوم طريق ذكره له يخرج إلى جبانة السبيع وأسر اليهما أن شباما قد أرسلوا إليه يخبرونه أنهم يأتون القوم من ورائهم فمضيا كما أمرهما.
فبلغ أهل اليمن سيرهما فافترقوا إليهما واقتتلوا أشد قتال رآه الناس، ثم انهزم أصحاب أحمر بن شميط وأصحاب ابن كامل ووصلوا إلى المختار فقال ما وراءكم؟ قالوا هزمنا وقد نزل أحمر بن شميط ومعه ناس من أصحابه
وقال أصحاب ابن كامل ما ندري ما فعل ابن كامل.
فأقبل بهم المختار نحو القوم حتى بلغ دار أبي عبد الله الجدلي، فوقف ثم ارسل عبد الله بن قراد الخثعمي في أربعمائة إلى ابن كامل وقال له إن كان قد هلك فأنت مكانه وقاتل القوم وإن كان حيا فاترك عنده ثلاثمائة من أصحابك وامض في مائة حتى تأتي جبانة السبيع فتأتي أهلها من ناحية حمام قطن.
233

فمضى فوجد ابن كامل يقاتلهم في جماعة من أصحابه قد صبروا معه فترك عنده ثلاثمائة رجل وسار في مائة حتى أتى مسجد عبد القيس وقال لأصحابه إني أحب أن يظهر المختار وأكره أن تهلك أشراف عشيرتي اليوم ووالله لأن أموت أحب إلي من أن يهلكوا على يدي ولكن قفوا فقد سمعت أن شباما يأتونهم من ورائهم فلعلهم يفعلون ذلك ونعافى نحن منه فأجابوه إلى ذلك فبات عند مسجد عبد القيس.
وبعث المختار مالك بن عمرو النهدي وكان شجاعا وعبد الله بن شريك النهدي في أربعمائة إلى أحمر بن شميط فانتهوا إليه وقد علاه القوم وكثروه فاشتد عند ذلك.
وأما ابن الأشتر فإنه مضى إلى مضر فلقي شبت بن ربيعي ومن معه فقال لهم إبراهيم ويحكم انصرفوا فما أحب أن يصاب من مضر على يدي فأبوا وقاتلوا فهزمهم وجرح حسان بن فائد العبسي فحمل إلى أهلة فمات فكان مع شبت وجاءت البشارة إلى المختار بهزيمة مضر فأرسل إلى احمر بن شميط وابن كامل يبشرهما فاشتد أمرهما.
فاجتمع شبام وقد رأسوا عليهم أبا القلوص ليأتوا [أهل] اليمن من ورائهم فقال بعضهم لبعض لو جعلتم جدكم على مضر وربيعة لكان أصوب وأبو القلوص ساكت فقالوا ما تقول فقال قال الله تعالى: (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار). فساروا معه نحو أهل اليمن فلما خرجوا إلى جبانة السبيع لقيهم على فم السكة الأعسر الشاكري فقتلوه ونادوا في الجبانة وقد دخلوها يا لثارات الحسين فسمعها يزيد بن عمير ذي مران الهمداني فقال يا لثارات عثمان فقال لهم رفاعة بن شداد ما لنا ولعثمان لا أقاتل
234

مع قوم يبغون دم عثمان فقال له ناس من قومه جئت بنا وأطعناك حتى إذا رأينا قومنا تأخذهم السيوف قلت انصرفوا ودعوهم فعطف عليهم وهو يقول، شعر:
(انا ابن شداد على دين علي * لست لعثمان بن أروى بولي)
(لأصلين اليوم فيمن يصطلي * بحر نار الحرب غير مؤتلي)
فقاتل حتى قتل.
وكان رفاعة مع المختار فلما رأى كذبه أراد قتله غيلة قال فمنعني قول النبي صلى الله عليه وسلم: من ائتمنه رجل على دمه فقتله فأنا منه بريء.
فلما كان هذا اليوم قاتل مع أهل الكوفة فما سمع يزيد بن عمير يقول يا لثارات عثمان عاد عنهم فقاتل مع المختار حتى قتل وقتل يزيد بن عمير بن ذي مران والنعمان بن صهبان الجرمي وكان ناسكا وقتل الفرات بن زحر بن قيس وجرح أبوه زحر وقتل عبد الله بن سعيد بن قيس وقتل عمر بن مخنف وقالت عبد الرحمن بن مخنف حتى جرح وحملته الرجال على أيديهم وما يشعر وقاتل حوله رجال من الأزد وانهزم أهل اليمن هزيمة قبيحة وأخذ من دور الوادعيين خمسمائة أسير فأتي بهم المختار مكتفين فأمر المختار بإحضارهم وعرضهم عليه وقال انظروا من شهد منهم قتل الحسين فأعلموني فقتل كل من شهد منهم قتل الحسين فقتل منهم مائتين وثمانية وأربعين قتيلا وأخذ أصحابه يقتلون كل من كان يؤذيهم.
فلما سمع المختار بذلك أمر بإطلاق كل من بقي من الأسارى وأخذ عليهم المواثيق أن لا يجامعوا عليه عدوا ولا يبغوه وأصحابه عائلة ونادى منادي
235

المختار: من أغلق بابه فهو آمن إلا من شرك في دماء آل محمد.
وكان عمرو بن الحجاج الزبيدي ممن شهد قتل الحسين فركب راحلته وأخذ طريق واقصة فلم ير له خبر حتى الساعة، وقيل أدركه أصحاب المختار وقد سقط من شدة العطش فذبحوه وأخذوا رأسه.
ولما قتل فرات بن زحر بن قيس أرسلت عائشة بنت خليفة بن عبد الله الجعفية وكانت امرأة الحسين إلى المختار تسأله أن يأذن لها في دفنه ففعل فدفنته.
وبعث المختار غلاما له يدعى زربي في طلب شمر بن ذي الجوشن ومعه أصحابه فلما دنوا منه قال شمر لأصحابه تباعدوا عني لعله يطمع في فتباعدوا عنه فطمع زربي فيه ثم حمل عليه شمر ففتله وسار شمر حتى نزل مساء ساتيدما ثم سار حتى نزل قرية يقال لها الكلتانية على شاطئ نهر إلى جانب تل ثم أرسل إلى أهل تلك القرية فأخذ منها علجا فضربه وقال امض بكتابي هذا إلى مصعب بن الزبير فمضى العلج حتى دخل القرية وفيها أبو عمرة صاحب المختار وكان قد أرسله المختار إلى تلك القرية ليكون مسلحة بينه وبين أهل البصرة فلقي ذلك العلج علجا آخر من تلك القرية فشكا اليه ما لقي من شمر فبينما هو يكلمه إذ مر به رجل من أصحاب أبي عمرة اسمه عبد الرحمن بن أبي الكنود فرأى الكتاب وعنوانه لمصعب بن الزبير من شمر فقال للعلج أين هو فأخبره فإذا ليس بينه وبينهم إلا
236

ثلاثة فراسخ، قال: فأقبلوا يسيرون إليه وكان قد قال لشمر أصحابه لو ارتحلت بنا من هذه القرية فإنا نتخوف منها فقال كل هذا فزعا من الكذاب والله لا أتحول منها ثلاثة أيام ملأ الله قلوبهم رعبا فإنهم لنيام إذ سمع وقع الحوافر فقالوا في أنفسهم هذا صوت الدبى ثم اشتد فذهب أصحابه ليقوموا فإذا بالخيل قد أشرفت من التل فكبروا وأحاطوا بالأبيات فولى أصحابه هاربين وتركوا خيولهم وقام شمر وقد اتزر ببرد وكان أبرص فطهر بياض برصه من فوق البرد وهو يطاعنهم بالرمح وقد عجلوه عن ليس ثيابه وسلاحه وكان أصحابه قد فارقوه فلما أبعدوا عنه سمعوا التكبير وقائلا يقول قتل الخبيث قتله ابن أبي الكنود وهو الذي رأى الكتاب مع العلج وألقيت جثته للكلاب قال وسمعته بعد أن قاتلنا بالرمح ثم ألقاه وأخذ السيف فقاتلنا به وهو يرتجز، شعرا:
(نبهتم ليث عرين باسلا * جهما محياه يدق الكاهلا)
(لم ير يوما عن عدو ناكلا * إلا كذا مقاتلا أو قاتلا)
(يبرحهم ضربا ويروي العاملا)
وأقبل المختار إلى القصر من جبانة السبيع ومعه سراقة بن مرداس البارقي أسيرا فناداه شعرا:
237

(أمنن علي اليوم يا خير معد * وخير من حل بشحر والجند)
(وخير من لبى وحيا وسجد)
فأرسله المختار إلى السجن ثم أحضره من الغد فأقبل إليه وهو يقول شعر:
(ألا أبلغ أبا إسحق أنا * نزونا نزوة كانت علينا)
(خرجنا لا نرى الضعفاء شيئا * وكان خروجنا بطرا وحينا)
(لقينا منهم ضربا طلحفا * وطعنا صائبا حتى انثنينا)
(نصرت على عدوك كل يوم * بكل كتيبة تنعى حسينا)
(كنصر محمد في يوم بدر * ويوم الشعب إذ لاقى حنينا)
(فأسجح إذ ملكت فلو ملكنا * لجرنا في الحكومة واعتدينا)
(تقبل توبة مني فإني * سأشكر إذ جعلت النقد دينا)
قال فلما انتهى إلى المختار قال أصلح الله الأمير أحلف بالله الذي لا إله إلا هو لقد رأيت الملائكة تقاتل معك على الخيول البلق بين السماء والأرض فقال له المختار: اصعد المنبر فأعلم الناس فصعد فأخبرهم بذلك ثم نزل فخلا به [مختار] فقال له: إني قد علمت انك لم تر شيئا وإنما أردت ما قد عرفت أن لا أقتلك فاذهب عني حيث شئت لا تفسد علي أصحابي؛
238

فخرج إلى البصرة فنزل عند مصعب وقال شعر:
(ألا أبلغ أبا إسحق أني * رأيت البلق دهما مصمتات)
(كفرت بوحيكم وجعلت نذرا * على قتالكم حتى الممات)
(أرى عيني ما لم تبصراه * كلانا عالم بالترهات)
وقتل يومئذ عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني وادعى قتله سعر بن أبي سعر وأبو الزبير الشبامي وشبام بن
همدان ورجل آخر فقال ابن عبد الرحمن لأبي الزبير الشبامي أتقتل أبي عبد الرحمن سيد قومك فقرأ (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله) ولآية.
وانجلت الوقعة عن سبعمائة وثمانين قتيلا من قومه وكان أكثر القتل ذلك اليوم في أهل اليمن وكانت الوقعة لست ليال بقين من ذي الحجة سنة ست وستين.
وخرج أشراف الناس فلحقوا بالبصرة وتجرد المختار لقتلة الحسين وقال ما من ديننا أن نترك قتلة الحسين أحياء بئس ناصر آل محمد أنا إذا في الدنيا أنا إذا الكذاب كما سموني وإني أستعين بالله عليهم فسموهم لي، ثم اتبعوهم حتى تقتلوهم فإني لا يسوغ لي الطعام والشراب حتى أطهر الأرض منهم فدل على عبد الله بن أسيد الجهني ومالك بن بشير البدي وحمل بن مالك المحاربي فبعث إليهم المختار فأحضرهم من القادسية فلما رآهم قال يا أعداء الله ورسوله أين الحسين بن علي أدوا إلى الحسين قتلتم من أمرتم بالصلاة عليهم فقالوا رحمك الله! بعثنا كارهين فامنن علينا واستبقنا فقال لهم هلا مننتم على الحسين ابن بنت نبيكم
239

فاستبقيتموه وسقيتموه؟ وكان البدي صاحب برنسه فأمر بقطع يديه ورجليه وترك يضطرب حتى مات وقتل والآخرين وأمر بزياد بن مالك الضبعي وبعمران بن خالد القشيري وبعبد الرحمن بن أبي خشارة البجلي وبعبد الله بن قيس الخولاني فأحضروا عنده فلما رآهم قال يا قتلة الصالحين وقتلة سيد شباب أهل الجنة قد أقاد الله منكم اليوم لقد جاءكم الورس في يوم نحس وكانوا نهبوا من الورس الذي كان مع الحسين ثم أمر بهم فقتلوا.
وأحضر عنده: عبد الله وعبد الرحمن ابني صلحت وعبد الله بن وهب بن عمرو الهمداني وهو ابن عم أعشى همدان فأمر بقتلهم فقتلوا وأحضر عنده عثمان بن خالد بن أسيد الدهماني الجهني وأبو أسماء بشر بن شميط القانصي وكانا قد اشتركا في قتل عبد الرحمن بن عقيل وفي سلبه فضرب أعناقهما وأحرقا بالنار.
ثم أرسل إلى خولي بن يزيد الأصبحي وهو صاحب رأس الحسين فاختفى في مخرجه فدخل أصحاب المختار يفتشون عليه فخرجت امرأته واسمها العيوف بنت مالك وكانت تعاديه منذ جاء برأس الحسين فقالت لهم ما تريدون فقالوا لها أين زوجك قالت لا أدري وأشارت بيدها إلى المخرج فدخلوا فوجدوه وعلى رأسه قوصرة فأخرجوه وقتلوه إلى جانب أهله وأحرقوه بالنار.
240

ذكر مقتل عمر بن سعد وغيره ممن شهد قتل الحسين
ثم أن المختار قال يوما لأصحابه لأقتلن غدا رجلا عظيم القدمين غائر العينين مترف الحاجبين يسر قتله المؤمنين والملائكة المقربين وكان عنده الهيثم بن الأسود النخعي، فعلم أنه يعني عمر بن سعد فرجع إلى منزله وأرسل إلى عمر مع ابنه العريان يعرفه ذلك فلما قاله له قال جزى الله أباك خيرا كيف يقتلني بعد العهود والمواثيق وكان عبد الله بن جعده بن هبيرة أكرم الناس على المختار لقرابته بعلي وكلمه عمر بن سعد ليأخذ له أمانا من المختار ففعل وكتب له المختار أمانا وشرط فيه أن لا يتحدث وعنى بالحديث دخول الخلاء ثم إن عمر بن سعد خرج من بيته بعد عود العريان عنه فأتى حمامه فأخبر مولى له بما كان منه وبأمانه فقال له مولاه وأي حدث أعظم مما صنعت تركت أهلك ورحلك وأتيت إلى ههنا ارجع ولا تجعل عليك سبيلا فرجع وأتى المختار فأخبره بإطلاقه فقال كلا إن في عنقه سلسلة سترده وأصبح المختار فبعث إليه أبا عمرة فأتاه وقال أجب الأمير فقام عمر فعثر في جبة له فضربه أبو عمرة بسيفه فقتله وأخذ رأسه فأحضره عند المختار فقال المختار لابنه حفص بن عمر وهو جالس عنده أتعرف من هذا قال نعم ولا خير في العيش بعده فأمر به فقتل وقال المختار هذا بحسين وهذا بعلي بن الحسين ولا سواء والله لو قتلت به ثلاثة أرباع قريش ما وفوا أنملة من أنامله.
وكان السبب في تهيج المختار على قتله أن يزيد بن شراحيل الأنصاري أتى
241

محمد بن الحنيفة وسلم عليه وجرى الحديث إلى أن تذاكرا المختار فقال ابن الحنفية إنه يزعم أنه لنا شيعة وقتلة الحسين عنده على الكراسي يحدثونه.
فلما عاد يزيد أخبر المختار بذلك فقتل عمر بن سعد وبعث برأسه ورأس ابنه إلى ابن الحنفية وكتب إليه يعلمه أنه قد قتل من قدر عليه وأنه في طلب الباقين ممن حضر قتل الحسين.
قال عبد الله بن شريك أدركت أصحاب الأردية المعلمة وأصحاب البرانس السود من أصحاب السواري إذا مر بهم عمر بن سعد قالوا هذا قاتل الحسين وذلك قبل أن يقتله وقال ابن سيرين قال علي لعمر بن سعد كيف وأنت إذا قمت مقاما تخير فيه بين الجنة والنار فتختار النار؟
ثم ان المختار أرسل إلى حكيم بن طفيل الطائي وكان أصاب سلب العباس بن علي ورمى الحسين بسهم وكان يقول تعلق سهمي بسرباله وما ضره فأتاه أصحاب المختار فأخذوه وذهب أهله فشفعوا بعدي بن حاتم فكلمهم عدي فيه فقالوا ذلك إلى المختار فمضى عدي إلى المختار ليشفع فيه وكان المختار قد شفعه في نفر من قومه أصابهم يوم جبانة السبيع فقالت الشيعة إنا نخاف أن يشفعه المختار فيه فقتلوه رميا بالسهام كما رمى الحسين حتى صار كأنه القنفذ ودخل عدي بن حاتم على المختار فأجلسه معه على مجلسه فشفع فيه عدي فقال المختار أتستحل أن تطلب في قتله الحسين؟ فقال عدي إنه مكذوب عليه قال إذا ندعه لك.
فدخل ابن كامل فأخبر المختار بقتله، فقال: ما أعجلكم إلى ذلك؟ ألا أحضرتموه عندي وكان قد سره قتله فقال ابن كامل: غلبتني عليه الشيعة. فقال عدي لابن كامل: كذبت ولكن ظننت أن من هو خير منك سيشفعني
242

فقتله فسبه ابن كامل فنهاه المختار عن ذلك.
وبعث المختار إلى قاتل علي بن الحسين وهو مرة بن منقذ من عبد القيس وكان شجاعا فأحاطوا بداره فخرج إليهم على فرسه وبيده رمحه فطاعنهم فضرب على يده وهرب منهم فنجا ولحق بمصعب بن الزبير وشلت يده بعد ذلك.
وبعث المختار إلى زيد بن رقاد الجنبي كان يقول لقد رميت فتى منهم بسهم وكفه على جبهته يتقي النبل فأثبت كفه في جبهته فما استطاع أن يزيل كفه عن جبهته وكان ذلك الفتى عبد الله بن مسلم بن عقيل وأنه قال حين رميته اللهم إنهم استقلونا واستذلونا فاقتلهم كما قتلونا ثم إنه رمى الغلام بسهم آخر وكان يقول جئته وهو ميت فنزعت سهمي الذي قتلته به من جوفه ولم أزل أنضنضه الآخر عن جبهته حتى أخذته وبقي النصل فلما أتاه أصحاب المختار خرج إليهم بالسيف فقال لهم ابن كامل لا تطعنوه ولا تضربوه بالسيف ولكن ارموه بالنبل والحجارة ففعلوا ذلك به فسقط فأحرقوه حيا.
وطلب المختار سنان بن أنس الذي كان يدعي قتل الحسين فرآه قد هرب إلى البصرة فهدم داره.
وطلب عبد الله بن عقبة الغنوي فوجده قد هرب إلى الجزيرة فهدم داره وكان قد قتل منهم غلاما وطلب آخر من بني أسد يقال له حرملة بن الكاهن كان قد قتل رجلا من أهل الحسين ففاته.
243

وطلب رجلا أيضا من خثعم اسمه عبد الله بن عروة الخثعمي كان يقول رميت فيهم باثني عشر سهما ففاته ولحق بمصعب بن الزبير فهدم داره.
وطلب أيضا عمرو بن الصبيح الصدائي كان يقول لقد طعنت فيهم وجرحت وما منهم أحدا فأتى ليلا فأخذ وأحضر عند المختار فأمر بإحضار الرماح وطعن بها حتى مات.
وأرسل إلى محمد بن الأشعث وهو في قرية له إلى جنب القادسية فطلبوه فلم يجدوه وكان قد هرب إلى مصعب فهدم المختار داره وبنى بلبنها وطينها دار حجر بن عدي الكندي كان زياد قد هدمها.
(بحير بن ريسان بفتح الباء الموحدة وكسر الحاء المهملة شبام بكسر الشين المعجمة والباء الموحدة بطن من همدان وهمدان بسكون الميم وبالدال المهملة سعر بكسر السين المهملة وأحمر بن شميط بالحاء والراء المهملتين وشميط بالشين المعجمة وشبث بفتح الشين المعجمة والباء الموحدة جبانة أثير بضم الهمزة وبالثاء المثلثة وبالياء المثناة من تحت وبالراء المهملة عتيبة بن النهاس بالعين المهملة وبالتاء المثناة من فوق ثم بالياء المثناة من تحت وبالباء الموحدة حسان بن فائد بالفاء).
ذكر بيعة المثنى العبدي للمختار بالبصرة
وفي هذه السنة دعا المثنى بن مخربة العبدي بالبصرة إلى بيعة المختار وكان ممن شهد عين الوردة مع سليمان بن صرد ثم رجع فبايع للمختار فسيره إلى البصرة يدعو بها إليه فقدم البصرة ودعا بها فأجابه رجال من
244

قومه وغيرهم ثم أتى مدينة الرزق فعسكر عندها وجمعوا الميرة بالمدينة فوجه إليهم القباع أمير البصرة ودعا بها
عباد بن حصين وهو على شرطته وقيس به الهيثم في الشرط والمقاتلة فخرجوا إلى السبخة ولزم الناس بيوتهم فلم يخرج أحد وأقبل عباد فيمن معه فتواقف هو والمثنى فسار عباد نحو مدينة الرزق وترك قيسا مكانه.
فلما أتى عباد مدينة الرزق أصعد على سورها ثلاثين رجلا وقال لهم إذا سمعتم التكبير فكبروا ورجع عباد إلى قيس وأنشبوا القتال مع المثنى وسمع الرجال الذين في دار الرزق التكبير فكبروا وهرب من كان بالمدينة وسمع المثنى التكبير من ورائهم فهرب فيمن معه فكف عنهم قيس وعباد ولم يتبعوهم.
وأتى المثنى قومه عبد القيس فأرسل القباع عسكرا إلى عبد القيس ليأتوه بالمثنى ومن معه فلما رأى زياد بن عمرو العتكي ذلك أقبل إلى القباع فقال له لتردن خيلك عن إخواننا أو لنقاتلنهم فأرسل القباع الأحنف بن قيس وعمر بن عبد الرحمن المخزومي ليصلحا بين الناس فأصلح الأحنف الأمر على أن يخرج المثنى وأصحابه عنهم فأجابوه إلى ذلك وأخرجوهم عنهم فسار المثنى إلى الكوفة في نفر يسير من أصحابه.
(مخربة بضم الميم وفتح الحاء المعجمة وتشديد الراء وكسرها ثم باء مفتوحة).
245

ذكر مكر المختار بابن الزبير
فلما أخرج المختار عامل ابن الزبير عن الكوفة وهو ابن مطيع سار إلى البصرة وكره أن يأتي ابن الزبير مهزوما فلما استجمع للمختار أمر الكوفة أخذ يخادع ابن الزبير فكتب إليه قد عرفت مناصحتي إياك وجهدي على أهل عداوتك وما كنت أعطيتني إذا أنا فعلت ذلك [من نفسك]، فلما وفيت لك لم تف بما عاهدتني عليه فإن ترد مراجعتي ومناصحتي فعلت والسلام.
وكان قصد المختار أن يكف ابن الزبير عنه ليتم أمره والشيعة لا يعملون بشيء من أمره فأراد ابن الزبير أن يعلم اسلم هو أم حرب فدعا عمر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام المخزومي فولاه الكوفة وقال له إن المختار سامع مطيع فتجهز بما بين ثلاثين ألف درهم إلى أربعين ألفا وسار نحو الكوفة وأتى الخبر إلى المختار بذلك فدعا المختار زائدة بن قدامة وأعطاه سبعين ألف درهم إلى أربعين ألفا وقال له هذا ضعف ما انفق عمر بن عبد الرحمن في طريقه إلينا وأمره أن يأخذ معه خمسمائة فارس ويسير حتى يلقاه بالطريق ويعطيه النفقة ويأمره بالعود فإن فعل وإلا فأره الخيل.
فأخذ زائدة بن قدامة المال وسار حتى لقي عمر فأعطاه المال وأمره بالانصراف فقال له إن أمير المؤمنين قد ولاني الكوفة ولا بد من إتيانها فدعا زائدة الخيل وأن قد كمنها فلما رآها قد أقبلت أخذ المال وسار نحو البصرة فاجتمع هو وابن مطيع في إمارة الحرث بن أبي ربيعة وذلك قبل وهوب المثنى بن مخربة العبدي بالبصرة.
246

وقيل: إن المختار كتب إلى ابن الزبير أني اتخذت الكوفة دارا، فإن سوغتني ذلك وأمرت لي بألف ألف درهم سرت إلى الشام فكفيتك ابن مروان. فقال ابن الزبير: إلى متى أماكر كذاب ثقيف ويماكرني؟ ثم تمثل، شعر:
(عاري الجواعر من ثمود أصله * عبد ويزعم أنه من يقدم)
وكتب إليه والله ولا درهم:
(ولا أمتري عبد الهوان ببدرتي * وإني لأني الحتف ما دمت أسمع)
ثم أن عبد الملك بن مروان بعث عبد الملك بن الحرث بن أبي الحكم بن أبي العاص إلى وادي القرى وكان المختار قد وادع ابن الزبير ليكف عنه ليتفرغ لأهل الشام فكتب المختار إلى ابن الزبير قد بلغني أن ابن مروان قد بعث إليك جيشا فإن أحببت أمددتك بمدد.
فكتب إليه ابن الزبير أن كنت على طاعتي فبايع لي الناس قبلك وعجل إنفاذ الجيش ومرهم ليسيروا إلى من بوادي القرى من جند ابن مروان فليقاتلوهم والسلام.
فدعا المختار شرحبيل بن ورس الهمداني فسيره في ثلاثة آلاف أكثرهم من الموالي وليس منهم من العرب إلا سبعمائة رجل وقال سر حتى تدخل المدينة فإذا دخلتها فاكتب إلى بذلك حتى يأتيك أمري وهو يريد إذا دخلوا
247

المدينة أن يبعث عليهم أميرا ثم يأمر ابن ورس بمحاصرة ابن الزبير بمكة وخشي ابن الزبير أن يكون المختار إنما يكيده فبعث من مكة عباس بي سهل بي سعد في ألفين وأمره أن يستنفر الأعراب وقال له إن رأيت القوم على طاعتي وإلا فكايدهم حتى تهلكهم.
فأقبل عباس بن سهل حتى لقي ابن ورس بالرقيم وقد عبأ ابن ورس أصحابه وأتى عباس وقد تقطع أصحابه ورأى ابن ورس على الماء وقد عبأ أصحابه فدنا منهم وسلم عليهم ثم قال لابن ورس سرا ألستم على طاعة ابن الزبير قال بلى قال فسر بنا على عدوه الذي بوادي القرى فقال ابن ورس ما أمرت بطاعتكم إنما أمرت أن آتي المدينة فإذا أتيتها رأيت رأيي فقال له عباس أن كنتم في طاعة ابن الزبير فقد أمرني أن أسيركم إلى وادي القرى فقال لا أتبعك أقدم المدينة وأكتب إلى صاحبي فيأمرني بأمره فقال عباس رأيك أفضل وفطن لما يريد وقال أما أنا فسائر إلى وادي القرى.
ونزل عباس أيضا وبعث إلى ابن ورس بجزائر وغنم مسلخة وكانوا قد ماتوا جوعا فذبحوا واشتغلوا بها واختلطوا على الماء وجمع عباس من أصحابه نحو ألف رجل من الشجعان وأقبل نحو فسطاط ابن ورس فلما رآهم نادى في أصحابه فلم يجتمع إليه مائة رجل حتى انتهى إليه عباس واقتتلوا يسيرا فقتل ابن ورس في سبعين من أهل الحفاظ ورفع عباس راية أمان لأصحاب ابن ورس فأتوها إلا نجوا من ثلاثمائة رجل مع سليمان بن حمير الهمداني وعباس بن جعدة الجدلي فظفر ابن سهل منهم بنحو مائتين فقتلهم وأفلت
248

الباقون فرجعوا، فمات أكثرهم في الطريق.
وكتب المختار بخبرهم إلى ابن الحنفية يقول إني أرسلت إليك جيشا ليذلوا لك الأعداء ويحرزوا البلاد فلما قاربوا الطيبة فعل بهم كذا كذا فإن رأيت أن أبعث إلى المدينة جيشا كثيفا وتبعث إليهم من قبلك رجلا حتى يعلموا أني في طاعتك فافعل فإنك ستجدهم بحقكم أعرف وبكم أهل البيت أرأف منهم بآل الزبير والسلام.
فكتب إليه ابن الحنفية أما بعد فقد قرأت كتابك وعرفت تعظيمك لحقي وما تنوه به من سروري وإن أحب الأمور كلها إلى ما أطيع الله في فأطع الله ما استطعت وإني لو أردت القتال لوجدت الناس إلى سراعا والأعوان لي كثيرا ولكن أعتزلكم وأصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين وأمره بالكف عن الدماء.
ذكر حال ابن الحنفية مع ابن الزبير
ومسير الجيش من الكوفة
ثم أن ابن الزبير دعا محمد بن الحنفية ومن معه من أهل بيته وشيعته وسبعة عشر رجلا من وجوه أهل الكوفة منهم أبو الطفيل عامر بن وائلة له صحبة ليبايعوه فامتنعوا وقالوا لا نبايع حتى تجتمع الأمة فأكثر الوقيعة في ابن الحنفية وذمه فأغلظ له عبد الله بن هانئ الكندي وقال:
249

لئن لم يضرك إلا تركنا بيعتك لا يضرك شيء، وإن صاحبنا يقول: لو بايعتني الأمة كلها غير سعد مولى معاوية ما قبلته وإنما عرض بذكر سعد لأن ابن الزبير أرسل إليه فقتله فسبه عبد الله وسب أصحابه وأخرجهم من عنده فأخبروا ابن الحنفية بما كان منهم فأمرهم بالصبر ولم يلح عليهم ابن الزبير.
فلما استولى المختار على الكوفة وصارت الشيعة تدعو لابن الحنفية خاف ابن الزبير أن يتداعى الناس إلى الرضا به فألح عليه وعلى أصحابه في البيعة له فحبسهم بزمزم وتوعدهم بالقتل والإحراق وإعطاء الله عهدا إن لم يبايعوا أن ينفذ فيهم ما توعدهم به وضرب لهم في ذلك أجلا.
فأشار بعض من كان مع ابن الحنفية عليه أن يبعث إلى المختار يعلمه حالهم فكتب إلى المختار بذلك وطلب منه النجدة فقرأ المختار الكتاب على الناس وقال إن هذا مهديكم وصريح أهل بيت نبيكم قد تركوه ومن معه محصورا عليهم كما يحصر على الغنم ينتظرون القتل والتحريق في الليل والنهار لست أبا إسحاق إن لم أنصرهم نصرا مؤزرا وإن لم أسرب الخيل في أثر الخيل كالسيل يتلوه السيل حتى يحل بابن الكاهلية الويل!
يعني ابن الزبير، وذلك أن أم خويلد أبي العوام زهرة بنت عمرو من بني كاهل بن أسد بن خزيمة.
فبكى الناس وقالوا سرحنا إليه وعجل فوجه أبا عبد الله الجدلي في سبعين راكبا من أهل القوة ووجه ظبيان من عمارة أخا بني تميم ومعه أربعمائة وبعث معه لابن الحنفية أربعمائة ألف درهم وسير أبا المعمر في مائة وهانئ بن قيس في مائة وعمير بن طارق في أربعين ويونس بن
250

عمران في أربعين. فوصل أبو عبد الله الجدلي إلى ذات عرق فأقام بها حتى أتاه عمير ويونس في ثمانين راكبا
فبلغوا مائة وخمسين رجلا فسار بهم حتى دخلوا المسجد الحرام ومعهم الرايات وهم ينادون يا لثارات الحسين حتى انتهوا إلى زمزم وقد أعد ابن الزبير الحطب ليحرقهم وكان قد بقي من الأجل يومان فكسروا الباب ودخلوا على ابن الحنفية فقالوا خل بيننا وبين عدو الله ابن الزبير فقال لهم إني لا استحل القتال في الحرم فقال ابن الزبير واعجبا لهذه الخشبية ينعون الحسين كأني أنا قتلته والله لو قدرت على قتلته لقتلتهم.
وإنما قيل لهم خشبية لأنهم دخلوا مكة وبأيديهم الخشبة كراهة اشهار السيوف في الحرم وقيل لأنهم أخذوا الحطب الذي أعده ابن الزبير.
وقال ابن الزبير أتحسبون أني أخلي سبيلهم دون أن يبايع ويبايعوا؟ فقال الجدلي: أي ورب الركن والمقام لتخلين سبيله أو لنجالدنك بأسيافنا جدالا يرتاب منه المبطلون فكف ابن الحنفية أصحابه وحذرهم الفتنة.
ثم قدم باقي الجند ومعهم المال حتى دخلوا المسجد الحرام فكبروا وقالوا يا لثارات الحسين! فخافهم ابن الزبير، وخرج محمد بن الحنفية ومن معه إلى شعب علي وهم يسبون ابن الزبير ويستأذنون محمدا فيه فأبى عليهم فاجتمع مع محمد في الشعب أربعة آلاف رجل فقسم بينهم المال وعزوا وامتنعوا.
فلما قتل المختار تضعضعوا واحتاجوا. ثم إن البلاد استوثقت لابن الزبير
251

بعد قتل المختار، فأرسل إلى ابن الحنفية: ادخل في بيعتي وإلا نابذتك وكان رسوله عروة بن الزبير فقال ابن الحنفية بؤسا لأخيك ما ألجه فيما أسخط الله وأغفله عن ذات الله وقال لأصحابه إن ابن الزبير يريد أن يثور بنا وقد أذنت لمن أحب الانصراف عنا فإنه لا ذمام عليه منا ولا لوم فإني مقيم حتى يفتح الله بيني وبين ابن الزبير وهو خير الفاتحين.
فقام إليه أبو عبد الله الجدلي وغيره فأعلموه أنهم غير مفارقيه وبلغ خبره عبد الملك بن مروان فكتب إليه يعلمه أنه إن قدم عليه أحسن إليه وأنه ينزل إلى الشام إن أراد حتى يستقيم أمر الناس فخرج ابن الحنفية وأصحابه إلى الشام وخرج معه كثير عزة وهو يقول شعر:
(هديت يا مهدينا ابن المهتدي * أنت الذي نرضى به ونرتجي)
(أنت ابن خير الناس من بعد النبي * أنت إمام الحق لسنا نمتري)
(يا ابن علي سر ومن مثل علي)
فلما وصل مدين بلغه غدر عبد الملك بعمرو بن سعيد فندم على إتيانه وخافه فنزل أيلة وتحدث الناس بفضل محمد وكثرة عبادته وزهده وحسن هديه فلما بلغ ذلك عبد الملك ندم على إذنه له في قدومه بلده فكتب إليه أنه لا يكون في سلطاني من لم يبايعني فارتحل إلى مكة ونزل شعب أبي طالب فأرسل إليه ابن الزبير يأمره بالرحيل عنه وكتب إلى أخيه مصعب بن الزبير يأمره أن يسير نساء من مع ابن الحنفية فسير نساء منهن امرأة أبي الطفيل عامر بن واثلة فجاءت حتى قدمت عليه فقال الطفيل شعر:
(إن يك سيرها مصعب * فإني إلى مصعب متعب)
(أقود الكتيبة مستلئما * كأني أخو عزة أحرب)
وهي عدة أبيات.
252

وألح ابن الزبير على ابن الحنفية بالانتقال إلى مكة فاستأذنه أصحابه في قتال ابن الزبير فلم يأذن لهم وقال اللهم ألبس ابن الزبير لباس الذل والخوف وسلط عليه وعلى أشياعه من يسومهم الذي يسوم الناس.
ثم سار إلى الطائف فدخل ابن عباس على ابن الزبير وأغلظ له فجرى بينهما كلام كرهنا ذكره وخرج ابن عباس أيضا فلحق بالطائف ثم توفي فصلى عليه ابن الحنفية وكبر عليه أربعا وبقي ابن الحنفية حتى حصر الحجاج ابن الزبير فأقبل من الطائف فنزل الشعب فطلبه الحجاج ليبايع عبد الملك فامتنع حتى يجتمع الناس.
فلما قتل ابن الزبير كتب ابن الحنفية إلى عبد الملك يطلب منه الأمان له ولمن معه وبعث إليه الحجاج يأمره بالبيعة فأبى وقال قد كتبت إلى عبد الملك فإذا جاءني جوابه بايعت.
وكان عبد الملك كتب إلى الحجاج يوصيه بابن الحنفية، فتركه، فلما قدم رسول ابن الحنفية، وهو أبو عبد الله الجدلي ومعه كتاب عبد الملك بأمانة وبسط حقه وتعظيم أهله حضر عند الحجاج وبايع لعبد الملك بن مروان وقدم عليه الشام وطلب منه أن لا يجعل للحجاج عليه سبيلا فأزال حكم الحجاج عنه.
وقيل: أن ابن الزبير أرسل إلى ابن عباس وابن الحنفية أن يبايعا فقالا حتى يجتمع الناس على إمام ثم نبايع فإنك في فتنة فعظم الأمر بينهما وغضب من ذلك وحبس ابن الحنيفة في زمزم وضيق على ابن عباس في منزله وأراد إحراقهما فأرسل المختار جيشا كما تقدم فأزال عنهما ضرر ابن الزبير فلما قتل المختار قوي عليهما ابن الزبير.
253

وقال لا تجاوراني فخرجا إلى الطائف وأرسل ابن عباس ابنه عليا إلى عبد الملك بالشام وقال لأن يربني بنو عمي أحب إلي من أن يربني رجل من بني أسد يعني ببني عمه بني أمية لأنهم جميعهم من ولد عبد مناف ويعني برجل من بني أسد ابن الزبير فإنه من بني أسد بن عبد العزى بن قصي ولما وصل علي بن عبد الله بن عباس إلى عبد الملك سأله عن اسمه وكنيته فقال اسمي علي والكنية أبو الحسن فقال لا يجتمع هذا الاسم وهذه الكنية في عسكري أنت أبو محمد.
ولما وصل ابن عباس إلى الطائف توفي به وصلى عليه ابن الحنفية.
ذكر الفتنة بخراسان
في هذه السنة كان حصار عبد الله بن خازم من كان بخراسان من بني تميم بسبب قتلهم ابنه محمدا وقد تقدم ذكره فلما تفرقت بنو تميم بخراسان على ما تقدم أتى قصره قريبا عدة من فرسانهم ما بين السبعين إلى الثمانين فولوا أمرهم عثمان بن بشر بن المحتفز المازني ومعه شعبة بن ظهير النهشلي وورد بن الفلق العنبري وزهير بن ذؤيب العدوي وجيهان بن مشجعة الضبي والحجاج بن ناشب العدوي ورقية بن الحر في فرسان من تميم وشجعانهم فحاصرهم ابن خازم فكانوا يخرجون إليه فيقاتلونه ثم يرجعون إلى القصر.
254

فخرج ابن خازم يوما في ستة آلاف وخرج إليه أهل القصر فقال لهم عثمان بن بشر ارجعوا فلن تطيقوه فحلف زهير بن ذؤيب بالطلاق أنه لا يرجع حتى يتعرض صفوفهم فاستبطن نهرا قد يبس فلم يشعر به أصحاب عبد الله حتى حمل عليهم فحط أولهم على آخرهم واستدار وكر راجعا واتبعوه يصيحون به ولم يجسر أخد ينزل إليه حتى رجع إلى موضعه فحمل عليهم فأفرجوا له حتى رجع.
فقال ابن خازم لأصحابه إذا طاعنتم زهيرا فاجعلوا في رماحكم كلاليب ثم علقوها في سلاحه فخرج إليهم يوما فطاعنهم فاعلقوا فيه أربعة أرماح بالكلاليب فالتفت إليهم ليحمل عليهم فاضطربت أيديهم وخلوا رماحهم فعاد يجر أربعة أرماح حتى دخل القصر.
فأرسل ابن خازم إلى زهير يضمن له مائة ألف وميسان طعمة ليناصحه، فلم يجبه. فلما طال الحصار عيهم أرسلوا إلى ابن خازم ليمكنهم من الخروج ليتفرقوا فقال لا إلا على حكمي فأجابوا إلى ذلك فقال زهير ثكلتكم أمهاتكم والله ليقتلنكم عن آخركم وإن طبتم بالموت نفسا فموتوا إكراما اخرجوا ثم جميعا فإما أن تموتوا كراما وإما أن ينجو بعضكم ويهلك بعضكم وأيم الله لئن شددتم عليهم شدة صادقة ليفرجن لكم فإن شئتم كنت أمامكم وإن شئتم كنت خلفكم فأبوا عليه فقال سأريكم ثم خرج هو ورقية بن الحر وغلام تركي وابن ظهير فحملوا على القوم حملة منكرة فأفرجوا لهم فمضوا فأما زهير فرجع ونجا أصحابه.
فلما رجع زهير إلى من بالقصر قال: قد رأيتم، أطيعوني. قالوا: إنا
255

نضعف عن هذا ونطمع في الحياة. لا أكون أعجزكم عند الموت فنزلوا على حكم ابن خازم فأرسل إليهم فقيدهم وحملوا إليه رجلا رجلا فأراد أن يمن عليهم فأبى عليه ابنه موسى وقال له إن عفوت عنهم قتلت نفسي فقتلتهم إلا ثلاثة أحدهم الحجاج بن ناشب فشفع فيه بعض من معه فأطلقه والآخر جيهان بن مشجعة الضبي الذي ألقى نفسه على محمد بن عبد الله كما تقدم والآخر رجل من بني سعد من تميم وهو الذي رد الناس عن ابن خازم يوم لحقوه وقال انصرفوا عن فارس مضر.
وقال: ولما أرادوا حمل زهير بن ذؤيب وهو مقيد أبى واعتمد على رمحه فوثب الخندق، ثم أقبل إلى ابن خازم يحجل في قيوده فجلس بين يديه فقال له ابن خازم كيف شكرك إن أطلقتك وأطعمتك ميسان قال لو لم تصنع بي إلا حقن دمي لشكرتك فلم يمكنه ابنه موسى من إطلاقه فقال له أبوه ويحك نقتل مثل زهير من لقتال عدو
المسلمين من لحمي نساء العرب فقال والله لو شركت في دم أخي لقتلتك فأمر بقتله فقال زهير إن لي حاجة لا تقتلني ويخاط دمي بدماء هؤلاء اللئام فقد نهيتهم عما صنعوا وأمرتهم أن يموتوا كراما ويخرجوا عليكم مصلتين وأيم الله لو فعلوا لذعروا بنيك هذا وشغلوه بنفسه عن طلب ثأر أخيه فأبوا ولو فعلوا ما قتل منهم رجل حتى يقتل رجالا فأمر به ابن خازم فقتل ناحية.
فلما بلغ الحريش قتلهم قال:
(أعاذل إني لم ألم في قتالهم * وقد عض سيفي كبشهم ثم صمما)
256

(أعاذل ما وليت حتى تبددت * رجال وحتى لم أجد متقدما)
(أعاذل أفناني السلاح ومن يطل * مقارعة الأبطال يرجع مكلما)
(أعيني إن أنزفتما الدمع فاسكبا * دما لازما لي دون أن تنكفا دما)
(أبعد زهير وابن بشر متابعا * وورد أرجي في خراسان مغنما)
(أعاذل كم من يوم حرب شهدته * أكر إذا ما فارس السوء أحجما)
يعني زهير بن ذؤيب وابن بشر هو عثمان وورد بن الفلق.
ذكر مسيرة ابن الأشتر إلى قتال ابن زياد
وفي هذه السنة لثمان بقين من ذي الحجة سار إبراهيم بن الأشتر لقتال عبيد الله بن زياد وكان مسيره بعد فراغ المختار من وقعه السبيع بيومين وأخرج المختار معه فرسان أصحابه ووجوههم وأهل البصائر منهم ممن له تجربة وخرج معه المختار يشيعه فلما بلغ دير عبد الرحمن بن أم الحكم لقيه أصحاب المختار معهم الكرسي يحملونه على بغل أشهب وهم يدعون الله له بالنصر ويستنصرونه وكان سادن الكرسي حوشب البرسمي فلما رآهم المختار قال:
257

(أما ورب المرسلات عرفا * ليقتلن بعد صف صفا)
(وبعد ألف قاسطين ألفا)
ثم ودعه المختار وقال له خذ عني ثلاثا خف الله عز وجل في سر أمرك وعلانيتك وعجل السير وإذا لقيت عدوك فناجزهم ساعة تلقاهم.
ورجع المختار وسار إبراهيم فانتهى إلى أصحاب الكرسي وهم عكوف عليه قد رفعوا أيديهم إلى السماء يدعون الله تعالى فقال إبراهيم اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا هذه سنة بني إسرائيل والذي نفسي بيده إذ عكفوا على عجلهم ثم رجعوا وسار إلى قصده.
ذكر حال الكرسي الذي كان المختار يستنصر به
قال الطفيل بن جعدة بن هبيرة أضقنا إضافة شديدة فخرجت يوما فإذا جار لي زيات عنده كرسي ركبه الوسخ فقلت في نفسي لو قلت للمختار في هذا شيئا فأخذته من الزيات وغسلته فخرج عود نضار قد شرب الدهن وهو يبض قال فقلت للمختار: إني كنت أكتمك شيئا وقد بدا لي أن أذكره لك ان أبي جعدة كان يجلس على كرسي عندنا ويروى أن فيه أثرا من علي قال سبحان الله أخرته إلى هذا الوقت ابعث به فأحضرته عنده وقد غشي فأمر لي باثني عشر ألفا ثم دعا الصلاة جامعة فاجتمع الناس فقال المختار:
258

إنه لم يكن في الأمم الخالية أمر إلا وهو كائن في هذه الأمة مثله وإنه كان في بني إسرائيل التابوت وإن هذا فينا مثل التابوت فكشفوا عنه وقامت السبئية فكبروا.
ثم لم يلبثوا أن أرسل المختار الجند لقتال ابن زياد وخرج بالكرسي على بغل وقد غشي فقتل أهل الشام مقتلة عظيمة فزادهم ذلك تعيبه.
وقيل: إن المختار قال لآل جعدة بن هبيرة وكانت أم جعدة أم هانئ أخت علي بن أبي طالب لأبويه ائتوني بكرسي علي فقالوا والله ما هو عندنا فقال لا تكونن حمقى اذهبوا فأتوني به قال فظنوا أنهم لا يأتونه بكرسي إلا قال هذا هو وقبله منهم فأتوه بكرسي وقبضه منهم وخرجت شبام وشاكر ورؤوس أصحاب المختار وقد جعلوا عليه الحرير وكانا أول من سدنه موسى بن أبي موسى الأشعري كان يلم بالمختار لأن أمه أم كلثوم بنت الفضل بن العباس فعتب الناس على موسى فتركه وسدنه خوشب البرسمي حتى هلك المختار وقال أعشى همدان في ذلك، شعر:
(شهدت عليكم أنكم سبئية * وإني بكم يا شرطة الشرك عارف)
(فأقسم ما كرسيكم بسكينة * وإن كان قد لفت عليه اللفائف)
(وأن ليس كالتابوت فينا وإن سعت * شبام حواليه ونهد وخارف)
(وإني امرؤ أحببت آل محمد * وتابعت وحيا ضمنته المصاحف)
259

(وبايعت عبد الله لما تتابعت * عليه قريش شمطها والغطارف)
وقال المتوكل الليثي:
(أبلغ أبا إسحاق إن جئته * أني بكرسيكم كافر)
(تروا شبام حول أعواده * وتحمل الوحي له شاكر)
(محمرة أعينهم حوله * كأنهن الحامض الخازر)
ذكر عدة حوادث
وحج بالناس في هذه السنة عبد اله بن الزبير وكان على المدينة مصعب بن الزبير عاملا لأخيه عبد الله وعلى البصرة عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي لابن الزبير أيضا وكان بالكوفة المختار متغلبا عليها وبخراسان عبد الله بن خازم.
وفي هذه السنة توفي أسماء بن حارثة الأسلمي وله صحبة وهو من أصحاب الصفة وقيل بل مات بالبصرة في إمارة ابن زياد وتوفي جابر بن سمرة وهو ابن أخت سعد بن أبي وقاص وقيل مات في إمارة بشر بن هارون وتوفي أسماء بن خارجة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري سيد قومه.
(حارثة بالحاء المهملة والتاء المثلثة).
260

67
ثم دخلت سنة سبع وستين
ذكر مقتل ابن زياد
ولما سار إبراهيم بن الأشتر من الكوفة أسرع السير ليلقوا ابن زياد قبل أن يدخل أرض العراق وكان ابن زياد قد سار في عسكر عظيم من الشام فبلغ الموصل وملكها كما ذكرناه أولا فسار إبراهيم وخلف أرض العراق وأوغل في أرض الموصل وجعل على مقدمته الطفيل بن لقيط النخعي وكان شجاعا فما دنا من ابن زياد عبأ أصحابه ولم يسر إلا على تعبية واجتماع إلا أنه يبعث الطفيل على الطلائع حتى يبلغ نهر الخازر من بلاد الموصل فنزل بقرية بارشيا وأقبل ابن زياد إليه حتى نزل قريبا منهم على شاطئ الخازر.
وأرسل عمير بن الحباب السلمي وهو من أصحاب ابن زياد إلى ابن الأشتر أن القني، وكانت قيس كلها مضطغنة على ابن مروان من وقعة مرج راهط وجند عبد الملك يومئذ كلب فاجتمع عمير وابن الأشتر فأخبره عمير أنه على مسيرة ابن زياد وواعده أن ينهزم بالناس فقال له ابن الأشتر ما رأيك أخندق علي وأتوقف يومين أو ثلاثة فقال عمير لا تفعل وهل يريدون إلا هذا فإن المطاولة خير لهم هم كثير أضعافكم وليس يطيق القليل الكثير في المطاولة ولكن ناجز القوم فإنهم قد ملئوا منكم رعبا وإن هم شاموا أصحابك وقاتلوهم يوما بعد يوم ومرة بعد مرة أنسوا بهم واجترأوا
261

عليهم فقال إبراهيم الآن علمت أنك لي مناصح وبهذا أوصاني صاحبي قال عمير أطعه فإن الشيخ قد ضرسته الحرب وقاسى منها ما لم يقاسه أحد وإذا أصبحت فناهضهم.
وعاد عمير إلى أصحابه وأذكى ابن الأشتر ضرسه ولم يدخل عينه غمض حتى إذا كان السر الأول عبأ أصحابه وكتب كتائبه وأمر أمراءه فجعل سفيان ين يزيد الأزدي على ميمنته وعلي بن مالك الجشمي على مسيرته وهو أخو أبي الأحوص وجعل عند الرحمن بن عبد الله وهو أخو إبراهيم بن الأشتر لامه على الخيل وكانت خيله قليلة
وجعل الطفيل بن لقيط على الرجالة وكانت رايته مع مزاحم بن مالك فلما انفجر الفجر صلى الصبح بغلس ثم خرج فصف أصحابه وألحق كل أمير بمكانه ونزل إبراهيم يمشي ويحرض الناس ويمنيهم الظفر وسار بهم رويدا فأشرف على تل عظيم مشرف على القوم فجلس عليه وإذ أولئك القوم لم يتحرك منهم أحد فأرسل عبد الله بن زهير السلولي ليأتيه بخبر القوم فعاد إليه وقال له قد خرج القوم على دهش وفشل لقيني رجل منهم وليس له كلام ألا يا شيعة أبي تراب يا شيعة المختار الكذاب قال فقلت له الذي بيننا أجل من الشتم.
وركب إبراهيم وسار على الرايات يحثهم ويذكر لهم فعل ابن زياد بالحسين وأصحابه وأهل بيته من السبي والقتل ومنع الماء وحرضهم على قتله.
وتقدم القوم إليه وقد جعل ابن زياد على ميمنته والحصين بن نمير السكوني وعلى ميسرته عمير بن الحباب السلمي وعلى الخيل شرحبيل بن ذي الكلاع الحميري فلما تدانى الصفان حمل الحصين بن نمير في ميمنة أهل الشام على ميسرة إبراهيم فثبت له علي بن مالك الجشمي فقتل،
262

ثم أخذ رايته قرة بن علي فقتل في رجال من أهل البأس وانهزمت الميسرة فأخذ الراية عبد الله بن ورقاء بن جنادة السلولي ابن أخي حبشي بن جنادة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستقبل المنهزمين فقال إلي يا شرطة الله فأقبل إليه أكثرهم فقال هذا أميركم يقاتل ابن زياد ارجعوا بنا إليه فرجعوا وإذا إبراهيم كاشف رأسه ينادي إلى شرطة الله أنا ابن الأشتر إن خير فراركم كراركم ليس مسيئا من أعتب فرجع إليه أصحابه وحملت ميمنة إبراهيم على ميسرة ابن زياد وهم يرجون أن ينهزم عمير بن الحباب كما زعم فقاتلهم عمير قتالا شديدا وأنف من الفرار فلما رأى ذلك إبراهيم قال لأصحابه اقصدوا هذا السواد الأعظم فوالله لئن هزمناه لا نجفل من ترون يمنة ويسرة انجفال طير ذعرت فمشى أصحابه إليهم فتطاعنوا ثم صاروا إلى السيوف والعمد فاضربوا بها مليا وكان صوت الضرب بالحديد كصوت القصارين وكان إبراهيم يقول لصاحب رايته انغمس برايتك فيهم فيقول ليس لي متقدم فيقول بلى فإذا تقدم شد إبراهيم بسيفه فلا يضرب [به] رجلا إلا صرعه وكر إبراهيم والرجالة [من] بين يديه كأنهم الحملان، وحمل أصحابه حملة رجل واحد واشتد القتال فانهزم أصحاب ابن زياد وقتل من الفريقين قتلى كثيرة.
وقيل إن عمير بن الحباب أول من انهزم وإنما كان قتاله أولا تعذيرا.
263

فلما انهزموا قال إبراهيم: إني قد قتلت رجلا تحت راية منفردة على شاطئ نهر الخازر فالتمسوه فإني شممت منه رائحة المسك شرقت يداه وغربت رجلاه فالتمسوه فإذا هو ابن زياد قتيلا بضربة إبراهيم فقد قدته بنصفين وسقط كما ذكر إبراهيم فأخذ رأسه أحرقت جثته.
وحمل شريك بن جدير التغلبي على الحصين بن نمير السكوني وهو يظنه عبيد الله بن زياد فاعتنق كل واحد منهما صاحبه فنادى التغلبي اقتلوني وابن الزانية! فقتلوا الحصين.
وقيل: إن الذي قتل ابن زياد شريك بن جدير وكان هذا شريك شهد صفين مع علي وأصيبت عينه فلما انقضت أيام علي لحق شريك ببيت المقدس فأقام به فلما قتل الحسين عاهد الله تعالى إن ظهر من يطلب بدمه ليقتلن ابن زياد أو ليموتن دونه فلما ظهر المختار للطلب بثأر الحسين أقبل إليه وسار مع إبراهيم بن الأشتر فلما التقوا حمل على خيل الشام يهتكها صفا صفا مع أصحابه من ربيعة حتى وصلوا إلى ابن زياد وثار الرهج فلا تسمع إلا وقع الحديد فانفجر عن الناس وهما قتيلان شريك وابن زياد والأول أصح وشريك هو القائل:
(كل عيش قد أراه باطلا * غير ركز الرمح في ظل الفرس)
قال وقتل شرحبيل بن ذي الكلاع الحميري وادعى قتله سفيان بن يزيد الأزدي وورقاء بن عازب الأسدي وعبيد الله بن زهير السلمي وكان عيينة بن أسماء مع ابن زياد فلما انهزم أصحابه حمل أخته هند بنت أسماء وكانت زوجة عبيد الله بن زياد فذهب بها وهو يرتجز:
264

(ان تصرمي حبا لنا فربما * أرديت في الهيجا الكمي المعلما)
ولما انهزم أصحاب ابن زياد تبعهم أصحاب إبراهيم فكان من غرق أكثر ممن قتل وأصابوا عسكرهم وفيه من كل شيء.
وأرسل إبراهيم البشارة إلى المختار وهو بالمدائن وأنفذ إبراهيم عماله إلى البلاد فبعث أخاه عبد الرحمن بن عبد الله إلى نصيبين وغلب على سنجار ودار وما والاها من أرض الجزيرة فولى زفر بن الحرث قرقيسيا وحاتم بن النعمان الباهلي حران والرها وسميساط وناحيتها وولى عمير بن الحباب السلمي كفرتوثا وطور عبدين.
وأقام إبراهيم بالموصل، وأنفذ رأس عبيد الله بن زياد إلى المختار ومعه رؤوس قواده فألقيت في القصر فجاءت حية دقيقة فتخللت الرؤوس حتى دخلت في فم عبيد الله بن زياد ثم خرجت من منخره ودخلت منخره وخرجت من فيه فعلت هذا مرارا أخرج هذا الترمذي في جامعه.
وقال المغيرة أول من ضرب الزيوف في الإسلام عبيد الله بن زياد وقال بعض حجاب بن زياد دخلت معه القصر حين قتل الحسين فاضطرم في وجهه نارا فقال بكمه هذا على وجهه وقال لا تحدثن بهذا أحدا.
وقال المغيرة قالت مرجانة لابنها عبيد الله بعد قتل الحسين يا خبيث قتلت ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ترى الجنة أبدا وقال ابن مفرغ حين قتل ابن زياد:
(إن المنايا إذا ما زرن طاغية * هتكن أستار حجاب وأبواب)
265

(أقول بعدا وسحقا عند مصرعه * لابن الخبيثة وابن الكودن الكابي)
(لا أنت زوحمت عن ملك فتمنعه * ولا متت إلى قوم بأسباب)
(لا من نزار ولا من جذم ذي يمن * جلمود ذا ألقيت من بين ألهاب)
(لا تقبل الأرض موتاهم إذا قبروا * وكيف تقبل رجسا بين أثواب) وقال سراقة البارقي يمدح إبراهيم بن الأشتر:
(أتاكم غلام من عرانين مذحج * جرئ على الأعداء غير نكول)
(فيا ابن زياد بؤ بأعظم هالك * وذق حد ماضي الشفرتين صقيل)
(جزى الله خيرا شرطة الله إنهم * شفوا من عبيد الله أمس غليلي) وقال عمير بن الحباب السلمي يذم جيش ابن زياد:
(وما كان جيش يجمع الخمر والزنا * محلا إذا لاقى العدو لينصرا)
ذكر ولاية مصعب بن الزبير البصرة
وفي هذه السنة عزل عبد الله بن الزبير الحرث بن أبي ربيعة وهو القباع عن البصرة واستعمل عليها أخاه مصعبا فقدمها مصعب متلثما ودخل المسجد وصعد المنبر فقال الناس أمير أمير وجاء الحرث بن أبي ربيعة وهو الأمير فسفر مصعب لثامه فعرفوه وأمر مصعب الحرث بالصعود إليه
266

فأجلسه تحته بدرجة ثم قام مصعب فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
بسم الله الرحمن الرحيم (طسم تلك آيات الكتاب المبين نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون إلى قوله من المفسدين) فأشار بيده نحو الشام (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين) وأشار نحو الحجاز (ونري فرعون وهامان وجنودهما ما كانوا يحذرون) وأشار نحو الكوفة وقال يا أهل البصرة بلغني أنكم تلقبون أمرائكم وقد لقبت نفسي بالجزار.
ذكر مسير مصعب إلى المختار وقتل المختار
ولما هرب أشراف الكوفة من وقعة السبيع أتى جماعة منهم إلى مصعب فأتاه شبث بن ربعي على بغلة قد قطع ذنبها وطرف أذنها وشق قباءه وهو ينادي يا غوثاه فرفع خبره إلى مصعب فقال هذا شبث بن ربعي فادخل عليه فأتاه أشراف الكوفة فدخلوا عليه وأخبروه بما اجتمعوا عليه وسألوه النصر لهم والمسير إلى المختار معهم.
وقدم عليه محمد بن الأشعث أيضا واستحثه على المسير فأدناه مصعب وأكرمه لشرفه وقال لأهل الكوفة حين أكثروا عليه لا أسير حتى يأتيني المهلب بن أبي صفرة وكتب إليه وهو عامله على فارس يستدعيه ليشهد معهم قتال المختار فأبطأ المهلب واعتل بشئ من الخراج لكراهية الخروج، فأمر
267

مصعب محمد بن الأشعث أن يأتي المهلب يستحثه فأتاه محمد ومعه كتاب مصعب فلما قرأه قال له أما وجد
مصعب بريدا غيرك؟ فقال: ما أنا بريد لأحد غير أن نساءنا وأبناءنا وحرمنا غلبتنا عليهم عبيدنا.
فأقبل المهلب معه بجموع كثيرة وأموال عظيمة فقدم البصرة وأمر مصعب بالعسكر عند الجسر الأكبر وأرسل عبد الرحمن بن مخنف إلى الكوفة فأمره أن يخرج إليه من قدر عليه وأن يثبط الناس عن المختار ويدعوهم إلى بيعة ابن الزبير سرا ففعل ودخل بيته مستترا، ثم سار مصعب فقدم أمامه عباد بن الحصين الحطمي وبعث عمر بن عبيد الله بن معمر على ميمنته والمهلب على ميسرته وجعل مالك بن مسمع على بكر ومالك بن المنذر على عبد القيس والأحنف بن قيس على تميم وزياد بن عمرو العتكي على الأزد وقيس بن الهيثم على أهل العالية.
وبلغ الخبر المختار فقام في أصحابه فأعلمهم ذلك وندبهم إلى الخروج مع أحمر بن شميط فخرج وعسكر بحمام أعين ودعا المختار رؤوس الأرباع الذين كانوا مع ابن الأشتر فبعثهم مع أحمر بن شميط فسار وعلى مقدمته ابن كامل الشاكري فوصلوا إلى المذار وأتى مصعب فعسكر قريبا منه وعبأ كل واحد منهما جنده ثم تزاحفا فجعل ابن شميط ابن كامل على ميمنته وعلى الميسرة عبد الله بن وهيب الجشمي وجعل أبا عمرة مولى عرينة على الموالي.
فجاء عبد الله بن وهيب الجشمي إلى ابن شميط فقال له إن الموالي والعبيد أولو فجور عند المصدوقة وإن معهم رجالا كثيرا على الخيل وأنت تمشي فمرهم فليمشوا معك فإني أتخوف أن يطيروا عليها ويسلموك. وكان
268

هذا غشا منه للموالي لما كان لقي منهم بالكوفة فأحب عن كانت عليهم الهزيمة أن لا ينجو منهم أحد فلم يتهمه ابن شميط ففعل ما أشار به فنزل الموالي معه.
وجاء مصعب وقد جعل عباد بن الحصين على الخيل فدنا عباد من أحمر وأصحابه وفال إنا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة رسوله والى بيعة المختار وإلى أن نجعل هذا الأمر شورى في آل الرسول. فرجع عباد فأخبر مصعبا، فقال له: ارجع فاحمل عليهم فرجع وحمل على ابن شميط وأصحابه فلم ينزل منهم أحد ثم انصرف إلى موقفه وحمل المهلب على ابن كامل فجال بعضهم في بعض فنزل ابن كامل فانصرف عنه المهلب ثم قال المهلب لأصحابه كروا عليهم كرة صادقة فحملوا عليهم حملة منكرة فولوا وصبر ابن كامل في رجال من همدان ساعة ثم انهزم وحمل عمر بن عبيد الله على عبد الله بن أنس فصبر ساعة ثم انصرف وحمل الناس جميعا على ابن شميط فقاتل حتى قتل وتنادوا يا معشر بجيلة وخثعم الصبر فناداهم المهلب الفرار اليوم أنجى لكم علام تقتلون أنفسكم مع هذه العبيد ثم قال والله ما أرى كثرة القتل اليوم إلا في قومي.
ومالت الخيل على رجالة ابن شميط فانهزمت وبعث مصعب عبادا على الخيل فقال أيما أسير اخذته فاضرب عنقه وسرح محمد بن الأشعث في خيل عظيمة من أهل الكوفة فقال دونكم ثأركم فكانوا أشد على المنهزمين من أهل البصرة لا يدركون منهزما إلا قتلوه ولا يأخذون أسيرا فيعفون عنه فلم ينج من ذلك الجيش إلا طائفة أصحاب الخيل وأما الرجالة فأبيدوا إلا قليلا.
قال معاوية بن قرة المزني انتهيت إلى رجل منهم فأدخلت السنان في عينه
269

فأخذت أخضخض عينه به فقيل له أفعلت هذا فقال نعم إنهم كانوا عندنا أحل دماء من الترك والديلم وكان معاوية هذا قاضي البصرة.
فلما فرغ مصعب منهم أقبل حتى قطع من تلقاء واسط ولم تكن بنيت بعد فأخذ في كسكر ثم حمل الرجال أثقالهم والضعفاء في السفن فأخذوا في نهر خرشاد ثم خرجوا إلى نهر قوسان ثم خرجوا إلى الفرات.
وأتى المختار خبر الهزيمة ومن قتل بها من فرسان أصحابه فقال ما من الموت بد وما من ميتة أموتها أحب إلي من أن أموت ميتة ابن شميط فعلموا أنه إن لم يبلغ ما يريد يقاتل حتى يقتل.
ولما بلغه أن مصعبا قد أقبل إليه في البر والبحر سار حتى وصل السلحين ونظر إلى مجتمع الأنهار نهر الحيرة ونهر السيلحين ونهر القادسية ونهر رسف فسكر الفرات فذهب ماؤها في هذه الأنهار وبقيت سفن أهل البصرة في الطين فلما رأوا ذلك خرجوا من السفن إلى ذلك السكر فأصلحوه وقصدوا الكوفة وسار المختار إليهم فنزل حروراء وحال بينهم وبين الكوفة وكان قد حصن القصر والمسجد وأدخل إليه عدة الحصار.
وأقبل مصعب وقد خلع على ميمنته المهلب وعلى مسيرته عمر بن عبيد الله وعلى الخيل عباد بن الحصين وجعل المختار على ميمنته سليم بن يزيد الكندي وعلى ميسرته سعيد بن منقذ الهمداني وعلى الخيل عمرو بن عبد الله النهدي وعلى الرجالة مالك بن عبد الله النهدي. وأقبل محمد بن الأشعث فيمن هرب من أهل الكوفة فنزل بين مصعب والمختار فلما رأى ذلك المختار بعث إلى كل جيش من أهل البصرة رجلا من أصحابه وتدانى الناس فحمل سعيد بن
270

منقذ على بكر وعبد القيس وهم في ميمنة مصعب فاقتتلوا قتالا شديدا فأرسل مصعب إلى المهلب ليحمل على من بإزائه فقال ما كنت لأجزر الأزد خشية أهل الكوفة حتى أرى فرصتي.
وبعث المختار إلى عبد الله بن جعدة بن هبيرة المخزومي فحمل على من بإزائه وهم أهل العالية فكشفهم فانتهوا إلى مصعب فجثا مصعب على ركبته وبرك الناس عنده فقاتلوا ساعة وتحاجزوا.
ثم ان المهلب حمل في أصحابه على من بإزائه فحطموا أصحاب المختار حطمة منكرة فكشفوهم. وقال عبد الله بن عمرو النهدي وكان ممن شهد صفين اللهم إني على ما كنت عليه بصفين اللهم أبرأ إليك من فعل هؤلاء لأصحابه [حين انهزموا]، وأبرأ إليك من أنفس هؤلاء يعني أصحاب مصعب ثم جالد بسيفه حتى قتل.
وانقضت أصحاب المختار كأنهم أجمة قصب فيها نار وحمل مالك بن عبد الله النهدي وهو على الرجالة ومعه نحو خمسين رجلا وذلك عند المساء على أصحاب ابن الأشعث حملة منكرة فقتل ابن الأشعث وقتل عامة أصحابه.
وقاتل المختار على فم سكة شبث عامة ليلته وقاتل معه رجال من أهل الأمير اذهب إلى القصر فجاء حتى دخله فقال له بعض أصحابه ألم تكن وعدتنا الظفر وأنا سنهزمهم فقال أما قرأت في كتاب الله تعالى (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) فقيل: إن
271

المختار أول من قال بالبداء.
فلما أصبح مصعب أقبل يسير فيمن معه نحو السبخة فمر بالمهلب فقال له المهلب يا له فتحا ما أهناه لو لم يقتل محمد بن الأشعث قال صدقت ثم قال مصعب للمهلب إن عبيد الله بن علي بن أبي طالب قد قتل فاسترجع المهلب فقال مصعب قد كنت أحب أن يشهد هذا الفتح أتدري من قتله؟ إنما قتله من يزعم أنه شيعة لأبيه.
ثم نزل السبخة فقطع عنهم الماء والمادة وقاتلهم المختار وأصحابه قتالا ضعيفا واجترأ الناس عليهم فكانوا إذا خرجوا رماهم الناس من فوق البيوت وصبوا عليهم الماء القذر وكان أكثر معاشهم من النساء تأتي المرأة متخفية ومعها القليل من الطعام والشراب إلى أهلها ففطن مصعب بالنساء فمنعهن فاشتد على المختار وأصحابه العطش وكانوا يشربون ماء البئر يعملون فيه العسل فكان ذلك ما يروي بعضهم.
ثم إن مصعبا أمر أصحابه فاقتربوا من القصر واشتد الحصار عليهم فقال لهم المختار ويلكم إن الحصار لا يزيدكم إلا ضعفا فانزلوا بنا فنقاتل حتى نقتل كراما إن نحن قتلنا فوالله ما أنا بآيس إن صدقتموهم إن ينصركم الله فضعفوا ولم يفعلوا فقال لهم أما أنا فوالله لا أعطي بيدي ولا أحكمهم في نفسي وإذا خرجت فقتلت لم تزدادوا إلا ضعفا وذلا فإن نزلتم على حكمهم وثبت أعداؤكم فقتلوكم وبعضكم ينظر إلى بعض فتقولون يا ليتنا أطعنا المختار ولو أنكم خرجتم معي كنتم إن أخطأتم الظفر متم كراما.
فلما رأى عبد الله بن جعدة بن هبيرة ما عزم عليه المختار تدلى من القصر فلحق بناس من إخوانه فاختفى عندهم سرا ثم إن المختار تطيب وتحنط
272

وخرج من القصر في تسعة عشر رجلا منهم السائب بن مالك الأشعري وكانت تحته عمرة بنت أبي موسى الأشعري فولدت له غلاما اسمه محمد فلما أخذ القصر وجد صبيا فتركوه.
فلما خرج المختار قال للسائب ماذا ترى قال ما ترى أنت قال ويحك يا أحمق إنما أنا رجل من العرب رأيت ابن الزبير قد وثب بالحجاز ورأيت ابن نجدة وثب باليمامة ومروان بالشام وكنت فيها كأحدهم إلا أني قد طلبت بثأر أهل البيت إذ نامت عنه العرب فقاتل على حسبك إن لم يكن لك نية فقال إنا لله وإنا إليه راجعون ما كنت أصنع أن أقاتل على حسبي. ثم تقدم المختار فقاتل حتى قتل قتله رجلان من بني حنيفة أخوان أحدهما طرفة والآخر
طراف ابنا عبد الله بن دجاجة.
فلما كان الغد من قتله دعاهم بحير بن عبد الله المسكي ومن معه بالقصر إلى ما دعاهم المختار فأبوا عليه وأمكنوا أصحاب مصعب من أنفسهم ونزلوا على حكمه فأخرجوهم مكتفين فأراد اطلاق العرب وقتل الموالي فأبى أصحابه عليه فعرضوا عليه فأمر بقتلهم وعرض عليه بحير المسكي فقال لمصعب الحمد لله الذي ابتلانا بالأسر وابتلاك بأن تعفوا عنا هما منزلتان إحداهما رضا رضا الله والأخرى سخطه من عفا عفا الله عن وزاده عزا ومن عاقب لم يأمن القصاص يا بن الزبير نحن أهل قبلتكم وعلى ملتكم ولسنا تركا ولا ديلما فإنما خلفنا إخواننا من أهل مصرنا فإما إن يكن أصبنا أو أخطأنا فاقتتلنا بيننا كما اقتتل أهل الشام بينهم ثم اجتمعوا وكما اقتتل أهل البصرة واصطلحوا
273

واجتمعوا، وقد ملكتم فاسجحوا وقد قدرتم فاعفوا فما زال بهذا القول حتى رق لهم الناس ومصعب وأراد أن يخلي سبيلهم.
فقام عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فقال أتخلي سبيلهم اخترنا أو اخترهم وقام محمد بن عبد الرحمن بن سعيد الهمداني فقال مثله وقام أشراف الكوفة فقالوا مثلهما فأمر بقتلهم فقالوا له يا ابن الزبير لا تقتلنا واجعلنا على مقدمتك إلى أهل الشام غدا فما بكم عنا غنى فإن قتلنا لم نقتل حتى نضعفهم لكم وان ظفرنا بهم كان ذلك لكم فأبى عليهم فقال بحير المسكي لا تخلط دمي بدمائهم إذ عصوني. فقتلهم.
وقال مسافر بن سعيد بن نمران الناعطي ما تقول يا ابن الزبير لربك غدا وقد قتلت أمة من المسلمين حكموك في أنفسهم صبرا اقتلوا من بعدة من قتلنا منكم ففينا رجال لم يشهدوا موطنا من حربنا يوما واحدا كانوا في السواد وجبانة الخراج وحفظ الطرق فلم يسمع منه وأمر بقتله.
ولما أراد قتلهم استشار مصعب الأحنف بن قيس فقال أرى إن تعفو فإن العفو أقرب للتقوى فقال أشراف أهل الكوفة اقتلهم وضجوا فقتلهم فلما قتلوا قال الأحنف ما أدركتم بقتلهم ثارا فليته لا يكون في الآخرة وبالا.
وبعثت عائشة بنت طلحة امرأة مصعب إليه في اطلاقهم فوجدهم الرسول قد قتلوا.
274

وأمر مصعب بكف المختار بن أبي عبيدة فقطعت وسمرت بمسمار إلى جانب المسجد فبقيت حتى قدم الحجاج فنظر إليها وسأل عنها فقيل هذا كف المختار فأمر بنزعها.
وبعث مصعب عماله على الجبال والسواد وكتب إلى إبراهيم بن الأشتر يدعوه إلى طاعته ويقول له إن أطعتني فلك الشام وأعنة الخيل وما غلبت عليه من أرض المغرب ما دام لآل الزبير سلطان وأعطاه عهد الله على ذلك وكتب عبد الملك بن مروان إلى ابن الأشتر يدعوه إلى طاعته ويقول إن أنت أجبتني فلك العراق فاستشار إبراهيم أصحابه فاختلفوا فقال إبراهيم لو لم أكن أصبت ابن زياد وأشراف الشام لأجبت عبد الملك مع أني لا أختار على أهل مصري وعشيرتي غيرهم فكتب إلى مصعب بالدخول معه فكتب إليه مصعب أن أقبل فأقبل إليه بالطاعة، فلما بلغ مصعبا إقباله إليه بعث المهلب على عمله بالموصل والجزيرة وأرمينية وأذربيجان.
ثم إن مصعبا دعا أم ثابت بنت سمرة بن جندب امرأة المختار وعمرة بنت النعمان بن بشير الأنصارية امرأته الأخرى فأحضرهما وسألهما عن المختار فقالت أم ثابت نقول فيه قولك أنت فأطلقها وقالت عمرة رحمة الله كان عبدا الله صالحا فحبسها وكتب إلى أخيه عبد الله بن الزبير أنها تزعم أنه نبي فأمر بقتلها فقتلت ليلا بين الكوفة والحيرة قتلها بعض الشرط ضربها ثلاثة ضربات بالسيف وهي تقول يا أبتاه يا عثرتاه فرفع رجل يده فلطم القاتل وقال يا ابن الزانية عذبتها ثم تشحطت فماتت فتعلق الشرطي بالرجل وحمله إلى مصعب فقال خلوه فقد رأى أمرا فظيعا فقال عمر بن ربيعة المخزومي في ذلك:
(أن من عجب العجائب عندي * قتل بيضاء حرة عطبول)
275

(قتلت هكذا على غير جرم * إن لله درها من قتيل)
(كتب القتل والقتال علينا * وعلى المحصنات جر الذيول)
وقال سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت الأنصاري في ذلك أيضا:
(أتى راكب بالأمر ذي النبأ العجب * بقتل ابنة النعمان ذي الدين والحسب)
(بقتل فتاة ذات دل ستيرة * مهذبة الأخلاق والخيم والنسب)
(مطهرة من نسل قوم أكارم * من المؤثرين الخير في سالف الحقب)
(خليل النبي المصطفى ونصيره * وصاحبه في الحرب والضرب والكرب)
(أتاني بأن الملحدين تواقفوا * على قتلها لا أحسنوا القتل والسلب)
(فلا هنأت آل الزبير معيشة * وذاقوا لباس الذل والخوف والحرب)
(كأنهم إذ أبرزوها وقطعت * بأسيافهم فازوا بمملكة العرب)
(ألم تعجب الأقوام من قتل حرة * من المحصنات الدين محمودة الأدب)
(من الغافلات المؤمنات بريئة * من الذم والبهتان والشك والكذب)
(علينا ديات القتل والبأس واجب * وهن العفاف في الحجال وفي الحجب)
(على دين أجداد لها وأبوة * كرام مضت لم تخز أهلا ولم ترب)
(من الخفرات لا خروج بزنة * ملائمة تنعى على جارها الجنب)
276

(ولا الجار ذي القربى ولم تدر ما الخنا * ولم تزدلف يوما بسوء ولم تجب)
(عجبت لها إذ كتفت وهي حية * ألا إن هذا الخطب من أعجب العجب)
وقيل: إن المختار إنما أظهر الخلاف لابن الزبير عند قدوم مصعب البصرة وإن مصعبا لم سار إليه فبلغه مسير أحمر بن شميط وأمره أن يواقعه بالمذار وقال إن الفتح بالمذار لأنه بلغه أن رجلا من ثقيف يفتح عليه بالمذار فتح عظيم فظن أنه هو وإنما كان ذلك للحجاج في قتال عبد الرحمن بن الأشعث.
وأمر مصعب عبادا الحطمي بالمسير إلى جمع المختار فتقدم وتقدم معه عبيد الله بن علي بن أبي طالب وبقي مصعب على نهر البصريين وخرج المختار في عشرين ألفا وزحف مصعب ومن معه فوافوه مع الليل فقال المختار لأصحابه لا يبرحن أحد منكم حتى يسمع مناديا ينادي يا محمد فإذا سمعتوه فاحملوا.
فلما طلع القمر أمر مناديا فنادى يا محمد فحملوا على أصحاب مصعب فهزموهم وأدخلوهم عسكرهم فلم يزالوا يقاتلونهم حتى أصبحوا وأصبح المختار وليس عنده أحد وأصحابه قد أوغلوا في أصحاب مصعب فانصرف المختار منهزما حتى دخل قصر الكوفة وجاء أصحابه حين أصبحوا فوقفوا مليا فلم يروا المختار فقالوا قد قتل فهرب منهم من أطاق الهرب فاختفوا بدور الكوفة وتوجه منهم نحو القصر ثمانية آلاف فوجدوا المختار في القصر فدخلوا عليه وكانوا قد قتلوا تلك الليلة من أصحاب مصعب خلقا كثيرا منهم محمد بن الأشعث وأقبل مصعب فأحاط بالقصر وحاصرهم أربعة أشهر يخرج المختار كل يوم فيقاتلهم في سوق الكوفة.
فلما قتل المختار بعث من في القصر يطلب الأمان فأبى مصعب فنزلوا
277

على حكمه فقتل من العرب سبعمائة أو نحو ذلك وسائرهم من العجم. وكان عدة القتلى سبعة آلاف رجل.
ولما قتل المختار كان عمره سبعا وستين سنة وكان قتله لأربع عشرة خلت من رمضان سنة سبع وستين.
قيل إن مصعبا لقي ابن عمر فسلم عليه وقال له أنا ابن أخيك مصعب فقال له أبن عمر أنت القاتل سبعة آلاف من أهل القبلة في غداة واحدة غير ما بدا لك فقال مصعب إنهم كانوا كفرة فجرة فقال والله لو قتلت عدتهم غنما من تراث أبيك لكان ذلك سرفا.
وقال ابن الزبير لعبد الله بن عباس ألم يبلغك قتل الكذاب؟ قال: ومن الكذاب قال ابن أبي عبيد قال قد بلغني قتل المختار قال كأنك نكرت تسميته كذابا ومتوجع له قال ذاك رجل قتل قتلتنا وطلب ثأرنا وشفى غليل صدورنا وليس جزاؤه منا الشتم والشماتة.
وقال عروة بن الزبير لابن عباس: قد قتل الكذاب المختار وهذا رأسه. فقال ابن عباس: قد بقيت لكم عقبة كؤود فإن صعدتموها فأنتم أنتم وإلا فلا يعني عبد الملك بن مروان.
وكانت هدايا المختار تأتي ابن عمر وابن الحنفية فيقبلانها وقيل رد ابن عمر هديته.
ذكر عزل مصعب بن الزبير وولاية حمزة بن عبد الله بن الزبير
وفي هذه السنة عزل عبد الله بن الزبير أخاه مصعبا عن العراق بعد أن قتل المختار وولى مكانه ابنه حمزة بن عبد الله وكان حمزة جوادا مخلطا يجود
278

أحيانا حتى لا يدع شيئا يملكه ويمنع أحيانا ما لا يمنع مثله وظهر منه بالبصرة خفة وضعف فيقال إنه ركب يوما فرأى فيض البصرة فقال إن هذا الغدير إن رفقوا به ليكفينهم ضيعتهم فلما كان بعد ذلك رآه جازرا فقال قد قلت لو رفقوا به لكفاهم وظهر منه غير ذلك فكتب الأحنف إلى أبيه وسأله أن يعزله عنهم ويعيد مصعبا فعزله فاحتمل مالا كثيرا من مال البصرة فعرض له مالك بن مسمع فقال له لا ندعك بعطايانا فضمن له عبيد الله بن عبد الله العطاء فكف عنه وشخص حمزة بالمال وأتى المدينة فأودعه رجالا فجحدوه إلا رجلا واحدا فوفى له وبلغ ذلك أباه فقال أبعده الله أردت أن أباهي به بني مروان فنكص.
وقيل إن مصعبا أقام بالكوفة سنة بعد قتل المختار معزولا عن البصرة عزله أخوه عبد الله واستعمل عليها ابنه حمزة ثم إن مصعبا وفد على أخيه عبد الله فرده على البصرة وقيل بل انصرف مصعب إلى البصرة بعد قتل المختار واستعمل على الكوفة الحرث بن أبي ربيعة فكانتا في عمله فعزله أخوه عن البصرة واستعمل ابنه حمزه ثم عزل حمزة بكتاب الأحنف وأهل البصرة ورد مصعبا.
ذكر عدة حوادث
حج بالناس [في هذه السنة] عبد الله بن الزبير، وكان عامله على الكوفة والبصرة من تقدم ذكره وكان على قضاء الكوفة عبد الله بن عتبة بن مسعود،
279

وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة وبالشام عبد الملك بن مروان وبخراسان عبد الله بن خازم.
وفي هذه السنة مات الأحنف بن قيس بالكوفة مع مصعب وقيل مات سنة إحدى وسبعين بالكوفة لما سار مصعب إلى قتال عبد الملك بن مروان وقتل هبيرة بن مريم مولى الحسين بن علي بالخازر وهو من أصحاب المختار وثقلت المحدثين وفيها توفي جنادة بن أبي أمية وأدرك بالجاهلية وليست له صحبة وقتل مصعب عبد الرحمن وعبد الرب ابني حجر بن عدي وعمران بن حذيفة بن اليمان قتلهم صبرا بعد قتل المختار وبعد قتل أصحابه.
280

68
ثم دخلت سنة ثمان وستين
ذكر عزل حمزة وولاية مصعب البصرة
وفي هذه السنة رد عبد الله بن الزبير أخاه مصعبا إلى العراق.
وسببه: أن الأحنف رأى من حمزة بن عبد الله اختلاطا وحمقا فكتب إلى أبيه فعزله ورد مصعبا واستعمل على الكوفة الحرث بن أبي ربيعة.
وقيل: كان سبب عزله حمزة أنه قصر بالأشراف وبسط يده ففزعوا إلى مالك بن مسمع فضرب خيمته على الجسر ثم أرسل إلى حمزة الحق بأبيك وأخرجه عن البصرة، فقال العديل العجلي:
(إذا ما خشينا من أمير ظلامة * دعونا أبا سفيان يوما فعسكرا)
ذكر حروب الخوارج بفارس والعراق
في هذه السنة استعمل مصعب عمر بن عبيد الله بن معمر على فارس وولاه حرب الأزارقة وكان المهلب على حربهم أيام مصعب الأولى وأيام حمزة بن عبد الله بن الزبير فلما عاد مصعب أراد أن يولي المهلب بلاد الموصل
281

والجزيرة وأرمينية ليكون بينه وبين عبد الله بن مروان فكتب إليه وهو بفارس في القدوم عليه فقدم ليكون بينه وبين عبد الله بن مروان فكتب إليه وهو بفارس في القدوم عليه فقدم واستخلف على عمله ابنه المغيرة ووصاه بالاحتياط وقدم البصرة فعزله مصعب عن حرب الخوارج وبلاد فارس واستعمل عليهما عمر بن عبيد الله بن معمر فلما سمع الخوارج به قال قطري بن الفجاءة قد جاءكم شجاع وهو شجاع وبطل وجاءه يقاتل لدينه وملكه بطبيعة لم أر مثلها لأحد ما حضر حربا إلا كان أول فارس يقتل قرنه.
وكان الخوارج قد استعملوا عليهم بعد قتل عبيد الله بن الماحوز الزبير بن الماحوز على ما ذكرناه سنة خمس وستين فجاءت الخوارج إلى إصطخر فقدم إليهم عمر ابنه عبيد الله في خيل فاقتتلوا فقتل عبيد الله بن عمر وأراد الزبير بن الماحوز قتال عمر فقال له قطري إن عمر موتور فلا نقاتله فقتل من فرسان الخوارج تسعون رجلا وطعن عمر صالح بن مخارق فشتر عينه وضرب قطريا على جبينه ففلقه وانهزمت الخوارج وساروا إلى سابور فعاد عمر ولقيهم بها ومعه مجاعة بن سعر فقتل مجاعة بعمود كان معه أربعة عشر رجلا من الخوارج وكاد عمر يهلك في هذه الوقعة فدافع عنه مجاعة فوهب له عمر تسعمائة ألف درهم فقيل في ذلك:
(قد ذدت عادية الكتيبة عن فتى * قد كان يترك لحمه اقطاعا)
وظهر عليهم فساروا وقطعوا قنطرة بينهما ليمتنع من طلبهم وقصدوا نحو أصبهان فأقاموا عندها حتى قووا واستعدوا ثم اقبلوا حتى مروا بفارس وبها عمر فقطعوها في غير الموضع الذي هم به أخذوا على سابور ثم على أرجان حتى أتوا الأهواز.
فقال مصعب: العجب لعمر قطع هذا العدو الذي هو بصدد محاربته أرض فارس فلم يقاتلهم ولو قاتلهم وفر كان أعذر له وكتب إليه يا ابن معمر
282

ما أنصفتني تجبي الفيء وتحيد عن العدو فاكفني أمرهم.
فسار عمر من فارس في أثرهم مجدا يرجو أن يلحقهم قبل أن يدخلوا العراق وخرج مصعب فعسكر عند الجسر الأكبر وعسكر الناس معه وبلغ الخوارج وهم بالأهواز إقبال عمر إليهم وإن مصعبا قد خرج من البصرة إليهم فقال لهم الزبير بن الماحوز من سوء الرأي وقوعكم بين هاتين الشوكتين انهضوا بنا إلى عدونا نلقهم من وجه واحد فسار بهم فقطع بهم أرض جوخى والنهروانات فأتى المدائن وبها كردم بن مرثد القرادي فشنوا الغارة على أهل المدائن يقتلون الرجال والنساء والولدان ويشقون أجواف الحبالى فهرب كردم وأقبلوا إلى ساباط ووضعوا السيف في الناس يقتلون وأرسلوا جماعة إلى الكرج فلقوا أبا بكر بن مخنف فقاتلهم قتالا شديدا فقتل أبو بكر وانهزم أصحابه وأفسد الخوارج في الأرض.
فأتى أهل الكوفة أميرهم وهو الحرث بن أبي ربيعة ولقبه القباع فصاحوا به وقالوا اخرج فإن العدو قد أظل علينا ليست له بقية فخرج حتى نزل النخيلة فأقام أياما فوثب إليه إبراهيم بن الأشتر فحثه على المسير فسار حتى نزل دير عبد الرحمن فأقام به حتى دخل إليه شبث بن ربعي فأمر بالمسير فلما رأى الناس بطء مسيره رجزوا به فقالوا:
(سار بنا القباع سيرا نكرا * يسير يوما ويقيم شهرا)
فسار من ذلك المكان كلما نزل منزلا أقام به حتى يصيح به الناس
283

فبلغ الفرات في بضعة عشر يوما، فأتاها وقد انتهى إليها الخوارج فقطعوا الجسر بينهم وبينه وأخذوا رجلا اسمه سماك بن يزيد ومعه بنت له فأخذوها ليقتلوها فقالت لهم يا أهل الإسلام إن أبي مصاب فلا تقتلوه وأما أنا فجارية والله ما أتيت فاحشة قط ولا آذيت جارة لي تطلعت ولا تشرفت قط فلما أرادوا قتلها سقطت ميته فقطعوها بأسيافهم وبقي سماك معهم حتى أشرفوا على الصراة فاستقبل أهل الكوفة فناداهم اعبروا إليهم فإنهم قليل خبيث فضربوا عنقه وصلبوه.
فقال إبراهيم بن الأشتر للحارث: اندب معي الناس حتى أعبر إلى هؤلاء الكلاب فأجيئك برؤوسهم فقال شبث وأسماء بن خارجة ويزيد بن الحرث ومحمد بن عمير وغيرهم أصلح الله الأمير دعهم فليذهبوا وكأنهم حسدوا إبراهيم.
فلما رأى الخوارج كثرة الناس قطعوا الجسر واغتنم ذلك الحرث فتحبس ثم جلس للناس فقال أما بعد فإن أول القتال الرمية بالنبل وإشراع الرماح والطعن ثم الطعن شزرا ثم السلة آخر ذلك كله فقال له رجل قد أحسن الأمير الصفة ولكن متى نصنع هذا وهذا البحر بيننا وبينهم فمر بهذا الجسر فليعقد ثم عبرنا إليهم فإن الله سيريك ما تحب.
فعقد الجسر وعبر الناس، فطارد الخوارج حتى أتوا المدائن وطاردت بعض خيلهم عند الجسر طرادا ضعيفا فرجعوا فاتبعهم الحرث عبد الرحمن بن مخنف في ستة آلاف ليخرجهم من أرض الكوفة وقال له إذا وقعوا في
أرض البصرة فاتركهم فسار عبد الرحمن يتبعهم حتى وقعوا في أرض أصبهان فرجع عنهم ولم يقاتلهم وقصدوا الري وعليها يزيد بن الحرث بن
284

رويم الشيباني فقاتلهم فأعان أهل الري الخوارج فقتل يزيد وهرب ابنه حوشب ودعاه أبوه ليدفع عنه فلم يرجع فقال بعضهم:
(فلو كان حرا حوشب ذا حفيظة * رأى ما رأى في الموت عيسى بن مصعب)
يعني أن عيسى بن مصعب لم يفر عن أبيه بل قاتل عنه معه حتى قتل.
وقال بشر بن مروان يوما وعنده حوشب هذا وعكرمة بن ربعي من يدلني على فرس جواد فقال عكرمة فرس حوشب فإنه نجا عليه يوم الري وقال بشر أيضا يوما من يدلني على بغلة قوية الظهر فقال حوشب بغلة واصل بن مسافر كان عكرمة يتهم بامرأة واصل فتبسم بشر وقال لقد انتصفت.
ولما فرغ الخوارج من الري انحطوا إلى أصفهان حاصروها وبها عتاب بن ورقاء فصبر لهم وكان يقاتلهم على باب المدينة ويرمون من السور بالنبل والحجارة وكان مع عتاب رجل من حضرموت يقال له أبو هريرة فكان يحمل عليهم ويقول:
(كيف ترون يا كلاب النار * شد أبي هريرة الهرار)
(يهركم بالليل والنهار * يا ابن أبي ماحوز والأشرار)
(كيف ترى حربي على المضمار)
فلما طال ذلك على الخوارج كمن له رجل منهم ذات يوم فضربه بالسيف على حبال عاتقه فصرعه فاحتمله أصحابه وداووه حتى برأ وخرج إليهم على عادته.
285

ثم إن الخوارج أقامت عليهم أشهرا حتى نفدت أطعمتهم واشتد عليهم الحصار وأصابهم الجهد الشديد فقال لهم عتاب أيها الناس قد نزل بكم من الجهد ما ترون وما بقي إلا أن يموت أحدكم على فراشه فيدفنه أخوه إن استطاع ثم يموت هو فلا يجد من يدفنه ولا يصلي عليه والله ما أنتم بالقليل وإنكم الفرسان الصلحاء فأخرجوا بنا إلى هؤلاء وبكم قوة وحياة قبل أن تضعفوا عن الحركة من الجهد فوالله إني لأرجو إن صدقتموهم أن تظفروا بهم فأجابوه إلى ذلك.
ذكر قتل ابن الماحوز وإمارة قطري بن الفجاءة
لما أمر عتاب أصحابه بقتال الخوارج وأجابوه إلى ذلك جمع الناس وأمر لهم بطعام كثير ثم خرج حين أصبح فأتى الخوارج وهم آمنون فحملوا عليهم فقاتلوهم حتى أخرجوهم من عسكرهم وانتهوا إلى الزبير بن الماحوز فنزل في عصابة من أصحابه فقاتل حتى قتل وانحازت الأزارقة إلى قطري بن الفجاءة المازني وكنيته أبو نعامة فبايعوه وأصاب عتاب وأصحابه من عسكره ما شاؤوا وجاء قطري فنزل في عسكر الزبير ثم سار عن أصبهان وتركها وأتى ناحية كرمان وأقام بها حتى اجتمعت إليه جموع كثيرة وجبى المال وقوي ثم أقبل إلى أصبهان ثم أتى إلى أرض الأهواز فأقام بها والحرث بن أبي ربيعة عامل مصعب على البصرة فكتب إلى مصعب يخبره بالخوارج وأنهم ليس لهم إلا المهلب فبعث إلى المهلب وهو على الموصل والجزيرة فأمره بقتال الخوارج وبعث إلى الموصل إبراهيم بن الأشتر وجاء المهلب إلى البصرة وانتخب الناس وسار بهم نحو الخوارج ثم أقبلوا إليه حتى التقوا بسولاف فاقتتلوا بها ثمانية أشهر أشد قتال رآه الناس.
286

ذكر حصار الري
وفيها أمر مصعب عتاب بن ورقاء الرياحي عامله على أصبهان بالمسير إلى الري وقتال أهلها لمساعدتهم الخوارج على يزيد بن الحرث رويم وامتناعهم من مدينتهم فسار إليهم عتاب فنازلهم وقاتلهم وعليهم الفرخان وألح عليهم عتاب بالقتال ففتحها عنوة وغنم ما فيها وافتتح سائر قلاع نواحيها.
وفيها كان بالشام قحط شديد حتى إنهم لم يقدروا من شدته على الغزو.
وفيها عسكر عبد الملك بن مروان ببطنان وهو قريب من قنسرين وشتا بها ثم رجع إلى دمشق.
ذكر خبر عبيد الله بن الحر ومقتله
في هذه السنة قتل عبيد الله بن الحر الجعفي وكان من خيار قومه صلاحا وفضلا واجتهادا فلما قتل عثمان ووقعت الحرب بين علي ومعاوية قصد معاوية فكان معه لمحبته عثمان وشهد معه صفين هو ومالك بن مسمع وأقام عبيد الله عند معاوية وكان له زوجة بالكوفة فلما فلما طالت غيبته زوجها أخوها رجلا يقال له عكرمة من الخبيص وبلغ ذلك عبيد الله فأقبل من الشام فخاصم عكرمة إلى علي فقال له ظاهرت علينا عدونا فغلت فقال له أيمنعني ذلك من عدلك قال لا فقص عليه قصته فرد عليه امرأته وكانت حبلى فوضعها عند من يثق إليه حتى وضعت فألحق الولد بعكرمة ودفع المرأة إلى عبيد الله وعاد إلى الشام فأقام به حتى قتل علي فلما قتل أقبل إلى الكوفة
287

فأتى إخوانه فقال: ما أرى أحدا ينفعه اعتزاله كنا بالشام فكان من أمر معاوية كيت وكيت فقالوا وكان من أمر علي كيت وكيت وكانوا يلتقون بذلك.
فلما مات معاوية وقتل الحسين بن علي لم يكن عبيد الله فيمن حضر قتله، يغيب عن ذلك تعمدا، فلما قتل جعل ابن زياد يتفقد الأشراف من أهل الكوفة فلم ير عبيد الله بن الحر ثم جاءه بعد أيام حتى دخل عليه فقال له أين كنت يا ابن الحر قال كنت مريضا قال مريض القلب أم مريض البدن فقال أما قلبي فلم يمرض وأما بدني فقد من الله علي بالعافية فقال ابن زياد كذبت ولكنك كنت مع عدونا فقال لو كنت معه لرأي مكاني.
وغفل عنه ابن زياد فخرج فركب فرسه ثم طلبه ابن زياد فقالوا ركب الساعة فقال علي به فأحضر الشرطة خلفه فقالوا أجب الأمير فقال أبلغوه عني أني لا آتيه طائعا أبدا ثم أجرى فرسه وأتى منزل أحمد بن زياد الطائي فاجتمع إليه أصحابه ثم خرج حتى أتى كربلاء فنظر إلى مصارع الحسين ومن قتل معه فاستغفر لهم ثم مضى إلى المدائن وقال في ذلك:
(يقول أمير غادر وابن غادر: * ألا كنت قاتلت الحسين بن فاطمه)
(ونفسي على خذلانه واعتزاله * وبيعة هذا الناكث العهد لائمه)
(فيا ندمي أن لا أكون نصرته * ألا كل نفس لا تسدد نادمه)
(وإني لأني لم أكن من حماته * لذو حسرة أن لا تفارق لازمه)
(سقى الله أرواح الذين تبادروا * إلى نصره سحا من الغيث دائمه)
288

(وقفت على أجداثهم ومحالهم * فكاد الحشا ينقض والعين ساجمه)
(لعمري لقد كانون مصاليت في الوغى * سراعا إلى الهيجا حماة خضارمه)
(تأسوا على نصر ابن بنت نبيهم * بأسيافهم آساد غيل ضراغمه)
(فإن يقتلوا في كل نفس بقية * على الأرض قد أضحت لذلك واجمه)
(وما إن رأى الراؤون أفضل منهم * لدى الموت سادات وزهر قماقمه)
(يقتلهم ظلما ويرجو ودادنا * فدع خطة ليست لنا بملائمه)
(لعمري لقد راغمتمونا بقتلهم * فكم ناقم منا عليكم وناقمه)
(أهم مرارا أن أسير بجحفل * إلى فئة زاغت عن الحق ظالمه)
(فكفوا وإلا زدتكم بكتائب * أشد عليكم من زحوف الديالمه)
وأقام ابن الحر بمنزله على شاطئ الفرات إلى أن مات يزيد ووقعت الفتنة، فقال ما أرى قرشيا ينصف أين أبناء الحرائر فأتاه كل خليع ثم خرج إلى المدائن فلم يدع مالا قدم به السلطان إلا أخذ منه عطاءه وعطاء أصحابه ويكتب لصاحب المال بذلك ثم جعل ينقص الكور على مثل ذلك إلا أنه لم يتعرض لمال أحد ولا ذمة فلم يزل كذلك حتى ظهر المختار وسمع ما يعمل في السواد فأخذ امرأته فحبسها فأقبل عبيد الله في أصحابه إلى الكوفة فكسر باب السجن وأخرجها وأخرج كل امرأة فيه وقال في ذلك:
(ألم تعلمي يا أم توبة أنني * أنا الفارس الحامي حقائق مذحج)
289

(وأني صبحت السجن في سورة الضحى * بكل فتى حامي الذمار مدجج)
(فما إن برحنا السجن حتى بدا لنا * جبين كقرن الشمس غير مشنج)
(وخد أسيل عن فتاة حبيبة * إلينا سقاها كل دان مشجج)
(فما العيش إلا أن أزورك آمنا * كعادتنا من قبل حربي ومخرجي)
(وما زلت محبوسا لحبسك واجما * وإني بما تلقين من بعده شجي)
وهي طويلة.
وجعل يعبث بعمال المختار وأصحابه فأحرقت بهمدان داره ونهبوا ضيعته فسار عبيد الله إلى ضياع همدان فنهبها جميعها وكان يأتي المدائن فيمر بعمال جوخى فيأخذ ما معهم من المال ثم يميل إلى الجبل فلم يزل على ذلك حتى قتل المختار.
وقيل إنه بايع المختار بعد امتناع وأراد المختار أن يسطو به فامتنع لأجل إبراهيم بن الأشتر ثم سار مع ابن الأشتر إلى الموصل ولم يشهد معه قتال ابن زياد أظهر المرض ثم فارق ابن الأشتر وأقبل في ثلاثمائة إلى الأنبار فأغار عليها وأخذ ما في بيت مالها فلما فعل ذلك أمر المختار بهدم داره وأخذ امرأته ففعل ما تقدم ذكره وحضر مع مصعب قتال المختار وقتله فلما قتل المختار قال الناس لمصعب في ولايته الثانية إنا لا نأمن أن يثب ابن الحر بالسواد كما كان يفعل بابن زياد والمختار فحسبه فقال:
(فمن مبلغ الفتيان أن أخاهم * أتى دونه باب شديد وحاجبه)
(بمنزلة ما كان يرضى بمثلها * إذا قام عنته كبول تجاذبه)
290

(على الساق فوق الكعب أسود صامت * شديد يداني خطوه ويقاربه)
(وما كان ذا من عظم جرم جرمته * ولكن سعى الساعي بما هو كاذبه)
(وقد كان في الأرض العريضة مسلك * وأي امرئ ضاقت عليه مذاهبه)
وقال:
(بأي بلاء أم بأية نعمة * تقدم قبلي مسلم والمهلب؟)
يعني مسلم بن عمرو والد قتيبة والمهلب بن أبي صفرة.
وكلم عبيد الله قوما من وجوه مذحج ليشفعوا له إلى مصعب وأرسل إلى فتيان مذحج وقال البسوا السلاح واستروه فإن شفعهم مصعب فلا تعترضوا لأحد وإن خرجوا ولم يشفعهم فاقصدوا السجن فإني سأعينكم من داخل.
فلما شفع أولئك النفر فيه شفعهم مصعب وأطلقه فأتى منزله وأتاه الناس يهنونه فقال لهم إن هذا الأمر لا يصلح إلا بمثل الخلفاء الماضين الأربعة ولم نر لهم فينا شبيها فنلقي إليه أزمتنا فإن كان من عزيز فعلام نعقد في أعناقنا بيعة وليسوا بأشجع منا لقاء ولا أعظم مناعة وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا طاعة لمخلوق في معصية الله تعالى، وكلهم عاص مخالف قوي الدنيا ضعيف الآخرة فعلام تستحل حرمتنا ونحن أصحاب النخيلة والقادسية وجلولاء ونهاوند نلقى الأسنة بنحورنا والسيوف بجباهنا ثم لا يعرف حقنا وفضلنا فقاتلوا عن حريمكم فإني قد قلبت لكم ظهر المجن وأظهرت لهم العداوة ولا قوة إلا بالله وخرج عن الكوفة وحاربهم وأغار.
فأرسل إليه مصعب سيف بن هانئ المرادي فعرض عليه خراج بادرويا وغيرها ويدخل في الطاعة فلم يجب إلى ذلك فبعث إليه مصعب الأبرد بن قرة الرياحي فقاتله فهزمه عبيد الله وضربه على وجهه فبعث إليه أيضا حريث
291

ابن يزيد فقتله عبيد الله فبعث إليه مصعب الحجاج بن جارية الخثعمي ومسلم بن عمرو فلقياه بنهر صرصر فقاتلهما فهزمهما فأرسل إليه مصعب يدعوه إلى الأمان والصلة وأن يوليه أي بلد شاء فلم يقبل وأتى نرسي ففر دهقانها بمال الفلوجة فتبعه ابن الحر حتى مر بعين تمر وعليها بسطام بن مصقلة بن هبيرة الشيباني فالتجأ إليهم الدهقان فخرجوا إلى عبيد الله فقاتلوه ووافاهم الحجاج بن جارية الخثعمي فحمل على عبيد الله فأسره عبيد الله وأسر أيضا بسطام بن مصقلة وناسا كثيرا وبعث ناسا من أصحابه فأخذوا المال الذي مع الدهقان وأطلق الأسرى.
ثم ان عبيد الله أتى تكريت فأقام يجبي الخراج فبعث إليه مصعب الأبرد بن قرة الرياحي والجون بن كعب الهمداني في ألف وأمدهم المهلب بيزيد بن المغفل في خمسمائة فقال لعبيد الله رجل من أصحابه قد أتاك جمع كثير فلا تقاتلهم فقال:
(يخوفني بالقتل قومي وإنما * أموت إذا جاء الكتاب المؤجل)
(لعل القنا تدلي بأطرافها الغنى * فنحيا كراما أو نكر فنقتل)
(ألم تر أن الفقر يزري بأهله * وأن الغنى فيه العلى والتجمل)
(وأنك إلا تركب الهول لا تنل * من المال ما يرضي الصديق ويفضل)
وقاتلهم عبيد الله يومين وهو في ثلاثمائة ولما كان عند المساء تحاجزوا وخرج عبيد الله من تكريت وقال لأصحابه إني سائر بكم إلى عبد الملك
292

ابن مروان فتجهزوا وقال إني خائف أن أموت ولم أذعر مصعبا وأصحابه وسار نحو الكوفة فبلغ كسكر فأخذ بيت مالها ثم أتى الكوفة فنزل بحمام جرير فبعث إليه مصعب عمر بن عبيد الله بن معمر فقاتله فخرج إلى دير الأعور فبعث إليه مصعب حجار بن أبجر فانهزم حجار فشتمه مصعب وضم إليه الجون بن كعب الهمداني وعمر بن عبيد الله بن معمر فقاتلوه بأجمعهم وكثرت الجراحات في عسكر عبيد الله بن معمر فقاتلوه بأجمعهم وكثرت الجراحات في عسكر عبيد الله بن الحر وعقرت خيولهم وانهزم حجار ثم رجع فاقتتلوا قتالا شديدا حتى أمسوا وخرج ابن الحر من الكوفة.
وكتب مصعب إلى يزيد بن الحرث بن رويم الشيباني وهو بالمدائن يأمره بقتال ابن الحر فقدم ابنه حوشبا فلقيه بباجسرى فهزمه عبيد الله وقتل فيهم وأقبل ابن الحر إلى المدائن فتحصنوا منه فخرج عبيد الله فوجه إليه الجون بن كعب الهمداني وبشر بن عبد الله الأسدي فنزل الجون بحولايا وقدم بشر إلى تامرا فلقي ابن الحر فقتله ابن الحر وهزم أصحابه ثم لقي الجون بن كعب بحولايا فخرج إليه عبد الرحمن بن عبد الله فقتله ابن الحر وهزم أصحابه وخرج إليه بشير بن عبد الرحمن بن بشير العجلي فقاتله بسوراء قتالا شديدا فرجع عنه بشير وأقام ابن الحر بالسواد يغير ويجبي الخراج.
ثم لحق بعبد الملك بن مروان فلما صار إليه أكرمه وأجلسه معه على السرير وأعطاه مائة ألف درهم وأعطى أصحابه مالا فقال له ابن الحر لتوجه معي جندا أقاتل بهم مصعبا فقال له سر بأصحابك وادع من قدرت عليه وأنا ممدك بالرجال.
فسار بأصحابه نحو الكوفة فنزل بقربه إلى جانب الأنبار فاستأذنه أصحابه
293

في إتيان الكوفة، فأذن لهم وأمرهم أن يخبروا أصحابه بقدومه ليخرجوا إليه فبلغ ذلك القيسية فأتوا الحرث بن أبي ربيعة عامل ابن الزبير بالكوفة فسألوه أن يرسل معهم جيشا يقاتلون عبيد الله ويغتنمون الفرصة فيه بتفرق أصحابه فبعث معهم جيشا كثيفا فساروا فلقوا ابن الحر فقال لابن الحر أصحابه نحن نفر يسير وهذا الجيش لا طاقة لنا به فقال ما كنت لأدعهم وحمل عليهم هو يقول:
(يا لك يوما فات فيه نهبي * وغاب عني ثقتي وصحبي)
ثم عطفوا عليه فكشفوا أصحابه وحاولوا أن يأسروه فلم يقدروا على ذلك وأذن لأصحابه في الذهاب فلم يعرض لهم أحد وجعل يقاتل وحده فحمل عليه رجل من باهلة يكنى أبا كدية فطعنه وجعلوا يرمونه ويكتبون عليه ولا يدنون منه وهو يقول أهذه نبل أم مغازل فلما أثخنته الجراح حاص إلى معبر هناك فدخله ولم يدخل فرسه فركب السفينة ومضى به الملاح حتى توسط الفرات فأشرفت عليه الخيل وكان معه في السفينة نبط فقالوا لهم إن في السفينة طلبة أمير المؤمنين فإن فاتكم قتلناكم فوثب ابن الحر ليرمي نفسه في الماء فوثب إليه رجل عظيم الخلق فقبض على يديه وجراحاته تجري دما وضربه الباقون بالمجاذيف فلما رأى أنه يقصد به نحو القيسية فقبض على الذي معه وألقى نفسه معه في الماء فغرقا.
وقيل في قتله إنه كان يغشى مصعب بن الزبير بالكوفة فرآه يقدم عليه غيره فكتب إلى عبد الله بن الزبير قصيدة يعاتب فيها مصعبا ويخوفه مسيره إلى ابن مروان يقول فيها:
(أبلغ أمير المؤمنين رسالة * فلست على رأي قبيح أواربه)
(أفي الحق أن أجفى ويجعل مصعب * وزيرا له من كنت فيه أحاربه)
294

(فكيف وقد آتيتكم حق بيعتي * وحقي يلوى عندكم وأطالبه)
(وأبليتكم ما لا يضيع مثله * وآسيتكم والأمر صعب مراتبه)
(فلما استنار الملك وانقادت العدى * وأدرك من ملك العراق رغائبه)
(جفا مصعب عني ولو كان غيره * لأصبح فيما بيننا لا أعاتبه)
(لقد رابني من مصعب أن مصعبا * أرى كل ذي غش لنا هو صاحبه)
(وما أنا إن خليتموني بوارد * على كدر قد غص بالماء شاربه)
(وما لامرئ إلا الذي الله سائق * إليه وما قد خط في الزبر كاتبه)
(إذا قمت عند الباب أدخل مسلما * فيمنعني أن أدخل حاجبه)
فحبسه مصعب وله معه معاتبات من الحبس ثم أنه قال قصيدة يهجو فيها قيس عيلان منها:
(ألم تر قيسا عيلان برقعت * لحاها وباعت نبلها بالمغازل)
فأرسل زفر بن الحرث الكلائي إلى مصعب إني قد كفيتك قتال ابن الزرقاء يعني عبد الملك بن مروان وابن الحر يهجو قيسا ثم إن نفرا من بني سليم أسروا ابن الحر فقال إنما قلت:
(ألم تر قيس عيلان أقبلت * وسارت إلينا في القنا والقبائل)
فقتله رجل منهم يقال له عياش.
295

ذكر عدة حوادث
قيل في هذه السنة وافى عرفات أربعة ألوية لواء لابن الحنفية وأصحابه ولواء لابن الزبير وأصحابه ولواء لبني أمية ولواء لنجدة الحروري ولم يجر بينهم حرب ولا فتنة وكان أصحاب ابن الحنفية أسلم الجماعة.
وكان العامل لابن الزبير على المدينة هذه السنة جابر بن الأسود بن عوف الزهري وعلى البصرة والكوفة مصعب أخوه وعلى قضاء الكوفة عبد الله بن عتبة بن مسعود وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة وعلى خراسان عبد الله بن خازم وكان عبد الملك بن مروان بالشام مشاققا لابن الزبير.
ومات عبد الله بن عباس سنة ثمان وستين وعمره أربع وسبعون سنة وقيل غير ذلك وفيها مات عدي بن حاتم الطائي وقيل سنة ست وستين وعمره مائة وعشرون سنة ومات أبو واقد الليثي واسمه الحرث بن مالك وفيها توفي أبو شريح الخزاعي واسمه خويلد بن عمروا وهو الكعبي.
(شريح بالشين المعجمة).
وعبد الرحمن بن حاطب بن أبي بلتعة وقيل انه ولد زمن النبي صلى الله عليه وسلم.
(حاطب بالحاء المهملة وبلتعة بالباء الموحدة والتاء المثناة من فوق والعين المهملة المفتوحات).
296

69
ثم دخلت سنة تسع وستين
ذكر قتل عمرو بن سعيد الأشدق
في هذه السنة خالف عمرو بن سعيد بن العاص عبد الملك بن مروان وغلب على دمشق فقتله وقيل كانت هذه الحادثة سنة سبعين.
وكان السبب في ذلك أن عبد الملك بن مروان أقام بدمشق بعد رجوعه من قنسرين ما شاء الله أن يقيم ثم سار يريد قرقيسيا وبها زفر بن الحرث الكلائي وكان عمرو بن سعيد مع عبد الملك فلما بلغ بطنان حبيب رجع عمرو ليلا ومعه حميد بن حريث الكلبي وزهير بن الأبرد الكلبي فأتى دمشق وعليها عبد الرحمن ابن أم الحكم الثقفي قد استخلفه عبد الملك فلما بلغه رجوع عمرو بن سعيد هرب عنها ودخلها عمرو فغلب عليها وعلى خزائنه وهدم دار ابن أم الحكم وجمع الناس إليه فخطبهم ومناهم ووعدهم.
وأصبح عبد الملك وقد فقد عمر فسأل عنه فأخبر خبره فرجع إلى دمشق فقاتله أياما وكان عمرو إذا أخرج حميد بن حريث على الخيل أخرج إليه عبد الملك سفيان بن الأبرد الكلبي وإذا اخرج عمرو زهير بن الأبرد أخرج
297

إليه عبد الملك حسان بن مالك بن بحدل.
ثم إن عبد الملك وعمر اصطلحا وكتبا بينهما كتابا وأمنه عبد الملك فخرج عمرو في الخيل إلى عبد الملك فأقبل حتى أوطأ فرسه أطناب عبد الملك فانقطعت وسقط السرادق ثم دخل على عبد الملك فاجتمعا.
ودخل عبد الملك دمشق يوم الخميس فلما كان بعد دخول عبد الملك بأربعة أيام أرسل إلى عمرو أن ائتني وقد كان عبد الملك استشار كريب بن أبرهة الحميري في قتل عمرو فقال لا ناقة لي في هذا ولا جمل في مثل هذا هلكت حمير.
فلما أتى الرسول عمرا يدعوه صادف عنده عبد الله بن يزيد بن معاوية فقال لعمرو يا أبا أمية أنت أحب إلي من سمعي ومن بصري وأرى لك أن لا تأتيه فقال عمرو: لم؟ قال: لأن تبيعا ابن امرأة كعب الأحبار قال إن عظيما من ولد إسماعيل يرجع فيغلق أبواب دمشق ثم يخرج منها فلا يلبث أن يقتل فقال عمرو والله لو كنت نائما ما أنبهني ابن الزرقاء ولا اجترأ علي أما إني رأيت عثمان البارحة في المنام فألبسني قميصه وكان عبد الله بن يزيد زوج ابنة عمرو ثم قال عمرو للرسول أنا رائح العشية.
فلما كان العشاء لبس عمرو درعا ولبس عليها القباء وتقلد سيفه وعنده حميد بن حريث الكلبي فلما نهض متوجها عثر بالبساط فقال له حميد والله لو أطعتني لم تأته وقالت له امرأته الكلبية كذلك فلم يلتفت ومضى في مائة من مواليه.
298

وقد جمع عبد الملك عنده بني مروان فلما بلغ الباب أذن له فدخل فلم يزل أصحابه يحبسون عند كل باب حتى بلغ قاعة الدار وما معه إلا وصيف له فنظر عمرو إلى عبد الملك وإذا حوله بنو مروان وحسان بن بحدل الكلبي وقبيصة بن ذؤيب الخزاعي فلما رأى جماعتهم أحس بالشر فالتفت إلى وصيفه وقال انطلق إلى أخي يحيى فقل له يأتيني فلم يفهم الوصيف فقال له لبيك! فقال عمرو: أعزب عني في حرق الله وناره! وأذن عبد الملك لحسان وقبيصة فقاما فلقيا عمرا في الدار فقال عمرو لوصيفه انطلق إلى يحيى فمره أن يأتيني. فقال لبيك! فقال عمرو اعزب عني.
فلما خرج حسان وقبيصة أغلقت الأبواب ودخل عمرو فرحب به عبد الملك وقال ههنا ههنا يا أبا أمية فأجلسه معه على السرير وجعل يحادثه طويلا ثم قال يا غلام خذ السيف عنه فقال عمرو إنا لله يا أمير المؤمنين فقال عبد الملك أتطمع أن تجلس معي متقلدا بسيفك فأخذ السيف عنه ثم تحدثا ثم قال له عبد الملك يا أبا أمية إنك حيث خلعتني آليت بيمين إن أنا ملأت عيني منك وأنا مالك لك أن أجعلك في جامعة فقال له بنو مروان ثم تطلقه يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم، وما عسيت أن أصنع بأبي أمية فقال بنو مروان أبر قسم يا أمير المؤمنين فقال عمرو قد أبر الله قسمك يا أمير المؤمنين.
فأخرج من تحت فراشه جامعة وقال يا غلام قم فاجمعه فيها فقام الغلام فجمعه فيها فقال عمرو أذكرك الله يا أمير المؤمنين أن تخرجني فيها على رؤوس الناس فقال عبد الملك: أمكرا يا أبا أمية عند الموت؟ لا والله ما كنا
299

لنخرجك في جامعة على رؤوس الناس ثم جذبه جذبة أصاب فمه السرير فكسر ثنيته فقال عمرو أذكرك الله يا أمير المؤمنين كسر عظم مني فلا تركب ما هو أعظم من ذلك فقال له عبد الملك والله لو أعلم أنك تبقي علي [إن] أنا أبقيت عليك وتصلح قريش لأطلقتك ولكن ما اجتمع رجلان في بلدة قط على ما نحن عليه ألا أخرج أحدهما صاحبه فلما رأى عمرو أنه يريد قتله قال أغدرا يا ابن الزرقاء!
وقيل إن عمرا لما سقط ثنيتاه جعل يمسهما فقال عبد الملك يا عمرو أرى ثنيتيك قد وقعتا منك موقعا لا تطيب نفسك بعده.
وأذن المؤذن العصر فخرج عبد الملك يصلي بالناس وأمر أخاه عبد العزيز أن يقتله فقام إليه عبد العزيز بالسيف فقال عمرو أذكرك الله والرحم أن تلي قتلي ليقتلني من هو أبعد رحما منك فألقى السيف وجلس وصلى عبد الملك صلاة خفيفة ودخل وغلقت الأبواب ورأى الناس عبد الملك حين خرج وليس معه عمرو فذكروا ذلك ليحيى بن سعيد فأقبل في الناس ومعه ألف عبد لعمرو وناس من أصحابه كثير فجعلوا يصيحون بباب عبد الملك أسمعنا
صوتك يا أبا أمية فأقبل مع يحيى حميد بن حريث وزهير بن الأبرد فكسروا باب المقصورة وضربوا الناس بالسيوف وضرب الوليد بن عبد الملك على رأسه واحتمله إبراهيم بن عربي صاحب الديوان فأدخله بيت القراطيس.
ودخل عبد الملك حين صلى فرأى عمرا بالحياة فقال لعبد العزيز ما منعك أن تقتله فقال إنه ناشدني الله والرحم فرفقت له فقال له أخزى الله أمك البوالة على عقبها فإنك لم تشبه غيرها ثم أخذ عبد الملك الحربة فطعن
300

بها عمرا فلم تجز فضرب بيده على عضده فرأى الدرع فقال ودرع أيضا إن كنت لمعدا فأخذ الصمصامة وأمر بعمرو فصرع وجلس على صدره فذبحه وهو يقول:
(يا عمرو إن لا تدع شتمي ومنقصتي * أضربك حتى تقول الهامة اسقوني)
وانتفض عبد الملك رعدة فحمل على صدره فوضع على سريره وقال ما رأيت مثل هذا قط قتله صاحب دنيا ولا طالب آخرة.
ودخل يحيى ومن معه على بني مروان ومن كان من مواليهم فقاتلوا يحيى وأصحابه وجاء عبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي فدفع إليه الرأس فألقاه إلى الناس وقام عبد العزيز بن مروان وأخذ المال في البدر فجعل يلقيها إلى الناس، فلما رأى الناس الرأس والأموال، تفرقوا وانتهبوا ثم أمر عبد الملك بتلك الأموال فجبيت حتى عادت إلى بيت المال.
وقيل إن عبد الملك إنما أمر بقتل عمرو حين خرج إلى الصلاة غلامه ابن الزعيرية فقتله وألقى رأسه إلى الناس ورمى يحيى بصخرة في رأسه وأخرج عبد الملك سريره إلى المسجد وخرج وجلس عليه وفقد الوليد ابنه فقال والله لئن كانوا قتلوه لقد أدركوا ثأرهم فأتاه إبراهيم بن عربي الكناني فقال الوليد عندي وقد جرح وليس عليه بأس.
وأتى عبد الملك بيحيى بن سعيد وأمر به أن يقتل فقام إليه عبد العزيز بن مروان فقال جعلت فداك يا أمير المؤمنين! أتراك قاتلا بني أمية في يوم واحد فأمر بيحيى فحبس وأراد قتل عنبسة بن سعيد فشفع فيه عبد العزيز
301

أيضا، وأراد قتل عامر بن الأسود الكلبي فشفع فيه عبد العزيز وأمر ببني عمرو بن سعيد فحبسوا ثم أخرجهم مع عمهم يحيى فألحقهم بمصعب بن الزبير.
ثم بعث عبد الملك إلى امرأة عمرو الكلبية ابعثي إلي كتاب الصلح الذي كتبته لعمرو. فقالت لرسوله: ارجع فأعلمه أن ذلك الصلح معه في أكفانه ليخاصمك عند ربه. وكان عبد الكلم وعمرو يلتقيان في النسب في أمية، هذا عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، وذاك عمرو بن سعيد بن العاص بن أمية وكانت أم عمرو أم البنين بنت الحكم عمة عبد الملك فلما قتل عبد الملك مصعبا واجتمع الناس عليه دخل أولاد عمرو على عبد الملك.
وهم أربعة أمية وسعيد وإسماعيل ومحمد فلما نظر إليهم قال لهم إنكم أهل بيت لم تزالوا ترون لكم على جميع قومكم فضلا لم يجعله الله لكم وإن الذي كان بيني وبين أبيكم لم يكن حديثا ولكن كان قديما في أنفس أوليائكم على أوليائنا في الجاهلية.
فأقطع بأمية وكان أكبرهم فلم يقدر أن يتكلم فقام سعيد بن عمرو وكان الأوسط فقال يا أمير المؤمنين ما تبغي علينا أمرا كان في الجاهلية وقد جاء الله بالإسلام فهدم ذلك ووعد الجنة وحذر نارا وأما الذي كان بينك وبين عمرو فإنه كان ابن عمك وأنت أعلم بما صنعت وقد وصل عمرو إلى الله وكفى بالله حسيبا ولعمري لئن أخذتنا بما كان بينك وبينه لبطن الأرض خير لنا من ظهرها فرق لهم عبد الملك وقال إن أباكم خيرني بين أن يقتلني أو أقتله فاخترت قتله على قتلي وأما أنتم فما أرغبني فيكم وأوصلني لقرابتكم
302

وأحسن جائزتهم ووصلهم وقربهم.
وقيل إن خالد بن يزيد قال لعبد الملك ذات يوم عجبت كيف أصبت غرة عمرو فقال عبد الملك:
(أدنيته مني ليسكن روعه * وأصول صولة حازم متمكن)
(غضبا ومحمية لديني إنه * ليس المسئ سبيله كالمحسن)
وقيل إنما خلع عمرو وقتله حين سار عبد الملك نحو العراق لقتال مصعب فقال له عمرو إنك تخرج إلى العراق وقد كان أبوك جعل لي هذا الأمر بعده وعلى ذلك قاتلت معه فاجعل هذا الأمر لي بعدك فلم يجبه عبد الملك إلى ذلك فرجع إلى دمشق وكان من قتله ما تقدم.
وقيل بل كان عبد الملك قد استخلف عمرا على دمشق فخالفه وتحصن بها والله أعلم.
ولما سمع عبد الله بن الزبير بقتل عمرو قال إن ابن الزرقاء قتل لطيم الشيطان، (وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون)، وبلغ ذلك ابن الحنفية فقال: (ومن نكث فإنما ينكث على نفسه)، يرفع له يوم القيامة لواء على قدر غدرته.
303

ذكر عصيان الجراجمة بالشام
لما امتنع عمرو بن سعيد على عبد الملك خرج أيضا قائد من قواد الضواحي في جبل اللكام واتبعه خلق كثير من الجراجمة والأنباط وأباق عبيد المسلمين وغيرهم ثم سار إلى البنان فلما فرغ عبد الملك من عمرو أرسل إلى هذا الخارج عليه فبذل له كل جمعة ألف دينار فركن إلى ذلك ولم يفسد في البلاد ثم وضع عليه عبد الملك سحيم بن المهاجر فتلطف حتى وصل إليه متنكرا فأظهر له ممالأته وذم عبد الملك وشتمه ووعده أن يدله على عوراته وما هو خير له من الصلح فوثق إليه ثم إن سحيما عطف عليه وعلى أصحابه وهم غارون غافلون بجيش مع موالي عبد الملك وبني أمية وجند من ثقات جنده وشجعانهم كان أعدهم بمكان خفي قريب وأمر فنودي من أتانا من العبيد يعني الذين كانوا معه فهو حر ويثبت في الديوان فانقض إليه كثير منهم فكانوا ممن قاتل معه فقتل الخارج ومن أعانه من الروم وقتل نفر من الجراجمة والأنباط ونادى المنادي بالأمان فيمن بقي منهم فتفرقوا في قراهم وسد الخلل وعاد إلى عبد الملك ووفى للعبيد.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة قتل زهير بن قيس أمير أفريقية وقد ذكرنا ذلك سنة اثنتين وستين، وفيها حكم رجل من الخوارج بمنى وسل سيفه وكانوا جماعة،
304

فأمسك الله أيديهم فقتل ذلك الرجل عند الجمرة.
وحج بالناس في هذه السنة عبد الله بن الزبير وكان على البصرة والكوفة له أخوه مصعب وعلى قضاء الكوفة شريح وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة وعلى خراسان عبد الله بن حازم.
وفيها توفي أبو الأسود الدؤلي وله خمس وثمانون سنة
305

70
ثم دخلت سنة سبعين
في هذه السنة اجتمعت الروم واستجاشوا على من بالشام فصالح عبد الملك ملكهم على أن يؤدي إليه كل جمعة ألف دينار خوفا منه على المسلمين.
وفيها شخص مصعب إلى مكة في قول بعضهم ومعه أموال كثيرة ودواب كثيرة قسمها في قومه وغيرهم ونهض فنحر بدنا كثيرة.
وحج بالناس هذه السنة عبد الله بن الزبير وكان عماله فيها من تقدم ذكرهم.
ذكر يوم الجفرة
وفي هذه السنة سار عبد الملك بن مروان يريد مصعبا فقال له خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد إن وجهتني إلى البصرة وأتبعتني خيلا يسيرة رجوت أن أغلب لك عليها فوجهه عبد الملك فقدمها مستخفيا في خاصته حتى نزل على عمرو بن أصمع وقيل نزل على علي بن أصمع الباهلي فأرسل عمرو إلى عباد بن الحصين وهو على شرطة ابن معمر، وكان مصعب قد استخلفه على البصرة ورجا ابن أصمع أن يبايعه عباد بن الحصين وقال له: إني قد
306

أجرت خالدا وأحببت أن تعلم ذلك لتكون ظهرا لي فوافاه الرسول حين نزل عن فرسه فقال له عباد قل له والله لا
أضع لبد فرسي حتى آتيك في الخيل فقال ابن أصمع لخالد إن عبادا يأتينا الساعة ولا أقدر [أن] أمنعك عنه فعليك بمالك بن مسمع.
فخرج خالد يركض وقد أخرج رجليه من الركابين حتى أتى مالكا فقال أجرني فأجاره وأرسل إلى بكر بن وائل والأزد فكان أول راية أتته راية بني يشكر وأقبل عباد في الخيل فتواقفوا ولم يكن بينهم قتال.
فلما كان الغد عدوا إلى جفرة نافع بن الحرث ومع خالد رجال من تميم منهم صعصعة بن معاوية وعبد العزيز بن بشر ومرة بن محكان وغيرهم وكان أصحاب خالد جفرية ينتسبون إلى الجفرة وأصحاب ابن معمر زبيرية وكان من أصحاب خالد عبيد الله بن أبي بكرة وحمران بن أبان والمغيرة بن المهلب ومن الزبيرية قيس بن الهيثم السلمي.
ووجه مصعب زحر بن قيس الجعفي مددا لابن معمر في ألف ووجه عبد الملك عبيد الله بن زياد بن ظبيان مددا لخالد فأرسل عبيد الله إلى البصرة من يأتيه بالخبر فعاد إليه فأخبره بتفرق القوم فرجع إلى عبد الملك فاقتتلوا أربعة وعشرين يوما وأصيبت عين مالك بن مسمع وضجر من الحرب ومشت بينهم السفراء فاصطلحوا على أن يخرج خالد من البصرة فأخرجه مالك.
ثم لحق مالك بالثأج، وكان عبد الملك قد رجع إلى دمشق فلم يكن لمصعب همة إلا البصرة وطمع أن يدرك بها خالدا فوجده قد خرج فسخط مصعب على ابن معمر وأحضر أصحاب خالد فشتمهم وسبهم فقال لعبيد الله بن أبي بكرة يا ابن مسروح إنما أنت ابن كلبة تعاورها الكلاب فجاءت
307

بأحمر وأصفر وأسود من كل كلب بما يشبهه وإنما كان أبوك عبدا نزل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصن الطائف ثم ادعيتم أن أبا سفيان زنا بأمكم ووالله لئن بقيت لألحقنكم بنسبكم ثم دعا حمران فقال له إنما أنت ابن يهودية علج نبطي سبيت من عين التمر وقال للحكم بن المنذر بن الجارود ولعبد الله بن فضالة الزهراني ولعلي بن أصمع ولعبد العزيز بن بشر وغيرهم نحو هذا من التوبيخ والتقريع وضربهم مائة مائة وحلق رؤوسهم ولحاهم وهدم دورهم وصحرهم في الشمس ثلاثا وحملهم على طلاق نساءهم وجن أولادهم في البيوت وطاف بهم في أقطار البصرة وأحلفهم أن لا ينكحوا الحرائر وهدم دار مالك بن مسمع وأخذ ما فيها فكان مما أخذ جارية ولدت له عمرو بن مصعب.
وأقام مصعب بالبصرة ثم شخص إلى الكوفة فلم يزل بها حتى خرج بها إلى حرب عبد الملك بن مروان.
(المغيرة بضم الميم وبالغين والراء وخالد بن أسيد بفتح الهمزة وكسر السين والجفرة بضم الجيم وسكون الفاء).
وفي هذه السنة مات عاصم بن عمر بن الخطاب وهو جد عمر بن عبد العزيز لأمه وولد قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين.
308

ذكر مقتل عمير بن الحباب بن جعدة السلمي
في هذه السنة قتل عمير بن الحباب بن جعدة السلمي ونحن نذكر سبب الحرب بين قيس وتغلب حتى آل الأمر إلى قتل عمير.
وكان سبب ذلك أنه لما انقضى أمر مرج راهط وسار زفر بن الحرث الكلائي إلى قرقيسيا على ما ذكرناه وبايع عمير مروان بن الحكم وفي نفسه ما فيها بسبب قتل قيس بالمرج فلما سير مروان بن الحكم عبيد الله بن زياد إلى الجزيرة والعراق كان عمير معه فلقوا سليمان بن صرد بعين الوردة وسار عبيد الله إلى قرقيسيا لقتال زفر فثبطه عمير وأشار عليه بالمسير إلى الموصل قبل وصول جيش المختار إليها فسار إليها ولقي إبراهيم بن الأشتر بالخازر فمال عمير معه فانهزم جيش عبيد الله وقتل هو فأتى عمير قرقيسيا وصار مع زفر فعجلا يطلبان كلبا واليمانية بمن قتلوا من قيس وكان معهما قوم من تغلب يقاتلون معهما ويدلونهما.
وشغل عبد الملك عنهما بمصعب وتغلب عمير على نصيبين. ثم إنه مل المقام بقرقيسيا فاستأمن إلى عبد الملك فآمنه ثم غدر به فحبسه عند مولاه الريان فسقاه عمير ومن معه من الحرس خمرا حتى أسكرهم وتسلق في السلم من حبال وخرج من الحبس وعاد إلى الجزيرة ونزل على نهر البليخ بين حران والرقة فاجتمعت إليه قيس فكان يغير بهم على كلب واليمانية وكان من معه يستأوون جواري تغلب ويسخرون مشايخهم من النصارى فهاج ذلك بينهم شرا لم يبلغ الحرب وذلك قبل مسير عبد الملك إلى مصعب وزفر.
309

ثم إن عميرا أغار على كلب ثم رجع فنزل على الخابور، وكانت منازل تغلب بين الخابور والفرات ودجلة وكانت بحيث نزل عمير امرأة من تميم ناكحة في تغلب يقال لها أم دويل فأخذ غلام من بني الحريش أصحاب عمير عيرا من غنمها فشكت إلى عمير فلم يمنع عنها فأخذوا الباقي فمانعهم قوم من تغلب فقتل رجل منهم يقال له مجاشع التغلبي وجاء دويل فشكت أمه إليه وكان فارسا من فرسان تغلب فسار في قومه وجعل يذكرهم ما تصنع بهم قيس ويشكو إليهم ما أخذ من غنم أمه فاجتمع منهم جماعة وأمروا عليهم شعيث بن مليك التغلبي وأغاروا على بني الحريش ومعهم قوم من نمير فقتل فيهم التغلبيون واستاقوا ذودا لامرأة منهم يقال لها أم الهيثم فمانعهم القيسيون فلم يقدروا على منعهم فقال الأخطل:
(فإن تسألون بالحريش فإننا * منينا بنوك منهم وفجور)
(غداة تحامتنا الحريش كأنها * كلاب بدت أنيابها لهرير)
(وجاؤوا بجمع ناصري أم هيثم * فما رجعوا من ذودها ببعير)
يوم ماكسين
ولما استحكم الشر بين قيس وتغلب وعلى قيس عمير وعلى تغلب شعيث غزا عمير بني تغلب وجماعتهم بماكسين من الخابور فاقتتلوا قتالا
310

شديدا وهي أول وقعة لهم فقتل من بني تغلب خمسمائة وقتل شعيث وكانت رجله قطعت فقاتل حتى قتل وهو يقول:
(قد علمت قيس ونحن نعلم * أن الفتى يقتل وهو أجذم)
يوم الثرثار الأول
والثرثار نهر أصل منبعه شرقي مدينة سنجار وبالقرب من قرية يقال لها سرق ويفرغ في دجلة بين الكحيل ورأس الإبل من عمل الفرج.
لما قتل بماكسين من ذكرنا استمدت تغلب وحشدت واجتمعت إليها النمر بن قاسط وأتاها المشجر بن الحرث الشيباني وكان من ساداتهم بالجزيرة وأتاها عبيد الله بن زياد بن ظبيان منجدا لهم على قيس فلذلك حقد عليه مصعب بن الزبير حتى قتل أخاه النابي بن زياد واستنجد عمير تميما وأسدا فلم ينجده منهم أحد فالتقوا على الثرثار وقد جعلت تغلب عليها بعد شعيث زياد بن هوبر ويقال يزيد بن هوبر التغلبي فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزمت قيس وقتلت تغلب ومن معها منهم مقتلة عظيمة وبقروا بطون ثلاثين امرأة من بني سليم وقالت ليلى بنت الحرث التغلبية وقيل هي للأخطل:
(لما رأونا والصليب طالعا * ومارس جيش وسما ناقعا)
(والخيل لا تحمل إلا دارعا * والبيض في أيماننا قواطعا)
(خلوا لنا الثرثار والمزارعا * وحنطة طيسا وكرما يانعا)
311

يوم الثرثار الثاني
ثم إن قيسا تجمعت واستمدت واستعدت وعليها عمير بن الحباب وأتاهم زفر بن الحرث من قرقيسيا وكان رئيس بني تغلب والنمر ومن معهما ابن هوبر فالتقوا بالثرثار واقتتلوا أشد قتال اقتتله الناس وانهزمت بنو عامر وكانت على مجنبة قيس وصبرت سليم وأعصرت حتى انهزمت تغلب ومن معها وقتل ابنا عبد يشوع وغيرها من أشراف تغلب، فقال عمير بن الحباب:
(فدا لفوارس الثرثار نفسي * وما جمعت من أهل ومال)
(وولت عامر عنا فأجلت * وحولي من ربيعة كالجبال)
(أكاوحهم بدهم من سليم * وأعصر كالمصاعيب النهال)
وقال زفر بن الحرث:
(ألا من مبلغ عني عميرا * رسالة ناصح وعليه زاري)
(أنترك حي ذي يمن وكلبا * ونجعل جدنا بك في نزار)
(كمعتمد على إحدى يديه * فخانته بوهن وانكسار)
312

يوم الفدين
وأغار عمير بن الحباب على الفدين وهي قرية على الخابور وقتل من بها من بني تغلب فهزمهم فقال نفيع بن صفار المحاربي:
(لو تسأل الأرض الفضاء عليكم * شهد الفدين بهلككم والصور)
والصور قرية من الفدين.
يوم السكير
وهو على الخابور ويسمى سكير العباس.
ثم اجتمعوا والتقوا بالسكير وعلى قيس عمير بن الحباب وعلى تغلب والنمر يزيد بن هوبر فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزمت تغلب والنمر وهرب عمير بن جندل وهو من فرسان تغلب فقال عمير بن الحباب:
(وأفلتنا يوم السكير ابن جندل * على سابح عوج اللبان مثابر)
(ونحن كررنا الخيل قدما شواذبا * دقاق الهوادي داميات الدوائر)
وقال ابن صفار:
(صبحناكم بهن على سكير * ولاقيتم هناك الأقورينا)
313

يوم المعارك
والمعارك بين الحضر والعتيق من أرض الموصل اجتمعت تغلب بهذا المكان فالتقوا هم وقيس فاقتتلوا به واشتد قتالهم فانهزمت تغلب وقال ابن صفار:
(ولقد تركنا بالمعارك منكم * والحضر والثرثار أجسادا جثا)
فيقال: ان يوم المعارك والحضر واحد هزموهم إلى الحضر وقتلوا منهم بشرا كثيرا. وقال بعضهم هما يومان كانا لقيس والله أعلم.
والتقوا أيضا بلبى فوق تكريت من أرض الموصل فتناصفوا فقيس تقول كان الفضل لنا وتغلب تقول كان الفضل لنا.
يوم الشرعبية
ثم التقوا بالشرعبية وعلى قيس عمير بن الحباب وعلى تغلب وألفافها ابن هوبر فكان بينهم قتال شديد قتل يومئذ عمار بن المهزم السلمي وكان لتغلب على قيس قال الأخطل:
(ولقد بكى الجحاف لما أوقعت * بالشرعبية إذ رأى الأهوالا)
يعني أوقعت الخيل والشرعبية من بلاد تغلب والشرعبية أيضا ببلاد منبج فبعضهم يقول إن هذه الوقعة كانت ببلاد منبج وذلك خطأ.
314

يوم البليخ
واجتمعت تغلب وسارت إلى البليخ وهناك عمير في قيس والبليخ نهر بين حران والرقة فالقوا وانهزمت تغلب وكثر القتل فيها وبقرت بطون النساء كما فعلوا يوم الثرثار فقال ابن صفار:
(زرق الرماح ووقع كل مهند * زلزلن قلبك بالبليخ فزالا)
يوم الحشاك ومقتل عمير بن الحباب السلمي وابن هوبر التغلبي
لما رأت تغلب إلحاح عمير بن الحباب عليها جمعت حاضرتها وباديتها وساروا إلى الحشاك وهو تل قريب من الشرعبية وإلى جنبه براق ودلف إليه عمير في قيس ومعه زفر بن الحرث الكلائي وابنه الهذيل بن زفر وعلى تغلب ابن هوبر واقتتلوا عند تل الحشاك أشد قتال وأبرحه حتى جن عليهم الليل ثم تفرقوا واقتتلوا من الغد إلى الليل ثم تحاجزوا.
وأصبحت تغلب في اليوم الثالث فتعاقدوا أن لا يفروا فلما رأى عمير جدهم وأن نساءهم معهم قال لقيس يا قوم أرى لكم أن تنصرفوا عن هؤلاء فإنهم مستقتلون فإذا اطمأنوا وساروا إلى سرحهم وجهنا إلى كل قوم منهم من يغير عليهم فقال له عبد العزيز بن حاتم بن النعمان الباهلي قتلت فرسان قيس أمس وأول أمس ثم ملى سحرك وجبنت ويقال إن عيينة بن أسماء بن خارجة الفزاري قال له ذلك وكان أتاه منجدا فغضب عمير وقال كأني
315

بك وقد حمي الوغى أول فار فنزل عمير وجعل يقاتل راجلا وهو يقول:
(أنا عمير وأبو المغلس * قد أحبس القوم بضنك فأحبس)
وانهزم زفر يومئذ وهو اليوم الثالث فلحق بقرقيسيا وذلك أنه بلغه أن عبد الملك بن مروان قد عزم على الحركة إليه بقرقيسيا فبادر للتأهب وقيل إنه ادعى ذلك حين فر اعتذارا وانهزمت قيس وركبت تغلب ومن معها أكتافهم وهم يقولون أما تعلمون أن تغلب تغلب؟
وشد على عمير جميل بن قيس من بني كعب بن زهير فقتله وقيل بل تغاوى على عمير غلامان من بني تغلب فرمياه بالحجارة وقد أعياه فأثخناه وكر عليه ابن هوبر فقتله.
وأصابت ابن هوبر يومئذ جراحة فلما انقضت الحرب أوصى بني تغلب بأن يولوا أمرهم مراد بن علقمة الزهيري.
وقيل خرج ابن هوبر في اليوم الثاني من أيامهم هذه الثلاثة وأوصى أنهم يولون أمرهم مرادا ومات من ليلته وكان مراد رئيسهم في اليوم الثالث فعبأهم على راياتهم وأمر كل بني أب أن يجعلوا نساءهم خلفهم فلما أبصرهم عمير قال ما تقدم ذكره؛ قال الشاعر:
(أرقت بأثناء الفرات وشفني * نوائح أبكاها قتيل ابن هوبر)
(ولم تظلمي أن نحت أم مغلس * قتيل النصارى في نوائح حسر)
316

وقال بعض الشعراء ينكر قتل ابن هوبر عميرا:
(وإن عميرا يوم لاقته تغلب * قتيل جميل لا قتيل ابن هوبر)
وكثر القتل يومئذ في بني سليم وغني خاصة وقتل من قيس أيضا يومئذ بشر كثير وبعثت بنو تغلب رأس عمير بن الحباب إلى عبد الملك بن مروان بدمشق فأعطى الوفد وكساهم فلما صالح عبد الملك زفر بن الحرث واجتمع الناس عليه قال الأخطل:
(بنوا أمية قد ناضلت دونكم * أبناء قوم هم آووا وهم نصروا)
(وقيس عيلان حتى أقبلوا رقصا * فبايعوا لك قسرا بعدما قهروا)
(ضجوا من الحرب إذ عضت غواربهم * وقيس عيلان من أخلافها ضجروا)
في أبيات كثيرة فلما قتل عمير بن الحباب وقف رجل على أسماء بن خارجة الفزاري بالكوفة فقال قتلت بنو تغلب عمير بن الحباب فقال لا بأس إنما قتل الرجل في ديار القوم مقبلا غير مدبر ثم قال:
(يدي رهن على سليم بغارة * تشيب لها أصداغ بكر بن وائل)
(وتترك أولاد الفدوكس عالة * يتامى أيامى نهزة للقبائل)
317

يوم الكحيل
وهو من أرض الموصل في جانب دجلة الغربي.
وسببه أنه لما قتل عمير بن الحباب السلمي أتى تميم بن عمير زفر بن الحرث فسأله أن يطلب له بثأره فامتنع فقال الهذيل بن زفر لأبيه والله لئن ظفرت بهم تغلب إن ذلك لعار عليك ولئن ظفروا بتغلب وقد خذلتهم إن ذلك لأشد فاستخلف زفر على قرقيسيا أخاه أوس بن الحرث وعزم على أن يغير على بني تغلب ويغزوهم فوجه خيلا إلى بني فدوكس بطن من تغلب فقتل رجالهم واستبيحت أموالهم ونساؤهم حتى لم يبق غير امرأة واحدة استجارت فأجارها يزيد بن حمران.
ووجه زفر بن الحرث ابنه الهذيل في جيش إلى بني كعب بن زهير فقتل فيهم قتلا ذريعا وبعث زفر أيضا مسلم بن ربيعة العقيلي إلى قوم تغلب مجتمعين فأكثر فيهم القتل ثم قصد زفر لبني تغلب وقد اجتمعوا بالعقيق من أرض الموصل فلما أحست به ارتحلت تريد عبور دجلة فلما صارت بالكحيل لحقهم زفر في القيسية فاقتتلوا قتالا شديدا وترجل أصحاب زفر أجمعون وبقي زفر على بغل له فقتلوهم ليلتهم وبقروا بطون نساء منهم وغرق في دجلة أكثر ممن قتل بالسيف فأتى فلهم لبى فوجه زفر ابنه الهذيل فأوقع بهم إلا من عبر فنجا وأسر زفر منهم مائتين فقتلهم صبرا فقال زفر:
(ألا يا عين بكي بانسكاب * وبكي عاصما وابن الحباب)
(فإن تك تغلب قتلت عميرا * ورهطا من غني في الحراب)
(فقد أفنى بني جشم بن بكر * ونمرهم فوارس من كلاب)
(قتلنا منهم مائتين صبرا * وما عدلوا عمير بن الحباب)
318

وقال ابن صفار المحاربي:
(ألم تر حربنا تركت حبيبا * محالفها المذلة والصغار)
(وقد كانوا أولي عز فأضحوا * وليس لهم من الذل انتصار)
وأسر القطامي التغلبي في يوم من أيامهم وأخذ ماله فقام زفر بأمره حتى رد عليه ماله ووصله فقال فيه:
(إني وإن كان قومي ليس بينهم * وبين قومك إلا ضربة الهادي)
(مثن عليك بما أوليت من حسن * وقد تعرض [لي] مقتل بادي)
(حبيب الذي في الشعر هو بضم الحاء المهملة وفتح الباء الموحدة وهو في نسب بني تغلب).
يوم البشر
فلما استقر الأمر لعبد الملك واجتمع المسلمون عليه قدم عليه الأخطل الشاعر التغلبي وعنده الجحاف بن حكيم السليمي فقال له عبد الملك أتعرف هذا يا أخطل قال نعم هذا الذي أقول فيه:
319

(ألا سائل الجحاف هل هو ثائر * بقتلى أصيبت من سليم وعامر)
وأنشد القصيدة حتى فرغ منها وكان الجحاف يأكل رطبا فجعل النوى يتساقط من يده غيظا وأجابه وقال:
(بلى سوف نبكيهم بك مهند * وننعى عميرا بالرماح الشواجر)
ثم قال يا ابن النصرانية ما كنت أظن أن تجترئ علي بمثل هذا فأرعد الأخطل من خوفه ثم قام إلى عبد الملك وأمسك ذيله وقال هذا مقام العائد بك وأنا لك مجير. ثم قام الجحاف ومشى وهو يجر ثوبه ولا يعقل به فتلطف لبعض كتاب الديوان حتى اختلق له عهدا على صدقات تغلب وبكر بالجزيرة وقال لأصحابه إن أمير المؤمنين قد ولاني هذه الصدقات فمن أراد اللحاق بي فليفعل.
ثم سار حتى أتى رصافة هشام فاعلم أصحابه ما كان من الأخطل اليه وأنه افتعل كتابا وأنه ليس بوال فمن كان أحب أن يغسل عني العار وعن نفسي فليصحبني فإني قد أقسمت أن لا أغسل رأسي حتى أوقع في بني تغلب فرجعوا عنه غير ثلاثمائة قالوا له نموت بموتك ونحيا بحياتك.
فسار ليلته حتى صبح الرحوب وهو ماء لبني جشم بن بكر من تغلب فصادف عليه جماعة عظيمة منهم فقتل فيهم مقتلة عظيمة وأسر الأخطل وعليه عباءة وسخة فظنه الذي أسره عبدا، فسأله من هو فقال عبد.
320

فأطلقه، فرمى بنفسه في جب وخاف إن رآه من يعرفه أن يقتله فلما انصرف الجحاف خرج من الجب وأسرف الجحاف في القتل وبقر البطون عن الأجنة وفعل أمرا عظيما فلما عاد عنهم قدم الأخطل على عبد الملك فأنشده قوله:
(لقد أوقع الجحاف بالبشر وقعة * إلى الله منها المشتكى والمعول)
فهرب الجحاف فطلبه عبد الملك فلحق ببلاد الروم وقال بعد وقعة البشر يخاطب الأخطل:
(أبا مالك هل لمتني أو حضضتني * على القتل أم هل لامني كل لائم)
(ألم أفنكم قتلا وأجدع أنوفكم * بفتيان قيس والسيوف الصوارم)
(بكل فتى ينعى عمير بسيفه * إذا اعتصمت أيمانهم بالقوائم)
(فإن تطردوني تطردوني وقد جرى * بي الورد يوما في دماء الأراقم)
(نكحت بسيفي في زهير ومالك * نكاح اغتصاب لا نكاح دراهم)
في أبيات.
ولم يزل الجحاف يتردد في بلاد الروم من طرابزندة إلى قاليقلا وبعث إلى بطانه عبد الملك من قيس حتى أخذوا له الأمان فآمنه عبد الملك، فقدم عليه، فألزمه ديات من قتل وأخذ منه الكفلاء وسعى فيها، فأتى الحجاج من الشام
321

فطلب منه، فقال له: متى عهدتني خائنا فقال له ولكنك سيد قومك ولك عمالة واسعة فقال لقد ألهمت الصدق فأعطاه مائة ألف درهم وجمع الديات فأوصلها.
ثم تنسك بعد وصلح ومضى حاجا فتعلق بأستار الكعبة وجعل ينادي اللهم اغفر لي وما أظنك تفعل فسمعه محمد بن الحنفية فقال يا شيخ قنوطك شر من ذنبك.
وقيل إن سبب عوده كان أن الجحاف أكرمه ملك الروم وقربه وعرض عليه النصرانية ويعطيه ما شاء فقال ما أتيتك رغبة عن الإسلام ولقي الروم تلك السنة عساكر المسلمين صائفة فانهزم المسلمون وأخبروا عبد الملك أنهم هزمهم الجحاف فأرسل إليه عبد الملك يؤمنه فسار وقصد البشر وبه حي من بشر وقد لبس أكفانه وقال قد جئت إليكم أعطي القود من نفسي وأراد شبابهم قتله فنهاهم شيوخهم فغفر عنه وحج فسمعه عبد الله بن عمر وهو يطوف ويقول اللهم اغفر لي وما أظنك تفعل فقال ابن عمر لو كنت الجحاف ما زدت على هذا. قال فأنا الجحاف.
322

71
ثم دخلت سنة إحدى وسبعين
ذكر مقتل مصعب وملك عبد الملك العراق
في هذه السنة قتل مصعب بن الزبير في جمادى الآخرة واستولى عبد الملك بن مروان على العراق.
وسبب ذلك أن عبد الملك بن مروان لما قتل عمرو بن سعيد بن العاص كما تقدم ذكره وضع السيف فقتل من خالفه فصفا له الشام فلما لم يبق له مخالف فيه أجمع المسير إلى مصعب بن الزبير بالعراق فاستشار أصحابه في ذلك فأشار يحيى بن الحكم بن أبي العاص عمه بأن يقنع بالشام ويترك ابن الزبير والعراق وكان يقول عبد الملك من أراد صواب الرأي فليخالف يحيى وقال بعضهم إن العام جدب وقد غزوت سنتين فلم تظفر فأقم عامك هذا فقال عبد الملك الشام بلد قليل المال ولا آمن نفاده وقد كتب كثير من أشراف العراق يدعونني إليهم وقال أخوه محمد بن مروان الرأي أن تطلب حقك وتسير إلى العراق فإني أرجوا أن الله ينصرك وقال بعضهم الرأي أن تقيم وتبعث بعض أهلك وتمده بالجنود فقال عبد الملك إنه لا يقوم بهذا الأمر إلا قرشي له رأي ولعلي أبعث من له شجاعة ولا رأي له وإني بصير بالحرب شجاع بالسيف إن احتجت إليه ومصعب شجاع من بيت شجاعة ولكنه لا علم له بالحرب يحب الخفض ومعه من يخالفه ومعي من ينصح لي.
323

فلما عزم على المسير ودع زوجته عاتكة بنت يزيد بن معاوية فبكت وبكى جواريها لبكائها فقال قاتل الله كثير عزة لكأنه يشاهدنا حين يقول:
(إذا ما أراد الغزو لم يثن همه * حصان عليها عقد در يزينها)
(نهته فلما لم تر النهي عاقه * بكت وبكى مما عناها فطينها)
وسار عبد الملك إلى العراق فلما بلغ مصعبا مسيره وهو بالبصرة أرسل إلى المهلب وهو يقاتل الخوارج يستشيره وقيل بل أحضره عنده فقال لمصعب: اعلم أن أهل العراق قد كاتبوا عبد الملك وكاتبهم فلا تبعدني عنك فقال له مصعب إن أهل البصرة قد أبوا أن يسيروا حتى أجعلك على قتال الخوارج وهم قد بلغوا سوق الأهواز وأنا أكره إذ سار عبد الملك إلى أن لا أسير إليه فاكفني هذا الثغر.
فعاد إليهم وسار مصعب إلى الكوفة معه الأحنف فتوفي بالكوفة وأحضر مصعب إبراهيم بن الأشتر وكان على الموصل والجزيرة فلما حضر عنده جعله على مقدمته وسار حتى نزل باجميرا وهي قريب [من] أوانا، وهي من مسكن فعسكر هناك.
وسار عبد الملك وعلى مقدمته أخوه محمد بن مروان وخالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد فنزلوا بقرقيسيا وحصروا زفر بن الحرث الكلائي ثم صالحهم على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وسير زفر ابنه الهذيل مع عبد الملك وكان معه ثم لحق بمصعب بن
324

الزبير. فلما اصطلحا سار عبد الملك ومن معه فنزلوا بمسكن قريبا من عسكر مصعب بين العسكرين ثلاثة فراسخ ويقال فرسخان وكتب عبد الملك إلى أهل العراق من كاتبه ومن لم يكاتبه وبذل لجميعهم أصبهان طعمة وقيل إن كل من كاتبه طلب منه امرة أصبهان فقال أي شيء أصبهان هذه حتى كلهم يطلبها!
فكل منهم أخفى كتابه إلا إبراهيم بن الأشتر فإنه أحضر كتابه عند مصعب مختوما فقرأه مصعب فإذا هو يدعوه إلى نفسه ويجعل له ولاية العراق فقال له مصعب أتدري ما فيه قال لا قال يعرض عليك كذا وكذا وإن هذا لما يرغب فيه فقال إبراهيم ما كنت لأتقلد الغدر والخيانة ووالله ما عند عبد الملك من أحد من الناس بأيأس منه مني ولقد كتب إلى أصحابك كلهن مثل الذي كتب إلي فأطعني واضرب أعناقهم قال إذا لا يناصحني عشائرهم قال فأوقرهم حديدا وابعث بهم إلى أبيض كسرى وأحبسهم هناك ووكل بهم من إن غلبت وتفرقت عشائرهم عنك ضرب رقابهم وإن ظهرت مننت على عشائهم بإطلاقهم فقال إني لفي شغل عن ذلك فرحم الله أبا بحر يعني الأحنف بن قيس إن كان ليحذرني أهل العراق ويقول هم كالمومسة تريد كل يوم بعلا وهم يريدون كل يوم أميرا.
فلما رأى قيس بن الهيثم ما عزم أهل العراق عليه من الغدر بمصعب قال لهم ويحكم! لا تدخلوا أهل الشام عليكم فوالله لئن يطعموا بعيشكم ليضيقن عليكم منازلكم والله لقد رأيت سيد أهل الشام على باب الخليفة يفرح أن أرسله في حاجة ولقد رأيتنا في الصوائف وإن زاد أحدنا على عدة
325

أجمال وإن الرجل من وجوههم ليغزو على فرسه وزاده خلفه.
فلم يسمعوا منه فلما تدانى العسكران أرسل عبد الملك إلى مصعب رجلا من كلب وقال له أقرئ ابن أختك السلام وكانت أم مصعب كلبية وقل له يدع دعاءه إلى أخيه وادع دعائي إلى نفسي ويجعل الأمر شورى فقال له مصعب قل له السيف بيننا.
فقدم عبد الملك أخاه محمدا وقدم مصعب إبراهيم بن الأشتر فالتقيا فتناوش الفريقان فقتل صاحب لواء محمد وجعل مصعب يمد إبراهيم فأزال محمدا عن موقفه فوجه عبد الملك عبد الله بن يزيد إلى أخيه محمد فاشتد القتال فقتل مسلم بن عمروا الباهلي والد قتيبة وهو من أصحاب مصعب وأمد مصعب إبراهيم بعتاب بن ورقاء فساء ذلك إبراهيم وقال قد قلت له لا تمدني بعتاب وضربائه وإنا لله وإنا إليه راجعون فانهزم عتاب بالناس وكان قد كاتب عبد الملك وبايعه، فلما انهزم صبر ابن الأشتر فقتل قتله عبيد بن ميسرة مولى بني عذرة وحمل رأسه إلى عبد الملك.
وتقدم أهل الشام فقاتلهم مصعب وقال لقطن بن عبد الله الحارثي قدم خيلك أبا عثمان. فقال: أكره أن تقتل مذحج في غير شيء. فقال لحجار بن أبجر يا أبا أسيد قدم خيلك قال إلى هؤلاء الأنتان قال ما تتأخر إليه أنتن فقال لمحمد بن عبد الرحمن بن سعيد مثل ذلك فقال ما فعل أحد هذا فأفعله فقال مصعب يا إبراهيم ولا إبراهيم لي اليوم ثم التفت فرأى عروة بن المغيرة بن شعبة فاستدناه فقال له أخبرني عن الحسين بن علي كيف صنع بامتناعه عن النزول على حكم ابن زياد وعزمه على الحرب فأخبره فقال:
326

(إن الألى بالطف من آل هاشم * تأسوا فنسوا للكرام التأسيا)
قال عروة: فعلمت أنه لا يبرح حتى يقتل.
ثم دنا محمد بن مروان من مصعب وناداه أنا ابن عمك محمد بن مروان فاقبل أمان أمير المؤمنين. فقال: أمير المؤمنين بمكة، يعني أخاه عبد الله بن الزبير قال فإن القوم خاذلوك فأبى ما عرض عليه فنادى محمد عيسى بن مصعب بن الزبير له فقال له مصعب انظر ما يريد منك فدنا منه فقال له إني لك ولأبيك ناصح ولكما الأمان فرجع إلى أبيه فأخبره فقال إني أظن القوم يفون لك فإن أحببت أن تأتيهم فافعل فقال لا تتحدث نساء قريش إني خذلتك ورغبت بنفسي عنك قال فاذهب أنت ومن معك إلى عمك بمكة فأخبره بما صنع أهل العراق ودعني فإني مقتول فقال لا أخبر عنك قريشا أبدا ولكن يا أبت الحق بالبصرة فإنهم على الطاعة أو الحق بأمير المؤمنين فقال مصعب لا تتحدث قريش أني فررت.
وقال لابنه عيسى: تقدم اذن أحتسبك فتقدم ومعه ناس فقتل وقتلوا وجاء رجل من أهل الشام ليحتز رأس عيسى فحمل عليه مصعب فقتله وشد على الناس فانفرجوا له وعاد ثم حمل ثانية فانفرجوا له وبذل عبد الملك الأمان وقال أنه يعز علي أن تقتل فاقبل أماني ولك كحمل في المال والعمل فأبى وجعل يضارب فقال عبد الملك هذا والله كما قال القائل:
(ومدجج كره الكماة نزاله * لا ممعنا هربا ولا مستسلما)
327

ودخل مصعب سرادقه فتحنط ورمى السرادق وخرج فقاتل فأتاه عبيد الله بن زياد بن ظبيان فدعاه إلى المبارزة فقال له يا كلب اعزب مثلي يبارز مثلك وحمل عليه مصعب فضربه على البيضة فهشمها وجرحه فرجع وعصب رأسه وترك الناس مصعبا وخذلوه حتى بقي في سبعة أنفس وأثخن مصعب بالرمي وكثرت الجراحات فيه فعاد إلى عبيد الله بن زياد بن ظبيان فضربه مصعب فلم يصنع شيئا لضعفه بكثرة الجراحات وضربه ابن ظبيان فقتله.
وقيل: بل نظر إليه زائدة بن قدامة الثقفي فحمل عليه فطعنه وقال: يا لثارات المختار فصرعه وأخذ عبيد الله بن زياد رأسه وحمله إلى عبد الملك فألقاه بين يديه وأنشد:
(نعاطي الملوك الحق ما قسطوا لنا * وليس علينا قتلهم بمحرم)
فلما رأى عبد الملك الرأس سجد قال ابن ظبيان لقد هممت أن أقتل عبد الملك وهو ساجد فأكون قد قتلت ملكي العرب وأرحت الناس منهما وقال عبد الملك لقد هممت أن أقتل ابن ظبيان فأكون قد قتلت أفتك الناس بأشجع الناس.
وأمر عبد الملك لابن ظبيان بألف دينار فقال لم أقتله على طاعتك وانما قتلته على قتل أخي النابئ بن زياد ولم يأخذ منها شيئا.
وكان قتل مصعب بدير الجاثليق عند نهر دجيل فأمر عبد الملك به وبابنه عيسى فدفنا وقال كانت الحرمة بيننا قديمة ولكن الملك عقيم.
328

وكان سبب قتل النابئ أنه قطع الطريق هو ورجل من بني نمير فأحضرا عند مطرف ابن سيدان الباهلي صاحب شرطة مصعب فقتل النابئ وضرب النميري وأطلقه فجمع عبيد الله جمعا وقصد مطرفا بعد أن عزله مصعب عن شرطته وولاه الأهواز وسار عبيد الله إلى المطرف فقتله فبعث مصعب مكرم بن مطرف في طلب عبيد الله فسار حتى بلغ عسكر مكرم فنسب إليه ولم يلق عبيد الله كان قد لحق بعبد الملك وقيل في قتله غير ذلك.
فلما أتى بعبد الملك برأس مصعب نظر إليه وقال متى تغزو قرشية مثلك وكانا يتحدثان إلى حبى وهما بالمدينة فقيل لها قتل مصعب فقالت تعس قاتله فقيل قتله عبد الملك بن مروان فقالت وا بأبي القاتل والمقتول!
ثم دعا عبد الملك بن مروان جند العراق إلى بيعته فبايعوه وسار حتى دخل الكوفة فأقام بالنخيلة أربعين يوما وخطب الناس بالكوفة فوعد المحسن وتوعد المسئ فقال إن الجامعة التي وضعت في عنق عمرو بن سعيد عندي والله لا أضعها في عنق رجل فانتزعها إلا صعدا لا أفكها عنه فكا فلا يبقين امرؤ إلا على نفسه ولا يولغن دمه والسلام.
ودعا الناس إلى البيعة فبايعوه فحضرت قضاعة فقال لهم كيف سلمتم وأنتم قليل مع مضر؟ فقال عبد الله بن يعلى النهدي: نحن أعز منهم وأمنع
329

بك وبمن معك منا. ثم جاءت مذحج فقال: ما أرى لأحد مع هؤلاء بالكوفة شيئا ثم جاءت جعفي فقال ائتوني بابن أختكم يعني يحيى بن سعيد وكانت أمه مذحجية فقالوا هو آمن فقال وتشترطون أيضا فقال رجل منهم إنا ما نشترط جهلا بحقك ولكنا نتسحب عليك تسحب الولد على الوالد فقال نعم أنتم الحي ان كنتم لفرسانا في الجاهلية [
والاسلام]. ليحضر فهو آمن فأتوه به فبايعه ثم أتته عدوان فقدموا بن أيديهم رجلا جميلا وسيما فقال عبد الملك:
(عذير الحي من عدوا * ن كانوا حية الأرض)
(بغى بعضهم بعضا * فلم يرعوا على بعض)
(ومنهم كانت السادا * ت والموفون بالقرض)
ثم أقبل على ذلك الرجل الجميل فقال إيه فقال لا أدري فقال معبد بن خالد الجدلي وكان خلفه:
(ومنهم حكم يقضي * فلا ينقض ما يقضي)
(ومنهم من يجيز الحج * بالسنة والفرض)
(وهم مذ ولدوا شبوا * بسر النسب المحض)
فأقبل عبد الملك على ذلك الجميل فقال: من هو؟ فقال: لا أدري. فقال معبد من ورائه هو ذو الأصبع فاقبل على الجميل فقال: لم تسمى
330

ذا الإصبع؟ فقال: لا أدري. فقال معبد: لأن حية نهشت أصبعه فقطعتها فاقبل على الجميل فقال ما كان اسمه؟ قال: لا أدري فقال معبد حرثان بن الحرث فقال للجميل من أيكم هو؟ قال لا أدري فقال معبد من بني ناج ثم قال للجميل كم عطاؤك قال سبعمائة قال لمعبد كم عطاؤك؟ قال: ثلاثمائة. فقال لكاتبه: اجعل معبدا في سبعمائة وانقص من عطاء هذا أربعمائة ففعل.
ثم جاءت كندة فنظر إلى عبد الله بن إسحاق بن الأشعث فأوصى به أخاه بشر بن مروان وأقبل داود بن قحذم في جمع كثير من بكر بن وائل عليهم الأقبية الداودية وبه سميت فجلس مع عبد الملك على سريره فأقبل عليه عبد الملك ثم نهض ونهضوا معه فقال عبد الملك هؤلاء الفساق لولا أن صاحبهم جاءني ما أعطاني أحد منهم طاعة.
ثم ولى قطن بن عبد الله الحارثي الكوفة أربعين يوما ثم عزله فاستعمل أخاه بشر بن مروان ثم استعمل محمد بن عمير الهمداني على همذان ويزيد بن رويم على الري ولم يف لأحد شرط له أصبهان وقال علي بهؤلاء الفساق الذين أنغلوا الشام وأفسدوا العراق فقيل قد أجارهم رؤساء عشائرهم فقال وهل يجير علي أحد؟
وكان عبد الله بن يزيد بن أسد والد خالد القسري قد لجأ إلى علي بن عبد الله ابن عباس، ولجأ إليه أيضا يحيى بن معيوف الهمداني، ولجأ الهذيل بن زفر بن الحارث، وكان مع عبد الملك، على ما نذكره، عمرو بن يزيد الحكمي إلى خالد بن يزيد فأمنهم عبد الملك فظهروا. فصنع عمرو بن حريث لعبد
331

الملك طعاما كثيرا وأمر به إلى الخورنق وأذن إذنا عاما فدخل الناس وأخذوا مجالسهم فدخل عمرو بن حريث فأجلسه معه على سريره ثم جاءت الموائد فأكلوا فقال عبد الملك ما ألذ عيشنا لو دام ولكنا كما قال الأول:
(وكل جديد يا أميم إلى بلى * وكل امرئ يوما يصير إلى كان)
فلما فرغوا من الطعام طاف عبد الملك في القصر وعمرو بن حريث معه وهو يسأله لمن هذا البيت ومن بني هذا البيت وعمرو يخبره فقال عبد الملك:
(اعمل على مهل فإنك ميت * واكدح لنفسك أيها الإنسان)
(فكأن ما قد كان لم يك إذ مضى * وكأن ما هو كائن قد كان)
ولما بلغ عبد الله بن خازم مسير مصعب لقتال عبد الملك قال: أمعه عمر بن عبيد الله بن معمر؟ قيل: لا، استعمله على فارس. قال أمعه المهلب قيل لا استعمله على الخوارج قال أمعه عباد بن الحصين؟ قيل: استخلفه على البصرة. قال: وأنا بخراسان:
(خذيني فجريني جعار وأبشري * بلحم امرئ لم يشهد اليوم ناصره)
ولما قتل مصعب بعث عبد الملك رأسه إلى الكوفة، أو حمله معه إليها، ثم بعث به إلى أخيه عبد العزيز بن مروان بمصر فلما رآه وقد قطع السيف أنفه قال رحمك الله أما والله لقد كنت من أحسنهم خلقا وأشدهم بأسا وأسخاهم نفسا ثم سيره إلى الشام فنصب بدمشق وأرادوا أن يطوفوا به في نواحي الشام فأخذته عاتكة بنت يزيد بن معاوية زوجة عبد الملك بن مروان،
332

وهي أم يزيد بن عبد الملك فغسلته ودفنته وقالت أما رضيتم بما صنعتم حتى تطوفوا به في المدن؟ هذا بغي.
وكان عمر مصعب حين قتل ستا وثلاثين سنة.
قال يوما عبد الملك لجلسائه: من أشد الناس؟ قالوا: أمير المؤمنين. قال: اسلكوا غير هذا الطريق. قالوا: عمير ين الحباب. قال: قبح الله عميرا! لص، ثوب ينازع عليه أعز عنده من نفسه ودينه قالوا فشبيب قال إن للحرورية لطريقا قالوا فمن قال مصعب كان عنده عقيلتا قريش سكينة بنت الحسين وعائشة بن طلحة ثم هو أكثر الناس مالا جعلت له الأمان وولاية العراق وعلم أني سأفي له للمودة التي كانت بيننا فحمي أنفا وأبى وقاتل حتى قتل فقال رجل كان مصعب يشرب النبيذ قال كان ذلك قبل أن يطلب المروءة فأما مذ طلبها فلو علم أن الماء ينقص مروءته ما ذاقه قال الأقشر الأسدي:
(حمى أنفه أن يقبل الضيم مصعب * فمات كريما لم تذم خلائقه)
(ولو شاء أعطى الضيم من رام هضمه * فعاش ملوما في الرجال طرائقه)
(ولكن مضى والبرق يبرق خاله * يشاوره مرا ومرا يعانقه)
(فولى كريما لم تنله مذمة * ولم يك رغدا تطبيه نمارقه)
وقال عرفجة بن شريك:
(ما لابن مروان أعمى الله ناظره * ولا أصاب رغيبات ولا نفلا)
(يرجو الفلاح ابن مروان وقد قتلت * خيل ابن مروان حرا ماجدا بطلا)
333

(يا ابن الحواري كم من نعمة لكم * لو رام غيركم أمثالها شغلا)
(حملتم فحملتم كل معضلة * إن الكريم إذا حملته حملا)
وقال عبد الله بن الزبير الأسدي في إبراهيم بن الأشتر هذا الزبير بفتح الزاي وكسر الباء:
(سأبكي وإن لم تبك فتيان مذحج * فتاها إذا الليل التمام تأوبا)
(فتى لم يكن في مرة الحرب جاهلا * ولا بمطيع في الوغى من تهيبا)
(أبان أنوف الحي قحطان قتله * وأنف نزار قد أبان فأوعبا)
(فمن يك أمسى خائنا لأميره * فما خان إبراهيم في الموت مصعبا)
وحين قتل مصعب كان المهلب يحارب الأزارقة بسولاف بلد بفارس على شاطئ البحر ثمانية أشهر فبلغ قتله الأزارقة قبل المهلب فصاحوا بأصحاب المهلب ما قولكم في مصعب قالوا أمير هدى وهو ولينا في الدنيا والآخرة ونحن أولياؤه قالوا فما قولكم في عبد الملك قالوا ذاك ابن اللعين نحن نبرأ إلى الله منه وهو أحل دما منكم قالوا فإن عبد الملك قتل مصعبا وستجعلون غدا عبد الملك إمامكم فلما كان الغد سمع المهلب وأصحابه قتل مصعب فبايع المهلب الناس لعبد الملك بن مروان فصاح بهم الخوارج يا أعداء الله ما تقولون في مصعب قالوا يا أعداء الله لا نخبركم
334

وكرهوا أن يكذبوا أنفسهم قالوا وما قولكم في عبد الملك قالوا خليفتنا ولم يجدوا بدا إذ بايعوه أن يقولوا ذلك قالوا يا أعداء الله أنتم بالأمس تبرؤن منه في الدنيا والآخرة وهو اليوم إمامكم وقد قتل أميركم الذي كنتم تولونه! فأيهما المهتدي وأيهما المبطل قالوا يا أعداء الله رضينا بذلك إذ كان يتولى أمرنا ونرتضي بهذا قالوا لا والله ولكنكم إخوان الشياطين وعبيد الدنيا.
وأما عبد الله بن الزبير فلما انتهى إليه قتل أخيه مصعب قام في الناس فخطبهم فقال:
الحمد لله الذي له الخلق والأمر يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء ألا وإنه لم يذلل الله من كان الحق معه وإن كان فردا ولم يعزز من كان وليه الشيطان وإن كان الناس معه طرا، ألا وإنه قد أتانا من العراق خبر أحزننا وأفرحنا أتانا قتل مصعب رحمه الله، أما الذي أفرحنا فعلمنا أن قتله شهادة وأما الذي أحزننا فإن لفراق الحميم لوعة يجدها حميمه عند المصيبة يرعوي بعدها ذوو الرأي الجميل إلى الصبر وكريم العزاء وما مصعب إلا عبد من عبيد الله وعون من أعواني ألا وإن أهل العراق أهل الغدر والنفاق أسلموه
وباعوه بأقل الثمن فان يقتل فمه! والله ما نموت على مضاجعنا كما يموت بنو أبي العاص والله ما قتل رجل منهم في زحف في الجاهلية ولا في الإسلام ولا نموت الا عقصا بالرماح وتحت ظلال السيوف ألا انما الدنيا عارية من الملك الأعلى الذي لا يزول سلطانه ولا يبيد ملكه فإن تقبل لا آخذها أخذ البطر وإن تدبر لم أبك
335

عليها بكاء الضرع المهين أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
(حجار بن أبجر بفتح الحاء المهملة وتشديد الجيم وكنيته أبو أسيد بضم الهمزة وفتح السين وحبي بضم الحاء المهملة وبالباء الموحدة المشددة الممالة وآخره ياء مثناة من تحتها وعبد الله بن خازم بالخاء المعجمة والزاي).
ذكر ولاية خالد بن عبد الله البصرة
وفي هذه السنة تنازع ولاية البصرة حمران بن أبان وعبيد الله بن أبي بكرة فقال ابن أبي بكرة أنا أعظم منك كنت أنفق على أصحاب خالد يوم الجفرة فقيل لحمران إنك لا تقوى على ابن أبي بكرة فاستعن بعبد الله بن الأهيم فاستعان به فغلب على البصرة وعبد الله على شرطها وكان لحمران منزلة عند بني أمية وكانت هذه المنازعة بعد قتل مصعب.
فلما استولى عبد الملك على العراق بعد قتله استعمل على البصرة خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد فوجه خالد عبيد الله بن أبي بكرة إليها خليفة له فلما قدم على حمران قال قد جئت لا جئت فكان عبيد الله عليها حتى قدم خالد ولما فرغ عبد الملك من أمر العراق عاد إلى الشام.
336

ذكر أمر عبد الملك وزفر بن الحرث
قد ذكرنا في واقعة راهط مسير زفر إلى قرقيسيا واجتماع قيس عليه والسبب في استيلائه عليها وما كان منه بعد ذلك وكان على بيعة ابن الزبير وفي طاعته فلما مات مروان بن الحكم وولي ابنه عبد الملك كتب إلى أبان بن عقبة بن أبي معيط وهو على حمص يأمره أن يسير إلى زفر فسار إليه وعلى مقدمته عبد الله بن زميت الطائي فواقع عبد الله زفر قبل وصول أبان وكثر في أصحابه القتل قتل منهم ثلاثمائة فلامه أبان على عجلته وأقبل أبان فواقع زفر فقتل ابنه وكيع بن زفر وأدركت طيئ ثقل زفر ونساءه فاستوهب محمد بن حصين بن نمير النساء وألحقهن بزفر بقرقيسيا فقال زفر:
(علقن بحبل من حصين لو أنه * تغيب حالت دونهن المصائر)
(أبوكم أبونا في القديم وإنني * لغابركم في آخر الدهر شاكر)
وكان يقال لزفر إنه من كندة.
ثم إن عبد الملك لما أراد المسير إلى مصعب سار إلى قرقيسيا فحصر زفر فيها ونصب عليها المجانيق فأمر زفر أن ينادى [في] عسكر عبد الملك لم نصبتم علينا المجانيق قال لنثلم ثلمة نقاتلكم عليها فقال زفر قولوا لهم فإنا لا نقاتلكم من وراء الحيطان ولكنا نخرج إليكم وثلمت المنجنيق من المدينة برجا مما يلي حريث بن بحدل فقال زفر:
(لقد تركتني منجنيق ابن بحدل * أحيد عن العصفور حين يطير)
وكان خالد بن يزيد بن معاوية مجدا في قتالهم فقال رجل من أصحاب
337

زفر من بني كلاب: لأقولن لخالد كلاما يعود عما يصنع فلما كان الغد خرج خالد للمحاربة فقال له الكلابي:
(ماذا ابتغاء خالد وهمه * إذ سلب الملك ونيكت أمه)
فاستحيا وعاد ولم يرجع يقاتلهم.
وقالت كلب لعبد الملك إنا إذا لقينا زفر انهزمت القيسية الذين معك فلا تخلطهم معنا ففعل فكتبت القيسية على نبلها أنه ليس يقاتلكم غدا مضري ورموا النبل إلى قرقيسيا فلما أصبح زفر دعا ابنه الهذيل وبه كان يكنى، وقيل: [كان] يكنى أبا الكوثر، فقال اخرج إليهم فشد عليهم شدة لا ترجع حتى تضرب فسطاط عبد الملك والله لئن رجعت دون أن تطأ أطناب فسطاطه لأقتلنك فجمع الهذيل خيله وحمل عليهم فصبروا قليلا ثم انكشفوا وتبعهم الهذيل بخيله حتى وطئوا أطناب الفسطاط وقطعوا بعضها ثم رجعوا فقبل زفر رأس الهذيل وقال لا يزال عبد الملك يحبك بعدها أبدا فقال الهذيل والله لو شئت أن أدخل الفسطاط لفعلت. فقال زفر:
(ألا لا أبالي من أتاه حمامه * إذا ما المنايا عن هذيل تجلت)
(تراه أمام الخيل أول فارس * ويضرب في أعجازها إن تولت)
ولما ثلم برج قرقيسيا قال لعبد الملك بعض أهله: لو قاتلتهم بقضاعة لملكتهم ففعل وقاتلهم فلما كان عند المساء انكشفت قضاعة وكثر القتل فيهم وأقبل روح بن زنباع الجذامي إلى برج منها فسأل أهله وقال نشدتكم الله كم قتلنا منكم قالوا والله لم يقتل منا أحد ولم يجرح إلا رجل واحد ولا بأس عليه ثم قالوا نشدناك الله كم قتل منكم قال عدة فرسان وجرحتم ما لا يحصى فلعن الله ابن بحدل!
338

ورجع روح إلى عبد الملك وقال ان ابن بحدل يمنيك الباطل فأعرض عن هذا الرجل.
وكان رجل من كلب يقال له الذيال يخرج فيسب زفر فيكثر فقال زفر للهذيل ابنه أو لبعض أصحابه أما تكفيني هذا قال أنا أجيئك به فدخل عسكر عبد الملك ليلا فجعل ينادي من يعرف بغلا من صفته كذا وكذا حتى انتهى إلى خباء الرجل وقد عرفه فقال الرجل رد الله عليك ضالتك فقال يا عبد الله إني قد عييت فلو أذنت لي فاسترحت قليلا قال أدخل فدخل والرجل وحده في خبائه فرمى بنفسه ونام صاحب الخباء فقام إليه فأيقظه وقال والله لئن تكلمت لأقتلنك قتلت أو سلمت فماذا ينفعك قتلي إذا قتلت أنت ولئن سكت وجئت معي إلى زفر فلك عهد الله وميثاقه أن أردك إلى عسكرك بعد أن يصلك زفر ويحسن إليك فخرجا وهو ينادي من دل على بغل من صفته كذا وكذا؟ حتى أتى زفر والرجل معه، فأعلمه أنه قد أمنه فوهب له زفر دنانير وحمله على رحالة النساء وألبسه ثيابهن وبعث معه رجلا حتى دنوا من عسكر عبد الملك فنادوا هذه جارية قد بعث بها زفر إلى عبد الملك وانصرفوا فلما نظر إليه أهل العسكر عرفوه وأخبروا عبد الملك الخبر فضحك وقال لا يبعد الله رجلا نصر والله إن قتلهم لذل وان تركهم لحسرة وكف الرجل فلم يعد يسب زفر وقيل إنه هرب من العسكر.
ثم إن عبد الملك أمر أخاه محمدا أن يعرض على زفر وابنه الهذيل الأمان على أنفسهما ومن معهما ومالهم وأن يعطيا ما أحبا ففعل محمد ذلك فأجاب الهذيل وكلم أباه وقال له لو صالحت هذا الرجل فقد أطاعه الناس وهو خير
339

لك من ابن الزبير. فأجاب على أن له الخيار في بيعته سنة وأن ينزل حيث شاء ولا يعين عبد الملك على قتال ابن الزبير فبينا الرسل تختلف بينهما إذ جاءه رجل من كلب فقال قد هدم من المدينة أربعة أبراج فقال عبد الملك لا أصالحهم وزحف إليهم فهزموا أصحابه حتى أدخلوهم عسكرهم فقال أعطوهم ما أرادوا فقال زفر لو كان قبل هذا لكان أحسن واستقر الصلح على أمان الجميع ووضع الدماء والأموال وأن لا يبايع عبد الملك حتى يموت ابن الزبير للبيعة له في عنقه وأن يعطى مالا يقسمه في أصحابه.
وخاف زفر أن يغدر به عبد الملك كما غدر بعمرو بن سعيد فلم ينزل إليه فأرسل إليه بقضيب النبي صلى الله عليه وسلم أمانا له فنزل إليه فلما دخل عليه أجلسه معه على سريره فقال ابن عضاة الأشعري أنا كنت أحق بهذا المجلس منه فقال زفر كذبت هناك إني عاديت فضررت وواليت فنفعت.
ولما رأى عبد الملك قلة مع زفر قال لو علمت أنه في هذه القلة لحاصرته أبدا حتى نزل على حكمي فبلغ قوله زفر فقال إن شئت رجعنا ورجعت فقال بل نفي لك يا أبا الهذيل.
وقال له عبد الملك يوما بلغني أنك من كندة فقال وما خير من لا يبغي حسدا ولا يدعي رغبة!
وتزوج مسلمة بن عبد الملك الرباب بنت زفر فكان يؤذن لأخويها الهذيل والكوثر في أول الناس.
وأمر زفر ابنه الهذيل أن يسير مع عبد الملك إلى قتال مصعب وقال له
340

أنت لا عهد عليك فسار معه فلما قارب مصعبا هرب إليه وقاتل مع ابن الأشتر فلما قتل ابن الأشتر اختفى الهذيل بالكوفة حتى استؤمن له عبد الملك فأمنه كما تقدم.
ذكر عدة حوادث
وفي هذه السنة افتتح عبد الملك قيسارية في قول الواقدي وفيها نزع ابن الزبير جابر بن الأسود بن عوف عن المدينة واستعمل عليها طلحة بن عبيد الله بن عوف وهو آخر وال كان له على المدينة حتى أتاه طارق بن عمرو مولى عثمان فهرب طلحة وأقام طارق بها حتى سار إلى مكة لقتال ابن الزبير.
وفي إمارة مصعب مات البراء بن عازب بالكوفة ويزيد بن مفزع الحميري الشاعر بها أيضا وعبد الله بن أبي حدود الأسلمي شهد الحديبية وخيبر وفي أيامه مات شتير بن شكل القيسي الكوفي وهو من أصحاب علي وابن مسعود.
(شتير بضم الشين المعجمة وفتح التاء فوقها نقطتان وبعدها ياء تحتها نقطتان وشكل بفتح الشين المعجمة والكاف وآخره لام).
341

72
ثم دخلت سنة اثنتين وسبعين
ذكر أمر الخوارج
لما استقر عبد الملك بالكوفة بعد قتل مصعب استعمل خالد بن عبد الله على البصرة فلما قدمها خالد كان المهلب يحارب الأزارقة فجعله على خراج الأهواز ومعونتها وسير أخاه عبد العزيز بن عبد الله إلى قتال الخوارج وسير معه مقاتل بن مسمع فخرجا يطلبان الأزارقة فأتت الخوارج من ناحية كرمان إلى دارا بجرد وأرسل قطري بن الفجاءة المازني مع صالح بن مخارق تسعمائة فارس فأقبل يسير بهم حتى استقبل عبد العزيز وهو يسير مهلا على غير تعبية فانهزم بالناس ونزل مقاتل بن مسمع [فقاتل] حتى قتل، وانهزم عبد العزيز وأخذت امرأته ابنة المنذر بن الجارود فأقيمت فيمن يزيد فبلغت قيمتها مائة ألف فجاء رجل من قومها من رؤوس الخوارج فقال تنحوا هكذا ما أرى هذه المشركة إلا قد فتنتكم وضرب عنقها ولحق بالبصرة فرآه آل المنذر فقالوا والله ما ندري أنحمدك أم نذمك فكان يقول ما فعلته إلا غيرة وحمية.
وانتهى عبد العزيز إلى رام هرمز وأتى المهلب خبره فأرسل إليه شيخا من الأزد وقال له إن كان منهزما فعزه فأتاه الرجل فرآه نازلا في نحو ثلاثين فارسا كئيبا حزينا فأبلغله الرسالة وعاد إلى المهلب بالخبر فأرسل
342

المهلب إلى أخيه خالد بن عبد الله يخبره بهزيمته فقال للرسول كذبت فقال والله ما كذبت فإن كنت كاذبا فاضرب عنقي وإن كنت صادقا فاعطني جبتك ومطرفك قال قد رضيت من الخطر العظيم بالخطر اليسير وحبسه وأحسن إليه حتى صح خبر الهزيمة.
قال ابن قيس الرقيات في هزيمة عبد العزيز وفراره عن امرأته:
(عبد العزيز فضحت جيشك كلهم * وتركتهم صرعى بكل سبيل)
(من بين ذي عطش يجود بنفسه * وملحب بين الرجال قتيل)
(هلا صبرت مع الشهيد مقاتلا * إذ رحت منتكث القوى بأصيل)
(وتركت جيشك لا أمير عليهم * فارجع بعار في الحياة طويل)
(ونسيت عرسك إذ تقاد سبية * تبكي العيون برنة وعويل)
فكتب خالد إلى عبد الملك يخبره بذلك فكتب إليه عبد الملك قد عرفت ذلك وسألت رسولك عن المهلب فأخبرني أنه عامل على الأهواز فقبح الله رأيك حين تبعث أخاك إعرابيا من أهل مكة على القتال وتدع المهلب يجبي الخراج وهو الميمون النقيبة المقاسي للحرب ابنها وابن أبنائها أرسل إلى المهلب يستقبلهم وقد بعثت إلى بشر بالكوفة ليمدك بجيش فسر معهم ولا تعمل في عدوك برأي حتى يحضره المهلب والسلام.
وكتب عبد الملك إلى بشر أخيه بالكوفة يأمره بانفاذ خمسة آلاف مع رجل يرضاه لقتال الخوارج، فإذا قضوا غزوتهم ساروا إلى الري فقاتلوا عدوهم وكانوا مسلحة فبعث بشر خمسة آلاف، وعليهم عبد الرحمن بن محمد بن
343

الأشعث فكتب له عهدا على الري عند الفراغ من قتاله.
وخرج خالد بأهل البصرة حتى قدم الأهواز وقدمها عبد الرحمن بن محمد في أهل الكوفة وجاءت الأزارقة حتى دنوا من الأهواز فقال المهلب لخالد إني أرى ههنا سفنا كثيرة فضمها إليك فإنهم سيحرقونها فلم يمض إلا ساعة حتى أرسلوا إليها فأحرقوها.
وجعل خالد المهلب على ميمنته وعلى ميسرته داود بن قحذم من بني قيس بن ثعلبة ومر المهلب على عبد الرحمن بن محمد ولم يخندق عليه فقال ما يمنعك من الخندق؟ فقال: هم أهون علي من ضرطة الجمل قال لا يهونوا عليك فإنهم سباع العرب.
ولم يبرح المهلب حتى خندق عبد الرحمن عليه فأقاموا نحوا من عشرين ليلة ثم زحف خالد بالناس فرأوا أمرا هالهم من كثرة الناس فكثرت عليهم الخيل وزحفت إليهم فانصرفوا كأنهم على حامية وهم مولون لا يرون طاقة بقتال جماعة الناس فأرسل خالد داود بن قحذم في آثارهم وانصرف خالد إلى البصرة وسار عبد الرحمن إلى الري وأقام المهلب بالأهواز.
وكتب خالد إلى عبد الملك بذلك فلما وصل كتابه إلى عبد الملك كتب إلى أخيه بشر يأمره أن يبعث أربعة آلاف فارس من أهل الكوفة مع رجل بصير بالحرب إلى فارس في طلب الأزارقة ويأمر صاحبه بموافقة داود بن قحذم ن اجتمعا فبعث بشر عتاب بن ورقاء في أربعة آلاف فارس من أهل الكوفة فساروا حتى لحقوا داود فاجتمعوا ثم اتبعوا الخوارج حتى هلكت خيول عامتهم وأصابهم الجوع والجهد ورجع عامة الجيشين مشاة إلى الأهواز.
* * *
344

وفي هذه السنة كان خروج أبي فديك الخارجي وهو من بني قيس بن ثعلبة فغلب على البحرين وقتل نجدة بن عامر الحنفي فاجتمع على خالد بن عبد الله نزول قطري الأهواز وأمر أبي فديك فبعث أخاه أمية بن عبد الله في جند كثيف إلى أبي فديك فهزمه أبو فديك وأخذ جارية له فاتخذها لنفسه فكتب خالد إلى عبد الملك بذلك.
ذكر قتل عبد الله بن خازم
ولما قتل مصعب كان ابن خازم يقاتل بحير بن ورقاء الصريمي التيمي بنيسابور فكتب عبد الملك إلى ابن خازم يدعوه البيعة له ويطعمه خراسان سبع سنين وأرسل الكتاب مع سوادة بن أشتم النميري وقيل مع مكمل الغنوي فقال ابن خازم لولا ان أضرب بين [بني] سليم و [بني] عامر لقتلتك، ولكن كل كتابك، فاكله.
وقيل بل كان الكتاب مع سوادة بن عبيد الله النميري وقيل مع مكمل الغنوي فقال له ابن خازم إنما بعثك أبو الذبان لأنك من غني وقد علم أني لا أقتل رجلا من قيس ولكن كل كتابه.
وكتب عبد الملك إلى بكير بن وشاح وكان خليفة بن خازم على مرو بعهده على خراسان ووعده ومناه فخلع بكير عبد الله بن الزبير ودعا إلى عبد الملك فأجابه أهل مرو وبلغ ابن خازم فخاف أن يأتيه بكير فيجتمع عليه أهل مرو وأهل نيسابور فترك بجيرا وأقبل إلى مرو ويزيد ابنه بترمذ فاتبعه بحير فلحقه بقرية على ثمانية فراسخ من مرو فقاتله ابن خازم فقتل
345

ابن خازم وكان الذي قتله وكيع بن عمرو القريعي أعثره وكيع وبحير بن ورقاء وعمار بن عبد العزيز فطعنوه فصرعوه وقعد وكيع على صدره فقتله فقال بعض الولاة لوكيع كيف قتلته قال غلبته بنصل القناة فلما صرع قعدت على صدره فلم يقدر [أن] يقوم وقلت يا لثارات دويلة وهو أخو وكيع لأمه قتل في بعض تلك الحروب قال وكيع فتنخم في وجهي وقال لعنك الله أتقتل كبش مضر بأخيك وهو لا يساوي كفا من نوى أو قال من تراب قال فما رأيت أكثر ريقا منه على تلك الحال عند الموت.
وبعث بحير ساعة قتل ابن خازم إلى عبد الملك يخبره بقتله ولم يبعث بالرأس وبعث بحير بكير بن وشاح في أهل مرو فوافاهم حين قتل ابن خازم.
فأراد أخذ الرأس وإنفاذه إلى عبد الملك فمنعه بحير فضربه بكير بعمود وحبسه وسير الرأس إلى عبد الملك وكتب إليه يخبره انه هو الذي قتله فلما قدم الرأس دعا عبد الملك برسول بحير وقال ما هذا قال لا أدري وما فارقت القوم حتى قتل ابن خازم وقيل ان ابن خازم إنما قتل بعد قتل عبد الله بن الزبير وان عبد الملك أنفذ إليه رأس ابن الزبير ودعاه إلى نفسه فغسل الرأس وكفنه وبعثه إلى أهله بالمدينة وأطعم الرسول الكتاب وقال لولا أنك رسول لقتلتك وقيل بل قطع يديه ورجليه وحلف أن لا يطيع عبد الملك أبدا.
(بحير بفتح الباء الموحدة وكسر الحاء المهملة).
346

ذكر عدة حوادث
كان العامل على المدينة طارقا لعبد الملك وعلى الكوفة بشر بن مروان وعلى قضائها عبيد الله بن عبد الله بن عتبة وعلى البصرة خالد بن عبد الله وعلى قضائها هشام بن هبيرة وعلى خراسان في قول بعضهم بكير بن وشاح وفي قول بعضهم عبد الله بن خازم.
وفي هذه السنة مات عبيدة السلماني وهو من أصحاب علي.
(عبيدة بفتح العين وكسر الباء الموحدة).
347

73
ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين
ذكر قتل عبد الله بن الزبير
لما بويع عبد الملك بالشام بعث إلى المدينة عروة بن أنيف في ستة آلاف من أهل الشام وأمره أن لا يدخل المدينة وأن يعسكر بالعرصة وكان عامل عبد الله بن الزبير على المدينة الحرث بن حاطب بن الحرث بن معمر الجمحي فهرب الحرث وكان ابن أنيف يدخل ويصلي بالناس الجمعة ثم يعود إلى معسكره فأقام شهرا ولم يبعث إليهم ابن الزبير أحدا.
وكتب إليه عبد الملك بالعود إليه فعاد هو ومن معه وكان يصلي بالناس بعده عبد الرحمن بن سعد القرظي ثم عاد الحرث إلى المدينة وبعث ابن الزبير سليمان بن خالد الزرقي الأنصاري وكان رجلا صالحا عاملا على خيبر وفدك فنزل في عمله فبعث عبد الملك عبد الواحد بن الحرث بن الحكم وقيل اسمه عبد الملك وهو أصح في أربعة آلاف فسار حتى نزل وادي القرى وسير سرية عليها أبو القمقام في خمسمائة إلى سليمان فوجوده قد هرب فطلبوه فأدركوه فقتلوه ومن معه فاغتم عبد الملك بن مروان بقتله وقال قتلوا رجلا مسلما صالحا بغير ذنب.
وعزل ابن الزبير الحارث واستعمل مكانه جابر بن الأسود بن عوف الزهري فوجه جابر أبا بكر بن أبي قيس في ستمائة فارس وأربعين فارسا إلى خيبر فوجدوا أبا القمقام ومن معه مقيمين بفدك يعسفون الناس فقاتلوهم فانهزم
348

أصحاب أبي القمقام وأسر منهم ثلاثون رجلا فقتلوا صبرا وقيل بل قتل الخمسمائة أو أكثرهم.
ووجه عبد الملك طارق بن عمرو مولى عثمان وأمره أن ينزل بين أيلة ووادي القرى ويمنع عمال ابن الزبير من الانتشار ويسد على خللا إن ظهر له فوجه طارق إلى أبي بكر خيلا فاقتتلوا فأصيب أبو بكر في المعركة وأصيب من أصحابه أكثر من مائتي رجل.
وكان ابن الزبير قد كتب إلى القباع أيام كان عامله على البصرة يأمره أن يرسل اليه ألفي فارس ليعينوا عامله على المدينة فوجه إليه ألفي رجل فلما قتل أبو بكر أمر ابن الزبير جابر بن الأسود أن يسير جيش البصرة إلى قتال طارق فسار البصريون عن المدينة وبلغ طارقا الخبر فسار نحوه فالتقيا فقتل مقدم البصريين وقتل أصحابه قتلا ذريعا وطلب طارق مدبرهم وأجهز على جريحهم ولم يستبق أسيرهم.
ورجع طارق إلى وادي القرى، وكان عامل ابن الزبير بالمدينة جابر بن الأسود وعزل ابن الزبير جابرا واستعمل طلحة بن عبيد الله بن عوف الذي يعرف بطلحة الندي سنة سبعين فلم يزل على المدينة حتى أخرجه طارق.
فلما قتل عبد الملك مصعبا وأتى الكوفة وجه منها الحجاج بن يوسف الثقفي في ألفين وقيل في ثلاثة آلاف من أهل الشام لقتال عبد الله بن الزبير وكان السبب في تسييره دون غيره أنه قال لعبد الملك قد رأيت في المنام أني أخذت عبد الله بن الزبير فسلخته فابعثني إليه وولني قتاله فبعثه وكتب معه أمانا لابن الزبير ومن معه إن أطاعوا فسار في جمادى الأولى سنة اثنتين وسبعين ولم يعرض للمدينة ونزل الطائف وكان يبعث الخيل إلى عرفة ويبعث ابن الزبير أيضا فيقتتلون بعرفة فتنهزم خيل ابن الزبير في كل ذلك وتعود خيل الحجاج بالظفر.
349

ثم كتب الحجاج إلى عبد الملك يستأذنه في دخول الحرم وحصر ابن الزبير ويخبره بضعفه وتفرق أصحابه ويستمده فكتب عبد الملك إلى طارق يأمره باللحاق بالحجاج فقدم المدينة في ذي القعدة سنة اثنتين وسبعين وأخرج عامل ابن الزبير عنها وجعل عليها رجلا من أهل الشام اسمه ثعلبة فكان ثعلبة يخرج المخ وهو على منبر النبي صلى الله عليه وسلم ثم يأكله ويأكل عليه التمر ليغيظ أهل المدينة وكان مع ذلك شديدا على أهل الزبير وقدم طارق على الحجاج بمكة في سلخ ذي الحجة في خمسة آلاف.
وأما الحجاج فإنه قدم مكة في ذي القعدة وقد أحرم بحجة فنزل بئر ميمون وحج بالناس تلك السنة الحجاج إلا أنه لم يطف بالكعبة ولا سعى بين الصفا والمروة منعه ابن الزبير من ذلك فكان يلبس السلاح ولا يقرب النساء ولا الطيب إلى أن قتل ابن الزبير ولم يحج ابن الزبير ولا أصحابه لأنهم لم يقفوا بعرفة ولم يرموا الجمار ونحر ابن الزبير بدنه بمكة.
ولما حصر الحجاج ابن الزبير نصب المنجنيق على أبي قبيس ورمى به الكعبة وكان عبد الملك ينكر ذلك أيام يزيد بن معاوية ثم أمر به فكان الناس يقولون خذل في دينه.
وحج ابن عمر تلك السنة فأرسل إلى الحجاج أن أتق الله واكفف هذه الحجارة عن الناس فإنك في شهر حرام وبلد حرام وقد قدمت وفود الله من أقطار الأرض ليؤدوا فريضة الله ويزدادوا خيرا وإن المنجنيق قد منعهم عن الطواف فاكفف عن الرمي حتى يقضوا ما يجب عليهم بمكة فبطل الرمي حتى عاد الناس من عرفات وطافوا وسعوا ولم يمنع ابن الزبير الحاج من الطواف والسعي فلما فرغوا من طواف الزيارة نادى منادي الحجاج: انصرفوا
350

إلى بلادكم فإنا نعود بالحجارة على ابن الزبير الملحد.
وأول ما رمى بالمنجنيق إلى الكعبة أرعدت السماء وأبرقت وعلا صوت الرعد على الحجارة فأعظم ذلك أهل الشام وأمسكوا أيديهم فأخذ الحجاج حجارة المنجنيق بيده فوضعها فيه ورمى بها معهم فلما أصبحوا جاءت الصواعق فقتلت من أصحابه اثني عشر رجلا فانكسر أهل الشام فقال الحجاج يا أهل الشام لا تنكروا هذا فإني ابن تهامة وهذه صواعقها وهذا الفتح قد حضر فأبشروا فلما كان الغد جاءت الصاعقة فأصابت من أصحاب ابن الزبير عبدة فقال الحجاج ألا ترون أنهم يصابون وأنتم على الطاعة وهم على خلافها وكانت الحجارة تقع بين يدي ابن الزبير وهو يصلي فلا ينصرف وكان أهل الشام يقولون:
(يا ابن الزبير طالما عصيكا)
(وطالما عنيتنا اليكا)
(لتجزين بالذي أتيكا)
يعنون: عصيت وأتيت.
وقدم عليه قوم من الأعراب فقالوا قدمنا للقتال معك فنظر فإذا مع كل امرئ منهم سيف كأنه شفرة وقد خرج من غمده فقال يا معشر الأعراب لأقربكم الله فوالله ان سلاحكم لرث وإن حديثكم لغث وإنكم لقتال في الجدب أعداء في الخصب فتفرقوا ولم يزل القتال بينهم دائما، فغلت
351

الأسعار عند ابن الزبير وأصاب الناس مجاعة شديدة حتى ذبح فرسه وقسم لحمها في أصحابه وبيعت الدجاجة بعشرة دراهم والمد الذرة بعشرين درهما وان بيوت ابن الزبير لمملوءة قمحا وشعيرا وذرة وتمرا وكان أهل الشام ينتظرون فناء ما عنده وكان يحفظ ذلك ولا ينفق منه إلا ما يمسك الرمق ويقول أنفس أصحابي قوية ما لم يفن.
فلما كان قبيل مقتله تفرق الناس عنه وخرجوا إلى الحجاج بالأمان خرج من عنده نحو عشرة آلاف وكان ممن فارقه ابناه حمزة وخبيب أخذا لأنفسهما أمانا فقال عبد الله لابنه الزبير خذ لنفسك أمانا كما فعل أخواك فوالله إني لأحب بقاءكم فقال ما كنت لأرغب بنفسي عنك فصبر معه فقتل.
ولما تفرق أصحابه عنه خطب الحجاج الناس وقال قد ترون قلة من مع ابن الزبير وما هم عليه من الجهد والضيق ففرحوا واستبشروا وتقدموا فملأوا ما بين الحجون إلى الأبواء فدخل على أمه فقال يا أماه خذلني الناس حتى ولدي وأهلي ولم يبق معي إلا اليسير ومن ليس عنده أكثر من صبر ساعة والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا فما رأيك فقالت أنت والله يا بني أعلم بنفسك إن كنت تعلم أنك على حق وإليه تدعو فامض له فقد قتل عليه أصحابك ولا تمكن من رقبتك يتلعب بها غلمان بني أمية وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت أهلكت نفسك
ومن قتل معك وإن قلت كنت على حق فلما وهن أصحابي ضعفت فهذا ليس فعل الأحرار ولا أهل الدين كم خلودك في الدنيا! القتل أحسن! فقال يا أماه أخاف ان قتلني
352

أهل الشام أن يمثلوا بي ويصلبوني قالت يا بني إن الشاة [إذا ذبحت] لا تتألم بالسلخ فامض على بصيرتك واستعن بالله.
فقبل رأسها وقال: هذا رأيي والذي خرجت هخ دائبا إلى يومي هذا ما ركنت إلى الدنيا ولا أحببت الحياة فيها وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله وان تستحل حرماته ولكني أحببت أن أعلم رأيك فقد زدتني بصيرة فانظري يا أماه فإني مقتول في يومي هذا فلا يشتد حزنك وسلمي الأمر إلى الله فإن ابنك لم يتعهد إيثار منكر ولا عملا بفاحشة ولم يجر في حكم الله ولم يغدر في أمان ولم يتعمد ظلم مسلم أو معاهد ولم يبلغني ظلم عن عمالي فرضيت به بل أنكرته ولم يكن شيء آثر عندي من رضا ربي اللهم لا أقول هذا تزكية لنفسي ولكني أقوله تعزية لأمي حتى تسلو عني!
فقالت أمه: [إني] لأرجو أن يكون عزائي فيك جميلا إن تقدمتني احتسبتك وإن ظفرت سررت بظفرك اخرج حتى أنظر إلى ما يصير أمرك فقال جزاك الله خيرا فلا تدعي الدعاء لي قالت لا أدعه لك أبدا فمن قتل على باطل فقد قتلت على حق ثم قالت اللهم ارحم طول ذاك القيام في الليل الطويل وذلك النحيب والظمأ في هواجر مكة والمدينة وبره بأبيه وبي اللهم قد سلمته لأمرك فيه ورضيت بما قضيت فأثبني فيه ثواب الصابرين الشاكرين!
353

فتناول يديها ليقبلهما فقالت هذا وداع فلا تبعد فقال لها جئت مودعا لأني أرى هذا آخر أيامي من الدنيا قالت امض على بصيرتك وادن مني حتى أودعك فدنا منها فعانقها وقبلها فوقعت يدها على الدرع فقالت ما هذا صنيع من يريد ما تريد فقال ما لبسته إلا لأشد متنك قالت فإنه لا يشد متني فنزعها ثم درج كميه وشد أسفل قميصه وجبة خز تحت أثناء السراويل وأدخل أسفلها تحت المنطقة وأمه تقول له: البس ثيابك مشمرة. فخرج وهو يقول:
(إني إذا أعرف يومي أصبر)
(وإنما يعرف يومه الحر)
(إذ بعضهم يعرف ثم ينكر)
فسمعته فقالت تصبر إن شاء الله أبواك أبو بكر والزبير وأمك صفية بنت عبد المطلب فحمل على أهل الشام حملة منكرة فقتل منهم ثم انكشف هو وأصحابه وقال له بعض أصحابه لو لحقت بموضع كذا قال بئس الشيخ أنا إذا في الاسلام لئن أوقعت قوما فقتلوا ثم فررت عن مثل مصارعهم ودنا أهل الشام حتى امتلأت منهم الأبواب، وكانوا يصيحون به: يا ابن ذات النطاقين، فيقول:
(وتلك شكاة ظاهر عنك عارها)
وجعل أهل الشام على أبواب المسجد رجلا من أهل كل بلد فكان لأهل
354

حمص الباب الذي يواجه باب الكعبة ولأهل دمشق باب بني شيبة ولأهل الأردن باب الصفا ولأهل فلسطين باب بني جمح ولأهل قنسرين باب بني تميم وكان الحجاج وطارق من ناحية الأبطح من المروة فمرة يحمل ابن الزبير في هذه الناحية ومرة في هذه الناحية فكأنه أسد في أجمة ما يقدم عليه الرجال يعدو في أثر القوم حتى يخرجهم ثم يصيح أبا صفوان! ويل أمه فتحا لو كان له رجال أو كان قرني واحدا كفيته فيقول أبو صفوان عبد الله بن صفوان بن أمية بن خلف أي والله وألف.
فلما رأى الحجاج ان الناس لا يقدمون على ابن الزبير غضب وترجل وأقبل يسوق الناس ويصمد بهم صمد صاحب علم ابن الزبير وهو بين يديه فتقدم ابن الزبير على صاحب علمه وضاربهم فانكشفوا وعرج وصلى ركعتين عند المقام فحملوا على صاحب علمه فقتلوه عند باب بني شيبة وصار العلم بأيدي أصحاب الحجاج فلما فرغ من صلاته تقدم فقاتل بغير علم فضرب رجلا من أهل الشام وقال خذها وأنا ابن الحواري وضرب آخر وكان حبشيا فقطع يده وقال إصبر أبا حممة اصبر ابن حام.
وقاتل معه عبد الله بن مطيع وهو يقول:
(أنا الذي فررت يوم الحرة)
(والحر لا يفر إلا مره)
(واليوم أجزى فرة بكره)
وقاتل حتى قتل، وقيل: انه أصابته جراح فمات منها بعد أيام.
وقال ابن الزبير لأصحابه وأهله يوم قتل بعد صلاة الصبح: اكشفوا وجوهكم حتى أنظر إليكم، وعليهم المغافر. ففعلوا. فقال: يا آل الزبير لو
355

طبتم بي نفسا عن أنفسكم كنا أهل بيت من العرب اصطلحنا في الله فلا يرعكم وقع السيوف فإن ألم الدواء للجراح أشد من ألم وقعها صونوا سيوفكم كما تصونوا وجوهكم غضوا أبصاركم من البارقة وليشغل كل امرئ قرنه ولا تسألوا عني فمن كان سائلا عني فإني في الرعيل الأول احملوا على بركة الله ثم حمل عليهم حتى بلغ بهم الحجون فرمي بآجرة رماه رجل من السكون فأصابته في وجهه فأرعش لها ودمي وجهه فلما وجد الدم على وجهه قال:
(فلسنا على الأعقاب تدمي كلومنا * ولكن على أقدامنا تقطر الدما)
وقاتلهم قتالا شديدا فتعاوروا عليه فقتلوه يوم الثلاثاء من جمادى الآخرة وله ثلاث وسبعون سنة وتولى قتله رجل من مراد وحمل رأسه إلى الحجاج فسجد ووفد السكوني والمرادي إلى عبد الملك بالخبر فأعطى كل واحد منهما خمسمائة دينار.
وسار الحجاج وطارق حتى وقفا عليه فقال طارق ما ولدت النساء أذكر من هذا فقال الحجاج أتمدح مخالف أمير المؤمنين قال نعم هو أعذر لنا ولولا هذا لما كان لنا عذر إنا محاصروه منذ سبعة أشهر وهو في غير جند ولا حصن ولا منعة فينتصف منا بل يفضل علينا فبلغ كلامهما عبد الملك فصوب طارقا.
ولما قتل ابن الزبير كبر أهل الشام فرحا بقتله، فقال ابن عمر انظروا
356

إلى هؤلاء ولقد كبر المسلمون فرحا بولادته وهؤلاء يكبرون [فرحا] بقتله.
وبعث الحجاج برأسه ورأس عبد الله بن صفوان ورأس عمارة بن عمرو بن حزم إلى المدينة ثم ذهب بها إلى عبد الملك بن مروان وأخذ جثته فصلبها على الثنية اليمنى بالحجون فأرسلت اليه أسماء قاتلك الله! على ماذا صلبته؟ قال استبقت أنا وهو إلى هذه الخشبة وكانت له فاستأذنته في تكفينه ودفنه فأبى ووكل بالخشبة من يحرسها وكتب إلى عبد الملك يخبره بصلبه فكتب إليه يلومه ويقول ألا خليت بينه وبين أمه فأذن لها الحجاج فدفنته بالحجون فمر به عبد الله بن عمر فقال السلام عليك يا أبا خبيب أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا ولقد كنت صواما قواما وصولا للرحم أما والله ان قوما أنت شرهم لنعم القوم.
وكان ابن الزبير قبل قتله بقي أياما يستعمل الصبر والمسك لئلا ينتن فلما صلب ظهرت منه رائحة المسك، فقيل ان الحجاج صلب معه كلبا ميتا فغلب على ريح المسك، وقيل بل صلب معه سنورا.
ولما قتل عبد الله ركب أخوه عروة ناقة لم ير مثلها فسار إلى عبد الملك فقدم الشام قبل وصول رسل الحجاج بقتل عبد الله فاتى باب عبد الملك فاستأذن عليه فأذن له فلما دخل سلم عليه بالخلافة فرد عليه عبد الملك ورحب به وعانقه وأجلسه على السرير فقال عروة:
(متنت بأرحام إليك قريبة * ولا قرب للأرحام ما لم تقرب)
ثم تحدثا حتى جرى ذكر عبد الله فقال عروة إنه كان فقال عبد
357

الملك: وما فعل؟ قال: قتل، فخر ساجدا، فقال عروة: ان الحجاج صلبه فهب جثته لأمه قال نعم وكتب إلى الحجاج يعظم صلبه وكان الحجاج لما فقد عروة كتب إلى عبد الملك يقول له إن عروة كان مع أخيه فلما قتل عبد الله أخذ مالا من مال الله فهرب فكتب اليه عبد الملك انه لم يهرب ولكنه أتاني مبايعا وقد أمنته وحللته مما كان وهو قادم عليك فإياك وعروة وعاد عروة إلى مكة وكان غيبته عنها ثلاثين يوما.
فأنزل الحجاج جثة عبد الله عن الخشبة وبعث به إلى أمه فغسلته فلما أصابه الماء تقطع فغسلته عضوا عضوا
فاستمسك، وصلى عليه عروة، ودفنته.
وقيل: إن عروة لما كان غائبا عند عبد الملك كتب اليه الحجاج وعاوده في إنفاذ عروة اليه فهم عبد الملك بانفاذه فقال عروة ليس الذليل من قتلتموه ولكن الذليل من ملكتموه وليس بملوم من صبر فمات ولكن الملوم من فر من الموت فسمع منه هذا الكلام فقال عبد الملك يا أبا عبد الله لن تسمع منا شيئا تكرهه.
وإن عبد الله لم يصل عليه أحد منعه الحجاج من الصلاة عليه وقال إنما أمر أمير المؤمنين بدفنه، وقيل: صلى عليه غير عروة والذي ذكره مسلم في صحيحه أن عبد الله بن الزبير ألقي في مقابر اليهود وعاشت أمه بعده قليلا وماتت وكانت قد أضرت وهي أم عروة أيضا.
فلما فرغ الحجاج من أمر ابن الزبير دخل مكة فبايعه أهلها لعبد الملك بن مروان وأمر بكنس المسجد الحرام من الحجارة والدم وسار إلى المدينة وكان عبد الملك قد استعمله على مكة والمدينة فلما قدم المدينة أقام بها شهرا
358

أو شهرين فأساء إلى أهلها واستخف بهم وقال أنتم قتلة أمير المؤمنين عثمان وختم أيدي جماعة من الصحابة بالرصاص استخفافا بهم كما يفعل بأهل الذمة منهم جابر بن عبد الله وأنس بن مالك وسهل بن سعد ثم عاد إلى مكة فقال حين خرج منها الحمد لله الذي أخرجني من أم نتن أهلها أخبث بلد وأغشه لأمير المؤمنين وأحسدهم له على نعمة الله والله لولا ما كانت تأتيني كتب أمير المؤمنين فيهم لجعلتها مثل جوف الحمار أعوادا يعودون بها وزمة قد بليت يقولون منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ جابر بن عبد الله قوله فقال إن وراءه ما يسوءه قد قال فرعون ما قال ثم أخذه الله بعد أن أنظره.
وقيل: إن ولاية الحجاج المدينة وما فعله بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان سنة أربع وسبعين في صفر.
(خبيب بن عبد الله بن الزبير بضم الخاء المعجمة وبائين موحدتين بينهما ياء مثناة من تحت وكان عبد الله يكنى به وبأبي بكر أيضا).
ذكر عمر ابن الزبير وسيرته
كان له من العمر حين قتل اثنتان وسبعون سنة وكانت خلافته تسع سنين لأنه بويع له سنة أربع وستين وكانت له جمة مفروقة طويلة.
قال يحيى بن وثاب: كان ابن الزبير إذا سجد وقعت العصافير على ظهره تظنه حائطا لسكونه وطول سجوده. وقال غيره: قسم عبد الله الدهر ثلاث
359

حالات فليلة قائم حتى الصباح وليلة راكع حتى الصباح وليلة ساجد حتى الصباح.
وقيل: أول ما علم من همة ابن الزبير أنه كان ذات يوم يلعب مع الصبيان وهو صبي فمر به رجل فصاح عليهم ففروا ومشى ابن الزبير القهقرى وقال يا صبيان اجعلوني أميركم وشدوا بنا عليه ففعلوا ومر به عمر بن الخطاب وهو يلعب ففر الصبيان ووقف هو فقال له عمر مالك لم تفر معهم فقال لم أجرم فأخافك ولم تكن الطريق ضيقة فأوسع لك.
وقال قطن بن عبد الله كان ابن الزبير يواصل من الجمعة إلى الجمعة. قال خالد بن أبي عمران: كان ابن الزبير يفطر في الشهر ثلاثة أيام ومكث أربعين سنة لم ينزع ثيابه عن ظهره.
وقال مجاهد لم يكن باب من أبواب العبادة يعجز عنه الناس إلا تكلفه ابن الزبير ولقد جاء سيل طبق البيت فجعل ابن الزبير يطوف سباحة قال هشام بن عروة كان أول ما أفصح به عمي عبد الله بن الزبير وهو صغير السيف فكان لا يضعه من يده فكان الزبير يقول والله ليكونن لك منه يوم وأيام قال ابن سيرين قال ابن الزبير ما شيء كان يحدثنا به كعب إلا وقد جاء على ما قال إلا قوله فتى ثقيف يقتلني وهذا رأسه بني يدي يعني المختار قال ابن سيرين ولا يشعر ابن الزبير أن الحجاج قد خبئ له.
وقال عبد العزيز بن أبي جميلة الأنصاري: إن ابن عمر مر بابن الزبير وهو مصلوب بعد قتله فقال رحمك الله أبا خبيب إنك كنت صواما قواما ولقد أفلحت قريش إن كنت شرها.
وكان الحجاج قد صلبه ثم ألقاه في مقابر اليهود وأرسل إلى أمه يستحضرها،
360

فلم تحضر فأرسل إليها لتأتيني أو لأبعثن إليك من يسحبك بقرونك فلم تأته فقام إليها فلما حضر قال لها كيف رأيتني صنعت بعبد الله قالت رأيتك أفسدت على ابني دنياه وأفسد عليك آخرتك أما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أن في ثقيف كذابا ومبيرا فأما الكذاب فقد رأيناه تعني المختار وأما المبير فأنت هو وهذا حديث صحيح أخرجه مسلم في صحيحه.
وقال ابن الزبير لعبد الله بن جعفر أتذكر يوم لقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأنت فأخذ بني فاطمة فقال نعم فحملنا وتركك ولو علم أنه يقول له هذا ما سأله.
ذكر ولاية محمد بن مروان الجزيرة وأرمينية
وفي هذه السنة استعمل عبد الملك أخاه محمدا على الجزيرة وأرمينية فغزا منها وأثخن [في] العدو، وكانت بحيرة الطريخ التي بأرمينية مباحة لم يعرض لها أحد بل يأخذ منها من شاء فمنع من صيدها وجعل عليها من يأخذه ويبيعه ويأخذ ثمنه ثم صارت بعده لابنه مروان ثم أخذت منه لما انتقلت الدولة عنهم وهي إلى الآن على هذا الحال من الحجر ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أوزارهم شيء.
وهذا الطريخ من عجائب الدنيا لأن سمكه صغير له كل سنة موسم يخرج من هذه البحيرة في نهر يصب إليها كثيرا يؤخذ بالأيدي والآلات المصنوعة له، فإذا انقضى موسمه لا يوجد منه شيء.
361

ذكر قتل أبي فديك الخارجي
قد ذكرنا سنة اثنتين وسبعين قتل نجدة بن عامر الخارجي وطاعة أصحابه أبا فديك وثبت قدم أبي فديك إلى الآن فامر عبد الملك بن مروان عمر بن عبيد الله بن معمر أن يندب الناس من أهل الكوفة والبصرة ويسير إلى قتاله فندبهم وانتدب معه عشرة آلاف فأخرج لهم أرزاقهم ثم سار بهم وجعل أهل الكوفة على الميمنة وعليهم محمد بن موسى بن طلحة بن عبيد الله وأهل البصرة على الميسرة وعليهم عمر بن موسى بن عبيد الله بن معمر وهو ابن أخي عمر وجعل خيله في القلب وساروا حتى انتهوا إلى البحرين فالتقوا واصطفوا للقتال فحمل أبو فديك وأصحابه حملة رجل واحد فكشفوا ميسرة عمر حتى أبعدوا إلا المغيرة بن المهلب ومجاعة بن عبد الرحمن وفرسان الناس فإنهم مالوا إلى صف أهل الكوفة بالميمنة وجرح عمر بن موسى.
فلما رأى أهل الميسرة أهل الميمنة لم ينهزموا رجعوا وقاتلوا وما عليهم أمير لأن أميرهم عمر بن موسى كان جريحا فحملوه معهم واشتد قتالهم حي دخلوا عسكر الخوارج وحمل أهل الكوفة من الميمنة ومن معهم من أهل الميسرة حتى استباحوا عسكرهم وقتلوا أبا فديك وحصروا أصحابه بالمشقر فنزلوا على الحكم فقتل منهم نحو ستة آلاف وأسر ثمانمائة ووجدوا جارية عبد الله بن أمية حبلى من أبي فديك وعادوا إلى البصرة.
362

ذكر عدة حوادث
في هذه السنة عزل عبد الملك خالد بن عبد الله عن البصرة وولاها أخاه بشرا في قول بعضهم فاجتمع له المصران بالكوفة والبصرة فسار بشر إلى البصرة واستخلف على الكوفة عمرو بن حريث وفيها غزا محمد بن مروان الروم صائفة فهزمهم وفيها كانت وقعة عثمان بن الوليد بالروم من ناحية أرمينية في أربعة آلاف والروم في ستين ألفا فهزمهم وأكثر القتل فيهم.
وحج بالناس هذه السنة الحجاج، وكان على مكة واليمن واليمامة وكان على الكوفة والبصرة في قول بعضهم بشر بن مروان وقيل كان على الكوفة بشر وعلى البصرة خالد بن عبد الله وعلى قضاء الكوفة شريح بن الحرث وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة وعلى خراسان بكير بن وساج.
وفي هذه السنة مات عبد الله بن عمر بمكة ودفن بذي طوى وقيل بفخ وكان سبب موته أن الحجاج أمر بعض أصحابه فضرب ظهر قدمه بزج رمح مسموم فمات منها وعاده الحجاج في مرضه فقال من فعل بك هذا قال أنت لأنك أمرت بحمل السلاح في بلد لا يحل حمله فيه وكان موته بعد ابن الزبير بثلاثة أشهر وقيل غير ذلك وكان عمره سبعا وثمانين سنة.
وفيها مات سلمة بن الأكوع. وأبو سعيد الخدري. ورافع بن خديج. ومالك بن مسمع أبو غسان البكري وقيل مات سنة أربع وستين وولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوفي سلم بن زياد بن أبيه قبل بشر بن مروان وأسماء بنت أبي بكر بعد ابنها بقليل وكانت قد عميت،
363

وهي مطلقة من الزبير قيل ان ابنها عبد الله قال له مثلي لا توطأ أمه فطلقها. وفيها مات عوف بن مالك الأشجعي وكان أول مشاهده خيبر ومعاوية بن حديج قبل ابن عمر بيسير وفيها مات معبد بن خالد الجهني وهو ابن ثمانين سنة وله صحبة وفيها قتل عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله مع ابن الزبير وهو ابن أخي طلحة بن عبيد الله وله صحبة.
(رافع بن خديج بفتح الخاء المعجمة وكسر الدال المهملة ومعاوية بن حديج بضم الحاء وفتح الدال المهملتين وآخره جيم).
364

74
ثم دخلت سنة أربع وسبعين
في هذه السنة عزل عبد الملك طارقا عن المدينة واستعمل عليها الحجاج فأقام بها شهرا وفعل بالصحابة ما تقدم ذكره وخرج عنها معتمرا.
وفيها هدم الحجاج بناء الكعبة الذي كان ابن الزبير بناه وأعادها إلى البناء الأول وأخرج الحجر منها وكان عبد الملك يقول كذب ابن الزبير على عائشة في أن الحجر من البيت فلما قيل له: قال غير ابن الزبير إنها روت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وددت أني تركته وما يحمل.
وفيها استقضى عبد الملك أبا إدريس الخولاني.
ذكر ولاية المهلب حرب الأزارقة
لما استعمل عبد الملك أخاه بشرا على البصرة سار إليها، فأتاه كتاب عبد الملك يأمره أن يبعث المهلب إلى حرب الأزارقة في أهل البصرة ووجوههم، وكان ينتخب منهم من أراد أن يتركه وراءه في الحرب وأمره أن يبعث من أهل الكوفة رجلا شريفا معروفا بالبأس والنجدة والتجربة في جيش كثيف إلى المهلب وأمرهم أن يتبعوا الخوارج أين كانوا حتى يهلكوهم.
فأرسل المهلب جديع بن سعيد بن قبيصة وأمره أن ينتخب الناس من
365

الديوان وشق على بشر أن امرة المهلب جاءت من [قبل] عبد الملك فأوغرت صدره عليه حتى كأنه أذنب اليه فدعا عبد الرحمن بن مخنف فقال له قد عرفت منزلك عندي وقد رأيت أن أوليك هذا الجيش الذي أسيره من الكوفة للذي عرفته منك فكن عند أحسن ظني بك وانظر إلى هذا كذا وكذا يقع في المهلب فاستبد عليه بالأمر ولا تقبلن له مشورة ولا رأيا وتنقصه.
قال عبد الرحمن: فترك أن يوصيني بالجيش وقتال العدو والنظر لأهل الاسلام وأقبل يغريني بابن عمي كأني من السفهاء ما رأيت شخصا مثلي طمع منه في مثل هذا قال فلما رأى أني لست بنشيط إلى جوابه قال لي مالك قلت أصلحك الله وهل يسعني إلا إنفاذ أمرك فيما أحببت وكرهت!
وسار المهلب حتى نزل رام هرمز فلقي بها الخوارج فخندق عليه وأقبل عبد الرحمن في أهل الكوفة ومعه بشر بن جرير ومحمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس وإسحاق بن محمد بن الأشعث وزحر بن قيس فسار حتى نزل على ميل من المهلب حيث يتراءى العسكران برام هرمز فلم يلبث العسكر حتى أتاهم نعي بشر بن مروان توفي بالبصرة فتفرق ناس كثير من أهل البصرة وأهل الكوفة واستخلف بشر على البصرة خالد بن عبد الله بن خالد وكان خليفته على الكوفة عمرو بن حريث.
وكان الذين انصرفوا من أهل الكوفة زحر بن قيس وإسحاق بن محمد بن الأشعث ومحمد بن عبد الرحمن بن سعيد فأتوا الأهواز فاجتمع بها ناس كثير فبلغ ذلك خالد بن عبيد الله فكتب إليهم يأمرهم بالرجوع إلى المهلب وتهددهم إن لم يفعلوا بالضرب والقتل ويحذرهم عقوبة عبد الملك فلما قرأ الرسول من الكتاب عليهم سطرا أو سطرين قال زحر أوجز فلما فرغ من قراءته
366

لم يلتفت الناس اليه، وأقبل زحر ومن معه حتى نزلوا إلى جانب الكوفة وأرسلوا إلى عمرو بن حريث أن النفر لما بلغهم وفاة الأمير تفرقوا فأقبلنا إلى مصرنا وأحببنا أن لا ندخل إلا بإذن الأمير فكتب إليهم ينكر عليهم عودهم ويأمرهم بالرجوع إلى المهلب ولم يأذن لهم في دخول الكوفة فانتظروا الليل ثم دخلوا إلى بيوتهم فأقاموا حتى قدم الحجاج أميرا.
ذكر عزل بكير عن خراسان وولاية أمية بن عبد الله بن خالد
في هذه السنة عزل عبد الملك بكير بن وشاح عن خراسان وولاها أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد وكانت ولاية بكير سنتين.
وكان سبب عزله أن تميما اختلفت بها فصارت مقاعس والبطون يتعصبون لبحير ويطلبون بكيرا وصارت أوف والأبناء يتعصبون لبكير وكل هذه بطون من بني تميم فخاف أهل خراسان أن تعود الحرب وتفسد البلاد ويقهرهم المشركون فكتبوا إلى عبد الملك بذلك وأنها لا تصلح إلا على رجل من قريش لا يحسدونه ولا يتعصبون عليه فاستشار عبد الملك فيمن يوليه فقال أمية يا أمير المؤمنين تداركهم برجل منك قال لولا انهزامك عن أبي فديك كنت لها قال يا أمير المؤمنين والله ما انهزمت حتى خذلني الناس ولم أجد مقاتلا فرأيت أن انحيازي إلى فئة أفضل من تعرض عصبة بقيت من المسلمين للهلكة وقد كتب إليك خالد بن عبد الله بعذري وقد علم الناس ذلك فولاه خراسان وكان عبد الملك يحبه فقال الناس ما رأينا أحدا عوض من هزيمة ما عوض أمية.
367

فلما سمع بكير بمسيره أرسل إلى بحير وهو في حبسه وقد تقدم ذكر ذلك في مقتل ابن خازم يطلب منه الصلح فامتنع بحير وقال ظن بكير أن خراسان تبقى له في الجماعة ومشت السفراء بينهم فأبى ذلك بحير فدخل عليه ضرار بن حصين الضبي فقال أراك أحمق يرسل إليك ابن عمك يعتذر إليك وأنت أسيره والسيف بيده ولو قتلتك ما حبقت فلا تقبل منه اقبل الصلح واخرج وأنت على رأس أمرك فقبل منه وصالح بكيرا فأرسل إليه بكير بأربعين ألفا وأخذ عليه أن لا يقاتله وخرج بحير فأقام يسأل عن مسير أمية فلما بلغه أنه قد قارب نيسابور سار اليه ولقيه بها فأخبره عن خراسان وما يحسن به طاعة أهلها ورفع على بكير أموالا أخذها وحذره غدره وسار معه حتى قدم مرو وكان أمية كريما ولا يعرض لبكير ولا لعماله وعرض عليه شرطته فأبى فولاها بحير بن ورقاء فلام بكيرا رجال من قومه فقال كنت بالأمس أميرا تحمل الحراب بين يدي فأصير اليوم أحمل الحربة!
ثم خير أمية بكيرا أن يوليه ما شاء من خراسان فاختار طخارستان قال فتجهز لها فأنفق مالا كثيرا فقال بحير لأمية إن أتى طخارستان خلعك وحذره فلم يوله.
(أسيد بفتح الهمزة وكسر السين وبحير بفتح الباء الموحدة وكسر الحاء).
ذكر ولاية عبد الله بن أمية سجستان
لما وصل أمية بن عبد الله إلى كرمان استعمل ابنه عبد الله على سجستان فلما قدمها غزا رتبيل الذي ملك بعد المقتول الأول وكان رتبيل هائبا للمسلمين،
368

فلما وصل عبد الله إلى بست أرسل رتبيل يطلب الصلح وبذل ألف ألف وبعث إليه بهدايا ورقيق فأبى عبد الله قبول ذلك وقال إن ملأ لي هذا الرواق ذهبا وإلا فلا صلح وكان غرا فخلى له رتبيل البلاد حتى أوغل فيها وأخذ عليه الشعاب والمضايق فطلب أن يخلى عنه وعن المسلمين ولا يأخذ منه شيئا فأبى رتبيل وقال بل يأخذ ثلاثمائة ألف درهم صلحا ويكتب لنا به كتابا ولا يغزو بلادنا ما كنت أميرا ولا يحرق ولا يخرب ففعل وبلغ ذلك عبد الملك فعزله.
ذكر ولاية حسان بن النعمان أفريقية
قد ذكرنا ولاية زهير بن قيس سنة اثنتين وستين وكان قتله سنة تسعة وستين فلما علم عبد الملك قتله عظم عليه وعلى المسلمين وأهمه ذلك وشغله عن أفريقية ما كان بينه وبين ابن الزبير فلما قتل ابن الزبير واجتمع المسلمون عليه جهز جيشا كثيرا واستعمل عليهم وعلى إفريقية حسان بن النعمان الغساني وسيرهم إليها في هذه السنة فلم يدخل إفريقية قط جيش مثله.
فلما ورد القيروان تجهز منها وسار إلى قرطاجنة وكان صاحبها أعظم ملوك إفريقية ولم يكن المسلمون قط حاربوها فلما وصل إليها رأى بها من الروم والبربر ما لا يحصى كثرة فقاتلهم وحصرهم وقتل منهم كثيرا، فلما رأوا ذلك اجتمع رأيهم على الهرب فركبوا في مراكبهم وسار بعضهم إلى صقلية وبعضهم إلى الأندلس ودخلها حسان بالسيف فسبى ونهب وقتلهم قتلا ذريعا وأرسل الجيوش فيما حولها فأسرعوا إليه خوفا فأمرهم فهدموا من قرطاجنة ما قدروا عليه.
369

ثم بلغه أن الروم والبربر قد اجتمعوا له في صطفورة وبنزرت وهما مدينتان فسار إليهم وقاتلهم ولقي منهم شدة وقوة فصبر لهم المسلمون فانهزمت الروم وكثر القتل فيهم واستولوا على بلادهم ولم يترك حسان موضعا من بلادهم إلا وطئه وخاف أهل إفريقية خوفا شديدا ولجأ المنهزمون من الروم إلى مدينة باجة فتحصنوا وتحصن البربر بمدينة بونة فعاد حسان إلى القيروان لأن الجراح كثرت في أصحابه فأقام بها حتى صحوا.
ذكر تخريب أفريقية
لما صلح الناس قال حسان دلوني على أعظم من بقي من ملوك أفريقية فدلوه على امرأة تملك البربر تعرف بالكاهنة وكانت تخبرهم بأشياء من الغيب ولهذا سميت بالكاهنة وكانت بربرية وهي بجبل أوراس وقد اجتمع حولها البربر بعد قتل كسيرة فسأل أهل إفريقية عنها فعظموا محلها وقالوا له ان قتلتها لم تختلف البربر بعدها عليك فسار إليها فلما قاربها هدمت حصن باغاية ظنا منها انه يريد الحصون فلم يعرج حسان على ذلك وسار إليها فالتقوا على نهر نيني واقتتلوا أشد قتال رآه الناس فانهزم المسلمون وقتل منهم خلق كثير وانهزم حسان وأسر جماعة كثيرة أطلقتهم الكاهنة سوى خالد بن يزيد القيسي وكان شريفا شجاعا فاتخذته ولدا.
وسار حسان حتى فارق أفريقية وأقام وكتب إلى عبد الملك يعلمه الحال فأمره عبد الملك بالمقام إلى أن يأتيه أمره فأقام بعمل برقة خمس سنين فسمي ذلك المكان قصور حسان إلى الآن وملكت الكاهنة أفريقية كلها وأساءت
370

السيرة في أهلها وعسفتهم وظلمتهم.
ثم سير إليه عبد الملك الجنود والأموال وأمره بالمسير إلى أفريقية وقتال الكاهنة فأرسل حسان رسولا سرا إلى خالد بن يزيد وهو عند الكاهنة بكتاب يستعلم منه الأمور فكتب إليه خالد جوابه في رقعة يعرفه تفرق البربر ويأمره بالسرعة وجعل الرقعة في خبزة وعاد الرسول فخرجت الكاهنة ناشرة شعرها تقول ذهب ملكهم فيما يأكل الناس فطلب الرسول فلم يوجد فوصل إلى حسان وقد احترق الكتاب بالنار فعاد إلى خالد وكتب إليه بما كتب أولا وأودعه قربوس السرج.
فسار حسان، فلما علمت الكاهنة بمسيره إليها قالت ان العرب يريدون البلاد والذهب والفضة ونحن إنما نريد المزارع والمراعي ولا أرى إلا [أن] أخرب إفريقية حتى ييأسوا منها. وفرقت أصحابها ليخربوا البلاد فخربوها وهدموا الحصون ونهبوا الأموال وهذا هو الخراب الأول لأفريقية.
فلما قرب حسان من البلاد لقيه جمع من أهلها من الروم يستغيثون من الكاهنة ويشكون اليه منها فسره ذلك وسار إلى قابس فلقيه أهلها بالأموال والطاعة وكانوا قبل ذلك يتحصنون من الأمراء وجعل فيها عاملا وسار إلى قفصة ليتقرب الطريق فأطاعه من بها واستولى عليها وعلى قسطيلية ونفزاوة.
وبلغ الكاهنة قدومه فأحضرت ولدين لها وخالد بن يزيد وقالت لهم: إنني مقتولة فامضوا إلى حسان وخذوا لأنفسكم منه أمانا. فساروا اليه وبقوا
371

معه وسار حسان نحوها فالتقوا واقتتلوا واشتد القتال وكثر القتل حتى ظن أنه الفناء ثم نصر الله المسلمين وانهزم البربر وقتلوا قتلا ذريعا وانهزمت الكاهنة ثم أدركت فقتلت.
ثم ان البربر استأمنوا إلى حسان فآمنهم وشرط عليهم أن يكون منهم عسكر مع المسلمين عدتهم اثنا عشر ألفا يجاهدون العدو فأجابوه إلى ذلك فجعل على هذا العسكر ابني الكاهنة ثم فشا الاسلام في البربر وعاد حسان إلى القيروان في رمضان من تلك السنة وأقام لا ينازعه أحد إلى أن توفي عبد الملك.
فلما ولي الوليد بن عبد الملك ولى إفريقية عمه عبد الله بن مروان فعزل عنها حسانا واستعمل موسى بن نصير سنة تسع وثمانين على ما نذكره إن شاء الله.
وقد ذكر الواقدي أن الكاهنة خرجت غضبا لقتل كسيلة وملكت أفريقية جميعها وعملت باهلها الأفاعيل القبيحة وظلمتهم الظلم الشنيع ونال من بالقيروان من المسلمين أذى شديد بعد قتل زهير بن قيس سنة سبع وستين فاستعمل عبد الملك على أفريقية حسان بن النعمان فسار في جيوش كثيرة وقصد الكاهنة فاقتتلوا فانهزم المسلمون وقتل منهم جماعة كثيرة وعاد حسان منهزما إلى نواحي برقة فأقام بها إلى سنة أربع وسبعين فسير إليه عبد الملك جيشا كثيفا وأمره بقصد الكاهنة فسار إليها وقاتلها فهزمها وقتلها وقتل أولادها وعاد إلى القيروان.
وقيل إنه لما قتل الكاهنة عاد من فوره إلى عبد الملك واستخلف على أفريقية رجلا اسمه أبو صالح إليه ينسب فحص صالح.
372

ذكر عدة حوادث
حج بالناس هذه السنة الحجاج بن يوسف وكان على قضاء المدينة عبد الله بن قيس بن مخرمة وعلى قضاء الكوفة شريح وعلى قضاء البصرة هشام ابن هبيرة.
وقيل: إن عبد الملك اعتمر هذه السنة ولا يصح.
وفيها غزا محمد بن مروان الروم صائفة فبلغ أندولية.
وفيها مات جابر بن سمرة السوائي في امارة بشر بن مروان بالكوفة وفي إمارته أيضا مات أبو جحيفة بالكوفة وفيها مات عمرو بن ميمون الأودي وقيل سنة خمس وسبعين وكان قد أدرك الجاهلية وهو من المعمرين وفيها مات عبد الله بن عتبة بن مسعود وكان من عمال عمر وقيل مات سنة ثلاث وسبعين وفيها مات عبد الرحمن بن عثمان التيمي وله صحبة وفيها مات محمد بن حاطب بن الحرث الجمحي وكان مولده بأرض الحبشة وأتى به النبي صلى الله عليه وسلم وفيها مات أبو سعيد بن معلى الأنصاري وفيها مات أوس بن ضمعج الكوفي.
(ضمعج بالضاد المعجمة والجيم).
373

75
ثم دخلت سنة خمس وسبعين
في هذه السنة غزا محمد بن مروان الصائفة حين خرجت الروم من قبل مرعش.
ذكر ولاية الحجاج بن يوسف العراق
في هذه السنة ولى عبد الملك الحجاج بن يوسف العراق دون خراسان وسجستان، فأرسل إليه عبد الملك بعهده على العراق وهو بالمدينة وأمره بالمسير إلى العراق فسار في اثني عشر راكبا على النجائب حتى دخل الكوفة حين انتشر النهار فجأة وقد كان بشر بعث المهلب إلى الخوارج فبدأ الحجاج بالمسجد فصعد المنبر وهو متلثم بعمامة خز حمراء فقال علي بالناس فحسبوه وأصحابه خارجيا فهموا به وهو جالس على المنبر ينتظر اجتماعهم فاجتمع الناس وهو ساكت قد أطال السكوت فتناول محمد بن عمير حصباء وأراد أن يحصبه بها وقال قاتله الله ما أغباه وأذمه والله إني لأحسب خبره كروائه فلما تكلم الحجاج جعلت الحصباء تنتشر من يده وهو لا يعقل به قال ثم كشف الحجاج عن وجهه وقال:
374

(أنا ابن جلا وطلاع الثنايا * متى أضع العمامة تعرفوني)
أما والله إني لأحمل الشر محمله وآخذه بفعله وأجزيه بمثله وإني لأرى رؤوسا قد أينعت وقد حان قطافها إني لأنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى قد شمرت عن ساقها تشميرا:
(هذا أوان الحرب فاشتدي زيم * قد لفها الليل بسواق حطم)
(ليس براعي إبل ولا غنم * ولا بجزار على لحم وضم)
ثم قال:
(قد لفها الليل بعصلبي * أروع خراج من الدوي)
(مهاجر ليس بأعرابي)
(ليس أوان بكرة الخلاط * جاءت به والقلص الأعلاط)
(تهوي هوي سائق الغطاط)
إني والله يا أهل العراق ما أغمز كتغماز التين ولا يقعقع لي بالشنان ولقد فررت عن ذكاء وجريت إلى الغاية القصوى ثم قرا: (وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما
375

كانوا يصنعون)؛ وأنتم أولئك وأشباه أولئك إن أمير المؤمنين عبد الملك نثر كنانته فعجم عيدانها فوجدني أمرها عودا وأصلبها مكسرا فوجهني إليكم ورمى بي في نحوركم فإنكم أهل بغي وخلاف وشقاق ونفاق فإنكم طالما أوضعتم في الشر وسننتم سنن الغي فاستوثقوا واستقيموا فوالله لأذيقنكم الهوان ولأمرينكم به حتى تدروا ولألحونكم لحو العود ولأعصبنكم عصب السلمة حتى تذلوا ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل حتى تذروا العصيان وتنقادوا ولأقرعنكم قرع المروة حتى تلينوا إني والله ما أعد إلا وفيت ولا أخلق إلا وفيت ولا أخلق إلا فريت فإياي وهذه الجماعات فلا يركبن رجل إلا وحده أقسم بالله لتقبلن على الإنصاف ولتدعن الإرجاف وقيلا وقال وما تقول وما يقول وأخبرني فلان أو لأدعن لكل رجل منكم شغلا في جسده فيم أنتم وذاك والله لتستقيمن على الحق أو لأضربنكم بالسيف ضربا يدع النساء أيامى والولدان يتامى حتى تذروا السمهي وتقلعوا عن هواها ألا إنه لو ساغ لأهل المعصية معصيتهم ما جيء فيء ولا قوتل عدو ولعطلت الثغور ولولا أنهم يغزون كرها ما غزو طوعا!
وقد بلغني رفضكم المهلب وإقبالكم على مصركم عاصين مخالفين وإني أقسم بالله لا أجد أحدا من عسكره بعد ثلاثة إلا ضربت عنقه وأنهبت داره!
ثم أمر بكتاب عبد الملك فقرئ على أهل الكوفة فلما قال القارئ:
376

أما بعد، سلام عليكم فإني أحمد الله إليكم قال له اقطع ثم قال يا عبيد العصا يسلم عليكم أمير المؤمنين فلا يرد راد منكم السلام أما والله لأؤدبنكم غير هذا الأدب ثم قال للقارئ اقرأ فلما قرأ سلام عليكم قالوا بأجمعهم سلام الله على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.
ثم دخل منزله لم يزد على ذلك ثم دعا العرفاء وقال ألحقوا الناس بالمهلب واتوني بالبراءة بموافاتهم ولا تغلقن أبواب الجسر ليلا ولا نهارا حتى تنقضي هذه المدة.
تفسير هذه الخطبة
قوله: أنا ابن جلا، فابن جلا هو الصبح لأنه يجلو الظلمة. وقوله: فاشتدي زيم، هو اسم للحرب والحطم الذي يحطم كل ما مر به والوضم ما وقي به اللحم عن الأرض والعصلبي الشديد والاعلاط من الإبل التي لا أرسان عليها وقوله فعجم عيدانها أي عضها واختبرها وقوله لأعصبنكم عصب السلمة فالعصب القطع والسلم شجر من العضاة وقوله لا أخلق إلا فريت فالخلق التقدير ويقال فريت الأديم إذا أصلحته والسمهي الباطل وأصله ما تسميه العامة مخاط الشيطان والغطاط بضم الغين المعجمة وقيل بفتحها ضرب من الطير.
* * *
فلما كان اليوم الثالث سمع تكبيرا في السوق فخرج حتى جلس على المنبر فقال يا أهل العراق وأهل الشقاق والنفاق ومساوئ الأخلاق! إني سمعت
377

تكبيرا ليس بالتكبير الذي يراد به وجه الله ولكنه التكبير الذي يراد به الترهيب وقد عرفت أنها عجاجة تحتها قصف يا بني اللكيعة وعبيد العصا وأبناء الأيامى ألا يربع رجل منكم على ظلفه ويحسن حقن دمه ويعرف موضع قدمه فأقسم بالله لأوشك أن أوقع بكم وقعة تكون نكالا لما قبلها وأدبا لما بعدها.
فقام عمير بن ضابئ الحنظلي التيمي فقال: أصلح الله الأمير أنا في هذا البعث وأنا شيخ كبير عليل وابني هذا أشب مني فقال الحجاج هذا خير لنا من أبيه ثم قال ومن أنت قال أنا عمير بن ضابئ قال أسمعت كلامنا بالأمس قال نعم قال ألست الذي غزا عثمان بن عفان قال بلى قال يا عدوا الله أفلا إلى عثمان بعثت بدلا وما حملك على ذلك قال إنه حبس أبي وكان شيخا كبيرا قال أولست القائل:
(هممت ولم أفعل وكدت وليتني * تركت على عثمان تبكي حلائله)
إني لأحسب أن في قتلك صلاح المصرين وأمر به فضربت رقبته وأنهب ماله.
وقيل أن عنبسة بن سعيد بن العاص قال للحجاج أتعرف هذا؟ قال: لا. قال: هذا أحد قتلة عثمان. فقال الحجاج: إي عدو الله! أفلا إلى أمير المؤمنين بعثت بديلا ثم أمر به فضربت عنقه وأمر مناديا فنادى ألا إن عميرا بن ضابئ أتى بعد ثلاثة وكان سمع النداء فأمرنا بقتله ألا إن ذمة الله بريئة ممن لم يأت الليلة إلى جند المهلب.
378

فخرج الناس فازدحموا على الجسر وخرج العرفاء إلى المهلب وهو برامهرمز فأخذوا كتبه بالموافاة فقال المهلب قدم العراق رجلا ذكر اليوم قتل العدو.
فلما قتل الحجاج عميرا لقي إبراهيم بن عامر الأسدي عبد الله بن الزبير فسأله عن الخبر، فقال:
(أقول لإبراهيم لما لقيته * أرى الأمر أضحى منصبا متشعبا)
(تجهز وأسرع فالحق الجيش لا أرى * سوى الجيش إلا في المهالك مذهبا)
(تخير فإما أن تزور ابن ضابئ * عميرا وإما أن تزور المهلبا)
(هما خطتا خسف نجاؤك منهما * ركوبك حوليا من البلج أشهبا)
(فحال ولو كانت خراسان دونه * رآها مكان السوق أو هي أقربا)
(فكائن ترى من مكره الغزو مسمر * تحمم حنو السرج حتى تحنبا)
تحمم أي لزمه حتى صار كالحميم وتحنب أعوج والزبير ههنا بفتح الزاي وكسر الباء.
قيل: وكان قدوم الحجاج في شهر رمضان فوجه الحكم بن أيوب الثقفي على البصرة أميرا وأمره أن يشتد على خالد بن عبد الله فبلغ خالدا الخبر فخرج عن البصرة قبل أن يدخلها الحكم فنزل الجلحاء وشيعه أهل البصرة فقسم فيهم ألف ألف.
فكان الحجاج أول من عاقب بالقتل على التخلف عن الوجه الذي يكتب إليه. قال الشعبي: كان الرجل إذا أخل بوجهه الذي يكتب إليه زمن عمر
379

وعثمان وعلي نزعت عمامته ويقام للناس ويشهر أمره فلما ولي مصعب قال ما هذا بشيء وأضاف إليه حلق الرؤوس واللحى فلما ولي بشر بن مروان زاد فيه فصار يرفع الرجل عن الأرض ويسمر في يديه مسماران في حائط فربما مات وربما خرق المسمار كفه فسلم فقال شاعر:
(لولا مخافة بشر أو عقوبته * وإن ينوط في كفي مسمار)
(إذا لعطلت ثغري ثم زرتكم * إن المحب لمن يهواه زوار)
فلما كان الحجاج قال: هذا لعب اضرب عنق من يخل مكانه في الثغر.
ذكر ولاية سعيد بن أسلم السند وقتله
في هذه السنة استعمل عبد الملك على السند سعيد بن أسلم بن زرعة فخرج عليه معاوية ومحمد ابنا الحرث العلاقيان فقتلاه وغلبا على البلاد فأرسل الحجاج مجاعة بن سعر التميمي إلى السند فغلب على ذلك الثغر وغزا وفتح أماكن من قندابيل ومات مجاعة بعد سنة بمكران فقيل فيه:
(ما من مشاهدك التي شاهدتها * إلا يزيدك ذكرها مجاعا)
ذكر وثوب أهل البصرة بالحجاج
في هذه السنة خرج الحجاج من الكوفة إلى البصرة واستخلف على الكوفة عروة بن المغيرة بن شعبة فلما قدم البصرة خطبهم بمثل خطبته بالكوفة وتوعد من رآه منهم بعد ثلاثة ولم يلحق بالمهلب فأتاه شريك بن عمرو
380

اليشكري وكان به فتق وكان أعور يضع على عينيه قطعة كرسفة فلقب ذا الكرسفة فقال أصلح الله الأمير إن بي فتقا وقد رآه بشر بن مروان فعذرني وهذا عطائي مردود في بيت المال فأمر به فضربت عنقه فلم يبق بالبصرة أحد من عسكر المهلب إلا لحق به فقال المهلب لقد أتى العراق رجل ذكر وتتابع الناس مزدحمين إليه حتى كثر جمعه.
ثم سار الحجاج رستقاباذ وبينها وبين المهلب ثمانية عشر فرسخا وإنما أراد أن يشد ظهر المهلب وأصحابه بمكانه فقام برستقا خطيبا حين نزلها فقال يا أهل المصرين هذا المكان والله مكانكم شهرا بعد شهر وسنة بعد سنة حتى يهلك الله عدوكم هؤلاء الخوارج المطلين عليكم ثم إنه خطب يوما فقال إن الزيادة التي زادكم إياها ابن الزبير إنما هي زيادة مخسر باطلة [من] ملحد فاسق منافق ولسنا نجيزها وكان مصعب قد زاد الناس في العطاء مائة مائة.
فقال عبد الله بن الجارود إنها ليست بزيادة ابن الزبير إنما هي زيادة أمير المؤمنين عبد الملك قد أنفذها وأجازها على يد أخيه بشر فقال له الحجاج ما أنت والكلام لتحسنن حمل رأسك أو لأسلبنك إياه فقال ولم إني لك لناصح وإن هذا لقول من ورائي.
فنزل الحجاج ومكث أشهرا لا يذكر الزيادة ثم أعاد القول فيها فرد عليه ابن الجارود مثل رده الأول فقام مصقلة بن كرب العبدي أبو رقبة بن مصقلة المحدث عنه فقال إنه ليس للرعية أن ترد على راعيها وقد سمعنا ما قال الأمير فسمعا وطاعة فيما أحببنا وكرهنا فقال له عبد الله ابن الجارود يا بن الجرمقانية ما أنت وهذا ومتى كان مثلك يتكلم وينطق في مثل هذا؟
381

وأتى الوجوه عبد الله بن الجارود فصوبوا رأيه وقوله، وقال الهذيل بن عمران البرجمي وعبد الله بن حكيم بن زياد المجاشعي وغيرهما: نحن معك وأعوانك إن هذا الرجل غير كاف حتى ينقصنا هذه الزيادة فهلم نبايعك على إخراجه من العراق ثم نكتب إلى عبد الملك نسأله أن يولي علينا غيره فإن أبى خلعناه فإنه هائب لنا ما دامت الخوارج فبايعه الناس سرا وأعطوه المواثيق على الوفاء وأخذ بعضهم على بعضهم العهود.
وبلغ الحجاج ما هم فيه فأحرز بيت المال واحتاط فيه فلما تم لهم أمرهم أظهروه وذلك في ربيع الآخر سنة ست وسبعين وأخرج عبد الله بن الجارود عبد القيس على راياتهم وخرج الناس معه حتى لقي الحجاج وليس معه مالا خاصته وأهل بيته فخرجوا قبل الظهر وقطع ابن جارود ومن معه الجسر وكانت خزائن الحجاج السلاح من ورائه فأرسل الحجاج أعين صاحب حمام أعين بالكوفة إلى ابن الجارود يستدعيه إليه فقال ابن الجارود ومن الأمير لا ولا كرامة لابن أبي رغال ولكن ليخرج عنا مذموما مدحورا وإلا قاتلناه فقال أعين فإنه يقول لك أتطيب نفسا بقتلك وقتل أهل بيتك وعشيرتك والذي نفسي بيده لئن لم تأتني لأدعن قومك عامة وأهلك خاصة حديثا للغابرين وكان الحجاج عقد حمل أعين هذه الرسالة فقال ابن الجارود لولا أنك رسول لقتلتك يا ابن الخبيثة وأمر فوجئ في عنقه وأخرج.
واجتمع الناس لابن الجارود فأقبل بهم زحفا نحو الحجاج وكان رأيهم أن يخرجوه عنهم ولا يقاتلوه فلما صاروا إليه نهبوه في فسطاطة وأخذوا ما قدروا عليه من متاعه ودوابه، وجاء أهل اليمن فأخذوا امرأته ابنة النعمان بن بشير وجاءت مضر فأخذوا امرأته الأخرى أم سلمة بنت عبد الرحمن
382

ابن عمرو أخي سهيل به عمرو فخافه السفهاء ثم إن القوم انصرفوا عن الحجاج وتركوه فأتاه قوم من أهل البصرة فصاروا معه خائفين من محاربة الخليفة فجعل الغضبان بن القبعثري الشيباني يقول لابن الجارود تعش بالجدي قتل أن يتغدى بك أما ترى من قد أتاه منكم ولئن أصبح ليكثرن ناصره وليضعفن منكم فقال قد قرب المساء ولكننا نعاجله بالغداة.
وكان مع الحجاج عثمان بن قطن وزياد بن عمرو العتكي وكان زياد على شرطة البصرة فقال لهما ما تريان فقال زياد أن آخذ لك من القوم أمانا وتخرج حتى يلحق بأمير المؤمنين فقد ارفض أكثر الناس عنك ولا أرى لك أن تقاتل بمن معك فقال عثمان بن قطن الحارثي لكني لا أرى ذلك إن أمير المؤمنين قد شركك في أمره وخلطك بنفسه وأستنصحك وسلطك فسرت إلى ابن الزبير وهو أعظم الناس خطرا فقتلته فولاك الله شرف ذلك وسناه وولاك أمير المؤمنين الحجاز ثم رفعت فولاك العراقين فحيث جريت إلى المدى وأصبت الغرض الأقصى تخرج على قعود إلى الشام والله لئن فعلت لا نلت من عبد الملك مثل الذي أنت فيه من سلطان أبدا وليتضعن شأنك ولكني أرى أن تمشي بسيوفنا معك فنقاتل حتى نلقى ظفرا أو نموت كراما فقال له الحجاج الرأي ما رأيت وحفظ هذا لعثمان وحقدها على زياد بن عمرو.
وجاء عامل بن مسمع إلى الحجاج فقال إني قد أخذت لك أمانا من الناس فجعل الحجاج يرفع صوته ليسمع الناس ويقول والله لا أؤمنهم أبدا حتى
383

يأتوا بالهذيل وعبد الله بن حكيم وأرسل إلى عبيد بن كعب النميري يقول هلم إلي فامنعني فقال قل له إن أتيتني منعتك فقال لا ولا كرامة وبعث إلى محمد بن عمير بن عطارد وكذلك فأجابه مثل الجواب الأول فقال لا ناقتي في هذا ولا جملي وأرسل إلى عبد الله بن حكيم المجاشعي فأجابه كذلك أيضا.
ومر عباد بن الحصين الحبطي بابن الجارود وابن الهذيل وعبد الله بن حكيم وهم يتناجون فقال أشركونا في نجواكم فقالوا هيهات أن يدخل في نجوانا أحد من بني الحبط! فغضب وسار إلى الحجاج في مائة رجل فقال له الحجاج ما أبالي من تخلف بعدك.
وسعى قتيبة بن مسلم في قومه في يحيى أعصر (؟) وقال لا والله لا ندع قيسا يقتل ولا ينهب ماله يعني الحجاج وأقبل إلى الحجاج.
وكان الحجاج قد يئس من الحياة فلما جاءه اطمأن ثم جاءه سبرة بن علي الكلابي وسعيد بن أسلم بن زرعة الكلابي فسلم فأدناه منه وأتاه جعفر بن عبد الرحمن بن مخنف الأزدي وأرسل إليه مسمع بن مالك بن مسمع إن شئت أتيتك وإن شئت أقمت وثبطت الناس عنك فقال أقم وثبط الناس عني.
فلما اجتمع إلى الحجاج جمع يمنع بمثلهم خرج فعبأ أصحابه وتلاحق الناس به فلما أصبح إذ حوله نحو ستة آلاف وقيل غير ذلك فقال ابن الجارود لعبيد الله بن زياد بن ظبيان ما الرأي قال تركت الرأي أمس حين قال لك الغضبان تعش بالجدي قبل أن يتغدى بك وقد ذهب الرأي وبقي الصبر.
384

فدعا ابن الجارود بدرع فلبسها مقلوبة فتطير. وحرض الحجاج أصحابه وقال لا يهولنكم ما ترون من كثرتهم وتزاحف القوم وعلى ميمنة ابن الجارود الهذيل بن عمران وعلى ميسرته عبد الله بن زياد بن ظبيان وعلى ميمنة الحجاج قتيبة بن مسلم ويقال عباد بن الحصين وعلى ميسرته سعيد بن أسلم فحمل ابن الجارود في أصحابه حتى جاز أصحاب الحجاج فعطف الحجاج عليه ثم اقتتلوا ساعة وكاد ابن الجارود يظفر فأتاه سهم غرب فأصابه فوقع ميتا ونادى منادي الحجاج بأمان الناس إلا الهذيل وعبد الله بن حكيم وأمر أن لا يتبع المنهزمون وقال الاتباع من سوء الغلبة فانهزم عبيد الله بن زياد بن ظبيان وأتى سعيد بن عياذ بن الجلندي الأزدي بعمان فقيل لسعيد إنه رجل فاتك فاحذره فلما جاء البطيخ بعث إليه بنصف بطيخة مسمومة وقال هذا أول شيء جاء من البطيخ وقد أكلت نصف بطيخة وبعثت بنصفها فأكلها عبيد الله فأحس بالشر فقال أردت أن أقتله فقتلني.
وحمل رأس ابن الجارود وثمانية عشر رأسا من وجوه أصحابه إلى المهلب فنصبت ليراها الخوارج ويتأسوا الاختلاف.
وحبس الحجاج عبيد الله بن كعب ومحمد بن عمير حيث قالوا للحجاج تأتينا لنمنعك وحبس الغضبان بن القبعثري وقال له أنت القائل تعش بالجدي قبل أن يتغدى بك فقال ما نفعت من قيلت له ولا ضرت من قيلت فيه فكتب عبد الملك إلى الحجاج بإطلاقه.
وقتل مع ابن الجارود عبد الله بن أنس بن مالك الأنصاري فقال الحجاج ولا أرى أنسا يعين علي! فلما دخل البصرة أخذ ماله فحين دخل عليه أنس
385

قال: لا مرحبا ولا أهلا بك يا ابن خبيثة شيخ ضلالة جوال في الفتن مرة مع أبي تراب ومرة مع ابن الزبير ومرة مع ابن جارود أما والله لأجردنك جرد القضيب ولأعصبنك عصب السلمة ولأقلعنك قلع الصمغة فقال أنس: من يعني الأمير؟ قال: إياك أعني، أصم الله صداك! فرجع أنس فكتب إلى عبد الملك كتابا يشكو فيه الحجاج وما صنع به فكتب عبد الملك إلى الحجاج:
أما بعد يا ابن أم الحجاج فإنك عبد طمت بك الأمور فعلوت فيها حتى عدوت طورك وجاوزت قدرك يا ابن المستفرمة بعجم الزبيب لأغمزنك غمزة كبعض غمزات الليوث الثعالب ولأخبطنك خبطة تود لها أنك رجعت في مخرجك من بطن أمك أما تذكر حال آبائك في الطائف حيث كانوا ينقلون الحجارة على ظهورهم ويحتفرون الآبار
بأيديهم في أوديتهم ومياههم أنسيت حال آبائك في اللؤم والدناءة في المروءة والخلق وقد بلغ أمير المؤمنين الذي كان منك إلى أنس بن مالك جرأة وإقداما وأظنك أردت أن تسبر ما عند أمير المؤمنين في أمره فتعلم إنكاره ذلك وإغضاءه عنك فإن سوغك ما كان منك مضيت عليه قدما فعليك لعنة الله من عبد أخفش العينين أصك الرجلين ممسوح الجاعرتين ولولا أن أمير المؤمنين يظن أن الكاتب كثر في الكتابة عن الشيخ إلى أمير المؤمنين فيك لأرسل من يسحبك ظهرا لبطن حتى يأتي بك أنسا فيحكم فيك فأكرم أنسا وأهل بيته واعرف له حقه وخدمته رسول الله صلى الله عليه وسلم
386

ولا تقصرن في شيء من حوائجه ولا يبلغن أمير المؤمنين عنك خلاف ما تقدم فيه إليك من أمر أنس وبره وإكرامه فيبعث إليك من يضرب ظهرك ويهتك سترك ويشمت بك عدوك والقه في منزله متنصلا إليه وليكتب إلى أمير المؤمنين برضاه عنك إن شاء الله والسلام.
وبعث بالكتاب مع إسماعيل بن عبد الله مولى بني مخزوم فأتى إسماعيل أنسا بكتاب أمير المؤمنين إليه فقرأه وأتى الحجاج بالكتاب إليه فجعل يقرأه ووجهه يتغير ويتغبر وجبينه يرشح عرقا ويقول يغفر الله لأمير المؤمنين ثم اجتمع بأنس فرحب به الحجاج واعتذر إليه وقال أردت أن يعلم أهل العراق إذ كان من ابنك ما كان إذ بلغت منك ما بلغت أني إليهم بالعقوبة أسرع.
فقال أنس ما شكوت حتى بلغ مني الجهد وحتى زعمت أنا الأشرار وقد سمانا الله الأنصار وزعمت أنا أهل النفاق ونحن الذين تبوؤا الدار والايمان وسيحكم الله بيننا وبينك فهو أقدر على التغيير لا يشبه الحق عنده الباطل والصدق الكذب وزعمت أنك اتخذتني ذريعة وسلما إلى مساءة أهل العراق باستحلال ما حرم الله عليك مني ولم يكن لي عليك قوة فوكلتك إلى الله ثم إلى أمير المؤمنين فحفظ من حقي ما لم تحفظ فوالله لو أن النصارى على كفرهم رأوا رجلا خدم عيسى بن مريم يوما واحدا لعرفوا من حقه ما لم تعرف أنت من حقي وقد خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين وبعد فإن رأينا خيرا حمدنا الله عليه وأثنينا وإن رأينا غير ذلك صبرنا والله المستعان ورد عليه الحجاج ما كان أخذ منه.
387

ذكر شير زنجي والزنج معه
اجتمع الزنج بفرات البصرة في آخر أيام مصعب بن الزبير ولم يكونوا بالكثير فأفسدوا وتناولوا الثمار وولي خالد بن عبد الله بن خالد البصرة وقد كثروا فشكا الناس اليه ما نالهم منهم فجمع لهم جيشا فلما بلغهم ذلك تفرقوا وأخذ بعضهم فقتلهم وصلبهم.
فلما كان من أمر ابن الجارود ما ذكرنا خرج الزنج أيضا فاجتمع منهم خلق كثير بالفرات وجعلوا عليهم رجلا اسمه رباح ويلقب شير زنجي يعني أسد الزنج فأفسدوا فلما فرغ الحجاج من ابن الجارود أمر زياد بن عمرو وهو على شرطة البصرة أن يرسل إليهم جيشا يقاتلهم ففعل وسير إليهم جيشا عليه ابنه حفص بن زياد فقاتلهم فقتلوه وهزموا أصحابه ثم أرسل إليهم جيشا آخر فهزم الزنج وقتلهم واستقامت البصرة.
ذكر إجلاء الخوارج عن رامهرمز وقتل ابن مخنف
لما أتى كتاب الحجاج إلى المهلب وابن مخنف يأمرهما بمناهضة الخوارج زحفوا إليهم وقاتلوهم شيئا من قتال فانهزمت الخوارج كأنهم على حامية ولم يكن منهم قتال وسار الخوارج حتى نزلوا كازرون وسار المهلب وابن مخنف حتى نزلوا بهم وخندق المهلب على نفسه وقال لابن مخنف إن رأيت أن تخندق عليك فافعل فقال أصحابه نحن خندقنا سيوفنا.
فأتى الخوارج المهلب ليبيتوه فوجدوه قد تحرز فمالوا نحو ابن مخنف فوجدوه ولم يخندق فقاتلوه فانهزم عنه أصحابه فقاتل في أناس من أصحابه
388

فقتل وقتلوا [حوله]، فقال شاعرهم:
(لمن العسكر المكلل بالصر * عى فهم بين ميت وقتيل)
(فتراهم تسفي الرياح عليهم * حاصب الرمل بعد جر الذيول)
هذا قول أهل البصرة.
فأما أهل الكوفة فإنهم ذكروا أنه لما وصل كتاب الحجاج بمناهضة الخوارج ناهضهم المهلب وعبد الرحمن فاقتتلوا قتالا شديدا ومالت الخوارج إلى المهلب فاضطروه إلى عسكره فأرسل إلى عبد الرحمن يستمده فأمده عبد الرحمن بالخيل والرجال وكان ذلك بعد الظهر لعشر بقين من رمضان.
فلما كان بعد العصر ورأت الخوارج ما يجيء من عسكر عبد الرحمن من الرجال ظنوا أنه قد خف أصحابه فجعلوا بإزاء المهلب من يشغله وانصرفوا بجندهم إلى عبد الرحمن فلما رآهم قد قصدوه نزل ونزل معه القرا ء منهم أبو الأحوص صاحب ابن مسعود وخزيمة بن نصر أبو نصر بن خزيمة العبسي الذي قتل مع زيد بن علي وصلب معه بالكوفة ونزل معه من قومه أحد وسبعون رجلا وحمل عليهم الخوارج فقاتلهم قتالا شديدا وانكشف الناس عنه وبقي في عصابة من أهل الصبر ثبتوا معه وكان ابنه جعفر بن عبد الرحمن فيمن بعثه إلى المهلب فنادى في الناس ليتبعوه إلى أبيه فلم يتبعه إلا ناس قليل فجاء حتى دنا من أبيه فحالت الخوارج بينهما فقاتل حتى جرح وقاتل عبد الرحمن ومن معه على تل مشرف حتى ذهب نحو من ثلثي الليل ثم قتل في تلك العصابة فلما أصبحوا جاء المهلب فدفنه فصلى عليه وكتب بذلك إلى الحجاج فكتب الحجاج إلى عبد الملك بذلك فترحم عليه وذم أهل الكوفة.
389

وبعث الحجاج إلى عسكر عبد الرحمن عتاب بن ورقاء وأمره أن يسمع للمهلب فساءه ذلك ولم يجد بدا من طاعته فجاء إلى العسكر وقاتل الخوارج وأمره إلى المهلب وهو يقضي أموره ولا يكاد يستشير المهلب فوضع عليه المهلب رجالا اصطنعهم وأغراهم به منهم بسطام بن مصقلة بن هبيرة وجرى بين عتاب والمهلب ذات يوم كلام أغلظ كل منهما لصاحبه ورفع المهلب القضيب على عتاب فوثب إليه ابنه المغيرة بن المهلب فقبض القضيب وقال أصلح الله الأمير شيخ من أشياخ العرب وشريف من أشرافهم أن سمعت [منه] بعض ما تكره فاحتمله له فإنه لذلك أهل ففعل فافترقا فأرسل عتاب إلى الحجاج يشكو المهلب ويسأله أن يأمره بالعود فوافق ذلك حاجة من الحجاج اليه فيما لقي أشراف الكوفة من سببه فاستقدمه وأمره أن يترك ذلك الجيش مع المهلب فجعل المهلب عليهم ابنه حبيبا.
وقال سراقة بن مرداس البارقي يرثي عبد الرحمن بن مخنف:
(ثوى سيد الأزدين أزد شنوءة * وأزد عمان رهن رمس بكازر)
(وضارب حتى مات أكرم ميتة * بأبيض صاف كالعقيقة باتر)
(وصرع حول التل تحت لوائه * كرام المساعي من كرام المعاشر)
(قضى نحبه يوم اللقا ابن مخنف * وأدبر عنه كل ألوث داثر)
390

(أمد ولم يمدد فراح مشمرا * إلى الله لم يذهب بأثواب غادر)
وأقام المهلب بسابور يقاتلهم نحوا من سنة.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة تحرك صالح بن مسرح أحد بني امرئ القيس بن زيد مناة من تميم وكان يرى رأي الصفرية وهو أول من خرج فيهم، وحج هذه السنة ومعه شبيب بن يزيد وسويد والبطين وأشباههم وحج في هذه السنة عبد الملك بن مروان فهم شبيب أن يفتك به فبلغه ذلك من خبرهم فكتب إلى الحجاج بن يوسف بعد انصرافه يأمره بطلبهم وكان شيخا صالحا يأتي الكوفة فيقيم بها الشهر ونحوه فيلقى أصحابه ويعد ما يحتاج اليه فلما طلبه الحجاج نبت به الكوفة فتركها.
وفيها غزا محمد بن مروان الصائفة عند خروج الروم إلى الغنيق من ناحية مرعش.
وحج بالناس عبد الملك فخطب الناس بالمدينة فقال بعد حمد الله والثناء عليه أما بعد فإني لست بالخليفة المستضعف يعني عثمان ولا بالخليفة المداهن يعني معاوية ولا بالخليفة المأفون يعني يزيد ألا واني لا أداوي هذه الأمة إلا بالسيف حتى تستقيم لي قناتكم وإنكم تحفظون أعمال المهاجرين الأولين
391

ولا تعملون مثل أعمالهم وإنكم تأمروننا بتقوى الله وتنسون ذلك من أنفسكم والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد
مقامي هذا إلا ضربت عنقه ثم نزل.
وفي هذه السنة مات العرباض بن سارية السلمي وهو من أهل الصفة وقيل بل مات بالشام في فتنة ابن الزبير وفيها توفي الأسود بن يزيد النخعي وهو ابن أخي علقمة بن قيس.
392

76
ثم دخلت سنة ست وسبعين
ذكر خروج صالح بن مسرح
كان صالح بن مسرح التميمي رجلا ناسكا مصفر الوجه صاحب عبادة وكان بدارا وأرض الموصل والجزيرة وله أصحاب يقرأ لهم القرآن والفقه ويقص عليهم فدعاهم إلى الخروج وإنكار الظلم وجهاد المخالفين لهم فأجابوه وحثهم عليهم فراسل أصحابه بذلك وتلاقوا به فبيناهم في ذلك إذ قدم عليه كتاب شبيب يقول له إنك كنت تريد الخروج فإن كان ذلك من شأنك اليوم فأنت شيخ المسلمين ولن نعدل بك أحدا وإن أردت تأخير ذلك [اليوم] أعلمني فإن الآجال غادية ورائحة ولا آمن أن تختر مني المنية ولم أجاهد الظالمين.
فكتب اليه صالح انه لم يمنعني من الخروج إلا انتظارك فأقبل إلينا فإنك ممن لا يستغنى عن رأيه ولا تقضى دونه الأمور فلما قرأ شبيب كتابه دعا نفرا من أصحابه منهم أخوه مصاد بن يزيد بن نعيم الشيباني والمحلل بن وائل اليشكري وغيرهما وخرج بهم حتى قدم على صالح بدارا فلما لقيه قال اخرج بنا رحمك الله فوالله ما تزداد [السنة] إلا دروسا ولا يزداد المجرمون إلا طغيانا.
393

فبث صالح رسله وواعد أصحابه بالخروج إلى ذلك هلال صفر ليلة الأربعاء سنة ست وسبعين فاجتمعوا عنده تلك الليلة فسأله بعضهم عن القتال قبل الدعاء أم بعده فقال بل ندعوهم فإنه اقطع لحجتهم فقال له كيف ترى فيمن قاتلنا فظفرنا به ما تقول في دمائهم وأموالهم فقال لهم إن قتلنا وغنمنا فلنا وإن عفونا فموسع علينا.
ثم وعظ أصحابه وأمرهم بأمره وقال لهم إن أكثركم رجالة وهذه دواب لمحمد بن مروان فابدؤوا بها فاحملوا عليها رجالكم وتقووا بها على عدوكم.
فخرجوا تلك الليلة فأخذوا الدواب فاحتملوا عليهما وأقاموا بأرض دار ثلاث عشرة ليلة وتحصن منهم أهلها وأهل نصيبين وسنجار وكان خروجه وهي في مائة وعشرين وقيل وعشرة.
وبلغ محمدا مخرجهم وهو أمير الجزيرة فأرسل عدي بن عدي الكندي إليهم في ألف فارس فسار من حران فنزل دوغان وكانوا أول جيش سار إلى صالح وسار عدي وكأنه يساق إلى الموت وأرسل إلى صالح يسأله أن يخرج من هذه البلاد ويعلمه أنه يكره قتاله وكان عدي ناسكا فأعاد صالح إن كنت ترى رأينا خرجنا عنك وإلا فنرى رأينا فأرسل إليه عدي إني لا أرى رأيك ولكني أكره قتالك وقتال غيرك فقال صالح لأصحابه اركبوا فركبوا وحبس الرسول عنده ومضى بأصحابه فأتى عديا وهو يصلي الضحى فلم يشعروا إلا والخيل طالعة عليهم فما رأوها تنادوا،
394

وجعل صالح شبيبا في ميمنته وسويد بن سليم في ميسرته ووقف في القلب فأتاهم وهم على غير تعبية وبعضهم يجول في بعض فحمل عليهم شبيب وسويد فانهزموا وأتى عدي بن عدي بدابته فركبها وانهزم، وجاء صالح ونزل في معسكره وأخذوا ما فيه.
ودخل أصحاب عدي على محمد بن مروان فغضب على عدي ثم دعا خالد بن جزء السلمي فبعثه في ألف وخمسمائة ودعا الحرث بن جعونة العامري فبعثه في ألف وخمسمائة وقال أخرجا إلى هذه المارقة وأغذا السير فأيكما سبق فهو الأمير على صاحبه فخرجا متساندين يسألان عن صالح فقيل لهما إنه نحو آمد فقصداه فوجه صالح شبيبا في شطر من أصحابه إلى الحرث بن جعونة وتوجه هو نحو خالد فاقتتلوا من وقت العصر أشد قتال فلم تثبت خيل محمد لخيل صالح فلما رأى أميرهم ذلك ترجلا وترجل معهما أكثر أصحابهما فلم يقدر أصحاب صالح حينئذ عليهم وكانوا إذا حملوا استقبلتهم الرجالة بالرماح ورماهم الرماة بالنبل وطاردهم خيالتهم فقاتلوهم إلى المساء فكثرت الجراح في الفريقين وقتل من أصحاب صالح نحو ثلاثين رجلا ومن أصحاب محمد أكثر من سبعين.
فلما أمسوا تراجعوا، فاستشار صالح أصحابه، فقال شبيب: إن القوم قد اعتصموا بخندقهم فلا أرى أن نقيم عليهم. فقال صالح وأنا أرى ذلك فخرجوا من ليلتهم سائرين فقطعوا أرض الجزيرة وأرض الموصل وانتهوا إلى الدسكرة فلما بلغ ذلك الحجاج سرح إليهم الحرث بن عميرة بن ذي العشار في ثلاثة آلاف من أهل الكوفة فسار حتى دنا من الدسكرة وخرج صالح بن مسرح حتى أتى قرية يقال لها مدبج على تخوم ما بين الموصل وجوخى،
395

وصالح في تسعين رجلا، فلقيهم الحرث لثلاث عشرة بقين من جمادى فاقتتلوا فانهزم سويد بن سليم في ميسرة صالح وثبت صالح فقتل وقاتل شبيب حتى صرع عن فرسه فحمل عليهم راجلا فانكشفوا عنه فجاء إلى موقف صالح فأصابه قتيلا فنادى إلى يا معشر المسلمين فلاذوا به فقال لأصحابه ليجعل كل واحد منكم ظهره إلى ظهر صاحبه وليطاعن عدوه حتى يدخل هذا الحصين ونرى رأينا ففعلوا ذلك ودخلوا الحصين جميعهم وهم سبعون رجلا وأحاط بهم الحرث وأحرق عليهم الباب وقال إنهم لا يقدرون على الخروج منه.
(مسرح بضم الميم وفتح السين المهملة وتشديد الراء وكسرها وبالحاء المهملة وجعونة بفتح الجيم وسكون العين المهملة وفتح الواو وآخره نون).
ذكر بيعة شبيب الخارجي ومحاربة الحرث بن عميرة
فلما أحرق الحرث الباب على شبيب ومن معه وقال إنهم لا يقدرون على الخروج منه ونصبحهم غدا فنقتلهم وانصرف إلى عسكره قال شبيب لأصحابه ما تنتظرون فوالله لئن صبحكم هؤلاء غدوة إنه لهلاككم فقالوا مرنا بأمرك فقال بايعوني أو من شئتم من أصحابكم واخرجوا بنا حتى نشد عليهم في عسكرهم فإنهم آمنون.
فبايعوا شبيبا وهو شبيب بن يزيد بن نعيم الشيباني وأتوا باللبود فبلوها وجعلوها على جمر الباب وخرجوا فلم يشعر الحرث إلا وشبيب وأصحابه
396

يضاربونهم بالسيوف في جوف العسكر فصرع الحرث فاحتمله أصحابه وانهزموا نحو المدائن وحوى شبيب عسكرهم وكان ذلك الجيش أول جيش هزمه شبيب.
ذكر الحرب بين أصحاب شبيب وغيره
ثم إن شبيبا لقي سلامة بن سنان التيمي تيم شيبان بأرض الموصل فدعاه إلى الخروج معه فشرط عليه سلامة أن ينتخب ثلاثين فارسا ينطلق بهم نحو عنزة فيشفي نفسه منهم فإنهم كانوا قتلوا أخاه فضالة وذلك أن فضاله كان خرج في ثمانية عشر رجلا حتى نزل ماء يقال له الشجرة عليه أثلة عظيمة وعليه عنزة نازلون فلما رأوه قالوا نقتل هؤلاء ونغدو على أميرنا فيعطينا شيئا فقال أخواله من بني نصر لا نساعدكم على قتل ابن أختنا فنهضت عنزة فقتلوهم وأتوا برؤوسهم عبد الملك بن مروان فلذلك أنزلهم بانقيا وفرض لهم ولم يكن لهم قبل ذلك فرائض إلا قليلة فقال سلامة أخو فضالة يذكر قتل أخيه وخذلان أخواله إياه:
(وما خلت أخوال الفتى يسلمونه * لوقع السلاح قبل ما فعلت نصر)
وكان خروج فضالة قبل خروج صالح فأجابه شبيب فخرج حتى انتهى إلى عنزة فجعل يقتل محلة بعد محلة حتى انتهى إلى فريق منهم فيهم خالته قد أكبت على ابن له وهو غلام حين احتلم فأخرجت ثديها وقالت أنشدك برحم هذا يا سلامة فقال والله ما رأيت فضالة مذ أناخ بأصل الشجرة يعني أخاه لتقومن عنه أو لأجمعنكما بالرمح فقامت عنه فقتله.
397

ذكر مسير شبيب إلى بني شيبان وإيقاعه بهم
ثم أقبل شبيب في خيله نحو راذان فهرب منه طائفة من بني شيبان ومعهم ناس من غيرهم قليل حتى نزلوا ديرا خربا إلى جنب حولايا وهم نحو ثلاثة آلاف وشبيب في نحو سبعين رجلا أو يزيدون قليلا فنزل بهم فتحصنوا منه.
ثم إن شبيبا سرى في اثني عشر رجلا إلى أمه وكانت في سفح جبل ساتيدما فقال لآتين بها تكون في عسكري لا تفارقني حتى تموت أو أموت فسار بهم ساعة وإذا هو بجماعة من بني شيبان في أموالهم مقيمين لا يرون أن
شبيبا يمر بهم ولا يشعر بهم فحمل عليهم فقتل ثلاثين شيخا فيهم حوثرة بن أسد ومضى شبيب إلى أمه فحملها, أشرف رجل من الدير على أصحاب شبيب وكان قد استخلف شبيب عليهم أخاه مصاد بن يزيد وهم قد حصروا من في الدير فقال يا قوم بيننا وبينكم القرآن قال الله تعالى: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه) فكفوا عنا حتى نخرج إليكم على أمان وتعرضوا علينا أمركم فإن قبلناه حرمت عليكم دماؤنا وأموالنا وإن نحن لم نقبله رددتمونا إلى مأمننا ثم رأيتم رأيكم فأجابوهم فخرجوا إليهم فعرض عليهم أصحاب
398

شبيب قولهم فقبلوه كله ثم خالطوه ونزلوا إليهم وجاء شبيب فأخبروه بذلك فقال أصبتم ووفقتم.
ذكر الوقعة بين شبيب وسفيان الخثعمي
ثم إن شبيبا ارتحل فخرج معه طائفة وأقامت طائفة وسار شبيب في أرض الموصل نحو أذربيجان وكتب الحجاج إلى سفيان بن أبي العالية الخثعمي يأمره بالقفول وكان معه ألف فارس يريد أن يدخل بها طبرستان فلما أتاه كتاب الحجاج صالح صاحب طبرستان ورجع فأمره الحجاج بنزول الدسكرة حتى يأتيه جيش الحرث بن عميرة الهمذاني وهو الذي قتل صالحا وحتى تأتيه خيل المناظر ثم يسير إلى شبيب فأقام بالدسكرة ونودي في جيش الحرث الحرب بالكوفة والمدائن فخرجوا حتى أتوا سفيان وأتته خيل المناظر عليهم سورة بن الحر التميمي فكتب إليه سورة بالتوقف حتى يلحقه فعجل سفيان في طلب شبيب فلحقه بخانقين وارتفع شبيب عنهم حتى كأنه يكره قتالهم وأكمن أخاه مصادا في هزم من الأرض في خمسين رجلا فارسا ومضى في سفح الجبل فقالوا هرب عدو الله فاتبعوه فقال لهم عدي بن عميرة الشيباني: لا تعدلوا حتى نبصر الأرض لئلا يكون قد أكمن فيها كمينا.
فلم يلتفتوا فاتبعوه فلما جازوا الكمين رجع عليهم شبيب وخرج
399

أخوه في الكمين فانهزم الناس بغير قتال وثبت سفيان في نحو من مائتي رجل فقاتلهم قتالا شديدا وحمل سويد بن سليم على سفيان فطاعنه ثم تضاربا بالسيوف واعتنق كل واحد منهما صاحبة فوقعا إلى الأرض ثم تحاجزا وحمل عليهم شبيب فانكشفوا وأتى سفيان غرم له فنزل عن دابته وأركبه وقاتل دونه فقتل الغلام ونجا سفيان حتى انتهى إلى بابل مهروذ وكتب إلى الحجاج بالخبر ويعرفه وصول الجند إلا سورة بن الحر فإنه لم يشهد معي القتال فلما قرأ الحجاج الكتاب أثنى عليه.
ذكر الوقعة بين شبيب وسورة بن الحر
فلما وصل كتاب سفيان إلى الحجاج كتب إلى سورة بن الحر يلومه ويتهدده ويأمره أن ينتخب من المدائن خمسمائة فارس ويسير بهم وبمن معه إلى شبيب ففعل ذلك سورة وسار نحو شبيب وشبيب يجول في جوخى وسورة في طلبه حتى انتهى إلى المدائن فتحصنوا منه وأخذ منها دواب وقتل من ظهر له فأتى فقيل له هذا سورة قد أقبل فخرج حتى أتى النهروان فصلوا وترحموا على أصحابهم الذين قتلهم علي وتبرؤوا من علي وأصحابه وأخبرت سورة عيونه بمنزلة شبيب فدعا أصحابه فقال إن شبيبا لا يزيد على مائة رجل وقد رأيت أن أنتخبكم فأسير في ثلاثمائة رجل من شجعانكم فآتيه وهو آمن بياتكم فإني أرجوا من الله أن يصرعهم فأجابوه إلى ذلك فانتخب ثلاثمائة وسار بهم نحو النهروان وبات شبيب وقد أذكى الحرس فلما دنا أصحاب سورة علموا بهم فاستووا على خيولهم وتعبوا تعبيتهم للحرب فلما انتهى إليهم سورة رآهم قد حذروا فحمل عليهم فثبتوا له وضاربوهم وصاح شبيب بأصحابه فحملوا عليهم حتى تركوا العرضة وشبيب يقول:
400

(من ينك العير ينك نياكا * جندلتان اصطكتا اصطكاكا)
فرجع سورة إلى عسكره وقد هزم الفرسان وأهل القوة فتمل بهم وأقبل نحو المدائن واتبعه شبيب يرجو أن يدركه فيصيب عسكره فوصل إليهم وقد دخل الناس المدائن وخرج ابن أبي العصيفر أمير المدائن في أهل المدائن فرموا أصحاب شبيب بالنبل والحجارة فارتفع شبيب عن المدائن فمر على كلواذى فأصاب بها دواب كثيرة للحجاج فأخذها ومضى إلى تكريت وأرجف الناس بالمدائن بوصول شبيب إليهم فهرب من بها من الجند نحو الكوفة وكان شبيب بتكريت ولام الحجاج سورة وحبسه ثم أطلقه.
ذكر الحرب بين شبيب والجزل بن سعيد
وقتل سعيد بن مجالد
فلما قدم الفل الكوفة سير الحجاج الجزل بن سعيد بن شرحبيل الكندي واسمه عثمان نحو شبيب وأوصاه بالاحتياط وترك العجلة فقال له لا تعبث معي من الجند المهزوم أحدا فإنهم قد دخلهم الرعب ولا ينتفع بهم المسلمون قال قد أحسنت فأخرج معه أربعة آلاف معه فقدم الجزل بين يديه عياض بن أبي لبنة الكندي فساروا في طلب شبيب وجعل شبيب يريد الهيبة له فخرج من رستاق إلى رستاق ولا يقيم إرادة أن يفرق الجزل أصحابه فيلقاه وهو على غير تعبية فجعل الجزال لا يسير إلا على تعبية ولا ينزل إلا خندق على نفسه.
401

فلما طال ذلك على شبيب دعا أصحابه وكانوا مائه وستين رجلا ففرقهم أربع فرق على كل أربعين رجلا من أصحابه فجعل أخاه مصادا في أربعين وسويد بن سليم في أربعين والمحلل بن وائل في أربعين وبقي هو في أربعين وأتته عيونه فأخبروه ان الجزل بدير يزدجرد فأمر شبيب أصحابه فعلقوا على دوابهم ثم سار بهم وأمر كل رأس من أصحابه أن يأتي الجزل من جهة ذكرها له وقال إني أريد أن أبيته وأمرهم بالجد في القتال فسار أخوه فانتهى إلى دير الخرارة فرأى للجزل مسلحة مع ابن أبي لبنة فحمل عليهم مصاد في أربعين رجلا فقاتلوه ساعة ثم اندفعوا بين يديه وقد أدركهم شبيب فقال اركبوا أكتافهم لتدخلوا عليهم عسكرهم ان استطعتم.
واتبعوهم ملحين فانتهوا إلى عسكرهم فمنعهم أصحابه من دخول خندقهم وكان للجزل مسالح أخرى فرجعت فمنعتهم من دخول الخندق وقال انضحوا عنكم النبل جعل شبيب يحمل على المسالح حتى اضطرهم إلى الخندق ورشقهم أهل العسكر بالنبل فلما رأى شبيب أنه لا يصل إليه قال لأصحابه سيروا ودعوهم فمضى على الطريق ثم نزل هو وأصحابه فاستراحوا ثم أقبل بهم راجعا إلى الجزل أيضا على التعبية الأولى وقال أطيفوا بعسكرهم فأقبلوا وقد أدخل أهل العسكر مسالحهم إليهم وقد أمنوا فما شعروا إلا بوقع حوافر الخيل فانتهوا إليهم قبل الصبح وأحاطوا بعسكرهم من جهاته الأربع فقاتلوهم.
ثم إن شبيبا أرسل إلى أخيه مصاد وهو يقاتلهم من نحو الكوفة أن أقبل إلينا وخل لهم الطريق ففعل وقاتلوهم من الوجوه الثلاثة حتى أصبحوا
402

فسار شبيب وتركهم ولم يظفر بهم فنزل على ميل ونصف ثم صلى الغداة ثم سار إلى جرجرايا.
وأقبل الجزل في طلبهم على تعبية ولا ينزل إلا في خندق وسار شبيب في أرض جوخى وغيرها يكسر الخراج فطال ذلك على الحجاج فكتب إلى الجزل يبكر عليه إبطاءه ويأمره بمناهضتهم فجد في طلبهم وبعث الحجاج سعيد بن مجالد على جيش الجزل وأمره بالجد في قتال شبيب وترك المطاولة.
فوصل سعيد إلى الجزل وهو بالنهروان قد خندق عليه وقام في العسكر ووبخهم وعجزهم ثم خرج وأخرج معه الناس وضم إليه خيول أهل العسكر ليسير بهم جريدة إلى شبيب ويترك الباقين مكانهم فقال له الجزل ما تريد أن تصنع قال أقدم على شبيب في هذه الخيل فقال له الجزل أقم أنت في جماعة الناس فارسهم وراجلهم وابرز لهم فوالله ليقدمن عليك ولا تغرق أصحابك فقال قف أنت في الصف فقال الجزل يا سعيد ليس لي فيما صنعت رأي أنا بريء منه.
ووقف الجزل فصف أهل الكوفة وقد أخرجهم من الخندق وتقدم سعيد بن مجالد ومعه الناس وقد أخذ شبيب إلى قطيطيا فدخلها وأمر دهقانا أن يصلح لهم غداء ففعل وأغلق الباب فلم يفرغ من الغداء حتى أتاه سعيد في ذلك العسكر فأقبل الدهقان فأعلم شبيبا بهم فقال لا بأس قرب الغداء فقربه فأكل وتوضأ وصلى ركعتين وركب بغلا له وخرج عليه وسعيد على باب المدينة فحمل عليهم فقال لا حكم إلا للحكم [الحكيم]، أنا أبو بدلة أثبتوا إن شئتم.
403

وجعل سعيد يقول هؤلاء إنما هم أكلة رأس وجعل يجمع خيله ويرسلها في أثر شبيب فلما رأى شبيب تفرقهم جمع أصحابه وقال استعرضوهم فوالله لأقتلن أميرهم أو ليقتلني وحمل عليهم مستعرضا فهزمهم وثبت سعيد ونادى أصحابه فحمل عليه شبيب فضربه بالسيف فقتله وانهزم ذلك الجيش وقفلوا [كل قتله] حتى انتهوا إلى الجزل، فناداهم أيها الناس إلي إلي وقاتل قتالا شديدا حتى حمل من بين القتلى جريحا وقدم المنهزمون الكوفة وكتب الجزل إلى الحجاج بالخبر ويخبره بقتل سعيد وأقام بالمدائن وكتب اليه الحجاج يثني عليه ويشكره وأرسل إليه
حيان بن أبجر ليداوي جراحته وألفي درهم لينفقها وبعث اليه عبد الله بن عصيفر بألف درهم فكان يعوده ويتعاهده بالهدية.
وسار شبيب نحو المدائن فعلم أنه لا سبيل [له] إلى أهلها معه المدافعة فاقبل حتى انتهى إلى الكرخ فعبر دجلة إليها فأرسل إلى سوق بغداد فأمنهم وكان يوم سوقهم وبلغه أنهم يخافونه واشترى أصحابه دواب وأشياء يريدونها.
ذكر مسير شبيب إلى الكوفة
ثم سار شبيب إلى الكوفة فنزل عند حمام عمير بن سعد فلما بلغ الحجاج مكانه بعث سويد بن عبد الرحمن السعدي في ألفي رجل إليه وقال له إلق شبيبا فإن استطرد لك فلا تتبعه.
فخرج وعسكر بالسبخة فبلغه أن شبيبا قد أقبل فسار نحوه فكأنما يساقون إلى الموت فأمر الحجاج عثمان بن قطن فعسكر بالناس في السبخة وسار سويد إلى زرارة فهو يعبأ أصحابه إذ قيل قد أتاك شبيب فنزل ونزل معه جل فأخبر أن شبيبا قد تركك وعبر الفرات وهو يريد الكوفة من
404

وجه آخر فنادى في أصحابه فركبوا في آثارهم وبلغ من بالسبخة مع عثمان إقبال شبيب إليهم فصاح بعضهم ببعض وهموا أن يدخلوا الكوفة حتى قيل لهم ان سويدا في آثارهم قد لحقهم وهو يقاتلهم وحمل شبيب على سويد ومن معه حملة منكرة فلم يقدر منهم على شيء وأخذ على بيوت الكوفة نحو الحيرة وذلك عند المساء وتبعه سويد إلى الحيرة فرآه قد ترك الحيرة وذهب فتركه سويد وأقام حتى أصبح وأرسل إلى الحجاج يعلمه بمسير شبيب.
ذكر محاربة شبيب أهل البادية
وكتب الحجاج إلى سويد يأمره باتباعه، فاتبعه، ومضى شبيب حتى أغار أسفل الفرات على من وجد من قومه وارتفع في البر وراء خفان فأصاب رجالا من بني الورثة فقتل منهم ثلاثة عشر رجلا منهم حنظلة بن مالك ومضى شبيب حتى أتى بني أمية على اللصف وعلى ذلك الماء الفزر بن الأسود وهو أحد بني الصلت وكان ينهى شبيبا عن رأيه وكان شبيب يقول لئن ملكت سبعة أعنة لأغزون الفزر فلما بلغهم خبر شبيب ركب الفزر فرسا وخرج من وراء البيوت وانهزم منه الرجال ورجع وقد أخاف أهل البادية فأخذ على القطقطانة ثم على قصر بني مقاتل ثم على الحصاصة ثم على الأنبار،
405

ومضى حتى دخل دقوقاء ثم ارتفع إلى أداني أذربيجان.
فلما أبعد سار الحجاج إلى البصرة واستخلف على الكوفة عروة بن المغيرة بن شعبة فما شعر الناس إلا وقد أتاهم كتاب دهقان بابل مهروذ إلى عروة يذكر له ان بعض جباة الخراج أخبره أن شبيبا قد نزل خانيجار وهو على قصد الكوفة فأرسل عروة الكتاب إلى الحجاج بالبصرة فأقبل مجدا نحو الكوفة يسابق شبيبا إليها.
ذكر دخول شبيب الكوفة
وأقبل شبيب إلى قرية اسمها حربي، فقال: حرب يصلى به عدوكم ثم سار فنزل عقرقوف فقال له سويد بن سليم يا أمير المؤمنين لو تحولت من هذه القرية المشؤومة الاسم قال وقد تطيرت أيضا والله لا أسير إلى عدوي إلا منها إنما شؤمها على عدونا والعقر لهم إن شاء الله.
ثم سار منها يبادر الحجاج إلى الكوفة وكانت كتب عروة ترد عليه أعني الحجاج يحثه على العجل إليهم فطوى الحجاج المنازل فنزلها الحجاج صلاة العصر ونزل شبيب بالسبخة صلاة المغرب فأكلوا شيئا ثم ركبوا خيولهم فدخلوا الكوفة وبلغوا السوق وضرب شبيب باب القصر بعموده فأثر فيه أثرا عظيما ثم وقف عند المصطبة وقال:
(عبد دعي من ثمود أصله * لابل يقال أبو أبيهم يقدم)
يعني الحجاج فإن بعض الناس يقول إن ثقيفا بقايا ثمود وبعضهم
406

يقول هم من نسل يقدم الأيادي.
ثم اقتحموا المسجد الأعظم وكان لا يزال فيه قوم يصلون فقتلوا عقيل بن مصعب الوادعي وعدي بن عمرو الثقفي وأبا ليث بن أبي سليم ومروا بدار حوشب وهو على الشرط فقالوا إن الأمير يطلبه فأراد الركوب ثم أنكرهم فلم يخرج إليهم فقتلوا غلامه ثم أتى الجحاف بن نبيط الشيباني فقال له إنزل لنقضيك ثمن البكرة التي اشتريت منك بالبادية فقال الجحاف ما ذكرتك أمانتك إلا والليل أظلم وأنت على فرسك يا سويد قبح الله دينا لا يصلح إلا بإراقة الدماء وقتل القرابة.
ثم مروا بمسجد ذهل فرأوا ذهل بن الحرث وكان يطيل الصلاة فيه فقتلوه ثم خرجوا من الكوفة فاستقبلهم النضر بن قعقاع بن شور الذهلي فقال له السلام عليك أيها الأمير فقال له سويد أمير المؤمنين ويلك فقال أمير المؤمنين فقال له شبيب يا نضر لا حكم إلا لله وأراد يلعنه فقال إنا لله وإنا إليه راجعون فشد أصحاب شبيب عليه فقتلوه وكان قد أقبل مع الحجاج من البصرة فتخلف عنه وكانت أم النضر ناجية بنت هانئ بن قبيصة الشيباني فأحب شبيب نجاته.
ثم خرجوا نحو المردمة وأمر الحجاج مناديا فنادى يا خيل الله اركبي وهو فوق باب القصر وعنده مصباح فكان أول من أتاه عثمان بن قطن بن عبد الله بن الحصين ذي القصة فقال أعلموا الأمير بمكاني. فقال له
407

غلام للحجاج قف بمكانك وجاء الناس من كل جانب.
ثم إن الحجاج بعث بشر بن غالب الأسدي في ألفي رجل وزائدة بن قدامة الثقفي في ألفي رجل وأبا الضريس مولى بني تميم في ألفي رجل وعبد الأعلى بن عبد الله بن عامر وزياد بن عمروا العتكي.
وكان عبد الملك بن مروان قد استعمل محمد بن موسى بن طلحة بن عبيد الله على سجستان وكتب إلى الحجاج ليجهزه ويسيره سريعا في ألف رجل إلى عمله فأقام يتجهز وحدث من أمر سبيب ما حدث فقال له الحجاج تلقى شبيبا وهذه الخارجة فتجاهدهم ويكون الظفر لك ويطير اسمك ثم تمضي إلى عملك فسيره معهم وقال لهؤلاء الأمراء إن كان حرب فأميركم زائدة بن قدامة فسار هؤلاء الأمراء فنزلوا أسفل فترك شبيب الوجه الذي هم فيه وأخذ نحو القادسية.
ذكر محاربة شبيب زحر بن قيس
ووجه الحجاج جريدة خيل نقاوة ألف وثمانمائة فارس مع زحر بن قيس وقال له اتبع شبيبا حتى توقعه أين أدركته إلا أن يكون ذاهبا فاتركه ما لم يعطف عليك أو يقيم فخرج زحر حتى انتهى إلى السيلحين وأقبل شبيب نحوه فالتقيا فجمع شبيب خيله ثم اعترض به الصف حتى انتهى إلى زحر حتى صرع وانهزم أصحابه وظنوا أنهم قتلوه فلما كان السحر وأصابه البرد قام يتمشى حتى دخل قرية فبات بها وحمل منها إلى الكوفة
408

وبوجهه وبرأسه بضع عشرة جراحة فمكث أياما ثم أتى الحجاج فأجلسه معه على السرير وقال لمن حوله من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة يمشي بين الناس وهو شهيد فلينظر إلى هذا.
ذكر محاربة الأمراء المقدم ذكرهم وقتل محمد بن
موسى بن طلحة
فلما هزم أصحاب زحر قال أصحاب شبيب لشبيب قد هزمنا لهم جندا انصرف بنا الآن وافرين فقال لهم هذه الهزيمة قد أرعبت هؤلاء الأمراء والجنود الذين في طلبكم فاقصدوا بنا نحوهم فوالله لئن قاتلناهم فما دون الحجاج مانع ونأخذ الكوفة إن شاء الله تعالى فقالوا نحن لرأيك تبع.
فسار وسأل عن الأمراء فأخبر أنهم بروذبار على أربعة وعشرين فرسخا من الكوفة فقصدهم فأرسل إليهم الحجاج يعلمهم بمسيره ويقول لهم إن أمير الجماعة زائدة بن قدامة.
وانتهى إليهم شبيب وقد تعبوا للحرب فكان على ميمنة أهل الكوفة زياد بن عمرو العتكي وفي ميسرتهم بشر بن غالب الأسدي وكل أمير واقف في أصحابه وأقبل شبيب على فرس كميت أغر في ثلاث كتائب كتيبة فيها سويد بن سليم فوقف بإزاء الميمنة وكتيبة فيها مصاد أخو شبيب فوقف بإزاء الميسرة ووقف شبيب مقابل القلب.
409

فخرج زائدة بن قدامة يسير في الناس ويحثهم على الجهاد لعدوهم والقتال ويطمعهم في عدوهم لقتله وباطله وكثرتهم وأنهم على الحق ثم انصرف إلى موقفه فحمل سويد بن سليم على زياد بن عمرو فانكشفوا وثبت زياد في نحو من نصف أصحابه ثم ارتفع عنهم سويد قليلا ثم حمل علنهم ثانية فتطاعنوا ساعة وصبر زياد ساعة وقاتل
زياد قتالا شديدا وقاتل سويد أيضا قتالا شديدا وإنه لأشجع العرب ثم ارتفع سويد عنهم فإذا أصحاب زياد يتفرقون فقال لسويد أصحابه ألا تراهم يتفرقون احمل عليهم فقال لهم شبيب خلوهم حتى يخفوا فتركهم قليلا ثم حمل الثالثة فانهزموا وأخذت زياد بن عمرو السيوف من كل جانب فما ضره منها شيء للبسة التي عليه ثم إنه انهزم وقد جرح جراحة يسيرة وذلك عند المساء.
ثم حملوا على عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر فهزموه ولم يقاتل كثيرا ولحق بزياد بن عمرو فمضيا منهزمين وحملت الخوارج حتى انتهت إلى محمد بن موسى بن طلحة عند المغرب فقاتلوه قتالا شديدا وصبر لهم ثم إن مصادا أخا شبيب حمل على بشر غالب وهو في ميسرة أهل الكوفة فصبر بشر ونزل ونزل معه نحو خمسين رجلا فقاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم وانهزم أصحابه.
وحملت الخوارج على أبي الضريس مولى بني تميم وهو يلي بشر بن غالب فهزموه حتى انتهى إلى موقف أعين فهزموها حتى انتهوا بهما إلى زائدة بن قدامة فلما انتهوا إليه نادى يا أهل الإسلام الأرض الأرض لا يكونوا على كفرهم أصبر منكم على إيمانكم فقاتلهم عامة الليل حتى كان السحر.
ثم إن شبيبا حمل عليه في جماعة من أصحابه فقتله وقتل أصحابه وتركهم ربضة حوله.
410

ولما قتل زائدة دخل أبو الضريس وأعين جوسقا عظيما وقال شبيب لأصحابه: ارفعوا السيف [عن الناس] وادعوهم إلى البيعة فدعوهم إلى البيعة عند الفجر فبايعوه وكان فيمن بايعه أبو بردة بن أبي موسى فقال شبيب لأصحابه هذا ابن أحد الحكمين فأرادوا قتله فقال شبيب ما ذنب هذا وتركه وسلموا على شبيب بإمرة المؤمنين وخلى سبيلهم فبقوا كذلك حتى انفجر الفجر فلما ظهر الفجر أمر محمد بن موسى مؤذنه فأذن وكان لم ينهزم فسمع شبيب الأذان فقال ما هذا قالوا محمد بن موسى بن طلحة لم يبرح فقال قد ظننت أن حمقه وخيلاءه يحمله على هذا ثم نزل شبيب فأذن هو وصلى بأصحابه الصبح ثم ركبوا فحملوا على محمد وأصحابه فانهزمت طائفة منهم وثبتت معه طائفة فقاتل حتى قتل وأخذت الخوارج ما كان في العسكر وانهزم الذين كانوا بايعوا شبيبا فلم يبق منهم أحد.
ثم أتى شبيب الجوسق الذي فيه أعين وأبو الضريس فتحصنوا منه فأقام عليهم ذلك اليوم وسار عنهم فقال أصحابه ما دون الكوفة أحد يمنع فنظر فإذا أصحابه قد جرحوا فقال لهم ما عليكم أكثر مما فعلتم فخرج بهم على نفر ثم على الصراة فأتى خانيجار فأقام بها فبلغ الحجاج ميسره نحو نفر فظن أنه يريد المدائن وهي باب الكوفة ومن أخذها كان في يده من السواد أكثره فهال ذلك الحجاج فبعث عثمان بن قطن أميرا على المدائن وجوخى والأنبار وعزل عنها عبد الله بن أبي عصيفر وكان بها الجزل يداوي جراحته فلم يتعهده عثمان كما كان ابن أبي عصيفر يفعل فقال الجزل اللهم زد ابن أبي عصيفر جودا وفضلا وزد عثمان بن قطن بخلا وضيقا.
411

وقد قيل في مقتل بن موسى غير هذا والذي ذكر من ذلك أن محمد بن موسى كان قد شهد مع عمر بن عبيد الله بن معمر قتال أبي فديك وكان شجاعا ذا بأس فزوجه عمر ابنته وكانت أخته تحت عبد الملك بن مروان فولاه سجستان فمر بالكوفة وفيها الحجاج فقيل له إن صار هذا بسجستان مع صهره لعبد الملك فجاء اليه أحد ممن تطلب منعك منه فقال وما الحيلة قال تأتيه وتسلم عليه وتذكر نجدته وبأسه وإن شبيبا في طريقه وإنه قد أعياك وترجو أن يريح الله منه على يده فيكون له ذكره وفخره.
ففعل الحجاج ذلك فأجابه محمد وعدل إلى شبيب فأرسل إليه شبيب إنك مخدوع وأن الحجاج قد اتقى بك وأنت جار لك حق فانطلق لما أمرت به ولك الله لا أؤذيك فأبى إلا محاربته فوافقه شبيب وأعاد إليه الرسول فأبى وطلب البراز فبرز إليه البطين بن قعنب وسويد بن سليم فأبى إلا شبيبا فقالوا ذلك لشبيب فبرز شبيب إليه وقال له أنشدك الله في دمك فإن لك جوارا فأبى فحمل شبيب عليه فضربه بعمود حديد وزنه اثنا عشر رطلا بالشامي فهشم البيضة ورأسه فسقط ميتا ثم كفنه ودفنه وابتاع ما غنوا من عسكره فبعثه إلى أهله واعتذر إلى أصحابه وقال هو جاري ولي أن أهب ما غنمت لأهل الردة.
412

ذكر محاربة شبيب عبد الرحمن بن محمد بن
الأشعث وقتل عثمان قطن
ثم إن الحجاج دعا عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث وأمره أن ينتخب من الناس ستة آلاف فارس ويسير في طلب شبيب أين كان ففعل ذلك وسار نحوه وكتب الحجاج إليه والى أصحابه يتهددهم بالقتل والتنكيد إن انهزموا فوصل عبد الرحمن إلى المدائن فأتى الجزل يعوده من جراحته فأوصاه الجزل بالاحتياط وحذره من شبيب وأصحابه وأعطاه فرسا كانت له تسمى الفسيفساء وكانت لا تجارى ثم ودعه عبد الرحمن وسار إلى شبيب.
فسار شبيب إلى دقوقاء وشهرزور، فخرج عبد الرحمن في طلبه حتى إذا كان بالتخوم وقف وقال هذه أرض الموصل فليقاتلوا عنها فكتب اليه الحجاج أما بعد فأطلب شبيبا واسلك في أثره أين سلك حتى تدركه فتقتله أو تنفيه فإنما السلطان سلطان أمير المؤمنين والجند جنده والسلام.
فخرج عبد الرحمن في أثر شبيب [فكان شبيب] يدعه حتى يدنو منه فيبيته فيجده قد خندق على نفسه وحذر فيتركه ويسير فيتبعه عبد الرحمن فإذا بلغ عبد الرحمن شبيبا مسيره أتاهم وهم سائرون فيجدهم على تعبية فلا يصيب منه غزة ثن جعل إذا دنا منه عبد الرحمن يسير عشرين فرسخا أو ما يقاربها فينزل في أرض خشنة غليظة ويتبعه عبد الرحمن فإذا دنا منه فعل مثل ذلك حتى عذب ذلك
413

الجيش وشق عليه وأحفى دوابهم ولقوا منه كل بلاء ولم يزل عبد الرحمن يتبعه حتى مر به على خانقين وجلولاء وسامرا ثم أقبل إلى البت وهي من قرى الموصل ليس بينها وبين سواد الكوفة إلا نهر حولايا وهو في راذان الأعلى من أرض جوخى ونزل عبد الرحمن في عواقيل من النهر لأنها مثل الخندق.
فأرسل شبيب إلى عبد الرحمن يقول إن هذه الأيام عيد لنا ولكم يعني عيد النحر فهل لك في الموادعة حتى تمضي هذه الأيام فأجابه إلى ذلك وكان يحب المطاولة وكتب عثمان بن قطن إلى الحجاج أما بعد فإن عبد الرحمن قد حفر جوخى كلها خندقا واحدا وكسر خراجها وخلى شبيبا يأكل أهلها والسلام فكتب اليه الحجاج يأمره بالمسير إلى الجيش وجعله أميرهم وعزل عنهم عبد الرحمن وبعث الحجاج إلى المدائن مطرف بن المغيرة بن شعبة وسار عثمان حتى قدم على عبد الرحمن وعسكر الكوفة فوصل عشية الثلاثاء يوم التروية فنادى الناس وهو على بغلة أيها الناس اخرجوا إلى عدوكم فوثب اليه الناس وقالوا هذا المساء قد غشينا والناس لم يوطنوا أنفسهم على الحرب فبت الليلة ثم أخرج على تعبية وهو يقول لأناجزنهم فلتكونن الفرصة لي أو لهم فأتاه عبد الرحمن فأنزله.
وكان شبيب قد نزل ببيعة البت فأتاه أهلها فقالوا له أنت ترحم الضعفاء وأهل الذمة ويكلمك من تلي عليه ويشكون إليك فتنظر إليهم وإن هؤلاء جبابرة لا يكلمون ولا يقبلون العذر والله لئن بلغهم أنك مقيم في بيعتنا ليقتلننا إذا ارتحلت عنا فإن رأيت أن تنزل جانب القرية ولا تجعل علينا مقالا فافعل فخرج عن البيعة فنزل جانب القرية.
وبات عثمان ليلته كلها يحرض أصحابه فلما أصبح يوم الأربعاء خرج بالناس كلهم فاستقبلهم ريح شديدة وغبرة شديدة فصلح الناس وقالوا له ننشدك الله أن لا تخرج بنا والريح علينا فأقام بهم ذلك اليوم ثم خرج بهم يوم
414

الخميس وقد عبئ الناس فجعل في الميمنة خالد بن نهيك بن قيس وعلى الميسرة عقيل بن شداد السلولي ونزل هو في الرجالة وعبر شبيب النهر إليهم وهو يومئذ في مائة وأحد وثمانين رجلا فوقف هو في الميمنة وجعل أخاه مصادا في القلب وجعل سويد بن سليم في الميسرة وزحف بعضهم إلى بعض.
وقال شبيب لأصحابه إني حامل على ميسرتهم مما يلي النهر فإذا هزمتها فليحمل صاحب ميسرتي على ميمنتهم ولا يبرح صاحب القلب حتى يأتيه أمري.
وحمل على ميسرة عثمان فانهزموا ونزل عقيل بن شداد فقاتل حتى قتل وقتل أيضا مالك بن عبد الله الهمداني عم عياش به عبد الله المنتوف ودخل شبيب عسكرهم، وحمل سويد على ميمنة عثمان فهزمها وعليها وعليها خالد بن نهيك فقاتله قتالا شديدا وحمل شبيب من ورائه فقتله.
وتقدم عثمان بن قطن وقد نزل معه العرفاء وأشراف الناس والفرسان نحو القلب وفيه مصاد أخو شبيب في نحو من ستين رجلا فلما دنا منهم عثمان شد عليهم فيمن معه فضاربوهم حتى فرقوا بينهم وحمل شبيب بالخيل من ورائهم فما شعر عثمان ومن معه إلا والرماح في أكتافهم تكبهم لوجوههم وعطف عليهم سويد بن سليم أيضا في خيله ورجع مصاد وأصحابه فاضطربوا ساعة وقاتل عثمان بن قطن أخس قتال ثم إنهم أحاطوا به وضربه مصاد
أخو شبيب ضربة بالسيف استدار لها وقال وكان أمر الله مفعولا ثم إن الناس قتلوه ووقع عبد الرحمن فأتاه ابن أبي سبرة الجعفي وهو على بغله فعرفه فأركبه معه ونادى في الناس الحقوا بدير أبي مريم ثم انطلقوا ذاهبين.
415

ورأى واصل السكوني فرس عبد الرحمن التي أعطاها له الجزل تجول في العسكر فأخذها بعض أصحاب شبيب فظن أنه قتل فطلبه في القتلى فلم يجده فسأل عنه فأعطي خبره فاتبعه واصل على برذونه ومعه غلامه على بغل فلما دنا منهما نزل عبد الرحمن وابن أبي سبرة ليقاتلا فلما رآهما واصل عرفهما وقال إنكما تركتما النزول في موضعه فلا تنزلا الآن وحسر عمامته عن وجهه فعرفاه وقال لابن الأشعث قد أتيتك بهذا البرذون لتركبه فركبه وسار حتى نزل دير البقار.
وأمر شبيب أصحابه فرفعوا السيف عن الناس ودعاهم إلى البيعة فبايعوه.
وقتل من كندة يومئذ مائة وعشرون وقتل معظم العرفاء.
وبات عبد الرحمن بدير البقار فأتاه فارسان فصعدا إليه فخلا أحدهما بعبد الرحمن طويلا ثم نزل فتبين أن ذلك الرجل كان شبيبا وقد كان بينه وبين عبد الرحمن مكاتبة وسار عبد الرحمن حتى أتى دير أبي مريم فاجتمع الناس إليه وقالوا له إن سمع شبيب بمكانك أتاك فكنت له غنيمة فخرج إلى الكوفة واختفى من الحجاج حتى أخذ له الأمان منه.
ذكر ضرب الدراهم والدنانير الإسلامية
وفي هذه السنة ضرب عبد الملك بن مروان الدنانير والدراهم وهو أول من أحدث ضربها في الإسلام فانتفع الناس بذلك.
وكان سبب ضربها أنه كتب في صدور الكتب إلى الروم: (قل هو
416

الله أحد)، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم مع التاريخ فكتب إليه ملك الروم إنكم قد أحدثتم كذا وكذا فاتركوه وإلا أتاكم في دنانيرنا من ذكر نبيكم من ذكر نبيكم ما تكرهون فعظم ذلك عليه فأحضر خالد بن يزيد بن معاوية فاستشاره فيه فقال حرم دنانيرهم واضرب للناس سكة فيها ذكر الله تعالى فضرب الدنانير والدراهم.
ثم إن الحجاج ضرب الدراهم ونقش فيها (قل هو الله أحد)، فكره الناس ذلك لمكان القرآن لأن الجنب والحائض يمسها ونهى أن يضرب أحد غيره فضرب سمير اليهودي فأخذه ليقتله فقال له عيار دراهمي أجود من دراهمك فلم تقتلني فلم يتركه فوضع للناس صنج الأوزان ليتركه فلم يفعل وكان الناس لا يعرفون الوزن إنما يزنون بعضها ببعض فلما وضع لهم سمير الصنج كف بعضهم عن غبن بعض.
وأول من شدد في أمر الوزن وخلص الفضة أبلغ من تخليص من قبله عمر بن هبيرة أيام يزيد بن عبد الملك وجود الدراهم وخلص العيار واشتد فيه ثم كان خالد بن عبد الله القسري أيام هشام بن عبد الملك فاشتد أكثر من ابن هبيرة ثم ولى يوسف بن عمر فأفرط في الشدة فامتحن يوما العيار فوجد درهما ينقص حبة فضرب كل صانع ألف سوط وكانوا مائة صانع فضرب في حبة مائة ألف سوط وكانت الهبيرية والخالدية واليوسفية أجود نقود بني أمية ولم يكن المنصور يقبل في الخراج غيرها فسميت الدراهم الأولى مكروهة.
وقيل إن المكروهة الدراهم التي ضربها الحجاج ونقش عليها (قل هو الله أحد) فكرهها العلماء لأجل مس الجنب والحائض.
417

وكانت دراهم الأعجام مختلفة كبارا وصغارا وكانوا يضربون مثقالا وهو وزن عشرين قيراطا منها وزن اثني عشر قيراطا ومنها وزن عشرة قراريط وهي أصناف المثاقيل فلما ضرب الدراهم في الاسلام أخذوا عشرين قيراطا واثني عشر قيراطا وعشرة قراريط فوجدوا ذلك اثنين وأربعين قيراطا فضربوا على الثلث من ذلك وهو أربعة عشر قيراطا فوزن الدرهم العربي أربعة عشرة قيراطا فصار وزن كل عشرة دراهم سبعة مثاقيل.
وقيل: إن مصعب بن الزبير ضرب دراهم قليلة أيام أخيه عبد الله بن الزبير ثم كسرت بعد ذلك أيام عبد الملك.
والأول أصح في أن عبد الملك أول من ضرب الدراهم والدنانير.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة وفد يحيى بن الحكم على عبد الملك وفيها ولى عبد الملك. المدينة أبان بن عثمان. وفيها ولد مروان بن محمد بن مروان وأقام الحج للناس هذه السنة أبان بن عثمان وهو أمير المدينة وكان على العراق الحجاج وعلى خراسان أمية بن عبد الله بن خالد وعلى قضاء الكوفة شريح وعلى قضاء البصرة زرارة بن أوفى. وفيها غزا محمد بن مروان الروح من ناحية ملطية.
وفيها مات حبة بن جوين العرني صاحب علي.
(حبة بالحاء المهملة وبالباء الموحدة وهو منسوب إلى عرنة بالعين المهملة المضمومة والراء المهملة والنون).
418

77
ثم دخلت سنة سبع وسبعين
ذكر محاربة شبيب عتاب بن ورقاء وزهرة بن حوية وقتلهما
وفي هذه السنة قتل شبيب عتاب بن ورقاء الرياحي وزهرة بن حوية.
وسبب ذلك أن شبيبا لما هزم الجيش الذي كان وجهه الحجاج مع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث وقتل عثمان بن قطن كان ذلك في حر شديد وأتى شبيب ماه بهراذان فصيف بها ثلاثة أشهر وأتاه ناس كثير ممن يطلب الدنيا وممن كان الحجاج يطلبهم بمال أو تبعات فلما ذهب الحر خرج شبيب في نحو ثمانمائة رجل فأقبل نحو المدائن وعليها مطرف بن المغيرة بن شعبة فجاء حتى نزل قناطر حذيفة بن اليمان فكتب عظيم بابل مهرون إلى الحجاج بذلك فلما قرأ الكتاب قام في الناس فقال أيها الناس لتقاتلن عن بلادكم وعن فيئكم أو لأبعثن إلى قوم هم أطوع وأصبر على اللأواء والقيظ منكم فيقاتلون عدوكم ويأكلون فيئكم.
فقام إليه الناس من كل جانب ومكان فقالوا: نحن نقاتلهم ونعين الأمير فليندبنا الأمير إليهم وقام إليه زهرة بن حوية وهو شيخ كبير لا يستتم
419

قائما حتى يؤخذ بيده، فقال [له]: أصلح الله الأمير، إنما تبعث إليهم الناس متقطعين فاستفز الناس إليهم كافة ابعث إليهم رجلا شجاعا مجربا ممن يرى الفرار هضما وعارا والصبر مجدا وكرما فقال الحجاج فأنت ذلك الرجل فأخرج فقال زهرة أصلح الله الأمير إنما يصلح الرجل يحمل الدرع والرمح ويهز السيف ويثبت على [متن] الفرس، وأنا لا أطيق من هذا شيئا وقد ضعف بصري [وضعفت]، ولكن أخرجني مع الأمير في الناس فأكون معه وأشير عليه برأيي فقال الحجاج جزاك الله خيرا عن الاسلام وأهله في أول أمرك وآخره فقد نصحت ثم قال أيها الناس سيروا بأجمعكم كافة.
فانصرف الناس يتجهزون ولا يدرون من أميرهم وكتب الحجاج إلى عبد الملك يخبره أن شبيبا قد شارف المدائن وأنه يريد الكوفة وقد عجز أهل الكوفة عن قتاله في مواطن كثيرة، [في كلها] يقتل أمرائهم ويهزم جنودهم ويطلب إليه أن يبعث إليه جندا من الشم يقاتلون الخوارج ويأكلون البلاد.
فلما أتى الكتاب بعث اليه عبد الملك سفيان بن الأبرد الكلبي في أربعة آلاف وحبيب بن عبد الرحمن الحكمي في ألفين فبعث الحجاج إلى عتاب بن ورقاء الرياحي وهو مع المهلب يستدعيه، وكان عتاب قد كتب إلى الحجاج يشكو من المهلب ويسأله أن يضمه إليه لأن عتابا طلب من المهلب أن يرزق أهل الكوفة الذين معه من مال فارس فأبى عليه وجرت بينهما منافرة فكادت تؤدي إلى الحرب فدخل المغيرة بن المهلب بينهما فأصلح الأمر وألزم أباه برزق أهل الكوفة فأجابه إلى ذلك وكتب يشكو منه.
فلما ورد كتابه سر الحجاج بذلك واستدعاه ثم جمع الحجاج أهل
420

الكوفة واستشارهم فيمن يوليه أمر الجيش فقالوا رأيك أفضل فقال قد بعثت إلى عتاب وهو قادم عليكم الليلة أو القابلة فقال زهرة أيها الأمير رميتهم بحجرهم والله لا نرجع إليك حتى نظفر أو نقتل.
وقال له قبيصة بن والق: إن الناس قد تحدثوا أن جيشا قد وصل إليك من الشام وأن أهل الكوفة قد هزموا وهان عليهم الفرار فقلوبهم كأنها ليست فيهم فإن رأيت أن تبعث إلى أهل الشام ليأخذوا حذرهم ولا يبيتوا إلا وهم محتاطون فإنك تحارب حولا قلبا ظعانا رحالا وقد جهزت إليهم أهل الكوفة ولست واثقا بهم كل الثقة وإن شبيبا بينا هو في أرض إذا هو في أخرى ولا آمن أن يأتي أهل الشام وهم آمنون فإن يهلكوا نهلك ويهلك العراق.
قال له: لله أبوك ما أحسن ما أشرت به! وأرسل إلى أهل الشام يحذرهم ويأمرهم أن يأتوا على عين التمر ففعلوا.
وقدم عتاب بن ورقاء تلك فبعثه الحجاج على ذلك الجيش فعسكر بحمام أعين وأقبل شبيب حتى انتهى إلى كلواذى فقطع فيها دجلة ثم سار حتى نزل مدينة بهرسير الدنيا فصار بينه وبين مطرف [جسر] دجلة، وقطع مطرف الجسر وبعث إلى شبيب أن ابعث إلي رجالا من وجوه أصحابك أدارسهم القرآن وأنظر فيما يدعون إليه فبعث إليه قعنب بن سويد والمحلل وغيرهما وأخذ منه رهائن إلى أن يعودوا فأقاموا عنده أربعة أيام ثم لم يتفقوا على شيء فلما لم يتبعه مطرف تهيأ للمسير إلى عتاب وقال
لأصحابه إني كنت عازما أن آتي أهل الشام جريدة وألقاهم على غرة قبل أن يتصلوا بأمير
421

مثل الحجاج ومصر الكوفة فثبطي عنهم مطرف وقد جاءتني عيوني فأخبروني أن أوائلهم قد دخلوا عين التمر فهم الآن قد شارفوا الكوفة وقد أخبروني أن عتابا ومن معه بالبصرة فما أقرب ما بيننا وبينه فتيسروا للمسير إلى عتاب.
وخاف مطرف بن المغيرة أن يبلغ خبره مع شبيب إلى الحجاج فخرج نحو الجبال فأرسل شبيب أخاه مصادا إلى المدائن وعقد الجسر وأقبل عتاب إليه حتى نزل بسوق حكمة وقد خرج معه من المقاتلة أربعون ألفا ومن الشباب والأتباع عشرة آلاف فكانوا خمسين ألفا وكان الحجاج قد قال لهم حين ساروا إن للسائر المجتهد الكرامة والأثرة وللهارب الهوان والجفوة والذي لا إله غيره لئن فعلتم في هذه المواطن كفعلكم في المواطن الأخر لأولينكم كنفا خشنا ولأعركنكم بكلكل ثقيل.
فلما بلغ عتاب سوق حكمة أتاه شبيب وكان أصحابه بالمدائن ألف رجل فحثهم على القتال وسار بهم فتخلف عنه بعضهم ثم صلى الظهر بساباط وصلى العصر وسار حتى أشرف على عتاب وعسكره فلما رآهم نزل فصلى المغرب، وكان عتاب قد عبأ أصحابه فجعل في الميمنة محمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس وقال يا ابن أخي إنك شريف صابر فقال ولله لأصبرن ما ثبت معي إنسان وقال لقبيصة بن والق الثعلبي اكفني الميسرة فقال أنا شيخ كبير لا أستطيع القيام إلا أن أقام فجعل عليها نعيم بن عليم وبعث حنظلة بن الحرث اليربوعي وهو ابن عمه وشيخ أهل بيته على الرجالة وصفهم ثلاثة صفوف صف فيهم أصحاب السيوف وصف فيهم أصحاب الرماح وصف فيهم الرماة ثم سار في الناس يحرضهم
422

على القتال ويقص عليهم ثم قال أين القصاص فلم يجبه أحد ثم قال أين من يروي شعر عنترة فلم يجبه أحد فقال إنا لله كأني بكم قد فررتم عن عتاب بن ورقاء وتركتموه تسفي في استه الريح!
ثم أقبل حتى جلس في القلب ومعه زهرة بن حوية جالس وعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث وأبو بكر بن محمد بن أبي جهم العدوي وأقبل شبيب وهو في ستمائة وقد تخلف عنه من أصحابه أربعمائة فقال لقد تخلف عنا من لا أحب أن يرى فينا فجعل سويد بن سليم في مائتين في الميسرة وجعل المحلل بن وائل في مائتين في القلب ومشى هو في مائتين إلى الميمنة بين المغرب والعشاء الآخرة حين أضاء القمر فناداهم لمن هذه الرايات فقالوا رايات لربيعة قال طالما نصرت الحق وطالما نصرت الباطل والله لأجاهدنكم محتسبا أنا شبيب لا حكم إلا لله للحكم أثبتوا إن شئتم ثم حمل عليهم ففضهم فثبت أصحاب رايات قبيصة بن والق وعبيد بن الحليس ونعيم بن عليم فقتلوا وانهزمت الميسرة كلها ونادى الناس من بني ثعلبة قتل قبيصة وقال شبيب فقتلوه ومثله كما قال الله تعالى: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها). ثم وقف عليهم وقال ويحك لو ثبت على إسلامك الأول سعدت! وقال لأصحابه إن هذا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم ثم جاء يقاتلكم مع الفسقة.
ثم عن شبيبا حمل من الميسرة على عتاب، وحمل سويد بن سليم على الميمنة وعليها محمد بن عبد الرحمن فقاتلهم في رجال من تميم وهمدان،
423

فما زالوا كذلك حتى قيل لهم قتل عتاب فانفضوا.
ولم يزل عتاب جالسا على طنفسة في القلب ومعه زهرة بن حوية حتى غشيهم شبيب فقال [له] عتاب: يا زهرة هذا يوم كثر فيه العدد وقل فيه الفناء والهفي على خمسمائة فارس من تميم من جميع الناس إلا صابر لعدوه إلا مواس بنفسه فانفضوا عنه وتركوه فقال [له] زهرة: أحسنت يا عتاب فعلت فعلا [لا يفعله] مثلك. أبشر، فإني أرجو أن يكون الله، جل ثناؤه، قد أهدى إلينا الشهادة عند فناء أعمارنا.
فلما دنا منه شبيب وثب في عصابة قليلة صبرت معه وقد ذهب الناس فقيل له إن عبد الرحمن بن الأشعث قد هرب وتبعه ناس كثير فقال ما رأيت ذلك الفتى يبالي ما صنع ثم قاتلهم ساعة فرماه رجل من أصحاب شبيب يقال له عامر بن عمر التغلبي فحمل عليه فطعنه ووطئت الخيل زهرة بن حوية فأخذ يذب بسيفه لا يستطيع أن يقوم فجاءه الفضل بن عامر الشيباني فقتله فانتهى اليه شبيب فرآه صريعا فعرفه فقال هذا زهرة بن حوية أما والله لئن كنت قتلت على ضلالة لرب يوم من أيام المسلمين قد حسن فيه بلاؤك وعظم فيه غناؤك ولرب خيل للمشركين هزمتها وقرية من فرآهم جم أهلها قد افتتحها ثم كان في علم الله أنك تقتل ناصرا للظالمين وتوجع له فقال له رجل من أصحابه إنك لتوجع لرجل كافر فقال إنك لست بأعرف بضلالتهم مني ولكني أعرف من قديم أمرهم مالا تعرف ما لو
424

ثبتوا عليه لكانوا إخواننا.
فاستمسك شبيب من أهل والعسكر والناس فقال ارفعوا السيف ودعاهم إلى البيعة فبايعه الناس وهربوا من تحت ليلتهم وحوى ما في العسكر وبعث إلى أخيه فأتاه من المدائن. وأقام شبيب بعد الوقعة ببيت قرة يومين ثم سار نحو الكوفة فنزل بسورا وقتل عاملها.
وكان سفيان بن الأبرد وعسكر الشام قد دخلوا الكوفة فشدوا ظهر الحجاج واستغنى به وبعسكره عن أهل الكوفة فقام على المنبر فقال يا أهل الكوفة لا أعز الله من أراد بكم العز ولا نصر من أراد بكم النصر أخرجوا عنا لا تشهدوا معنا قتال عدونا انزلوا بالحيرة مع اليهود والنصارى ولا يقاتل معنا إلا من لم يشهد قتال عتاب.
ذكر قدوم شبيب الكوفة أيضا وانهزامه عنها
ثم سار شبيب من سورا فنزل حمام أعين فدعا الحجاج الحرث بن معاوية الثقفي فوجهه في ناس من الشرط لم يشهدوا يوم عتاب وغيرهم فخرج في نحو ألف فنزل زرارة فبلغ ذلك شبيبا فعجل إلى الحرث بن معاوية فلما انتهى اليه حمل عليه فقتله وانهزم أصحابه وجاء المنهزمون فدخلوا الكوفة وجاء شبيب فعسكر بناحية الكوفة وأقام ثلاثا فلم يكن في اليوم الأول غير قتل الحارث.
فلما كان اليوم الثاني أخرج الحجاج مواليه فأخذوا بأفواه السكك، وجاء
425

شبيب فنزل السبخة وابتنى بها مسجدا، فلما كان اليوم الثالث أخرج الحجاج أبا الورد مولاه عليه تجفاف ومعه غلمان له وقالوا هذا الحجاج فحمل عليه شبيب فقتله وقال إن كان هذا الحجاج فقد أرحتكم منه.
ثم أخرج الحجاج غلامه طهمان في مثل تلك العدة والحالة فقتله شبيب وقال إن كان هذا الحجاج فقد أرحتكم منه.
ثم إن الحجاج خرج ارتفاع النهار من القصر فطلب بغلا يركبه إلى السبخة فأتي ببغل فركبه ومعه أهل الشام فخرج فلما رأى الحجاج شبيبا وأصحابه نزل وكان شبيب في ستمائة فارس فأقبل نحو الحجاج وجعل الحجاج سبرة بن عبد الرحمن بن مخنف على أفواه السكك في جماعة الناس ودعا الحجاج بكرسي فقعد عليه ثم نادى: [يا] أهل الشام أنتم أهل السمع والطاعة [والصبر] واليقين فلا يغلبن باطل هؤلاء الأرجاس حقكم، غضوا الأبصار واجثوا على الركب واستقبلوهم بأطراف الأسنة ففعلوا وأشرعوا الرماح وكأنهم حرة سوداء وأقبل شبيب في ثلاثة كراديس كتيبة معه وكتيبة مع سويد بن سليم وكتيبة مع المحلل بن وائل وقال لسويد احمل عليهم في خيلك فحمل عليهم فثبتوا له ووثبوا له ووثبوا في وجهه بأطراف الرماح فطعنوه حتى انصرف هو وأصحابه.
وصاح الحجاج هكذا فافعلوا وأمر بكرسيه فقدم وأمر شبيب المحلل فحمل عليهم ففعلوا به كذلك فناداهم الحجاج هكذا فافعلوا وأمر بكرسيه فقدم.
ثم إن شبيبا حمل عليهم في كتيبته فثبتوا له وصنعوا به كذلك فقاتلهم طويلا ثم إن أهل الشام طاعنوه حتى ألحقوه بأصحابه فلما رأى صبرهم
426

نادى: يا سويد احمل عليهم بأصحابك على أهل هذه السكة لعلك تزيل أهلها وتأتي الحجاج من ورائة ونحمل نحن عليه من أمامه فحمل سويد فرمي من من فوق البيوت وأفواه السكك فرجع. وكان الحجاج قد جعل عروة بن المغيرة بن شعبة في ثلاثمائة رجل من أهل الشام ردءا له لئلا يؤتوا من خلفهم فجمع شبيب أصحابه ليحمل بهم فقال الحجاج اصبروا لهذه الشدة الواحدة ثم هو الفتح فجثوا على الركب.
وحمل عليهم شبيب بجميع أصحابه فوثبوا في وجهه وما زالوا يطاعنونه ويضاربونه قدما ويدفعونه وأصحابه حتى أجازوهم مكانهم وأمر شبيب أصحابه بالنزول يصفهم وجاء الحجاج حتى انتهى إلى مسجد شبيب ثم قال يا أهل الشام هذا أول الفتح وصعد المسجد ومعه جماعة معهم النبل ليرموهم إن دنوا منه فاقتتلوا عامة النهار أشد قتال رآه الناس حتى أقر كل واحد من الفريقين لصاحبه.
ثم ان خالد بن عتاب قال للحجاج ائذن لي في قتالهم فإني موتور فأذن له فخرج ومعه جماعة من أهل الكوفة وقصد عسكرهم من ورائهم فقتل مصادا أخا شبيب وقتل امرأته غزالة وحرق في عسكره وأتى الخبر الحجاج وشبيبا فكبر الحجاج وأصحابه وأما شبيب فركب هو وأصحابه وقال الحجاج لأهل الشام احملوا عليهم فإنهم قد أتاهم ما أرعبهم فشدوا عليهم فهزموهم وتخلف شبيب في حامية الناس فبعث الحجاج إلى خيله أن دعوه فتركوه ورجفوا ودخل الحجاج الكوفة فصعد المنبر ثم قال والله ما قوتل شبيب قبلها ولى والله هاربا وترك امرأته يكسر في استها القصب ثم دعا حبيب بن عبد الرحمن الحكمي فبعثه في ثلاثة آلاف فارس من أهل الشام في أثر شبيب وقال له احذر بياته وحيث لقيته فانزل له فإن الله تعالى
427

قد فل وحده وقصم نابه.
فخرج في أثره حتى نزل الأنبار وكان الحجاج قد نادى عند انهزامهم من جاءنا منكم فهو آمن فتفرق عن شبيب ناس كثير من أصحابه فلما نزل حبيب الأنبار أتاهم شبيب فلما دنا منهم نزل فصلى المغرب وكان حبيب قد جعل أصحابه أرباعا وقال لكل ربع منهم ليمنع كل ربع منكم جانبه فإن قاتل هذا الربع فلا يعنهم الربع الآخر فإن الخوارج قريب منكم فوطنوا أنفسكم على أنكم مبيتون ومقاتلون.
فأتاهم شبيب وهم على تعبية فحمل على ربع فقاتلهم طويلا فما زالت قدم إنسان عن موضعها ثم تركهم وأقبل إلى ربع آخر فكانوا كذلك ثم أتى ربعا آخر فكانوا كذلك ثم الربع الرابع فما برح يقاتلهم حتى ذهب ثلاثة أرباع الليل ثم نازلهم راجلا فسقطت منهم الأيدي وكثرت القتلى وفقئت الأعين وقتل من أصحاب شبيب نحو ثلاثين رجلا ومن أهل الشام نحو مائة واستولى التعب والإعياء على الطائفتين حتى أن الرجل ليضرب بسيفه فلا يصنع شيئا وحتى أن الرجل ليقاتل جالسا فما يستطيع أن يقوم من التعب.
فلما يئس شبيب منهم تركهم وانصرف عنهم ثم قطع دجلة وأخذ في أرض جوخى ثم قطع دجلة مرة أخرى عند واسط ثم أخذ نحو الأهواز ثم إلى فارس ثم إلى كرمان ليستريح هو ومن معه.
وقيل في هزيمته غير ذلك وهو أن الحجاج كان قد بعث إلى شبيب أميرا فقتله ثم أميرا فقتله أحدهما أعين صاحب حمام أعين ثم جاء شبيب حتى
428

دخل الكوفة ومعه زوجته غزالة وكانت نذرت أن تصلي في جامع الكوفة ركعتين تقرأ فيهما البقرة وآل عمران واتخذ في عسكره أخصاصا فجمع الحجاج ليلا بعد أن لقي من شبيب الناس ما لقوا فاستشارهم في أمر شبيب فأطرقوا وفصل قتيبة من الصف فقال أتأذن لي في الكلام؟ قال: نعم. قال إن الأمير ما راقب الله ولا أمير المؤمنين ولا نصح الرعية قال وكيف ذلك قال لأنك تبعث الرجل الشريف وتبعث معه رعاعا فينهزمون ويستحي أن ينهزم فيقتل. قال: فما الرأي؟ قال الرأي أن تخرج اليه فتحاكمه قال فانظر لي معسكرا.
فخرج الناس يلعنون عنبسة بن سعيد لأنه هو الذي كلم الحجاج فيه حتى جعله من صحابته وصلى الحجاج من الغد الصبح واجتمع الناس وأقبل قتيبة وقد رأى معسكرا حسنا فدخل إلى الحجاج ثم خرج ومعه لواء منشور وخرج الحجاج يتبعه حتى خرج إلى السبخة وبها شبيب وذلك يوم الأربعاء فتواقفوا وقيل للحجاج لا تعرفه مكانك فأخفى مكانه وشبه له أبا الورد مولاه فنظر اليه شبيب فحمل عليه فضربه بعمود فقتله وحمل شبيب على خالد بن عتاب ومن معه وهو على ميسرة الحجاج فبلغ بهم الرحبة وحمل على مطر بن ناجية وهو على ميمنة الحجاج فكشفه فنزل عند ذلك الحجاج ونزل أصحابه وجلس على عباءة ومعه عنبسة بن سعيد فإنهم على ذلك إذ تناول مصقلة بن مهلهل الضبي لجام شبيب وقال ما تقول في صالح بن مسرح وبم تشهد عليه قال أعلى هذه الحالة قال نعم قال فبرئ من صالح فقال له مصقلة برئ الله منك وفارقه إلا أربعين فارسا فقال الحجاج قد اختلفوا، وأرسل إلى خالد بن عتاب فأتى بهم في عسكرهم
429

فقاتلهم فقتلت غزالة، ومر برأسها إلى الحجاج مع فارس فعرفه شبيب فأمر رجلا فحمل على الفارس فقتله وجاء بالرأس فأمر به فغسل هم دفنه.
ومضى القوم على حاميتهم ورجع خالد فأخبر الحجاج بانصرافهم فأمره باتباعهم فأتبعهم يحمل عليهم فرجع اليه ثمانية نفر فقاتلوه حتى بلغو به الرحبة وأتى شبيب بخوط بن عمير السدوسي فقال يا خوط لا حكم إلا لله فقال ان خوطا من أصحابكم ولكنه كان يخاف فأطلقه وأتى بعمير بن القعقاع فقال يا عمير لا حكم إلا الله فقال في سبيل الله شبابي فردد عليه شبيب لا حكم إلا لله فلم يفقه ما يريد فقتله.
وقتل مصاد أخو شبيب وجعل شبيب ينتظر الثمانية الذين اتبعوا خالدا فأبطأوا ولم يقدم أصحاب الحجاج على شبيب هيبة له وأتى إلى شبيب أصحابه الثمانية فساروا واتبعهم خالد وقد دخلوا إلى دير بناحية المدائن فحصرهم فيه فخرجوا عليه فهزموه نحو فرسخين فألقوا أنفسهم في دجلة منهزمين وألقى خالد نفسه فيها بفرسه ولواؤه بيده فقال شبيب قاتله الله هذا أسد الناس فقيل هو خالد بن عتاب فقال معرق [له] في الشجاعة، ولو عرفته لاقحمت خلفه ولو دخل النار ثم سار إلى كرمان على ما تقدم ذكره وكتب الحجاج إلى عبد الملك يستمده ويعرفه عجز أهل الكوفة عن قتال شبيب فسير سفيان بن الأبرد في جيش اليه.
430

ذكر مهلك شبيب
وفي هذه السنة هلك شبيب.
وكان سبب ذلك أن الحجاج أنفق في أصحاب سفيان بن الأبرد مالا عظيما بعد أن عاد شبيب عن محاربتهم وقصد كرمان بشهرين وأمر سفيان وأصحابه بقصد شبيب فسار نحوه وكتب الحجاج إلى الحكم بن أيوب زوج ابنته وهو عامله على البصرة يأمره أن يرسل أربعة آلاف فارس من أهل البصري إلى سفيان فسيرهم مع زياد بن عمرو العتكي فلم يصل إلى سفيان حتى التقى سفيان مع شبيب وكان شبيب قد أقدم بكرمان فاستراح هوه وأصحابه ثم أقبل راجعا فالتقى مع سفيان بجسر دجيل الأهواز فعبر شبيب الجسر إلى سفيان فوجد سفيان قد نزل في الرجال وجعل مهاصر بن سيف على الخيل وأقبل شبيب في ثلاثة كراديس فاقتتلوا أشد قتال ورجع شبيب إلى المكان الذي كان فيه ثم حمل عليهم هو وأصحابه أكثر من ثلاثين حملة ولا يزول أهل الشام وقال لهم سفيان لا تتفرقوا وليزحف الرجال إليهم زحفا فما زالوا يضاربونهم ويطاعنونهم حتى اضطروهم إلى الجسر فلما انتهى شبيب إلى الجسر نزل ونزل معه نحو مائة فقاتلوهم حتى المساء وأوقعوا بأهل الشام من الضرب والطعن ما لم يروا مثله.
فلما رأى سفيان عجزه عنهم وخاف أن ينصروا عليه أمر الرماة أن يرموهم وذلك عند المساء وكانوا ناحية فتقدموا ورموا شبيبا ساعة فحمل هو أصحابه على الرماة فقتلوا منهم أكثر من ثلاثين رجلا ثم عطف على سفيان
431

ومن معه فقاتلهم حتى اختلط الظلام ثم انصرف فقال سفيان لأصحابه لا تتبعوهم.
فلما انتهى شبيب إلى الجسر قال لأصحابه اعبروا وإذا أصبحنا باكرناهم إن شاء الله فعبروا أمامه وتخلف في آخرهم وجاء ليعبر وهو على حصان وكانت بين يديه فرس أنثى فنزا فرسه عليها وهو على الجسر فاضطربت الحجر تحته ونزل حافر فرس شبيب على حرف السفينة فسقط في الماء فلما سقط قال (ليقضي الله أمرا كان مفعولا)، وانغمس في الماء ثم ارتفع وقال (ذلك تقدير العزيز العليم)، وغرق.
وقيل في قتله غير ذلك وهو أنه كان مع جماعة من عشيرته ولم تكن لهم تلك البصيرة النافذة وكان قد قتل من عشائرهم رجالا فكان قد أوجع قلوبهم وكان منهم رجل اسمه مقاتل من بني تميم بن شيبان فلنا قتل شبيب من بني تيم أغار هو على بني مرة بن همام فقتل منهم فقال له شبيب ما حملك على قتلهم بغير أمري فقال له قتلت كفار
قومي فقتلت كفار قومك ومن ديننا قتل من كان على غير رأينا وما أصبت من رهطي أكثر مما أصبت من رهطك وما يحل لك يا أمير المؤمنين أن تجد على قتل الكافرين قال لا أجد.
وكان معه أيضا رجال كثير قد قتل من عشائرهم، فلما تخلف في آخر الناس قال بعضهم لبعض هل لكم أن نقطع به الجسر فندرك ثارنا فقطعوا الجسر فمالت به السفن فنفر به الفرس فوقع في الماء فغرق والأول أصح وأشهر.
وكان أهل الشام يريدون الانصراف فأتاهم صاحب الجسر فقال لسفيان
432

إن رجلا منهم وقع في الماء فنادوا بينهم غرق أمير المؤمنين ثم إنهم انصرفوا راجعين وتركوا عسكرهم ليس فيه أحد فكبر سليمان وكبر أصحابه وأقبل حتى انتهى إلى الجسر وبعث إلى العسكر وإذ ليس في أحد وإذا هو أكثر العساكر خيرا ثم استخرجوا شبيبا فشقوا جوفه وأخرجوا قلبه وكان صلبا كأنه صخرة فكان يضرب به الصخرة فيثب عنها قامة الإنسان.
قيل: وكان شبيب ينعى إلى أمه فيقال قتل فلا تقبل ذلك فلما قيل لها غرق صدقت ذلك وقالت إني رأيت حين ولدته أنه خرج مني شهاب نار فعلمت أنه لا يطفئه إلا الماء وكانت أمه جارية رومية قد اشتراها أبوه فأولدها شبيبا منه سنة خمس وعشرين يوم النحر وقالت إني رأيت فيما يرى النائم أنه خرج من قلبي شهاب نار فذهب ساطعا في السماء وبلغ الآفاق كلها فبينا هو كذلك إذ وقع في ماء كثير فخبأ وقد ولدته في يومكم هذا الذي تهريقون فيه الدماء وقد أولت ذلك أن والدي يكون صاحب دماء وأن أمره سيعلو فيعظم سريعا وكان أبوه يختلف به إلى اللصف أرض قومه وهو من بني شيبان.
ذكر خروج مطرف بن المغيرة بن شعبة
قيل إن بني المغيرة بن شعبة كانوا صلحاء أشرافا بأنفسهم مع شرف أبيهم ومنزلتهم من قومهم، فلما قدم الحجاج ورآهم علم أنهم رجال قومهم
433

فاستعمل عروة على الكوفة، ومطرفا على المدائن وحمزة على همذان وكانوا في أعمالهم أحسن الناس سيرة وأشدهم على المريب وكان مطرف على المدائن عند خروج شبيب وقربه منها كما سبق فكتب إلى الحجاج يستمده فأمده بسبرة بن عبد الرحمن بن مخنف وغيره وأقبل شبيب حتى نزل بهرسير وكان مطرف بالمدينة العتيقة وهي التي فيها إيوان كسرى فقطع مطرف الجسر وبعث إلى شبيب يطلب إليه أن يرسل بعض أصحابه لينظر فيما يدعون فبعث إليه عدة منهم فسألهم مطرف عما يدعون اليه فقالوا ندعو إلى كتاب الله وسنة رسوله وأن الذي نقمنا من قومنا الاستئثار بالفيء وتعطيل الحدود والتسلط بالجبرية.
فقال له مطرف ما دعوتم إلا إلى حق وما نقمتم إلا جورا ظاهرا أنا لكم متابع فبايعوني على ما أدعوكم إليه ليجمع أمري وأمركم فقالوا اذكره فإن يكن حقا نجبك إليه قال أدعوكم إلى أن نقاتل هؤلاء الظلمة على أحداثهم وندعوهم إلى كتاب الله وسنة نبيه وأن يكون هذا الأمر شورى بين المسلمين يؤمرون من يرتضون على مثل هذه الحال التي تركهم عليها عمر بن الخطاب فإن العرب إذا علمت إنما يراد بالشورى الرضا من قريش رضوا وكثر تبعكم وأعوانكم فقالوا هذا ما لا نجيبك إليه وقاموا من عنده وترددوا بينهم أربعة أيام فلم تجتمع كلمتهم فساروا من عنده وأحضر مطرف نصحاءه وثقاته فذكر لهم ظلم الحجاج وعبد الملك وأنه ما زال يؤصر مخالفتهم ومناهضتهم وأنه يرى ذلك دينا لو وجد عليه أعوانا وذكر لهم ما جرى بينه وبين أصحاب شبيب وأنهم لو تابعوه على رأيه يخلع عبد الملك
434

والحجاج واستشارهم فيما يفعل.
فقالوا له أخف هذا الكلام ولا تظهره لأحد فقال له يزيد بن أبي زياد مولى أبيه المغيرة بن شعبة والله لا يخفى على الحجاج مما كان بينك وبينهم كلمة واحدة وليزادن على كل كلمة عشر أمثالها ولو كنت في السحاب لا لتمسك الحجاج حتى يهلكك فالنجاء النجاء!
فوافقه أصحابه على ذلك فسار عن المدائن نحو الجبال فلقيه قبيصة بن عبد الرحمن الخثعمي بدير يزدجرد فأحسن إليه وأعطاه نفقة وكسوة فصحبه ثم عاد عنه ثم ذكر مطرف لأصحابه بالدسكرة ما عزم عليه ودعاهم إليه وكان رأيه خلع عبد الملك والحجاج والدعاء إلى كتاب الله وسنة نبيه وأن يكون الأمر شورى بين المسلمين يرتضون لأنفسهم من أحبوه فبايعه البعض على ذلك ورجع عنه البعض.
وكان ممن رجع عنه سبرة بن عبد الرحمن بن مخنف فجاء إلى الحجاج وقاتل شبيبا مع أهل الشام.
وسار مطرف نحو حلوان وكان بها سويد بن عبد الرحمن السعدي من قبل الحجاج فأراد هو والأكراد منعه ليعذر عند الحجاج فجازه مطرف بمواطأة منه وأوقع مطرف بالأكراد فقتل منهم وسار فلما دنا من همذان وبها أخوه حمزة بن المغيرة تركها ذات اليسار وقصد ماه دينار وأرسل إلى أخيه حمزة يستمده بالمال والسلاح فأرسل إليه سرا ما طلب وسار مطرف حتى بلغ قم وقاشان وبعث عماله على تلك النواحي وأتاه الناس وكان ممن أتاه سويد بن سرحان الثقفي وبكير بن هارون النخعي من الري في نحو مائة رجل.
وكتب البراء بن قبيصة، وهو عامل الحجاج على أصبهان، إليه يعرفه حال مطرف ويستمده فأمده بالرجال بعد الرجال على دواب البريد وكتب
435

الحجاج إلى عدي بن زياد عامل الري يأمره بقصد مطرف وأن يجتمع هو والبراء على محاربته فسار عدي من الري فاجتمع هو والبراء بن قبيصة وكان عدي هو الأمير فاجتمعوا في نحو ستة آلاف مقاتل وكان حمزة بن المغيرة قد أرسل إلى الحجاج يعتذر فأظهر قبول عذره وأراد عزله وخاف أن يمتنع عليه فكتب إلى قيس بن سعد العجلي وهو على شرطة حمزة بهمذان بعهده على همذان ويأمره أن يقبض على حمزة بن المغيرة.
وكان بهمذان من عجل وربيعة جمع كثير فسار قيس بن سعد إلى حمزة في جماعة من عشيرته فأقرأه العهد بولاية همذان وكتاب الحجاج بالقبض عليه وقال سمعا وطاعة فقبض قيس على حمزة وجعله في السجن وتولى قيس همذان. وتفرغ قلب الحجاج من هذه الناحية لقتال مطرف وكان يخاف مكان حمزة بهمذان لئلا يمد أخاه بالمال والسلاح ولعله ينجده بالرجال.
فلما قبض عليه سكن قلبه وتفرغ باله ولما اجتمع عدي بن زياد الايادي والبراء بن قبيصة ساروا نحو مطرف فخندق عليه فلما دنوا منه اصطفوا للحرب واقتتلوا قتالا شديدا فانهزم أصحاب مطرف وقتل مطرف وجماعة كثيرة من أصحابه قتله عمير بن هبيرة الفزاري وحمل رأسه فتقدم بذلك عند بني أمية وقاتل ابن هبيرة ذلك اليوم وأبلى بلاء حسنا.
وقتل يزيد بن أبي زياد مولى المغيرة وكان صاحب راية مطرف وقتل من أصحابه عبد الرحمن بن عبد الله بن عفيف الأزدي وكان ناسكا صالحا.
وبعث عدي بن زياد إلى الحجاج أهل البلاء، فأكرمهم وأحسن إليهم، وآمن عدي بكير بن هارون وسويد بن سرحان وغيرهما وطلب منه الأمان
436

للحجاج بن حارثة الخثعمي فبعث إليهم كتاب الحجاج يأمرهم بإرساله إليه إن كان حيا فاختفى ابن حارثة حتى عزل عدي ثم ظهر في إمارة خالد بن عتاب بن ورقاء.
وكان الحجاج يقول أن مطرقا ليس بولد للمغيرة بن شعبة إنما هو ولد مصقلة بن سبرة الشيباني وكان مصقلة والمغيرة يدعيانه فألحق بالمغيرة وجلد مصقلة الجد فلما أظهر رأي الخوارج قال الحجاج ذلك لأن كثيرا من ربيعة كانوا من خوارج ولم يكن منهم أحد من قيس عيلان.
ذكر الاختلاف بين الأزارقة
قد ذكرنا مسير المهلب إلى الأزارقة ومحاربتهم إلى أن فارقة عتاب بن ورقاء الرياحي ورجع إلى الحجاج وأقام المهلب بعد مسير عتاب عنه يقاتل الخوارج فقاتلهم على سابور نحو سنة قتالا شديدا ثم إنه زاحفهم يوم البستان فقاتلهم أشد قتال وكانت كرمان بيد الخوارج وفارس بيد المهلب فضاق على الخوارج مكانهم لا يأتيهم من فارس مادة فخرجوا حتى أتوا كرمان وتبعهم المهلب بالعساكر حتى نزل بجيرفت وهي مدينة كرمان فقاتلهم قتالا شديدا فلما صارت فارس كلها في يد المهلب أرسل الحجاج العمال عليها فكتب إليه عبد الملك يأمره أن يترك بيد المهلب فسا ودارابجرد وكورة إصطخر تكون له معونة على الحرب فتركها له وبعث الحجاج إلى المهلب البراء
بن قبيصة ليحثه على قتال الخوارج ويأمره بالجد وأنه لا عذر له عنده.
فخرج من صلاة الغداة إلى الظهر ثم انصرفوا والبراء على مكان عال يراهم فجاء إلى المهلب فقال ما رأيت كتيبة
437

ولا فرسانا أصبر ولا أشد من الفرسان الذين يقاتلونك ثم ان المهلب رجع العصر فقاتلهم كقتالهم أول مرة لا يصد كتيبة عن كتيبة وخرجت كتيبة من كتائب الخوارج لكتيبة من أصحاب المهلب فاشتد بينهم القتال إلى أن حجز بينهم الليل فقالت إحداهما للأخرى من أنتم فقال هؤلاء نحن من بني تميم وقال هؤلاء نحن من بني تميم وانصرفوا عند المساء فقال المهلب للبراء بن قبيصة كيف رأيت قوما ما يعينك عليهم إلا الله جل ثناؤه فأحسن المهلب إلى البراء وأمر له بعشرة آلاف درهم وانصرف البراء إلى الحجاج وعرفه عذر المهلب.
ثم إن المهلب قاتلهم ثمانية عشر شهرا لا يقدر منهم على شيء ثم إن عاملا لقطري على ناحية كرمان يدعى المقعطر الضبي قتل رجلا منهم فوثبت الخوارج إلى قطري وطلبوا منه أن يقيدهم من المقعطر فلم يفعل وقال إنه تأول فأخطأ التأويل ما أرى أن تقتلوه وهو في ذوي السابقة فيكم فوقع بينهم الاختلاف.
وقيل كان سبب اختلافهم ان رجلا كان في عسكرهم يعمل النصول المسمومة فيرمي بها أصحاب المهلب فشكا أصحابه منها فقال أكفيكموه فوجه رجلا من أصحابه ومعه كتاب وأمره ان يلقيه في عسكر قطري ولا يراه أحد ففعل ذلك ووقع الكتاب إلى قطري فرأى فيه أما بعد فان نصالك وصلت وقد أنفذت إليك ألف درهم فأحضر الصانع فسأله فجحد فقتله قطري فأنكر عليه عبد ربه الكبير قتله واختلفوا.
ثم وضع المهلب رجلا نصرانيا وأمره أن يقصد قطريا ويسجد له ففعل ذلك فقال له الخوارج إن هذا قد اتخذك إلها ووثب بعضهم إلى النصراني فقتله فزاد اختلافهم وفارق بعضهم قطريا ثم ولوا عبد ربه الكبير وخلعوا قطريا وبقي مع قطري منهم نحو من ربعهم أو خمسهم،
438

واقتتلوا فيما بينهم نحوا من شهر.
وكتب المهلب إلى الحجاج بذلك فكتب إليه الحجاج يأمره أن يقاتلهم على حال اختلافهم قبل أن يجتمعوا فكتب إليه المهلب إني لست أرى أن أقاتلهم ما دام يقتل بعضهم بعضا فإن تموا على ذلك فهو الذي نريد وفيه هلاكهم وإن اجتمعوا لم يجتمعوا إلا وقد رقق بعضهم بعضهم بعضا فأناهضهم حينئذ وها هم أهون ما كانوا وأضعفه شوكة إن شاء الله تعالى والسلام فسكت عنه الحجاج وتركهم المهلب يقتتلون شهرا لا يحركهم ثم إن قطريا خرج بمن اتبعه نحو طبرستان وبايع الباقون عبد ربه الكبير.
ذكر مقتل عبد ربه الكبير
لما سار قطري إلى طبرستان وأقام عبد ربه الكبير بكرمان نهض إليهم المهلب فقاتلوه قتالا شديدا وحصرهم بجيرفت وكرر قتالهم وهو لا ينال منهم حاجته ثم إن الخوارج طال عليهم الحصار فخرجوا من جيرفب بأموالهم وحرمهم فقاتلهم المهلب قتالا شديدا حتى عقرت الخيل وتكسرت السلاح وقتل الفرسان فتركهم فساروا ودخل المهلب جيرفت ثم سار يتبعهم إلى أن لحقهم على أربعة فراسخ من جيرفت فقاتلهم من بكرة إلى نصف النهار وكف عنهم وأقام عليهم.
439

ثم إن عبد ربه جمع أصحابه وقال يا معشر المهاجرين إن قطريا ومن معه هربوا طلب البقاء ولا سبيل إليه فالقوا عدوكم وهبوا أنفسكم لله ثم عاد للقتال فاقتتلوا قتالا شديدا أنساهم ما قبله فبايع جماعة من أصحاب المهلب على الموت ثم ترجلت الخوارج وعقروا دوابهم واشتد القتال وعظم الخطب حتى قال المهلب ما مر بي مثل هذا ثم إن الله تعالى أنزل نصره على المهلب وأصحابه وهزم الخوارج وكثر القتلى فيهم وكان فيمن قتل عبد ربه الكبير وكان عدد القتلى أربعة آلاف قتيل ولم ينج منهم إلا قليل وأخذ عسكرهم وما فيه وسبوا لأنهم كانوا يسبون نساء المسلمين وقال الطفيل بن عامر بن واثلة يذكر قتل عبد ربه الكبير وأصحابه:
(لقد مس منا عبد رب وجنده * عقاب فأمسى سبيهم في المقاسم)
(سما لهم بالجيش حتى أزاحهم * بكرمان عن مثوى من الأرض ناعم)
(وما قطري الكفر إلا نعامة * طريد يدوي ليله غير نائم)
(إذا فر منا هاربا كان وجهه * طريقا سوى قصد الهدى والمعالم)
(فليس بمنجيه الفرار وإن جرت * به الفلك في لج من البحر دائم)
وهي أكثر من هذا تركناها لشهرتها.
وأحسن الحجاج إلى أهل البلاء وزادهم. وسير المهلب إلى الحجاج مبشرا فلما دخل عليه أخبره عن الجيش وعن الخوارج وذكر حروبهم وأخبره عن بني المهلب فقال المغيرة فارسهم وسيدهم وكفى بيزيد فارسا شجاعا وجوادهم وسخيهم قبيصة ولا يستحي الشجاع أن يفر من مدركه،
440

وعبد الملك سم ناقع وحبيب موت زعاف ومحمد ليث غاب وكفاك بالمفضل نجدة قال فأيهم كان أنجد قال كانوا كالحلقة المفرغة لا يعرف طرفها فاستحسن قوله وكتب إلى المهلب يشكره ويأمره أن يولي كرمان من يثق إليه ويجعل فيها من يحميها ويقدم إليه فاستعمل على كرمان يزيد ابنه وسار إلى الحجاج فلما قدم عليه أكرمه وأجلسه إلى جانبه وقال يا أهل العراق أنتم عبيد المهلب ثم قال له أنت كم قال لقيط بن يعمر الأيادي في صفة أمراء الجيوش:
(وقلدوا أمركم لله دركم * رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا)
(لا مترفا إن رخاء العيش ساعده * ولا إذا عض مكروه به خشعا)
(مسهد النوم تعنيه ثغوركم * يروم منها إلى الأعداء مطلعا)
(ما انفك يحلب هذا الدهر أشطره * يكون متبعا طورا ومتسعا)
(وليس يشغله مال يثمره * عنكم ولا ولد يبغي له الرفعا)
(حتى استمرت على شزر مريرته * مستحكم السن لا قحما ولا ضرعا)
وهي قصيدة طويلة وهذا هو الأجود منها.
ذكر قتل قطري بن الفجاءة وعبيدة بن هلال
قيل وفي هذه السنة كانت هلكة قطري وعبيدة بن هلال ومن [كان] معهم من الأزارقة.
441

وكان السبب في ذلك أن أمرهم لما تشتت بالاختلاف الذي ذكرنا وسار قطري نحو طبرستان وبلغ خبره الحجاج سير إليه سفيان بن الأبرد في جيش عظيم وسار سفيان واجتمع معه إسحاق بن محمد بن الأشعث في جيش لأهل الكوفة بطبرستان فأقبلا في طلب قطري فلحقوه في شعت من شعاب طبرستان فقاتلوه فتفرق عنه أصحابه ووقع عن دابته فتدهده إلى أسفل الشعب وأتاه علج من أهل البلد فقال له قطري اسقني الماء فقال العلج أعطني شيئا فقال ما معي إلا سلاحي وأنا أعطيك إذا أتيتني بالماء فانطلق العلج حتى أشرف على قطري ثم حدر عليه حجرا من فوقه فأصاب وركه فأوهنه فصاح بالناس فأقبلوا نحوه ولم يعرف العلج غير أنه يظن أنه من أشرافهم لكمال سلاحه وحسن هيئته فجاء إليه نفر من أهل الكوفة فقتلوه منهم سورة بن الحر التميمي وجعفر بن عبد الرحمن بن مخنف والصباح بن محمد بن الأشعث وباذان مولاهم وعمر بن أبي الصلت وكل هؤلاء ادعى قتله.
فجاء إليهم أبو الجهم بن كنانة فقال لهم ادفعوا رأسه إلي حتى تصطلحوا فدفعوه إليه فأقبل به إلى إسحاق بن محمد وهو على الكوفة فأرسله معه إلى سفيان فسير سفيان الرأس مع أبي الجهم إلى الحجاج فسيره الحجاج إلى عبد الملك فجعل عطاءه في ألفين.
ثم إن سفيان سار إليهم فأحاط بهم ثم أمر مناديه فنادى من قتل صاحبه وجاء إلينا فهو آمن فقال عبيدة بن هلال في ذلك:
442

(لعمري لقد قام الأضم بخطبة * لدى الشك منها في الصدور غليل)
(لعمري لئن أعطيت سفيان بيعتي * وفارقت ديني إنني لجهول)
(إلى الله أشكو ما نرى بجيادنا * تسرك هزلي مخهن قليل)
(تعاورها القذاف من كل جانب * بقومس حتى صعبهن ذلول)
(فإن يك أفناها الحصار فربما * تشحط فيما بينهن قتيل)
(وقد كن ممن إن يقدن على الوجى * لهن بأبواب القباب صهيل)
وحصرهم سفيان حتى أكلوا دوابهم ثم خرجوا إليه فقاتلوه فقتلهم وبعث برؤوسهم إلى الحجاج ثم دخل سفيان دنباوند وطبرستان فكان هناك حتى عزله الحجاج قبل الجماجم.
وقال بعض العلماء انقرضت الأزارقة بعد مقتل قطري وعبيدة إنما كانوا دفعة متصلة أهل عسكر واحد وأول رؤسائهم نافع بن الأزرق وآخرهم قطري وعبيدة واتصل أمرهم بضعا وعشرين سنة إلا أني أشك في صبيح المازني التميمي مولى سوار بن الأشعر الخارج أيام هشام قيل هو من الأزارقة أو الصفرية إلا أنه لم تطل أيامه بل قتل عقيب خروجه.
ذكر قتل بشير بن وساج
في هذه السنة قتل أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بكير بن وساج.
وكان سبب ذلك أن أمية بن عبد الله وهو عامل عبد الملك بن مروان
443

على خراسان، أمر بكيرا بالتجهيز لغزو ما وراء النهر وقد كان قبل ذلك ولاه طخارستان فتجهز له فوشى به بحير بن ورقاء إلى أمية فمنعه عنها فلما أمره بغزو ما وراء النهر تجهز وأنفق نفقة كثيرة وأدان فيها فقال بحير لأمية إن صار بينك وبينه النهر خلع الخليفة فأرسل إليه أمية إن أقم لعلي أغزو فتكون معي فغضب بكير وقال كأنه يضارني وكان عقاب اللقوة الغداني استدان ليخرج مع بكير، فأخذه غرماؤه فحبس حتى أدى عنه بكير.
ثم إن أمية تجهز للغزو إلى بخارى ثم يعود منها إلى موسى بن عبد الله بن خازم بترمذ وتجهز الناس معه وفيهم بكير وساروا فلما بلغوا النهر وأرادوا قطعه قال أمية لبكير إني قد استخلفت ابني على خراسان وأخاف أنه لا يضبطها لأنه غلام حدث فارجع إلى مرو فاكفنيها فإني قد وليتكها فقم بأمر ابني.
فانتخب بكير فرسانا كان عرفهم ووثق بهم ورجع ومضى أمية إلى بخارى للغزاة فقال عقاب القوة لبكير: إنا طلبنا أميرا من قريش فجاءنا أمير يلعب بنا ويحولنا من سجن إلى سجن، وإني أرى أن تحرق هذه السفن ونمضي إلى مرو ونخلع أمية ونقيم بمرو ونأكلها إلى يوم ما ووافقه الأحنف بن عبد الله العنبري على هذا قال بكير أخاف أن يهلك هؤلاء الفرسان الذين معي قال إن هلك هؤلاء فأنا آتيك من أهل مرو بما شئت قال يهلك المسلمون قال إنما يكفيك أن ينادي مناد من أسلم رفعنا عنه الخراج فيأتيك خمسون ألفا أسمع من هؤلاء وأطوع قال فيهلك أمية ومن معه قال ولم يهلكون
444

ولهم عدد وعدة ونجدة وسلاح ظاهر ليقاتلوا عن أنفسهم حتى يبلغوا الصين! فحرق بكير السفن ورجع إلى مرو فأخذ ابن أمية فحبسه وخلع أمية.
وبلغ أمية الخبر فصالح أهل بخارى على فدية قليلة ورجع وأمر باتخاذ السفن وعبر وذكر للناس إحسانه إلى بكير مرة بعد أخرى وأنه كافأه بالعصيان وسار إلى مرو وأتاه موسى بن عبد الله بن خازم وأرسل أمية شماس بن دثار في ثمانمائة فسار إليه بكير وبيته فهزمه وأمر أصحابه أن لا يقتلوا منهم أحدا فكانوا يأخذون سلاحهم ويطلقونهم وقد أمية فتلقاه شماس فقدم أمية ثابت بن قطبة فلقيه بكير فأسر ثابتا وفرق جمعه ثم أطلقه ليد كانت لثابت عنده.
وأقبل أمية وقاتله بكير فانكشف يوما أصحابه فحماهم بكير ثم التقوا يوما آخر فاقتتلوا قتالا شديدا ثم التقوا يوما آخر فضرب بكير ثابت بن قطبة على رأسه فحمل حريص بن قطبة أخو ثابت على بكير فانحاز بكير وانكشف أصحابه واتبع حريث بكيرا حتى بلغ القنطرة وناداه إلى أين يا بكير فرجع فضربه حريث على رأسه فقطع المغفر وعض السيف رأسه فصرع واحتمله أصحابه فأدخلوه المدينة وكانوا يقاتلونهم.
فكان أصحاب بكير يغدون في الثياب المصبغة من أحمر وأصفر فيجلسون يتحدثون وينادي مناديهم من رمى بسهم رمينا إليه برأس رجل من ولده وأهله فلا يرميهم أحد.
وخاف بكير إن طال الحصار أن يخذله الناس فطلب الصلح وأحب ذلك أيضا أصحاب أمية فاصطلحوا على أن يقضي أمية عنه أربعمائة ألف ويصل أصحابه ويوليه أي كور خراسان شاء ولا يسمع قول بحير فيه وإن رابه ريب فهو آمن أربعين يوما.
445

ودخل أمية مدينة مرو ووفى لبكير وعاد إلى ما كان من إكرامه وأعطى أمية عقابا عشرين ألفا.
وقد قيل: إن بكيرا لم يصحب أمية إلى النهر، كان أمية قد استخلفه على مرو فلما سار أمية وعبر النهر خلعه فجرى الأمر بينهما على ما ذكرناه.
وكان أمية سهلا لينا سخيا وكان مع ذلك ثقيلا على أهل خراسان وكان فيه زهو شديد وكان يقول ما تكفيني خراسان لمطبخي.
وعزل أمية بحيرا عن شرطته وولاها عطاء بن أبي السائب وطالب أمية الناس بالخراج واشتد عليهم وكان يوما بكير في المسجد وعنده الناس فذكروا شدة أمية وذموه وبحير وضرار بن حصين وعبد الله بن جارية بن قدامة في المسجد فنقل بحير ذلك إلى أمية فكذبه فادعى شهادة هؤلاء فشهد مزاحم بن أبي المجشر السلمي أنه كان يمزح فتركه أمية.
ثم أن بحيرا أتى أمية وقال له والله إن بكيرا قد دعاني إلى خلعك وقال لولا مكانك لقتلت هذا القرشي وأكلت خراسان فلم يصدقه أمية فاستشهد جماعة ذكر بكير انهم أعداؤه فقبض أمية على بكير وعلى بدل وشمر ودل ابني أخيه ثم أمر أمية بعض رؤساء من معه بقتل بكير فامتنعوا فأمر بحيرا بقتله فقتله وقتل أمية ابن أخي بكير.
446

ذكر عدة حوادث
في هذه السنة عبر أمية نهر بلخ للغزو فحوصر حتى جهد هو وأصحابه ثم نجوا بعد ما أشرفوا على الهلاك ورجعوا إلى مرو.
وحج هذه السنة بالناس أبان بن عثمان وهو أمير المدينة وكان على الكوفة والبصرة الحجاج وعلى خراسان أمية.
وغزا هذه السنة الصائفة الوليد بن عبد الملك.
وفيها مات جابر بن عبد الله بن الأنصاري
447

78
ثم دخلت سنة ثمان وسبعين
ذكر عزل أمية بن عبد الله وولاية المهلب خراسان
في هذه السنة عزل عبد الملك بن مروان أمية بن عبد الله بن خالد عن خراسان وسجستان وضمها إلى أعمال الحجاج بن يوسف ففرق عماله فيهما فبعث المهلب بن أبي صفرة على خراسان وقد فرغ من الأزارقة ثم قدم على الحجاج وهو بالبصرة فأجلسه معه على السرير ودعا أصحاب البلاء من أصحاب المهلب فأحسن إليهم وزادهم وبعث عبيد الله بن أبي بكرة على سجستان وكان الحجاج قد استخلف على الكوفة عند مسيره إلى البصرة المغيرة بن عبد الله بن أبي عقيل فلما استعمل المهلب على خراسان سير ابنه حبيبا إليها فلما ودع الحجاج أعطاه بغلة خضراء فسار عليها وأصحابه على البريد فسار عشرين يوما حتى وصل خراسان فلما دخل باب مرو لقيه حمل حطب فنفرت البغلة فعجبوا من نفارها بعد ذلك التعب وشدة السير فلما وصل خراسان لم يعرض لأمية ولا لعماله وأقام عشرة أشهر حتى قدم عليه المهلب سنة تسع وسبعين.
ذكر عدة حوادث
وحج بالناس هذه السنة أبان بن عثمان وكان أمير المدينة وكان أمير الكوفة والبصرة وخراسان وسجستان وكرمان الحجاج بن يوسف وكان نائبه
448

بخراسان المهلب وبسجستان عبيد الله بن أبي بكرة وكان على قضاء الكوفة شريح وعلى قضاء البصرة موسى بن أنس فيما قيل.
وفي هذه السنة مات عبد الرحمن بن عبد الله القاري وله ثمان وسبعون سنة ومسح النبي صلى الله عليه وسلم، برأسه.
(القاري برأسه القاري بالياء المشددة).
وفيها مات زيد بن خالد الجهني وقيل غير ذلك وتوفي عبد الرحمن بن غنم الأشعري أدرك الجاهلية وليست له صحبة.
449

79
ثم دخلت سنة تسع وسبعين
ذكر غزو عبيد الله بن أبي بكرة رتبيل
لما ولى الحجاج عبيد الله بن أبي بكرة سجستان وذلك سنة ثمان وسبعين مكث سنة لم يغز وكان رتبيل مصالحا وكان يؤدي الخراج وربما امتنع منه.
فبعث الحجاج إلى عبيد الله بن أبي بكرة يأمره بمناجزته وأن لا يرجع حتى يستبيح بلاده ويهدم قلاعه ويقيد رجاله.
فسار عبيد الله في أهل البصرة وأهل الكوفة وكان على أهل الكوفة شريح بن هانئ وكان من أصحاب علي ومضى عبيد الله حتى دخل بلاد رتبيل فأصاب من الغنائم ما شاء وهدم حصونا وغلب على أرض من أراضيهم وأصحاب رتبيل من الترك يتركون لهم أرضا بعد أرض حق أمعنوا في بلادهم ودنوا من مدينتهم وكانوا منها على ثمانية عشر فرسخا فأخذوا على المسلمين في أيدي المسلمين فظنوا أن قد هلكوا فصالحهم عبيد الله على سبعمائة ألف درهم يوصلها إلى رتبيل ليمكن المسلمين من الخروج من أرضه فلقيه شريح فقال له إنكم لا تصالحون على شيء إلا حسبه السلطان من أعطياتكم وقد بلغت من العمر طويلا وقد كنت أطلب الشهادة منذ زمان وإن فاتتني اليوم الشهادة ما أدركها حتى أموت. ثم قال شريح:
450

يا أهل الاسلام تعاونوا على عدوكم. فقال له ابن أبي بكرة: إنك شيخ قد خرقت فقال له شريح إنما حسبك أن يقال بستان عبيد الله وحمام عبيد الله يا أهل الإسلام من أراد منكم الشهادة فإلي فاتبعه ناس من المتطوعة غير كثير وفرسان الناس وأهل الحفاظ فقاتلوا حتى أصيبوا إلا قليلا وجعل شريح يرتجز ويقول:
(أصبحت ذا بث أقاسي الكبرا * قد عشت بين المشركين أعصرا)
(ثمة أدركنا النبي المنذرا * وبعده صديقه وعمرا)
(ويم مهران ويوم تسترا * والجمع في صفينهم والنهرا)
(وباجميرات مع المشقرا * هيهات ما أطول هذا عمرا)
وقاتل حتى قتل في ناس من أصحابه ونجا من نجا منهم فخرجوا من بلاد رتبيل فاستقبلهم الناس بالأطعمة فكان أحدهم إذا أكل وشبع مات فحذر الناس وجعلوا يطعمونهم قليلا قليلا حتى استمرؤوا وبلغ ذلك الحجاج فكتب إلى عبد الملك يعرفه ذلك ويخبره أنه قد جهز من أهل الكوفة وأهل البصرة جيشا كثيفا ويستأذنه في إرساله إلى بلاد رتبيل.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة أصاب أهل الشام طاعون شديد حتى كانوا يفنون فلم يغز تلك السنة أحد فيما قيل وفيها أصاب أهل الروم أهل أنطاكية وظفروا بهم.
451

وفيها استعفى شريح بن الحرث عن القضاء فأعفاه الحجاج واستعمل على القضاء أبا بردة أبي موسى
وحج بالناس في هذه السنة أبان بن عثمان وكان على المدينة وكان على العراق والشرق كله الحجاج بن يوسف وكان على قضاء البصرة موسى بن أنس.
وفيها مات محمود بن الربيع وكتيبة أبو إبراهيم وولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود.
452

80
ثم دخلت سنة ثمانين
ثم دخلت السنة أتى سيل بمكة فذهب الحجاج وكان يحمل الإبل عليها الأحمال والرجال ما لأحد فيه حيلة وغرقت بيوت مكة وبلغ السيل الركن فسمي ذلك العام الجحاف.
وفي هذه السنة وقع بالبصرة طاعون الجارف.
ذكر غزوة المهلب ما وراء النهر
في هذه السنة قطع نهر بلخ ونزل على كش وكان على مقدمته أبو الأدهم الزماني في ثلاثة آلاف وهو في خمسة آلاف وكان أبو الأدهم يغني غناء ألفين في البأس والتدبير والنصيحة فأتى المهلب وهو نازل على كش ابن عم ملك الختل فدعاه إلى غزو الختل فوجه معه ابنه يزيد وكان اسم ملك الختل الشبل يزيد ونزل ابن عم الملك ناحية فبيته وأخذه فقتله وحصر يزيد قلعة الشبل فصالحوه على فدية حملت اليه ورجع يزيد عنهم ووجه المهلب ابنه حبيبا فوافى صاحب بخارى في أربعين ألفا فنزل جماعة من العدو قرية فسار إليهم حبيب في أربعة آلاف فقتلهم وأحرق القرية فسميت المحترقة ورجع حبيب إلى أبيه.
453

وأقام المهلب بكش سنتين فقيل له لو تقدمت إلى ما وراء ذلك. فقال: ليت حظي من هذه الغزاة سلامة هذا الجند وعودهم سالمين.
ولما كان المهلب بكش أتاهم قوم من مضر فحبسهم بها فلما رجع أطلقهم فكتب إليه الحجاج إن كنت أصبت بحبسهم فقد أخطأت بإطلاقهم وإن كنت أصبت بإطلاقهم فقد ظلمتهم إذ حبستهم فكتب المهلب خفتهم فحبستهم فلما أمنتهم خليتهم وكان فيمن حبس عبد الملك بن أبي شيخ القشيري.
وصالح المهلب أهل كش على فدية يأخذها منهم وأتاه كتاب ابن الأشعث بخلع الحجاج ويدعوه إلى مساعدته فبعث بكتابه إلى الحجاج وأقام بكش.
ذكر تسيير الجنود إلى رتبيل مع عبد الرحمن
ابن محمد بن الأشعث
قد ذكرنا حال المسلمين حين دخل بهم ابن أبي بكرة بلاد رتبيل واستأذن الحجاج عبد الملك في تسيير الجنود نحو رتبيل فأذن له عبد الملك في ذلك فأخذ الحجاج في تجهيز الجيش فجعل على أهل الكوفة عشرين ألفا وعلى أهل البصرة عشرين ألفا وجد في ذلك وأعطى الناس أعطياتهم كملا وأنفق فيهم ألفي ألف سوى أعطياتهم وأنجدهم بالخيل الرائقة والسلاح الكامل وأعطى كل رجل يوصف بشجاعة وغناء منهم عبيد بن أبي محجن الثقفي وغيره.
فلما فرغ من أمر الجندين بعث عليهم عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث وكان الحجاج يبغضه ويقول ما رأيته قط إلا أردت قتله وسمع الشعبي ذلك من الحجاج ذات يوم فأخبر عبد الرحمن به فقال والله لأحاولن أن
454

أزيل الحجاج عن سلطانه. فلما أراد الحجاج أن يبعث عبد الرحمن على ذلك الجيش أتاه إسماعيل بن الأشعث فقال له لا تبعثه فوالله ما جاز جسر الفرات فرأى لوال عليه طاعة وإني أخاف خلافه. فقال الحجاج: هو أهيب لي من أن يخالف أمري وسيره على ذلك الجيش فسار بهم حتى قدم سجستان فجمع أهلها فخطبهم ثم قال إن الحجاج ولاني ثغركم وأمرني بجهاد عدوكم الذي استباح بلادكم فإياكم أن يتخلف منكم أحد فتمسه العقوبة.
فعسكروا مع الناس وتجهزوا وسار بأجمعهم وبلغ الخبر رتبيل فأرسل يعتذر ويبذل الخراج فلم يقبل منه وسار إليه ودخل بلاده وترك له رتبيل أرضا أرضا ورستاقا رستاقا وحصنا حصنا وعبد الرحمن يحوي ذلك وكلما حوى بلدا بعث إليه عاملا وجعل معه أعوانا وجعل الأرصاد على العقاب والشعاب ووضع المسالح بكل مكان مخوف حتى إذا جاز من أرضه [أرضا] عظيمة وملأ الناس أيديهم من الغنائم العظيمة منع الناس من الوغول في أرض رتبيل وقال نكتفي بما قد أصبناه العام من بلادهم حتى نجبيها ونعرفها ويجترئ الملمون على طرقها وفي العام المقبل نأخذ ما وراءها إن شاء الله تعالى حتى نقاتلهم في آخر ذلك على كنوزهم وذراريهم وأقصى بلادهم حتى يهلكهم الله تعالى ثم كتب إلى الحجاج بما فتح الله عليه وبما يريد أن يعمل.
وقد قيل في أرسال عبد الرحمن غير ما ذكرنا وهو أن الحجاج كان قد ترك بكرمان هميان بن عدي السدوسي يكون بها مسلحة إن احتاج إليه عامل سجستان والسند فعصى هميان فبعث إليه الحجاج عبد الرحمن بن
455

محمد فحاربه فانهزم وأقام عبد الرحمن بموضعه ثم إن عبيد الله بن أبي بكرة مات وكان عاملا على سجستان فكتب الحجاج لعبد الرحمن عهده عليها وجهز إليه هذا الجيش فكان يسمى جيش الطواويس لحسنه.
ذكر عدة حوادث
وحج بالناس هذه السنة أبان بن عثمان وكان أمير المدينة وكان على العراق والمشرق الحجاج وكان على خراسان المهلب من قبل الحجاج وكان على قضاء البصرة موسى بن أنس وعلى قضاء الكوفة أبو بردة.
وفي هذه السنة مات أسلم مولى عمر بن الخطاب. وفيها توفي أبو إدريس الخولاني وفيها مات عبد الله بن جعفر بن أبي طالب وقتل سنة أربع وقيل سنة خمس وقيل سنة ستة وثمانين وقيل سنة تسعين وفيها قتل معبد بن عبد الله بن عليم الجهمي الذي يروي حديث الدباغ وهو أول من قال بالقدر في البصرة قتله الحجاج وقيل قتله عبد الملك بن مروان بدمشق وفيها توفي محمد بن علي بن أبي طالب وهو ابن الحنفية وفيها توفي جنادة بن أبي أمية وله صحبة وكان على غزو البحر أيام معاوية كلها وفيها مات السائب بن يزيد ابن أخت النمر وقيل سنة ستة وثمانين ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وفيها توفي سويد بن غفلة، (بفتح الغين المعجمة، والفاء).
وفيها توفي عبد الله بن أبي أوفى وهو آخر من مات من الصحابة بالكوفة وجبير بن نفير بن مالك الحضرمي أدرك الجاهلية وليس له صحبة.
456

81
ثم دخلت سنة إحدى وثمانين
في هذه السنة سير عبد الملك بن مروان ابنه عبيد الله ففتح قاليقلا.
ذكر بحير بن ورقاء
وفي هذه السنة قتل بحير بن ورقاء الصريمي.
وكان سبب قتله أنه لما قتل لما بكير بن وساج وكلاهما تميميان بأمر أمية بن عبد الله بن خالد إياه بذلك كما تقدم ذكره قال عثمان بن رجاء بن جابر أحد بني عوف بن سعد من الأبناء يحرض بعض آل بكير من الأبناء والأبناء عدة بطون من تميم سموا بذلك:
(لعمري لقد أغضيت عينا على القذى * وبت بطينا من رحيق مروق)
(وخليت ثارا طل واخترت نومة * ومن يشرب الصهباء بالوتر يسبق)
(فلو كنت من عوف بن سعد ذؤابة * تركت بحيرا في دم مترقرق)
(فقل لبحير نم ولا تخش ثائرا * ببكر فعوف أهل شاء حبلق)
(دعوا الضأن يوما قد سبقتم بوتركم * وسرتم حديثا بين غرب ومشرق)
457

(وهبوا فلو أمسى بكيرا كعهده * لغاداهم زحفا بجأواء فيلق)
وقال أيضا:
(فلو كان بكر بارزا في أداته * وذي العرش لم يقدم عليه بحير)
(ففي الدهر إن أبقاني الدهر مطلب * وفي الله طلاب بذاك جدير)
فبلغ بحيرا أن رهط بكير من الأبناء يتوعدونه فقال:
(توعدني الأبناء جهلا كأنما * يرون فنائي مقفرا من بني كعب)
(رفعت له كفي بسيف مهند * حسام كلون الثلج ذي رونق عضب)
فتعاقد سبعة عشر رجلا من بني عوف على الطلب بدم بكير فخرج فتى منهم يقال له شمردل من البادية حتى قدم خراسان فرأى بحيرا واقفا فحمل عليه فطعنه فصرعه وظن أنه قد قتله فقال الناس خارجي وراكضهم فعثر به فرسه فسقط عنه فقتل.
وخرج صعصة بن حرب العوفي من البادية وقد باع غنيمات له ومضى إلى سجستان فجاور قرابة لبحير مدة وادعى إلى بني حنيفة من اليمامة وأطال مجالستهم حتى أنسوا به ثم قال لهم إن لي بخراسان ميراثا فاكتبوا لي إلى بحير كتابا ليعينني على حقي فكتبوا له وسار فقدم على بحير وهو على المهلب في غزوته فلقي قوما من بني عوف فأخبرهم أمره ولقي بحيرا فأخبره
458

أنه من بني حنيفة من أصحاب ابن أبي بكرة وان له مالا بسجستان وميراثا بمرو وقدم ليبيعه ويعود إلى اليمامة فأنزله بحير وأمر له بنفقة ووعده فقال صعصة أقيم عندك حتى يرجع الناس فأقام شهرا يحضر معه باب المهلب وكان بحير قد حذر فلما أتاه صعصعة بكتاب أصحابه وذكر أنه من حنيفة آمنه.
فجاء يوما صعصعة وبحير عند المهلب عليه قميص ورداء فقد خلعه ودنا منه كأنه يكلمه فوجأه بخنجر معه في خاصرته فغيبه في جوفه ونادى يا لثارات بكير فأخذ وأتى به المهلب فقال له بؤسا لك ما أدركت بثأرك وقتلت نفسك وما على بحير بأس فقال لقد طعنته طعنة لو قسمت بين الناس لماتوا ولقد وجدت ريح بطنه في يدي فحبسه فدخل عليه قوم من الأبناء فقبلوا رأسه ومات بحير من الغد فقال صعصعة لما مات بحير اصنعوا الآن ما شئتم أليس قد حلت نذور أبناء بني عوف وأدركت بثاري والله لقد أمكنني منه خاليا غير مرة فكرهت أن أقتله سرا فقال المهلب ما رأيت رجلا أسخى نفسا بالموت من هذا وأمر بقتله فقتل.
وقيل إن المهلب بعثه إلى بحير قبل أن يموت فقتله ومات بحير بعده.
وعظم موته على المهلب وغضبت عوف والأبناء وقالوا علام قتل صاحبنا وإنما أخذ بثأره فنازعهم مقاعس والبطون وكلهم بطون من تميم حتى خاف الناس أن يعظم الأمر فقال أهل الحجى احملوا دم صعصعة واجعلوا دم بحير ببكير فودوا صعصعة فقال رجل من الأبناء يمدح صعصعة:
(لله در فتى تجاوز همه * دون العراق مفاوزا وبحورا)
(ما زال يدئب نفسه وركابه * حتى تناول في الحروب بحيرا)
459

ذكر دخول الديلم قزوين وما كان منهم
كانت قزوين ثغر المسلمين من ناحية ديلم فكانت العساكر لا تبرح مرابطة بها يتحارسون ليلا ونهار فلما كانت هذه السنة كان في جماعة من رابط بها محمد بن أبي سبرة الجعفي وكان فارسا شجاعا عظيم الغناء في حروبه فلما قدم قزوين رأى الناس يتحارسون فلا ينامون الليل فقال لهم أتخافون أن يدخل عليكم العدو مدينتكم قالوا نعم قال لقد أنصفوكم إن فعلوا افتحوا الأبواب ولا بأس عليكم ففتحوها.
وبلغ ذلك الديلم فساروا إليهم وبيتوهم وهجموا إلى البلد وتصايح الناس فقال ابن أبي سبرة أغلقوا أبواب المدينة علينا وعليهم فقد أنصفونا وقاتلوهم فأغلقوا الأبواب وقاتلوهم وأبلى ابن أبي سبرة بلاء عظيما وظفر بهم المسلمون فلم يفلت من الديلم أحد واشتهر اسمه بذلك ولم يعد الديلم بعدها يقدمون على مفارقة أرضهم فصار محمد فارس ذلك الثغر المشار إليه وكان يدمن شرب الخمر وبقي كذلك إلى أيام عمر بن عبد العزيز فأمر بتسييره إلى زرارة وهي دار الفساق بالكوفة فسير إليها فأغارت الديلم ونالت من المسلمين وظهر الخلل بعده فكتبوا إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن أمير الكوفة يسألونه أن يرد عليهم ابن أبي سبرة فكتب بذلك إلى عمر فأذن له في عوده إلى الثغر.
فعاد إليه وحماه ولمحمد أخ يقال له خيثمة بن عبد الرحمن وهو اسم أبي سبرة وكان من الفقهاء.
460

ذكر خلاف عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث على الحجاج
وفي هذه السنة خالف عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث ومن معه من جند العراق على الحجاج وأقبلوا اليه لحربه وقيل كان ذلك سنة اثنتين وثمانين وكان سبب ذلك أن الحجاج لما بعث عبد الرحمن بن محمد على الجيش إلى بلاد رتبيل فدخلها وأخذ منها الغنائم والحصون وكتب إلى الحجاج يعرفه ذلك وأن رأيه أن يتركوا التوغل في بلاد رتبيل حتى يعرفوا طريقها ويجبوا خراجها على ما سبق ذكره.
فلما اتى كتابه إلى الحجاج كتب جوابه إن كتابك كتاب امرئ يحب الهدنة ويستريح إلى الموادعة قد صانع عدوا قليلا ذليلا قد أصابوا من المسلمين جندا كان بلاؤهم حسنا وغناؤهم عظيما وإنك حيث تكف عن ذلك العدو بجندي وحدي تسخى النفس بمن أصيب من المسلمين فامض لما أمرتك به من الوغول في أرضهم والهدم لحصونهم وقتل مقاتلتهم وسبي ذراريهم ثم أردفه كتابا آخر بنحو ذلك وفيه أما بعد فمر من قبلك من المسلمين فليحرثوا وليقيموا بها فإنها دارهم حتى يفتحها الله عليهم ثم كتب إليه ثالثا بذلك ويقول له إن مضيت لما أمرتك وإلا فأخوك إسحاق بن محمد أمير الناس.
فدعا عبد الرحمن الناس وقال لهم أيها الناس إني لكم ناصح ولصلاحكم
461

محب ولكم في كل ما يحيط به نفعكم ناظر وقد كان رأيي فيما بيني وبين عدوي بما رضيه ذوو أحلامكم وأولو التجربة منكم وكتبت بذلك إلى أميركم الحجاج فأتاني كتابه يعجزني ويضعفني ويأمرني بتعجيل الوغول بكم في أرض العدو وهي البلاد التي هلك فيها إخوانكم بالأمس وإنما أنا رجل منكم أمضي إذ مضيتم وآبى إذ أبيتم.
فثار اليه الناس وقالوا: بل نأبى على عدو الله ولا نسمع له ولا نطيع فكان أول من تكلم أبو الطفيل عامر بن واثلة الكناني وله صحبة فقال بعد حمد الله أما بعد فإن الحجاج يرى بكم ما رأى القائل الأول احمل عبدك على الفرس فإن هلك هلك وإن نجا فلك إن الحجاج ما يبالي أن يخاطر بكم فيقحمكم بلايا كثيرة ويغشى اللهوب واللصوب فإن ظفرتم وغنمتم أكل البلاد وحاز المال وكان ذلك زيادة في سلطانه وإن ظفر عدوكم كنتم أنتم الأعداء البغضاء الذين لا يبالي عنتهم ولا يبقي عليهم اخلعوا عدو الله الحجاج وبايعوا الأمير عبد الرحمن فإني أشهدكم أني أول خالع فنادى الناس من كل جانب فعلنا فعلنا قد خلعنا عدو الله.
وأقام عبد المؤمن بن شبث بن ربعي فقال عباد الله! إنكم إن أطعتم الحجاج جعل هذه البلاد بلادكم ما بقيتم وجمركم تجمير فرعون الجنود،
462

فإنه بلغني أنه أول من جمر البعوث ولن تعاينوا الأحبة أو يموت أكثركم فيما أرى فبايعوا أميركم وانصرفوا إلى عدوكم الحجاج فانفوه عن بلادكم فوثب الناس إلى عبد الرحمن فبايعوه على خلع الحجاج ونفيه من أرض العراق وعلى النصرة له ولم يذكر عبد الملك.
وجعل عبد الرحمن على بست عياض بن هميان الشيباني وعلى زرنج عبد الله بن عامر التميمي وصالح رتبيل على أن ابن الأشعث إن ظهر فلا خراج عليه أبدا ما بقي إن هزم فأراد منعه ثم رجع إلى العراق فسار بين يديه أعشى همذان وهو يقول:
(شطت نوى من داره بالإيوان * إيوان كسرى ذي القرى والريحان)
(من عاشق أمسى بزابلستان * إن ثقيفا منهم الكذابان)
(كذابها الماضي وكذاب ثان * أمكن ربي من ثقيف همدان)
(يوما إلى الليل يسلي ما كان * إنا سمونا للكفور الفتان)
(حين طغى في الكفر بعد الايمان * بالسيد الغطريف عبد الرحمن)
(سار بجمع كالدبا من قحطان * ومن معد قد أتى من عدنان)
(بجحفل جم شديد الأركان * فقل لحجاج ولي الشيطان)
(يثبت لجمع مذحج وهمدان * فإنهم ساقوه كأس الذيفان)
(وملحقوه بقرى ابن مروان)
وجعل عبد الرحمن على مقدمته عطية بن عمرو العنبري وجعل على
463

كرمان حريثة بن عمرو التميمي فلما بلغ فارس اجتمع الناس بعضهم إلى بعض وقالوا إذا خلعنا الحجاج عامل عبد الملك فقد خلعنا عبد الملك فاجتمعوا إلى عبد الرحمن فكان أول الناس خلع عبد الملك تيجان بن أبجر من تيم الله بن ثعلبة قام فقال أيها الناس إني خلعت أبا ذبان كخلع قميصي فخلعه الناس إلا قليلا منهم وبايعوا عبد الرحمن وكانت بيعته تبايعوا على كتاب الله وسنة نبيه وعلى جهاد أهل الضلالة وخلعهم وجهاد المحلين.
فلما بلغ الحجاج خلعه كتب إلى عبد الملك بخبر عبد الرحمن ويسأله أن يعجل بعثة الجنود إليه وسار الحجاج حتى نزل البصرة ولما بلغ المهلب خبر عبد الرحمن كتب إلى الحجاج من خراسان أما بعد فان أهل العراق قد أقبلوا إليك وهم مثل السيل المنحدر من عل ليس يردهم شيء حتى ينتهي إلى قراره وإن لأهل العراق شدة في أول مخرجهم وصبابة إلى أبنائهم ونسائهم فاتركهم حتى يسقطوا إلى أهاليهم ويشموا أولادهم ثم واقعهم عندها فإن الله ناصرك عليهم فلما قرأ كتابه سبه وقال ما إلي نظر وإنما النظر لابن عمه يعني عبد الرحمن.
ولما وصل كتاب الحجاج إلى عبد الملك هاله ودعا خالد بن يزيد فأقرأه الكتاب فقال يا أمير المؤمنين إن كان الحدث من سجستان فلا تخفه فإن كان من خراسان فإني أتخوفه فجهز عبد الملك الجند إلى الحجاج فكانوا
464

يصلون إلى الحجاج على البريد من مائة ومن خمسين وأقل وأكثر وكتب الحجاج تتصل بعبد الملك كل يوم بخبر عبد الرحمن فسار الحجاج من البصرة ليلقى عبد الرحمن فنزل تستر وقدم بين يديه مقدمة إلى دجيل فلقوا عنده خيلا لعبد الرحمن فانهزم أصحاب الحجاج بعد قتال شديد وكان ذلك يوم الأضحى سنة إحدى وثمانين وقتل منهم جمع كثير.
فلما أتى خبر الهزيمة إلى الحجاج رجع إلى البصرة وتبعه أصحاب عبد الرحمن فقتلوا منهم وأصابوا بعض أثقالهم وأقبل الحجاج حتى نزل الزاوية وجمع عنده الطعام وترك البصرة لأهل العراق ولما رجع نظر في كتاب المهلب فقال لله دره أي صاحب حرب هو وفرق في الناس مائة وخمسين ألف درهم.
فأقبل عبد الرحمن حتى دخل البصرة فبايعه جميع أهلها قراؤها وكهولها مستبصرين في قتال الحجاج ومن معه من أهل الشام وكان السبب في سرعة إجابتهم إلى بيعته أن عمال الحجاج كتبوا اليه أن الخراج قد انكسر وان أهل الذمة قد أسلموا ولحقوا بالأمصار فكتب إلى البصرة وغيرها أن من كان له أصل من قرية فليخرج إليها فأخرج الناس لتؤخذ منهم الجزية فجعلوا يبكون وينادون يا محمداه يا محمداه ولا يدرون أين يذهبون وجعل قراء البصرة يبكون لما يرون فلما قدم ابن الأشعث عقيب ذلك بايعوه على حرب الحجاج وخلع عبد الملك.
وخندق الحجاج على نفسه وخندق عبد الرحمن على البصرة وكان دخول عبد الرحمن البصرة في آخر ذي الحجة.
465

ذكر عدة حوادث
وحج بالناس هذه السنة سليمان بن عبد الملك وكان ممن حج أم الدرداء الصغرى وفيها ولد ابن أبي ذئب.
وكان العامل على المدينة أبان بن عثمان وعلى العراق والمشرق كله الحجاج وعلى خراسان المهلب وعلى قضاء الكوفة أبو بردة وعلى قضاء البصرة عبد الرحمن بن أذينة وكان سجستان وكرمان وفارس والبصرة بيد عبد الرحمن.
466

82
ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين
ذكر الحرب بين الحجاج وابن الأشعث
قيل في المحرم من هذه السنة اقتتل عسكر الحجاج وعسكر عبد الرحمن بن الأشعث قتالا شديدا فتزاحفوا في المحرم عدة دفعات فلما كان ذات يوم في آخر المحرم اشتد قتالهم فانهزم أصحاب الحجاج حتى انتهوا إليه وقاتلوا على خنادقهم ثم إنهم تزاحفوا آخر يوم من المحرم فجال أصحاب الحجاج وتقوض صفهم فجثى الحجاج على ركبتيه وقال لله در مصعب ما كان أكرمه حين نزل به ما نزل وعزم على أنه لا يفر.
فحمل سفيان بن الأبرد الكلبي على الميمنة التي لعبد الرحمن فهزمها وانهزم أهل العراق وأقبلوا نحو الكوفة مع عبد الرحمن وقتل منهم خلق كثير منهم عقبة بن عبد الغافر الأزدي وجماعة من القراء قتلوا ربضة واحدة معه.
ولما بلغ عبد الرحمن الكوفة تبعه أهل القوة وأصحاب الخيل من أهل البصرة واجتمع من بقي في البصرة مع عبد الرحمن بن عباس بن ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب فبايعوه فقاتل بهم الحجاج خمس ليال أشد قتال رآه الناس ثم انصرف فلحق بابن الأشعث وتبعه طائفة من أهل البصرة وقتل منهم طفيل بن عامر بن واثلة فقال أبوه يرثيه وهو من الصحابة:
467

(خلى طفيل علي الهم فانشعبا * وهد ذلك ركني هدة عجبا)
(مهما نسيت فلا أنساه إذ حدقت * به الأسنة مقتولا ومنسلبا)
(وأخطأتني المنايا لا تطالعني * حتى كبرت ولم يتركن لي نسبا)
(وكنت بعد طفيل كالتي نضبت * عنها السيول وغاض الماء فانقضبا)
وهي أبيات عدة وهذه الوقعة تسمى يوم الزاوية:
فأقام الحجاج أول صفر واستعمل على البصرة الحكم بن أيوب الثقفي وسار عبد الرحمن إلى الكوفة وقد كان
الحجاج استعمل عليها عند مسيره إلى البصرة عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عامر الحضرمي حليف بني أمية فقصده مطر بن ناجية اليربوعي فتحصن منه ابن الحضرمي في القصر ووثب أهل الكوفة مع مطر فأخرج ابن الحضرمي ومن معه من أهل الشام وكانوا أربعة آلاف واستولى مطر على القصر واجتمع الناس وفرق فيهم مائتي درهم مائتي درهم.
فلما وصل ابن الأشعث إلى الكوفة كان مطر بالقصر فخرج أهل الكوفة يستقبلونه ودخل الكوفة وقد سبق عليه همدان فكانوا حوله فأتى القصر فمنعه مطر بن ناجية ومعه جماعة من بني تميم فأصعد عبد الرحمن الناس في السلاليم إلى القصر فأخذوه فأتي عبد الرحمن بمطر بن ناجية فحبسه ثم أطلقه وصار معه فلما استقر عبد الرحمن بالكوفة اجتمع إليه الناس وقصده أهل البصرة منهم عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة الهاشمي بعد قتاله الحجاج بالبصرة.
468

وقتل الحجاج يوم الزاوية بعد الهزيمة أحد عشر ألفا خدعهم بالأمان وأمر مناديا فنادى لا أمان لفلان بن فلان فسمى رجالا فقال العامة قد أمن الناس فحضروا عنده فأمر بهم فقتلوا.
ذكر وقعة دير الجماجم
وكانت وقعة دير الجماجم في شعبان من هذه السنة وقيل كانت سنة ثلاث وثمانين.
وكان سببها أن الحجاج سار من البصرة إلى الكوفة لقتال عبد الرحمن بن محمد فنزل دير قرة وخرج عبد الرحمن من الكوفة فنزل دير الجماجم فقال الحجاج إن عبد الرحمن نزل دير الجماجم ونزلت دير القرة أما تزجر الطير واجتمع إلى عبد الرحمن أهل الكوفة وأهل البصرة والقراء وأهل الثغور والمسالح بدير الجماجم فاجتمعوا على حرب الحجاج لبغضه وكانوا مائة ألف ممن يأخذ العطاء ومعهم مثلهم وجاءت الحجاج أيضا أمداد من الشام قبل نزوله بدير قرة وخندق كل منهما على نفسه فكان الناس يقتتلون كل يوم ولا يزال أحدهما بدني خندقه من الآخر.
ثم إن عبد الملك وأهل الشام قالوا إن كان يرضى أهل العراق بنزع الحجاج عنهم نزعناه فإن عزله أيسر من حربهم ونحقن بذلك الدماء فبعث عبد الملك ابنه عبد الله وأخاه محمد بن مروان وكان محمد بأرض الموصل إلى الحجاج في جند كثيف وأمرهما أن يعرضا على أهل العراق عزل الحجاج وأن يجريا
469

عليهم أعطياتهم كما يجرى على أهل الشام وأن ينزل عبد الرحمن بن محمد أي بلد شاء من بلد العراق فإذا نزله كان واليا عليه ما دام حيا وعبد الملك خليفة فإن أجاب أهل العراق إلى ذلك عزلا الحجاج عنها وصار محمد بن مروان أمير العراق وإن أبى أهل العراق قبول ذلك فالحجاج أمير الجماعة ووالي القتال ومحمد بن مروان وعبد الله بن عبد الملك في طاعته.
ولم يأت الحجاج أمر قط كان أشد عليه ولا أوجع لقبله من ذلك فخاف أن يقبل أهل العراق عزله فيعزل عنهم، فكتب إلى عبد الملك والله لو أعطيت أهل العراق نزعي لم يلبثوا إلا قليلا حتى يخالفوك ويسيروا إليك ولا يزيدهم ذلك إلا جراءة عليك ألم تر ويبلغك وثوب أهل العراق مع الأشتر على ابن عفان وسؤالهم نزع سعيد بن العاص فلما نزعه لم تتم لهم السنة حتى ساروا إلى عثمان فقتلوه وإن الحديد بالحديد يفلح.
فأبى عبد الملك إلا عرض عزله على أهل العراق فلما اجتمع عبد الله ومحمد مع الحجاج خرج عبد الله بن عبد الملك وقال يا أهل العراق أنا ابن أمير المؤمنين وهو يعرض عليكم كذا وكذا فذكر هذه الخصال فقالوا نرجع العشية فرجعوا واجتمع أهل العراق عند ابن الأشعث فقال لهم قد أعطيتم أمر انتهازكم اليوم إياه فرصة وإنكم اليوم على النصف فإن كانوا اعتدوا عليكم بيوم الزاوية فأنتم تعتدون عليهم بيوم تستر فاقبلوا
470

ما عرضوا عليكم وأنتم أعزاء أقوياء لقوم هم لكم هائبون وأنتم لهم منتقضون فوالله لا زلتم عليهم جرآء وعندهم أعزاء أبدا ما بقيتم ان أنتم قبلتم.
فوثب الناس من كل جانب فقالوا إن الله قد أهلكهم فأصبحوا في الضنك والمجاعة والقلة والذلة ونحن ذوو العدد الكثير والسعر الرخيص والمادة القريبة لا والله لا نقبل وأعادوا خلعه ثانية وكان أول العدد الكثير والسعر الرخيص والمادة القريبة والمادة القريبة لا والله لا نقبل وأعادوا خلعه ثانية.
وكان أول من قام بخلعه بدير الجماجم عبد الله بن ذؤاب السلمي وعمير بن تيجان وكان اجتماعهم على خلعه بالجماجم أجمع من خلعهم إياه بفارس.
فقال عبد الله بن عبد الملك ومحمد بن مروان للحجاج شأنك بعسكرك وجندك واعمل برأيك فإنا قد أمرنا ان نسمع لك ونطيع فقال قد قلت انه لا يراد بهذا الأمر غيركم فكانا يسلمان عليه بالأمرة ويسلم عليها بالأمرة فلما اجتمع أهل العراق بالجماجم على خلع عبد الملك قال عبد الرحمن إلا إن بني مروان يعيرون بالزرقاء والله ما لهم نسب أصح منه إلا أن بني العاص أعلاج من أهل صفورية فإن يكن هذا الأمر من قريش فمني تقويت بيضة قريش وإن يك في العرب فأنا ابن الأشعث ومد بها صوته يسمع الناس وبرزوا للقتال.
فجعل الحجاج على ميمنته عبد الرحمن بن سليم الكلبي وعلى ميسرته عمارة بن تميم اللخمي وعلى خيله سفيان بن الأبرد الكلبي وعلى رجاله عبد الله بن خبيب الحكمي وجعل عبد الرحمن بن محمد على ميمنه الحجاج بن حارث الخثعمي وعلى ميسرته الأبر بن قرة التميمي وعلى خيله عبد
471

الرحمن بن العباس بن ربيعة الهاشمي وعلى رجاله محمد بن سعد بن أبي وقاص وعلى مجنبته عبد الله بن رزام الحارثي وجعل على القراء جبلة بن زحر بن قيس الجعفي وفيهم سعيد بن جبير وعامر الشعبي وأبو البختري الطائي عبد الرحمن بن أبي ليلى.
ثم أخذوا يتزاحفون كل يوم ويقتتلون وأهل العراق تأتيهم موادهم من الكوفة وسوادها وهم في خصب وأهل الشام في ضنك قد غلت عليهم الأسعار وفقد عندهم اللحم كأنهم في حصار وهم على ذلك يعادون القتال ويراوحون فلما كان اليوم الذي قتل فيه جبلة بن زحر بن قيس وكانت كتيبته تدعى القراء تحمل عليهم فلا يبرحون وكانوا قد عرفوا بذلك وكان فيهم كميل بن زياد وكان رجلا ركينا فخرجوا ذات يوم كما كانوا يخرجون وعبئ الحجاج صفوفه وعبئ عبد الرحمن أصحابه وعبئ الحجاج لكتيبة القراء ثلاث كتائب وبعث عليها الخراج بن عبد الله الحكمي فأقبلوا نحوهم فحملوا على القراء ثلاث حملات كل كتيبة تحمل حملة فلم يبرحوا وصبروا.
ذكر وفاة المغيرة بن المهلب
وفي هذه السنة مات المغيرة بن المهلب بخراسان وكان قد استخلفه أبوه المهلب على عمله بخراسان فمات في رجب سنة اثنتين وثمانين فأتى الخبر
472

يزيد بن المهلب وأهل العسكر فلم يخبروا المهلب فأمر يزيد النساء فصرخن فقال المهلب ما هذا فقيل مات المغيرة فاسترجع وجزع حتى ظهر جزعه فلامه بعض خاصته ثم دعا يزيد ووجهه إلى مرو ووصاه بما يعمل وأن دموعه تنحدر على لحيته.
فكان المهلب مقيما بكش بما وراء النهر يحارب أهلها فسار يزيد في ستين فارسا ويقال سبعين فلقيهم خمسمائة من الترك في مفازة بست فقالوا ما أنتم قالوا تجار قالوا فأعطونا شيئا فأبى يزيد فأعطاهم مجاعة بن عبد الرحمن العتكي ثوبا وكرابيس وقوسا فانصرفوا ثم غدروا إليهم فقاتلوهم فاشتد القتال بينهم ومع يزيد رجل من الخوارج كان قد أخذه فقال استبقني فاستبقاه فحمل الخارجي عليهم حتى يخالطهم وصار من ورائهم وقتل رجلا ثم كر حتى خالطهم وقتل رجلا ورجع إلى يزيد وقتل يزيد عظيما من عظمائهم ورمي يزيد في ساقه فاشتدت شوكتهم وصبر يزيد ننصرف حتى نموت حتى جاوزهم ننصرف حتى نموت أو تموتوا أو تعطونا شيئا فلم يعطهم يزيد شيئا فقال مجاعة أذكرك الله قد هلك المغيرة فأنشدك الله أن تهلك فتجتمع على المهلب المصيبة فقال إن المغيرة لم يعد أجله ولست أعدو أجلي فرمى إليهم مجاعة بعمامة صفراء فأخذوها فانصرفوا.
473

ذكر صلح المهلب أهل كش
وفي هذه السنة صالح المهلب أهل كش.
وكان سبب ذلك أنه اتهم قوما من مضر فحبسهم وصالح وقفل وخلف حريث بن قطبة مولى خزاعة وقال إذا استوفيت الفدية فرد عليهم الرهن وسار المهلب فلما صار ببلخ إلى حريث إني لست آمن إن رددت عليهم الرهن أن يغيروا عليك فإذا قبضت الفدية فلا تخل الرهن حتى تقدم أرض بلخ فقال حريث لملك كش إن المهلب كتب
إلى كذا وكذا فإن عجلت الفدية سلمت إليك الرهن.
وسرت وأخبرته أن كتابه ورد وقد استوفيتها منكم ورددت عليكم الرهن فعجل ملك كش وأخذ الرهن ورجع حريث فعرض لهم الترك فقالوا له افد نفسك ومن معك فقد لقينا يزيد بن المهلب ففدى نفسه فقال حريث ولدتني إذا أم يزيد وقاتلهم فقتلهم وأسر منهم أسرى ففدوهم فأطلقهم ورد عليهم الفداء.
وبلغ المهلب قوله فقال يأنف العبد أن تلده أم يزيد فغضب فلما قدم عليه بلخ قال أين الرهن؟ قال: خليتهم قبل وصول كتابك وقد كفيت ما خفت قال كذبت ولكنك تقربت إليهم وأمر بتجريده فجزع من ذلك حتى ظن المهلب أن به مرضا فجرده وضربه ثلاثين سوطا فقال حريث وددت أنه ضربني ثلاثمائة ولم يجردني أنفة وحياء وحلف ليقتلن المهلب فركب يوما مع المهلب فأمر غلامين له أن يضربا المهلب فلم يفعلا وقالا نخاف عليك أن تقتل وترك حريث إتيان المهلب فأرسل إليه أخاه ثابت
474

ابن قطبة ليأتيه به وقال له إنك كبعض ولدي أدبه كبعضهم فأتى ثابت أخاه وسأله أن يركب إلى المهلب فلم يفعل وحلف ليقتلنه فقال ثابت إن كان هذا رأيك فأخرج بنا إلى موسى بن عبد الله بن خازم وخاف ثابت أن يقتل حريث المهلب فيقتلون جميعا فخرجا في ثلاثمائة من أصحابهما المنقطعين إليهما.
ذكر وفاة المهلب بن أبي صفرة وولاية ابنه يزيد خراسان
لما صالح المهلب أهل كش رجع يريد مرو فلما كان بمرو الروذ أخذته الشوصة وقيل الشوكة فمات منها وأوصى إلى ابنه حبيب فصلى عليه وقال لهم قد استخلف عليكم يزيد فلا تخالفوه فقال له ابنه المفضل لو لم تقدمه لقدمناه.
وأحضر ولده فوصاهم وأحضر سهاما فحزمت فقال أتكسرونها مجتمعة قالوا لا قال أفتكسرونها متفرقة قالوا نعم قال فهكذا الجماعة ثم قال أوصيكم بتقوى الله وصلة الرحم فإنها تنسئ في الأجل وتثري المال وتكثر العدد وأنهاكم عن القطيعة فإنها تعقب النار والقلة والذلة وعليكم بالطاعة والجماعة وليكن فعالكم أفضل من مقالكم واتقوا الجواب وزلة اللسان فإن الرحل تزل قدمه منها ويزل لسانه فيهلك اعرفوا لمن يغشاكم حقه فكفى يغدو الرجل ورواحه إليكم تذكرة له وآثروا الجود على البخل وأحيوا العرف واصنعوا المعروف فإن الرجل من العرب تعده العدة فيموت دونك فكيف بالصنيعة عنده عليكم في الحرب بالتؤدة والمكيدة
475

فإنها أنفع من الشجاعة وإذا كان اللقاء نزل القضاء فإن أخذ الرجل بالحزم فظفر فحمد وإن لم يظفر قبل ما فرط ولا ضيع ولكن القضاء غالب وعليكم بقراءة القرآن وتعليم السنن وأدب الصالحين وإياكم وكثرة الكلام في مجالسكم ثم مات رحمه الله فقال نهار بن توسعة التيمي يرثيه:
(ألا ذهب المعروق والعز والغنى * ومات الندى والجود بعد المهلب)
(أقام بمرو الروذ رهن ضريحه * وقد غاب عنه كل شرق ومغرب)
(إذا قيل أي الناس أولى بنعمة * على الناس قلنا هو ولم نتهيب)
فلما توفي كتب ابنه يزيد إلى الحجاج يعلمه بوفاته فأقر يزيد على خراسان
ذكر عدة حوادث
وفي هذه السنة عزل عبد الملك أبان بن عثمان من المدينة في جمادى الآخرة واستعمل عليهما هشام بن إسماعيل المخزومي فعزل هشام نوفل بن مساحق عن قضاء المدينة وولى على القضاء عمرو بن خالد الزرقي، وفيها غزا محمد بن مروان أرمينية فهزموهم ثم سألوه الصلح فصالحهم وولى عليهم أبا شيخ بن عبد الله فغدروا به فقتلوه وقيل بل قتلوه سنة ثلاث وثمانين.
476

وفيها قتل عبد الله بن شداد بن الهاد الليثي بدجيل وفيها مات أبو الجوزاء أوس بن عبد الله الربعي وعطاء بن عبد الله السليمي العابد.
(السليمي بفتح السين المهملة وكسر اللام).
وفيها مات زاذان وأبو وائل وعمر بن عبيد الله بن معمر التيمي وعمره ستون سنة وفيها مات أبو إمامة الباهلي وقيل سنة إحدى وتسعين.
477

83
ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين
ذكر بقية الوقعة بدير الجماجم
فلما حملت كتائب الحجاج الثلاث على القراء من أصحاب عبد الرحمن وعليهم جبلة بن زحر نادى جبلة يا عبد الرحمن بن أبي ليلى يا معشر القراء إن الفرار ليس أحد [من الناس] بأقبح به بكم، إني سمعت علي بن أبي طالب، رفع الله درجته في الصالحين وأتاه ثواب الصادقين والشهداء يقول يوم لقينا أهل الشام أيها المؤمنون إنه من رأى عدوانا يعمل به ومنكرا يدعى إليه فأنكره بالسيف لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الظالمين السفلى فذلك الذي أصاب سبل الهدى ونور قلبه باليقين فقاتلوا هؤلاء المحلين المحدثين المبتدعين الذين جهلوا الحق فلا يعرفونه وعملوا بالعدوان فليس ينكرونه.
وقال أبو البختري أيها الناس قاتلوهم على دينكم ودنياكم فوالله لئن ظهروا عليكم ليفسدن عليكم دينكم وليغلبن على دنياكم فقال الشعبي أيها الناس قاتلوهم ولا يأخذكم حرج من قتالهم والله ما أعلم
478

على بسيط الأرض أعمل بظلم ولا أجور في حكم منهم وقال سعيد بن جبير نحو ذلك وقال جبلة احملوا عليهم حملة صادقة ولا تردوا وجوهكم عنهم حتى تواقعوا صفهم.
فحملوا عليهم حملة صادقة فضربوا الكتائب حتى أزالوها وفرقوها وتقدموا حتى واقعوا صفهم فأزالوه عن مكانه ثم رجعوا فوجدوا جبلة بن زحر قتيلا لا يدرون كيف قتل.
وكان سبب قتله أن أصحابه لما حملوا على أهل الشام ففرقوهم فوقف لأصحابه ليرجعوا إليه فافترقت فرقة من أهل الشام فوقفت ناحية فلما رأوا أصحاب جبلة قد تقدموا قال بعضهم لبعض هذا جبلة احملوا عليه ما دام أصحابه مشاغيل بالقتال فحملوا عليه فلم يول لكنه حمل عليهم فقتلوه وكان الذي قتله الوليد بن نحيت الكلبي وجئ برأسه إلى الحجاج فبشر أصحابه بذلك فلما رجع أصحاب جبلة ورأوه قتيلا سقط في أيديهم وتنازعوه بينهم فقال لهم أبو البختري لا يظهرن عليكم قتل جبلة إنما كان كرجل منكم أتته منيته فلم يكن ليتقدم ولا يتأخر وظهر الفشل في القراء وناداهم أهل الشام يا أعداء الله قد هلكتم وقتل طاغيتكم!
وقدم عليهم بسطام بن مصقلة بن هبيرة الشيباني ففرحوا به وقالوا تقدم مقام جبلة وكان قدومه من الري فلما أتى عبد الرحمن جعله على ربيعة وكان شجاعا فقاتل يوما فدخل عسكر الحجاج فأخذ أصحابه ثلاثين امرأة فأطلقهن فقال النساء منعوا نساءهم لو لم يردوهن لسبيت نساءهم إذا ظهرت عليهم.
وخرج عبد الرحمن بن هبيرة الشيباني ففرحوا به وقالوا تقدم مقام جبلة وكان قدومه من الري فلما أتى عبد الرحمن جعله على ربيعة وكان شجاعا فقاتل يوما فدخل عسكر الحجاج فأخذ أصحابه ثلاثين امرأة فأطلقهن فقال الحجاج منعوا نساءهم لو لم يردوهن لسبيت نساءهم إذا ظهرت عليهم وخرج عبد الرحمن بن عوف الرواسي أبو حميد فدعا إلى المبارزة فخرج إليه رجل من أهل الشام فتضاربا فقال كل واحد منهما أنا الغلام الكلابي فقال كل واحد منهما لصاحبه من أنت؟ وإذا هما ابنا عم
479

فتحاجزا وخرج عبد الله بن رزام الحارثي فطلب المبارزة فخرج إليه رجل من عسكر الحجاج فقتله ثم فعل ذلك ثلاثة أيام.
فلما كان اليوم الرابع خرج، فقالوا: جاء لا جاء الله به فطلب المبارزة فقال الحجاج للجراح أخرج إليه فخرج إليه فقال له عبد الله وكان له صديقا ويحل يا جراح ما أخرجك؟ قال ابتليت بك. قال: فهل لك في خير؟ قال الجراح: ما هو؟ قال عبد الله أنهزم لك وترجع إلى الحجاج وقد أحسنت عنده وحمدك وأما أنا فأحتمل مقالة الناس في انهزامي حسبا لسلامتك فإني لا أحب قتل مثلك من قومي قال إفعل فحمل الجراح على عبد الله فاستطرد له عبد الله وحمل عليه الجراح بجد يريد قتله فصاح لبعد الله غلامه وكان ناحية معه ماء ليشربه وقال له يا سيدي إن الرجل يريد قتلك! فعطف عبد الله على الجراح فضربه بعمود على رأسه فصرعه وقال له يا جراح بئس ما جزيتني! أردت بك العافية وأردت قتلي! انطلق فقد تركتك للقرابة والعشيرة.
وكان سعيد بن جبير وأبو البختري الطائي يحملان على أهل الشام بعد قتل جبلة بن زحر حتى يخالطوهم وكانت مدة الحرب مائة يوم وثلاثة أيام لأنه كان نزولهم بالجماجم لثلاثة مضت من ربيع الأول وكانت الهزيمة لأربع عشرة مضين من جمادى الآخرة.
فلما كان يزم الهزيمة اقتتلوا أشد قتال واستظهر أصحابه عبد الرحمن على أصحابه الحجاج واستعملوا عليهم وهم آمنون أن يهزموا فبيناهم كذلك
480

إذ حمل سفيان بن الأبرد وهو في ميمنة الحجاج على الأبرد بن قرة التميمي وهو على ميسرة عبد الرحمن فانهزم الأبرد بن قرة من غير قتال يذكر فظن الناس أنه قد كان صولح على أن ينهزم بالناس فلما تقوضت الصفوف من نحوه وركب الناس بعضهم بعضا وصعد عبد الرحمن المنبر ينادي في الناس إلى عباد الله فاجتمع إليه جماعة فثبت حتى دنا منه أهل الشام فقاتل من معه ودخل أهل الشام العسكر فأتاه عبد الله بن يزيد بن المفضل الأزدي فقال له انزل فإني أخاف عليك أن تؤسر ولعلك إن انصرفت أن تجمع لهم جمعا يهلكهم الله به.
فنزل هو ومن معه لا يلوون على شيء، ثم رجع الحجاج إلى الكوفة، وعاد محمد بن مروان إلى الموصل وعبد الله بن عبد الملك إلى الشام وأخذ الحجاج يبايع الناس وكان لا يبايع أحدا إلا قال له أشهد أنك كفرت فإن قال نعم بايعه وإلا قتلته فأتاه رجل من خثعم كان معتزلا للناس جميعا فسأله عن حاله فأخبره باعتزاله فقال له أنت متربص أتشهد أنك كافر قال بئس الرجل أنا عبد الله ثمانين سنه ثم أشهد على نفسي بالكفر! قال إذا أقتلك قال وإن قتلتني فقتله ولمم يبق أحد من أهل الشام والعراق إلا رحمه.
ثم دعا بكميل بن زياد فقال له أنت المقتص من أمير المزمنين عثمان؟ قد كنت أحب إلي من أن أجد عليك سبيلا. قال على أينا أنت أشد غضبا عليه حين أقاد من نفسه أم علي حين عفوت عنه ثم قال أيها الرجل من ثقيف لا تصرف علي أنيابك ولا تكشر علي كالذئب والله ما بقي من عمري إلا ظمء الحمار اقض ما أنت قاض فإن الموعد الله وبعد القتل الحساب. قال
481

الحجاج: فإن الحجة عليك قال ذلك إذا كان القضاء إليك فأمر به فقتل وكان خصيصا بأمير المؤمنين وأتى بآخر من بعده فقال له الحجاج أرى رجلا ما أظنه يشهد على نفسه بالكفر فقال له الرجل أتخادعني عن نفسي؟ أنا أكفر أهل الأرض وأكفر من فرعون ذي الأوتاد فضحك منه الرجل وخلى سبيله.
وأقام بالكوفة شهرا وأنزل أهل الشام بيوت أهل الكوفة أنزلهم الحجاج فيها مع أهلها وهو أول من أنزل الجند في بيوت غيرهم وهو إلى الآن لا سيما في بلاد العجم ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة.
ذكر الوقعة بمسكن
ولما انهزم عبد الرحمن أتى البصرة واجتمع إليه من المنهزمين جمع كثير وكان فيهم عبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس القرشي وكان بالمدائن محمد بن سعد بن أبي وقاص فسار إليه الحجاج فلحق ابن سعد بعبد الرحمن وسار عبد الرحمن نحو الحجاج ومعه جمع كثير فيهم بسطام بن مصقلة بن هبيرة الشيباني وقد بايعه خلق كثير على الموت فاجتمعوا بمسكن وخندق عبد الرحمن على أصحابه وجعل القتال من وجه واحد.
وقدم عليه خالد بن جرير بن عبد الله من خراسان في ناس من بعث الكوفة فاقتتلوا خمسة عشر يوما من شعبان أشد قتال فقتل زياد بن غنم القيني،
482

وكان على مسالح الحجاج فهده ذلك وهد أصحابه وبات الحجاج يحرض أصحابه ولما أصبحوا باكروا القتال فاقتتلوا أشد قتال كان بينهم فانكشفت خيل سفيان بن الأبرد فأمر الحجاج عبد الملك بن المهلب فحمل على أصحاب عبد الرحمن وحمل أصحاب الحجاج من كل جانب فانهزم عبد الرحمن وأصحابه وقتل عبد الرحمن بن أبي ليلى الفقيه وأبو البختري الطائي ومشى بسطام بن مصقلة بن هبيرة في أربعة آلاف فارس من شجعان أهل الكوفة والبصرة فكسروا جفون سيوفهم وحث أصحابه على القتال فحملوا على أهل الشام فكشفوهم مرارا فدعا الحجاج الرماة فرموهم وأحاط بهم الناس فقتلوا إلا قليلا ومضى ابن الأشعث نحو سجستان.
وقد قيل في هزيمة عبد الرحمن بمسكن غير هذا والذي قيل أنه اجتمع هو والحجاج بمسكن وكان عسكر ابن الأشعث والحجاج بين دجلة والسيب والكرخ فاقتتلوا شهرا ودونه فأتى شيخ فدل الحجاج على طريق من وراء الكرخ في أجمة وضحضاح من الماء فأرسل معه أربعة آلاف وقال لقائدهم إن صدق فأعطه ألف درهم فإن كذب فاقتله فسار بهم ثم إن الحجاج قاتل أصحاب عبد الرحمن فانهزم الحجاج فعبر السيب ورجع ابن الأشعث إلى عسكره آمنا ونهب عسكر الحجاج فأمنوا وألقوا السلاح فلم يشعروا نصف الليل إلا والسيف يأخذهم من تلك السرية فغرق من أصحاب عبد الرحمن أكثر ممن قتل ورجع الحجاج في عسكره على الصوت فقتلوا من وجدوا فكان عدة من قتل أربعة آلاف منهم عبد الله بن شداد بن الهاد وبسطام بن مصقلة وعمروا بن ضبيعة الرقاشي وبشر بن المنذر بن الجارود وغيرهم.
483

ذكر مسير عبد الرحمن إلى رتبيل وما جرى له ولأصحابه
ولما انهزم عبد الرحمن من مسكن سار إلى سجستان فأتبعه الحجاج ابنه محمدا وعمارة بن تميم اللخمي وعمارة على الجيش فأدركه عمارة بالسوس فقاتله ساعة فانهزم عبد الرحمن ومن معه وساروا حتى أتوا سابور واجتمع إليه الأكراد فقاتلهم عمارة قتالا شديدا على العقبة فجرح عمارة وكثير من أصحابه وانهزم عمارة وترك لهم العقبة.
وسار عبد الرحمن حتى أتى كرمان وعمارة يتبع أثرهم فدخل بعض أهل الشام قصرا في مفازة كرمان فإذا فيه كتاب قد كتبه بعض أهل الكوفة من شعر ابن حلزة اليشكري وهي طويلة:
(أيا لهفا ويا حربا جميعا * ويا حر الفؤاد لما لقينا)
(تركنا الدين والدنيا جميعا * وأسلمنا الحلائل والبنينا)
(فما كنا بناس أهل دين * فنصبر في البلاء إذا ابتلينا)
(وما كنا بناس أهل دنيا * فنمنعها ولو لم نرج دينا)
(تركنا دورنا لطغام عك * وأنباط القرى والأشعرينا)
فما وصل عبد الرحمن كرمان أتاه عامله وقد هيأ له منزلا فنزل،
484

ثم رحل إلى سجستان فأتى زرنج وفيها عامله فأعلق بابها ومنع عبد الرحمن من دخولها فأقام عليها أياما ليفتحها فلم يصل إليها فسار إلى بست وكان قد استعمل عليها عياض بن هميان بن هشام السدوسي السيباني فاستقبله وأنزله فلما غفل أصحابه قبض عليه عياض وأوثقه وأراد أن يأمن به عند الحجاج.
وقد كان رتبيل ملك الترك سمع بمقدم عبد الرحمن فسار إليه ليستقبله فلما قبضه عياض نزل رتبيل على بست وبعث إلى عياض يقول والله لئن آذيته بما يقذي عينه أو ضررته ببعض الضرر أو أخذت منه ولو حبلا من شعر لا أبرح حتى أستنزلك وأقتلك وجميع من معك وأسبي ذراريكم وأغنم أموالكم فاستأمنه عياض فأطلق عبد الرحمن فأراد قتل عياض فمنعه رتبيل ثم سار عبد الرحمن مع رتبيل إلى بلاده فأنزله وأكرمه وعظمه. وكان ناس كثير من المنهزمين من أصحاب عبد الرحمن من الرؤوس والقادة الذين لم يقبلوا أمان الحجاج ونصبوا له العداوة في كل موطن قد تبعوا عبد الرحمن فبلغوا سجستان في نحو ستين ألفا ونزلوا على زرنج يحاصرون من بها وكتبوا إلى عبد الرحمن يستدعونه ويخبرونه أنهم على قصد خراسان ليقووا بمن بها من عشائرهم فأتاهم وكان يصلي بهم عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب إلى أن قدم عبد الرحمن فلما أتت كتبهم عبد الرحمن سار إليهم ففتحوا زرنج وسار نحوهم عمارة بن تميم في أهل الشام فقال لعبد الرحمن أصحابه اخرج بنا عن سجستان إلى خراسان فقال أن بها يزيد بن المهلب وهو رجل شجاع ولا يترك لكم سلطانه ولو دخلنا لقاتلنا.
485

وتبعنا أهل الشام فيجتمع علينا أهل خراسان وأهل الشام فقالوا لو دخلنا خراسان لكان من يتبعنا أكثر ممن يقاتلنا فسار معهم حتى بلغوا هراة فهرب من أصحابه عبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة القرشي في ألفين فقال عبد الرحمن إني كنت في مأمن وملجأ فجاءتني كتبكم أن أقبل فان أمرنا واحد فلعلنا نقاتل عدونا فأتيتكم فرأيتم أن أمضي إلى خراسان وزعمتم أنكم تجتمعون إلي وأنكم لا تتفرقون وهذا عبيد الله قد صنع ما رأيتم فاصنعوا ما بدا
لكم أما أنا فمنصرف إلى صاحبي الذي أتيت من عنده.
فتفرق منهم طائفة وبقي معه طائفة وبقي أعظم العسكر مع عبد الرحمن بن العباس فبايعوه ومضى عبد الرحمن بن الأشعث إلى رتبيل وسار عبد الرحمن بن العباس إلى هراة فلقوا بها الرقاد الأزدي فقتلوه فسار إليهم يزيد بن المهلب.
وقيل إن عبد الرحمن بن الأشعث لما انهزم من مسكن أتى عبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة هراة وأتى عبد الرحمن بن العباس سجستان فاجتمع فل ابن الأشعث فسار إلى خراسان في عشرين ألفا فنزل هراة ولقوا الرقاد فقتلوه فأرسل إليه يزيد بن المهلب قد كان لك في البلاد ممتنع من هو أهون مني شوكة فارتحل إلى بلد ليس لي فيه سلطان فإني أكره قتالك وإن أردت مالا أرسلت إليك فأعاد الجواب أنا ما نزلنا لمحاربة ولا لمقام ولكنا أردنا أن نريح ثم نرحل عنك وليست بنا إلى المال حاجة.
وأقبل عبد الرحمن بن العباس على الجباية وبلغ ذلك يزيد فقال من أراد أن يريح نفسه ثم يرتحل لم يجب الخراج فسار يزيد نحوه وأعاد مراسلته أنك قد أرحت وسمنت وجبيت الخراج فلك ما جبيت فأخرج عني فإني أكره قتالك فأبى إلا القتال وكاتب جند يزيد يستميلهم ويدعوهم إلى نفسه فعلم يزيد فقال جل الأمر عن العتاب ثم تقدم إليه فقاتله فلم يكن بينهم
486

كثير قتال حتى تفرق أصحابه عبد الرحمن عنه وصبر وصبرت معه طائفة ثم انهزموا وأمر يزيد أصحابه بالكف عن اتباعهم وأخذوا ما كان في عسكرهم وأسروا منهم أسرى وكان من بينهم محمد بن سعد بن أبي وقاص وعمر بن موسى بن عبيد الله بن معمر وعباس بن الأسود بن عوق الزهري والهلقام بن نعيم بن القعقاع بن معبد بن زرارة وفيروز بن حصين وأبو الفلج مولى عبيد الله بن معمر وسوار بن مروان وعبد الرحمن بن طلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعي وعبد الله بن فضالة الزهراني الأزدي.
ولحق عبد الرحمن بن العباس بالسند ونجدة فلما أراد تسييرهم قال له أخوه حبيب بأي وجه تنظر إلى اليمانية وقد بعثت عبد الرحمن بن طلحة فقال يزيد إنه الحجاج ولا يتعرض له قال وطن نفسك على العزل ولا ترسل به قال فإن له عندنا يدا قال وما هي قال ألزم المهلب في مسجد الجماعة بمائة ألف فأداها طلحة عنه فأطلقه يزيد ولم يرسل يزيد أيضا عبد الله بن فضالة لأنه من الأزد وأرسل الباقين.
فلما قدموا على الحجاج قال لحاجبه إذا دعوتك بسيدهم فأتني بفيروز وكان بواسط [القصب] قبل أن تبنى مدينة [واسط]. فقال لحاجبه أئتني بسيدهم فقال لفيروز قم فقام فأحضره عنده فقال له الحجاج أبا عثمان ما أخرجك مع هؤلاء فوالله ما لحمك من لحومهم ولا دمك من دمائهم قال فتنة عمت الناس قال اكتب إلى أموالك قال اكتب يا غلام ألف ألف وألفي ألف فذكر مالا كثيرا فقال الحجاج أين هذه الأموال قال عندي قال فأدها قال وأنا آمن على دمي قال والله لتؤدينها ثم لأقتلنك قال ولله لا يجمع بين دمي ومالي فأمر به فنحي.
487

ثم أحضر محمد بن سعد بن أبي وقاص فقال له يا ظل الشيطان أعظم الناس تيها وكبرا تأبى بيعة يزيد بن معاوية وتتشبه بالحسين وبابن عمر ثم صرت مؤذنا وجعل يضرب رأسه بعود في يده حتى أدماه ثم أمر به فقتل ثم دعا بن موسى فقال يا عبد المرأة يقوم بالعمود على رأسك ابن الحائك يعني ابن الأشعث وتشرب معه في الحمام فقال أصلح الله الأمير كانت فتنة شملت البر الفاجر فدخلنا فيها فقد أمكنك الله منا فإن عفوت فبحلمك وبفضلك وإن عاقبت [عاقبت] ظلمت مذنبين فقال الحجاج أما إنها شملت البر فكذبت ولكنها شملت الفاجر وعوفي منها الأبرار وأما اعترافك فعسى أن ينفعك ورجا له الناس السلامة ثم أمر به فقتل ثم عاد باله لقام بن نعيم فقال أحببت أن ابن الأشعث طلب ما طلب ما الذي أملت أنت معه قال أملت أن يملك فيوليني [العراق] كما ولاك عبد الملك فأمر به فقتل ثم دعا عبد الله بن عامر فلما أتاه قال له الحجاج لا رأت عينك الجنة إن أفلت! [فقال: جزى الله] ابن المهلب خيرا بما صنع قال وما صنع قال:
(لأنه كأس في إطلاق أسرته * وقاد نحوك في أغلالها مضرا)
(وقى بقومك ورد الموت أسرته * وكان قومك أدنى عنده خطرا)
فأطرق الحجاج ووقرت في قلبه وقال وما أنت وذاك؟ وأمر به فقتل. ولم تزل كلمته في نفس الحجاج حتى عزل يزيد عن خراسان وحبسه.
ثم أمر لفيروز فعذب وكان يشد عليه القصب الفارسي المشقوق ويجر
488

عليه حتى يجرح به ثم ينضح عليه الخل فلما أحس بالموت قال لصاحب العذاب إن الناس لا يشكون أني قد قتلت ولي ودائع وأموال عند الناس لا تؤدى إليكم فأظهروني للناس ليعلموا أني حي فيؤدوا المال فأعلم الحجاج فقال أظهره فأخرج إلى باب المدينة فصاح في الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا فيروز بن حصين إن لي عند أقوام مالا فمن كان لي عنده شيء فهو له وهو منه في حل فلا يؤد أحد منهم درهما ليبلغ الشاهد الغائب فأمر به الحجاج فقتل.
وأمر بقتل عمر بن أبي قرة الكندي وكان شريفا وأمر بإحضار أعشى همدان فقال إيه عدو الله أنشدني قولك بين الأشج وبين قيس قال بل أنشدك ما قلت لك قال بل أنشدني هذه فأنشده:
(أبى الله إلا أن يتمم نوره * ويطفئ نار الفاسقين فتخمدا)
(ويظهر أهل الحق في كل موطن * ويعدل وقع السيف من كان أصيدا)
(وينزل ذلا بالعراق وأهله * كما نقضوا العهد الوثيق المؤكدا)
(وما أحدثوا من بدعة وعظيمة * من القول لم يصعد إلى الله مصعدا)
(وما نكثوا من بيعة بعد بيعة * إذا ضمنوها اليوم خاسوا بعدها غدا)
(وجبنا حشاه ربهم في قلوبهم * فما يقربون الناس إلا تهددا)
489

(فلا صدق في قول ولا صبر عندهم * ولكن فخزا فيهم وتزيدا)
(فكيف رأيت الله فرق جمعهم * ومزقهم عرض البلاد وشردا)
(فقتلاهم قتل ضلال وفتنة * وجيشهم أمسى ذليلا مطردا)
(ولما زحفنا لابن يوسف غدوة * وأبرق منه العارضان وأرعدا)
(قطعنا إليه الخندقين وإنما * قطعنا وأفضينا إلى الموت مرصدا)
(فكافحنا الحجاج دون صفوفنا * كفاحا ولم يضرب لذلك موعدا)
(بصف كأن الموت في حجزاتهم * إذا ما تجلى بيضه وتوقدا)
(دلفنا إليه في صفوف كأنها * جبال شروري أو نعاف فسهمدا)
(فما لبث الحجاج أن سل سيفه * علينا فولى جمعنا وتبددا)
(وما زاحف الحجاج إلا رأيته * معانا وملقى للفتوح معودا)
(وإن ابن عباس لفي مرجحنة * أشبهها قطعا من الليل أسودا)
(فما شرعوا رمحا ولا جردوا ظبا * ألا إنما لاقى الجبان مجردا)
(وكرت علينا خيل سفيان كرة * بفرسانها والشمهري مقصدا)
(وسفيان يهديها كأن لواءها * من الطعن سند بات بالصبغ مجسدا)
(كهول ومرد من قضاعة حوله * مساعير أبطال إذا النكس عردا)
490

(إذا قال شدوا شدة حملوا معا * فأنهل خرصان الرماح وأوردا)
(جنود أمير المؤمنين وخيله * وسلطانه أمسى عزيزا مؤيدا)
(ليهن أمير المؤمنين ظهوره * على أمة كانوا سعاة وحسدا)
(تروا يشتكون البغي من أمرائهم * وكانوا هم ابغى البغاة وأعندا)
(وجدنا بني مروان خير أئمة * وأفضل هذا الناس حلما وسؤددا)
(وخير قريش في قريش أرومة * وأكرمهم إلا النبي محمدا)
(إذا ما تدبرنا عواقب أمره * وجدنا أمير المؤمنين مسددا)
(سيغلب قوما حاربوا الله جهرة * وإن كايدوه كان أقوى وأكيدا)
(كذاك يضل الله من كان قلبه * مريضا ومن والى النفاق وحشدا)
(وقد تركوا الأهلين والمال خلفهم * وبيضا عليهن الجلابيب خردا)
(يناديهم مستعبرات إليهم * ويذرين دمعا في الخدود وإثمدا)
(أنكثا وعصيانا وغدرا وذلة * أهان الإله من أهان وأبعدا)
(لقد شأم المصرين فرخ محمد * بحق وما لاقى من الطير أسعدا)
491

(كما شأم الله النجير وأهله * بجد له قد كان أشقى وأنجدا)
فقال أهل الشام: أحسن أصلح الله الأمير فقال الحجاج لا لم يحسن إنكم لا تدرون ما أراد بها ثم قال يا عدو الله! والله لا نحمدك [على هذا القول] إنما قلت يا أسفي أن لا يكون ظهر وظفر وتحريضا لأصحابك علينا وليس عن هذا سألناك أنشدنا قولك: (بين الأشج وبين قيس باذخ) فأنشده فلما قال بخ بخ أي للوالدة وللمولود قال الحجاج والله لا تبخبخ بعدها أبدا! فضربت عنقه.
قوله في هذه الأبيات: ابن عباس هو عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب وقد تقدم ذكره وقوله سفيان هو ابن الأبرد الكلبي من قواد العساكر الشامية وقوله فرخ محمد هو عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث وقوله الأشج هو محمد بن الأشعث وقوله بين قيس هو معقل بن قيس الرياحي وهو جد عبد الرحمن بن محمد لأمه وقوله كما شأم الله النجير وأهله بجد له يعني لما ارتد الأشعث بن قيس جد عبد الرحمن بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وتبعه كندة فلما حاربهم المسلمين وحصروهم بالنجير أخذوهم وقتلوهم وقد تقدم ذكر ذلك في قتال أهل الردة.
* * *
492

قيل: وأتى الحجاج بأسيرين فأمر بقتلهما فقال أحدهما إن لي عندك يدا. قال: وما هي؟ قال ذكر عبد الرحمن يوما أمك بسوء فنهيته قال ومن يعلم ذلك قال هذا الأسير الآخر فسأله الحجاج فصدقه فقال له الحجاج فلم لم تفعل كما فعل؟ قال: وينفعني الصدق عندك؟ قال: نعم. قال منعني البغض لك ولقومك قال خلوا عن هذا لفعله وعن هذا لصدقه.
* * *
قيل: جاء رجل من الأنصار إلى عمر بن عبد العزيز فقال أنا فلان بن فلان قتل جدي يوم بدر وقتل جدي فلان في يوم أحد وجعل يذكر مناقب سلفه فنظر عمر إلى عنبسة بن سعيد بن العاص فقال هذه المناقب والله لا يكون مسكن ويوم الجماجم ويوم راهط! وأنشد:
(تلك المكارم لا قعبان من لبن * شيبا بماء فعادا بعد أبوالا)
ذكر ما جرى للشعبي مع الحجاج
لما انهزم أصحاب عبد الرحمن بالجماجم نادى منادي الحجاج من لحق بقتيبة بن مسلم فهو آمن وكان قد ولاه الري وسار إليه فلحق به ناس كثير وكان منهم الشعبي فذكره الحجاج يوما فسأل عنه فقال له يزيد بن أبي مسلم إنه لحق بقتيبة بالري فكتب الحجاج إلى قتيبة يأمره بإرسال الشعبي، فأرسله.
قال الشعبي: فلما قدمت على الحجاج لقيت ابن أبي مسلم، وكان صديقا لي، فاستشرته [فقال]: اعتذر مهما استطعت وأشار بمثل ذلك إخواني ونصحائي فلما دخلت على الحجاج رأيت غير ما ذكروا لي، فسلمت عليه
493

بالإمرة وقلت: أيها الأمير إن الناس قد أمروني أن أعتذر بغير ما يعلم الله أنه الحق وأيم الله لا أقول في هذا المقام إلا الحق قد والله مردنا عليك وحرضنا وجهدنا فما كنا بالأقوياء الفجرة ولا بالأتقياء البررة ولقد نصرك الله علينا وأظفرك بنا فإن سطوت فبذنوبنا وما جرت إليه أيدينا وإن عفوت عنا فبحلمك وبعد فالحجة لك علينا.
فقال الحجاج أنت والله أحب إلي قولا ممن يدخل علينا يقطر سيفه من دمائنا ثم يقول ما فعلت ولا شهدت وقد أمنت يا شعبي كيف وجدت الناس بعدنا فقلت أصلح الله الأمير اكتحلت بعدك السهر واستوعرت الجناب واستحلست الخوف وفقدت صالح الإخوان ولم أجد من الأمير خلفا قال انصرف يا شعبي فانصرفت.
ذكر خلع عمر بن أبي الصلت بالري وما كان منه
لما ظفر الحجاج بابن الأشعث لحق خلق كثير من المنهزمين بعمر بن أبي الصلت وكان قد غلب على الري في تلك الفتنة فلما اجتمعوا بالري أرادوا أن يحظوا عند الحجاج بأمر يمحون عن أنفسهم عثرة الجماجم فأشاروا على عمر بخلع الحجاج وقتيبة فامتنع فوضعوا عليه أباه أبا الصلت وكان به بارا فأشار عليه بذلك وألزمه به وقال له يا بني إذا سار هؤلاء تحت لوائك لا أبالي أن تقتل غدا. ففعل.
فلما قارب قتيبة الري بلغه الخبر فاستعد لقتاله، فالتقوا وقاتلوا، فغدر
494

أصحاب عمر به، وأكثرهم من تميم، فانهزم ولحق بطبرستان فآواه الأصبهبذ وأكرمه وأحسن اليه فقال عمر لأبيه إنك أمرتني بخلع الحجاج وقتيبة فأطعتك وكان خلاف رأيي فلم أحمد رأيك وقد نزلنا بهذا العلج الأصبهبذ فدعني حتى أثب عليه فاقتله وأجلس على مملكته فقد علمت الأعاجم أني أشرف منه فقال أبوه ما كنت لأفعل هذا الرجل آوانا ونحن خائفون وأكرمنا وأنزلنا فقال عمر أنت أعلم وسترى.
ودخل قتيبة الري وكتب إلى الحجاج بخبر عمر وانهزامه إلى طبرستان فكتب الحجاج إلى أصبهبذ أن ابعث بهما أو برؤوسهما وإلا فقد برئت منك الذمة فصنع لهم الاصبهبذ طعاما وأحضرهما فقتل عمر وبعث أباه أسيرا وقيل بل قتلهما وبعث برؤوسهما.
ذكر بناء مدينة واسط
وفي هذه السنة بني الحجاج واسطا.
وكان سبب ذلك أن الحجاج ضرب البعث على أهل الكوفة إلى خراسان وعسكر بحمام عمر وكان فتى من أهل الكوفة حديث عهد بعرس فانصرف من العسكر إلى ابنة عمه ليلا فطرق الباب طارق ودقه دقا شديدا فإذا سكران من أهل الشام فقالت للرجل ابنة عمه لقد لقينا من هذا الشامي شرا يفعل بنا كل ليلة ما ترى يريد المكروه وقد شكوته إلى مشيخة أصحابه فقال لها زوجها ائذني له فأذنت له فقتله زوجها فلما أذن الفجر خرج إلى العسكر وقال لابنة عمه إذا صليت الفجر فابعثي إلى الشاميين ليأخذوا صاحبهم فإذا أحضروك عند الحجاج فاصدقيه الخبر على وجهه.
495

ففعلت فأحضرت عند الحجاج فأخبرته فقال صدقتني وقال للشاميين خذوا صاحبكم لا قود له ولا عقل فإنه قتيل الله إلى النار ثم نادى مناد لا ينزلن أحد على أحد.
وكان الحجاج قد أنزل أهل الشام على أهل الكوفة فخرج أهل الشام فعسكروا وبعث روادا يرتادون له منزلا وأقبل حتى نزل موضع واسط فإذا راهب قد أقبل على حمار له فلما كان بموضع واسط بال الحمار فنزل الراهب فاحتفر ذلك البول واحتمله ورماه في دجلة والحجاج يراه فقال علي به فأتي به فقال ما حملك على ما صنعته قال نجد في الكتب أنه يبنى في هذا الموضع مسجد يعبد الله فيه ما دام في الأرض أحد يوحده فاختط الحجاج مدينة واسط وبنى المسجد في ذلك الموضع.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة عزل عبد الملك أبان بن عثمان من المدينة في قول بعضهم واستعمل عليها هشام بن إسماعيل وكان العمال هذه السنة سوى المدينة الذين تقدم ذكرهم في السنة قبلها.
وكان الحجاج قد سير نساءه وأهله إلى الشام خوفا من عبد الرحمن بن الأشعث وفيهن أخته زينب التي ذكرها النميري في شعره فلما هزم ابن الأشعث أرسل البشير إلى عبد الملك بذلك وكتب كتابا إلى أخته زينب فأخذت الكتاب وهي راكبة فنفرت البغلة من قعقعة الكتاب فسقطت زينب فماتت.
وفي هذه السنة توفي وائلة بن الأسقع وهو ابن خمس ومائة سنة، وقيل:
496

مات سنة خمس وثمانين وهو ابن ثمان وتسعين سنة وفيها مات زر بن حبيش وعمره مائة واثنتان وعشرون سنة وأبو وائل شقيق بن سلمة الأزدي الكوفي وكان مولده سنة إحدى من الهجرة.
497

84
ثم دخلت سنة أربع وثمانين
ذكر قتل ابن القرية
وفيها قتل الحجاج أيوب بن القرية وكان مع ابن الأشعث بدير الجماجم فلما هزم ابن الأشعث التحق أيوب بحوشب بن يزيد عامل الحجاج على الكوفة فاستحضره الحجاج فقال له أقلني عثرتي واسقني ريقي فإنه ليس جواد إلا له كبوة ولا شجاع إلا له هبوة ولا صارم إلا له نبوة فقال الحجاج كلا والله لأزيرنك جهنم قال فأرحني فإني أجد حرها فأمر به فضربت عنقه فلما رآه قتيلا قال لو تركناه حتى نسمع من كلامه.
ذكر فتح قلعة نيزك بباذغيس
في هذه السنة فتح يزيد بن المهلب قلعة نيزك وكان يزيد قد وضع على نيزك العيون فلما بلغه خروج نيزك عنها سار إليها فحاصرها فملكها وما فيها من الأموال والذخائر وكانت من أحصن القلاع وأمنعها وكان نيزك إذ رآها سجد لها تعظيما لها وقال كعب بن معدان الأشعري يذكرها:
498

(وباذغيس التي من حل ذروتها * عز الملوك فإن شا جار أو ظلما)
(منيعة لم يكدها قبله ملك * إلا إذا واجهت جيشا له وجما)
(تخال نيرانها من بعد منظرها * بعض النجوم إذا ما ليلها عتما)
وهي أبيات عدة؛ وقال أيضا يذكر يزيد وفتحها:
(نفى نيزكا عن باذغيس ونيزك * بمنزلة أعيى الملوك اغتصابها)
(محلقة دون السماء كأنها * غمامة صيف زال عنها سحابها)
(ولا تبلغ الأروى شماريخها العلى * ولا الطير إلا نسرها وعقابها)
(وما خوفت بالذئب ولدان أهلها * ولا نبحت إلا النجوم كلابها)
في أبيات غيرها.
فلما فتحها كتب إلى الحجاج بالفتح وكان يكتب له يحيى بن يعمر العدواني حليف هذيل إنا لحقنا العدو فمنحنا الله أكتافهم فقتلنا طائفة وأسرنا طائفة ولحقت طائفة برؤوس الجبال وعراعر الأودية وأهضام الغيطان وأثناء الأنهار فقال الحجاج من يكتب ليزيد فقيل يحيى بن يعمر فكتب إليه يحمله على البريد فقدم إليه أفصح الناس فقال أين ولدت قال بالأهواز. [قال]: فهذه الفصاحة من أين قال حفظت من كلام أبي وكان فصيحا قال أخبرني هل يلحن عنبسة بن سعيد قال نعم كثيرا قال ففلان قال نعم قال فأخبرني هل ألحن قال نعم تلحن لحنا خفيا تزيد حرفا وتنقص حرفا وتجعل أن في موضع إن وإن في موضع أن قال قد أجلتك ثلاثا فإن وجدتك بأرض العراق قتلتك فرجع إلى خراسان.
499

ذكر عدة حوادث
في هذه السنة غزا عبد الله بن عبد الملك الروم ففتح المصيصة وبنى حصنها ووضع بها ثلاثمائة مقاتل من ذوي البأس ولم يكن المسلمون سكنوها قبل ذلك وبنى مسجدها.
وحج بالناس هذه السنة هشام بن إسماعيل وكان العمال من تقدم ذكرهم وفيها غزا محمد بن مروان أرمينية.
فيها مات عبد الله بن الحرث بن نوفل الملقب بببة بعمان وكان يسكن البصرة وكان مولده على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
500

85
ثم دخلت سنة خمس وثمانين
ذكر هلاك عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث
لما انصرف عبد الرحمن إلى رتبيل من هراة قال له علقمة بن عمرو الأودي ما أريد أن أدخل معك لأني أتخوف عليك وعلى من معك، [والله] لكأني بالحجاج وقد كتب إلى رتبيل يرغبه ويرهبه فإذا هو قد بعث بك سلما أو قتلكم ولكن معي خمسمائة قد تبايعنا على أن ندخل مدينة نتحصن بها حتى نعطى الأمان أو نموت كراما ولم ندخل إلى بلاد رتبيل معه وخرج هؤلاء الخمسمائة وجعلوا عليهم مودودا البصري وقدم عليهم عمارة بن تميم اللخمي فحاصرهم فامتنعوا حتى أمنهم فخرجوا إليه، فوفى لهم.
وتتابعت كتب الحجاج إلى رتبيل في عبد الرحمن أن أبعث به إلي وإلا والذي لا إله غيره لأوطئن أرضك ألف ألف مقاتل.
وكان مع عبد الرحمن رجل من تميم يقال له عبيد بن سبيع التميمي وكان رسوله إلى رتبيل فخص برتبيل وخف عليه، فقال القاسم بن محمد بن الأشعث لأخيه عبد الرحمن إني لا آمن غدر هذا التميمي فاقتله فخافه عبيد ووشى به إلى رتبيل وخوفه الحجاج ودعاه إلى الغدر بابن شعث وقال له أنا آخذ لك من الحجاج عهدا ليكفن عن أرضك سبع سنين على أن تدفع إليه
501

عبد الرحمن. فأجابه إلى ذلك فخرج عبيد إلى عمارة سرا فذكر له ما استقر مع رتبيل وما بذله له وكتب عمارة إلى الحجاج بذلك وأجابه إليه أيضا وبعث رتبيل برأس عبد الرحمن إلى الحجاج.
وقيل إن عبد الرحمن كان قد أصابه السل فمات فأرسل رتبيل إليه فقطع رأسه قبل أن يدفن وأرسله إلى الحجاج.
وقد قيل إن رتبيل لما صالح عمارة بن تميم اللخمي على ابن الأشعث كتب عمارة إلى الحجاج بذلك فأطلق له خراج بلاده عشر سنين فأرسل رتبيل إلى عبد الرحمن وثلاثين من أهل بيته فحضروا فقيدهم وأرسلهم إلى عمارة فألقى عبد الرحمن نفسه من سطح قصر فمات فاحتز رأسه وسيره إلى الحجاج فسيره الحجاج إلى عبد الملك، وسيره عبد الملك إلى أخيه عبد العزيز فقال بعض الشعراء:
(هيهات موضع جثة من رأسها * رأس بمصر وجثة بالرخج)
وقيل إن هلاك عبد الرحمن كان سنة أربع وثمانين.
ذكر عزل يزيد بن المهلب عن خراسان وولاية أخيه المفضل
وفي هذه السنة عزل الحجاج يزيد بن المهلب عن خراسان.
وكان سبب عزله إياه أن الحجاج وفد إلى عبد الملك فمر في طريقه براهب فقيل له إن عنده علما فدعا به وسأله هل تجدون في كتبكم ما أنتم فيه ونحن؟ قال: نعم. قال: مسمى أن موصوف؟ فقال: كل ذلك نجده موصوفا بغير اسم ومسمى بغير صفة. قال: فما تجدون صفة أمير المؤمنين؟ قال: نجده في
502

زماننا: ملك أفرع، من يقم لسبيله يصرع. قال: ثم من؟ قال: اسم رجل يقال له الوليد ثم رجل اسمه اسم نبي يفتح به على الناس قال أفتعلم من يلي بعدي قال نعم رجل يقال له يزيد قال أفتعرف صفته قال يغدر غدرة لا أعرف غير هذا فوقع في نفسه أنه يزيد بن المهلب ثم سار وهو وجل من قول الراهب ثم عاد وكتب إلى عبد الملك يذم يزيدا وآل المهلب ويخبره أنهم زبيرية فكتب إليه عبد الملك إني لا أرى طاعتهم لآل الزبير نقصا بآل المهلب وفاؤهم لهم يدعوهم إلى الوفاء لي.
فكتب إليه الحجاج يخوفه غدره وبما قال الراهب فكتب عبد الملك إليه إنك قد أكثرت في يزيد وآل المهلب فسم لي رجلا يصلح لخراسان فسمى قتيبة بن مسلم فكتب إليه أن وله.
وبلغ يزيد أن الحجاج عزله فقال لأهل بيته من ترون الحجاج يولي خراسان قالوا رجلا من ثقيف قال كلا ولكنه يكتب إلى رجل منكم بعهده فإذا قدمت عليه عزله وولى رجلا من قيس وأخلق بقتيبة من مسلم فلما أذن عبد الملك في عزل يزيد كره أن يكتب إليه بعزله فكتب إليه يأمره أن يستخلف أخاه المفضل ويقبل إليه واستشار يزيد حضين بن المنذر الرقاشي فقال له أقم واعتل واكتب إلى أمير المؤمنين ليقرك فإنه حسن الحال والرأي فيك قال يزيد نحن أهل بيت قد بورك لنا في الطاعة وأنا اكره الخلاف فأخذ يتجهز فأبطأ فكتب الحجاج إلى المفضل: إني قد وليتك خراسان. فجعل المفضل يستحث يزيد فقال له يزيد إن الحجاج لا يقرك بعدي وإنما دعاه إلى ما صنع مخافة أن امتنع عليه، وستعلم.
503

وخرج يزيد في ربيع الآخر سنة خمس وثمانين وأقر الحجاج أخاه المفضل تسعة أشهر ثم عزله.
وقد قيل: إن سبب عزله أن الحجاج لما فرغ من عبد الرحمن بن الأشعث لم يكن له هم إلا يزيد بن المهلب وأهل بيته وقد كان أذل أهل العراق كلهم إلا آل المهلب ومن معهم بخراسان وتخوفه على العراق وكان يبعث إليه ليأتيه فيعتل عليه بالعدو والحروب فكتب الحجاج إلى عبد الملك يشير عليه بعزل يزيد ويخبره بطاعتهم لآل
الزبير فكتب إليه عبد الملك بنحو ما تقدم وساق باقي الخبر كما تقدم وقال حضين ليزيد:
(أمرتك أمرا حازما فعصيتني * فأصبحت مسلوب الإمارة نادما)
(فما أنا بالباكي عليك صبابة * وما أنا بالداعي لترجع سالما)
قال فلما قدم قتيبة خراسان قال لحضين ما قلت ليزيد؟ قال قلت:
(أمرتك أمرا حازما فعصيتني * فنفسك رد اللوم إن كنت لائما)
(فإن يبلغ الحجاج أن قد عصيته * فإنك تلقى أمره متفاقما)
قال فماذا أمرته به [فعصاك]؟ قال: أمرته أن لا يدع صفراء ولا بيضاء إلا حملها إلى الأمير قال بعضهم فوجده قتيبة قارحا.
* * *
وقيل: كتب الحجاج إلى يزيد اغز خوارزم فكتب إنها قليلة السلب شديدة الكلب فكتب إليه الحجاج استخلف وأقدم فكتب إني أريد أن أغزو خوارزم فكتب الحجاج لا تغزها فإنها كما ذكرت فغزا ولم
504

يطعه فصالحه أهلها وأصاب سبيا وقفل في الشتاء وأصاب الناس برد ثياب الأسرى فمات ذلك السبي فكتب إليه الحجاج أن اقدم فسار إليه فكان لا يمر ببلد إلا فرش أهلها الرياحين.
(حضين بن المنذر بالحاء المهملة المضمومة والضاد المعجمة المفتوحة وآخره نون).
ذكر غزو المفضل باذغيس وآخرون
لما ولي المفضل خراسان غزا باذغيس ففتحها وأصاب مغنما فقسمه فأصاب كل رجل ثمانمائة ثم غزا آخرون وشومان فغنم وقسم ما أصاب ولم يكن للمفضل بيت مال كان يعطي الناس كلما جاء شيء وان غنم شيئا قسمه بينهم.
ذكر مقتل موسى بن عبد الله بن خازم
في هذه السنة قتل موسى بن عبد الله بن خازم بترمذ.
وكان سبب مصيره إلى ترمذ أن أباه لما قتل من قتل من بني تميم وقد تقدم ذكر ذلك تفرق عنه أكثر من كان معه منهم فخرج إلى نيسابور وخاف بني تميم على ثقله بمرو فقال لابنه موسى خذ ثقلي واقطع نهر بلخ حتى تلتجئ إلى بعض الملوك أو إلى حصن تقيم فيه فرحل موسى عن مرو في
505

عشرين ومائتي فارس واجتمع إليه تتمة أربعمائة وانضم إليه قوم من بني سليم فأتى زم فقاتله أهلها فظفر بهم فأصاب مالا وقطع النهر وأتى بخارى فسأل صاحبها أن يلجأ إليه فأبى فخافه وقال رجل فاتك وأصحابه مثله فلا آمنه ووصله وسار فلم يأت ملكا يلجأ إليه إلا كره مقامه عنده، فأتى سمرقند فأقام بها وأكرمه ملكها طرخون وأذن له في المقام وأقام ما شاء الله.
ولأهل الصغد مائدة يوضع عليها لحم وخل وخبز وإبريق شراب وذلك كل عام يوما يجعلون ذلك لفارس الصغد فلا يقربه أحد غيره فإن أكل منه أحد بارزه فأيهما قتل صاحبه فالمائدة له فقال رجل من أصحاب موسى: ما هذه المائدة؟ فأخبر، فجلس فأكل ما عليها، وقيل لصاحب المائدة فجاء مغضبا وقال يا عربي بارزني! فبارزه فقتله صاحب موسى فقال ملك الصغد أنزلتكم وأكرمتكم فقتلتم فارسي لولا أني أمنتك وأصحابك لقتلتكم اخرجوا عن بلدي. فخرجوا.
فأتى كش فضعف صاحبها عنه فاستنصر طرخون فأتاه فخرج موسى إليه وقد اجتمع معه سبعمائة فارس فقاتلهم حتى أمسوا وتحاجزوا وبأصحاب موسى جروح كثيرة، فقال لزرعة بن علقمة: احتل لنا على طرخون فأتاه فقال أيها الملك ما حاجتك إلى أن تقتل موسى وتقتل من معه فإنك لا تصل إليه حتى يقتلوا [مثل] عدتهم منكم، ولو قتلته وإياهم جميعا ما نلت
506

خطا، لأن له قدرا في العرب فلا يأتي أحد خراسان إلا طالبك بدمه فقال ليس لي إلى ترك كش في يده سبيل قال فكف عنه حتى يرتحل فكف.
وسار موسى فأتى ترمذ وبها حصن يشرف على جانب النهر فنزل موسى خارج الحصن وسأل ترمذ شاه أن يدخله حصنه فأبى فأهدى له موسى ولاطفه حتى حصل بينهما مودة وخرج فتصيد معه فصنع صاحب ترمذ طعاما وأحضر موسى ليأكل معه ولا يحضر إلا في مائة أصحابه فاختار موسى مائة من أصحابه فدخلوا الحصن وأكلوا فلما فرغوا قال له اخرج قال لا أخرج حتى يكون الحصن بيتي أو قبري وقاتلهم فقتل منهم عدة وهرب الباقون واستولى موسى عليها وأخرج ترمذ شاه منها ولم يعرض له ولا إلى أصحابه فاتوا الترك يستنصرونهم على موسى فلم ينصروهم وقالوا لا نقاتل هؤلاء وأقام موسى بترمذ فأتاه جمع من أصحاب أبيه فقوي بهم فكان يخرج فيغير على ما حوله.
ثم ولي بكير بن وساج خراسان فلم يعرض له ثم قدم أمية فسار بنفسه يريد مخالفة بكير فرجع على ما تقدم ذكره. ثم إن أمية وجه إلى موسى بعد صلح بكير رجلا من خزاعة في جمع كثير وعاد أهل ترمذ إلى الترك فاستنصروهم وأعلموهم أنه قد غزاه قوم من العرب وحصروه فسارت الترك في جمع كثير إلى الخزاعي فأطاف بموسى الترك والخزاعي فكان يقاتل الخزاعي أول النهار والترك آخر النهار فقاتلهم شهرين أو ثلاثة ثم إنه أراد أن يبيت الخزاعي وعسكره فقال له عمرو بن خالد بن حصين الكلابي ليكن البيات بالعجم فإن العرب أشد حذرا أو أجرأ على الليل فإذا فرغنا من العجم تفرغنا للعرب.
507

فأقام حتى ذهب ثلث الليل وخرج موسى في أربعمائة وقال لعمرو بن خالد اخرج بعدنا فكن أنت ومن معك قريبا فإذا سمعتم تكبيرنا فكبروا ثم سار حتى ارتفع فوق عسكر الترك ورجع إليهم وجعل أصحابه أرباعا وأقبل إليهم فلما رآهم أصحابه الأرصاد قالوا من أنتم قالوا عابروا سبيل فلما جاوزوا الرصد حملوا على الترك وكبروا فلم يشعر الترك إلا بوقع السيوف فيهم فساروا يقتل بعضهم بعضا وولوا فأصيب من المسلمين ستة عشر رجلا وحووا عسكرهم وأصابوا سلاحا كثيرا ومالا وأصبح الخزاعي وأصحابه وقد كسرهم ذلك فخافوا مثلها فقال عمرو بن خالد لموسى إننا لا نظفر إلا بمكيدة ولهم أمداد وهم كثيرون فدعني آته لعلي أصيب فرصة فاضربني وخلاك ذم فقال له موسى تتعجل الضرب وتتعرض للقتل قال أما التعرض للقتل فأنا كل يوم متعرض له وأما الضرب فما أيسره في جنب ما أريد فضربه موسى خمسين سوطا فخرج من عسكر موسى وأتى عسكر الخزاعي مستأمنا وقال أنا رجل من أهل اليمن كنت مع عبد الله بن خازم فلما قتل أتيت ابنه فكنت معه وإنه اتهمني وقال قد تعصبت لعدونا وأنت عين له فضربني ولم آمن القتل فهربت منه فأمنه الخزاعي وأقام معه فدخل يوما وهو خال ولم ير عنده سلاحا فقال كأنه ينصح له أصلح الله الأمير إن مثلك في مثل هذه الحال لا ينبغي أن يكون بغير سلاح قال إن معي سلاحا فرفع طرف فراشه فإذا سيف منتض فأخذه عمرو فضربه حتى قتله وخرج فركب فرسه وأتى موسى وتفرق ذلك الجيش وأتى بعضهم موسى مستأمنا فأمنه، ولم يوجه إليه أمية أحدا.
وعزل أمية وقدم المهلب أميرا فلم يتعرض لموسى وقال لبنيه إياكم وموسى فإنكم لا تزالون ولاة خراسان ما دام هذا الثبط بمكانه فإن قتل فأول طالع عليكم أمير على خراسان من قيس فلما مات المهلب وولي يزيد لم يتعرض أيضا لموسى.
508

وكان المهلب قد ضرب حريث بن قطبة الخزاعي، فخرج هو وأخوه ثابت إلى موسى فلما ولي يزيد بن المهلب أخذ أموالهما وحرمهما وقتل أخاهما لأمهما الحرث بن منقذ فخرج ثابت إلى طرخون فشكا إليه ما صنع به وكان ثابت محبوبا إلى الترك بعيد الصوت فيهم فغضب له طرخون وجمع له نيزك والسبل وأهل بخارى والصغانيان فقدموا مع ثابت إلى موسى وقد اجتمع إلى موسى فل عبد الرحمن بن العباس من هراة وفل ابن الأشعث من العراق ومن ناحية كابل فاجتمع معه ثمانية آلاف فقال له ثابت وحريث سر حتى تقطع النهر وتخرج يزيد عن خراسان ونوليك فهم أن يفعل فقال له أصحابه إن أخرجت يزيد عن خراسان تولى ثابت وأخوه خراسان وغلباك عليها فلم يسر وقال لثابت وحريث أن أخرجنا يزيد قدم عامل بعبد الملك ولكننا نخرج عمال يزيد عما وراء النهر ويكون لنا فأخرجوا عمال يزيد عما وراء النهر وجبوا الأموال فقوي أمرهم وانصرف طرخون ومن معه واستبد ثابت وحريث بتدبير الأمر والأمير موسى ليس له غير الاسم.
فقيل لموسى ليس لك من الأمور شيء والأمور إلى ثابت وحريث فاقتلهما وتول الأمر فأبى فألحوا عليه حتى
أفسدوا قلبه عليهما وهم بقتلهما.
فإنهم لفي ذلك إذ خرج عليهم الهياطلة والتبت والترك في سبعين ألفا لا يعدون الحاسر ولا صاحب البيضة الجماء ولا يعدون إلا صاحب بيضة ذات قونس فخرج ابن حازم وقاتلهم فيمن معه ووقف ملك الترك على تل في عشرة آلاف في أكمل عدة والقتال أشد ما كان فقال موسى إن أزلتم هؤلاء فليس الباقون بشيء فقصدهم حريث بن قطبة فقاتلهم وألح عليهم حتى أزالهم عن التل ورمي حريث بنشابة في جبهته وتحاجزوا، فبيتهم موسى،
509

وحمل أخوه خازم بن عبد الله بن خازم حتى وصل إلى شمعة ملكهم فوجأ رجلا منهم بقبيعة سيفه فطعن فرسه فاحتمله الفرس فألقاه في نهر بلخ فغرق وقتل من الترك خلق كثير ونجا من نجا منهم بشر ومات حريث بعد يومين.
ورجع موسى وحمل معه الرؤوس فبنى منها جوسقين. وقال أصحاب موسى: قد كفينا أمر حريث فاكفنا أمر ثابت فأبى وبلغ ثابتا بعض ما يخوضون فيه فدس محمد بن عبد الله الخزاعي عم نصر بن عبد الحميد عامل أبي مسلم على الري على موسى وقال إياك أن تتكلم بالعربية وإن سألوك من أين أنت فقل أنا من سبي الباميان ففعل ذلك واتصل بموسى وكان يخدمه وينقل إلى ثابت خبرهم فحذر ثابت وألح القوم على موسى فقال لهم ليلة لقد أكثرتم على وفيما يريدون هلاككم فعلى أي وجه تقتلونه و [أنا] لا غدر به؟ قال له أخوه نوح: إذا أتاك غدا عدلنا به إلى بعض الدور فضربنا عنقه فيها قبل أن يصل إليك فقال والله إنه هلاككم وأنتم أعلم.
فخرج الغلام فأتى ثابتا فأخبره فخرج من ليلته في عشرين فارسا ومضى وأصبحوا فلم يروه ولم يرو الغلام فعلموا أنه كان عينا له.
ونزل ثابت بحوشرا واجتمع إليه خلق كثير من العرب والعجم فأقبل موسى إليه وقاتله وتحصن ثابت بالمدينة وأتاه طرخون معينا له فرجع موسى إلى ترمذ وأقبل ثابت وطرخون ومعهما أهل بخارى ونسف وكش فاجتمعوا في ثمانين ألفا فحصروا موسى حتى جهد هو وأصحابه فلما اشتد عليهم قال يزيد بن هذيل والله لأقتلن ثابتا أو لأموتن فخرج إلى ثابت فاستأمنه،
510

فقال له ظهير: أنا اعرف بهذا منك، ما أتاك إلا بغدره فاحذره فأخذا بنيه قدامة والضحاك رهنا فكانا في يد ظهير.
وأقام يزيد يلتمس غرة ثابت فلم يقدر على ما يريد حتى مات ابن لزياد القصير الخزاعي فخرج ثابت إليه ليعزيه وهو بغير سلاح وقد غابت الشمس فدنا يزيد من ثابت فضربه على رأسه فوصل إلى الدماغ وهرب فسلم وأخذ طرخون قدامة والضحاك ابني يزيد فقتلهما وعاش ثابت سبعة أيام ومات، وقام بأمر العجم بعد موت ثابت طرخون وقام ظهير بأمر أصحاب ثابت فقاما قياما ضعيفا وانتشر أمرهم واجمع موسى على بياتهم فأخبر طرخون بذلك فضحك وقال موسى يعجز أن يدخل متوضأه فكيف يبيتنا لا يحرس الليلة أحد.
فخرج موسى في ثمانمائة وجعلهم أرباعا وبيتهم وكان لا يمر بشيء إلا ضربوه من رجل ودابة وغير ذلك فلبس نيزك سلاحه ووقف وأرسل طرخون إلى موسى أن كف أصحابك فإنا نرحل إذا أصبحنا فرجع موسى وارتحل طرخون والعجم جميعا.
فكان أهل خراسان يقولون ما رأينا مثل موسى ولا سمعنا به قاتل مع أبيه سنتين ثم خرج يسير في بلاد خراسان فأتى ملكا تغلب على مدينته أخرجه منها وسار الجنود من العرب والترك إليه وكان يقاتل العرب أول النهار والترك آخر النهار.
وأقام موسى في الحصن خمس عشرة سنة وصار ما وراء النهر لموسى لا ينازعه فيه أحد.
فلما عزل يزيد بن المهلب وولي المفضل أراد أن يحظى عند الحجاج بقتال موسى بن عبد الله فسير عثمان بن مسعود إليه في جيش وكتب إلى مدرك بن المهلب وهو ببلخ يأمره بالمسير معه فعبر النهر في خمسة عشر ألفا،
511

فكتب إلى السبل والى طرخون فقدموا عليه فحصروا موسى وضيقوا عليه وعلى أصحابه.
فمكث شهرين في ضيق، وقد خندق عثمان عليه وحذر البيات فقال موسى لأصحابه: اخرجوا بنا حتى متى نصبر! فاجعلوا يومكم معهم إما ظفرتم وإما قتلتم واقصدوا الترك فخرجوا وخلف النضر بن سليمان بن عبد الله بن خازم في المدينة، وقال له: إن قتلت فلا تدفعن المدينة إلى عثمان وادفعها إلى مدرك بن المهلب وخرج وجعل ثلث أصحابه بإزاء عثمان وقال لا تقاتلوه إلا أن يقاتلكم وقصد لطرخون وأصحابه فصدقوهم القتال فانهزم طرخون واخذوا عسكرهم وزحفت الترك والصغد فحالوا بين موسى والحصن فقاتلهم فعقروا فرسه فسقط فقال لمولى له احملني فقال الموت كريه ولكن ارتدف فإن نجونا نجونا جميعا. وأن هلكنا هلكنا جميعا قال: فارتدف فلما نظر إليه عثمان حين وثب قال وثبة موسى ورب الكعبة! وقصد إلى موسى وعقرت دابة موسى فسقط هو ومولاه فقتلوه ونادى منادي عثمان من لقيتموه فخذوه أسيرا ولا تقتلوا أحدا.
فقتل ذلك اليوم من الأسرى خلقا كثير من العرب خاصة فكان يقتل العرب ويضرب المولى ويطلقه وكان فظا غليظا.
وكان الذي أجهز على موسى واصل بن طيسلة العنبري.
وبقيت المدينة بيد النضر بن سليمان فلم يدفعها إلى عثمان وسلمها إلى مدرك بن المهلب وأمنه فسلمها مدرك إلى عثمان وكتب المفضل إلى الحجاج بقتل موسى فقال العجب منه اكتب إليه بقتل ابن سبرة فيكتب إلى أنه قد قتل موسى بن عبد الله بن خازم ولم يسره قتل موسى لأنه من قيس.
512

وقتل موسى سنة خمس وثمانين وضرب رجل من الجند ساق موسى فلما ولي قتيبة قال ما دعاك إلى ما صنعت بفتى العرب بعد موته قال كان قتل أخي فأمر به فقتل.
ذكر موت عبد العزيز بن مران والبيعة للوليد بولاية العهد
كان عبد الملك بن مران أراد أن يخلع أخاه عبد العزيز من ولاية العهد لابنه الوليد بن عبد الملك فنهاه عن ذلك قبيصة بن ذؤيب وقال: لا تفعل فإنك تبعث على نفسك صوت عارم ولعل الموت يأتيه [فتستريح منه]. فكف عنه ونفسه تنازعه إلى خلعه. فدخل عليه روح بن زنباع وكان أجل الناس عند عبد الملك فقال يا أمير المؤمنين لو خلعته ما انتطح فيه عنزان وأنا أول من يجيبك إلى ذلك قال نصبح إن شاء الله ونام روح عند عبد الملك فدخل عليهما قبيصة بن ذئيب وهما نائمان وكان عبد الملك قد تقدم إلى حجابه أن لا يحجب قبيصة عنه وكان إليه الخاتم والسكة تأتيه الأخبار قبل عبد الملك والكتب فلما دخل سلم عليه قال آجرك الله في عبد العزيز أخيك قال هل توفي قال نعم فاسترجع ثم اقبل على روح وقال كفانا الله ما كنا نريد وكان ذلك مخالفا لك يا قبيصة فقال قبيصة يا أمير المؤمنين إن الرأي كله في الأناة فقال عبد الملك وربما كان في العجلة خير كثير رأيت أمر عمرو بن سعيد ألم تكن العجلة فيه خيرا من الأناة؟
وكانت وفاة عبد العزيز في جمادى الأولى في مصر فضم عبد الملك عمله
513

إلى ابنه عبد الله بن عبد الملك وولاه مصر.
وقيل: إن الحجاج كتب إلى عبد الملك يزين له بيعة الوليد وأوفد في ذلك وفدا فلما أراد عبد الملك خلع عبد العزيز والبيعة للوليد كتب إلى عبد العزيز إن رأيت أن يصير هذا الأمر لابن أخيك فأبى فكتب إليه ليجعل الأمر له ويجعله له أيضا من بعده فكتب إليه عبد العزيز إني أرى في ابني أبي بكر ما ترى في الوليد فكتب إليه عبد الملك ليحمل خراج مصر فأجابه عبد العزيز إني وإياك يا أمير المؤمنين قد بلغنا سنا لم يبلغها أحد من أهل بيتك إلا كان بقاؤه قليلا وإنا لا ندري أينا يأتيه الموت أولا فإن رأيت أن لا تفسد علي بقية عمري فافعل فرق له عبد الملك وتركه وقال للوليد وسليمان إن يريد الله أن يعطيكما الخلافة لا يقدر أحد من العباد على رد ذلك فقال عبد الملك حيث رده عبد العزيز اللهم أنه قطعني فاقطعه.
فلما مات عبد العزيز قال أهل الشام رد على أمير المؤمنين أمره فلما أتى خبر موته إلى عبد الملك أمر الناس بالبيعة لابنيه الوليد وسليمان فبايعوا وكتب بالبيعة لهما إلى البلدان وكان على المدينة هشام بن إسماعيل فدعا الناس إلى البيعة فأجابوا إلا سعيد بن المسيب فإنه أبى وقال لا أبايع وعبد الملك حي فضربه هشام ضربا مبرحا وطاف به وهو في تبان شعر حتى بلغ رأس الثنية التي يقتلون ويصلبون عندها ثم ردوه وحبسوه فقال سعيد لو ظننت أنهم [لا] يصلبونني ما لبست ثياب مسوح ولكنني قلت يصلبونني فيسترني فبلغ عبد الملك الخبر فقال قبح الله
هشاما إنما كان ينبغي أن يدعوه إلى البيعة فإن أبى أن يبايع فيضرب عنقه أو يكف عنه وكتب إليه يلومه ويقول له
514

إن سعيدا ليس عنده شقاق ولا خلاف.
وقد كان سعيد امتنع من بيعة ابن الزبير وقال لا أبايع حتى يجتمع الناس فضربه جابر بن الأسود عامل ابن الزبير ستين سوطا فبلغ ذلك ابن الزبير فكتب إلى جابر يلومه وقال ما لنا ولسعيد دعه لا تعرض له.
وقيل أن بيعة الوليد وسليمان كانت سنة أربع وثمانين والأول أصح قبل قدوم عبد العزيز على أخيه عبد الملك من مصر فلما فارقه وصاه عبد الملك فقال ابسط بشرك وألن كنفك وآثر الرفق في الأمور فهو أبلغ بك وانظر حاجبك وليكن من خير أهلك فإنه وجهك ولسانك ولا يقفن أحد ببابك إلا أعلمك مكانه لتعلم أنت الذي تأذن له أو ترده فإذا خرجت إلى مجلسك فابدأ جلساءك بالكلام يأنسوا بك وتثبت في قلوبهم محبتك وإذا انتهى إليك مشكل فاستظهر عليه بالمشاورة فإنها تفتح مغاليق الأمور المهمة واعلم أن لك نصف الرأي ولأخيك نصفه وأن يهلك امرؤ على مشورة وإذا سخطت على أحد فأخر عقوبته فإنك على العقوبة بعد التوقف عنها أقدر منك على ردها بعد امضائها والسلام.
ذكر عدة حوادث
حج بالناس هذه السنة هشام بن إسماعيل المخزومي وكان العامل على العراق والمشرق الحجاج بن يوسف وفيها غزا محمد بن مروان أرمينية فصاف فيها وشتى.
515

وفي هذه السنة مات عمرو بن حريث المخزومي. وفيها مات عبد الله بن الحرث بن جزء الزبيدي وقيل سنة سبع وقيل سنة ثمان وثمانين وفيها مات عبد الله بن عامر بن ربيعة حليف بني عدي وكان له لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم أربع سنين.
516

86
ثم دخلت سنة ست وثمانين
ذكر وفاة عبد الملك
في هذه السنة توفي عبد الملك بن مروان منتصف شوال وكان يقول أخاف الموت في شهر رمضان فيه ولدت وفيه فطمت وفيه جمعت القران وفيه بايع لي الناس فمات للنصف من شوال حين أمن الموت في نفسه وكان عمره ستين سنة وقيل ثلاثا وستين سنة وكانت خلافته من لدن قتل ابن الزبير ثلاث عشرة سنة وأربعة أشهر إلا سبع ليال وقيل وثلاثة أشهر وخمسة عشر يوما.
ولما اشتد مرضه قال بعض الأطباء أن شرب الماء مات فاشتد عطشه فقال يا وليد اسقني ماء قال لا أعين عليك فقال لابنته فاطمة اسقني ماء فمنعها الوليد فقال لتدعنها أو لأخلعنك فقال لم يبق بعد هذا شيء فسقته فمات ودخل الوليد عليه وابنته فاطمة عند رأسه تبكي فقال كيف أمير المؤمنين قال هو أصلح فلما خرج قال عبد الملك:
(ومستخبر عنا يريد لنا الردى * ومستخبرات والدموع سواجم)
وأوصى بنيه فقال أوصيكم بتقوى الله فإنها أزين حلية وأحصن كهف ليعطف الكبير منكم على الصغير، وليعرف الصغير حق الكبير، وانظروا
517

مسلمة فأصدروا عن رأيه فإنه نابكم الذي عنه تفترون ومجنكم الذي عنه ترمون وأكرموا الحجاج فإنه الذي وطأ لكم المنابر ودوخ لكم البلاد وأذل الأعداء وكونوا بني أم بررة لا تدبوا بينكم العقارب وكونوا في الحرب أحرارا فإن القتال لا يقرب ميتة وكونوا للمعروف منارا فإن المعروف يبقى أجره وذكره وضعوا معروفكم عند ذوي الأحساب فإنهم أصون له واشكر لما يؤتى إليهم منه وتعهدوا ذنوب أهل الذنوب فإن استقالوا فأقيلوا وإن عادوا فانتقموا.
ولما توفي دفن خارج باب الجابية وصلى عليه الوليد فتمثل هشام:
(فما كان قيس هلكه هلك واحد * ولكنه بنيان قوم تهدما)
فقال الوليد اسكت فإنك تتكلم بلسان شيطان ألا قلت كما قال أوس بن حجر:
(إذا مقرم منا ذرى حد نابه * تخمط منا ناب آخر مقرم)
وقيل إن سليمان تمثل بالبيت الأول وهو الصحيح لأن هشاما كان صغيرا له أربع عشرة سنة وقد رثى الشعراء عبد الملك كثير عزة وغيره فمما قيل فيه:
(سقاك ابن مروان من الغيث مسبل * أجش شمالي يجود ويهطل)
(فما في حياة بعد موتك رغبة * لحر وان كنا الوليد نؤمل)
518

ذكر نسبه وأولاده وأزواجه
أما نسبه فهو أبو الوليد عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف.
وأمه عائشة بنت معاوية بن الوليد بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية.
وأما أولاده وأزواجه فمنهم: الوليد وسليمان ومروان الأكبر، درج، وعائشة؛ أمهم ولادة بنت العباس بن جزء بن الحرث بن زهير بن جذيمة العبسية ومنهم يزيد ومروان ومعاوية درج وأم كلثوم وأمهم عاتكة ابنة يزيد بن معاوية بن أبي سفيان ومنهم هشام وأمه أم هشام بنت إسماعيل بن هشام بن الوليد بن معاوية بن المغيرة المخزومية واسمها عائشة ومنهم أبو بكر وهو بكار أمه عائشة بنت موسى بن طلحة بن عبيد الله ومنهم الحكم درج أمه أم أيوب بنت عمرو بن عثمان بن عفان ومنهم فاطمة بنت عبد الملك أمها أم الغيرة بنت المغيرة بن خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة ومنهم عبد الملك ومسلمة والمنذر وعنبسة ومحمد وسعيد الخير والحجاج لأمهات الأولاد.
وكان له من النساء شقراء بنت مسلم بن حلبس الطائي وأم أبيها ابنة عبد الله بن جعفر بن أبي طالب وقيل كان عنده ابنة لعلي بن أبي طالب ولا يصح.
519

ذكر بعض أخباره
كان عبد الملك عاقلا حازما أديبا لبيبا عالما.
قال أبو الزياد: كان فقهاء المدينة أربعة سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وقبيصة بن ذؤيب وعبد الملك بن مروان وقال الشعبي ما ذاكرت أحدا إلا وجدت لي الفضل عليه إلا عبد الملك فإني ما ذاكرته حديثا إلا زادني فيه ولا شعرا إلا زادني فيه وقال جعفر بن عقبة الخطائي قيل لعبد الملك أسرع إليك الشيب فقال شيبني ارتقاء المنابر وخوف اللحن.
وقال عبد الملك: ما أعلم أحدا أقوى على هذا الأمر مني إن ابن الزبير لطويل الصلاة كثير الصيام ولكن لبخله لا يصلح أن يكون سائسا.
قال أبو مسهر: قيل لعبد الملك في مرضه كيف تجدك قال أجدني كما قال الله تعالى (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم) الآية، وقال المفضل بن فضالة عن أبيه استأذن قوم على عبد الملك بن مروان وهو شديد المرض فدخلوا عليه وقد أسنده خصي إلى صدره فقال لهم إنكم دخلتم علي عند إقبال آخرتي وإدبار دنياي وإني تذكرت أرجى علم لي فوجدتها غزوة غزوتها في سبيل الله وأنا خلو من هذه الأشياء فإياكم وأيا أبوابنا هذه الخبيثة أن تطيفوا بها وقال سعيد بن عبد العزيز التنوخي لما نزل بعبد الملك بن مروان الموت أمر
520

بفتح باب قصره فإذا قصار يقصر ثوبا فقال يا ليتني كنت قصارا يا ليتني كنت قصارا مرتين فقال سعيد الحمد لله الذي جعلهم يفزعون إلينا ولا نفزع إليهم.
وقال سعيد بشير إن عبد الملك حين ثقل جعل يلوم نفسه ويضرب يده على رأسه وقال وددت إني كنت اكتسب يوما بيوم ما يقوتني وأشتغل بطاعة الله فذكر ذلك لابن خازم فقال الحمد لله الذي جعلهم يتمنون عند الموت ما نحن فيه ولا نتمنى عند الموت ما هم فيه وقال مسعود بن خلف قال عبد الملك بن مروان في مرضه والله وددت أني عبد لرجل من تهامة أرعى غنما في جبا لها وأني لم أك شيئا.
وقال عمران بن موسى المؤدب يروى أن عبد الملك بن مروان لما اشتد مرضه قال ارفعوني على شرف ففعل فتنسم الروح ثم قال يا دنيا ما أطيبك أن طويلك لقصير وأن كبيرك لحقير وأن كنا منك لفي غرور وتمثل بهذين
البيتين:
(إن تناقش يكن نقاشك يا رب * عذابا لا طوق لي بالعذاب)
(أو تجاوزت فأنت رب صفوح * عن مسيء ذنوبه كالتراب)
ويروى أن هذه الأبيات تمثل بها معاوية ويحق لعبد الملك أن يحذر هذا الحذر ويخاف فإن يكن الحجاج بعض سيئاته يعلم على أي شيء يقدم عليه.
قال عبد الملك لسعيد بن المسيب: يا أبا محمد صرت أعمل الخير فلا أسر به وأصنع الشر فلا أساء به فقال الآن تكامل فيك موت القلب.
521

وكان عبد الملك أول من غدر في الإسلام وقد تقدم فعله بعمرو بن سعيد وكان أول من نقل الديوان من الفارسية إلى العربية وأول من نهى عن الكلام في حضرة الخلفاء وكان الناس قبله يراجعونهم وأول خليفة بخل وكان يقال له رشح الحجارة لبخله وأول من نهى عن الأمر بالمعروف فإنه قال في خطبته بعد قتل ابن الزبير ولا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه.
ذكر خلافة الوليد بن عبد الملك
فلما دفن عبد الملك بن مروان انصرف الوليد عن قبره فدخل المسجد وصعد المنبر واجتمع إليه الناس فخطبهم وقال إنا لله وأنا إليه راجعون والله المستعان على مصيبتنا لموت أمير المؤمنين والحمد لله على ما أنعم علينا من الخلافة قوموا فبايعوا.
وكان أول من عزى نفسه وهناها وكان أول من قام لبيعته عبد الله بن همام السلولي وهو يقول:
(الله أعطاك التي لا فوقها * وقد أراد الملحدون عوقها)
(عنك ويأبى الله إلا سوقها * إليك حتى قلدوك طوقها)
فبايعه ثم قام الناس لبيعته.
وقد قيل أن الوليد لما صعد المنبر حمد الله وأثنى عليه ثم قال أيها الناس لا مقدم لما أخر الله ولا مؤخر لما قدم وقد كان من قضاء الله وسابق عليه وما كتب على أنبيائه وحملة عرشه الموت وقد صار إلى
522

منازل الأبرار ولي هذه الأمة بالذي يحق لله عليه في الشدة على المريب واللين لأهل الحق والفضل وإقامة ما أقام لله من منار الإسلام وأعلامه من حج البيت وغزو الثغور وشن الغارة على أعداء الله فلم يكن عاجزا ولا مفرطا أيها الناس عليكم بالطاعة ولزوم الجماعة فإن الشيطان مع الفرد أيها الناس من أبدى لنا ذات نفسه ضربنا الذي فيه عيناه ومن سكت مات بدائه ثم نزل وكان جبارا عنيدا.
ذكر ولاية قتيبة خراسان وما كان منه هذه السنة
وفي هذه السنة قدم قتيبة خراسان أميرا عليها للحجاج فقدمها والمفضل يعرض الجند للغزاة فخطب قتيبة الناس وحثهم على الجهاد ثم عرضهم وسار وجعل بمرو على حربها اياس بن عبد الله بن عمرو وعلى الخراج عثمان السعيدي.
فلما كان على حربها اياس بن عبد الله بن عمرو وعلى الخراج عثمان السعيدي فلما كان بالطالقان أتاه دهاقين بلخ وساروا معه فقطع النهر فتلقاه ملك الصغانيان بهدايا ومفاتيح من ذهب ودعاه إلى بلاده فمضى معه فسلمها إليه لأن ملك آخرون وشومان كان يسيء جواره.
ثم سار قتيبة منها إلى آخرون وشومان، وهما من طخارستان، فصالحه ملكهما على فدية أداها إليه فقبلها قتيبة ثم انصرف إلى مرو واستخلف على الجند
523

أخاه صالح بن مسلم، ففتح صالح بعد رجوع قتيبة كاشان وأورشت وهي من فرغانة وفتح أخشيكت وهي مدينة فرغانة القديمة وكان معه نصر بن سيار فأبلى يومئذ بلاء حسنا.
وقيل إن قتيبة قدم سنة خمس وثمانين فعرض الجند فغزا آخرون وشومان ثم رجع إلى مرو وقيل إنه أقام السنة ولم يقطع النهر لسبب بلخ فإن بعضها كان منتقضا عليه فحاربهم وكان ممن سبي امرأة برمك أبي خالد بن برمك وكان برمك على النوبهار صارت لعبد الله بن مسلم أخي قتيبة فوقع عليها ثم إن أهل بلخ صالحوه وأمر قتيبة برد السبي فقالت امرأة برمك لعبد الله إني قد علقت منك وحضرت عبد الله بن مسلم الوفاة فأوصى أن يلحق به ما في بطنها وردت إلى برمك فذكر أن ولد عبد الله بن مسلم جاؤوا أيام المهدي حين قدم الري إلى خالد فادعوه فقال لهم مسلم بن قتيبة أنه لا بد لكم أن استخلفتموه ففعل [من] أن تزوجوه فتركوه وكان برمك طبيبا.
ذكر عدة حوادث
وفي هذه السنة غزا مسلمة بن عبد الملك أرض الروم. وفيها حبس الحجاج يزيد بن المهلب وعزل حبيب بن المهلب عن كرمان وعبد الملك عن شرطته وحج بالناس هشام بن إسماعيل المخزومي وكان الأمير على العراق والمشرق كله الحجاج بن يوسف.
وفي أيام عبد الملك مات أسيد بن ظهير الأنصاري.
524

(أسيد بضم الهمزة وظهير بضم الظاء المعجمة).
وفيها مات عمر بن أبي سلمة وهو ابن أم سلمة وفي أيامه مات علقمة بن وقاص الليثي وله صحبة. وفي هذه السنة مات قبيصة بن ذؤيب الخزاعي وولد أول سنة من الهجرة وحنكه النبي صلى الله عليه وسلم وكان على خاتم عبد الملك بن مروان وكان فقيها وفي أيامه مات سعد بن زيد الأنصاري وولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي أيامه مات سلمة ابن أم سلمة ربيب النبي صلى الله عليه وسلم وفي هذه السنة مات عبد الله بن أبي أوفى الأسلمي وقيل سنة سبع وثمانين شهد الحديبية وخيبر وفي آخر أيامه مات الوليد بن عبادة بن الصامت الأنصاري وولد في آخر زمن النبي صلى الله عليه وسلم. وفي هذه السنة توفي لاحق بن حميد أبو مجلز السدوسي.
525

87
ثم دخلت سنة سبع وثمانين
ذكر امارة عمر بن عبد العزيز بالمدينة
وفي هذه السنة عزل الوليد هشام بن إسماعيل عن المدينة لسبع ليال خلون من ربيع الأول وكانت إمارته عليها أربع سنين غير شهر أو نحوه وولي عمر به عبد العزيز المدينة فقدمها واليا في ربيع الأول وثقله على ثلاثين بعيرا فنزل دار مروان وجعل يدخل عليه الناس فيسلمون فلما صلى الظهر دعا عشرة من الفقهاء الذين من المدينة عروة بن الزبير وأبا بكر بن سليمان بن أبي خيثمة وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وأبا بكر بن عبد الرحمن بن الحرث وسليمان بن يسار والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله بن عمرو وعبد الله بن عبيد الله بن عمر وعبد الله بن عامر بن ربيعة وخارجة بن زيد فدخلوا عليه فجلسوا فقال لهم إنما دعوتكم لأمر تؤجرون عليه وتكونون فيه أعونا على الحق لا أريد أن أقطع أمرا إلا برأيكم أو برأي من حضر منكم فإن رأيتم أحدا يتعدى أو بلغكم عن عامل لي ظلامة فأحرج الله على من بلغه ذلك إلا بلغني فخرجوا يجزونه خيرا وافترقوا وكتب الوليد إلى عمر بن عبد العزيز يأمره أن يقف هشام بن إسماعيل للناس وكان سئ الرأي فيه وكان هشام بن إسماعيل يسيء جوار علي بن
526

الحسين، فخافه هشام، فتقدم علي بن الحسين إلى خاصته أن لا يعرض له أحد بكلمة ومر به علي وقد وفق للناس ولم يعرض له فناداه هشام: (الله أعلم حيث يجعل رسالاته).
ذكر صلح قتيبة ونيزك
ولما صالح قتيبة ملك شومان كتب إلى نيزك طرخان صاحب باذغيس في إطلاق من عنده من أسرى المسلمين وكتب اليه يتهدده فخافه نيزك فأطلق الأسرى وبعث بهم إليه وكتب إليه قتيبة مع سليم الناصح مولى عبيد الله بن أبي بكرة يدعوه إلى الصلح وإلى أن يؤمنه وكتب إليه يحلف بالله لئن لم يقدم عليه ليغزونه ثم ليطلبنه حيث كان لا يقلع عنه حتى يظفر به أو يموت دونه.
فقدم سليم بالكتاب فقال له نيزك وكان يستنصحه يا سليم ما أظن عند صاحبك خيرا كتب إلي كتابا لا يكتب إلى مثلي فقال له سليم إنه رجل شديد في سلطانه سهل إذا سوهل صعب إذا عوسر فلا يمنعك منه غلظة كتابه إليك
فأحسن حالك عنده فقام نيزك مع سليم فصالحه أهل باذغيس على أن لا يدخلها قتيبة.
527

ذكر غزو الروم
قيل: وفي هذه السنة غزا مسلمة بن عبد الملك الروم فقتل منهم عددا كثيرا بسوسنة من ناحية المصيصة وفتح حصونا وقيل إن الذي غزا في هذه السنة هشام بن عبد الملك ففتح حصن بولق وحصن الأخرم وحصن بولس وقمقم وقتل من المستعربة نحوا من ألف مقاتل وسبى ذريتهم ونساءهم.
ذكر غزوة قتيبة بيكند
ولما صالح قتيبة نيزك أقام إلى وقت الغزو فغزا بيكند سنة سبع وثمانين وهي أدنى مدائن بخارى إلى النهر فلما نزل بهم استنصروا الصغد واستمدوا من حولهم فأتوهم في جمع كثير وأخذوا الطرق على قتيبة فلم ينفذ لقتيبة رسول ولم يصل إليه خبر شهرين وأبطأ خبره على الحجاج فأشفق على الجند فأمر الناس بالدعاء لهم في المساجد وهم يقتتلون كل يوم.
وكان لقتيبة عين من العجم يقال له تندر فأعطاه أهل بخارى مالا ليرد عنهم قتيبة فأتاه فقال له سرا من الناس إن الحجاج قد عزل وقد أتى عامل إلى خارسان فلو رجعت بالناس كان أصلح فأمر به فقتل خوفا من أن يظهر الخبر فيهلك الناس ثم أمر أصحابه بالجد في القتال فقاتلهم قتالا شديدا فانهزم الكفار يريدون المدينة وتبعهم المسلمون قتلا وأسرا كيف شاؤوا وتحصن من دخل المدينة بها فوضع قتيبة الفعلة ليهدم سورها فسألوه الصلح فصالحهم واستعمل عليهم عاملا وارتحل عنهم يريد الرجوع فلما سار عنهم خمسة فراسخ نقضوا الصلح وقتلوا العامل ومن معه فرجع قتيبة فنقب سورهم فسقط،
528

فسألوه الصلح فلم يقبل ودخلها عنوة وقتل من بها من المقاتلة.
وكان فيمن أخذوا من المدينة رجل أعور هو الذي استجاش الترك على المسلمين فقال لقتيبة أنا أفدي نفسي بخمسة آلاف حريرة قيمتها ألف ألف فاستشار قتيبة الناس فقالوا هذه زيادة في الغنائم وما عسى أن يبلغ كيد هذا قال لا والله لا يروع بك مسلم أبدا! فأمر به فقتل.
وأصابوا فيها من الغنائم والسلاح وآنية الذهب والفضة ما لا يحصى ولا أصابوا بخراسان مثله فقوي المسلمون وولي قسم الغنائم عبد الله بن وألان العدوي أحد بني ملكان وكان قتيبة يسميه الأمين بن الأمين فإنه كان أمينا.
وكان من حديث أمانة أبيه أن مسلما الباهلي أبا قتيبة قال لوألان أن عندي مالا أحب أن استودعكه ولا يعلم به أحد قال وألان ابعث به مع رجل تثق به إلى موضع كذا وكذا ومره إذا رأى في ذلك الموضع رجلا أن يضع المال وينصرف فجعل سلم المال في خرج وحمله على بغل وقال لمولى له انطلق بهذا المال إلى موضع كذا وكذا فإذا رأيت رجلا جالسا فخل البغل وانصرف ففعل المولى ما أمره وأتى المكان وكان وألان قد سبقه إليه وانتظر وأبطأ عليه رسول مسلم فظن أنه قد بدا له فانصرف وجاء رجل من بني تغلب فجلس في ذلك المكان وجاء مولى مسلم فرآه فسلم إليه البغل ورجع فأخذ التغلبي البغل والمال ورجع إلى منزله وظن مسلم أن المال قد أخذه وألان فلم يسأله حتى احتاج إليه فلقيه فقال مالي فقال ما قبضت شيئا ولا لك عندي مال فكان مسلم يشكوه إلى الناس فشكاه يوما والتغلبي جالس فخلا به التغلبي وسأله عن المال فأخبره فانطلق به إلى منزله وسلم المال إليه وأخبره الخبر فكان مسلم يأتي الناس والقبائل التي كان يشكو إليهم فيذكر لهم عذر وألان ويخبرهم الخبر.
قال فلما فرغ قتيبة من فتح بيكند رجع إلى مرو.
529

ذكر عدة حوادث
حج بالناس هذه السنة عمر بن عبد العزيز وهو أمير المدينة وكان على قضاء المدينة أبو بكر بن عمرو بن حزم وكان على العراق وخراسان الحجاج وكان خليفته على البصرة هذه السنة الجراح بن عبد الله الحكمي وعلى قضائها عبد الله بن أذينة وكان على قضاء الكوفة أبو بكر بن موسى الأشعري.
وفيها مات عبيد الله بن عباس بالمدينة وقيل باليمن وكان أصغر من عبد الله بسنة وفيها مات مطرف بن عبد الله بن الشخير في طاعون الجارف بالبصرة وفيها مات المقدم بن معد يكرب الكندي له صحبة وقيل مات سنة إحدى وتسعين وفيها مات أمية بن عبد الله بن أسيد.
(أسيد بفتح الهمزة الشخير بكسر الشين والخاء المعجمتين وتشديد الخاء وبعدها ياء).
530

88
ثم دخلت سنة ثمان وثمانين
ذكر فتح طوانة من بلد الروم
في هذه السنة غزا مسلمة بن عبد الملك والعباس بن الوليد بن عبد الملك بلد الروم وكان الوليد قد كتب إلى صاحب أرمينية يأمره أن يكتب إلى ملك الروم يعرفه أن الخزر وغيرهم من ملوك جبال أرمينية قد أجمعوا على قصد بلاده ففعل ذلك وقطع الوليد البعث على أهل الشام وأكثر وأعظم جهازه وساروا نحو الجزيرة ثم عطفوا منها إلى بلد الروم فاقتتلوا هم والروم فانهزم الروم ثم رجعوا فانهزم المسلمون فبقي العباس في نفر منهم ابن محيريز الجمحي فقال له العباس أين أهل القرآن الذين يريدون الجنة فقال ابن محيريز نادهم يأتوك فنادى العباس يا أهل القرآن فاقبلوا جميعا فهزم الله الروم حتى دخلوا طوانة وحصرهم المسلمون وفتحوها في جمادى الأولى.
* * *
قيل وفيها ولد الوليد بن يزيد بن عبد الملك.
531

ذكر عمارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم
قيل: وفي هذه السنة كتب الوليد إلى عمر بن عبد العزيز في ربيع الأول يأمره بإدخال حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يشتري ما في نواحيه حتى يكون مائتي ذراع في مائتي ذراع ويقول له قدم القبلة إن قدرت وأنت تقدر لمكان أخوالك وأنهم لا يخالفونك فمن أبى منهم فقوموا ملكه قيمة عدل واهدم عليهم وادفع الأثمان إليهم فإن لك في عمر وعثمان أسوة.
فأحضرهم عمر وأقرأهم الكتاب فأجابوه إلى الثمن فأعطاهم إياه وأخذوا في هدم بيوت أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنى المسجد وقدم عليهم الفعلة من الشام أرسلهم الوليد وبعث الوليد إلى ملك الروم يعلمه أنه قد هدم مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ليعمره فبعث إليه ملك الروم مائة ألف مثقال ذهب ومائة عامل وبعث إليه من الفسيفساء بأربعين جملا فبعث الوليد بذلك إلى عمر بن عبد العزيز وحضر عمر ومعه الناس فوضعوا أساسه وابتدأوا بعمارته.
* * *
قيل: وفي هذه السنة غزا مسلمة بن عبد الملك الروم أيضا ففتح ثلاثة حصون أحدها حصن قسطنطين وغزالة وحصن الأخرم وقتل من المستعربة نحوا من ألف وأخذ الأموال.
532

ذكر غزوة نومشكث ورامثنة
قيل: وفي هذه السنة غزا قتيبة بن مسلم نومشكث واستخلف على مرو أخاه يسار بن مسلم فتلقاه أهلها فصالحهم ثم سار إلى رامثنة فصالحه أهلها وانصرف عنهم.
وزحف إليه الترك ومعهم الصغد أهل فرغانة في مائتي ألف وملكهم كورنغابون ابن أخت ملك الصين فاعترضوا المسلمين فلحقوا عبد الرحمن بن مسلم أخا قتيبة وهو على الساقة وبينة وبين قتيبة وأوائل العسكر ميل فلما قربوا منه أرسل إلى قتيبة يخبره وأدركه الترك فقاتلوه ورجع قتيبة فانتهى إلى عبد الرحمن وهو يقاتل الترك وقد كاد الترك يظهرون فلما رأى المسلمون قتيبة طابت نفوسهم وقاتلوا إلى الظهر أبلى يومئذ نيزك وهو مع قتيبة فانهزم الترك ورجع قتيبة فقطع النهر عند ترمذ وأتى مرو.
ذكر ما عمل الوليد من المعروف
وفي هذه السنة كتب الوليد إلى عمر بن عبد العزيز في تسهيل الثنايا وحفر الآبار في البلدان وأمره أن يعمل الفوارة بالمدينة فعملها وأجرى ماءها فلما حج الوليد ورآها أعجبته فأمر لها بقوام يقومون عليها وأمر أهل المسجد أن يتقوا منها وكتب إلى البلدان جميعها بإصلاح الطرق وعمل الآبار ومنع المجذمين من الخروج على الناس وأجرى لهم الأرزاق.
533

ذكر عدة حوادث
وحج بالناس هذه السنة عمر بن عبد العزيز ووصل جماعة من قريش وساق معه بدنا واحرم من ذي الحليفة، فلما كان بالتنعيم أخبر أن مكة قليلة الماء وأنهم يخافون على الحاج العطش فقال عمر تعالوا ندع الله تعالى فدعا ودعا معه الناس فما وصلوا البيت إلا مع المطر وسال الوادي فخاف أهل مكة من شدته ومطرت عرفة ومكة وكثر الخصب.
وقيل: إنما حج هذه السنة عمر بن الوليد بن عبد الملك.
وكان العمال من تقدم ذكرهم.
وفيها مات سهل بن سعد الساعدي وقيل بل سنة إحدى وتسعين وله مائة سنة وعبد الله بن بسر المازني من مازن بن منصور وكان ممن صلى إلى القبلتين وهو آخر من مات بالشام من الصحابة.
(بسر بضم الباء الموحدة وبالسين المهملة).
534

89
ثم دخلت سنة تسع وثمانين
ذكر غزو الروم
قيل في هذه السنة غزا مسلمة بن عبد الملك والعباس بن الوليد بن عبد الملك الروم فافتتح مسلمة حصن عمورية وفتح العباس أذرولية ولقي من الروم جمعا فهزمهم.
وقيل إن مسلمة قصد عمورية فلقي بها جمعا من الروم كثيرا فهزمهم وافتتح هرقلة وقمونية وغزا العباس الصائفة منه ناحية البذندون.
ذكر غزو قتيبة بخارى
في هذه السنة أتى قتيبة كتاب الحجاج يأمره بقصد وردان خذاه فعبر النهر من زم فلقي الصغد وأهل كش ونسف في طريق المغزة فقاتلوه فظفر بهم ومضى إلى بخارى فنزل خرقانة السفلى عن يمين وردان فلقوه في جمع كثير فقاتلهم يومين وليلتين فظفر بهم وغزا وردان خذاه ملك بخارى فلم يظفر بشيء فرجع إلى مرو وكتب إلى الحجاج يخبره فكتب إليه الحجاج أن صورها [لي] فبعث إليه بصورتها فكتب إليه الحجاج أن تب إلى الله جل
535

ثناؤه مما كان منك وأتها من مكان كذا وكذا وكتب إليه أن كش بكش وانسف نسف ورد وردان وإياك والتحويط ودعني من ثنيات الطريق.
وقيل: إنما كان فتح بخارى سنة تسعين على ما نذكره.
ذكر ولاية خالد بن عبد الله القسري مكة
قيل: وفي هذه السنة ولي خالد بن عبد الله القسري مكة فخطب أهلها فقال: أيها الناس أيهما أعظم خليفة الرجل على أهله أو رسوله إليهم؟ ولله لم تعلموا فضل الخليفة إلا أن إبراهيم خليل الرحمن استسقاه فسقاء ملحا أجاجا واستسقى الخليفة فسقاه عذبا فراتا يعني بالملح زمزم وبالماء الفرات بئرا حفرها الوليد بثينة طوى في ثنية الحجون وكان ماؤها عذبا وكان ينقل ماءها ويضعه في حوض إلى جنب زمزم ليعرف فضله على زمزم فغارت البئر وذهب ماؤها فلا يدري أين هو اليوم.
وقيل وليها سنة إحدى وتسعين وقيل سنة أربع وتسعين وقد ذكرناه هناك.
ذكر قتل ذاهر ملك السند
في هذه السنة قتل محمد بن القاسم بن محمد بن الحكم بن أبي عقيل الثقفي يجتمع هو والحجاج في الحكم ذاهر بن صعصعة ملك السند وملك بلاده
536

وكان الحجاج بن يوسف استعمله على ذلك الثغر وسير معه ستة آلاف مقاتل وجهزه بكل ما يحتاج إليه حتى المسال والأبر والخيوط فسار محمد إلى مكران فأقام بها أياما ثم أتى قنزبور ففتحها ثم سار إلى أرمائيل ففتحها ثم سار إلى الديبل فقدمها يوم جمعة ووافته سفن كان حمل فيها الرجال والسلاح والأداة فخندق حين نزل الديبل وأنزل الناس منازلهم ونصب منجنيقا يقال له العروس كان يمد به خمسمائة رجل وكان بالديبل بد عظيم عليه دقل وعلى الدقل راية حمراء إذا هبت الريح أطافت بالمدينة وكانت تدور والبد صنم في بناء عظيم تحت منارة عظيمة مرتفعة وفي رأس المنارة هذا الدقل وكل ما يعبد فهو عندهم بد.
فحصرها وطال حصارها فرمى الدقل بحجر العروس فكسره فتطير الكفار بذلك ثم ان محمدا أتى وناهضهم وقد خرجوا إليه فهزمهم حتى ردهم إلى البلد وأمر بالسلاليم فنصبت وصعد عليها الرجال وكان أولهم صعودا رجل من مراد من أهل الكوفة ففتحت عنوة وقتل فيها ثلاثة أيام وهرب عامل ذاهر عنها وأنزلها محمد أربعة آلاف من المسلمين وبنى جامعها وسار عنها إلى البيرون وكان أهلها بعثوا إلى الحجاج فصالحوه فلقوا محمدا بالميرة وأخلوه مدينتهم وسار عنها وجعل لا يمر بمدينة إلا فتحها حتى عبر نهرا دون مهران فأتاه أهل سربيدس فصالحوه ووظف عليهم الخراج وسار عنهم إلى سهبان ففتحها، ثم سار إلى نهر مهران فنزل في وسطه.
537

وبلغ خبره ذاهر فاستعد لمحاربته وبعث جيشا إلى سدوستان فطلب أهلها الأمان والصلح فأمنهم ووظف عليهم الخراج ثم عبر محمد مهران مما يلي بلاد راسل الملك على جسر عقده وذاهر مستخف به فلقيه محمد والمسلمون وهو على فيل وحوله الفيلة ومعه التكاكرة فاقتتلوا قتالا شديدا لم يسمع بمثله وترجل ذاهر فقتل عند المساء ثم انهزم الكفار وقتلهم المسلمون كيف شاؤوا وقال قاتله:
(الخيل تشهد يوم ذاهر والقنا * ومحمد بن القاسم بن محمد)
(أني فرجت الجمع غير معرد * حتى علوت عظيمهم بمهند)
(فتركته تحت العجاج مجندلا * متعفر الخدين غير موسد)
فلما قتل ذاهر غلب محمد على بلاد السند وفتح مدينة راور عنوة وكان بها امرأة لذاهر فخافت أن تؤخذ فأحرقت نفسها وجواريها وجميع مالها.
ثم سار إلى برهمناباذ العتيقة وهي على فرسخين من المنصورة ولم تكن المنصورة يومئذ كان موضعها غيضة وكان المنهزمون من الكفار بها، فقاتلوه ففتحها محمد غنوة وقتل بها بشرا كثيرا وخربت.
وسار يريد الرور وبغرور فلقيه أهل ساوندرى فطلبوا الأمان فأعطاهم إياه واشترط عليهم ضيافة المسلمين، ثم أسلم أهلها بعد ذلك. ثم تقدم إلى بسمد وصالح أهلها، ووصل إلى الرور وهي من مدائن السند على جبل فحصروهم شهورا فصالحوه وسار إلى السكة ففتحها ثم قطع نهر بياس إلى
538

الملتان فقاتله أهلها وانهزموا فحصرهم محمد فجاءه إنسان ودله على قطع الماء الذي يدخل المدينة فقطعه فعطشوا فألقوا بأيديهم ونزلوا على حكمه فقتل المقاتلة وسبى الذرية وسدنة البد وهم ستة آلاف وأصابوا ذهبا كثيرا فجمع في بيت طوله عشرة أذرع وعرضه ثمانية أذرع يلقى إليه من كوة في وسطه فسميت الملتان فرج بيت الذهب والفرج الثغر وكان بد الملتان تهدى إليه الأموال ويحج من البلاد ويحلقون رؤوسهم ولحاهم عنده ويزعمون أن صنمه هو أيوب النبي صلى الله عليه وسلم.
وعظمت فتوحه ونظر الحجاج في النفقة على ذلك الثغر فكانت ستين ألف ألف درهم ونظر في الذي حمل فكان مائة ألف ألف وعشرين ألف ألف فقال ربحنا ستين ألفا وأدركنا ثارنا ورأس ذاهر.
ثم مات الحجاج ونذكر أمر محمد عند موت الحجاج أن شاء الله تعالى.
ذكر استعمال موسى بن نصير على إفريقية
في هذه السنة استعمل الوليد بن عبد الملك موسى بن نصير على إفريقية وكان نصير والده على حرس معاوية فلما سار معاوية إلى صفين لم يسر معه فقال له ما يمنعك من المسير معي إلى قتال علي ويدي عندك معروفة فقال لا أشركك بكفر من هو أولى بالشكر منك وهو الله عز وجل فسكت عنه معاوية.
فوصل موسى إلى أفريقية وبها صالح الذي استخلفه حسان على إفريقية وكان البربر قد طمعوا في البلاد بعد مسير حسان فلما وصل موسى عزل صالحا وبلغه أن بأطراف البلاد قوما خارجين عن الطاعة، فوجه إليهم ابنه
539

عبد الله فقاتلهم فظفر بهم، وسبى منهم ألف رأس وسيره في البحر إلى جزيرة ميورقة فنهبها وغنم منها مالا يحصى وعاد سالما فوجه ابنه هارون إلى طائفة أخرى فظفر بهم وسبى منهم نحو ذلك وتوجه هو بنفسه إلى
طائفة أخرى فغنم نحو ذلك فبلغ الخمس ستين ألف رأس من السبي ولم يذكر أحد أنه سمع بسبي أعظم من هذا.
ثم إن إفريقية قحطت واشتد بها الغلاء فاستسقى بالناس وخطبهم ولم يذكر الوليد وقيل له في ذلك فقال هذا مقام لا يدعى فيه لأحد ولا يذكر إلا الله عز وجل فسقي الناس ورخصت الأسعار ثم خرج غازيا إلى طنجة يريد من بقي من البربر وقد هربوا خوفا منه فتبعهم وقتلهم قتلا ذريعا حتى بلغ السوس الأدنى لا يدافعه أحد فاستأمن البربلا اله وأطاعوه واستعمل على طنجة مولاه طارق بن زياد ويقال أنه صدفي وجعل معه جيشا كثيفا جلهم البربر وجعل معهم من يعلمهم القرآن والفرائض وعاد إلى إفريقية فمر بقلعة مجانة فتحصن أهلها منه وترك عليها من يحاصرها مع بشر بن فلان ففتحها فسميت قلعة بشر إلى الآن وحينئذ لم يبق له في إفريقية من ينازعه.
وقيل كانت ولاية موسى ثمان وسبعين استعمله عليها عبد العزيز بن مروان وهو حينئذ على مصر لأخيه عبد الملك.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة غزا مسلمة بن عبد الملك الترك من ناحية آذربيجان ففتح حصونا ومدائن هناك وحج بالناس عمر بن عبد العزيز وكان العمال من
540

تقدم ذكرهم.
وفي هذه السنة مات عبد الله بن ثعلبة بن صعير العذري حليف بني زهره وكان مولده قبل الهجرة بأربع سنين وقيل ولد سنة ست من الهجرة.
(صعير بضم الصاد وفتح العين المهملتين).
وفيها مات ظليم مولى عبد الله بن سعد بن أبي سرح بافريقية.
(ظليم بفتح الظاء المعجمة وكسر اللام).
541

90
ثم دخلت سنة تسعين
ذكر فتح بخارى
قد ذكرنا ورود كتاب الحجاج إلى قتيبة يأمره بالتوبة عن انصرافه عن وردان خذاه ملك بخارى ويعرفه الموضع الذي يأتي بلده منه فلما ورد الكتاب على قتيبة خرج غازيا إلى بخارى سنة تسعين فاستجاش وردان خذاه بالصغد والترك من حوله فأتوه وقد سبق إليها قتيبة فحصرها فلما جائتهم أمدادهم خرجوا إلى المسلمين يقاتلونهم فقالت الأزد اجعلونا ناحية وخلوا بيننا وبين قتلاهم فقال قتيبة تقدموا فتقدموا وقاتلوهم قتالا شديدا ثم إن الأزد انهزموا حتى دخلوا العسكر وركبهم المشركون فحطموهم حتى أدخلوهم عسكرهم وجاوزه حتى ضرب النساء وجوه الخيل وبكين فكروا راجعين فانطوت مجنبتا المسلمين على الترك فقاتلوهم حتى ردوهم إلى مواقفهم فوقف الترك على نشز فقال قتيبة من يزيلهم عن هذا الموضع فلم يقدم عليهم أحد من العرب فأتى بني تميم فقال لهم يوما كأيامكم فأخذ وكيع اللواء وقال يا بني تميم أتسلمونني اليوم قالوا لا يا أبا مطرف.
وكان هريم بن أبي طحمة على خيل تميم، ووكيع رأسهم، فقال وكيع: يا هريم قدم خيلك ودفع إليه الراية فتقدم هريم وتقدم وكيع في الرجالة فانتهى هريم إلى نهر بينهم وبين الترك فوقف فقال وكيع تقدم يا هريم فنظر هريم نظر الجمل الهائج الصائل وقال أأقتحم الخيل هذا النهر فإن انكشفت
542

كان هلاكها يا أحمق. فقال وكيع يا ابن اللخناء أترد أمري فحذفه بعمود كان معه فقبر هريم في الخيل وانتهى وكيع إلى النهر فعمل عليه جسرا من خشب وقال لأصحابه من وطن نفسه على الموت فليعبر وإلا فليبث مكانه فما عبر معه إلا ثمانمائة رجل فلما عبر بهم ودنا من العدو وقال لهريم إني مطاعنهم فأشغلهم عنا بالخيل فحمل عليهم حتى خالطهم وحمل هريم في الخيل فطاعنوهم، ولم يزالوا يقاتلونهم حتى حدروهم من التل ونادى قتيبة ما ترون العدو منهزمين فلم يعبر أحد النهر حتى انهزموا وعبر الناس ونادى قتيبة من أتى برأس فله مائة فأتي برؤوس كثيرة فجاء يومئذ أحد عشر رجلا من بني قريع كل رجل برأس فيقال له من أنت فيقول قريعي فجاء رجل من الأزد برأس فقيل له من أنت فقال قريعي فعرفه جهم بن زحر فقال كذب والله أنه أزدي فقال له قتيبة ما دعاك إلى هذا فقال رأيت كل من جاء يقول قريعي فظننت أنه ينبغي لكل من جاء برأس أن يقوله فضحك قتيبة.
وجرح خاقان وابنه وفتح الله عليهم وكتب [قتيبة] بالفتح إلى الحجاج.
ذكر صلح قتيبة مع الصغد
لما وقع قتيبة بأهل بخارى هابه الصغد فرجع طرخون ملكهم ومعه فارسان فدنا من عسكر قتيبة فطلب رجلا يكلمه فأرسل إليه قتيبة حيان النبطي فطلب الصلح على فدية يؤديها إليهم فأجابه قتيبة إلى ما طلب وصالح ورجع طرخون إلى بلاده ورجع قتيبة ومعه نيزك.
(حيان بالحاء المهملة والياء المشددة تحتها نقطتان وآخره نون).
543

ذكر غدر نيزك وفتح الطالقان
قيل: لما رجع قتيبة من بخارى ومعه نيزك وقد خاف لما يرى من الفتوح فقال لأصحابه أنا مع هذا ولست آمنه فلو استأذنته ورجعت كان الرأي قالوا افعل فاستأذن قتيبة فأذن له وهو بآمل فرجع يريد طخارستان وأسرع السير حتى أتى النوبهار فنزل يصلي فيه ويتبرك به وقال لأصحابه لا أشك أن قتيبة قد ندم على إذنه لي وسيبعث إلى المغيرة بن عبد الله يأمره بحبسي.
وندم قتيبة على إذنه له فأرسل إلى المغيرة يأمره بحبس نيزك وسار نيزك وتبعه المغيرة فوجده قد دخل شعب خلع فرجع المغيرة وأظهر نيزك الخلع وكتب إلى أصبهبذ بلخ والي باذان ملك مرو الروذ والى ملك الطالقان والى ملك الفرياب والى ملك الجوزجان يدعوهم إلى خلع قتيبة فأجابوه فواعدهم الربيع أن يجتمعوا ويغزوا قتيبة وكتب إلى كابل شاه يستظهر به وبعث إليه بثقله وسأله أن يأذن له إن اضطر إليه أن يأتيه فأجابه إلى ذلك.
وكان جبغويه ملك طخارستان ضعيفا فأخذه نيزك فقيده بقيد من ذهب لئلا يخالف عليه وكان جبغويه هو الملك ونيزك عبده فاستوثق منه وأخرج عامل قتيبة من بلاد جبغويه وبلغ قتيبة خلعه قبل الشتاء وقد تفرق الجند فبعث أخاه عبد الرحمن بن مسلم في اثني عشر ألفا إلى البروقان وقال أقم بها ولا تحدث شيئا فإذا انقضى الشتاء سر نحو طخارستان واعلم إني قريب منك.
544

فسار فلما كان آخر الشتاء كتب قتيبة إلى نيسابور وغيرها من البلاد ليقدم عليه الجنود فقدموا قبل أوانهم نحو الطالقان وكان ملكها قد خلع وطابق نيزك على الخلع فأتاه قتيبة فأوقع باهل الطالقان فقتل من أهلها مقتلة عظيمة وصلب منهم سماطين أربعة فراسخ في نظام واحد ثم انقضت السنة قبل محاربة نيزك وسنذكر تمام خبره سنة إحدى وتسعين إن شاء الله تعالى.
ذكر هرب يزيد بن المهلب واخوته من سجن الحجاج
قيل وفي هذه السنة هرب يزيد بن المهلب واخوته الذين كانوا معه في سجن الحجاج وكان الحجاج قد خرج إلى رستقاباذ للعبث لأن الأكراد كانوا قد غلبوا على فارس وخرج معه يزيد بن المهلب وإخوته عبد الملك والمفضل في عسكره وجعل عليهم كهيئة الخندق وجعلهم في فسطاط قريب منه وجعل عليهم الحرس من أهل الشام وطلب منهم ستة آلاف ألف وأخذ يعذبهم فكان يزيد يصبر صبرا حسنا وكان ذلك مما يغيظ الحجاج منه فقيل للحجاج أنه رمي في ساقه بنشابة فثبت نصلها فيه فهو لا يمسها إلا صاح فأمر أن يعذب في ساقه فلما فعلوا به ذلك صاح وأخته هند بنت المهلب عند الحجاج فلما سمعت صوته صاحت وناحت فطلقها الحجاج ثم إنه كف عنهم وأقبل يستأديهم وهم يعملون في التخلص فبعثوا إلى أخيهم مروان وكان بالبصرة أن يضمر لهم خيلا ويرى الناس أنه يريد بيعها لتكون عدة ففعل ذلك وكان أخوه حبيب يعذب بالبصرة أيضا.
فصنع يزيد للحرس طعاما كثيرا وأمر له بشراب فسقوا واشتغلوا به ولبس يزيد ثياب طباخه وخرج وقد جعل له لحية بيضاء فرآه بعض الحرس
545

فقال: كانت هذه مشية يزيد فجاء إليه فرأى لحيته بيضاء في الليل فتركه وعاد فخرج المفضل ولم يفطن له فجاؤوا إلى سفن معدة فركبها يزيد والمفضل وعبد الملك وساروا ليلتهم حتى أصبحوا فلما أصبحوا علم بهم الحرس فرفعوا خبرهم إلى الحجاج ففرع وظن انهم يفسدون خراسان ليفتنوا بها فبعث البريد إلى قتيبة بخبرهم
يأمره بالحذر.
ولما دنا يزيد من البطائح استقبلته الخيل فخرجوا عليها ومعهم ليل من كلب فأخذوا طريق الشام على طريق السماوة وأتى الحجاج بعد يومين فقيل له إنهم أخذوا طريق الشام على طريق الشام فبعث إلى الوليد بن عبد الملك يعلمه.
ثم سار يزيد فقدم فلسطين فنزل على وهيب بن عبد الرحمن الأزدي وكان كريما على سليمان بن عبد الملك فجاء بهم إليه وكانوا في مكان آمن.
وكتب الحجاج إلى الوليد إن آل المهلب خانوا أمان الله هربوا مني ولحقوا بسليمان وكان الوليد قد حذرهم وظن أنهم يأتون خراسان للفتنة بها فلما علم أنهم عند أخيه سليمان سكن بعض ما به وطار غضبا للمال الذي ذهب به فكتب سليمان إلى الوليد أن يزيد عندي وقد آمنته وإنما عليه ثلاثة آلاف ألف لأن الحجاج أغرمه ستة آلاف ألف فأدى ثلاثة آلاف ألف والذي بقي عليه أنا أؤديه فكتب الوليد والله لا أؤمنه حتى تبعث به إلي فكتب لئن أنا بعثت به إليك لأجيئن معه فكتب الوليد والله لئن جئتني لا أؤمنه فقال يزيد أرسلني إليه فوالله ما أحب أن أوقع بينه وبينك عداوة ولا أن يتشاءم الناس بي لكما واكتب معي بألطف ما قدرت عليه.
فأرسله وأرسل معه ابنه أيوب وكان الوليد قد أمره أن يبعث به مقيدا فقال سليمان لابنه إذا دخلت على أمير المؤمنين فادخل أنت ويزيد في سلسلة.
546

ففعل ذلك فلما رأى الوليد ابن أخيه في سلسلة قال لقد بلغنا من سليمان ودفع أيوب كتاب أبيه إلى عمه وقال له يا أمير المؤمنين نفسي فداؤك ولا تخفر ذمة أبي وأنت أحق من منعها ولا تقطع منا رجاء من رجا السلامة في جوارنا لمكاننا منك ولا تذل مت رجا العز في الانقطاع إلينا لعز بابك فقرأ الوليد كتاب سليمان فإذا هو يستعطفه ويشفع له ويضمن إيصال المال فلما قرأ الكتاب قال لقد شققنا على سليمان وتكلم يزيد واعتذر فآمنه الوليد فرجع إلى سليمان وكتب الوليد إلى الحجاج إني لم أصل إلى يزيد وأهله مع سليمان فاكفف عنهم فكف عنهم.
وكان أبو عيينة بن المهلب عند الحجاج عليه ألف ألف فتركها وكف عن حبيب بن المهلب.
وأقام بزيد بن المهلب عند سليمان يهدي إليه الهدايا ويصنع له الأطعمة وكان لا يأتي [يزيد] هدية إلا بعث بها إلى سليمان ولا يأتي سليمان هدية إلا بعث بنصفها إلى يزيد وكان لا تعجبه جارية إلا بعث بها إلى يزيد.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة غزا مسلمة بن عبد الملك ارض الروم ففتح الحصون الخمس التي بسورية وغزا عباس بن الوليد حتى بلغ ارزن وبلغ سورية وفيها استعمل الوليد بن عبد الملك قرة بن شريك على مصر وعزل أخاه عبد الملك بن عبد الملك.
547

وفيها أسرت الروم خالد بن كيسان صاحب البحر فأهداه ملكهم إلى الوليد.
وحج بالناس هذه السنة عمر بن عبد العزيز وكان أميرا على مكة والمدينة والطائف وكان على العراق والمشرق كله الحجاج بن يوسف وعامله على البصرة الجراح بن عبد الله الحكمي وعلى قضائها عبد الرحمن بن أذينة وعلى خراسان قتيبة بن مسلم وعلى مصر قرة بن شريك.
وفيها مات أنس بن مالك الأنصاري وقيل سنة اثنتين وتسعين وقيل ثلاث وتسعين وكان عمره ستا وتسعين سنة وقيل مائة وست سنين وقيل ثلاث وتسعين وكان عمره ستا وتسعين سنة وقيل مائة وست سنين وقيل وسبع وقيل وثلاث وفيها مات أبو العالية الرياحي في شوال وفيها توفي نصر بن عاصم الليثي النحوي أخذ النحو عن أبي الأسود الدؤلي وقيل مات سنة تسعين.
548

91
ثم دخلت سنة إحدى وتسعين
ذكر تتمة خبر قتيبة مع نيزك
قد ذكرنا مسير قتيبة إلى نيزك وما جرى له بالطالقان وقتل من قتل بها فلما فتح الطالقان استعمل أخاه عمر بن مسلم وقيل إن ملكها لم يحارب قتيبة فكف عنه وكان بها لصوص فقتلهم قتيبة وصلبهم ثم سار قتيبة إلى الفارياب فخرج إليه ملكها مقرا مذعنا فقبل منه ولم يقتل بها أحدا واستعمل عليها رجلا من أهله.
وبلغ ملك الجوزجان خبرهم فهرب إلى الجبال وسار قتيبة إلى الجوزجان فلقيه أهلها سامعين مطيعين فقبل منهم ولم يقتل بها أحدا واستعمل عليها عامر بن مالك الحماني.
ثم أتى بلخ فلقيه أهلها فلم يقم بها إلا يوما واحدا وسار يتبع أخاه عبد الرحمن إلى شعب خلم ومضى نيزك إلى بغلان وخلف مقاتلة على فم الشعب ومضايقه ليمنعوه ووضع مقاتلته في قلعة حصينة من وراء الشعب فأقام قتيبة أياما يقاتلهم على مضيق الشعب لا يقدر على دخوله ولا يعرف طريقا يسلكه إلى نيزك إلا الشعب أو مفازة لا تحتملها العساكر فبقي متحيرا فقدم انسان فاستأمنه على أن يدله على مدخل القلعة التي من وراء الشعب فآمنه قتيبة وبعث
549

معه رجالا فانتهى بهم إلى القلعة من وراء شعب خلم فطرقوهم وهم آمنون فقتلوهم وهرب من بقي منهم ومن كان في الشعب فدخل قتيبة الشعب فأتى القلعة ومضى إلى سمنجان فأقام بها أياما ثم سار إلى نيزك وقدم أخاه عبد الرحمن.
فارتحل نيزك من منزله فقطع وادي فرغانة ووجه ثقله وأمواله إلى كابل شاه ومضى حتى نزل الكرز وعبد الرحمن يتبعه فنزل عبد الرحمن حذاء الكرز ونزل قتيبة بمنزل وبين عبد الرحمن فرسخان فتحصن نيزك في الكرز وليس إليه مسلك إلا من وجه واحد وهو صعب لا تطيقه الدواب فحصره قتيبة شهرين حتى قل ما في يد نيزك من الطعام وأصابهم الجدري وجدر جبغويه.
وخاف قتيبة الشتاء فدعا سليما الناصح فقال انطلق إلى نيزك واحتل لتأتيني بغير أمان فإن احتال وأبى فأمنه واعلم أني إن عاينتك وليس هو معك صلبتك قال فاكتب إلى عبد الرحمن لا يخالفني فكتب إليه فقدم عليه فقال له ابعث رجالا ليكونوا على فم الشعب فإذا خرجت أنا ونيزك فليعطفوا من ورائنا فيحولوا بيننا وبين الشعب فبعث عبد الرحمن خيلا فكانت هناك وحمل سليم معه أطعمة وأخبصة أوقارا وأتى نيزك فقال له إنك أسأت إلى قتيبة وغدرت قال نيزك فما الرأي قال أرى أن تأتيه فإنه ليس يبارح وقد عم على أن يشتو مكانه هلك أو سلم قال نيزك فكيف آتيه على غير أمان قال ما أظنه يؤمنك لما في نفسه عليك لأنك قد ملأته غيظا ولكني أرى أن لا يعلم [بك] حتى تضع يدك في يده،
550

فإني أرجو أن يستحي ويعفو [عنك]، قال: إني أرى نفسي تأبى هذا وهو إن رآني قتلني فقال سليم ما أتيك إلا لأشير عليك بهذا ولو فعلت لرجوت أن تسلم وتعود حالك عنده فإذا أبيت فإني منصرف.
وقدم سليم الطعام الذي معه ولا عهد لهم بمثله فانتهبه أصحاب نيزك فساءه ذلك فقال له سليم إني لك من الناصحين أرى أصحابك قد جهدوا وإن طال بهم الحصار لم آمنهم أن يستأمنوا بك فائت قتيبة فقال لا آمنه على نفسي ولا آتيه إلا بأمان وإن ظني أن يقتلني وإن أمنني ولكن الأمان اعذر إلي فقال سليم قد أمنك أفتتهمني قال لا وقال له أصحابه اقبل قول سليم فلا يقول إلا حقا.
فخرج معه ومع جبغويه وصول طرخان خليفة جبغويه وحبس طرخان صاحب شرطته وشقران ابن أخي نيزك فلما خرجوا من الشعب عطفت الخيل التي خلفها سليم فحالوا بين الأتراك أصحاب نيزك والخروج فقال نيزك هذا أول الغدر قال سليم تخلف هؤلاء عنك خير لك وأقبل سليم ونيزك ومن معه حتى دخلوا إلى قتيبة فحبسهم وكتب إلى الحجاج يستأذنه في قتل نيزك واستخرج قتيبة ما كان في الكرز من متاع ومن كان فيه فقدم به على قتيبة فانتظر بهم كتاب الحجاج فأتاه كتاب الحجاج بعد أربعين يوما يأمره بقتل نيزك فدعا قتيبة الناس واستشارهم في قتله واختلفوا فقال ضرار بن حصين إني سمعتك تقول أعطيت الله عهدا إن أمكنك منه أن تقتله فإن لم تفعل فلا ينصرك الله عليه أبدا.
فدعا نيزك فضرب رقبته بيده وأمر بقتل صول وابن أخي نيزك وقتل
551

من أصحابه سبعمائة، وقيل اثني عشر ألفا وصلب نيزك وابن أخيه وبعث برأسه إلى الحجاج وقال نهار بن توسعة في قتل نيزك:
(لعمري نعمت غزوة الجند غزوة * قضت نحبها من نيزك وتعلت)
وأخذ الزبير مولى عباس الباهلي حقا لنيزك فيه جوهر وكان أكثر من في بلاده مالا وعقارا من ذلك الجوهر وأطلق قتيبة جبغويه ومن عليه وبعث به إلى الوليد فلم يزل بالشام حتى مات الوليد.
وكان الناس يقولون غدر قتيبة بنيزك فقال بعضهم:
(فلا تحسبن الغدر حرما فربما * ترقت بك الأقدام يوما فزلت)
فلما قتل قتيبة نيزك رجع إلى مرو وأرسل ملك الجوزجان يطلب الأمان فأمنه على أن يأتيه فطلب رهنا ويعطى رهائن فأعطاه قتيبة حبيب به عبد الله بن حبيب الباهلي وأعطى ملك الجوزجان رهائن من أهل بيته وقدم على قتيبة ثم رجع فمات بطالقان فقال أهل الجوزجان انهم سموه فقتلوا حبيبا وقتل قتيبة الرهائن الذين كانوا عنده.
552

ذكر غزوة شومان وكش ونسف
وفي هذه السنة سار قتيبة إلى شومان فحصرها.
وكان سبب ذلك أن ملكها طرد عامل قتيبة من عنده فأرسل إلى قتيبة رسولين أحدهما من العرب اسمه عياش والآخر من أهل خراسان يدعوان ملك شومان أن يؤدي ما كان صالح عليه فقدما شومان فخرج أهلها إليهما فرموهما فانصرف الخراساني وقاتلهم عياش فقتلوه ووجدوا به ستين جراحة.
وبلغ قتله قتيبة فسار إليهم بنفسه فلما أتاها أرسل صالح بن مسلم أخا قتيبة [رجلا] إلى ملكها وكان صديقا له يأمره بالطاعة ويضمن له رضا قتيبة إن رجع إلى الصلح فأبى وقال لرسول صالح أتخوفني من قتيبة وأن أمنع الملوك حصنا فأتاه قتيبة وقد تحصن ببلده فوضع عليه المجانيق ورمى الحصن فهشمه وقتل رجلا في مجلس الملك بحجر فلما خاف أن يظهر عليه قتيبة جمع ما كان بالحصن من مال وجوهر ورمى به في بئر بالقلعة لا يدرك قعرها ثم فتح القلعة وخرج إليهم فقاتلهم حتى قتل وأخذ قتيبة القلعة عنوة فقتل المقاتلة وسبى الذرية.
ثم سار إلى كش ونسف ففتحهما وامتنعت عليه فارياب فأحرقها وسميت المحترقة وسير من كش ونسف أخاه عبد الرحمن إلى الصغد وملكها طرخون فقبض عبد الرحمن من طرخون ما كان صالحه عليه قتيبة ودفع إليه رهنا كان معه ورجع إلى قتيبة ببخارى وكان قد سار إليها من كش ونسف فرجعوا إلى مرو ولما كان قتيبة ببخارى ملك بخارى خذاه، وكان
553

غلاما حدثا وقتل من يخاف أن يضاده.
وقيل إن قتيبة سار بنفسه إلى الصغد فلما رجع عنهم قالت الصغد لطرخون إنك قد رضيت بالذل واستطبت الجزية وأنت شيخ كبير فلا حاجة لنا فيك فحبسوه وولوا غوزك فقتل طرخون نفسه.
ذكر عدة حوادث
قيل في هذه السنة استعمل الوليد خالد بن عبد الله القسري على مكة فلم يزل واليا عليها حتى مات الوليد وكان قد تقدم سنه تسع وثمانين ذكره أيضا فلما ولي مكة خطبهم وعظم أمر الخلافة وحثهم على الطاعة فقال لو أني أعلم أن هذه الوحش التي تأمن في الحرم لو نطقت لم تقر بالطاعة لأخرجتها منه فعليكم بالطاعة ولزوم الجماعة فإني والله لا أوتي بأحد يطعن على إمامه إلا صلبته في الحرم إني لا أرى فيما كتب به الخليفة أو رآه إلا امضاءه واشتد عليهم.
وحج بالناس هذه السنة الوليد بن عبد الملك فلما دخل المدينة غدا إلى المسجد ينظر إلى بنائه وأخرج الناس منه ولم يبق غير سعيد بن المسيب لم يجرأ أحد من الحرس يخرجه فقيل له لو قمت قال لا أقوم حتى يأتي الوقت الذي كنت أقوم فيه فقيل لو سلمت على أمير المؤمنين قال لا والله لا أقوم إليه قال عمر بن عبد العزيز فجعلت أعدل بالوليد في ناحية المسجد لئلا يراه فالتفت الوليد [إلى] القبلة فقال: من ذلك الشيخ؟ أهو سعيد؟ قال عمر: نعم، ومن حاله كذا وكذا فلو علم بمكانك لقام فسلم عليك وهو ضعيف البصر.
554

قال الوليد: قد علمت حاله ونحن نأتيه فدار في المسجد حتى أتاه فقال كيف أنت أيها الشيخ فوالله ما تحرك سعيد بل قال بخير والحمد لله فكيف أمير المؤمنين وكيف حاله فانصرف وهو يقول يقول هذا بقية الناس!
وقسم بالمدينة دقيقا كثيرا وآنية من ذهب وفضة وأموالا وصلى بالمدينة الجمعة فخطب الناس الأولى جالسا ثم قام فخطب الخطبة الثانية قائما قال إسحاق بن يحيى فقلت لرجاء بن حيوة وهو معه أهكذا تصنعون؟ قال نعم مكررا وهكذا صنع معاوية وهلم جرا فقلت له هلا تكلمه؟ قال أخبرني قبيصة بن ذؤيب أنه كلم عبد الملك ولم يترك القعود وقال هكذا خطب عثمان قال فقلت والله ما خطب إلا قائما قال رجاء روي لهم شيء فاقتدوا به قال اسحق ولم نر منهم أشد تجبرا منه.
وكان العمال على البلاد من تقدم ذكرهم غير مكة فإن خالدا كان عاملها وقيل إن عاملها هذه السنة كان عمر بن عبد العزيز بن مروان. وفي هذه السنة غزا عبد العزيز بن الوليد الصائفة وكان على الجيش مسلمة بن عبد الملك، وفيها عزل الوليد عمه محمد بن مروان عن الجزيرة وأرمينية واستعمل عليها أخاه مسلمة بن عبد الملك فغزا مسلمة الترك من ناحية أذربيجان حتى بلغ الباب وفتح مدائن وحصونا ونصب عليها المجانيق.
555

92
ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين
في هذه السنة غزا مسامة بن عبد الملك أرض الروم ففتح حصونا ثلاثة وجلا أهل سوسنة إلى بلاد الروم.
ذكر فتح الأندلس
وفيها غزا طارق بن زياد مولى موسى بن نصير الأندلس في اثني عشر ألفا فلقي ملك الأندلس واسمه أذرينوق وكان من أهل أصبهان وهم ملوك عجم الأندلس فزحف له طارق بجميع من معه وزحف الأذرينوق في سرير الملك وعليه تاجه وجميع الحلية التي كان يلبسها الملوك فاقتتلوا قتالا شديدا فقتل الأذرينوق وفتح الأندلس سنة اثنتين وتسعين.
هذا جميعه ذكره أبو جعفر في فتح الأندلس وبمثل ذلك الإقليم العظيم والفتح المبين لا يقتصر فيه على هذا القدر وأنا أذكر فتحها على وجه أتم من هذا إن شاء الله تعالى من تصانيف أهلها إذ هم أعلم ببلادهم.
قالوا أول من سكنها قوم يعرفون بالأندلش بشين معجمة فسمي البلد بهم ثم عرب بعد ذلك بسين مهملة والنصارى يسمون الأندلس إشبانية باسم رجل صلب فيها يقال له إشبانس، وقيل باسم ملك كان بها في
556

الزمان الأول اسمه إشبان بن طيطس وهذا هو اسمها عند بطليموس وقيل سميت بأندلس بن يافث بن نوح وهو أول من عمرها. قيل أول من سكن الأندلس بعد الطوفان قوم يعرفون بالأندلس فعمروها وتداولوا ملكها دهرا طويلا وكانوا مجوسا ثم حبس الله عنهم المطر وتوالى عليهم القحط فهلك أكثرهم وفر منها من أطاق الفرار فخلت الأندلس مائة سنة ثم ابتعث الله لعمارتها الأفارقة فدخل إليها قوم منهم أجلاهم ملك إفريقية تخففا منهم لقحط توالى على بلاده حتى كاد يفنى أهله فحملهم في السفن مع أمير من عنده فأرسوا بجريرة قادس ورأوا الأندلس قد ورأوا الأندلس قد أخصبت بلادها وجرت أنهارها فسكنوها وعمروها ونصبوا لهم ملوكا يضبطون أمرهم وهم على دين من قبلهم وكانت دار مملكتهم طالقة الخراب من أرض إشبيلية بنوها وسكنوها وأقاموا مدة تزيد على مائة وخمسين سنة ملك منهم فيها أحد عشر ملكا.
ثم أرسل الله عليهم عجم رومة وملكهم اشبان بن طيطس فغزاهم ومزقهم وقتل فيهم وحاصرهم بطالقة وقد تحصنوا فيها فابتنى عليهم إشبانية وهي إشبيلية واتخذها دار مملكته وكثرت جموعه وعتا وتجبر وغزا بيت المقدس فغنم ما فيه وقتل فيه مائة ألف ونقل المرمر منه إلى إشبيلية وغيرها وغنم أيضا مائدة سليمان بن داود عليه السلام وهي التي غنمها طارق من طليطلة لما افتتحها وغنم أيضا قليلة الذهب والحجر الذي لقي بماردة.
وكان هذا اشبان قد وقف عليه الخضر وهو يحرث الأرض فقال له يا أشبان سوف تحظى وتملك وتعلو فإذا ملكت إيلياء فارفق بذرية الأنبياء. فقال: أتسخر مني؟ كيف ينال مثلي الملك؟ فقال: قد جعله فيك من جعل عصاك
557

هذه كما ترى فنظر إليها فإذا هي قد أورقت فارتاع وذهب عنه الخضر وقد وثق اشبان بقوله فداخل الناس فارتقى حتى ملك ملكا عظيما وكان ملكه عشرين سنة. ودام ملك الإشبانيين بعدة إلى أن ملك منهم خمسة وخمسون ملكا.
ثم دخل عليهم عجم رومة أمة يدعون البشنوليات وملكهم طويش بن نيطة وذلك حين بعث الله المسيح فغلبوا عليهم واستولوا على ملكها وكانت مدينة ماردة دار مملكتهم وملك منهم سبعة وعشرون ملكا.
ثم دخلت عليهم أمة القوط مع ملك لهم فغلبوا على الأندلس فاقتطعوها من يومئذ عن صاحب رومة وكان ابتداء ظهورهم من ناحية إيطالية شرق الأندلس فأغارت على بلاد مجدونية من تلك الناحية وذلك في أيام قليوذيوس قيصر ثالث القياصرة فخرج إليهم وهزمهم وقتل فيهم ولم يظهروا بعدها إلى أيام قسطنطين الأكبر وأعادوا فسير إليهم جيشا فلم يثبتوا له وانقطع خبرهم إلى دولة ثالث قيصر فإنهم قدموا على أنفسهم أميرا اسمه لذريق وكان يعبد الأوثان فسار إلى رومة ليحمل النصارى على السجود لأوثانه فظهر منه سوء سيرته فتخاذل أصحابه عنه ومالوا إلى أخيه وحاربوه فاستعان بصاحب رومة فبعث إليه جيشا فهزم أخاه ودان بدين النصارى وكانت ولايته ثلاث عشرة سنة ثم ولي بعده أقريط وبعده أملريق وبعده وغديش وكانوا قد عادوا إلى عبادة الأوثان فجمع من أصحابه مائة ألف وسار إلى رومة فيسر إليه ملك الروم جيشا فهزموه وقتلوه.
558

ثم بعده الريق وكان زنديقا شجاعا فسار ليأخذ بثأر وغديش ومن قتل معه ونازل رومية وحاصرها وضيق على أهلها ودخلها عنوة وغنم أموالهم ثم جمع أسطول البحر وسار إلى صقلية ليفتحها ويغنم ما فيها فغرق أكثر أصحابه في البحر وهو فيمن غرق.
ثم ملك بعده أطلوف ست سنين وخرج عن بلد إيطالية وقام ببلد غاليس مجاورا الأندلس ثم انتقل منها إلى برشلونة.
ثم بعده أخوه ثلاث سنين ثم بعده واليا ثم بوردزاريش ثلاثا وثلاثين سنة ثم ابنه طرشمند ثم بعده أخوه لذريق ثلاث عشرة سنة ثم بعده أوريق سبع عشرة سنة ثم بعده الريق بطلوشة ثلاثا وعشرين سنة ثم عشليق ثم أمليق سنتين ثم توذيوش سبع عشرة سنة وخمسة أشهر ثم بعده طود تقليس سنة وثلاثة أشهر ثم بعده أثله خمس سنين ثم بعده أطلنجة خمس عشرة سنة ثم بعده ليوبا ثلاث سنين. ثم بعده أخوه لويلد وهو أول من اتخذ طليطلة دار ملك ونزلها ليكون متوسطا لملكه ليحارب من خرج عن طاعته عن قريب فلم يزل يحارب من خرج عن طاعته حتى احتوى على جميع الأندلس وبنى مدينة رقوبل وأتقنها وأكثر بساتينها وهو على القرب من طليطلة وسماها باسم ولده وعزا بلد البشقنس حتى أذلهم وخطب إلى ملك الفرنج ابنته لولده أرمنجلد فزوجه وأسكنه إشبيلية فحسنت له
559

عصيان والده ففعل فسار إليه أبوه وحصرهما وضيق عليه وطال مقامه إلى أن أخذه عنوة وسجنه إلى أن مات.
ثم ملك بعد لويلد ابنه ركرد وكان حسن السيرة فجمع الأساقفة وغير سيرة أبيه وسلم البلاد إليهم وكانوا نحو ثمانين أسقفا وكان نقيا عفيفا قد لبس ثياب الرهبان وهو الذي بني الكنيسة المعروفة بالوزقة بإزاء مدينة وادي آش ثم بعده ابن ليوبا فسار كسيرة أبيه فاغتاله رجل من القوط يقال له بتريق فقتله وملك بعده بتريق هذا بغير رضا أهل الأندلس وكان مجرما طاغيا فاسقا فثار عليه رجل من خاصته فقتله.
ثم ملك من بعده غندمار سنتين ثم ملك بعده سيسيفوط وكانت ولايته تسع سنين وكان حسن السيرة ثم بعده ابنه ركريد وكان صفيرا عمر ثلاثة أشهر ومات ثم ملك شنتله وكان ملكه عند البعث وكان مشكورا ثم بعده سشنند خمس سنين ثم بعده خنتلة ستة أعوام ثم بعده خندس أربعة أعوام ثم بعده بنبان ثمانية أعوام ثم بعده أروى سبع سنين.
وكان في دولته قحط شديد حتى كانت الأندلس تخرب لشدة الجوع ثم بعده ابقه خمس عشرة سنة وكان جائرا مذموما ثم ملك بعده ابنه غيطشة وكانت ولايته سنة سبع وسبعين للهجرة وكان حسن السيرة لين العريكة وأطلق كل محبوس كان في سجن أبيه وأدى الأموال إلى أربابها.
560

ثم توفي وخلف ولدين فلم يرض بهما أهل الأندلس وتراضوا برجل يقال له رذريق وكان شجاعا وليس من بيت الملك، وكانت عادة ملوك الأندلس أنهم يبعثون أولادهم الذكور والإناث إلى مدينة طليطلة يكونون في خدمة الملك لا يخدمه غيرهم يتأدبون بذلك فإذا بلغوا الحكم أنكح بعضهم بعضا وتولى تجهيزهم فلما ولي رذريق أرسل إليه يوليان وهو صاحب الجزيرة الخضراء وسبتة وغيرهما ابنة له فاستحسنها رذريق وافتضها فكتبت إلى أبيها فأغضبه ذلك فكتب إلى موسى بن نصير عامل الوليد بن عبد الملك على إفريقية بالطاعة واستدعاه إليه فسار إليه فأدخله يوليان مدائنه وأخذ عليه العهود له وأصحابه بما يرضى به ثم وصف له الأندلس ودعاه إليها وذلك آخر سنة تسعين.
فكتب موسى إلى الوليد بما فتح الله عليه وما دعاه إليه يوليان فكتب إليه الوليد خضها بالسرايا ولا تغرر بالمسلمين في بحر شديد الأهوال فكتب إليه موسى أنه ليس ببحر متسع وإنما هو خليج يبين ما وراءه فكتب إليه الوليد أن اختبرها بالسرايا وأن كان الأمر على ما حكيت.
فبعث رجلا من مواليه يقال له طريف في أربعمائة رجل ومعهم مائة فرس فسار في أربع سفائن فخرج في جزيرة بالأندلس فسميت جزيرة طريف لنزوله فيها ثم أغار على الجزيرة الخضراء فأصاب غنيمة كثيرة ورجع سالما في رمضان سنة إحدى وتسعين فلما رأى الناس تسرعوا إلى الغزو.
ثم ان موسى دعا مولى له كان على مقدمات جيوشه يقال له طارق بن زياد فبعثه في سبعة آلاف من المسلمين أكثرهم البربر والموالي وأقلهم العرب فساروا في البحر وقصد إلى جبل منيف وهو متصل بالبر فنزله، فسمي الجبل
561

جبل طارق إلى اليوم ولما ملك عبد المؤمن البلاد أمر ببناء مدينة على هذا الجبل وسماه جبل الفتح فلم يلبث له هذا الاسم وجرت الألسنة على الأول.
وكان حلول طارق فيه في رجب سنة اثنتين وتسعين من الهجرة ولما ركب طارق البحر غلبته عينه فرأى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه المهاجرين والأنصار قد تقلدوا السيوف وتنكبوا القسي فقال له النبي صلى الله عليه وسلم يا طارق تقدم لشأنك وأمره بالرفق بالمسلمين والوفاء بالعهد فنظر طارق فرأى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد دخلوا الأندلس أمامه فاستيقظ من نومه مستبشرا وبشر أصحابه وقويت نفسه ولم يشك في الظفر.
فلما تكامل أصحاب طارق بالجبل نزل إلى الصحراء وفتح الجزيرة الخضراء فأصاب بها عجوزا فقالت له إني كان لي زوج وكان عالما بالحوادث وكان يحدثهم عن أمير يدخل بلدهم فيغلب عليه ووصف من نعته أنه ضخم الهامة وأن في كتفه الأيسر شامة عليها شعر فكشف طارق ثوبه فإذا الشامة كما ذكرت فاستبشر طارق أيضا هو ومن معه ونزل من الجبل إلى الصحراء وافتتح الجزيرة الخضراء وغيرها وفارق الحصن الذي في الجبل.
* * *
ولما بلغ رذريق غزو طارق بلاده عظم ذلك عليه وكان غائبا في غزاته فرجع منها وطارق قد دخل بلاده فجمع له جمعا يقال بلغ مائة ألف، فلما بلغ طارق الخبر كتب إلى موسى يستمده ويخبره بما فتح وأنه زحف إليه ملك الأندلس بما لا طاقة له به فبعث إليه بخمسة آلاف فتكامل المسلمون اثني عشر ألفا ومعهم يوليان يدلهم على عورة البلاد ويتجسس لهم الأخبار فأتاهم رذريق في جنده فالتقوا على نهر لكة من أعمال شذونة لليلتين بقيتا من رمضان
562

سنة اثنتين وتسعين واتصلت الحرب ثمانية أيام وكان على ميمنته وميسرته ولدا الملك الذي كان قبله وغيرهما من أبناء الملوك واتفقوا على الهزيمة بغضا لرذريق وقالوا إن المسلمين إذا امتلأت أيديهم من الغنيمة عادوا إلى بلادهم وبقي الملك لنا فانهزموا وهزم الله رذريق ومن معه وغرق رذريق في النهر وسار طارق إلى مدينة استجة متبعا لهم فلقيه أهلها ومعهم من المنهزمين خلق كثير فقاتلوه قتالا شديدا ثم انهزم أهل الأندلس ولم يلق المسلمون بعدها حربا مثلها ونزل طارق على عين بينها وبين مدينة استجة أربعة أميال فسميت عين طارق إلى الآن.
ولما سمعت القوط بهاتين الهزيمتين قذف الله في قلوبهم الرعب وكانوا يظنون أنه يفعل فعل طريف فهربوا إلى طليطلة وكان طريف قد أوهمهم أنه يأكلهم هو ومن معه فلما دخلوا طليطلة وأخلوا مدائن الأندلس قال له يوليان قد عرفت من الأندلس ففرق جيوشك وسر أنت إلى طليطلة ففرق جيوشه من مدينة استجة وبعث جيشا إلى قرطبة وجيشا إلى غرناطة وجيشا إلى مالقة وجيشا إلى تدمير وسار هو ومعظم الجيش إلى جيان يريد طليطلة فلما بلغ طليطلة وجدها خالية وقد لحق من كان بها بمدينة خلف الجبل يقال لها مائة.
فأما الجيش الذي سار إلى قرطبة فإنهم دلهم راع على ثغرة في سورها فدخلوا منها البلد وملكوه.
وأما الذين قصدوا تدمير فلقيهم صاحبها واسمه تدمير وبه سميت وكان اسمها أرويولة وكان معه جيش كثيف فقاتلهم قتالا شديدا ثم انهزم فقتل من أصحابه خلق كثير فأمر تدمير النساء فلبسن السلاح ثم صالح المسلمين عليها وفتح سائر الجيوش ما قصدوا إليه من البلاد.
563

وأما طارق فلما رأى طليطلة فارغة ضم إليها اليهود وترك معهم رجالا من أصحابه وسار هو إلى وادي الحجارة فقطع الجبل من فج فيه فسمي بفج طارق إلى اليوم وانتهى إلى مدينة خلف الجبل تسمى مدينة المائدة وفيها وجد مائدة سليمان بن داود عليه السلام وهي من زبرجد أخضر حافاتها وأرجلها منها مكللة باللؤلؤ والمرجان والياقوت وغير ذلك وكان لها ثلاثمائة وستون رجلا ثم مضى إلى مدينة ماية فغنم منها ورجع إلى طليطلة في سنة ثلاث وتسعين.
وقيل اقتحم أرض جليقية فخرقها حتى انتهى إلى مدينة أسترقة وانصرف إلى طليطلة ووافته جيوشه التي وجهها من إستجة بعد فراغهم من فتح تلك المدن التي سيرهم إليها.
* * *
ودخل موسى بن نصير الأندلس في رمضان سنة ثلاث وتسعين في جمع كثير وكان قد بلغه ما صنع طارق فحسده فلما عبر إلى الأندلس ونزل الجزيرة الخضراء قيل له تسلك طريق طارق فأبى فقال له الأدلاء نحن ندلك على طريق أشرف من طريقة ومدائن لم تفتح بعد ووعده يوليان بفتح عظيم فسر بذلك وكان قد غمه.
فساروا به إلى مدينه ابن السليم فافتتحها عنوة ثم سار إلى مدينة قرمونة وهي أحصن مدن الأندلس فقدم إليها يوليان وخاصته فأتوهم على حال المنهزمين معهم السلاح فأدخلوهم مدينتهم فأرسل موسى إليهم الخيل ففتحوها لهم ليلا فدخلها المسلمون وملكوها ثم سار موسى إلى إشبيلية وهي من أعظم مدائن الأندلس بنيانا وأعزها آثارا فحصرها أشهرا وفتحها وهرب من بها فأنزلها موسى اليهود وسار إلى مدينة ماردة فحصرها وقد كان
564

أهلها خرجوا إليه فقاتلوه قتالا شديدا فكمن لهم موسى ليلا في مقاطع الصخر فلم يرهم الكفار فلما أصبحوا زحف إليهم فخرجوا إلى المسلمين على عادتهم فخرجوا عليهم من الكمين وأحدقوا بهم وحالوا بينهم وبين البلد وقتلوهم قتلا ذريعا ونجا من نجا منهم فدخل المدينة وكانت حصينة فحصرهم بها أشهرا وقاتلهم وزحف إليهم بدبابة عملها ونقبوا سورها فخرج أهلها على المسلمين فقتلوهم عند البرج فسمي برج الشهداء إلى اليوم ثم افتتحها آخر رمضان سنة أربع وتسعين يوم الفطر صلحا على أن جميع أموال القتلى يوم الكمين وأموال الهاربين إلى جليقية وأموال الكنائس وحليها للمسلمين.
ثم إن أهل إشبيلية اجتمعوا وقصدوها وقتلوا من بها من المسلمين فسير موسى إليها ابنه عبد العزيز بجيش فحصروها وملكها عنوة وقتل من بها من أهلها وسار عنها إلى لبلة وباجة فملكهما وعاد إلى أشبيلية.
وسار موسى من مدينة ماردة في شوال يريد طليطلة فخرج طارق إليه فلقيه فلما أبصره نزل إليه فضربه موسى بالسوط على رأسه ووبخه على ما كان من خلافه ثم سار به إلى مدينة طليطلة فطلب منه ما غنم والمائدة أيضا فأتاه بها وقد انتزع رجلا من أرجلها فسأله عنها فقال لا علم لي كذلك وجدتها فعمل عوضها من ذهب.
وسار موسى إلى سرقسطة ومدائنها فافتتحها وأوغل في بلاد الفرنج فانتهى إلى مفازة كبيرة وأرض سهلة ذات آثار فأصاب فيها صنما قائما فيه مكتوب بالنقر يا بني إسماعيل إلى ههنا منتهاكم فارجعوا وإن سألتم إلى ماذا ترجعون أخبرتكم أنكم ترجعون إلى الاختلاف فيما بينكم حتى يضرب بعضكم أعناق بعض وقد فعلتم.
565

فرجع ووافاه رسول الوليد في أثناء ذلك يأمره بالخروج عن الأندلس والقفول إليه فساءه ذلك ومطل الرسول وهو يقصد بلاد العدو في غير ناحية الصنم ويقتل ويسبي ويهدم الكنائس ويكسر النواقيس حتى بلغ صخرة بلاي على البحر الأخضر وهو في قوة وظهور فقدم عليه رسول آخر للوليد يستحثه وأخذ بعنان بغلته وأخرجه وكان موافاة الرسول بمدينة لك بجليقية وخرج على الفج المعروف بفج موسى ووافاه طارق من الثغر الأعلى فأقفله معه ومضيا جميعا.
واستخلف موسى على الأندلس ابنه عبد العزيز بن موسى فلما عبر البحر إلى سبتة استخلف عليها وعلى طنجة ما والاهما ابنه عبد الملك واستخلف على إفريقية وأعمالها ابنه الكبير عبد الله وسار إلى الشام وحمل الأموال التي غنمت من الأندلس والذخائر والمائدة ومعه ثلاثون ألف بكر من بنات ملوك القوط وأعيانهم ومن نفيس الجوهر والأمتعة مالا يحصى فورد الشام وقد مات الوليد بن عبد الملك واستخلف سليمان بن عبد الملك وكان منحرفا عن موسى بن نصير فعزله عن جميع أعماله وأقصاه وحبسه وأغرمه حتى احتاج أن يسأل العرب في معونته.
وقيل: إنه وصل الشام والوليد حي وكان قد كتب وادعى أنه هو الذي فتح الأندلس وأخبره خبر المائدة ومعه طارق فقال طارق أنا غنمتها فكذبه موسى فقال طارق للوليد سله عن رجلها المعدومة فسأله عنها فلم يكن عنده منها علم فأظهرها طارق وذكر أنه أخفاها لهذا السبب فعلم الوليد صدق طارق وإنما فعل لأنه كان حبسه وضربه حتى أرسل الوليد فأخرجه وقيل لم يحبسه.
566

قالوا ولما دخلت الروم بلاد الأندلس كان في مملكتهم إذا ولي ملك منهم أقفل عليه قفلا فلما ملكت القوط فعلوا كفعلهم فلما ملك رذريق أراد فتح الأقفال فنهاه أكابر البلاد عن ذلك فلم يقبل منهم وفتح الأقفال فرأى في البيت صور العرب وعليهم العمائم الحمر على خيول شهب وفيه كتاب إذا فتح هذا البيت دخل هؤلاء القوم هذا البلد ففتحت الأندلس تلك السنة.
فهذا القدر كاف في فتح الأندلس ونذكر باقي أخبار الأندلس عند أوقات حدوثها على ما شرطنا ان شاء الله تعالى.
ذكر عزوة جزيرة سردانية
هذا الجزيرة في بحر الروم. وهي من أكبر الجزائر ما عدا جزيرة صقلية وأقريطش وهي كثيرة الفواكه ولما فتح موسى بلاد الأندلس سير طائفة من عسكره في البحر إلى هذه الجزيرة سنة اثنتين وتسعين فدخلوها وعمد النصارى إلى ما لهم من آنية ذهب وفضة فألقوا الجميع في المينا الذي لهم وجعلوا أموالهم في سقف بنوه للبيعة العظمى التي لهم تحت السقف الأول وغنم المسلمون فيها ما لا يحد ولا يوصف وأكثروا الغلول فاتفق أن رجلا من المسلمين اغتسل في المينا فعلقت رجله في شيء فأخرجه فإذا صحفة من فضة وأخذ المسلمون جميع ما فيه ثم دخل رجل من المسلمين إلى تلك الكنيسة فنظر إلى حمام فرماه بسهم فأخطأه ووقع في السقف في السيف وانكسر لوح فنزل منه شيء من الدنانير وأخذوا الجميع وازداد المسلمون غلولا فكان بعضهم يذبح الهرة ويرمي ما في جوفها فيملأه دنانير ويخيط عليها ويلقيها في الطريق فإذا خرج أخذها
567

وكان يضع قائم سيفه على الجفن ويملأه ذهبا.
فلما ركبوا البحر سمعوا قائلا يقول اللهم غرقهم فغرقوا عن آخرهم فوجدوا أكثر الغرقى والدنانير على أوساطهم.
وفي سنة خمس وثلاثين ومائة غزاها عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة الفهري فقتل من بها قتلا ذريعا ثم صالحوه على الجزية فأخذت منهم وبقيت ولم يغزها بعده أحد فعمرها الروم.
فلما كانت سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة أخرج إليها المنصور بن القائم العلوي صاحب إفريقية أسطولا من المهدية فمروا بجنوة ففتحوا المدينة وأوقعوا بأهل سردانية وسبوا فيها وأحرقوا مراكب كثيرة وأخربوا جنوة وغنموا ما فيها.
وفي سنة ست وأربعمائة غزاها مجاهد العامري من دانية وكان صاحبها في البحر في مائة وعشرين مركبا ففتحها وقتل فأكثر وسبى النساء والذرية فسمع بذلك ملوك الروم فجمعوا إليه وساروا إليه من البر الكبير في جمع عظيم فاقتتلوا وانهزم المسلمون وأخرجوا من جزيرة سردانية وأخذت بعض مراكبهم وأسر أخو مجاهد وابنه علي بن مجاهد ورجع بمن بقي إلى دانية ولم تغز بعد ذلك.
وإنما ذكرنا جميع اخبارها ههنا لقلتها وإذا تفرقت لم تعرف كما يجب.
568

ذكر عدة حوادث
في هذه السنة غزا مسلمة بن عبد الملك أرض الروم ففتح حصونا ثلاثا وجلى أهل سوسنة إلى بلاد الروم وفي هذه السنة غزا قتيبة سجستان في قول بعضهم وأراد قصد رتبيل الأعظم فلما نزل قتيبة سجستان أرسل رتبيل إليه رسلا بالصلح فقبل ذلك وانصرف واستعمل عليهم عبد ربه بن عبد الله الليثي.
وحج بالناس هذه السنة عمر بن عبد العزيز وهو على المدينة وكان عمال الأنصار من تقدم ذكرهم.
وفيها مات مالك بن أوس بن الحدثان البصري من ولد نصر بن معاوية بالمدينة وله أربع وتسعون سنة.
569

93
ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين
ذكر صلح خوارزمشاه وفتح خام جرد
وفي هذه السنة صالح قتيبة خوارزمشاه.
وكان سبب ذلك أن ملك خوارزم كان ضعيفا فغلبه أخوه خرزاد على أمره وكان أصغر منه وكان إذا بلغه أن عند أحد ممن هو منقطع إلى الملك جارية أو مالا أو دابة أو بنتا أو أختا أو امرأة جميلة أرسل إليه وأخذه منه وكان لا يمتنع عليه أحد ولا الملك فإذا قيل للملك لا أقوى به وهو مغتاظ عليه فلما طال ذلك عليه كتب إلى قتيبة يدعوه إلى أرضه ليسلمها إليه واشترط عليه أن يدفع إليه أخاه وكل من يضاده ليحكم فيهم بما يرى ولم يطلع أحد من مرازبته على ذلك فأجابه قتيبة إلى ما طلب وتجهز للغزو وأظهر قتيبة أنه يريد الصغد وسار من مرو وجمع خوارزمشاه أجناده ودهاقنته وقال أن قتيبة يريد الصغد وليس يغازيكم فهلموا نتنعم في ربيعنا هذا.
فأقبلوا على الشرب والتنعم فلم يشعروا حتى نزل قتيبة في هزارسب فقال خوارزمشاه لأصحابه ما ترون قالوا نرى أن نقاتله قال لكني لا أرى ذلك لأنه قد عجز عنه من هو أقوى منا وأشد شوكة ولكن اصرفه بشيء أؤديه إليه فأجابوه إلى ذلك.
فسار خوارزمشاه فنزل بمدينة الفيل من وراء النهر وهي أحصن بلاه وقتيبة لم يعبر النهر فأرسل إليه خورزمشاه فصالحه على عشرة آلاف رأس
570

وعين ومتاع على أن يعينه على خام جرد فقبل قتيبة ذلك.
وقيل: صالحه على مائة ألف رأس ثم بعث قتيبة أخاه عبد الرحمن إلى خام جرد وكان يغازي خوارزمشاه فقاتله فقتله عبد الرحمن وغلب على أرضه وقدم منها بأربعة آلاف أسير فقتلهم قتيبة وسلم قتيبة إلى خوارزمشاه أخاه ومن كان يخالفه فقتلهم ودفع أموالهم إلى قتيبة.
ذكر فتح سمرقند
فلما قبض قتيبة صلح خوارزمشاه قال إليه المجشر بن مزاحم السلمي فقال له سرا إن أردت الصغد يوما من الدهر فالآن فإنهم آمنون من أن تأتيهم من عامك هذا وإنما بينك وبينهم عشرة أيام فقال أشار عليك بهذا أحد قلا لا قال فسمعه منك أحد قال لا قال والله لئن تكلم به أحد لأضربن عنقك.
فلما كان الغد أمر أخاه عبد الرحمن فسار في الفرسان والرماة وقدم الأثقال إلى مرو فسار يومه فلما أمسى كتب إليه قتيبة إذا أصبحت فوجه الأثقال إلى مرو وسر بالفرسان والرماة نحو الصغد وأكتم الأخبار فإني في الأثر ففعل عبد الرحمن وأمره وخطب قتيبة الناس وقال لهم إن الصغد شاغرة برجلها وقد نقضوا العهد الذي بيننا وصنعوا ما بلغكم وإني أرجو أن يكون خوارزم والصغد كقريظة والنضير ثم سار فأتى الصغد فبلغها بعد واحد عبد الرحمن بثلاث أو أربع وقدم معه أهل خوارزم وبخارى فقاتلوه شهرا من وجه واحد وهم محصورون.
571

وخاف أهل الصغد طول الحصار فكتبوا إلى ملك الشاش وخاقان واخشاد فرغانة العرب [إن] ظفروا بنا أتوكم بمثل ما أتونا به فانظروا لأنفسكم ومهما كان عندكم من قوة فابذلوها فنظروا وقالوا إنما نؤتى من سفلتنا فإنهم لا يجدون كوجدنا فانتخبوا من أولاد الملوك وأهل النجدة من أبناء المرازبة والأساورة والأبطال وأمرهم أن يأتوا عسكر قتيبة فيبيتوه فإنه مشغول عنه بحصار سمرقند وولوا عليهم ابنا لخاقان فساروا.
وبلغ قتيبة الخبر فانتخب من عسكره أربعمائة وقيل ستمائة من أهل النجدة والشجاعة وأعلمهم الخبر وأمرهم بالمسير إلى عدوهم فساروا وعليهم صالح بن مسلم فنزلوا على فرسخين من العسكر على طريق القوم فجعل صالح له كمينين فلما مضى نصف الليل جاءهم عدوهم فلما رأوا صالحا حملوا عليه فلما اقتتلوا شد الكمينان عن يمين وشمال فلم ير قوم كانوا أشد من أولئك قال بعضهم إنا لنقاتلهم إذا رأيت تحت الليل قتيبة وقد سار سرا فضربت ضربة أعجبتني فقلت كيف ترى بأمي وأبي قال اسكت فض الله فاك قال فقتلناهم فلم يفلت منهم إلا الشريد وحوينا أسلابهم وسلاحهم فاحتززنا رؤوسهم وأسرنا منهم أسرى فسألناهم عمن قتلنا فقالوا ما قتلتم إلا ابن ملك أو عظيما أو بطلا كان الرجل يعد بمائة رجل وكتبنا أسماءهم على آذانهم ثم دخلنا العسكر حين أصبحنا فلم يأت أحد بمثل ما جئنا به من القتلى والأسرى والخيل ومناطق الذهب والسلاح قال أكرمني قتيبة وأكرم معي جماعة وظننت أنه رأى منهم مثل الذي رأى مني.
ولما رأى الصغد ذلك انكسروا ونصب قتيبة عليهم المجانيق فرماهم وثلم
572

ثلمة، فقام عليها رجل شتم قتيبة، فرماه بعض الرماة فقتله، فأعطاه قتيبة عشرة آلاف.
وسمع بعض المسلمين قتيبة وهو يقول كأنما يناجي نفسه: حتى متى يا سمرقند يعشش فيك الشيطان؟ أما والله [لئن] أصبحت لأحاولن من أهلك أقصي غاية فانصرف ذلك الرجل فقال لأصحابه كم من نفس تموت غدا وأخبر الخبر فلما أصبح قتيبة أمر الناس بالجد في القتال فقاتلوهم واشتد القتال وأمرهم قتيبة أن يبلغوا ثلمة المدينة فجعلوا الترسة على وجوههم وحملوا فبلغوها ووقفوا عليها ورماهم الصغد بالنشاب فلم يبرحوا فأرسل الصغد إلى قتيبة فقالوا له انصرف عنا اليوم حتى نصالحك غدا فقال قتيبة لا نصالحهم إلا ورجالنا على الثلمة وقيل بل قال قتيبة جزع العبيد انصرفوا على ظفركم فانصرفوا فصالحهم من الغد على ألفي ألف ومائتي ألف مثقال في كل عام وأن يعطوه تلك السنة ثلاثين ألف فارس وأن يخلوا المدينة لقتيبة فلا يكون لهم مقاتل فيبني فيها مسجدا ويدخل ويصلي ويخطب ويتغدى ويخرج.
فلما تم الصلح وأخلوا المدينة وبنوا المسجد دخلها قتيبة في أربعة آلاف انتخبهم فدخل المسجد فصلى فيه وخطب وأكل طعاما ثم أرسل إلى الصغد من أراد منكم أن يأخذ متاعه فليأخذ فإني لست خارجا منها ولست آخذ منكم إلا ما صالحتكم عليه غير أن الجند يقيمون فيها.
وقيل إنه شرط عليهم في الصلح مائة ألف فارس وبيوت النيران وحلية الأصنام فقبض ذلك وأتى بالأصنام فكانت كالقصر العظيم وأخذ ما عليها وأمر بها فأحرقت فجاءه غوزك فقال إن شكرك على واجب لا تتعرض لهذه الأصنام فإن منها أصناما من أحرقها هلك فقال قتيبة أنا أحرقها بيدي فدعا بالنار فكبر ثم أشعلها فاحترقت فوجدوا من بقايا مسامير الذهب خمسين ألف مثقال.
573

وأصاب بالصغد جارية من ولد يزدجرد فأرسلها إلى الحجاج فأرسلها الحجاج إلى الوليد فولدت له يزيد بن الوليد.
وأمر غوزك بالانتقال عنها فانتقل.
وقيل: إن أهل سمرقند خرجوا على المسلمين وهم يقاتلونهم يوم فتحها وقد أمر قتيبة يومئذ بسرير فابرز وقعد عليه فطاعنوهم حتى جازوا قتيبة وانه لمحتب بسيفه ما حل حبوته وانطوت مجنبتا المسلمين على الذين هزموا القلب فهزموهم حتى ردوهم إلى عسكرهم وقتل من المشركين عدد كثير ودخلوا المدينة فصالحوهم وصنع غوزك طعاما ودعا قتيبة فأتاه في عدة من أصحابه فلما بعد استوهب منه سمرقند وقال للملك انتقل عنها فلم نجد بدا من طاعته وتلا قتيبة قوله تعالى (وأنه أهلك عادا الأولى وثمود فما أبقى).
وحكى عن الذي أرسله قتيبة إلى الحجاج بفتح سمرقند قال فأرسلني الحجاج إلى الوليد فقدمت دمشق قبل طلوع الفجر فدخلت المسجد فإذا إلى جنبي رجل ضرير فسألني من أين أنت فقلت من خراسان وأخبرته خبر سمرقند فقال والذي بعث محمدا بالحق ما افتتحتموها إلا غدرا وإنكم يا أهل خراسان للذين تسلبون بني أمية ملكهم ثم تنقضون دمشق حجرا حجرا فلما فتح قتيبة سمرقند قيل: [أن] هذا لأعدى العيرين لأنه فتح سمرقند وخوارزم في عام واحد وذلك أن الفارس إذا صرع في طلق واحد عيرين قيل عادي عيرين فلما فتحها قتيبة دعا نهار بن توسعة فقال يا نهار أين قولك:
574

(ألا ذهب الغزو المقرب للغنى * ومات الندى والجود)
(أقاما بمرو الروذ رهن ضريحه * فقد غيبا عن كل شرق ومغرب)
أفغزو هذا يا نهار قال لا هذا أحسن وأنا الذي أقول:
(وما كان مذ كنا ولا كان قبله * ولا هو فيما بعدنا كابن مسلم)
(أعم لأهل الشرك قتلا بسيفه * وأكثر فينا مقسما بعد مقسم)
قال وقال الشعراء في ذلك فقال الكميت من قصده:
(كانت سمرقند أحقابا يمانية * فاليوم تنسبها قيسية مضر)
وقال كعب الأشقري وقيل رجل من جعفى:
(كل يوم يحوي قتيبة نهبا * ويزيد الأموال مالا جديدا)
(باهلي قد ألبس التاج حتى * شاب منه مفارق كن سودا)
(دوخ الصغد بالكتائب حتى * ترك الصغد بالعراء قعودا)
(فوليد يبكي لفقد أبيه * وأب موجع يبكي الوليدا)
ثم رجع قتيبة إلى مرو وكان أهل خراسان يقولون إن قتيبة غدر بأهل سمرقند فملكها غدرا.
وكان عامله على خوارزم إياس بن عبد الله على حربها وكان ضعيفا وكان على خراجها عبيد الله بن أبي عبيد الله مولى مسلم فاستضعف أهل خوارزم إياسا فجمعوا له فكتب عبيد الله إلى قتيبة فبعث قتيبة أخاه عبد الله عاملا
575

وأمره أن يضرب إياسا وحيان النبطي مائة مائة ويحلقهما فلما قرب عبد الله من خوارزم أرسل إلى إياس فأنذره فتنحى وقدم عبد الله وأخذ حيان فضربه وحلقه ثم وجه قتيبة الجنود إلى خوارزم مع المغيرة بن عبد الله فبلغهم ذلك فلما قدم المغيرة اعتزل أبناء الذين قتلهم خوارزمشاه وقالوا لا يغنيك فهرب إلى بلاد الترك وقدم المغيرة فقتل وسبى فصالحه الباقون على الجزية وقدم على قتيبة فاستعمله على نيسابور.
ذكر فتح طليطلة من الأندلس
قال أبو جعفر وفي هذه السنة غضب موسى بن نصير على مولاه طارق فسار إليه في رجب منها واستخلف على إفريقية ابنه عبد الله بن موسى وعبر موسى إلى طارق في عشرة آلاف فتلقاه وترضاه فرضي عنه وقبل عذره وسيره إلى طليطلة وهي من عظام بلاد الأندلس وهي من قرطبة على عشرين يوما ففتحها وأصاب فيها مائدة سليمان بن داود عليه السلام وفيها من الذهب والجوهر ما الله أعلم به.
قلت: لم يزد على هذا وقد ذكرت في سنة اثنتين وتسعين من فتح الأندلس ودخول موسى بن نصير إلى طارق ما فيه كفاية فلا حاجة إلى إعادته إلا أن أبا جعفر قد ذكر أن موسى هو الذي سير طارقا وهو بالأندلس ففتح مدينة طليطلة والذي ذكره أهل الأندلس في تواريخهم ما تقدم ذكره.
576

ذكر عزل عمر بن عبد العزيز عن الحجاز
قيل وفي هذه السنة عزل الوليد عمر بن عبد العزيز عن الحجاز والمدينة.
وكان سبب ذلك أن عمرا كتب إلى الوليد يخبره بعسف الحجاج أهل العراق واعتدائه عليهم وظلمه لهم بغير حق فبلغ ذلك الحجاج فكتب إلى الوليد إن من عندي من المراق وأهل الشقاق قد جلوا عن العراق ولحقوا بالمدينة ومكة وإن ذلك وهن فكتب إليه الوليد يستشيره فيمن يوليه المدينة ومكة فأشار عليه بخالد بن عبد الله وعثمان بن حيان فولى خالد مكة وعثمان المدينة وعزل عمر عنهما.
فلما خرج عمر من المدينة قال إني أخاف أن أكون ممن نفته المدينة يعني بذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم تنفي خبثها.
وكان عزله عنها في شعبان ولما قدم خالد مكة أخرج من بها من أهل العراق كرها وتهدد من أنزل عراقيا أو أجره دارا واشتد على أهل المدينة وعسفهم وجار فيهم ومنعهم من إنزال عراقي وكانوا أيام عمر بن عبد العزيز كل من خاف الحجاج لجأ إلى مكة والمدينة.
وقيل إنما استعمل على المدينة عثمان بن حيان وقد تقدم سنه إحدى وتسعين ولاية خالد مكة في قول بعضهم.
577

ذكر عدة حوادث
في هذه السنة غزا العباس بن الوليد الروم ففتح سبسطية والمرزبانين وطرسوس وفيها غزا مروان بن الوليد فبلغ خنجره وفيها غزا مسلمة الروم أيضا ففتح ماسيسة وحصن الحديد وغزالة من ناحية ملطية وفيها أجدب أهل إفريقية فاستسقى موسى بن نصير فسقوا. وفيها كتب الوليد بن عبد الملك إلى عمر بن عبد العزيز قبل أن يعزله يأمره بضرب خبيب بن عبد الله بن الزبير ويصب على رأسه ماء باردا فضربه خمسين سوطا وصب عليه ماء باردا في يوم شات ووقفه غلى باب المسجد فمات من يومه.
(خبيب بضم الخاء المعجمة وباءين موحدتين بينهما ياء تحتهما نقطتان).
وحج بالناس هذه السنة عبد العزيز بن الوليد وكان على الأمصار من تقدم ذكرهم إلا المدينة فإن عاملها عثمان بن حيان قدمها في شوال لليلتين بقيتا منه وقد تقدم ذكر ولاية خالد بن عبد الله في سنة تسع وثمانين وفي سنة إحدى وتسعين قد ذكرنا أنه وليها هذه السنة.
وفيها مات أبو الشعثاء جابر بن زيد وأبو العالية البراء واسمه زياد بن فيروز وكان مولى لأعرابية من بني رياح وليس بأبي العالية الرياحي ذاك كان موته سنة تسعين وفيها مات بلال بن أبي الدرداء الأنصاري قاضي دمشق.
578

94
ثم دخلت سنة أربع وتسعين
ذكر قتل سعد بن جبير
قيل وفي هذه السنة قتل سعيد بن جبير.
وكان سبب قتله خروجه مع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث وكان الحجاج قد جعله على عطاء الجند حين وجه عبد الرحمن إلى رتبيل لقتاله فلما خلع عبد الرحمن الحجاج كان سعيد فيمن خلع فلما هزم عبد الرحمن ودخل بلاد رتبيل هرب سعيد إلى أصبهان فكتب الحجاج إلى عاملها بأخذ سعيد فخرج العامل من ذلك فأرسل إلى سعيد يعرفه ذلك ويأمره بمفارقته فسار عنه فأتى أذربيجان فطال عليه القيام فاغتم بها فخرج إلى مكة فكان بها هو وأناس أمثاله يستخفون فلا يخبرون أحد أسماءهم.
فلما ولي خالد بن عبد الله مكة قيل لسعيد إنه رجل سوء فلو سرت عن مكة فقال والله لقد فررت حتى استحييت من الله ويسيجيئني ما كتب الله لي فلما قدم خالد مكة كتب إليه الوليد بحمل أهل العراق إلى الحجاج فأخذ سعيد بن جبير ومجاهدا وطلق بن حبيب فأرسلهم إليه فمات طلق بالطريق وحبس مجاهد حتى مات الحجاج.
وكان سيرهم مع حرسين فانطلق أحدهما لحاجة وبقي الآخر، فقال
579

لسعيد وقد استيقظ من نومه ليلا يا أبا سعيد إني أبرأ إلى الله من دمك إني رأيت في منامي فقيل لي ويلك تبرأ من دم سعيد بن جبير فاذهب حيث شئت فإني لا أطلبك فأبى سعيد فرأى ذلك الحرسين مثل تلك الرؤيا ثلاثا ويأذن لسعيد في الذهاب وهو لا يفعل.
فقدموا به الكوفة فأنزل في داره وأتاه قراء الكوفة فجعل يحدثهم وهو يضحك وبنيه له في حجره فلما نظرت إلى القيد في رجله بكت، ثم أدخلوه على الحجاج فلما أتى به قال لعن الله ابن النصرانية يعني خالدا وكان هو أرسله أما كنت أعرف مكانه بلى والله والبيت الذي فيه بمكة ثم أقبل عليه فقال يا سعيد ألم أشركك في إمامتي ألم أفعل ألم أستعملك قال بلى قال فما أخرجك علي قال إنما أنا امرؤ من المسلمين يخطئ مرة ويصيب مرة فطابت نفس الحجاج ثم عاوده في شيء فقال إنما كانت بيعة في عنقي فغضب الحجاج وانتفخ وقال يا سعيد ألم أقدم مكة فقتلت الزبير وأخذت بيعة أهلها وأخذت بيعك لأمير المؤمنين عبد الملك قال بلى قال ثم قدمت الكوفة واليا فجددت البيعة فأخذت بيعتك لأمير المؤمنين ثانية قال بلى قال فتنكث بيعتين لأمير المؤمنين وتوفي بواحدة للحائك بن الحائك والله لأقتلنك قال إني إذا لسعيد كما سمتني أمي فأمر به فضربت رقبته فبدر رأسه عليه كمة بيضاء لاطئة فلما سقط رأسه هلل ثلاثا أفصح بمرة ولم يفصح بمرتين.
فلما قتل التبس عقل الحجاج فجعل يقول قيودنا قيودنا فظنوا أنه يريد القيود فقطعوا رجلي سعيد من أنصاف ساقية
وأخذوا القيود وكان الحجاج إذا نام يراه في منامه يأخذ بمجامع ثوبه فيقول يا عدو الله فيما قتلتني فيقول مالي ولسعيد بن جبير مالي ولسعيد بن جبير!
580

ذكر غزوة الشاش وفرغانة
في هذه السنة قطع قتيبة النهر وفرض على أهل بخارى وكش ونسف وخوارزم عشرين ألف مقاتل فساروا معه فوجههم إلى الشاش وتوجه هو إلى فرغانة فأتى خجندة فجمع له أهله فلقوه فاقتتلوا مرارا كل ذلك يكون الظفر للمسلمين ثم إن قتيبة أتى كاشان مدينة فرغانة وأتاه الجنود الذين وجههم إلى الشاش وقد فتحوها وأحرقوا أكثرها وانصرف إلى مرو وقال سحبان يذكر قتالهم بخجندة فقال:
(فسل الفوارس في خجندة * تحت مرهفة العوالي)
(هل كنت أجمعهم إذا * هزموا وأقدم في القتال)
(أم كنت أضرب هامة * العافي وأصبر للعوالي)
(هذا وأنت قريع قيس * كلها ضخم النوال)
(وفضلت قيسا في الندى * وأبوك في الحجج الخوالي)
(ولقد تبين عدل حكمك * فيهم في كل حال)
(تمت مروءتكم ونا * غى عزكم غلب الجبال)
581

ذكر عدة حوادث
في هذه السنة غزا العباس بن الوليد أرض الروم ففتح أنطاكية وفيها غزا عبد العزيز بن الوليد فبلغ غزالة وبلغ الوليد بن هشام المعيطي برج الحمام ويزيد بن أبي كبشة أرض سورية وفيها كانت الزلازل بالشام ودامت أربعين يوما فخربت البلاد وكان عظم ذلك أنطاكية.
وفيها افتتح القاسم بن محمد الثقفي أرض الهند وتوفي في هذه السنة علي بن الحسين في أولها ثم عروة بن الزبير ثم سعيد بن المسيب وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام واستقضى الوليد على الشام سليمان بن حبيب وحج بالناس مسلمة بن عبد الملك وقيل عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك وكان العامل بمكة خالد بن عبد الله وبالمدينة عثمان بن حيان وبمصر قرة بن شريك وبخراسان قتيبة من قبل الحجاج
582

95
ثم دخلت سنة خمس وتسعين
ذكر غزوة الشاش
قيل وفي هذه السنة بعث الحجاج جيشا من العراق إلى قتيبة فغزا بهم فلما كان بالشاش أو بكشماهان أتاه موت الحجاج في شوال منها فغمه ذلك وتمثل يقول:
(لعمري لنعم المرء من آل جعفر * بحوران أمسى أعلقته الحبائل)
(فإن تحيى لي أملك حياتي وان تمت * فما في حياة بعد موتك طائل)
ورجع إلى مرو وتفرق الناس فأتاه كتاب الوليد قد عرف أمير المؤمنين بلاءك وجدك واجتهادك [في جهاد] أعداء المسلمين وأمير المؤمنين رافعك وصانع بك الذي يجب لك فأتم مغازيك وانتظر ثواب ربك ولا تغيب عن أمير المؤمنين كتبك حتى كأني أنظر إلى بلائك والثغر الذي أنت فيه.
ذكر وفاة الحجاج بن يوسف
قيل إن عمر بن عبد العزيز ذكر عنده ظلم الحجاج وغيره من ولاة الأمصار أيام الوليد بن عبد الملك فقال الحجاج بالعراق والوليد بالشام،
583

وقرة بمصر وعثمان بالمدينة وخالد بمكة اللهم قد امتلأت الدنيا ظلما وجورا فأرح الناس فلم يمض غير قليل حتى توفي الحجاج وقرة بن شريك في شهر واحد ثم تبعهم الوليد وعزل عثمان وخالد واستجاب الله لعمر.
وما أشبه هذه القصة بقصة [ابن] عمر مع زياد ابن أبيه حيث كتب إلى معاوية يقول له قد ضبطت العراق بشمالي ويميني فارغة يعرض بامارة الحجاز فقال ابن عمر لما بلغه ذلك اللهم أرحنا من يمين زياد وأرح أهل العراق من شماله فكان أول خبر جاءه موت زياد.
وكانت وفاة الحجاج في شوال سنة خمس وتسعين وقيل كانت وفاته لخمس بقين من شهر رمضان وله من العمر أربع وخمسون سنة وقيل ثلاث وخمسون سنة وكانت ولايته العراق عشرين سنة ولما حضرته الوفاة استخلف على الصلاة ابنه عبد الله بن الحجاج واستخلف حرب الكوفة والبصرة يزيد بن أبي كبشة وعلى خراجهما يزيد بن مسلم فأقرهما الوليد بعد موته ولم يغير أحدا من عمال الحجاج.
ذكر نسبه وشئ من سيرته
هو الحجاج بن يوسف بن الحكم بن أبي عقيل بن عامر بن مسعود بن معتب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن ثقيف أبو محمد الثقفي.
584

قال قتيبة بن مسلم: خطبنا الحجاج فذكر القبر فما زال يقول أنه بيت الوحدة إنه بيت الغربة وبيت كذا وكذا حتى بكى وأبكى من حوله ثم قال سمعت أمير المؤمنين عبد الملك يقول سمعت مروان يقول في خطبته خطبنا عثمان فقال في خطبته ما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قبر أو ذكره إلا بكى وقد روى أحاديث غير هذا عن ابن عباس وأنس.
وقال ابن عوف: كنت إذا سمعت الحجاج يقرأ عرفت انه طالما درس القرآن وقال أبو عمرو بن العلاء ما رأيت أفصح من الحجاج ومن الحسن وكان الحسن أفصح وقال عبد الملك بن عمير قال الحجاج يوما من كان له بلاء فليقم فلنعطه على بلائه فقام رجل فقال أعطني على بلائي قال وما بلاؤك قال قتلت الحسين قال فكيف قتلته قال دسرته بالرمح دسرا بالرمح دسرا وهبرته بالسيف هبرا وما أشركت معي في قتله أحدا قال فإنك لا تجتمع أنت وهو في مكان واحد ثم قال اخرج ولم يعطه شيئا.
قيل: وكتب عبد الملك إلى الحجاج يأمره بقتل أسلم بن عبد البكري بشيء بلغه عنه فأحضره الحجاج فقال أمير المؤمنين غائب وأنت حاضر والله تعالى يقول: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) والذي بلغه عني باطل فاكتب إلى أمير المؤمنين إني أعول أربعا وعشرين امرأة وهن بالباب فأحضرهن فهذه أمه وهذه عمته وزوجته وابنته وكان في آخرهن جارية قاربت عشر سنين فقال لها: من أنت منه؟ قالت:
585

ابنته، أصلح الله الأمير! ثم أنشأت تقول:
(أحجاج لم تشهد مقام بناته * وعماته يندبنه الليل أجمعا)
(أحجاج لم تقتل به إن قتلته * ثمانا وعشرا واثنتين وأربعا)
(أحجاج من هذا يقوم مقامه * علينا فمهلا أن تزدنا نضعضعا)
(أحجاج إما أن تجود بنعمة * علينا وإما أن تقتلنا معا)
فبكى الحجاج وقال والله لا أعنت الدهر عليكن ولا زدتكن تضعضعا.
وكتب إلى عبد الملك بخبر الرجل والجارية فكتب إليه عبد الملك: إن كان الأمر كما ذكرت فأحسن صلته وتفقد الجارية ففعل.
وقال عاصم بن بهدلة: سمعت الحجاج يقول اتقوا الله ما استطعتم هذا والله مثنوية واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم ليس فيه مثنوية والله لو أمرتكم أن تخرجوا من هذا الباب فخرجتم من هذا حلت لي دماؤكم ولا أجد أحدا يقرأ على قراءة ابن أم عبد يعني ابن مسعود إلا ضربت عنقه ولا حكنها من المصحف ولو بضلع خنزير وقد ذكر ذلك عند الأعمش فقال وأنا سمعته يقول فقلت في نفسي لأقرأنها على رغم أنفك.
قال الأوزاعي قال عمر بن عبد العزيز لو جاءت كل أمة بخبيثها وجئنا بالحجاج لغلبناهم قال منصور سألنا إبراهيم الشجاعي عن الحجاج فقال ألم يقل الله: (ألا لعنة الله على الظالمين)؟ قال الشافعي: بلغني أن عبد الملك بن مروان قال للحجاج: ما من أحد إلا وهو عارف بعيوب نفسه فعب نفسك ولا تخبأ منها شيئا قال يا أمير المؤمنين أنا لجوج حقود. فقال له
586

عبد الملك: إذا بينك وبين إبليس نسب فقال الشيطان إن إذا رآني سالمني قال الحسن سمعت عليا على المنبر
يقول اللهم ائتمنتهم فخانوني ونصحتهم فغشوني اللهم فسلط عليهم غلام ثقيف يحكم في دمائهم وأموالهم بحكم الجاهلية فوصفه وهو يقول الزبال مفجر الأنهار يأكل خضرتها ويلبس فروتها قال الحسن هذه والله صفة الحجاج.
قال حبيب بن أبي ثابت: قال علي لرجل لا تموت حتى تدرك فتى ثقيف قيل له يا أمير المؤمنين ما فتى ثقيف قال ليقالن له يوم القيامة اكفنا زاوية من زوايا جهنم رجل يملك عشرين أو بضعا وعشرين سنة لا يدع لله معصية إلا ارتكبها حتى لو لم تبق إلا معصية واحدة وبينه وبينها باب مغلق لكسره حتى يرتكبها يقتل بمن أطاعه من عصاه.
وقيل: أحصي وقيل من قتله الحجاج صبرا فكانوا مائة ألف وعشرين ألفا. وقيل إن الحجاج مر بخالد بن يزيد بن معاوية وهو يخطر في مشيته فقال رجل لخالد من هذا قال خالد بخ بخ هذا عمرو بن العاص فسمعها الحجاج فرجع وقال والله ما يسرني أن العاص ولدني ولكني ابن الأشياخ من ثقيف والعقائل من قريش وأنا الذي ضربت بسيفي هذا مائة ألف كلهم يشهد أن أباك كان يشرب الخمر ويضمر الكفر ثم ولى وهو يقول بخ بخ عمرو بن العاص فهو قد اعترف في بعض أيامه بمائة ألف قتيل على ذنب واحد.
587

ذكر ما فعله محمد بن القاسم بعد موت الحجاج وقتله
لما مات الحجاج بن يوسف كان محمد بن القاسم بالملتان فأتاه خبر وفاته فرجع إلى الرور والبغرور وكان قد فتحها فأعطى الناس ووجه إلى البيلمان جيشا فلم يقاتلوا وأعطوا الطاعة وسأله أهل سرشت وهي مغزى أهل البصرة وأهلها يقطعون في البحر ثم أتى محمد الكيرج فخرج إليه دوهر فقاتله فانهزم دوهر وهرب وقيل بل قتل أهل المدينة على حكم محمد فقتل وسبى قال الشاعر:
(نحن قتلنا ذاهرا ودوهرا * والخيل تردى منسرا فمنسرا)
ومات الوليد بن عبد الملك وولي سليمان بن عبد الملك فولى يزيد بن أبي كبشة السكسكي السند فأخذ محمدا وقيده وحمله إلى العراق فقال محمد متمثلا:
(أضاعوني وأي فتى أضاعوا * ليوم كريهة وسداد ثغر)
فبكى أهل السند على محمد فلما وصل إلى العراق حبسه صالح بن عبد الرحمن بواسط فقال:
(فلئن ثويت بواسط وبأرضها * رهن الحديد مكبلا مغلولا)
(فلرب قينة فارس قد رعتها * ولرب قرن قد تركت قتيلا)
وقال:
(ولو كنت أجمعت الفرار لوطئت * إناث أعدت للوغى وذكور)
588

(وما دخلت خيل السكاسك أرضنا * ولا كان من عك علي أمير)
(وما كنت للعبد المشبول تابعا * فيا لك دهر بالكرام عثور)
فعذبه صالح في رجال من آل أبي عقيل حتى قتلهم وكان الحجاج قتل آدم أخا صالح وكان يرى رأي الخوارج وقال حمزة بن بيض الحنفي يرثي محمدا:
(ان المروءة والسماحة والندى * لمحمد بن القاسم بن محمد)
(ساس الجيوش لسبع عشرة حجة * يا قرب ذلك سؤددا من مولد)
وقال آخر:
(ساس الرجال لسبع عشر حجة * ولداته إذ ذاك في أشغال)
ومات يزيد بن أبي كبشة بعد قدومه أرض السند بثمانية عشر يوما واستعمل سليمان بن عبد الملك على السند حبيب بن المهلب فقدمها وقد رجع ملوك السند إلى ممالكهم ورجع جيشبة بن ذاهر إلى برهمناباذ فنزل حبيب على شاطئ مهران فأعطاه أهل الرور الطاعة وحارب قوما فظفر بهم.
ثم مات سليمان واستخلف عمر بن عبد العزيز فكتب إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام والطاعة على أن يملكهم ولهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم فأسلم جيشبة والملوك وتسموا بأسماء العرب.
وكان عمرو بن مسلم الباهلي عامل عمر على ذلك الثغر فغزا بعض الهند فظفر ثم إن الجنيد بن عبد الرحمن ولي السند أيام هشام بن عبد الملك فأتى الجنيد شط مهران فمنعه جيشبة بن ذاهر العبور وأرسل إليه: أني قد
589

أسلمت وولاني الرجل الصالح بلادي ولست آمنك. فأعطاه رهنا وأخذ منه رهنا على خراج بلاده ثم ترادا وكفر جيشبة وحارب وقيل أنه لم يحارب ولكن الجنيد تجنى عليه فأتى الهند فجمع جموعا وأعد السفن واستعد للحرب فسار إليه الجنيد بالسفن فالتقوا في بطيخة فأخذ جيشبة أسيرا وقد جنحت سفينته فقتله الجنيد وهرب صصه من ذاهر وهو يريد أن يمضي إلى العراق فيشكو غدر الجنيد فلم يزل الجنيد يؤنسه حتى وضع يده في يده فقتله.
وغزا الجنيد الكيرج وكانوا قد نقضوا فاتخذ كشبا وصك بها سور المدينة فثلمه ودخلها فقتل وسبى ووجه العمال إلى المرمذ والمندل ودهنج ويرونج وكان الجنيد يقول القتل في الجزع أكبر منه في الصبر. ووجه جيشا إلى أزين فأغاروا عليها وحرقوا ربضها وفتح البيلمان وحصل عنده سوى ما حمل أربعين ألف ألف وحمل مثلها وولى الجنيد تميم بن زيد القيني فضعف ووهن ومات قريبا من الديبل.
وفي أيامه خرج المسلمون عن بلاد الهند ورفضوا مراكزهم ثم ولى الحكم بن عوام الكلبي وقد كفر أهل الهند إلا أهل قصة فبنى مدينة سماها المحفوظة وجعلها مأوى للمسلمين وكان معه عمرو بن محمد بن القاسم وكان يفوض إليه عظيم الأمور فأغزاه من المحفوظة فلما قدم عليه وقد ظفر أمره فبنى مدينة وسماها المنصورة فهي التي ينزلها الأمراء واستخلص ما كان قد غلب عليه العدو ورضي الناس بولايته وكان خالد القسري يقول واعجبا وليت فتى العرب يعني تميما فرفض وترك ووليت أبخل العرب فرضي به ثم قتل الحكم وكان العمال يقاتلون العدو فكانوا يفتتحون ناحية ويأخذون ما تيسر لهم لضعف الدولة الأموية بعد ذلك إلى أن جاءت الدولة المباركة العباسية ونحن نذكر إن شاء الله أيام المأمون بقية أخبار السند.
590

ذكر عدة حوادث
في هذه السنة غزا العباس بن الوليد الروم ففتح هرقلة وغيرها. وفيها فتح آخر الهند إلا الكيرج والمندل. وفي هذه السنة افتتح العباس بن الوليد قنسرين. وفيها قتل الوضاحي بأرض الروم ونحو ألف رجل معه وفيها ولد المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس.
وحج بالناس هذه السنة بشير بن الوليد بن عبد الملك وكان عمال الأمصار من تقدم ذكرهم.
وفيها مات أبو عثمان النهدي اسمه عبد الرحمن بن مل وكان عمره مائة وثلاثين سنة وقيل في موته غير ذلك وفيها مات سعد بن أياس أبو عمرو الشيباني وله مائة وعشرون سنة. وفي إمارة الحجاج مات سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي هذه السنة مات سالم بن أبي الجعد وفيها مات جعفر بن عمرو بن أمية الضمري وهو أخو عبد الله بن مروان من الرضاعة وفي إمارة الحجاج قتل أبو الأحوص عوف بن مالك بن نضلة الجشمي الكوفي، قتله الخوارج.
تم المجلد الرابع
591