الكتاب: العثمانية
المؤلف: الجاحظ
الجزء:
الوفاة: ٢٥٥
المجموعة: مصادر التاريخ
تحقيق: تحقيق وشرح : عبد السلام محمد هارون
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة: دار الكتاب العربي - مصر
الناشر: مكتبة الجاحظ
ردمك:
ملاحظات:

مكتبة الجاحظ
أبى عثمان عمرو بن بحر الجاحظ
بتحقيق وشرح
عبد السلام محمد هارون
الكتاب الثالث
العثمانية
1374 ه‍ = 1955 م
مطابع
دار الكتاب العربي بمصر
محمد حلمي المنياوي
تعريف الكتاب 1

بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم إنا نعوذ بك من فتنة العجب كما نعوذ بك من فتنة الأشر،
ونعوذ بك من شر الحاسد كما نعوذ بك من ريب الصاحب، وقديما
ما تعوذوا بالله من كيدهما، وتوجهوا إلى الله في السلامة منهما. قال الله
عز وجل: " ومن شر حاسد إذا حسد " وقال حكيم: " اللهم اكفني
شر أصدقائي، وأما أعدائي فقد عرفتهم ".
سألتني - أيدك الله - أن أبعث لك فيما أبعث - كتاب
أبى عثمان في " العثمانية "، وقلت: إنه كتاب نادر الأصل، عزيز
المنصب، وأنك كنت لم تسمع به من قبل، وأن غيرك من الناس
كثير لم يعلموا به ولم يقرع لهم سمعا، إلا ما ظهر لهم أخيرا في مناقصة
الإسكافي له، وذلك في جمهرة من رسائل بعثها أديب كريم فيما يبعث
الناس من هذا النتاج العربي الخالد.
وقد كنت على أن أسرع في إجابة طلبتك، وأن أبدر إلى تلبية
هذه الرغيبة، فقد زعمت لك من قبل أنني نصبت نفسي لهذا الصنيع،
ودعوت الله أن ينسأ في الاجل عسى أن أبذل لأبي عثمان من الوفاء كفء
ما بذله هو للإنسانية من وفاء بها وبر عظيم.
وكان ما صنع الله من عون في بعث كتابي " الحيوان " و " البيان "
على وجه أراه قد أرضى جمهورا صالحا من المنصفين، وأسخط قلة نادرة
من الشنأة الحاسدين.
مقدمة المحقق 3

وقد حال دون مبادرتي لاسعافك ما يحول بين المرء وأمانيه الجسام،
من حادث الدهر وعوادي أيامه، وقد كنت أخشى أن يستبد بك الجزع
بعد هذه المماطلة، ولكنك صبرت وصبرت، فجزيتك في نفسي خيرا،
حتى شاء الله أن يتم هذا الكتاب - وهو كتاب عجب - بعد لأي
شديد، ومصابرة طال بها الأمد.
وعسى أن تغفر لي - حفظك الله - ما زل به القلم، أو أخطأ
القلب، وهو مالم أتعمده إن شاء الله، فإنك بالغفران حرى،
وبالصفح جدير.
مقدمة المحقق 4

تقديم
العثمانية:
هم أنصار عثمان بن عفان رضي الله عنه، والمحتجون لفضله، المناضلون عنه،
الدافعون مطاعن المخالفين فيه من الشيعة والزيدية وأضرابهم، عرفوا قديما بهذا
الاسم، وهم فرع من " العمرية " أصحاب عمر بن الخطاب، كما تدل على ذلك إشارة
الجاحظ في قوله: " ثم أوصى إليه عثمان بن عفان، وهو أصل العمرية والعثمانية "،
وكما قرن بين الطائفتين ابن النديم في أثناء أخبار الجهمي: " ووقع بينه وبين قوم
من العمريين والعثماني شر ". وقال الجاحظ في حكاية قول العثمانية: " ولا نقول فيه
إذ كنا عثمانية وعمرية، قولكم في عمر وعثمان ".
وكانت العثمانية أشد الفرق الاسلامية السياسية خلافا على علي بن أبي طالب
كرم الله وجهه، كما كانت الشيعة أشد الناس لهم عداوة.
وكان اتجاه الشيعة في طعنهم على عثمان أن يطعنوا في أسلافه: أبى بكر وعمر،
وتشتد حملتهم على أبى بكر خاصة، لأنه أعلى الثلاثة الخلفاء الراشدين شأنا وأظهرهم
مناقب، ولهذا السبب نفيه فيما أرى اتجهت أفكار العثمانية إلى أن تعلى من شأن
أبى بكر وتلتمس له من المناقب ما ترى فيه انتصارا على الشيعة وإفحاما لهم. فيقولون (1):
" إن أفضل هذه الأمة وأولاها بالإمامة أبو بكر بن أبي قحافة... وكان أول
ما دلهم عند أنفسهم على فضيلته وخاصة منزلته وشدة استحقاقه إسلامه على الوجه
الذي لم يسلم عليه أحد في عالمه وفى عصره ".
ويذهبون إلى المزانة بين فضائله وفضائل على:

(1) العثمانية ص 3.
مقدمة المحقق 5

فصحبة أبى بكر للرسول في الغار أظهر فضلا من مبيت على في الفراش (1).
وقد ظفر من النبي بلقب الصديق، وهو مالم يظفر بمثله على (2). وهو كذلك
قد انفرد بالرسول في العريش (3)، وقدمه النبي في الحديبية (4) وسايره الرسول وحده
يوم فتح مكة (5)، وأنزل فيه من القرآن ما لم ينزل في أحد من الصحابة (6). وقد نال
فضلا عظيما بإمامته الناس في مرض النبي صلى الله عليه وسلم (7) وكان هو إماما
لعلى (8) وكان المحكم في موضع دفن الرسول (9). وهو الذي تدارك الأمة بحزمه
بعد وفاة الرسول (10).
وأما الشيعة فيجعلون إسلام على فوق إسلام أبى بكر (11). وعلى كان أفقه من
أبى بكر (12) وكان على يتصدق وهو في الصلاة (13). وفيه وفى ابنيه أنزلت سورة
كاملة من القرآن (14). وله يقول الرسول: " أنت منى كهارون من موسى (15) ".
وقد كان على مواخيا للرسول (16). وقد أسر إليه بعلم ما كان وما سيكون (17).
ويقولون: نحن نطعن في صلاة أبى بكر بالناس (18). وخلافة أبى بكر كانت
بغير إجماع (19) ويقولون بكفر من أنكر إمامة على (20) ويقولون: كان بلال وعمار
ابن ياسر يطعنان على أبى بكر وعمر (21). ويرمون أبا بكر وعثمان بالجبن (22) والمفاخر
التي يدعيها العثمانية لأبي بكر مدحوضة كاذبة (23). وأما مطاعن العثمانية في علي فإنها
واهية مردودة (24).

(1) العثمانية 42. (2) ص 123، 128.
(3) ص 35. (4) ص 70.
(5) ص 72. (6) ص 99، 100، 112، 115.
(7) ص 130، 164، 165. (8) ص 129.
(9) ص 83. (10) ص 184، 199.
(11) ص 5، 18، 20. (12) ص 84،
(13) ص 119. (14) ص 116.
(15) ص 153، 158. (16) ص 161.
(17) ص 243. (18) ص 170.
(19) ص 172. (20) ص 225.
(21) ص 180، 182. (22) ص 242.
(23) ص 238. (24) ص 239.
مقدمة المحقق 6

وقد جعل الجاحظ نفيه حكما بين هذه المطاعن والمناقضات. ولم يستطيع أن
بكتم ما في نفسه من التحامل على الشيعة، كما لم يستطع أن يكذب على التاريخ فيسلب
عليا رضوان الله عليه جمهور مناقبه العالية، بل هو يجهر بتمجيده لعلى كرم الله
وجهه، ويحمل شيعة على تبعة هذه المهاترات، فيقول:
" وليس أنه - أي على - لم يكن في طبعه النجدة والشهامة، وفى غريزته
الدفع والحماية (1) ".
" ولم نرد بهذا الكلام تنقص على رحمه الله، ولا إخراجه من الغناء واحتمال
المكروه (2) ".
" والعجب إن كان كما تزعمون، كيف لم يبصق على أبى موسى فيجذمه، أو على
جيش صفين فيهزمه؟! بل كان على أظهر سلما، وأرجح وأشد ورعا،
وأكثر فقها وأبين فضلا، من أن يدعى هذا وشبهه (3).
ومدار الكلام في هذا كله على " الإمامة " فالنزاع بين الفريقين يطوف ما يطوف
ثم يأوى إلى هذا المعنى الديني السياسي.
وفى ذلك يقول الجاحظ (4): " ولكن كتابي هذا لم يوضع إلا في الإمامة.
ولربما ذكرت من المقالة والملة والنحلة التي تعرض في الإمامة صدرا، طلبا للتمام
وتعريفا لوجوه الإمامة وما دخل فيها ".
متى ألف الجاحظ كتاب العثمانية:
نستطيع أن نجعل حدا لتأليف هذا الكتاب قبل سنة 240، وهى السنة التي
توفى فيها أبو جعفر الإسكافي (5). فقد ذكر ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة أن
أبا جعفر الإسكافي نقض كتاب العثمانية على أبى عثمان الجاحظ (في حياته). وذكر

(1) العثمانية ص 30 (2) ص 48.
(3) ص 153. (4) ص 206.
(5) تاريخ بغداد 5: 416 ومروج الذهب 3: 254 وابن أبي الحديد 4: 159.
مقدمة المحقق 7

أيضا أن الجاحظ دخل سوق الوراقين ببغداد فقال: من هذا الغلام السوادي الذي
بلغني أنه تعرض لنقض كتابي؟ وأبو جعفر جالس، فاختفى منه حتى لم يره.
وقد ألف كتابه هذا قبل كتاب " العباسية " قال في العثمانية (1): " وسنخبر
عن مقالة العباسية ووجوه احتجاجهم بعد فراغنا من مقالة العثمانية ".
وألفه كذلك قبل كتاب المعرفة (3) وقبل كتاب الحيوان، فهو يقول في مقدمة
الحيوان (3): " وعبتني بحكاية قول العثمانية والضرارية (4)، وأنت تسمعني أقول في
أول كتابي: وقالت العثمانية والضرارية، كما سمعتني أقول: قالت الرافضة والزيدية،
فحكمت على بالنصب لحكايتي قول العثمانية، فهلا حكمت على بالتشيع لحكايتي
قول الرافضة ".
تحقيق اسم الكتاب:
إن نسخة الأصل لم يثبت على ظاهرها عنوان خاص، ولكنها تحمل في ظاهرها
خاتم مكتبة كوبر بلى ورقم 815 وسماها المفهرسون: " جمل جوابات العثمانية بجمل
مسائل الرافضة والزيدية " اقتباسا من عبارة وردت في أواخر هذه النسخة
(ص 289 س 6).
والحق أن اسم هذا الكتاب هو " كتاب العثمانية " عرفه بذلك ابن أبي
الحديد (5).

(1) ص 187. (2) ص 261.
(3) الحيوان 1: 11.
(4) هؤلاء أتباع ضرار بن عمرو صاحب مذهب الضرارية من فرق الجبرية. وكان في أول
أمره تلميذا لواصل بن عطاء المعتزلي، ثم خالفه في خلق الأعمال، وإنكار عذاب القبر.
الاعتقادات للرازي 69 والفرق 201. ويحكى عن ضرار أنه كان ينكر حرف عبد الله بن مسعود
وحرف أبي بن كعب ويقطع بأن الله لم ينزله. الملل والنحل 1: 115. قال أحمد بن حنبل:
شهدت على ضرار عند سعيد بن عبد الرحمان الجمحي القاضي، فأمر بضرب عنقه فهرب. وقيل
إن يحيى بن خالد البرمكي أخفاه. لسان الميزان 3: 203. ومن الواضح أن حكاية قول
الضرارية كان في كتاب آخر غير كتاب العثمانية.
(5) شرح نهج البلاغة 3: 253 / 4: 159.
مقدمة المحقق 8

وعلى هذه التسمية صنع أبو جعفر الإسكافي كتابه الذي سماه " نقض
العثمانية (1) ".
ويقول المسعودي في مروج الذهب (2): "
" وقد صنف أيضا كتابا استقصى فيه الحجاج عند نفسه وأيده بالبراهين،
وعضده بالأدلة فيما تصوره من عقله، ترجمه بكتاب العثمانية، يحل (؟) فيه عند
نفسه فضائل علي عليه السلام ومناقبه، ويحتج فيه لغيره، طلبا لإماتة الحق،
ومضادة لأهله. والله متم نوره ولو كره الكافرون ".
ثم يقول: " ثم لم يرض بهذا الكتاب المترجم بكتاب العثمانية حتى أعقبه
بتصنيف كتاب آخر في إمامة المروانية وأقوال شيعتهم، ورأيته مترجما بكتاب
إمامة أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان في الانتصار له من علي بن أبي طالب رضى
عنه وشيعة الرافضة، يذكر فيه رجال المروانية، ويؤيد فيه إمامة بنى أمية وغيرهم ".
ويقول بعد ذلك: " ثم صنف كتابا آخر ترجمه بكتاب مسائل العثمانية، يذكر
فيه ما فاته ذكره ونقضه عند نفسه من فضائل أمير المؤمنين على ومناقبه
فيما ذكرنا ".
والراجح أن كلمة " العثمانية " في النص الأخير محرفة عن " العباسية " وذلك
لان " مسائل العباسية " هو الكتاب الذي وعد به الجاحظ في أثناء كتاب
العثمانية وفى ختامه.
يقول في الموضع الأول (3): " وسنخبر عن مقالة العباسية ووجوه احتجاجهم
بعد فراغنا من مقالة العثمانية ".
وفى الموضع الثاني (4): " ونحن مبتدئون في كتاب المسائل " يعنى بذلك
" مسائل العباسية ".

(1) شرح نهج البلاغة 3: 253 (التي وردت خطأ مطبعيا بعد ص 256).
(2) مروج الذهب 3: 253.
(3) ص 187. (4) ص 280.
مقدمة المحقق 9

قدر الكتاب:
لو لم يكن من قدر هذا الكتاب إلا أنك تقرأ من قلم الجاحظ ثمانين صفحة
ومائتين لكفى ذلك فضلا له، فإن ما كتبه الجاحظ في كتابيه " الحيوان "
و " البيان والتبين " يعد بالنسبة إلى النصوص والنقول التي حشدها في ذينك
الكتابين شيئا ليس بالغالب. وأما العثمانية فهي صوغ كريم للجاحظ. ومتاع
لدارس المسائل الدينية، والقضايا التاريخية والسياسية التي نجمت في فجر الاسلام
وأوائل الدول الاسلامية. وهو كذلك معرض كبير للجدال والحجاج الفكري
في عصر من أزهى العصور الاسلامية الأولى.
نقض العثمانية:
ظهر كتاب العثمانية في زمان كثر فيه الجدال والنزاع حول العصبية الدينية
والسياسية، وكان المعتزلة في أوج قوتهم ونشاطهم. ويبدو كذلك أن الحرية
الفكرية لم تكن تلقى من القيود ما يكفكف من غربها. فالجاحظ نفسه يقول
في العثمانية (1) معبرا عن زوال التقية وانطلاق الفكر بقوله:
" ولو لم أكن على ثقة من ظهور الحق على الباطل لم استحل كتمانه مع زوال
التقية، وصلاح الدهر، وإنصاف القيم ".
لذلك وجدنا العثمانية تلقى من ينقضها في حياة الجاحظ. ومن العجب أن الذي
ينقض العثمانية وهو شيخ من شيوخ المعتزلة البغداديين ورؤسائهم. وأهل الزهد
والديانة منهم، ممن يذهب إلى تفضيل علي عليه السلام، وإلى القول بإمامة المفضول
كما يقول المسعودي (2)، وذلك الناقض هو أبو جعفر محمد بن عبد الله الإسكافي.
وقد عده قاضى القضاة (3) في الطبقة السابعة من المعتزلة، مع عباد بن سليمان الصيمري،

(1) العثمانية ص 154.
(2) مرج الذهب 3: 253 - 254.
(3) هو أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار الهمذاني الاسترآباذي. كان شيخ المعتزلة
في عصره، وهم يلقبونه قاضى القضاة. ولا يطلقون هذا اللقب على غيره. ومات بالري سنة
415، تاريخ بغداد 11: 113 والرسالة المستطرفة 120.
مقدمة المحقق 10

وزرقان، وعيسى بن الهيثم. كما جعل أول هذه الطبقة ثمامة بن أشرس،
ثم أبا عثمان الجاحظ، ثم أبا موسى عيسى بن صبيح المردار، ثم أبا عمران يونس
ابن عمران، ثم محمد بن إسماعيل العسكري، ثم عبد الكريم بن روح العسكري،
ثم يوسف بن عبد الله الشحام، ثم أبا الحسين الصالحي، ثم صالح قبة، ثم الجعفران:
جعفر بن جرير، وجعفر بن ميسر، ثم أبا عمران بن النقاش، ثم أبا سعيد أحمد
ابن سعيد الأسدي، ثم عباد بن سليمان، ثم أبا جعفر الإسكافي هذا.
وقال: كان أبو جعفر فاضلا عالما، وصنف (سبعين كتابا) في علم الكلام.
وهو الذي نقض كتاب العثمانية على أبى عثمان الجاحظ (في حياته). ودخل
الجاحظ الوراقين ببغداد فقال: من هذا الغلام السوادي الذي بلغني أنه تعرض
لنقض كتابي؟! وأبو جعفر جالس، فاختفى منه حتى لم يره.
وكان أبو جعفر يقول (بالتفصيل) على قاعدة معتزلة بغداد ويبالغ في ذلك.
وكان علوي الرأي محققا منصفا قليل العصبية (1).
ولتوضيح هذا النص الأخير نورد ما ذكره ابن أبي الحديد في صدره كلامه
في شرح نهج البلاغة، إذ يقول (2).
" القول فيما يذهب إليه أصحابنا المعتزلة في الإمامة، والتفضيل، والبغاة،
والخوارج:
اتفق شيوخنا كافة - رحمه الله - المتقدمون منهم والمتأخرون، والبصريون
والبغداديون، على أن بيعة أبى بكر الصديق صحيحة شرعية، وأنها لم تكن عن نص،
وإنما كانت بالاختيار، الذي ثبت بالاجماع وبغير الاجماع كونه طريقا إلى الإمامة.
واختلفوا في (التفضيل) فقال قدماء البصريين كأبى عثمان عمرو بن عبيد،
وأبي إسحاق إبراهيم بن سيار النظام، وأبى عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، وأبى معن

(1) ابن أبي الحديد 4: 159.
(2) ابن أبي الحديد 1: 3.
مقدمة المحقق 11

ثمامة بن أشرس، وأبى محمد هشام بن عمرو الفوطي، وأبى يعقوب يوسف بن عبد الله
الشحام. وجماعة غيرهم، أن أبا بكر أفضل من علي عليه السلام، وهؤلاء يجعلون
ترتيب الأربعة في الفضل كترتيبهم في الخلافة.
وقال البغداديون قاطبة قدماؤهم ومتأخروهم كأبى سهل بشر بن المعتمر، وأبى
موسى عيسى بن صبيح. وأبى عبد الله جعفر بن مبشر وأبى جعفر الإسكافي،
وأبى الحسين الخياط، وأبى القاسم عبد الله بن محمود البلخي وتلامذته، أن عليا عليه
السلام أفضل من أبى بكر. وإلى هذا المذهب ذهب من البصريين أبو علي محمد بن
عبد الوهاب الجبائي أخيرا. وكان من قبل من المتوقفين، كان يميل إلى التفضيل
ولا يصرح به، وإذا صنف ذهب إلى الوقف في مصنفاته. وقال في كثير من
تصانيفه: إن صح خبر الطائر (1) فعلى أفضل.
ثم إن قاضى القضاة رضي الله عنه ذكر في شرح المقالات لأبي القاسم البلخي
أن أبا على (2) رضي الله عنه، يوم مات، استدنى ابنه هاشم إليه، وكان قد ضعف
عن رفع الصوت، فألقى إلى أشياء، من جملتها القول بتفضيل علي عليه السلام.
وممن ذهب من البصريين إلى تفضيله عليه السلام الشيخ أبو عبد الله الحسين
ابن علي البصري رضي الله عنه، كان متحققا بتفضيله. ومبالغا في ذلك، وصنف
فيه كتابا مفردا.
وممن ذهب إلى تفضيله عليه السلام من البصريين قاضى القضاة أبو الحسن
عبد الجبار بن أحمد رضي الله عنه. ذكر ابن متويه عنه، في كتاب الكفاية في علم
الكلام، أنه كان من المتوقفين بين علي عليه السلام وأبى بكر، ثم قطع على تفضيل
علي عليه السلام، بكامل المنزلة.
ومن البصريين الذاهبين إلى تفضيله عليه السلام أبو محمد الحسن بن متويه صاحب

(1) انظر العثمانية ص 149 - 150.
(2) يعنى أبا على محمد بن الوهاب الجبائي.
مقدمة المحقق 12

التذكرة، نص في كتاب الكفاية على تفضيله عليه السلام على أبى بكر، واحتج
لذلك وأطال في الاحتجاج.
فهذان المذهبان كما عرفت. وذهب كثير من الشيوخ رحمهم الله إلى التوقف
فيهما، وهو قول أبى حذيفة واصل بن عطاء، وأبى الهذيل محمد بن الهذيل العلاف
من المتقدمين. وهما وإن ذهبا إلى الوقف بينه عليه السلام وبين أبى بكر وعمر، قاطعان
على تفضيله على عثمان.
ومن الذاهبين إليها لوقف الشيخ أبو هاشم عبد السلام بن أبي على رحمهما الله،
والشيخ أبو الحسن محمد بن علي بن الطيب البصري رضي الله عنه.
وأما نحن فنذهب إلى ما يذهب إليه شيوخنا البغداديون من تفضيله عليه السلام.
وقد ذكرنا في كتبنا الكلامية ما معنى الأفضل؟ وهل المراد به الأكثر ثوابا
أم الاجمع لمزايا الفضل والخلال الحميدة؟ وبينا أنه عليه السلام أفضل، على
التفسيرين معا... ".
فهذه الوثيقة النادرة بين لنا مدى العلاقة بين التشيع والاعتزال، وتعلل
لنا بعض الدوافع التي حدت بالجاحظ أن يصنع كتاب العثمانية.
وكتب " نقض العثمانية " من الكتب التي انقرضت. ولم يبق منه إلا
نصوص متناثرة في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (1)، الذي طبع للمرة الأولى
في طهران سنة 1270 ثم في مصر سنة 1290، 1329.
وقد أفرد الأستاذ حسن السندوبي هذه النصوص في كتابه " رسائل الجاحظ "
المطبوع في القاهرة سنة 1352 وجاء بها على ترتيبها الذي وجدت عليه في شرح
نهج البلاغة، بعد أن أفرد نصوص العثمانية التي نقضها أبو جعفر الإسكافي
على ترتيبها في ذلك الشرح.

(1) هو عز الدين عبد الحميد بن هبة الله بن محمد بن محمد بن أبي الحديد المدائني المعتزلي، الفقيه
الشاعر. ولد سنة 576 وتوفى سنة 655. فوات الوفيات.
مقدمة المحقق 13

وذلك أن ابن أبي الحديد يسوق النص من العثمانية ثم يعقب عليه بمناقضة
أبى عثمان نصا بنص. ولكن الأستاذ السندوبي أفرد الأولى جميعها، ثم أفرد
الأخرى جميعها كذلك.
وقد وجدت أن النصوص التي أوردها ابن أبي الحديد من العثمانية تدور حول
مواضع لا تتجاوز اثنتين وستين صفحة من صدر العثمانية فحسب (1)، ووجدت
أن التعقيب عليها في أسفل الصفحات بمناقضات أبى جعفر يخل بالوضع الذي يجب
أن يخرج عليه السلام. فوضعت إشارات بالنجوم في الأصل وأشرت في الحواشي
إلى أرقام المناقضات التي تقابلها والتي أفردتها وحدها بعد نهاية نص العثمانية.
ولم أشأ أن أعتمد على النسخة المطبوعة المتداولة من شرح ابن أبي
الحديد، وهى طبعة سنة 1329 فرجعت إلى المخطوطة الكاملة المودعة برقم 576 أدب،
وقابلت نصها بنص النسخة المطبوعة، التي أشرت إليها بالرمز " ط "
وقد لحظت أن النصوص التي رودها ابن أبي الحديد من العثمانية لا تطابق
الأصل مطابقة تامة. بل يتصرف فيها بالاختصار (2) مع أن ابن أبي الحديد

(1) علل ذلك ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 3: 253 بما يلي:
" وينبغي أن يذكر في هذا الموضع ملخص ما ذكره الشيخ أبو عثمان الجاحظ في كتابه
المعروف بكتاب العثمانية في تفضيل إسلام أبى بكر على إسلام علي عليه السلام، لان هذا الموضع
يقتضيه، لقوله عليه السلام حكاية عن قريش لما صدق رسول الله صلى الله عليه وآله: وهل
يصدقك في أمرك إلا مثل هذا! لانهم استصغروا سنه فاستحقروا أمر محمد صلى الله عليه وآله،
حيث لم يصدقه في دعواه إلا غلام صغير السن. وشبهة العثمانية التي قررها الجاحظ من هذه
الشبهة نشأت، ومن هذه الكلمة تفرعت، لان خلاصتها أن أبا بكر أسلم وهو ابن أربعين
سنة، وعلى أسلم ولم يبلغ الحلم، فكان إسلام أبى بكر أفضل. ثم نذكر ما اعترض به شيخنا
أبو جعفر الإسكافي على الجاحظ في كتابه المعروف بنقض العثمانية. ويتشعب الكلام بينهما حتى
يخرج عن البحث في الاسلامين إلى البحث في أفضلية الرجلين وخصائصهما فإن ذلك لا يخلو عن
فائدة جليلة، ونكتة لطيفة، لا يليق أن يخلو كتابنا هذا عنهما، ولان كلامهما بالرسائل والخطابة
أشبهه، وفى الكتابة أقصد وأدخل. وكتابنا هذا موضوع لذكر ذلك وأمثاله ".
(2) بلغ أن أوجزت صفحتان منه في نحو ثلاثة أسطر. قابل بين ص 27 - 3 س 6
وأصل المناقضة رقم 6 في ابن أبي الحديد 3: 267.
مقدمة المحقق 14

نفسه ينعى على الذين يصنعون ذلك في اقتباس النصوص. قال يعيب المرتضى
في ذلك (1):
" والمرتضى رحمه الله لا يورد كلام قاضى القضاة بنصه، وإنما يختصره ويورده
مبتورا، ويومئ إلى المعاني لطيفا، وغرضه الايجاز. ولو أورد كلام قاضى
القضاة بنصه لكان أليق، وكان أبعد عن الظنة، وأدفع لقول قائل من خصومه:
إنه يحرف كلام قاضى القضاة ويذكره على غير وجهه. ألا ترى أن من نصب
نفسه لاختصار كلام فقد ضمن على نفسه أنه قد فهم معاني ذلك الكلام حتى يصح
منه اختصاره. ومن الجائز أن يظن أنه قد فهم بعض المواضع ولم يكن قد فهمه
على الحقيقة، فيختصر ما في نفسه لا ما في تصنيف ذلك الشخص. وأما من
يورد كلام الناس بنصه فقد استراح من هذه التبعة، وعرض عقل غيره
وعقل نفسه على الناظرين والسامعين ".
لكن الذي يهون من هذه الامر أن ابن أبي الحديد نفسه يذكر في صراحة
أنه إنما يسوق ملخصا لكلام الجاحظ، قال (2): " وينبغي أن يذكر في هذا الموضع
ملخص ما ذكره الشيخ أبو عثمان الجاحظ في كتابه المعروف بكتاب العثمانية ".
ولهذا السبب لم أر داعيا لذكر النص الذي نقله ابن أبي الحديد من العثمانية.
وإنما استعنت به في تحقيق نص الكتاب، ورمزت له بالرمز " ح ".
ومما هو جدير بالذكر أن تلك المناقضات قد وردت عند ابن أبي الحديد
غير مرتبة وغير مسايرة لمجرى الكتاب، فترتيبها هناك على هذا النسق:
المناقضات 1، 2، 3، 4، 5، 6، 14، 15، 17، 18، 28، 16،
29، 7، 8، 9، 10، 11، 12، 13، 19، 20، 21، 22، 23، 24،
25، 26، 27.

(1) شرح نهج البلاغة 4: 175.
(2) شرح نهج البلاغة 3: 253 التي وقعت خطأ بعد 256.
مقدمة المحقق 15

لكني غيرت هنا نسقها الذي وردت عليه لتساير نصوص العثمانية على
ترتيبها المطرد.
أصول كتاب العثمانية:
لم يكن هذا الكتاب معروفا، عرف معرفة تاريخية فحسب، ولم تنشر المطبعة
إلا الفصول التي أوردها ابن أبي الحديد، وما إن علمت بأن معهد المخطوطات للجامعة
العربية قد اجتلب صورة منه، حتى بادرت إلى طلب صورة منها، تمهيدا لنشره
في " مكتبة الجاحظ " التي بدأت العمل في تحقيقها سنة 1357.
وأصل هذه النسخة مودع في مكتبة كوبر بلى بتركيا برقم 815. وهى نسخة
مجهولة التاريخ توشك أن تكون من مخطوطات القرن السادس الهجري. ومع
جودة خطها هي كثرة التحريف. ومع هذا التحريف نجد منهج كتابتها خاضعا
لمنهج الأقدمين من وضع علامات لاهمال الحروف مثل (7) أو تقييدها وضبطها
مثل (ح) و (ع). وكثيرا ما يترك الناسخ إعجام بعض الحروف مثل (برى)
و (بدا) ثقة بذهن القارئ أو مطاوعة لأصل نسخته.
وهذه النسخة هي التي عبرت عنها في الحواشي بكلمة (الأصل).
أما النسخة الثانية فهي مقتطفات من " العثمانية " وردت في مجموعة عنوانها
" مختارات فصول الجاحظ " من اختيار عبيد الله بن حسان. كتبت هذه النسخة
سنة 1294 باسم خزانة مسيو كريمر النمساوي.
وأصل هذه المجموعة محفوظ في مكتبة المتحف البريطاني برقم 1129، وصورتها
مودعة بمكتبة جامعة القاهرة برقم 24069. ويبدأ الاختيار فيها من العثمانية
في الورقة 161.
وهذه الفصول المختارة من العثمانية لم ترد في المختارات المطبوعة في مصر
بهامش كامل البرد.
مقدمة المحقق 16

وقد تضمنت هذه الفصول أربعة اختيارات.
الأول يبدأ من أول العثمانية وينتهى إلى س 40 من ص 18.
والثاني من س 16 ص 35 إلى س 7 من ص 37.
والثالث من ص 12 ص 39 إلى س 3 من ص 41.
والرابع من س 8 ص 250 إلى س 9 من ص 257.
وقد رمزت لهذه النسخة بالرمز (ب).
وعلى هاتين النسختين اعتمدت في تحقيق نص الكتاب مستعينا بشتى المراجع،
ولا سيما التاريخية والأدبية.
وأرجو أن أكون بهذا الجهد قد قاربت الصواب، ودانيت الحق
ولله الحمد على ما أنعم.
عبد السلام هارون
مصر الجديدة في 20 رمضان 1374.
مقدمة المحقق 17

مراجع التحقيق
أسماء جبال تهامة. لعرام بن الأصبغ، تحقيق عبد السلام هارون. القاهرة 1373.
الإصابة، في أسماء الصحابة، لابن حجر. طبع السعادة 1323.
إمتاع الاسماع. للمقريزي. تحقيق محمود شاكر. لجنة التأليف. 1360.
الانباه على قبائل الرواة. لابن عبد البر. السعادة 1350.
أنساب الأشراف للبلاذري. بيت المقدس 1936 م.
البيان والنبيين. للجاحظ، تحقيق عبد السلام هارون. لجنة التأليف 1369.
تاريخ الاسلام، للذهبي. طبع القدسي 1367.
تاريخ الأمم والملوك للطبري. الحسينية 1326.
تاريخ بغداد للخطيب البغدادي. القاهرة 1349.
تحقيق النصوص ونشرها، لعبد السلام هارون. لجنة التأليف 1374.
تفسير أبى حيان. السعادة 1328.
تهذيب التهذيب، لابن حجر. حيدر آباد 1325.
جمهرة أشعار العرب، للقرشي. بولاق 1308.
جمهرة الأنساب، لابن حزم. تحقيق بروفنسال. طبع دار المعارف 1368.
الحيوان، للجاحظ، تحقيق عبد السلام هارون. الحلبي 1364.
دائرة المعارف الاسلامية النسخة العربية من سنة 1352.
ديوان حسان. الرحمانية 1347.
" العجاج. ليبسك 1902 م.
" أبى محجن الثقفي. الأزهار بالقاهرة.
الروض الأنف. للسهيلي. الجمالية 1322.
الرياض النضرة. للمحب الطبري. الحسينية 1327.
زهر الآداب، للحصري. الرحمانية 1925.
سيرة ابن هشام. جوننجن 1859.
شرح الحماسة للمرزوقي. تحقيق عبد السلام هارون. لجنة التأليف 1373.
مقدمة المحقق 19

شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد. الحلبي 1329
صفة الصفوة، لابن الجوزي، حيدر آباد 1356.
الطبقات الكبير. لابن سعد. ليدن 1323.
العقد الفريد، لابن عبد ربه لجنة التأليف 1370.
العمدة، لابن رشيق. هندية 1344.
عيون الأثر، لابن سيد الناس. القدسي 1356
فتح الباري، لابن حجر. بولاق 1301.
فصل الخطاب، للطبرسي، طبع إيران.
الفهرست، لابن النديم، الرحمانية.
فوات الوفيات، لابن شارك. بولاق 1382.
الكامل، لابن الأثير، محمد منير 1348
الكامل، للمبرد، ليبسك 1864 م.
لسان الميزان، لابن حجر. حيدر آباد 1330.
مروج الذهب، للمسعودي. السعادة 1367.
المعارف، لابن قتيبة، الاسلامية 1353.
معجم البلدان، لياقوت. السعادة 1323.
المعجم الفارسي الإنجليزي، لاستينجاس لندن 1930 م.
المعمرين، للسجستاني. السعادة 1323.
مغازى الواقدي. السعادة 1367.
مقاتل الطالبيين، لأبي الفرج الأصبهاني، تحقيق السيد صقر. الحلبي 1368.
الملل والنحل للشهرستاني. الأدبية 1317.
الميسر والأزلام. لعبد السلام هارون. لجنة التأليف 1372.
تسب قريش. للمصعب الزبيري. دار المعارف 1372.
وفيات الأعيان. لابن خلكان. الميمنة 1310.
وقعة صفين. لنصر بن مزاحم. تحقيق عبد السلام هارون. الحلبي 1365.
مقدمة المحقق 20

العثمانية
1

بسم الله الرحمن الرحيم
عونك اللهم
ثم إنا مخبرون عن مقالة العثمانية، وبالله نستهدى وإياه نستعين، وعليه
نتوكل، وما توفيقنا إلا به.
رووا (1) أن أفضل هذه الأمة وأولاها بالإمامة أبو بكر بن أبي قحافة،
وكان أول ما دلهم عند أنفسهم على فضيلته وخاصة منزلته، وشدة استحقاقه،
إسلامه على الوجه الذي لم يسلم عليه أحد من عالمه وفى عصره. وذلك أن
الناس اختلفوا في أول الناس إسلاما، فقال قوم: أبو بكر بن أبي قحافة،
وقال آخرون: زيد بن حارثة، وقال نفر: خباب بن الأرت.
على أنه إذا تفقدنا أخبارهم، وأحصينا أحاديثهم وعدد رجالهم (2)،
و [نظرنا في (3)] صحة أسانيدهم. كان الخبر في تقديم أبى بكر أعم،
ورجاله أكثر، وإسناده أصح، وهم بذلك أشهر، واللفظ به أظهر، مع
الاشعار الصحيحة والأخبار المستفيضة (4) في حياة رسول الله صلى الله
عليه وسلم وبعد وفاته. وليس بين الاشعار وبين الاخبار فرق إذا امتنع
في مجيئها وأصل مخرجها التباعد (5) والاتفاق والتواطؤ، ولكنا ندع هذا

(1) ب: " زعمت العثمانية " وفى ح: " قالت العثمانية ".
(2) ب، ح: " وعددنا رجالهم ".
(3) التكملة من ح.
(4) في الأصل و ب: " والامثال المستفيضة "، ووجهه من ح.
(5) في الأصل و ب: " التشاعر " وصوابه من ح.
3

المذهب [جانبا (1)]، ونضرب عنه صفحا، اقتدارا على الحجة، وثقة
بالفلج والقوة، ونقتصر على أدنى منازل أبى بكر، وننزل على حكم الخصم
مع سرفه وميطه (2) فنقول:
لما وجدنا من يزعم أن خبابا وزيدا أسلما قبله فأوسط الأمور وأعدلها
وأقربها من محبة الجميع ورضا المجادل (3) أن نجعل إسلامهم كان معا، إذ ادعوا
أن الاخبار في ذلك متكافئة، والآثار متدافعة، [وليس في الاشعار دلالة،
ولا في الأمثال حجة (4)]، ولم يجدوا إحدى القضيتين أولى في حجة
العقل من الأخرى (5).

(1) التكملة من ح.
(2) كلمة " سرفه " غير واضحة في الأصل، وتبيينها من ب. والميط: الكذب.
(3) ب، ح: " المخالف ".
(4) التكملة من ب.
(5) بعد هذا الكلام في شرح ابن الحديد: " ثم نستدل على إمامة أبى بكر بما ورد فيه
من الحديث، وبما أبانه به الرسول صلى الله عليه وسلم من غيره.
قالوا: فمما روى من تقدم إسلامه ما حدث به أبو داود وابن مهدى عن شعبة، وابن
عيينة عن الجريري عن أبي هريرة، قال أبو بكر: أنا أحقكم بهذا الامر - يعنى الخلافة -
ألست أول من صلى.
وروى عباد بن صهيب عن يحيى بن عمير عن محمد بن المنكدر أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم وآله قال: إن الله بعثني بالهدى ودين الحق إلى الناس كافة. فقالوا: كذبت،
وقال أبو بكر: صدقت.
وروى يعلى بن عبيد قال: جاء رجل إلى ابن عباس فسأله: من كان أول الناس إسلاما؟
قال: أما سمعت قول حسان بن ثابت:
إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة * فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا
الثاني التالي المحمود مشهده * وأول الناس منهم صدق الرسلا
وقال أبو محجن:
سبقت إلى الاسلام والله شاهد * وكنت حبيبا بالعريش مشهرا =
4

فصل (1): وقالوا: فإن قال قائل: فما بالكم لم تذكروا عليا في هذه الطبقة
وقد تعلمون كثرة مقدميه والرواية فيه؟
قلنا: لأنا قد علمنا بالوجه الصحيح، والشهادة القائمة أنه أسلم وهو حدث
غرير، وغلام صغير، فلم نكذب الناقلين، ولم نستطع أن ننزل (2) أن
إسلامه كان لاحقا بإسلام البالغين، لان المقلل زعم أنه أسلم وهو ابن
خمس سنين، والمكثر زعم أنه أسلم وهو ابن تسع سنين، والقياس أن
يؤخذ بأوسط الروايتين، وبالأمر بين الامرين، وإنما تعرف [حق (3)]

= وقال كعب بن مالك:
سبقت أخا تيم إلى دين أحمد * وكنت لدى الغيران في الكهف صاحبا
وروى ابن أبي شيبة عن عبد الله بن إدريس ووكيع عن شعبة عن عمرو بن مرة قال:
قال النخعي: أبو بكر أول من أسلم.
وروى هيثم عن يعلى بن عطاء عن عمرو بن عنبسة قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم
وهو بعكاظ فقلت: من بايعك على هذا الامر؟ فقال: بايعني حر وعبد! فلقد رأيتني يومئذ
وأنا رابع الاسلام.
قال بعض أصحاب الحديث: يعنى بالحر أبا بكر، وبالعبد بلالا.
وروى الليث بن سعد عن معاوية بن صالح عن سليم بن عامر عن أبي أمامة قال: حدثني
عمرو بن عنبسة أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم وهو بعكاظ فقال له: من تبعك؟ قال:
تبعني حر وعبد: أبو بكر وبلال.
وروى عمرو بن إبراهيم الهاشمي عن عبد الملك بن عمير عن أسيد بن صفوان صاحب النبي
صلى الله عليه وسلم قال: لما قبض أبو بكر جاء علي بن أبي طالب فقال: رحمك الله أبا بكر،
كنت أول الناس إسلاما.
وروى عباد عن الحسن بن دينار عن بشر بن أبي زينب عن عكرمة مولى ابن عباس قال:
إذا لقيت الهاشميين قالوا علي بن أبي طالب أول من أسلم، وإذا لقيت الذين يعلمون قالوا:
أبو بكر أول من أسلم ".
(1) هذه الكلمة لا وجود لها في ب ولا في ح. ولكنا آثرنا إثباتها حرصا على أداء
النسخة، مع ميلنا إلى الاعتقاد بأنها ليست من صنيع الجاحظ.
(2) ب: " أن نزعم ".
(3) هذه من ب.
5

ذلك من باطله بأن تحصى سنيه التي ولى فيها، وسني عثمان، وسني عمر
وسني أبى بكر، وسني الهجرة، ومقام النبي صلى الله عليه بمكة بعد أن دعا
إلى الله وإلى رسالته إلى أن هاجر إلى المدينة، ثم تنظر في أقاويل الناس
في عمره، وفى قول المقلل والمكثر، فتأخذ أوسطها وهو أعدلها، وتطرح
قول المقصر والغالي، ثم تطرح ما حصل في يديك من أوسط ما روى من
عمره [و] سنيه، وسني عثمان وسني عمر وسني أبى بكر. والهجرة ومقام
النبي صلى الله عليه وسلم بمكة إلى وقت إسلامه، فإذا فعلت ذلك وجدت
الامر على ما قلنا وعلى ما فسرنا.
وهذه التأريخات والأعمار معروفة لا يستطيع أحد جهلها والخلاف
عليها، لان الذين نقلوا التاريخ لم يعتمدوا (1) تفضيل بعض على بعض،
وليس يمكن ذلك مع اختلاف عللهم وأسبابهم، فإذا ثبت عندك بالذي
أوضحنا وشرحنا أنه كان يومئذ ابن سبع سنين أقل بسنة أو أكثر
بسنة، علمت بذلك أنه لو كان أيضا ابن أكثر من ذلك بسنتين وثلاث
وأربع لا يكون إسلامه إسلام المكلف العارف بفضيلة ما دخل فيه، ونقصان
ما خرج منه.
5 - والتاريخ المجتمع عليه أن عليا قتل سنة أربعين في شهر رمضان *).
وقالوا: (* فإن قالوا فلعله وهو ابن سبع سنين وثمان (2) سنين قد بلغ من
فطنته وذكائه وصحة لبه وصدق حسه وانكشاف العواقب له وإن لم يكن

(1) هذا ما في ب. وفى الأصل: " إن الذين نقلوا التاريخ لم يتعمدوا ".
*) الكلام من مبدأ الكتاب إلى هنا موضع مناقضة للإسكافي. انظر الرد رقم (1)
في ملحقات الكتاب.
(2) ح: " أو ثمان ".
6

جرب الأمور، ولا فاتح الرجال، ولا نازع الخصوم، ما يعرف جميع
ما يجب على البالغ معرفته والاقرار به.
قلنا: إنما نتكلم على ظاهر الاحكام وما شاهدنا عليه طباع الأطفال.
وجدنا حكم ابن سبع سنين، وثمان سنين وتسع سنين، حيث قرأناه (1).
وبلغنا خبره - ما لم يعلم مغيب أمره، وخاصة طباعه - حكم الأطفال،
وليس لنا أن نزيل (2) ظاهر حكمه والذي نعرف من شكله (3) بلعل
وعسى، لأنا كنا لا ندري لعله قد كان ذا فضيلة في الفطنة، فلعله
أن يكون ذا نقص فيها. أجاب منهم بهذا الجواب من يجوز أن يكون
على في المغيب قد أسلم إسلام البالغ المختار، غير أن الحكم فيه عنده
على مجرى أمثاله وأشكاله الذين إذا أسلموا وهم في مثل سنه كان إسلامهم
على تربية الحاضن، وتلقين القيم، ورياضة السائس.
فصل (4): فأما علماء (العثمانية) ومتكلموهم، وأهل القدم والرياسة منهم،
فإنهم قالوا: إن عليا لو كان وهو ابن ست سنين وسبع سنين، وثمان سنين
وتسع سنين، يعرف فصل ما بين الأنبياء والكهنة، وفرق ما بين الرسل والسحرة
وفرق ما بين خبر المنجم (5) والنبي، وحتى يعرف الحجة من الحيلة (6)، وقهر

(1) ب: " رأيناه ".
(2) في الأصل: " أن نتكلم نزيل ". وكلمة " نتكلم " مقحمة، كما يفهم من ب، ح.
(3) ح: " والذي نعرف من حال أبناء جنسه ".
(4) كلمة " فصل " ليست في ب، كما سبق التنبيه.
(5) في الأصل: " المنجمين " ووجهه من ب، ح.
(6) في الأصل: " من أجله " صوابه في ب.
7

الغلبة من قهر المعرفة، ويعرف كيد المريب وبعد غور المتنبي، وكيف
يلبس على العقلاء، ويستميل عقول الدهماء (1)، ويعرف الممكن في الطبائع
من الممتنع فيها، وما يحدث بالاتفاق وما يحدث (2) بالأسباب، ويعرف
أقدار القوى في مبلغ الحيلة ومنتهى البطش، ومالا يحتمل إحداثه إلا
الخالق، وما يجوز على الله مما لا يجوز في توحيده وعدله، وكيف التحفظ
من الهوى، وكيف الاحتراس من تقدم الخادع في الحيلة - كان كونه
بهذه الحال وعلى هذه الصفة مع فرط الصبا والحداثة، وقلة التجارب
والممارسة، خروجا من نشوء العادة، والمعروف مما عليه تركيب الأمة (3).
ولو كان على هذه الصفة ومعه هذه الخاصية، كان حجة على العامة،
وآية تدل على المباينة، ولم يكن الله ليخصه بمثل هذه الآية وبمثل هذه
الأعجوبة إلا وهو يريد أن يحتج بها له، ويخبر بها عنه، ويجعلها
قاطعة لعذر الشاهد، وحجة على الغائب، ولا يضيعها هدرا، ولا
يكتمها (4) باطلا.
ولو أراد الاحتجاج بها شهر أمرها وكشف قناعها، وحمل النفوس
على معرفتها، وسخر الألسنة لنقلها، والاسماع لادراكها، لئلا يكون
لغوا ساقطا، ونسيا منسيا، لان الله لا يبتدع أعجوبة ولا يخترع آية
ولا ينقض العادة إلا للتعريف والاعذار، والمصلحة والاستبصار (5). ولولا

(1) دهماء الناس: جماعتهم وكثرتهم. وفى الأصل: " الدهم " صوابه في ب، ح.
(2) ب، ح: " مما يحدث ".
(3) هذا ما في ب، ح. وفى الأصل: " تركبت الأمة ".
(4) ب: " ولا يكتبها ".
(5) هذا ما في ب، وهو الأشبه بلغة الجاحظ. وفى الأصل: " الاستنفاذ ".
8

ذلك لم يكن لفعلها معنى، ولا لرسالته حجة. والله يتعالى (1) أن يترك
الأمور سدى، والتدبير نشرا. ولا يصل أحد إلى معرفة صدق نبي
وكذب متنبئ حتى تجتمع له هذه المعارف التي ذكرنا، وهذه الأسباب
التي فصلنا.
ولولا أن الله سبحانه خبر عن يحيى بن زكريا أنه (2) آتاه الحكم
صبيا، وأنه أنطق عيسى في المهد رضيعا، ما كانا في الحكم ولا في المغيب
إلا كسائر الرسل، وما عليه طبع البشر (3).
فإذ (4) لم ينطق لعلى بذلك قرآن. ولا جاء الخبر به مجئ الحجة
القاطعة، والشهادة الصادقة، فالمعلوم عندنا في الحكم وفى المغيب جميعا
أن طباعه كطباع عميه حمزة والعباس (5) وهما أمس بمعدن جماع الخير
منه، وكطباع جعفر وعقيل أخويه، وكطباع أبويه ورجال عصره
وسادة رهطه، ولو أن إنسانا ادعى مثل ذلك لأخيه جعفر أو لعمه
حمزة أو لعمه العباس - وهو حليم قريش - ما كان عندنا في أمره
إلا مثل ما عندنا فيه *).
فصل (6): (* ولو لم تعرف الروافض ومن ذهب مذهبها في هذا باطل

(1) ب: " تبارك اسمه وتعالى ".
(2) في الأصل: " إذ " صوابه في ب، ح.
(3) وما عليه طبع البشر، ساقط من ب. وفى ح: " وما عليه جميع البشر ".
(4) في الأصل، ح: " فإذا " ووجهه من ب.
(5) كذا في ح، ب. وفى الأصل: " طباع حمزة والعباس عميه ".
*) الكلام من " فإن قالوا " ص 6 ص 17 إلى هنا موضع رد للإسكافي. انظر
رقم (2) من نصوصه الملحقة بالكتاب.
(6) ليست في ب.
9

هذه الدعوى، وفساد هذا المعنى إذا صدقت أنفسها ولم تقلد رجالها،
وتحفظت من الهوى وآثرت التقوى، [إلا بترك (1)] على ذكر ذلك
لنفسه والاحتجاج به على خصمه وأهل دهره، منذ نازع الرجال،
وخاصم (2) الأكفاء، وجامع أهل الشورى وولى وولى عليه، والناس
بين معاند يحتاج إلى التقريع، ومراد (3) يحتاج إلى الارشاد، وولى يحتاج
إلى المادة. وغفل يحتاج إلى أن يكثر له من الحجة، ويتابع له بين
الامارات والدلالات (4) مع حاجة القرن الثاني إلى معرفة الحق ومعدن
الامر، لان الحجة إذا لم تصح لعلى في نفسه، ولم يقو على أهل
دهره، فهي عن ولده أعجز، وعنهم أضعف.
ثم لم ينقل ناقل واحد أن عليا احتج بذلك في موقف، ولا ذكره
في مجلس، ولا قام به خطيبا، ولا أدلى به واثقا، ولا همس به إلى
موافق، ولا احتج به على مخالف.
فصل (5): وقد ذكر فضائله وفخر بقرابته وسابقته، وكاثر بمحاسنه
ومواقفه، منذ جامع الشورى وناضلهم. إلى أن ابتلى بمساورة معاوية
له، وطمعه فيه، وجلوس أكثر أصحاب رسول الله عن عونه، والشد
على عضده، كما قال عامر الشعبي: لقد وقعت الفتنة وبالمدينة عشرون
ألفا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما خف فيها منهم

(1) التكملة من ب.
(2) هذا ما في ب، وفى الأصل: " وخاير ".
(3) ب: " ومرتاد ".
(4) هذا ما في ب. وفى الأصل: " والدلالة ".
(5) هذه الكلمة ليست في ب.
10

عشرون. ومن زعم أنه شهد الجمل ممن شهد بدرا أكثر من أربعة
فقد كذب. كان على وعمار في شق. وطلحة والزبير في شق.
وكيف يجوز عليه ترك الاحتجاج على المخالف وتشجيع الموافق وقد نصب
نفسه للخاصة والعامة، وللخاذل والعادي (1)، ومن لا يحل (2) له في دينه
ترك الاعذار إليهم. إذ كان يرى أن قتالهم كان واجبا، وقد نصبه
الرسول مفزعا ومعلما، ونص عليه قائما، وجعله للناس إماما، وأوجب
طاعته، وجعله حجة في الناس يقوم مقامه.
فصل (3): وأعجب من ذلك أنه لم يدع هذا له أحد في دهره كما لم
يدعه لنفسه، مع عظيم ما قالوا فيه في عسكره وبعد وفاته، حتى يقول
إنسان واحد إن الدليل على إمامته أن النبي صلى الله عليه وسلم دعاه
إلى الاسلام، فكلف التصديق (4) قبل بلوغه وإدراكه، ليكون ذلك
آية له في عصره، وحجة له ولولده على من بعده. وقد كان على أعلم
بالأمور من أن يدع ذكر أكبر حججه والذي بان به من شكله،
ويذكر أصغر حججه والذي يشاركه فيه غيره، وقد كان في عسكره من
لا يألو في الافراط، ومن يحسب أن الافراط زيادة في القدر.
والعجب له، إن كان الامر كما ذكرتم، كيف لم يقف يوم الجمل
ويوم صفين أو يوم النهر في موقف يكون من عدوه بمرأى ومسمع،

(1) ب: " وللمولى وللمعادي ".
(2) في الأصل: " ولا يحمل " صوابه في ب.
(3) ليست في ب.
(4) في الأصل: " وكفه التصديق " صوابه في ب.
11

فيقول: " تبا لكم وتعسا، كيف تقاتلوني وتجحدون فضلى (1) وقد
خصصت بآية حتى كنت كيحيى بن زكريا وعيسى بن مريم " ولا يمتنع
الناس من أن يقولوا ويموجوا، فإذا ماجوا تكلموا على أقدار عللهم،
وعللهم مختلفة، ولا ينشب أمرهم أن يعود إلى فرقة، فمن ذاكر قد
كان ناسيا، ومن نازع قد كان مصرا، وكم مترنح قد كان غالطا،
مع ما كان يشيع (2) من الحجة في الآفاق، ويستفيض في الأطراف،
ويحتمله الركبان ويتهادى في المجالس.
فهذا كان أشد على طلحة والزبير، وعائشة *) ومعاوية، وعبد الله بن
وهب، من مائة ألف سنان طرير، وسيف مشهور.
فصل (3): ومعلوم عند ذوي التجربة والعارفين بطبائع الاتباع (4).
وعلل الأجناد، أن العساكر تنتقض مرائرها وينتشر أمرها، وتنقلب على
قادتها (5) بأيسر من هذه الحجة. وأخفى من هذه الشهادة.
فصل: وقد علمتم ما صنعت المصاحف في طبائع أصحاب على، حين
رفعها عمرو بن العاص أشد ما كان أصحاب على استبصارا في قتالهم،

(1) ب: " فضيلتي ".
*) الكلام من قوله " ولو لم تعرف الروافض " س 15 من ص 9 إلى هنا موضع
مناقضة للإسكاني ستأتي برقم (3) وقد نقل الإسكافي عبارة الجاحظ موجزة متصرفا فيها.
انظر ابن أبي الحديد 3: 263
(2) في الأصل: " يسمع ".
(3) هذه الكلمة ليست في ب.
(4) في الأصل: " بصنائع الاتباع " صوابه في ب.
(5) ب: " قائدها ".
12

نم لم ينتقض على على من أصحابه إلا أهل الجد والنجدة، وأصحاب
البرانس والبصيرة (1).
وكما علمتم من تحول شطر عسكر عبد الله بن وهب حين اعتزلوا مع
فروة بن نوفل، لكلمة سمعوها من عبد الله بن وهب كانت تدل عندهم
على ضعف الاستبصار والوهن (2) في اليقين.
وهذا الباب أكثر من أن يحتاج مع ظهوره ومعرفة الناس به إلى
أن نحشوا به كتابنا.
فصل (3): فأما إسلامه وهو حدث غرير وغلام صغير، فهذا مالا
ندفعه، غير أنه إسلام تلقين وتأديب وتربية. وبين إسلام التكليف
والامتحان وبين التلقين والتربية فرق عظيم، ومحجة واضحة.
وقالت (العثمانية): إن قالت الشيع: إن الأمور ليس كما حكيتم،
ولا كما هيأتموه لأنفسكم، بل نزعم أنه قد كانت هناك (4) في أيام صباه
وحداثته فضيلة فطنة، ومزية (5) ذكاء، ولم يبلغ الامر قدر
الأعجوبة والآية.
قلنا: إن الذي ذهبتم إليه أيضا لابد فيه من أحد وجهين:
إما أن يكون قد كان لا يزال يوجد في الصبيان مثله في الفطنة

(1) انظر العقد 4: 351 لجنة التأليف ب " المراس " تحريف.
(2) في الأصل: " والوهم " ووجهه من ب.
(3) هذه الكلمة ليست في ب.
(4) ب: " هنالك ".
(5) ب: " ومزيد ".
13

والذكاء وإن كان ذلك عزيزا قليلا، أو كان وجود ذلك ممتنعا، ومن العادة
خارجا. فإذا (1) كان قد كان يوجد مثله على عزته وقلته فما كان إلا
كبعض من نرى اليوم ممن يتعجب من حسه وفطنته، وحفظه وحكايته
وسرعة قبوله على صغر سنه وقلة تجريبه (2). وإن كانت حاله هذه الحال،
وطبيعته على هذا المثال، فإنا (3) لم نجد صبيا قط وإن أفرط كيسه
وحسنت فطنته وأعجب [به (4)] أهله يحتمل ولاية الله سبحانه وعداوته،
والتمييز بين الأمور التي ذكرنا. مع أنه ما جاءنا ولا صح عند أحد منا
بخبر صادق، ولا كتاب ناطق، أنه كان لعلى خاصة دون قريش عامة
في صباه من إتقان الأمور وصحة المعارف وجودة المخارج، ما لم يكن
لاحد من إخوته وأعمامه وآبائه.
وإن كان القدر الذي كان عليه على من الذكاء والمعرفة القدر الذي لم نجد
له [فيه (4)] مثلا، ولا رأينا له شكلا - وهذا هو البديع الذي به يحتج
على المنكرين، ويفلج (5) على المعارضين، ويبين للمسترشدين - فهذا
باب قد فرغنا منه مرة.
فصل: ولو كان الامر في علي على ما يقولون (6) لكانت في ذلك حجة
للرسول في رسالته، ولعلى في إمامته. والآية إذا كانت للرسول وخليفة

(1) في الأصل: " وإن " والوجه من ب.
(2) ب: " تجربته ".
(3) في الأصل: " وإنا " صوابه في ب.
(4) التكملة من ب.
(4)
(5) فلج غيره وفلج عليه وأفلج: فاز وظفر. وفى النسختين: " يفلح " تحريف.
(6) ب: " كما يقولون ".
14

الرسول كان أشهر لها، لان وضوح أمر الرسول يزيد (1) على ما للامام
ويزيده إشراقا واستنارة (2) وبيانا. ولا يجوز أن يكون الله قد عرف أهل
عصرهما ذلك، وهم الشهداء على من بعدهم من القرون ثم يسقط (3).
حجته، فلا تخلو تلك الحجة وتلك الشهادة من ضربين: إما أن تكون
ضاعت وضلت، وإما أن تكون قد قامت وظهرت.
فإن كانت قد ضاعت فلعل كثيرا من حجج الرسول صلى الله عليه وسلم
قد ضاع معها، وما جعل الباقي منها أولى بالتمام من الساقط، والساقط
من شكل الثابت. على أن مع الساقط خاصة ليست مع الثابت لأنه
حجة على شيئين، والثابت حجة على شئ. ولا يخلو أمر الساقط من
ضربين: إما أن يكون الله لم يرد تمامه، أو يكون قد أراده.
وأي ذين [كان (4)] ففساده واضح عند قارئ الكتاب.
وإن كانت الآية قد تمت إذ كانت الشهادة قد قامت علينا بها كما كانت
شهادة العيان قائمة عليهم (5) [فيها (6)] فليس في الأرض عثماني إلا وهو
يكابر عقله ويجحد علمه.
ولعمرى إنا لنجد في الصبيان من لو لقنته وسددته أو كتبت له
أغمض المعاني وألطفها، وأغوص الحجج وأبعدها، وأكثرها لفظا

(1) ب: " يرى ".
(2) في الأصل: " استثارة " صوابه في ب.
(3) ب: " أسقط ".
(4) التكملة من ب.
(5) في الأصل: " عليها " صوابه في ب
(6) التكملة من ب
15

وألطفها، وأطولها، ثم أخذته بدرسه وحفظه لحفظه حفظا عجيبا، ولهذه
هذا ذليقا (1). فأما معرفته صحيحه من سقيمه، وحقه من باطله.
وفصل ما بين المقرب والدليل، والاحتراس من حيث يؤتى المخدوعون،
والتحفظ من مكر الخادعين، وتأتى (2) المجرب، ورفق الساحر. وخلابة
المتنبئ، وزجر الكاهن (3) وإخبار المنجمين، وفرق ما بين نظم القرآن
وتأليفه ونظم سائر الكلام وتأليفه - فليس يعرف فروق النظر واختلاف
البحث (4) إلا من عرف القصيد من الزجر (5)، والمخمس من الأسجاع،
والمزاوج من المنثور، والخطب من الرسائل، وحتى يعرف العجز العارض
الذي يجوز ارتفاعه من العجز الذي هو صفة في الذات.
فإذا عرف صنوف التأليف عرف مباينة نظم القرآن لسائر الكلام،
ثم لم يكتف بذلك حتى يعرف عجزه وعجز أمثاله عن مثله، وأن
حكم البشر حكم واحد في العجز الطبيعي وإن تفاوتوا في العجز العارض.
وهذا مالا يوجد عند صبي ابن سبع سنين وثمان سنين وتسع سنين
أبدا، عرف ذلك عارف أو جهله جاهل. ولا يجوز أن يعرف عارف
معنى الرسالة إلا بعد الفراغ من هذه الوجوه، إلا أن يجعل جاعل

(1) الذليق: الفصيح. وفى النسختين: " لهده هدا " تحريف. يقال هذا القرآن
والحديث هذا: سرده. وفى حديث ابن عباس، قال له رجل: قرأت المفصل الليلة. فقال:
أهذا كهذ الشعر.
(2) في الأصل: " مانى " بإهمال أوله، وفى ب " ويأتي " ووجههما، ما أثبت. قال
الأصمعي: تأتى فلان لحاجته. إذا ترفق لها وأتاها من وجهها.
(3) ب: " الكهان ".
(4) ب: " فروق النظم واختلاف البحث والنثر ".
(5) الزجر، واضحة في النسختين. يعنى زجر الكاهن، انظر طرفا منه في صدر سيرة
ابن هشام. والزجر يلتبس على من لم يعرفه بالشعر.
16

التقليد والنشو والألف لما عليه الآباء وتعظيم الكبراء، معرفة ويقينا.
وليس بيقين ما اضطرب ودخله الخلاج عند ورود معاني لعل وعسى، وما
لا يمكن (1) في العقول إلا بحجة تخرج القلب إلى اليقين عن التجويز.
ولقد أعيانا أن نجد هذه المعرفة إلا في الخاص من الرجال وأهل
الكمال في الأدب، فكيف بالطفل الصغير والحدث الغرير؟! مع أنك
لو أدرت (2) معاني بعض ما وصفت لك على أذكى صبي في الأرض
وأسرعه قبولا وأحسنه حكاية وبيانا (3)، وقد سويته [له (4)] ودللته،
وقربته [منه] وكفيته مؤونة الروية ووحشة (5) الفكرة. لم يعرف
قدره ولا فصل بين حقه من باطله، ولا فرق بين الدلالة وشبيه
الدلالة، فكيف له بأن يكون هو المتولى لتجربته (6) وحل عقده،
وتخليص متشابهه، واستثارته من معدنه؟!
وكل كلام خرج من التعارف فهو رجيع بهرج، ولغو ساقط.
فصل (7): وقد نجد الصبى الذكي يعرف من العروض وجها، ومن النحو
صدرا، ومن الفرائض أبوابا، ومن الغناء أصواتا، فأما العلم بأصول
الأديان ومخارج الملل، وتأويل الدين، والتحفظ من البدع، وقبل ذلك
الكلام في حجج العقول، والتعديل والتجوير، والعلم بالاخبار وتقدير

(1) هذا الصواب من ب. وفى الأصل: " ومما لا ينكر ".
(2) في الأصل، ب: " أردت " والوجه ما أثبت.
(3) الكلمة مبهمة في الأصل، وتوضيحها من ب.
(4) التكملة من ب.
(5) في الأصل: " وحثبته " صوابه في ب.
(6) في الأصل: " لحرثه " وصوابه في ب.
(7) ليست في ب.
17

الاشكال (1) فليس هذا موجودا إلا عند العلماء. فأما الحشوة والطغام (2)
فإنما هم أداة للقادة، وجوارح للسادة. وإنما يعرف شدة الكلام في
أصول الأديان من قد صلى به وعجمه، وسلك (3) في مضايقه، وجاثي
الأضداد (4)، ونازع الأكفاء (5).
فإن قالت (الشيع): الدليل على أن إسلام على كان اختيارا ولم
يكن تلقينا، أن عليا (6) أسلم بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم
له، وفى ذكر الدعاء والاقرار به دليل على أن الإجابة اختيار، لان
المسلم بالدعاء مجيب للدعاء. ولا نعلم الدعاء يكون من حكيم لمدعو (7)
لا يختار ولا تحتمل فطرته تمييز الأمور وفضل ما بين ما دعا إليه وبين
ما دعا إليه غيره. وليس بين قول القائل: دعا النبي صلى الله عليه
فلانا إلا الاسلام (8) وبين قوله: كلف النبي صلى الله عليه وسلم فلانا
الاسلام فرق. وقول المسلمين: دعا النبي صلى الله عليه وسلم عليا
كقولهم: (9) دعا جميع العرب فمن مجيب طائع كعلى، ومن ممتنع عاص
كفلان وفلان.

(1) في الأصل: " وتقرير الشكال " صوابه في ب.
(2) حشوة الناس، بالضم: رذالتهم، ومثله الطغام، بالفتح.
(3) ب: " وسال ".
(4) في الأصل، ب: " وحاثى " تحريف. جاثاه: جلس معه على ركبتيه للخصومة.
(5) إلى هنا ينتهى الاختيار الأول في نسخة ب وتنفرد نسخة الأصل إلى حيث ننبه
فيما بعد.
(6) في الأصل: " أن الإمامة أن عليا ".
(7) في الأصل: " يدعو ".
(8) بعده في الأصل: كلمة " فرق " وهى مقحمة.
(9) في الأصل: " وقوله المسلمين.... كقوله لهم " تحريف.
18

قالت (العثمانية) عند ذلك: قد عرفنا أن بعضهم قد نقل أن عليا
كان أول من أسلم، وقد نقلوا بأجمعهم أنه كان أول من أسلم. وبين
قول القائل أسلم فلان أول الناس وبين أن يقول أسلم في أوائل الناس
فرق. فأما أن يكون واحد من جميع الصنفين من البعض والجميع فسر
مع روايته ومخرج خبره كيف كان إسلامه، أعلى وجه الدعاء
والتكليف أم على وجه التلقين والتربية، فلم نر أحدا منهم ميز ذلك
ولا فرقه في مخرج الخبر. ونحن لم ندع أن إسلامه كان إسلام تلقين
من قبل تفسير الناقلين وتمييز المحدثين، ولكنا نظرنا في التاريخ فعرفنا
عمره وابن كم كان يوم توفى، وعرفنا موضع اختلافهم واجتماعهم،
فأخذنا أوسطه إذ كان أعدل ما فيه، وأسقطنا قول من كثر وقلل،
ثم ألقينا منه سنيه إلى عام إسلامه فوجدنا ذلك يوجب أنه كان ابن
سبع. ولو أخذنا أيضا بقول المكثر فجعلناه ابن تسع، وتركنا قول
من قلل وقول المقتصد، علمنا بذلك أيضا أن إسلامه كان إسلام تربية
وتأديب وتلقين، كما أخذ الله على المسلمين أن يأخذوا به أولادهم.
وقالت (العثمانية) للعلوية: إنا لم ندع أنه أسلم وهو ابن سبع
فإنا وجدنا ذلك قائما في خبرهم مفسرا في شهادتهم، ولكنه علم مستنبط
من أخبارهم، ومستخرج من آثارهم عند المقابلة والموازنة. ومثل ذلك
لو أن رجلا قال لرجل: خذ عشرة في عشرة، كان ذلك في المعنى
كقوله: " خذ مائة " وإن لم يكن سماها له ولا ذكرها بلسانه.
وقالوا: ولولا أن من شأننا الاخذ بالقسط، والحكم بالعدل لأخذنا
الشيع بقولهم في عمره وبقول ولده، فإن أحدهما يزعم أن عليا توفى
وهو ابن سبع وخمسين. وقال الآخرون: بل توفى وهو ابن ثمان
19

وخمسين. ولو كان (1) كما تقول الرافضة وولده ما كان أسلم إلا وهو ابن
خمس أو ابن ست. وهم لا يألون، ما نقصوا من عمره وصغروا من
سنه لكي يجعلوا إسلامه آية له وحجة على إمامته.
ولعمرى لو كان الذين نقلوا أنه كان أول من أسلم نقلوا مع خبرهم
أنه أسلم بالدعاء والتكليف، لقد كان ما ذهبتهم إليه مذهبا، وما اعتصمتم
به متعلقا، ولكن ما في الأرض كلها حامل خبر (2) ولا صاحب أثر
كان في خبره أنه أسلم بدعاء، ولا أنه أسلم بتلقين، وإنما هذا
مستخرج من الاخبار.
فإن قالت (الروافض): بل الدليل على أن إسلامه كان طاعة ولم
يكن تلقينا قول جميع الأمة إن عليا كان من أول من أسلم، فنفس
قولهم أسلم هو كقولهم أطاع واختار، وكذلك قولهم إذا قالوا: كفر
فلان: فهو كقولهم: عصا واختار، وإن لم يفسروا، وليس بين قولهم
أسلم فلان وكفر فلان فرق، لان المخبر الصادق إذا قال كفر فلان
فحكمه عند السامع العداوة والبراءة. ولو قال (3) أسلم فلان كان حكمه
المحبة والولاية: فإذا كانوا كلهم قد قالوا: أسلم على، وحكم " أسلم " يثبت
الاختيار وإجابة الولاية. قبل أن يجمعوا على أنه كان على التلقين
والتربية. فعلى على هذا القياس مطيع في إسلامه. مختار له على غيره.
وكذلك لو قالوا: كفر فلان، كان حكمه حكم العاصي المختار حتى

(1) لعلها: " ولو كان الامر ".
(2) في الأصل: " خبره ".
(3) في الأصل: " قالوا ".
20

يجمعوا أن كفره كان عن إكراه أو غلط أو هيج مرة، أو هجر
النائم (1) أو تلقين المؤدب. فلما كان هذا قياسا موجبا صحيحا، لم يكن
لاحد أن يجعل إسلام على إسلام تلقين إلا بمثل الحجة التي جعله بها
مسلما، لانهم قد أطبقوا بأجمعهم على إسلامه واختلفوا في السنة.
فيجب ألا نزيل حكم " أسلم " إلا بإجماع منهم أنه كان عن
تلقين وتربية.
قلنا لهم: لعمري لو لم يكن ها هنا إجماع يخبر أن إسلامه كان
إسلام تلقين ونشو، كان حكم قولهم أسلم على على ما قلتم، لا تجحدون
حكمه ولا تظلمون معنا كم فيه، ولكن الذين قالوا إنه توفى وهو
ابن كذا وكذا فأخذنا بأوسطها نقصوا (2) من سنيه فإذا هو قد أسلم
وهو ابن سبع سنين. ولو أخذنا بقول المكثر وبخسنا القياس حظه
كان أيضا إسلامه وهو ابن تسع سنين إسلام تلقين. فبهم عرفنا
تقدمه في الاسلام، وبهم عرفنا صغر سنه وحداثته، إذ كان الصبى
إذا كان ابن خمس سنين إلى عشر سنين لا يستتاب إن كفر، ولا يلام
إن جهل، ولا يعذب إن ضيع. فإذا كانوا بأجمعهم قد قالوا إنه أسلم
وهو ابن خمس أو ست أو ثمان أو سبع. فقد قالوا بأجمعهم إنه أسلم
إسلام تلقين وإن لم يقولوا بأفواههم، كما قلتم إن قول القائل كفر
فلان وأسلم فلان - وإن لم يذكره - [حكم (3)] بالطاعة والمعصية.
قلنا: فكذلك إذا قال رجل أسلم فلان وهو ابن سبع سنين أو ثمان

(1) هجر النائم هجرا: حلم وهذى.
(2) في الأصل: " نفلوا ".
(3) ليست في الأصل، وبمثلها يستقيم الكلام.
21

أو تسع، فقد قال إن إسلامه كان إسلام تلقين وإن لم يذكره ولم
يتفوه به كما قلتم، حذو القذة بالقذة، والنعل بالنعل. فإذا ثبت أن
إسلام على إسلام تلقين في ذلك الدهر فإسلام زيد وخباب أفضل من
إسلامه. ولو أن عليا كان أيضا بالغا كان إسلام زيد وخباب أفضل
من إسلامه، لان إسلام المقتضب (1) الذي لم يغذ به (2) ولم يعوده ولم
يمرن عليه، أفضل من إسلام الناشئ الذي قد ربى فيه ونشأ عليه
وحبب إليه، لان خبابا وزيدا يعانيان من الفكر ويتخلصان إلى أمور،
وصاحب التربية يبلغ حين يبلغ وقد أسقط إلفه عنه مؤونة الروية، والخطار
بالجهالة، وقد أورثه الألف السكون، وكفاه اختلاج الشك (3)،
واضطراب النفس وجولان القلب.
فصل: (* ولو كان على أيضا بالغا وكان مقتضبا (4) كزيد وخباب
لم يكن إسلامه ليبلغ قدر إسلامهما، لان إسلام التربية يكفي مؤونتين:
إحداهما الخطار والتغرير، والاخرى شدة فراق الألف ومكابدة العادة،
ونزاع الطبيعة، مع أن من كان بحضرة الاعلام وفى منزل الوحي،
وفى رحال الرسل فالاعلام له أشد انكشافا، والخواطر على قلبه أقل
اعتلاجا. وعلى قدر الكلفة في دفع الشبهة والاقرار بخلاف الألف
والعادة، والمخاطرة باعتقاد الجهالة، يعظم الفضل، ويكثر الاجر *).

(1) المقتضب: غير المتهئ المعد للشئ.
(2) لم ينقط من هاتين الكلمتين في الأصل إلا الغين فقط.
(3) الاختلاج: الاضطراب. وفى الأصل: " الخلاج الشك " وفى ح " علاج القلب ".
(4) انظر ما مضى في الحاشية الأولى.
*) الكلام من " ولو كان على " إلى هنا موضع مناقضة للإسكافي ستأتي
برقم (4).
22

ولو كان أيضا على أسلم بالغا مدركا، وكان مع إدراكه وبلوغه
كهلا، وكان مع كهولته مقتضبا كان إسلام زيد وخباب أفضل من
إسلامه، لان من أسلم وهو يعلم أن له ظهرا كأبى طالب، وردءا
كبنى هاشم، وموضعا في بنى عبد المطلب، ليس كالحليف ولا المولى،
والنزيل والتابع والعسيف، وكالرجل من عرض قريش (1) وقاطني
مكة. [أ] وما علمت أن قريشا خاصة وأهل مكة عامة لم يقدروا على
أذى النبي صلى الله عليه ما كان أبو طالب حيا قائما؟! ولقد منع أبو طالب
أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي لأنه كان ابن أخته، فما قدرت
بنو مخزوم مع خيلائها (2) وعرام شبابها، ومع عزها وشدة عداوتها
أن تحص منه شعرة (3) ولا تسمعه كلمة حتى مشت إليه بأجمعها،
للذي (4) ترى له في أنفسها، فكان من قولهم له: هذا ابن أخيك
قد فرق جماعتنا وسفه أحلامنا وشتم آلهتنا وقد منعته منا، فما بال
صاحبنا (5)؟ قال: من لم يمنع ابن أخته لم يمنع ابن أخيه!
فإذا كانت قريش وأهل مكة لا يقدرون على ابن أخيه وابن أخته
معه فهم عن ابنه أعجز، وعنه أقعد، وله أعفى (6)، وهو لابنه أحضر
نصرا وأشد غضبا، وأحمى أنفا، وليس الممنوع كالمخذول، ولا الضعيف

(1) من عرضهم. أي من معظمهم وجمهورهم، ليس في موضع رآسة.
(2) الخيلاء: الكبر. وبنو مخزوم معروفون بالكبر والتيه. انظر الحيوان 6: 70،
72. وفى الأصل: " حيلاتها "؟؟ بإهمال الحرفين الأولين.
(3) حص الشعر: أذهبه أو حلقه.
(4) في الأصل: " الذي ".
(5) في الأصل: " ها بال صاحبنا " وفى السيرة 244: " فما لك ولصاحبنا تمنعه منا ".
(6) رسمها في الأصل " اعفا ".
23

كالقوى، ولا الآمن كالخائف. فإذا كان إسلام زيد وخباب أفضل
من إسلامه في ذلك الدهر كما عددنا من الطبقات. ورتبنا من المنازل،
ونزلنا من الحالات، فإسلام أبى بكر أفضل من إسلامهما، فقد سقطت
المنازعة، وارتفعت الخصومة عند من فهم كتابنا ولم يمنع نفسه الحظ
بصحبتنا، لفرط التباين وعظم الفرق.
فصل: والدليل على أن إسلام أبى بكر كان أفضل من إسلام زيد
وخباب أن زيدا كان رجلا غير مذكور بعلم، ولا مزن بمال (1) ولا مغشى
المجلس، ولا مزور الرحل، وكذلك كان خباب، وكان أبو بكر رضي الله عنه
أعلم العرب بالعرب كلهم. وأرواها لمناقبها ومثالبها، وأعرفها
بخيرها وشرها، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان مع سن حسان
وعلمه وتحاكم الشعراء إليه، حيث أمره النبي عليه السلام أن يهجو
أبا سفيان بن الحارث، وحيث قال له: " اهجهم ومعك روح القدس ".
وحيث قال له: هيج الغطاريف على بنى عبد مناف - في قتل أبى أزيهر (2) -
والق أبا بكر فإنه أعلم الناس بهم.

(1) في اللسان " قال اللحياني: أزننته بمال وبعلم وبخير، أي ظننته ".
(2) الغطاريف: " السادة الاشراف. وفى رواية بعض نسخ البيان (1: 273):
" اهج الغطاريف من بنى عبد مناف " وفى بعضها وهى نسخة (ه‍) مطابق لما هنا. والذي
في العمدة 1: 12 " وقال لحسان بن ثابت: اهجهم - يعنى قريشا - فوالله لهجاؤك عليهم
أشد من وقع السهام في غلس الظلام، اهجهم ومعك جبريل روح القدس، والق أبا بكر
يعلمك تلك الهنات ".
وأما ما كان من أمر أبى أزيهر الدوسي، فإن الوليد بن المغيرة كان قد تزوج ابنته، ثم
أمسكها أبو أزيهر عنه فلم يدخلها عليه حتى مات، وكان الوليد قد أوصى ولده قبل أن يموت
أن يطلبوا أبا أزيهر بعقره - والعقر: دية الفرج المغصوب - وكانت بنته قد تزوجها
أبو سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، فعدا هشام بن الوليد بن المغيرة على =
24

فصل: ولذلك كان جبير بن مطعم أعلم قريش بالعرب بعد أبي بكر،
لأنه كان المتولى لتأديبه وتثقيفه، وقد كان أبو بكر قد سمى عائشة له (1).
للذي رأى من حسن أثره عليه.
(* وكان أبو بكر. مع علمه بالناس وحسن معرفته، ذا مال كثير
ووجه عريض (2)، وتجارة واسعة، وكان جميلا عتيقا (3)، ومزورا مغشيا،
ومحببا أديبا صاحب ضيافات (4)، ويعين في الحمالات، ويجتمع إلى مجلسه
كبراء أهل مكة، لما يجدون عنده من طريف الحديث وغريب الشعر،
حتى كان مثل عتبة وشيبة (5) يجلسان إليه، ويعجبان بحديثه، ثم يتخذ
لهم ما يتحدثون عليه ويطول مجلسهم به، من شراب العسل والزبيب

= أبى أزيهر وهو بسوق ذي المجاز فقتله. السيرة 273 - 275. وكان يزيد بن أبي سفيان
قد خرج فجمع بني هاشم ليثأر لأبي أزبهر جار أبيه. فمنعه أبو سفيان وضربه، فعير بذلك،
وكان نهزة لحسان بن ثابت يحرض في دم أبى أزيهر ويعير أبا سفيان خفرته وتجبنه فقال:
غدا أهل ضوجى ذي المجاز كليهما * وجار ابن حرب بالمغمس ما يغدو
كساك هشام بن الوليد ثيابه * فأبل وأخلق مثلها جددا بعد
قضى وطرا منه فأصبح ماجدا * وأصبحت رخوا ما تخب وما تعدو
فلو أن أشياخا ببدر تشاهدوا * لبل نعال القوم معتبط ورد
وانظر كتاب نسب قريش 323.
(1) أي سماها لتكون زوجة له، وعده بذلك. وفى الإصابة 701 قسم النساء:
" كانت تذكر لجبير بن مطعم وتسمى له " و " قال أبو بكر: كنت أعطيتها مطعما
لابنه جبير ".
(2) الوجه: الجاه، ويقال رجل موجه ووجيه: ذو جاه.
(3) العتيق: الكريم الرائع من كل شئ.
(4) في الأصل: " صافات " تحريف.
(5) عتبة وشيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف. أما عتبة فقتل يوم بدر، قتله
حمزة. وأما شيبة فقتله عبيدة بن الحارث. وذفف عليه حمزة وعلى. مغازى الواقدي 113.
25

واللبن (1)، فكانت قريش بعد إسلام أبى بكر وكثرة مستجيبيه بمكة تريد
تنفير عتبة بن ربيعة من مجلسه وإيحاشه منه، مخافة أن يستميله بحسن
دعائه، وتأتيه ورفقه، ورقة دموعه وشدة خشوعه فتقول له: أما إنك
ما تأتى ابن أبي قحافة إلا لطيب عسله وإلا لمذقته (2)، وإنما نفروه
بهذا وشبهه لأنه كان ذا عيال مملقا ثقيل المؤونة، خفيف ذات اليد،
مع سنه وسؤدده وحلمه ورأيه.
ولا سواء إسلام ذي اليسر والمال الدثر، المنفق حريرة كسبه وعقيلة
ملكه، والمفرق عنه جمعه والموحش منه أنيسه. الخارج من عز الغنى
وكثرة الصديق، إلى ذل القلة وعجز الفاقة، وإسلام من لا حراك به
ولا جدا عنده، تابع غير متبوع، ومستجد غير مجد، لان من أشد
ما يبتلى به الكريم السب بعد التحية، والضرب بعد الهيبة، والعسر بعد اليسر.
ولا سواء إسلام العالم الأديب الأريب، ذي الرأي السديد،
وإسلام غيره.
ثم كان داعية من دعاة الرسول مقبول القول، متبوع الرأي. ومن
كان في صفة أبى بكر فالخوف عليه أشد، والمكروه إليه أسرع، لأنه
لم يكن على ظهرها عدو النبي صلى الله عليه وسلم إلا وأبو بكر يتلوه
عنده في العداوة.
ولا سواء إسلام من أسلم على أن يمون ويكلف. وإسلام من كان
يمان قبل إسلامه ويكلف بعد إسلامه.

(1) في الأصل: " والبن " وانظر الحاشية التالية.
(2) المذقة: الطائفة من اللبن المذبق، وهو الممزوج بالماء.
26

ولا سواء إسلام الكهل النبيه الذي يحسن عند قريش مطالبته، ولا
يستحى من طلب الثأر عنده، وإسلام الحدث الذي لا يفي بعداوة الجلة،
ولا تستجيز مجازاته العلية *).
ثم كان الذي يلقى أبو بكر في الله ورسوله ببطن مكة، وعلى خلى
الروع (1) آمن السرب رخى البال، كما لقى يوم دعا طلحة إلى الاسلام
فأسلم ومضى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وخذلتهما تيم، وأخذهما نوفل بن
خويلد بن أسد (2) - فأما ابن إسحاق (3) فزعم أنه كان من شياطين
قريش، وأما الواقدي (4) وغيره فزعموا أنه كان يلقب أسد (5) قريش،

*) الكلام من " وكان أبو بكر مع علمه " ص 25 س 4 إلى هنا موضع رد
للإسكافي سيأتي برقم (5) وقد تصرف الإسكافي في كلام الجاحظ بالايجاز الشديد. انظر
ابن أبي الحديد 3: 266.
(2) الروع: القلب والعقل والبال، في الأصل: " الذرع " تحريف.
(2) نوفل بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي. وفيه يقول أبو طالب:
كما قد لقينا من سبيع ونوفل * وكل تولى معرضا لم يجامل
السيرة 175 - 177. وقد قتل مشركا في وقعة بدر. قتله علي بن أبي طالب.
السيرة 508، ومغازي الواقدي 114. وقال ابن حزم في الجمهرة 111: " قتله ابن أخيه
الزبير بن العوام ".
(3) هو محمد بن إسحاق شيخ أهل المغازي. المتوفى سنة 151. تهذيب التهذيب وعيون
الأثر لابن سيد الناس 1: 8 - 17.
(4) هو أبو عبد الله محمد بن عمر بن واقد الواقدي. ولد سنة 130 وولاه المأمون
القضاء بالعسكر، وتوفى سنة 207 تهذيب التهذيب، وعيون الأثر 1: 17 - 21.
(5) لم يظهر من هذه الكلمة في الأصل إلا الألف وإحدى أسنان السين، وإثباتها
من جمهرة أنساب العرب لابن حزم 111، قال: " وكان يقال لنوفل بن خويلد: أسد
قريش، وأسد المطيبين. وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: اللهم
أكفنا ابن العدوية! يعنى نوفلا ".
27

وهو الذي يقال له ابن العدوية - فقرنهما في حبل. وفتنهما على دينهما
وعذبهما، فلذلك سمى أبو بكر وطلحة " القرينين ".
وأبو بكر الذي قام دون النبي صلى الله عليه وسلم بمكة وقد اعتوره
المشركون حين قال: " أما والله لقد جئتكم بالذبح!! (1) " قال أبو بكر
ويلكم، أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله! فصدعوا فودى رأسه.
(* * ثم الذي لقى في مسجده الذي كان بناه على بابه في بنى جمح،
وحيث رد الجوار وقال: لا أريد جارا سوى الله. وقد كان بنى مسجدا
يصلى فيه ويدعو الناس إلى الاسلام، وله صوت رقيق ووجه عتيق،
فكان إذا قرأ وبكى، وقعت عليه (2) المارة والنساء والصبيان والعبيد،
فلما أوذى في الله حتى بلغ جهده استأذن النبي صلى الله عليه في الهجرة،
فأذن له، فأقبل يريد المدينة فتلقاه الكناني سيد الأحابيش (3)، فعقد له

(1) إنذار بالعذاب والهلاك. جاء في السيرة 183 في رواية عبد الله بن عمرو بن العاص:
" فأقبل يمشى حتى استلم الركن ثم مر بهم طائفا بالبيت، فلما مر بهم غمزوه ببعض القول.
قال: فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: ثم مضى فلما مر بهم الثانية
غمزوه بمثلها فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مر بهم الثالثة فغمزوه
بمثلها، فوقف ثم قال: أتسمعون يا معشر قريش، أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح!
قال: فأخذت القوم كلمته حتى ما منهم رجل إلا لكأنما على رأسه طير واقع ".
وفى عيون الأثر 1: 104 أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بعد ذلك في خطابه للمؤمنين:
" أبشروا فإن الله عز وجل مظهر دينه، ومتم كلمته، وناصر نبيه، إن هؤلاء الذين ترون
مما يذبح الله بأيديكم عاجلا ". قال عثمان بن عفان: " ثم انصرفنا إلى بيوتنا، فوالله لقد
رأيتهم قد ذبحهم الله بأيدينا ".
(2) في الأصل: " ووقعت ".
(3) الكناني هو مالك بن الدغنة، أحد بنى الحارث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة.
والأحابيش. هم بنو الحارث بن بكر بن عبد مناة. والهون بن خزيمة بن مدركة. وبنو =
28

جوارا وقال: والله لا أدع مثلك يخرج من بين أخشبي مكة. فرجع وقد
عقد له الكناني جوارا. كل ذلك رغبة في قرب النبي صلى الله عليه،
فلما رجع إلى مكة عاد إلى مسجده وصنيعه. فمشت قريش إلى جاره وعظموا
الامر عنده وأجلبوا عليه فقالوا: قد أفسد أحداثنا. وعبيدنا وإماءنا
ونساءنا. في منازلنا!! فمشى إليه الكناني وقال: ليس على هذا أعطيتك
الجوار، ادخل بيتك واصنع فيه ما بدا لك * *)! قال له أبو بكر: أو أرد
عليك جوارك وأرضى بجوار الله؟ فلما قطع الجوار وترادا العهد وتباريا (1)
لقى أبو بكر رضي الله عنه من الأذى والذل والضرب والاستخفاف
ما بلغك. وهو أمر موجود في جميع السير. وليس المفتون كالوادع. قال الله
سبحانه: " والفتنة أشد من القتل ". وذلك أن المشركين كانوا قد
صاروا إلى أن يفتنوا الناس عن دينهم بالتعذيب. والمسلمون نفر يسير،
قد خذلتهم عشائرهم. وأسلمتهم أهلوهم. فألقوا خبابا على الرضف (2).
حتى ذهب ماء متنه. وكان أبو ذر حليفا مستضعفا فكان يدخل بالنهار
في خلال أستار الكعبة ويخرج بالليل مستخفيا. وكانت بنو مخزوم تعذب
عمارا وأباه وأمه برمضاء مكة، فيمر بهم النبي صلى الله عليه وسلم فيقول:

= المصطلق من خزاعة. السيرة 245 والروض الانف 1: 231.
وفى العرب آخر يسمى " ابن الدغنة " وهو ربيعة بن رفيع بن أهبان بن ثعلبة بن ربيعة
بن يربوع. السيرة 852.
* *) الكلام من " ثم الذي لقى في مسجده " ص 28 س 6 إلى هنا موضع رد
للإسكافي سيأتي برقم (7).
(2) تباريا: صنع كل منهما مثل صاحبه. وقد تكون مسهل " تبارءا ".
(2) الرضف: الحجارة التي أحميت بالشمس أو النار. واحدتها رضفة.
29

" صبرا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة! " فذكر عمار عند ذلك عياذ
أبى بكر لبلال حين أعتقه من العذاب فيمن أعتق، فقال:
جزى الله خيرا عن بلال ودينه * عتيقا وأخزى فاكها وأبا جهل (1)
وقال سعيد بن جبير: قلت لعبد الله بن عباس: أكان المشركون
يبلغون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه من العذاب ما يعذرون به
في ترك دينهم؟ قال: والله إن كانوا ليضربون أحدهم ويعطشونه حتى
لا يقدر أن يستوى جالسا من الجهد، حتى إن كان أحدهم ليعطيهم الذي
سألوه، من الفتنة، وحتى يقال له: اللات والعزى إلهك من دون الله؟
فيقول: نعم، وحتى إن الجعل ليمر بهم فيقال (2) له: هذا إلهك؟
فيقول: نعم.
فلو كان علي بن أبي طالب قد ساوى أبا بكر في الاسلام لقد كان
فضله أبو بكر بأن أعتق من المفدين المفتونين بمكة. وحتى [لو (3)] لم يكن
غير ذلك لكان لحاقه عسيرا (4)، ولو كان ذلك يوما واحدا لكان عظيما،
فكيف وكان بين ظهور النبي عليه السلام ودعائه إلى أن هاجر إلى المدينة
ثلاث عشرة سنة، في كل ذلك أبو بكر وخباب وأصحاب النبي صلى الله
عليه وسلم يتجرعون المرار وعلى وادع رافه، غير طالب ولا مطلوب
وليس أنه لم يكن في طباعه (5) النجدة والشهامة، وفى غريزته الدفع والحماية،

(1) في الأصل: " وأخرى "، تحريف. وعتيق: لقب أبى بكر.
(2) في الأصل: " فيقول ".
(3) ليست في الأصل.
(4) ابن أبي الحديد: " ولو لم يكن له غير ذلك لكان لحاقه عسيرا وبلوغ منزلته
شديدا ".
(5) في الأصل: " لمن يكون في طباع " صوابه عند ابن أبي الحديد 2: 267.
30

ومن أكرم عنصر وأطيب مغرس، ولكن لم تكن تمت له أداته، ولم
تستجمع له قواه ولم تتكامل آدابه، لان العقل وإن اشتد مغرزه وثبتت
أواخيه وجاد نحته (1) فإنه لا يبلغ بنفسه درك الغاية، دون كثرة السماع
والتجربة، ولان رجال الطلب وأصحاب الثأر وأهل السن والقدر يغمطون
ذا الحداثة، ويزرون على [ذي (2)] الصبا والغرارة إلى أن يلحق بالرجال
يصير من الأكفاء *). (* * حتى كان آخر (3) ما لقى هو وأهله في أمر
الغار، وقد طلبته قريش وجعلت فيه مائة بعير كما جعلت في النبي صلى الله
عليه وسلم، فلقى أبو جهل أسماء بنت أبي بكر - وهى ذات النطاقين -
منصرفها من الغار، فسألها فكتمته فلطمها، فقالت أسماء: لقد لطمني
لطمة أندر منها قرطا كان في أذني * *).
فصل: (* * * ثم الذي كان من دعائه إلى الاسلام وحسن احتجاجه
حتى أسلم على يديه طلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن وعثمان، لأنه ساعة
ما أسلم دعا إلى الله ورسوله * * *). وكان مألفا، لأدبه وعلمه ورحب عطنه.
(* * * * وقالت أسماء: " ما عرفت أبى إلا وهو يدين بالدين، ولقد
رجع إلينا يوم أسلم فدعانا إلى الاسلام فما رمنا حتى أسلمنا وأسلم أكثر
جلسائه "، ولذلك قالوا: لمن أسلم بدعاء أبى بكر أكثر ممن أسلم

(1) النحت: الأصل.
(2) ليس في الأصل. وعند ابن أبي الحديد: " ويزدرون بذى الصبا ".
*) الكلام من " ثم الذي كان يلقى أبو بكر " إلى هنا مع الايجاز وإفراد بعض العبارات
بالرد رقم (7) موضع رد للإسكافي سيأتي في رقم (6).
(3) في الأصل " حتى أن أحر "، صوابه في ح.
* *) انظر رد الإسكافي رقم (8).
* * *) انظر رد الإسكافي رقم (9).
31

بالسيف. ولم يذهبوا من قولهم إلى العدد بل عنوا الكثرة في القدر،
لان من أسلم على يده خمسة من الشورى، كلهم يفي بالخلافة، وهم
أكفاء على ومنازعوه الرياسة والإمامة. فقد أسلم على يده أكثر ممن
أسلم بالسيف، لان هؤلاء أكثر من جميع الناس * * * *).
فصل: وممن أسلم على يده بلال، وهو الذي يقول فيه عمر بن الخطاب
رضي الله عنه: " بلال سيدنا ومولى سيدنا ". ورووا أنه قال:
" أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا " وقال النبي صلى الله عليه وسلم: بلال
سابق الحبش، وبلال " مولى أبى بكر " ثلاث مرات. أسلم على يده
فأعتقه من رق الكفر. وأعتقه من رق العذاب حيث كان يفتن في الله
ورسوله، وأعتقه من رق العبودية.
وكان من قصة بلال أنه كان عبدا لبنى جمح وكانت دار أبى بكر
ومسجده في حي جمح، ولم يكن ببطن مكة مسجد سواه، فلما سمع
دعاء أبى بكر أسلم وحده (1) فلما سمع (2) أمية بن خلف فكان يخرجه
إذا حميت الظهيرة فيطرحه على ظهره ببطحاء مكة، ثم يضع صخرة على
صدره، ثم يحلف بإلهه لا ينزعها عن صدره أو يكفر بمحمد وإلهه ويؤمن
باللات والعزى! وبلال يأبى وهو يقول: أحد أحد! وكان يمر به ورقة
بن نوفل فيقول: نعم يا بلال، أحد أحد!! فمر به أبو بكر وهو يريد
داره في بنى جمح. فرأى أمية وما يصنع بلال، فقال: ألا تتقى الله؟

* * * *) الكلام من " وقالت أسماء " إلى هنا موضوع رد الإسكافي رقم (10).
(2) في الأصل: " واحدة ".
(2) لعلها " وسمع ".
32

إلى متى تعذب هذا المسكين؟! قال: أنت أفسدته! يعنى أنت
دعوته حتى أسلم - فأنقذه! قال أبو بكر: عندي غلام أسود جلد، على
دينك، أعطيكه وآخذه. فأعتقه. فهو عتيقه ثلاث مرات (1).
(* ثم أعتق بعد ذلك من المعذبين في الله ست رقاب، منهم عامر بن
فهيرة، شهد بدرا وهاجر مع رسول الله عليه السلام وأبى بكر. لأنه كان
في موضع الثقة. حيث خرجا إلى الغار هاربين من المشركين متوجهين إلى
المدينة. واستشهد يوم بئر معونة.
وأعتق زنيرة (2) ثلاث مرات. فلما اشتراها وأعتقها ذهب بصرها،
وكانت تعذب في الله فيمن يعذب بمكة، فقال المشركون: ما أذهب بصرها
إلا اللات والعزى! قالت: كذبوا ما يضران ولا ينفعان! فرد الله عليها
بصرها. فزعم الزهري (3) أن موليين لابن الغيطلة (4) أسلما حين رد الله
عليها بصرها. وقالا: هذا بلا شك (5) من إله محمد وابن أبي قحافة!
ثم أعتق النهدية وابنتها وقد كانتا تعذبان في الله، وكانتا لامرأة من بنى
عبد الدار. ومر بهما أبو بكر وقد بعثت العبدرية (6) معهما بطحين وهى

(1) إشارة إلى ما سبق من أنه أعتقه من رق الكفر، ومن رق العذاب، ومن رق
العبودية. انظر ما سبق في ص 32 س 9 - 10.
(2) زنيرة، بكسر الزاي وتشديد النون المكسورة. كما ضبط الحافظ في الفتح 363
قسم النساء، والسهيلي في الروض الأنف 1: 203. وكانت رومية.
(3) في الأصل: " الزهرفى ".
(4) كان ابن الغيطلة من أشد أعداء الرسول - والغيطلة أمه، كانت كاهنة من بنى سهم
في الجاهلية - واسمه الحارث بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم السهمي. انظر إمتاع
الاسماع 1: 22 وحواشيه.
(5) في الأصل: " هذا بك شك ".
(6) هي مولاتهما، نسبة إلى بنى عبد الدار.
33

تقول: والله لا أعتقكما أبدا. قال أبو بكر: حلا (1) يا أم فلان؟ قالت:
حلا! أنت أفسدتهما فأعتقهما. قال: فبكأين هما (2) يا أم فلان؟ قالت:
بكذا وكذا. قال: فقد أخذتهما، وهما حرتان. أرجعا إليها طحينها.
قالت: أو نفرغ منه يا أبا بكر (3)؟ قال: وذاك إن شئتما.
ومر بجارية بنى مؤمل - حي من بنى عدى بن كعب - وعمر بن
الخطاب يعذبها لتترك الاسلام، وهو يضربها فإذا مل قال: أعتذر إليك
إني لم أتركك إلا ملالة (4)! فابتاعها فأعتقها.
وأعتق أم عبيس (5).
فقال له أبو قحافة: أي بنى، أراك تعتق رقابا ضعافا، فلو أنك
إذ فعلت أعتقت رجالا جلدا (6) منعوك وقاموا دونك؟! قال: يا أبت

(1) في السيرة 206 جوتنجن وهامش الروض 1: 203: " حل " بالرفع في الموضعين
ولكل وجه. حلا، أي تحللى من يمينك، انظر الرياض النضرة 1: 89.
(2) أي بكم هما، وفى السيرة: " فبكم هما " قال ابن هشام في المغنى عند الكلام على
" كأين ": " لا تقع مجرورة " خلافا لابن قتيبة وابن عصفور، أجازا: بكأين تبيع هذا
الثوب " فما أورد الجاحظ شاهد لمذهبهما.
(3) في السيرة: " أو نفرغ منه يا أبا بكر ثم نرده إليها " كأنهما أرادتا أن تتخففا
من ثقل الحمل.
(4) بعده في السيرة: " فتقول: كذلك فعل الله بك!! ".
(5) في الأصل: " أم عيسى " تحريف، صوابه في السيرة وإمتاع الاسماع 19. ويقال
فيها أيضا " أم عبس " وكانت فتاة من بنى تيم بن مرة، وهى أم عبيس بن كريز بن ربيعة
ابن حبيب بن عبد شمس بن مناف.
(6) الجلد، بالتحريك: الشدة والقوة، وهو جلد وجليد، من أجلاد وجلداء
وجلاد وجلد.
34

إنما أعتق المعذبين! فأنزل الله: " أما من أعطى واتقى (1). وصدق
بالحسنى " إلى قوله: " وما لاحد عنده من نعمة تجزى. إلا ابتغاء وجه
ربه الاعلى. ولسوف يرضى *) ". فتفهم معنى قوله: " وما لاحد عنده من نعمة
تجزى. إلا ابتغاء وجه ربه الاعلى " وتفهم معنى قوله: " ولسوف يرضى ".
وقد سمعت قول الله سبحانه حيث خاطب جماعة المسلمين وذكر
الأموال وعظم قدرها في عيونهم، وشدة إخراجها عليهم. وأنه لو كلفهم
ذلك لأخرجهم ثقل التكليف إلى غاية البخل بها والشح عليها. والايثار
لحبسها فقال: " لا تهنوا (3) وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن
يتركم أعمالكم، إنما الحياة الدنيا لعب ولهو، وإن تؤمنوا وتتقوا
يؤتكم أجوركم " ثم قال: " ولا يسألكم أموالكم. إن يسألكموها
فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم ". فتفهم معنى هذا الكلام وأن الله
لم ينزله عبثا (4). ثم قال: " هاأنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل
الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغنى
وأنتم الفقراء " ألا تراه خاطب جميع المسلمين فقال: " ولا يسألكم أموالكم
إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أصغانكم (5) ".
(* ثم قد علمتم ما قد صنع أبو بكر بماله (6)، وكان المال أربعين ألفا

(1) التلاوة: " فأما من أعطى واتقى ". وحذف الواو والفاء ونحوهما في مواضع
الاقتباس من القرآن الكريم جائز. انظر ما كتبت في حواشي الحيوان 4: 57.
*) الكلام مع إيجاز شديد من قوله " ثم أعتق بعد ذلك من المعذبين " ص 33 س 4
إلى هنا موضع رد للإسكافي، وسيأتى برقم (11).
(3) التلاوة: " فلا تهنوا ". سورة محمد 35. وانظر التنبيه السابق رقم (1).
(4) في الأصل: " عتبا ".
(5) بعده يبدأ الاختيار الثاني من نسخة المتحف البريطاني المرموز إليها بالرمز (ب).
(6) ب: " في ماله ".
35

فأنفقه على نوائب الاسلام وحقوقه، ولم يكن ماله ميراثا لم يكد فيه فهو
غزير (1) لا يشعر بعسر اجتماعه (2) وامتناع رجوعه. ولا كان هبة ملك
فيكون أسمح لطبيعته وأخرق في إنفاقه، بل كان ثمرة كده وكسب
جولانه وتعرضه. ثم لم يكن خفيف الظهر قليل النسل قليل العيال،
فيكون قد جمع اليسارين، [لان المثل الصحيح السائر: قلة العيال أحد
اليسارين (3)!] بل كان ذا بنين وبنات وزوجة وخدم وأحشام (4)، يعول
مع ذلك أبويه وما ولدا، ولم يكن فتى حدثا فتهزه أريحية الشباب
وغرارة الحداثة. ولم يكن بحذاء إنفاقه طمع يدعوه، ولا رغبة تحدوه،
ولم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك عنده يد مشهورة فيخاف العار
في ترك مواساته (5) وإنفاقه عليه، ولا كان من رهطه دنيا (6) فيسب
بترك مكانفته ومعاونته وإرفاقه. فكان [إنفاقه (7)] على الوجه الذي
لا نجد أبلغ في غاية الفضل منه *)، ولا أدل على غاية الصدق والبصيرة منه.

(1) في النسختين: " عزيز ".
(2) في الأصل: " احتماله " صوابه في ب.
(3) التكملة من ب.
(4) أحشام: جمع حشم، وهم خاصة المرء الذين يغضبون له من عبيد أو أهل أو جيرة.
ب: " وحشم ".
(5) هذا ما في ب. وفى الأصل: " مواساته كعلى " والكلمة الأخيرة مقحمة.
(6) يقال هو ابن عمه دنيا، بكسر الدال مع التنوين وعدمه، وبضمها مع ترك الاجراء
إذا كان ابن عمه لحا لاصق النسب.
(7) التكملة من ب.
*) الكلام من " ثم قد علمتم ما قد صنع " ص 35 س 16 إلى هنا موضوع
الرد رقم (12).
36

(* وقد تعلمون ما كان يلقى أصحاب النبي عليه السلام ببطن مكة من
المشركين، وقد تعلمون حسن صنيع كثير منهم، كصنيع حمزة حين ضرب
أبا جهل بقوسه، فبلغ في هامته. في نصرة النبي صلى الله عليه وسلم،
وأبو جهل يومئذ أمنع البطحاء، وهو رأس الكفر.
ثم صنيع عمر حيث يقول يوم أسلم: " والله لا يعبد (1) الله سرا بعد
اليوم! " حتى قال بعد موته عبد الله بن مسعود: " ما صلينا ظاهرين
حتى أسلم عمر (2) ".
ثم كان الذي لقى في ذلك اليوم بعينه من المشركين، ثم مضيه من فوره
حتى يقرع على أبى جهل الباب، فلما حس به أبو جهل خرج إليه وهو
يقول: مرحبا بابن أختنا - وكانت أمه حنتمة بنت هاشم ذي الرمحين
ابن المغيرة - قال: أتدرى ما صرت بعدك يا أبا الحكم! قال: خير،
فليكن. قال: إنه خير. إني آمنت بالله وبرسوله وخلعت الأنداد،
وجعلت (3) اللات والعزى، وصدقت محمدا. قال: فلا قرب الله قرابتك!!
ألا ترى إلى قوة (4) شهامته وجلده، وصدق نيته في كشف القناع،
والمبادأة لرأس الكفر وسيد البطحاء عند نفسه ورهطه.
وقوله بعد ذلك لجميع المشركين: أما والله لو قد (5) صرنا مائة لتركتموها
لنا أو تركناها لكم - يعنى مكة.

(1) ب: " لا نعبد " بالنون.
(2) إلى هنا ينتهى هذا الاختيار في ب الذي بدأ في ص 35 س 16.
(3) كذا في الأصل.
(4) في الأصل: " قوله ".
(5) في الأصل: " لقد ".
37

ثم صنيع [الزبير (1)] في سله السيف شادا به مستقبل المشركين، يريد
خبط من لقيه منهم. فتلقاه النبي صلى الله عليه مقبلا فقال: مالك
يا زبير؟! قال: بأبي أنت وأمي، سمعت قائلا يقول: قد أخذ محمد
وأوذى! فكان أول من شهر سيفا في الاسلام.
ثم صنيع سعد (2) وضربه عظيما من عظمائهم على أم رأسه بلحى بعير،
فكان أول من أراق دما في الاسلام. وهو الذي يقول لرسل على حين
أتوه يدعونه إلى بيعته: ثكلتني أمي، لئن كنت مع رسول الله صلى الله
عليه سادس ستة (3) ما لنا طعام إلا ورق البشام. ثم جاءني أعراب
الأوس تعلمني دين الله؟!.
وإنما ذكرت لك هذا لتعلم أقدار القوم والذي لقوا من الجهد والخوف
والذل والتطراد والضرب. ولم نسمع لعلى في جميع ذلك ذكرا.
ولم يكن ذلك المكروه سنة ولا سنتين، ولكن ثلاث عشرة سنة،
وهذا أمر لا يلحق ولا يدرك الفائت منه. كما قال الله: " لا يستوى
منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا
من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى (4) ".

(1) تكملة يقتضيها السياق. وانظر الإصابة 2783.
(2) هو سعد بن أبي وقاص، أحد العشرة المبشرين بالجنة وآخرهم موتا، وأحد الستة
أهل الشورى. الإصابة 3187. وفيها: " فبينا سعد في شعب من شعاب مكة في نفر من
الصحابة إذ ظهر عليهم المشركون فنافروهم وعابوا عليهم دينهم حتى قاتلوهم. فضرب سعد
رجلا من المشركين بلحى جمل فشجه ". وذكر في السيرة 166 أنهم كانوا يصلون حينئذ.
(3) في الإصابة: وقع في صحيح البخاري عنه أنه قال: " لقد مكثت سبعة أيام وإني
لثالث الاسلام " وانظر فتح الباري 7: 66 - 67.
(4) الآية 10 من سورة الحديد.
38

فإذا كان من أنفق وقاتل قبل الفتح أعظم درجة. لان النبي صلى الله
عليه وسلم قال: " لا هجرة بعد الفتح " فما ظنك بمن قاتل وأنفق قبل
الهجرة. ومن لدن (1) مبعث النبي صلى الله عليه إلى الهجرة أعظم من
القيام بأمر الاسلام بعد الهجرة [و] أفضل من القيام بأمر الاسلام
بعد الفتح.
فإن قالوا: قد عرفنا أن أبا بكر قد أنفق قبل الهجرة ولا نعرفه
قاتل قبل الهجرة. فقتال على بعد الهجرة أفضل من إنفاق أبى بكر
قبل الهجرة.
* (قلنا: إن أبا بكر وإن لم يقاتل قبل الهجرة فقد قتل مرارا وإن لم يمت
قبل الهجرة. ولأنه لو جمع جميع المكروه الذي لقى أبو بكر ثلاث عشرة
سنة لكان أكثر من عشرين قتلة (2).
ولو كان في ذلك الزمان القتال ممكنا والوثوب مطمعا لقاتل أبو بكر
ونهض كما نهض في الردة. وإنما قاتل على في الزمان الذي [قد (3)]
أقرن [فيه (3)] أهل الاسلام لأهل الشرك (4)، فطمعوا أن تكون الحرب

(1) في الأصل: " وبين إذن " صوابه في ح 3: 275.
*) بعده في ح: " وإلى بعد الهجرة ". والكلام من أول قوله: " وقد تعلمون
ما كان يلقى " في ص 37 س 1 إلى هنا موضع الرد رقم (13).
(2) يبدأ بعده اقتباس جديد في نسخة (ب) سننبه على نهايته.
(3) التكملة من ب.
(4) يقال أقرن له، أي أطاقه وقدر عليه، وأقرنت فلانا، أي صرت له قرنا.
وفى ح: " في الزمان الذي استوى فيه أهل الاسلام وأهل الشرك ". والنصوص التي في ح
يكثر فيها التصرف.
39

سجالا، وقد أعلمهم الله أن العاقبة للمتقين، وأبو بكر مفتون مفرد (1)
[ومطرود مشرد، ومضروب معذب (2)] في الزمان الذي ليس بالاسلام
وأهله نهوض ولا حركة، ولذلك قال أبو بكر بعد أن استفاض الاسلام
وضرب بجرانه وظهر أمره: " طوبى لمن مات في نأنأة الاسلام " يقول:
في أيام ضعفه وقلته *)، حيث كانت الطاعة أعظم. لفرط الاحتمال،
والبلاء أغلظ، لشدة الجهد، لان الاحتمال كلما كان أشد وأدوم كانت
الطاعة أفضل، والعزم فيه أقوى.
ولا سواء مفتون مشرد لا حيلة عنده، ومضروب معذب لا انتصار
به ولا دفع عنده، ومباطش مقرن (3) [يشفى غيظه ويرون غليله، وله
مقدم يكنفه ويشجعه.
ولا سواء مقهور (4)] لا يغاث (5)، ولم ينزل القرآن بعد بظفره،

(1) في الأصل: " مقتول " صوابه في ب. وبدل " مفرد " في ب " معذب ".
(2) التكملة من ب. و " معذب " هي في أصلها هنا " ومغرب ".
*) ساق الإسكافي الكلام من " قلنا إن أبا بكر " ص 39 س 9 إلى هنا على هذا
الوجه: " قال الجاحظ: ولابى بكر مراتب لا يشركه فيها على ولا غيره وذلك قبل الهجرة
فقد علم الناس أن عليا عليه السلام إنما ظهر فضله وانتشر صيته وامتحن ولقى المشاق منذ يوم
بدر، وأنه إنما قاتل في الزمان الذي استوى فيه أهل الاسلام وأهل الشرك وطمعوا في أن
تكون الحرب بينهم سجالا، وأعلمهم الله تعالى أن العاقبة للمتقين. وأبو بكر كان قبل الهجرة
معذبا ومطرودا مشردا. في الزمان الذي ليس بالاسلام وأهله نهوض ولا حركة، ولذلك قال
أبو بكر في خلافته: طوبى لمن مات في نأنأة الاسلام. يقول: في ضعفه " ثم عقب عليه بالرد
رقم (14) في ملحقات الكتاب.
(3) المباطشة: مفاعلة من البطش وهو السطوة والاخذ بالعنف. والمقرن: المطيق
القادر. ب: " مفرق ".
(4) التكملة من ب.
(5) في الأصل: " لا يعاب " صوابه في ب.
40

وقد هتك اليأس لطول ما لقى حجاب قلبه. ونقض قوى طمعه حتى
بقى وليس معه إلا احتسابه. ومقاتل في عسكر معه عز الرجاء (1) وقوة
الطمع، وطيب نفس الآمل (2).
فليس لعلى موقف من المواقف إلا ولابى بكر أفضل منه إما في ذلك
الموقف وإما في غيره. ولابى بكر مواقف لا يشركه فيها على ولا غيره.
وإنما محص على وامتحن من لدن يوم بدر إلى آخر غزوات النبي
صلى الله عليه وسلم (* وبين المحنة في الدهر الذي كان أصحاب النبي صلى الله
عليه وسلم فيه مقرنين لأهل مكة ومشركي العرب ومعهم أهل يثرب أصحاب
النخيل والآطام، والارب والاقدام، والصبر والمواساة. والايثار والمحاماة.
والعدد الدثر والفعل الجزل، وبين الدهر الذي كانوا فيه بمكة يفتنون
ويشتمون ويضربون ويشردون، ويجوعون ويعطشون، مقهورين لا حراك
بهم. وأذلاء، لا دفع عندهم، وفقراء لا مال لهم. ومغيظين
ولا يمكنهم السفهاء (3)، ومستخفين لا يمكنهم اللقاء (4) - فرق بين.
ولقد كانوا في حال أخرجت لوطا - وهو نبي، والنبي خير من
جميع الناس - إلى أن قال لقومه حين لقى منهم ما لقى: " لو أن لي بكم
قوة أو آوى إلى ركن شديد ". [وقال النبي صلى الله عليه وآله:
" عجبت من أخي لوط كيف قال: أو آوى إلى ركن شديد (5)] وهو يأوى
إلى الله سبحانه!

(1) في الأصل: " غير الرجا " وفى ب: " عز الرجال " ووجههما ما أثبت.
(2) هذا نهاية الاختيار الذي بدأ في ص 39 س 12.
(3) كذا. ولعل قبلها كلمة ساقطة.
(4) عند ابن أبي الحديد: " لا يمكنهم إظهار دعوتهم ".
(5) التكملة من ح.
41

ثم لم يكن ذلك يوما ولا يومين، ولا شهرا ولا شهرين، ولا عاما
ولا عامين، ولكن السنين بعد السنين.
وكان أغلظ القوم محنة وأشدهم احتمالا بعد رسول الله صلى الله عليه
أبو بكر الصديق، لأنه أقام ما أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة،
وذلك ثلاث عشرة سنة. وإنما قلنا ذلك من أجل أن الناس اختلفوا
في مقدار مبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى هجرته. فقال قائل: خمس
عشرة سنة، وقال آخرون: ثلاث عشرة سنة، وقال قوم: عشر سنين،
فكان أعدل الأمور وأقسطها طرح الطرفين، والاخذ بأوسط الروايات *)،
كما صنعنا في عمر علي بن أبي طالب، حيث وجدنا ولده جعفر بن محمد
[و] هو دونه، يخبر أن عليا استشهد وهو ابن سبع وخمسين، وقالت
(علماء الرافضة): نحن أعلم به من ولده إلا الأئمة منهم. ولم يقل هذا
القول إمام منهم قط، ولكن على استشهد وهو ابن ثمان وخمسين سنة،
ثم روى الناس بعد أنه استشهد وهو ابن ستين وابن ثلاث وستين
وابن أربع وستين، أخذنا بأوسط ما قالوا فطرحنا سنيه وسني عمر وعثمان
وأبى بكر والهجرة ومقام النبي صلى الله عليه بمكة، فحصل العدد الذي أثبتناه
في صدر ذكرنا القضية.
(* فإن قالوا: قد صنع علي بن أبي طالب رضي الله عنه بمكة أفضل
من جميع ما ذكرتم، ولقى أشد مما لقى أفضلهم، وذلك أن النبي صلى الله عليه
وسلم أباته في مضجعه وعلى فراشه والمشركون يرصدونه، وقد سقط إليهم
أن النبي صلى الله عليه وسلم يريد المدينة، فقد تحزموا واجتمعوا وقلبوا

*) الكلام من " وبين المحنة " ص 41 س 7 إلى هنا موضع الرد رقم (15).
42

الرأي فرأوا أن يبيتوه على فراشه إن لم يظهر لهم. فقال لعلى: " نم على
فراشي وتغش ببردى الحضرمي، فإنهم إن رأوا حجمك فوق الفراش ودون
البرد لم يستريبوا، وخفى لهم (1) أمرى، ولم يتبعوا أثرى ". فنام على على
فراشه ينتظر وقع السيوف، ويتوقع رضخ الحجارة، باذلا نفسه مصطبرا.
وليس فوق بذل النفس درجة يلتمسها صابر، ولا يبلغها طالب.
وإن كان أبو بكر قد أحسن في خروجه وهجرته وصحبته، وهربه
مع النبي صلى الله عليه وسلم، واستخفائه في الغار. فإن ذلك لن يبلغ من
الاحتمال والخطار والخوف، قدر ما كان فيه علي رضي الله عنه، لان طمع
النجاة في أحدهما أقوى، والنفس له أرجى.
قيل لهم: لو كان الامر كما تقولون في هذين الخوفين لم يقم صرف
ما بينهما (2) بقدر عشر ما لقى أبو بكر من جميع ما وصفنا وما صنع أبو بكر
في ثلاثة عشر سنة، من كثرة الانفاق، وإيثار الفقر على الغنى، والوحدة
على الأنسة، والهوان بعد الكرامة. والخوف بعد الامن، والضرب
والافتتان بعد الاكرام والتعظيم، مع عتق المعذبين وكثرة المستجيبين،
ومع صرف وزن ما بين الطاعتين، لان طاعة الشاب الغرير أو الحدث
الصغير، الذي في عز صاحبه عزه، ليس كطاعة الحكيم المحتنك الأريب،
الذي لا يرجع تسويده لمن سوده [و] إلى رهطه *).

(1) في الأصل: " لي ".
(2) صرف ما بينهما، أي فضل ما بينهما. يقال: بين الدرهمين صرف، أي فضل،
لجودة فضة أحدهما.
*) الكلام من " فإن قالوا قد صنع " ص 42 س 17 إلى هنا موضع رد للإسكافي
سيأتي برقم (16).
43

* (وفرق آخر: أن أمر الغار وقصة أبى بكر وصحبته مع النبي صلى الله
عليه وسلم وكونه معه فيه، نطق [به] القرآن وصح به الاجماع، كالصلوات
الخمس، والزكاة المفروضة، والغسل من الجنابة، حتى إن من أنكر
ذلك عند الأمة مجنون أو كافر. وأمر على ونومه على الفراش أنما جاء
مجئ الحديث، وكما تجئ روايات السير وأشعارها، وهذا لا يوازن
ذا ولا يكايله *).
وأول مراتب العالم أن يعرف المعارضة والمقابلة، والمنقوص والمتساوى،
ولو أن رجلا من أوساط الناس أظهر شكا في قصة على ومبيته،
وقال: قد سمعت ذلك ولعله، ولكني مشفق للذي (1) أعرف من
أكاذيب الشيع، وتوليد حمال السير، لم يكن عليه بأس من الامام.
ولو قال رجل لك، وهو رجل من أوسط الناس: والله ما أدرى والله،
لعل الله إنما عنى بقوله: " ثاني اثنين إذ هما في الغار " علي بن أبي طالب،
لوجد عند الامام غاية النكير.
(* وفرق آخر: أنه لو كان مبيت على على فراش النبي صلى الله عليه
وسلم جاء مجئ كون أبى بكر في الغار مع النبي، لم يكن في ذلك كبير
طاعة، فضلا عن أن يساوى أبا بكر أو يبرز عليه، لان الذين نقلوا -
كاذبين كانوا أو صادقين - أن النبي صلى الله عليه وسلم أبات عليا على
فراشه، هم الذين نقلوا أن النبي عليه السلام قال: " تغش ببردى،

*) الكلام من " وفرق آخر أن أمر الغار " في أول هذه الصفحة إلى هنا موضوع
الرد رقم (17).
(1) في الأصل: " الذي ".
44

ونم في مضجعي، فإنه لن يخلص إليك شئ تكرهه " وهكذا لفظ هذا
الحديث، لا يشك في ذلك أحد. ولم ينقل إلينا أن النبي صلى الله عليه
قال لأبي بكر: أنفق واحتمل، ولن تعطب ولن يصل إليك مكروه *).
(* فإن قالوا: إن عليا وإن كان حدثا - كما تزعمون - أيام مكة فإنه قد
لحق السابق له ثم برز عليه بصنيعه يوم بدر وأحد والخندق، ويوم خيبر،
وفى حروب النبي صلى الله عليه وسلم، إلى أن قبضه الله سبحانه إلى جنبه،
فجمع أمرين: كثرة التعرض للمنايا، وعظم الغناء بقتل الاقران والفرسان،
والقادة والسادة، لان من له من قتل الانجاد والأمجاد ما ليس لغيره،
فله من التعرض والاحتمال والصبر والاحتساب ما ليس لغيره.
قلنا: إن كثرة القتل وكثرة المشي بالسيف لو كان أشد المحن
وأعظم الغناء، وأدل على الرياسة، كان ينبغي أن يكون لعلى والزبير،
وأبى دجانة (1)، ومحمد بن مسلمة، وابن عفراء (2)، والبراء بن مالك من عظم
الغناء واحتمال المكروه بالقدر العظيم ما ليس للنبي صلى الله عليه وسلم،

*) الكلام من قوله " وفرق آخر أنه لو كان " ص 44 س 14 إلى هنا موضع
الرد رقم (18).
(1) بضم الدال. واسمه سماك بن خرشة. الإصابة 371 من قسم الكنى.
(2) لم يذكر لنا الجاحظ من يعنيه بابن عفراء، وهم ثلاثة: عوف، ومعاذ، ومعوذ،
بنو الحارث بن رفاعة، وأمهم عفراء بنت عبيد بن ثعلبة. السيرة 503. وكلهم شهد بدرا،
واستشهد منهم فيها عوف ومعوذ ابنا عفراء، السيرة 507 والإصابة 6087، 8157
وإمتاع الاسماع 91. وشهد العقبة منهم معاذ. الإصابة 8034 وأظهرهم شجاعة في تلك
الحروب هو عوف، قال ابن إسحاق: " وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن عوف بن الحارث
وهو ابن عفراء قال: يا رسول الله، ما يضحك الرب من عبده؟ قال: غمسه يده في العدو
حاسرا، فنزع درعا كانت عليه فقذفها، ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل ". السيرة 445.
45

لان النبي لم يقتل بيده إلا رجلا واحدا (1)، وقد علمنا أنه ليس أحد
أشد احتمالا ولا أعظم غناء، ولا أظهر فضلا منه صلى الله عليه.
وقد تجد الرجل يقتل الاقران والفرسان وهو لا يستطيع أن يرفع
طرفه في ذلك العسكر إلى رجل آخر ليس فيه من قتل الاقران قليل
ولا كثير، لمعان هي عندهم أكثر من مشى ذلك المقاتل بسيفه،
وقتله لقرنه.
وإذا ثبت أن رئيس العسكر وأشباهه قد ثبتت لهم الرياسة واستحقوا
التقديم بغير التقدم والمباشرة، ثبت أن قتل الاقران ليس بدليل على الفضيلة
والرياسة. أو ما تعلم أن مع الرئيس من الاكتراث والاهتمام وشغل البال،
والعناية والتفقد، ما ليس لغيره. لأنه المخصوص بالمطالبة. وعليه مدار
الامر، وبه يستنصر المقاتل وباسمه ينهزم العدو، وبتعبيته ورايته ومعرفته
يفل الحد، ولان اختيار الحكيم دليل على احتمال طبيعته واستقلال نفسه،
ولان فرته أو عردته أعظم من المأثم والعار من عردة غيره وفرة غيره (2).
[و] لو لم يكن من بليته وشدة ما محص به (3) إلا أن القوم لو ضيعوا

(1) هذا الرجل هو أبي بن خلف. قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد.
السيرة 575، وعيون الأثر: 2: 14 - 15 وإمتاع الاسماع 139، وأما أبو عزة الجمحي
فلم يقتله بيده، بل أمر عاصم بن ثابت أن يقتله، فضرب عنقه وقتله صبرا، إمتاع الاسماع 160
(2) في الأصل: " ولان قربة أو عورته أعظم من المأثم والعار من عورة غيره وقره
غيره " والعردة: اسم المرة من عرد الرجل، إذا هرب، اللسان (عرد 279).
(3) التمحيص: الابتلاء. قال ابن عرفة: لمحيص الله الذين آمنوا، أي ليبتليهم. اللسان
(محص). والكلمتان قبلها مهملتان في الأصل.
46

جميعا وحفظ ما أضيفت الهزيمة إلا إليه *)، ولا كان المطلوب غيره، ولا
كان الذليل المهان غيره. ولهذا وأشباهه يكون الرئيس أعظم غناء،
وأشد احتمالا، لأنك [لو] قذفت فضل صبر المقاتل الواحد في خصاله
لم تجد له أثرا ولم تحس له حسا (1).
(* واعلم أن المشي إلى القرن بالسيف ليس هو على ما يتوهمه الغمر من
الشدة والفضل وإن كان شديدا فاضلا. ولو كان كما يظنون ويتوهمون
ما انقادت النفس ولا استصحبت للقتال، (* * لان النفس المستطيعة المختارة التي
قتالها طاعة وفرارها معصية قد عدلت كالميزان في استقامة لسانه وكفتيه،
فإذا لم يكن بحذاء سيفه إلى السيف ومكروه ما يأتي به، ما يعادله ويوازنه
لم يكن النفس أن تختار الاقدام على الكف، ولكن معه في وقت مشيه إلى
القرن أمور تنفحه مشجعة (2)، وإن لم يبصرها الناس وقضوا على ظاهر
ما أبصروا من إقدام. والسبب المشجع ربما كان الغضب، وربما كان
الشراب (3)، وربما كان الغرارة والحداثة، وربما كان الاحراج، وربما
كان الغيرة، وربما كان الحمية وحب الأحدوثة (4)، وربما كان طباعا
كطباع القاسي والرحيم. والسخي *) والبخيل، والجزوع من وقع السوط

*) بعده في ح: " فضل أبى بكر بمقامه في العريش مع رسول الله يوم بدر أعظم من
جهاد علي عليه السلام ذلك اليوم وقتله الابطال ". والكلام من " فإن قالوا إن عليا " ص 45
س 4 إلى هنا هو موضوع الرد (19).
(1) يعنى بذلك أن الصبر أضعف الخصال عند المقاتل. وكلمة " قذفت " مهملة في الأصل.
(2) تنفحه: تدفعه. ولم بعجم من تلك الكلمة في الأصل إلا الفاء، وكلمة " مشجعة ".
رسمت في أصلها " مسحز " وانظر سياق الكلام.
(3) كذا جاءت الكلمة واضحة في الأصل.
(4) ح 3: 278: " وربما كان لمحبة النفخ والأحدوثة ".
*) الكلام من " واعلم أن المشي " س 4 إلى هنا موضع الرد رقم (20).
47

والصبور، وربما كان السبب الدين، ولكن لا يبلغ الرجل بقوة الدين
في قلبه ما لم يشيعه بعض ما ذكرناه أن يمشى إلى السيف، لان الدين
مكتسب مجتلب، وليس بأصلي ولا طبيعي، ولان ثوابه مؤجل، والخصال
التي ذكرناها طبيعية أصلية. وثوابها معجل.
وقد يكون مع الانسان أسباب محذرة مجبنة، فيكون ركونه (1) وجلوسه
طباعا لا يمتنع منه. وربما كانت الأسباب من المشجعات والمجبنات
سواء، فيكون جلوسه عن الحرب وقتاله فيها اختيارا، وربما فضلت قوى
مشجعاته حتى يكون إقدامه أشرا ومرحا. واهتزازا وطباعا، ولا يكون
ذلك طاعة وإن كان في الحكم طاعة. وكذلك الجبن إذا أفرط على
صاحبه حتى يكون فراره * *). طباعا لا يكون معصية وإن كان
في الحكم معصية.
ولم نرد بهذا الكلام تنقص على رحمه الله ولا إخراجه من الغناء
واحتمال المكروه. كما لم نرد تنقص الزبير وأبى دجانة وابن عفراء ومحمد
ابن مسلمة، ولكن هكذا صفة المستطيع المكلف، والمطيع والعاصي.
وإذا كان مع صاحب الاقدام من الأمور المشجعة أمور فاضلة على
أسباب جبنه وجلوسه، كان عند الله غير مأجور وإن كان في الحكم
الظاهر مأجورا.

(1) في الأصل: " ركوبه " تحريف.
* *) أوجز الإسكافي هذه العبارة وما ورد في صفحة 47 س 7 من قوله
" لان النفس المستطيعة " على هذه الصورة. كما ورد عند ابن أبي الحديد 3: 278 -
279: " قال الجاحظ: فصاحب النفس المختارة المعتدلة يكون قتاله طاعة وفراره معصية.
لان نفسه معتدلة كالميزان في استقامة لسانه وكفتيه، فإذا لم يكن كذلك كان إقدامه طباعا
وفراره طباعا " ثم رد عليها بالرد رقم (21).
48

وإن كانت الأسباب المشجعة في وزن الأسباب المجبنة كان مطيعا
ولم يكن حيث وضعه القوم، لانهم توهموا مع مشيه بالسيف إلى القرن
احتمال المكروه كله، ورفعوا من أوهامهم الأسباب التي لولاها لم يمكنه
المشي إلى القرن بالسيف (1).
(* ووجه آخر: أن عليا لو كان كما يقول شيعته، ما كان له بكثرة
المشي إلى القرن بالسيف وبقتله له كثير طاعة، ولا احتمال مشقة، لان
الشيعة [تزعم (2)] أن رسول الله صلى الله عليه قال لعلي: " إنك
ستقاتل من بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين ". والناكثون: " طلحة
والزبير وأصحابهما، والقاسطون معاوية وأصحابه، والمارقون: عبد الله بن
وهب وأصحابه.
فإن كانوا قد [صدقوا وما (3)] كذبوا فما عسى أن يبلغ من احتمال
من هو من البقاء والسلامة على ثقة. فالزبير وطلحة وأبو دجانة
وابن عفراء ومحمد بن مسلمة أعظم طاعة منه، لانهم أشد احتمالا منه،
لانهم يقدمون والمنايا شارعة وهم يرجون ويخافون، وعلى على ثقة من
أمره، ويقين من بقائه وسلامته، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل
هذا القول إلا قبيل وفاته. ولا سبيل لهم إلى علم ذلك. فيقال لهم:
فكذلك خصومكم يمكنهم أن يقولوا لكم: إن النبي صلى الله عليه وسلم
قال هذه الكلمة بعيد إسلامه، وإذا لم يكن في قولكم إن النبي
صلى الله عليه وسلم قالها له قبيل وفاته دليل، ولا في قول خصومكم إن

(1) في الأصل: " المشي إلى السيف " وانظر س 6.
(2) تكملة يقتضيها السياق، وبموضعها في الأصل علامة إلحاق.
(3) بمثلها يستقيم الكلام.
49

النبي قالها بعيد إسلامه دليل، فأعدل الأمور وأنصفها بينكم وبينهم أن
تجعلوا الخبر في النصف مما بين إسلامه إلى وفاة النبي صلى الله عليه.
فإذا كان ذلك كذلك فقد صار الزبير وطلحة وأبو دجانة ومحمد بن مسلمة
وابن عفراء أفضل منه *)، لان الفضل في احتمال المكروه.
وقد لزمكم أن تزعموا أن النبي صلى الله عليه قال هذا الكلام لعلى
قبل وقعة بدر، وأنتم إنما تفخرون بوقعة بدر وقتاله بعد ذلك. فما عسى
يبلغ من قتال رجل قد وثق بالسلامة والبقاء إلى أن يقاتل الناكثين
والقاسطين والمارقين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بدهر.
فإذا كان رئيس الجيش أعظم غناء وأشد احتمالا، للذي وصفنا، فأشبه
القوم حالا به أعظم غناء وأشدهم احتمالا، على قياس في الرئيس والكثير
المشي بالسيف، ولا أحد أشبه بالرئيس ممن اختاره الرئيس وزيرا وصاحبا،
ومكانفا ومعينا، لان الرجل إذا كان في رأى العين صاحب أمر الرئيس
والمتولى على الخاصة والقربة منه في ظعنه ومقامه، وخلواته، وهربه
واستخفائه، وكان هو المبتدئ بالكلام عنده، والمفزع في الحوائج بعده
والثاني في الدعاء إلى الله ودينه، ولا نعلم هذه الخصال اجتمعت في غير
أبى بكر الصديق رضي الله عنه، لأنه صاحبه في كتاب الله سبحانه،

(1) *) الكلام من قوله: " ووجه آخر " في ص 49 س 5 إلى هنا قد أوجزه الإسكافي
على هذا الوجه عند ابن أبي الحديد (3: 279): " قال الجاحظ: ووجه آخر أن عليا
لو كان كما يزعم شيعته ما كان له بقتل الاقران كبير فضيلة ولا عظيم طاعة، لأنه قد روى
عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال له: ستقاتل بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين.
فإذا كان قد وعده بالبقاء بعده فقد وثق بالسلامة من الاقران، وعلم أنه منصور عليهم
وقاتلهم، فعلى هذا يكون جهاد طلحة والزبير أعظم طاعة منه " ورد عليه بالرد رقم (22).
50

قال الله عز وجل: " إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا
ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ".
فسماه الله صاحبا في كتابه ثم سماه النبي صلى الله عليه صديقه من بين
خلق الله، حتى غلب على اسمه واسم أبيه ولقبه ونسبه، حتى كان الناس
أيام رسول الله وبعد وفاته يقولون: قال على وفعل على، وقال عثمان
وفعل عثمان، وقال عمر وفعل عمر، وقال طلحة وفعل طلحة، وقال
الزبير وفعل، وجميع العشرة الذين هم في الجنة، حتى إذا صاروا إليه
قالوا: قال الصديق وقال أبو بكر الصديق، وفعل أبو بكر الصديق.
ثم قول النبي صلى الله عليه وسلم فيه، وهو القول الذي كان يعيده
في كل دار ومنزل: " ما أحد أمن علينا بصحبته وماله من أبى بكر "
وفى قوله: " ما أحد أمن علينا بصحبته وماله من أبى بكر " معان
كثيرة، فهمه الناس أم ذهبوا عنه. فهذا هذا.
ثم كان النبي عليه السلام بمكة ثلاث عشرة سنة، في كل يوم
ذر شارقه يأتي منزل أبى بكر إما صباحا وإما مساء، حتى كان اليوم الذي
أذن الله سبحانه له في الهجرة. وإنه أتاه مهجرا (1) فقال له أبو بكر:
بأبي أنت وأمي، كيف جئت اليوم في هذا الوقت؟! ونزل عن سريره
وجلس النبي صلى الله عليه وسلم وجلس أبو بكر بين يديه، قال النبي:
هل عندك أحد؟ قال: لا، يا رسول الله، إلا أسماء وعائشة. قال:
" فإن ربى قد أذن لي في الهجرة ". فصان صحبته من خلق الله غيره.
ثم لم يعلم بخروجه غير ابنتيه أسماء وعائشة، وغير ابنه عبد الله
ابن أبي بكر قتيل يوم الطائف، وكان هو الذي يتجسس لهما الاخبار
ويأتي بها إليهما في الغار، لأنهما استخفيا في الغار ثلاثا ولم يطلعا على

(1) التهجير: السير في الهاجرة. وهى نصف النهار عند زوال الشمس.
51

أمرهما غير عامر بن فهيرة مولى أبى بكر، بدري استشهد يوم بئر معونة،
فإنه كان يؤنسهما ويحدثها ويخدمهما في تلك السفرة كلها. وكانت أسماء
هي التي تأتيهم بأقواتهم في الغار، فكان صاحبه في الغار، وبمكة في طريقه
إلى المدينة، وعلى ظهره ركب النبي صلى الله عليه وسلم (1)، والنفاثي
أجيره (2) وعامر بن فهيرة خادم النبي صلى الله عليه ومؤنسه عتيقه ثلاث
مرات (3) ومولاه، والظهر ظهره، والمؤونة مؤونته، وصحبة النبي صلى الله
عليه وسلم مقصورة عليه، محبوسة له. مصونة عن سواه، يطلبان معا،
وتجعل فيهما قريش شيئا سواء.
وقالت الأنصار: لما سمعنا بمخرج النبي صلى الله عليه وسلم وقدومه
كنا نخرج إلى ظاهر حرتنا ننتظره، حتى إذا لم نجد ظلا دخلنا،
وذلك في أيام حارة، حتى إذا كان في اليوم الذي قدم فيه النبي
صلى الله عليه وسلم فعلنا ذلك ثم دخلنا منازلنا، فكان أول من أبصره
رجل من يهود، فصاح: يا بني قيلة (4)!! فخرجنا إلى النبي صلى الله عليه

(1) كان لأبي بكر راحلتان أعدهما للهجرة، ركب إحداهما رسول الله. قال ابن إسحاق:
" فلما قرب أبو بكر الراحلتين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم له أفضلهما ثم قال له:
اركب، فداك أبي وأمي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لا أركب بعيرا ليس لي.
قال: فهي لك يا رسول الله بأبي أنت وأمي. قال: لا، ولكن بالثمن الذي ابتعتها به؟ قال:
كذا وكذا. قال: أخذتها به. قال: هي لك يا رسول الله ". السيرة 329.
(2) النفاثي: نسبة إلى نفاثة بن عدي بن الديل بن بكر. واسمه عبد الله بن أريقط، وكان
مشركا يدلهما على الطريق. قال ابن حجر في الإصابة 4517: " ولم أر من ذكره
في الصحابة إلا الذهبي في التجريد. وقد جزم ابن عبد الغنى المقدسي في السيرة له بأنه لم يعرف
له إسلاما ".
(3) انظر ما سبق في ص 32 س 9 - 10 وص 33 س 3.
(4) قبلة هي أم الأوس والخزرج. وهى قيلة بنت كاهل بن عذرة بن سعد بن زيد
بن ليث بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة. السيرة 140. وفى السيرة 334: " يا بنى قيلة
هذا جدكم قد جاء " وفى إمتاع الاسماع 45: " هذا جدكم الذي تنتظرون ".
52

وسلم وهو في ظل نخلة، ومعه أبو بكر، في مثل سنه وهيئته،
وأكثرنا لم يكن رآه، وركبه الناس وما نعرفه من أبى بكر حتى
زال الظل عن النبي عليه السلام، فقام أبو بكر فأظله بردائه، فعرفناه
عند ذلك. فهذا هذا.
ثم لما كان بعد ذلك في يوم بدر. ودلك أن النبي صلى الله عليه وسلم
لما عزم على محاربة قريش قال له سعد: يا نبي الله، لنبني لك عريشا
فتكون فيه ونقاتل بين يديك، فأذن لهم فبنوه له، فعدل إليه بعد
أن عبأهم وأقامهم على مصافهم وعلى مراتبهم. فدخله وأدخل معه أبا بكر
وحده، فلما استقر في العريش قال له أبو بكر: بعض مناشدتك
يا رسول الله (1) فإن الله منجز لك ما وعدك. فخفق النبي صلى الله عليه
خفقة في العريش فانتبه وهو يقول: أبشر يا أبا بكر. أتاك نصر الله.
هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده، على ثناياه النقع (2)!
فكان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر من بين يديه خلق الله
في العريش، والناس موقوفون على مراتبهم، فكانت هذه مرتبة أبى بكر.
ورتب لسعد بن معاذ بعد أن كان قائما على رأسه على باب العريش متوشحا
السيف في نفر من الأنصار يحرسون العريش ومن فيه مخافة كر
العدو والجولة.
فإذا كان النبي صلى الله عليه في ذلك اليوم في العريش، وغير ماش

(1) في السيرة 444: " بعض مناشدتك ربك ".
(2) النقع: الغبار. وفى الروض الأنف 2: 69: " وفى حديث آخر أنه قال: رأيته
على فرس له شقراء وعليه عمامة حمراء، وقد عصم بثنيته الغبار ".
53

إلى السيف ومعه صاحبه وصديقه، وسيد الأنصار وأفضلهم على باب
العريش، عرف أن عظم الغناء وشدة الاحتمال والسبب الدال على الرياسة
غير الذي خصه القوم وجعلوه دليلا. فمن أولى أن يكون أشبههم برسول
الله صلى الله عليه وسلم في عظم الغناء واحتمال المكروه، والحال الرفيعة،
ممن كان ثاني اثنين في التقدم في الاسلام، وثاني اثنين في الدعاء إلى الله
ورسوله، وثاني اثنين في كثرة المستجيبين والاتباع، وثاني اثنين
في الغار، وثاني اثنين في الهجرة، وثاني اثنين في العريش، وفى أشباه
لهذا كثيرة.
وأما ما ذكرتم من يوم بدر وقتل على الاقران وفضله على من
سواه بذلك. فقد قلنا في ذلك بما قد سمعتم.
ونحن ذاكرون وجها آخر ليزيد في الحجة ويكشف من الدلالة.
نزعم أنه لم يشهد بدرا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم [من له (1)]
مثل غناء أبى بكر ونباهته وكرم موضعه، لان من شهد بدرا مثل
الزبير، وطلحة. وسعد، وعبد الرحمن، وعثمان، وبلال، ومسطح
ابن أثاثة، وعامر بن فهيرة، وكان في العريش، فلا أحد يعدله
في النباهة، ولا في الغناء والرفعة، والاحتمال لقدر الخلافة، لان الذين
عددنا على ثلاثة أصناف: رجل أسلم على يده وبدعائه وشرحه فهو سبب
حضوره وحسن بلائه، ورجل أسلم على يده وأعتقه بعد ذلك من رق
العذاب ورق العبودية وشهد بدرا وقبل ذلك بمؤونته وكلفته. وإما ربيب

(1) بمثلها يلتئم الكلام.
54

ونسيب وابن خالة كمسطح بن أثاثة، فقد كان ربيبه وابن خالته (1) وعلى
يده أسلم، وبه استبصر، ولم يزل في مؤونته قبل بدر وبعد ذلك
وفى أيامه، إلا ما كان من يمينه أيام حلف ألا يقربه ولا ينفق عليه
ولا يطأ رحله، للذي كان كبر (2) على عائشة مع حسان بن ثابت، حتى
أنزل الله سبحانه على رسوله براءة عائشة، وأمر أبا بكر بالانفاق على مسطح
وعياله، وبالعفو عنه، وأن يعيده إلى رحله وتحت جناحه، فأنزل الله
في محكم كتابه على نبيه يريد أبا بكر - وبين أن (3) يفرد الله الآى
ويخصه بمخاطبته وبين أن يريده في الجمهور فرق عظيم، كما أثنى على جملة
المهاجرين والأنصار - فقال الله وهو يريد أبا بكر: " ولا يأتل أولو الفضل
منكم والسعة أن يؤتوا أولى القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله
وليعفوا ليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم ". قال أبو بكر:
بلى يا رب. فرده إلى رحله وعفا عنه كما أمره الله، وأجرى عليه وعلى
عياله مثل الذي كان يجريه.
وإنما ذكر الله في هذه الآية القربى لأنه كان ابن خالته (4).
وجعل أهله وعياله مساكين أبى بكر، وهو أحد بني المطلب بن عبد
مناف (5)، وشأنه عظيم.

(1) التحقيق أنه ابن بنت خالته. الإصابة 7929 والسيرة 733 وإمتاع الاسماع 207.
ومسطح لقب له. واسمه عوف.
(2) كبر من الكبر بالكسر. وهو الاثم. وفى الكتاب الكريم: " والذي تولى
كبره " قيل الكبر الاثم. وفى الحديث أيضا: " أن حسان كان ممن كبر عليها ". اللسان
(كبر) في الأصل: " كان كثر ".
(3) في الأصل: " وبين مؤمن ".
(4) انظر ما سبق في الحاشية الأولى.
(5) في الأصل: " بنى عبد مناف " تحريف. انظر المعارف 33 والانباه على قبائل
الرواة 70 مع السيرة 733.
55

وكان أول من حث على قتال المشركين ببدر وتكلم فيه عند
رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر.
فإذا شهد بنفسه ورأيه وماله ومستجيبيه وأتباعه الذين هم أكفاء
ضده عندكم، مع أن بعضهم قد اختير عليه وهو عثمان، والباقون لم
يخايرهم ويواز [نهم] فيعرف موضع أفضلهم، وقد فخر عليه سعد فلم
يعارضه، فأين مبلغ ما ذكرتم مما ذكرنا، إذا كان (1) مثل سعد من
مستجيبيه - وهو المستجاب الدعوة، وأول من أراق دما في الاسلام،
وأول من رمى بسهم يوم بدر، وله يقول النبي صلى الله عليه وسلم:
" أرم فداك أبي وأمي "، فجمع له أبويه ولم يجمعهما لاحد قبله.
وفيه يقول النبي صلى الله عليه: " هذا خالى أباهى فيه فليأت كل امرئ
بخاله (2) " وهو أزال كسرى عن قصره وملكه وعن مستقره - ومثل
حواري رسول الله صلى الله عليه وابن عمته (3)، مع فروسيته وشدة
بأسه والذي عظم الله من شأنه ببدر حين نزلت الملائكة في زيه، عليها
عمائم صفر.
ثم الذي كان منه ببدر حين أتى الخبر النبي صلى الله عليه عن قريش
بمسيرهم، فاستشار النبي صلى الله عليه، فكان أول من قام أبو بكر،

(1) في الأصل: " وإذا كان ".
(2) في رواية الترمذي من حديث جابر: " هذا خالى فليرني امرؤ خاله ". الإصابة
3187 في ترجمة سعد بن أبي وقاص. ووجه خؤولته أنه سعد بن مالك بن وهيب بن عبد
مناف بن زهرة، وأم الرسول صلوات الله عليه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة.
قال ابن قتيبة في المعارف 57: " ولا يعلم أنه كان لآمنة أخ فيكون خال النبي صلى الله عليه
وسلم، ولكن بنى زهرة يقولون: نحن أخوال النبي صلى الله عليه وسلم، لان آمنة منهم ".
(3) يعنى الزبير بن العوام، أمه صفية بنت عبد المطلب. الإصابة 2783.
56

فتكلم وحث على الجهاد والنصرة، ثم قام عمر، ثم قام المقداد (1) فقال:
يا رسول الله، امض لما أراك الله، فوالله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل
لموسى: " اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون " ولكن اذهب
أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون. فوالذي بعثك بالحق أن لو سرت
بنا إلى برك ذات الغماد (2) لجالدنا من دونه حتى نبلغه.
فإن قالوا: إن أبا بكر لم يشهد [له] احتمال كاحتمال على، لان
عليا كان يمشى إلى السيف وأبو بكر وادع رافه في العريش، ودونه
الحرس سعد بن معاذ وأصحابه، والركاب له مناخة.
قلنا: قد طعنتم على النبي صلى الله عليه، لان الشأن لو كان كما تقولون
لكان النبي صلى الله عليه وادعا وكان على محتملا صابرا. وهذا كلام قد
فرغنا منه مرة (3).
أو ما علمت أن صاحب اللواء وإن كان لا يبارز ولا يمشى بالسيف
أنه يحتاج من المعرفة بالحرب وعورتها، وإقبال أمرها وإدباره، ويحتاج
مع اجتماع القلب واليقظة وقلة الحيرة، والثبات عند الجولة، والعلم

(1) السيرة 334. وهو المقداد بن عمرو بن ثعلبة بن مالك، تبناه الأسود بن عبد يغوث
الزهري فنسب إليه فقيل المقداد بن الأسود، فلما نزلت: " ادعوهم لآبائهم " قيل له المقداد بن
عمرو، الإصابة 8179.
(2) في الأصل " برك ذات العماد "، تحريف، وبرك بفتح الباء في الأكثر وكسرها بعضهم.
والغماد بكسر الغين في الأكثر وضمها بعضهم. وكلمة " ذات " و " ذو " تزاد كثيرا في
أعلام البلدان، كما قالوا: ذو أثيل، وذو حسم. وذو العرجاء، وذات العلندى، وذات
الأصاد. انظر كتاب أسماء جبال تهامة 31، وبرك الغماد: موضع في أقاصي هجر. والبرك:
حجارة مثل حجارة الحرة خشنة بصعب الملك عليها وعرة، كما ذكر ياقوت.
(3) انظر ما سبق في ص 45 - 46.
57

بموضع الشدة والانحياز (1) إلى أكثر مما يحتاج إليه المبارز، لان حفظ
الجميع أشد من حفظ الواحد، ولان كل العدو يطالبه ويريد ختله،
وكل ذلك بعلمه وعينه، لان خطأه وضعفه أقرب إلى هلكة الجميع من
ضعف المبارز وخطئه.
ولو كان الامر كما تقولون ما كان أحد أسقط في الحرب ولا أصغر
حظا ولا أقل أجرا ومكانا من الامام الأكبر والرئيس الأعظم (2) لبعد ما بين
بلاد عدوه من بلاده، ولكان عامله أفضل منه.
(* مع أنكم تزيدون في كثرة القتلى وتعظمون شأنهم لتعظموا به
من شأن على، كصنيعكم في أمر على ومرحب. حيث فخمتموه بالاشعار
ونفختموه (3) بالبلاغات، وسكتم عن قتيل الزبير في ذلك اليوم. ومرحب
وياسر أخوان شهدا الوقعة، والنباهة لياسر (4). فقصدتم إلى الأخمل
فرفعتموه وشهرتموه إذ كان قتيل على، وقصدتم إلى الارفع فأخملتموه (5)
وأخفيتموه، إذ كان قتيل الزبير. أو ما علمت أن الزبير وياسرا التقيا
فاضطربا بأسيافهما فلم يغنيا شيئا مرارا، حتى لحجا في موضع (6) واعترضت

(1) في الأصل: " الانحياد " تحريف، والانحياز: أن يعدل عن المكان ويتركه إلى
آخر. وفى اللسان: " يقال للأولياء انحازوا عن العدو وحاصوا. وللأعداء انهزموا
وولوا مدبرين ".
(2) بعده في الأصل: " أقل أجرا وأصغر حظا " وهو تكرار.
(3) في الأصل: " تفختموه ".
(4) مرحب اليهودي وأخوه ياسر، قتلا في غزوة خيبر. السيرة. 760 - 761.
وقد ذكر ابن إسحاق أن الذي قتل مرحبا هو محمد بن مسلمة. قال ابن سيد الناس 2: 134:
" هذه رواية ابن إسحاق في قتل مرحب. وروينا في الصحيح من حديث سلمة بن الأكوع
أن علي بن أبي طالب قتله ".
(5) في الأصل: " فاحتملتموه ".
(6) لحج في موضع: نشب فيه ولزمه.
58

بينهما شجرة، فجذباها (1) ضربا وخبطا، ثم جمع الزبير نفسه ومكن
سيفه فضرب رأس ياسر ضربة قد منها البيضة ومر السيف حتى عض
ثنيتيه، فقيل له: يا أبا عبد الله، ما أجود سيفك! فغضب (2).
وقصدتم إلى عمرو بن عبد ود، فتركتموه أشد من عامر بن الطفيل،
وعتيبة بن الحارث، وبسطام بن قيس.
وقد سمعنا بأحاديث حروب الفجار، والذي كان بين المطيبين
والاحلاف، وما كان بين قريش ودوس وأمر خزاعة وحلف الفضول.
وجميع أمر قريش من خير وشر، فما سمعنا لعمرو بن عبد ود في شئ
من ذلك ذكرا *).
(* * وكذا قتيل (3) على الوليد بن عتبة يوم بدر، وما علمنا الوليد حضر
حربا قط قبلها ولا بعدها، ولا ذكر فيها بطائل * *).
فلو ذهبتم إلى أن عليا قد بارز وقتل، وأبلى واحتمل، كان ذلك

(1) جذب الشئ وجذمه: قطعه.
(2) في السيرة 761: " كان إذا قيل له: والله إن كان سيفك يومئذ لصارما عضبا،
قال: والله ما كان صارما ولكني أكرهته ".
*) أوجز الإسكافي - على ما أورده ابن أبي الحديد في 4: 279 - عبارة الجاحظ من
قوله " مع أنكم تزيدون في كثرة القتلى " في ص 58 س 8 إلى هنا على هذه الصورة
" قال الجاحظ: ثم قصد الناصرون لعلى والقائلون بتفضيله إلى الاقران الذين قتلهم فأطروهم
وغلوا فيهم وليسوا هناك، فمنهم عمرو بن عبد ود، زكوه أشجع من عامر بن الطفيل، وعتيبة
ابن الحارث، وبسطام بن قيس، وقد سمعنا بأحاديث حروب الفجار وما كان بين قريش ودوس
وحلف الفضول فما سمعت لعمرو بن عبد ود ذكرا في ذلك ". ورد عليه بالمناقضة رقم (23).
(3) في الأصل: " ولو قيل " بالاهمال. وعند ابن أبي الحديد 4: 281: " وقد أكثروا
في الوليد بن عتبة بن ربيعة قتيله يوم بدر ".
* *) هذه الفقرة موضع الرد رقم (24).
59

جميلا، وكان قصدا مقبولا، ولكنكم أخرجتموه من حد الشجاعة،
وظننتم أن السرف أمثل وأجل.
وزعمتم أن الذي (1) منع العرب وقريشا أن تجعله الخليفة بعد النبي
صلى الله عليه وسلم أنه كان قتل أبناءها وإخوتها وأعمامها، وما يعلم موضع
رجل واحد يوم توفى النبي صلى الله عليه وسلم تسمع له الخاصة والعامة
وترى له طاعة، قتل على أباه أو ابنه أو أخاه، غير أبي سفيان بن
حرب، فقد كان على قتل ابنه حنظلة، وما كان أحد من علية قريش
والعرب أقرب إلى أن يخالفه في الحق والباطل في ذلك الدهر من
أبي سفيان، وقد كان أكره الناس لأبي بكر حين قال لبنى هاشم
وبنى أمية " رضيتم مشر بنى عبد مناف أن يلي أموركم رجل من
بنى تيم " فإذا كان الذي قتل على ابنه هو الذي أظهر كراهية أبى بكر
من بين الناس فكيف حولتم القضية وقلبتم المعنى؟!
فإن ذكروا أبا حذيفة بن عتبة لان عليا قتل أخاه. قيل: أيكون
أبو حذيفة ممن أبى عليا بهذه العلة. وأبو حذيفة شهد بدرا فقاتل أباه
وأخاه وعمه. واحتملت نفسه وعزمه وصحة إسلامه هذا الصنيع ثم يجزع
من أقل منه بعد الزيادة في الاستبصار، وبعد طول الدهر وموت
الأحقاد؟! وهذا مالا يشبه ولا يجوز. وكيف يجوز ذلك عليه وهو من
المهاجرين الأولين، والسابقين الأولين، وشهد بدرا والمشاهد كلها،
وقبض النبي صلى الله عليه وهو عنه راض، واستشهد يوم اليمامة
ولواء المهاجرين في يده.

(1) في الأصل: " النبي " تحريف.
60

وكيف يظن هذا بأبي حذيفة ولم يرو عنه في كراهية على حرف
قط، ولا قبض لذلك وجها ولا أظهر تعجبا؟!
وكيف يظن هذا بالبدريين والمهاجرين الأولين ومنع على القيام
بأمر الناس على هذا الوجه وعلى هذا المعنى كفر بالله ورسوله. وكيف
يضطغن امرؤ على على ويسلم قلبه لرسول الله صلى الله عليه؟! لأنه إن
كان يعتد صنيع على ذنبا حتى يولد له حقدا والذي تفرد (1) على بذلك
أعظم ذنبا وأجدر أن يولد حقدا. وهذا أفخش قبحا، وأبين خطأ
من أن يحوجنا إلى (2) كشفه وتبيينه.
وكيف يجوز هذا على أبى حذيفة ولا نعلم رجلا في الأرض أبعد من
حمية الجاهلية منه. ولا أسمح نفسا بما وافق كتاب الله منه. ولقد بلغ
من إخلاصه ورسوخ الاسلام في قلبه. وحبه عليه وبغضته فيه أن طرح
كل ما سواه، وأخرجه ذلك إلى أن زوج أخته فاطمة بنت عتبة
ابن عبد شمس (3)، من سالم مولى أبى حذيفة، وقال له: والله إني
لأزوجكها وأعلم أنك خير منها!! فعاتبه على ذلك بعض من نكره
ذكره فقال: أفى سالم تعاتبني وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: من أراد أن ينظر إلى رجل يحب الله بكل قلبه فلينظر
إلى سالم.

(1) كذا وردت هذه العبارة.
(2) في الأصل: " على ".
(3) هذا اختصار في النسب، وإنما هي فاطمة بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس. على أن
في الكلام خطأ تاريخيا، فإن أبا حذيفة إنما زوج سالما ابنة أخيه فاطمة الوليد بن عتبة، كما
في ترجمة سالم في الإصابة 3046 وترجمة فاطمة في الإصابة 852 من قسم النساء، وكان
أبو حذيفة قد تبنى سالما يرى أنه ابنه. وأما فاطمة بنت عتبة أخت أبى حذيفة بن عتبة فهي عمتها.
61

(*) مع أن لأبي بكر من حسن الأثر في حروب النبي صلى الله عليه
ومن احتمال المكروه وتجرع المرار ما ليس لأحد.
(*) من ذلك أن أبا بكر خرج إلى ابنه عبد الرحمن بن أبي بكر
ليبارزه يوم أحد، لان عبد الرحمن طلع يوم أحد على فرس وهو مكفر
في السلاح لا يرى منه إلا عيناه وهو يقول: [هل (1)] من مبارز!!
ثلاثا، كل ذلك يقول: أنا عبد الرحمن بن عتيق. فنهض أبو بكر يسعى
إليه بسيفه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى غضبه وحدته،
وعرف الذي عليه من الشدة في قتل ابنه: " شم سيفك وارجع إلى
مكانك ومتعنا بنفسك *) ".
(* * وإنما يمكن أبا بكر بذل الجهد، فإذا فعل ذلك فلا حال أفضل
من حاله * *).
فاجتمع له في ذلك أمران: أحدهما الثواب على شدة الاحتمال، والثاني
صيانة النبي صلى الله عليه وإشفاقه عليه.

نقل ابن أبي الحديد في 3: 281 نصا من العثمانية لعل موقعه قبل هذا. وهو:
" قال الجاحظ: وقد ثبت أبو بكر يوم أحد كما ثبت على، فلا فخر لأحدهما على صاحبه
في ذلك اليوم ".
ثم رد عليه بالرد رقم (25).
(1) التكملة من ابن أبي الحديد 3: 281.
*) شام سيفه يشيمه: رده إلى قرابه. وانظر رد الإسكافي على هذه الفقرة في
رقم (26).
* *) أورد الإسكافي هذه العبارة بهذه الصورة كما نقل ابن أبي الحديد 3: 281. " قال
الجاحظ: على أن أبا بكر وإن لم تكن آثاره في الحرب كآثار غيره فقد بذل الجهد وفعل
ما يستطيعه وتبلغه قوته. وإذا بذل المجهود فلا حال أشرف من حاله ".
ثم رد عليها بالرد رقم (27).
62

وقوله " ارجع إلى مكانك ومتعنا بنفسك " فليس في الأرض معنى
شريف فاضل من معاني الدين والدنيا إلا وهو في هذه الكلمة.
وأبو بكر الذي لما رمى النبي صلى الله عليه وسلم في يوم أحد أقبل
يسعى وإذا إنسان قبل المشرق يطير طيرانا، فلما رآه أبو بكر قال:
اللهم اجعله طلحة! فلما توافيا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذا هو أبو عبيدة
ابن الجراح، فبدره أبو عبيدة وقال: أسألك بالله يا أبا بكر إلا تركتني
فوليتني نزعها - يعنى حدائد الزرد اللواتي نشبن في وجهه [و] جبينه من المغفر -
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عليكم صاحبكم! يعنى طلحة.
وثرم أبو عبيدة يومئذ من نزع حلقة امتنعت عليه.
ولصنيع طلحة وأبى بكر وموقفهما قالوا: " يوم أحد لبنى تيم! " لان
الذين صبروا مع النبي صلى الله عليه من المهاجرين والأنصار سبعة: أبو بكر
وطلحة من تيم، وعبد الرحمن بن عوف من بنى زهرة، وعلى من بني هاشم
. والزبير من بنى أسد، وأبو عبيدة من بنى عامر. وإنما قالوا " يوم
أحد لبنى تيم " لأنه لم يكن من كل قبيلة إلا رجل واحد من المهاجرين.
وكان فيه رجلان من بنى تيم كما ذكرنا.
وكان من الأنصار سبعة: الحباب بن المنذر بن الجموح، وأبو دجانة،
وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، والحارث بن الصمة، وسهل بن حنيف
وأسيد بن حضير، وسعد بن معاذ.
وأبو بكر أول من تكلم يوم بدر وحث الناس على الجهاد.
وأبو بكر الذي لما قال النبي صلى الله عليه يوم الحديبية: " كيف ترون
63

يا معشر المسلمين في هؤلاء الذين قد (1)... إلينا من أطاعهم ليصدونا عن
المسجد الحرام " قام أول الناس فقال: نرى - والله ورسوله أعلم - أن
نمضى لوجهنا. فمن صدنا عن البيت الحرام قتلناه.
وأبو بكر الذي لما أتى بديل بن ورقاء الخزاعي يوم الحديبية في نفر
من أصحابه. فأقبل على النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا محمد، لقد اغتررت
بقتال قومك وإن قريشا ستقاتلكم عن ذراريهم وأموالهم، قد استنفروا
الأحابيش وخرجوا إلى بلدح (2)، معهم العوذ المطافيل، والله ما أرى معك
أحدا له وجه، مع أنى أراكم قوما لا سلاح لكم، ولو قد عض هؤلاء
الحديد لقد أسلموكم، قال أبو بكر: عضضت ببظر اللات، أنحن نسلمه؟!
قال له بديل: أما والله لولا يد لك عندي لأجبتك، والله إني وقومي
لنحب أن يظهر محمد!
وأقبل عروة بن مسعود في نفر من قومه حتى أناخ راحلته عند النبي
صلى الله عليه وسلم وقال: إني تركت كعبا وعامرا على أعداد الحديبية (3)
معهم العوذ المطافيل، وما أرى معك أحدا أعرف وجهه ونسبه، وإنهم
لخلقاء أن يخذلوك - والقوم سكوت - فغضب أبو بكر وقال: امصص
ببظر اللات (4)، أنحن نخذله؟! قال عروة: أما والله لولا يد لك عندي

(1) كذا ورد في الأصل.
(2) بلدح: واد قبل مكة من جهة المغرب، وانظر إمتاع الاسماع 279 - 280.
(3) أعداد: جمع عد بالكسر. وفى اللسان: " وفى الحديث: نزلوا أعداد مياه
الحديبية، أي ذوات المادة كالعيون والآبار ". وفى الأصل: " عداد " تحريف.
(4) في السيرة 744 وعيون الأثر 2: 116: " بظر اللات ".
64

لأجبتك! وكان عروة قد استعان في حمالة، فكان الرجل يعينه
بالفريضتين والثلاث، فمشى إلى أبى بكر فأعطاه عشر فرائض (1).
ألا ترى كثرة أياديه ونبله وامنعا (2)، وحده وشهامته ورياسته؟!
فبهذا وأشباهه يعرف قدر الرجل بمكة وفى قومه، وعند النبي صلى الله عليه
وسلم وجماعة أصحابه.
ولو لم يعلم من شدة قلبه وصواب رأيه وقوة عزمه وقلة وحشته
ويمن بركته إلا أن كبار المهاجرين دخلوا عليه، منهم عمر وعثمان
وأبو عبيدة. وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل في جمع
كثيف من المهاجرين، فقالوا بأجمعهم: يا خليفة رسول الله، إن العرب
قد انتقضت عليك، وإنك لن تصنع بتفريق هذا الجيش المنتشر شيئا،
اجعلهم عدة لأهل الردة ترمى بهم نحورهم، وأخرى أنا لا نأمن على
المدينة أن يغار عليها وفيها الذراري والنساء، فلو استأنيت بغزو الروم
حتى يضرب الاسلام بجرانه ويعود أهل الردة إلى ما خرجوا منه
[أ] ويفنيهم السيف، ثم تبعث أسامة حينئذ، فتكون قد أنفذت الجيش
كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم وقد دفعت بهم أهل الردة، ولانا نخاف
الروم أن تزحف إلينا يومنا هذا.
فلما استوعب أبو بكر كلامهم قال: هل منكم أحد يريد أن يقول
شيئا؟ قالوا: قد سمعت مقالتنا. قال: والذي نفسي بيده لو ظننت أن
السباع تأكلني لأنفذت هذا البعث، ولا بدأت بأولى منه، والنبي صلى الله عليه
وسلم ينزل عليه الوحي من السماء وهو يقول: أنفذوا جيش أسامة.

(1) أصل الفريضة البعير المأخوذ في الزكاة، ثم اتسع فيه فسمى كل بعير فريضة.
(2) كذا وردت هذه الكلمة.
65

فلما رأى إبطاءهم عن ذلك وتلكؤهم خرج وحده مغضبا نحو أهل
الردة حتى لحقه المهاجرون والأنصار في المسلمين، فقالوا: تكفى يا خليفة
رسول الله، وننفذ لأمرك، والصواب ما رأيت.
فلو لم تعلم من شدة قلبه واجتماع رأيه وقلة وحشته إلا هذا
كان كافيا.
وأبو بكر الذي ولاه النبي صلى الله عليه يوم حنين ميمنته، وولى
عمر ميسرته، فلم يكن النبي صلى الله عليه ليستكفيهما أهم المواضع إليه
وهما لا يكفيانه.
ولقد انكشف الناس وثبتا في مواضعهما، وكان أقرب القوم إلى
النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ - إذ كان لابد لصاحب الميمنة والميسرة
من أن يكون أبعد ممن يكون في القلب - أبو سفيان بن الحارث،
والعباس بن عبد المطلب، والفضل بن عباس، وربيعة بن الحارث،
وأيمن بن عبيد (1) أخو أسامة بن زيد لامه وصبر مع النبي صلى الله
عليه وسلم بعد هؤلاء مائة وثلاثة وثلاثون من المهاجرين، وسبعة
وستون من الأنصار.
ومما نعرف به شدة شكيمته وصدق وصرامة رأيه قوله للمسلمين
يوم توفى النبي صلى الله عليه وسلم حيث قام خطيبا وبالمدينة منافقون
لا يألونهم خبالا يعضون عليهم الأنامل من الغيظ، وقد انتقض ما حول
المدينة، فكان مما قال في خطبته:

(1) في الأصل: أيمن بن عبد الله "، صوابه في السيرة 845 والإصابة 391
وإمتاع الاسماع 407. ويسمى أيضا " أيمن بن أم أيمن ".
66

من كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، فليعبده، ومن كان يعبد
محمدا أو يراه إلها فقد هلك إلهه، فاتقوا الله أيها الناس، واعتصموا
بدينكم، وتوكلوا على ربكم، فإن دين الله قائم، وكلمة الله قائمة،
والله ناصر من نصره، ومعز دينه، وإن كتاب الله بين أظهركم،
وهو النور والشفاء، وبه هدى الله محمدا، وفيه حلال الله وحرامه.
ثم قال: والله ما نبالي من أجلب علينا من خلق الله، إن سيوف
الله المسلولة ما وضعناها عن عواتقنا، ولنجاهدن من خالفنا، فقد جاهدنا
مع رسول الله صلى الله عليه، فلا يبقين مبق إلا على نفسه.
وإنما قال: " من كان يعبد محمدا أو يراه إلها فقد هلك إلهه " لأنه
كان سمع من عثمان بن عفان وعمر بن الخطاب في ذلك كلاما قبيحا
حتى ماج الناس في ذلك وقالوا: والله ما مات، ولكن الله رفعه كما رفع
عيسى بن مريم، في كلام سنذكره بعد هذا إن شاء الله (1).
ومما يدل على خاصة مكانه وتقديم الناس له، ومعرفة الجميع لفضله،
الذي كان من صنيع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن صنيع جميع
المسلمين، ومن صنيع كفار قريش به، حيث فزعت إليه في أمر أسارى
بدر دون غيره. لانهم لما حبسوا ببدر واقترع المسلمون عليهم طمعوا
في الحياة، فقالوا بأجمعهم: لو بعثنا إلى أبى بكر فإنه أوصل قريش
لأرحامنا، ولا نعلم أحدا آثر عند محمد منه! فبعثوا إلى أبى بكر فأتاهم
فقالوا: يا أبا بكر. إن فينا الآباء والأبناء، والاخوان والعمومة، وبنى
العم، وأبعدنا قريب، فكلم صاحبك يمن علينا أو يفادينا، قال: نعم
لا آلو كم إن شاء الله خيرا! ثم انصرف إلى النبي صلى الله عليه.

(1) انظر ص 79 - 81.
67

فقالوا: ولو بعثنا إلى عمر، فإنا لا نأمن أن يفسد علينا، فلعله أن
يكف عنا شره! فأرسلوا إليه فجاءهم. فقالوا مثل قولهم لأبي بكر،
فقال: لا آلوكم إن شاء الله شرا! ثم انصرف إلى النبي صلى الله عليه
وإذا الناس حول النبي، وأبو بكر يفثؤه (1) ويلينه وهو يقول: يا رسول
الله بأبي أنت وأمي، قومك فيهم الآباء والأبناء، والعمومة والاخوان،
وبنو العم. وأبعدهم منك قريب، فامنن عليهم من الله عليك، أو فادهم
يستنقذهم الله بك من النار، فما أخذت منهم فهو قوة للمسلمين،
ولعل الله أن يقبل بقلوبهم!! ثم قام فتنحى ناحية وسكت النبي صلى
الله عليه وجاء عمر فجلس مجلس أبى بكر فقال: يا نبي الله، هم أعداء
الله كذبوك وقاتلوك وأخرجوك، اضرب أعناقهم فإنهم رؤوس الكفر،
وأئمة الضلالة، يعز الله بذلك الاسلام ويذل الشرك!! فسكت النبي
صلى الله عليه وسلم وعاد أبو بكر إلى مجلسه وإلى مثل ذلك الكلام،
ثم تنحى وقام عمر فجلس مجلسه وأعاد مثل الكلام الأول، ثم تنحى
عمر وجلس أبو بكر، ثلاث مرات. فسكت النبي عليه السلام،
ثم قام فدخل قبته فمكث ساعة وخرج والناس يخوضون، يقول
بعضهم: القول ما قال أبو بكر، وبعضهم يقول: القول ما قال عمر.
فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما تقولون في صاحبيكم؟ دعوهما
فإن لهما مثلا: مثل أبى بكر في الملائكة مثل ميكائيل ينزل بالرضا
والعفو، ومثله في الأنبياء مثل إبراهيم كان ألين على قومه من العسل،
أوقد له قومه النار فطرحوه فيها، فما زاد على أن قال: " أف لكم

(1) يفثؤه: يسكن غضبه. ورسمت في الأصل " بفتاؤه ".
68

ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون " وقال: " فمن تبعني
فإنه منى ومن عصاني فإنك غفور رحيم " ومثله كمثل عيسى إذ يقول:
" إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ".
ومثل عمر في الملائكة مثل جبريل ينزل بالسخط من الله والنقمة.
ومثله في الأنبياء مثل نوح كان أشد على قومه من الحجارة إذ يقول:
" رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا " فدعا عليهم دعوة
أغرق الله بها الأرض جميعا. ومثله مثل موسى إذ يقول: " ربنا
اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب
الأليم ". فهذا يدل على أنه كان المفزع والشفيع، والخاصة والثقة
وموضع الفضيلة.
وقبل ذلك لما قص النبي صلى الله عليه وسلم على أهل مكة كيف
أسرى به، قالت قريش على التكذيب له صلى الله عليه: والله إن العير
لتطرد شهرا من مكة إلى الشام ثم يكون إقبالها شهرا (1)، وزعم محمد
أنه مضى إلى بيت المقدس ورجع من ليلته!! فأتوا بأجمعهم أبا بكر
ليحتجوا بذلك عليه وليعرفوه خطأه في اتباعه عند أنفسهم، وظنوا أن
الجواب في ذلك يمتنع إذ كان قد امتنع عليهم. فأتوا أبا بكر فقالوا:
هلك صاحبك! - ألا ترى أنه المذكور بالصحبة، وموضع الحاجة،
وأنه المبتدأ والمفزع - زعم أنه أتى بيت المقدس في ليلة وغدا
علينا!! قال أبو بكر: إنكم تكذبون عليه، ولئن كان قاله لقد صدق،
فما تعجبون من ذلك؟! فوالله إنه ليخبرنا أن الخبر يأتيه من السماء

(1) في السيرة 264: " إن العير لتطرد شهرا من مكة إلى الشام مدبرة وشهرا مقبلة ".
69

إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه. فهذا أبعد من مصر (1).
ثم نهض أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه ليسأله عن القضية، فأقبل
النبي صلى الله عليه وسلم يصف له وهو يقول: صدقت صدقت! أشهد
أنك رسول الله! قال النبي صلى الله عليه: وأنت الصديق! وقد كان
أبو بكر الصديق أتى الشام وعرف طرقها وأمورها، وقلبها وعرف
جميع ما فيها.
ثم الذي كان من تقديم النبي صلى الله عليه له والمسلمين في قضية
الحديبية. وذلك أنهم كتبوا كتابا:
هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله وسهيل بن عمرو. اصطلحا على
وضع الحرب عشر حجج يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض.
على أنه لا إسلال ولا إغلال (2)، وعلى أن من أحب أن يدخل في عقد
محمد وعهده فعل، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدها فعل،
وعلى أنه من أتى منهم محمدا بغير إذن رده، ومن أتى قريشا من أصحاب محمد
لم ترده، وعلى أن محمدا يرجع عامه هذا بأصحابه، ويدخل عليهم قابلا (3).
في أصحابه فيقيم ثلاثا، لا يدخل علينا السلاح إلا سلاح المسافر، السيوف
في القرب. شهد أبو بكر بن أبي قحافة، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان،
وأبو عبيدة بن الجراح، ومحمد بن مسلمة (4). وشهد حويطب بن عبد العزى
ومكرز بن حفص بن الأخيف.

(1) في الأصل: " أنفد من مصر ". وفى السيرة: " أبعد مما تعجبون منه ".
(2) الاسلال: " الغارة الظاهرة بسل السيوف. والأغلال: الخيانة والغدر.
(3) أي في العام القابل.
(4) وكذا في إمتاع الاسماع 298. وفى السيرة 749 وعيون الأثر 2: 120 " محمود
ابن مسلمة " وهما أخوان.
70

ألا ترى أنه كان أول شاهد من المسلمين في صدر الكتاب، والناس
كلهم بعده.
ونحر رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمل عن سبعة (1). فأول خلق الله
سمى أبو بكر. ثم عمر، ثم فلان ثم فلان، فهذا هذا.
ثم لما تحاجز الناس يوم أحد وأراد أبو سفيان الانصراف أقبل
يسير على فرس له أنثى قد أشرف على أصحاب النبي صلى الله عليه في عرض
الجبل ينادى بأعلى صوته: أين ابن أبي كبشة؟ يعنى النبي صلى الله
عليه وسلم. أين ابن أبي قحافة؟ أين ابن الخطاب؟ يوم بيوم بدر.
ألا إن الأيام دول والحرب سجال. وحنظلة بحنظلة!! (2) قال عمر:
ألا أجيبه يا رسول الله: قال: بلى. قال أبو سفيان: أعل هبل (3)!
قال عمر: الله أعلى وأجل. قال أبو سفيان: لنا عزى ولا عزى لكم!
قال عمر: الله مولانا ولا مولى لكم.
فلو لم يكن أبو بكر أفضل من شهد أحدا وأنبه، أو أغيظ لأبي سفيان
والمشركين، ما جعله أبو سفيان - وهو رئيس القوم - ثانيا، والذي
يتلو النبي صلى الله عليه في النداء والمخاطبة، حين يقول: أين ابن أبي كبشة؟
ثم يقول: أين ابن أبي قحافة. فهذا هذا.

(1) هذا الجمل هو جمل أبى جهل، كان قد غنمه يوم بدر. إمتاع الاسماع 275،
299 - 300 والسيرة 749 وعيون الأثر 2: 121.
(2) يشير إلى ما كان من مقتل ولده حنظلة بن أبي سفيان في وقعة بدر. ومصرع حنظلة
ابن أبي عامر غسل الملائكة حين لقيه في غزاة أحد، فلما استعلاه حنظلة بن أبي عامر لمحه شداد
ابن الأسود فضربه شداد فقتله، فهو يذكر ثأره لولده. انظر السيرة 507، 567
- 568 وإمتاع الاسماع 158، 149.
(3) هبل: صنم مشهور. أعل هبل. أي أظهر دينك، السيرة 582 والميسر والأزلام
لمحقق العثمانية ص 68.
71

وفى نزول أبى بكر قبر حمزة قبل كل نازل بأمر رسول الله صلى الله عليه،
دليل على الفضيلة والنباهة، والقدر والوزارة.
ولما دخل أبو سفيان المدينة أتى النبي صلى الله عليه وقال: يا محمد،
إني كنت غائبا في صلح الحديبية فاشدد العهد وزدنا في المدة. قال.
أو لذلك قدمت يا أبا سفيان؟ قال: نعم. قال: فهل كان فيكم من حدث؟
قال: معاذ الله. قال النبي صلى الله عليه وسلم: فنحن على مدتنا وصلحنا،
لا نبدل ولا نغدر. فلما خرج من عنده بدأ بأبي بكر (1) فقال له: هل لك
إلى أن تجير بين الناس؟ قال أبو بكر: جواري في جوار رسول الله.
ثم خرج من عنده فأتى عمر فكلمه بمثل ذلك، قال عمر: إني لو وجدت
الذر تقاتلكم لاعنتها عليكم! قال أبو سفيان: جزيت من ذي رحم شرا!
ثم أتى عثمان، ثم أتى فاطمة، ثم أتى عليا.
ألا ترى كيف جعلوه المقصد والمعتمد قبل الناس وبعد رسول الله
صلى الله عليه، ولو لم يكن حال عند أبي سفيان من النبي صلى الله عليه
فوق كل حال ما بدأ به قبل جميع من نزع إليه. فهذا هذا.
ثم الذي كان من تقريب النبي عليه السلام، وإكرامه له يوم فتح
مكة، وهى الدار التي خرجا منها هاربين معا ثم رجعا إليها آمنين معا،
يتسايران ويتحدثان، حيث طلع النبي صلى الله عليه وسلم على العباس
وأبى سفيان، والنبي عليه السلام بين أبى بكر وأسيد بن حضير، أبو بكر
عن يمينه. وقبل ذلك في الطريق كان بين أبى بكر وعمر، أبو بكر عن يمينه

(1) كان قد دخل قبل ذلك على ابنته أم حبيبة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فلما ذهب ليجلس على فراش الرسول طوته دونه. إمتاع الاسماع 358. وفى السيرة 807
أنه دخل أول الأمر على ابنته، ثم ثنى برسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بأبي بكر.
72

وعمر عن يساره. فلما صارت الخيل بذى طوى بين الخندمة إلى الحجون،
مر النبي صلى الله عليه وأبو بكر يسايره وحده، وإذا بنات أبى أحيحة
قد نشرن شعورهن يلطمن وجوه الخيل بالخمر، فنظر النبي صلى الله عليه
إلى أبى بكر وتبسم وقال: كيف كان قال حسان:
* يلطمهن بالخمر النساء *
قال أبو بكر:
* تظل جيادنا متمطرات *
فهذه حاله وخاصته ومكانه وارتفاع قدره. ألا تراهما خرجا من مكة
هاربين مستخفيين مصطحبين، ثم رجعا آمنين ظافرين معلنين مصطحبين.
وصعد أبو قحافة الجبل بصغرى بناته وهو يومئذ مكفوف، فبكت
بنته فقال لها: لا تخافي فإن أخاك عتيقا أكبر الناس عنده! فلما دخلوا
مكة أقبل أبو بكر بأبيه وهو يومئذ شيخ مكفوف له غديرتان، كأن
رأسه ثغامة (1) حتى هجم به على النبي صلى الله عليه وقال: أتيتك بأبي
يا رسول الله ليسلم. قال النبي صلى الله عليه: هلا تركت الشيخ في رحله
حتى آتيه. فمسح النبي صلى الله عليه يده على صدره، ودعاه إلى
الاسلام فأسلم.
وهذا كله يدل على تقديم النبي صلى الله عليه له.
كما نقل الفقهاء أن النبي صلى الله عليه أتى بعس من لبن وهو
في أصحابه، وأبو بكر عن يساره ورجل من الاعراب عن يمينه، وأصحابه
قد أحبوا سؤره (2)، فشرب النبي وأهوى بالقدح نحو الاعرابى. قال عمر:

(1) الغديرة: الذؤابة. والثغام، بالفتح: نبت أبيض يشبه به الشيب.
(2) رسمت في الأصل: " قد أحبو سورة ".
73

أبو بكر يا رسول الله! قال النبي صلى الله عليه: الأيمن فالأيمن (1).
ولم ينقلوا هذا الحديث ليخبروا عن فضيلة أبى بكر ولا عن قرب
مقعده ولا عن تقديم عمر له، ولا أن عادة النبي صلى الله عليه وسلم كانت
التقديم له، ولا قال عمر ذلك على التذكير له، وإنما أرادوا أن يخبروا
عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم في الشرب، وعن فضيلة اليمين على
اليسار، وعن التعريف لحرمة المجلس.
ولو كان هذا الخبر في علي وعثمان ما كان الامر إلا كما أخبروا أنهم
لم يقصدوا في الحديث إلا تفضيل اليمين على اليسار.
فإن قالوا: فإن عليا كان أفقه من أبى بكر وأعلم بالحرام والحلال
منه. والدليل على ذلك أن كثرة ما نقلوا إلينا من اختياراته وأقاويله
في الحادثات. من الحلال والحرام. وأبواب الفقه والفتيا والتأويل، مع
كثرة الرواية المسندة، وكان يسأل ولا يسأل، ولم يرجع عن شئ قط
وليس أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلا وله رجعة وأكثر
من ذلك، ولم يسمع لأبي بكر بفتيا كثير ولا كثير رواية، ورأس
الدين الفقه فيه والعلم به. فلما كان أبو بكر وعلي بن أبي طالب على
ما وصفنا وذكرنا، علمنا أن أفقههما أفضل فضلا وأولى بالإمامة، لان
عمل الفقه أفضل من غيره، لان أولى الناس بالمسلمين أعلمهم بدينهم،
لان من علم الدين لم يجهل أمر الدنيا، لان أمور الدنيا مياسرة أو شبيه
بعلم المياسرة، وعلم الدين مستنبط وتأويله غامض.
قالت (العثمانية) عند ذلك: أما العدل والقسط فأن ننظر يوم توفى
النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر وعلى حيان ظاهر أمرهما، معروف قدرهما

(1) روى من حديث أنس بن مالك في صحيح البخاري فتح الباري 10: 66، 75.
74

واحتمالهما للعلم والعمل. فلعمري لئن كان لعلى من طول الصحبة وكثرة
السماع ومفاوضة الرسول الا [مر]، والمعرفة، وكثرة الارشاد للأمة وصحة
الرأي وكثرة الصواب، وكان الناس إليه أشد فزعا [و] ظهر من
روايته وحاجة الناس إلى فقهه في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيام
وفاته وأيام أبى بكر، أكثر مما ظهر من أبى بكر في ذلك الدهر، إنه
لافقه منه في الدين وأعلم بأبواب الدنيا.
[و] لئن كان إنما كثر مما نقل الناس عنه لأنه عاش والحادثات تحدث،
وبقى حتى كان يستفتى ويفتى ويسأل ويجيب، ويروى عنه في الزمان الذي
كان يستفتى فيه مثل أبي هريرة، وأنس بن مالك، وابن عمر، وابن الزبير،
وعبد الله بن عمرو، فكان ذلك منه أيام أبى بكر وهى سنتان، وأيام عمر
وهى عشر سنين، وأيام عثمان وهى اثنتا عشرة سنة، وأيام نفسه وهى
خمس سنين، فليس في ذلك حجة ولا دليل، لأنك تحصى ما يقول
الرجل في الدهر الطويل مع كثرة الحادثات، وما يقول الرجل في الدهر
القصير مع قلة الحادثات، وإنما ينبغي أن ننظر يوم توفى النبي صلى الله
عليه من كان أفضل المسلمين وأفقه في الدين، وأعرف بالأمور، وأصوب
رأيا وأشد احتمالا، في ذلك الوقت الذي اختير فيه للخلافة، ونحن نعلم
أن عليا لو عاش إلى دهر الحسن وابن سيرين لكان قد ازداد فقها وعلما
وتجربة على قدره يوم استشهد رضي الله عنه.
ولا يجوز أن نقدر الرجل بقدر (1) طول الزمان وكثرة الحادثات،
وبقدر قصر الزمان وقلة الحادثات. فلئن صح (2) عندنا وعندكم أن أمورا

(1) في الأصل: " وإنما يجوز أن نقول الرجل بعد ".
(2) في الأصل: " فليس صح ".
75

حدثت، وبلايا نزلت في زمن أبى بكر وأيام وفاة النبي صلى الله عليه،
من حلال وحرام أو سياسة جند أو سد ثغر أو تدبير حرب، أو استصلاح
عوام، أو ترتيب خواص، فظهر فيه من رأى على وصوابه وحسن
نظره وإرشاده مالم يظهر من أبى بكر - فقد أفلح من زعم أن عليا كان
أفقه منه فقها، وأصوب رأيا، وأشد للأمور احتمالا! مع أنا قد نجد
عنده من دقائق الفتيا وغامضه وعويصه (1) ما لم يبتل به أحد ولا يبتلى به
أحد أبدا. ولعل ذلك لا يصاب عند الامام إلا في جملة الأمور وأصولها،
ثم لو دهم الناس عدو، أو حزبهم أمر، أو أعضل بهم ملم من فاتق
يختطب الملك بتأويل قد زخرفه، ومن انتشار (2) جند أو اضطراب
عوام، أو بدعة شاملة، لم يكن عنده من الغناء والاحتمال والمعرفة
بعلاج أدوائها والتأتي لاستصلاحها قليل وكثير. وإنما مدار الأمور على
أصالة الرأي، واتساع الصدر، وقوة العزم.
فإن كنا لم نجد لعلى مما ذكرنا شيئا يفضل به أبا بكر في ذلك
الدهر فإنا نستدل على صواب رأيه واتساع صدره، وأنه كان المفزع
والمرشد بعد رسول الله في المعضلات وعند الشبهات والحادثات، والناس
في ذلك الدهر بين مستمع مرشد وبين مستمع مسلم، وبين مطرق واجم
وبين خائض قد رنحه (3) الحادثات، واستبهم عليه وجه الصواب، كالذي
كان من المسلمين لما اصطلحوا على القضية يوم الحديبية، لانهم لما
صاروا إلى الكتاب وتراضى النبي صلى الله عليه وسلم وسهيل بن عمرو

(1) أي غامض ذلك وعويصه.
(2) أن تفرقهم وخروجهم على القواد، وأصله في الإبل والغنم أن تتفرق عن عزة من
راعيها. في الأصل: " استشار " تحريف، وانظر ص 65 س 10.
(3) الكلمة خالية من النقط في الأصل. رنحته: دارت به وميلته.
76

على أن يكتب في الكتاب: " وعلى [أن] من أتى قريشا ممن كان على
دين محمد بغير إذن لم ترده إليه " فبلغ من أمر الناس والذي دخل
عليهم أن اضطربت قلوبهم، حتى إن النبي صلى الله عليه قال لأصحابه
بعد انصراف سهيل بن عمرو: " قوموا فانحروا وأحلوا واحلقوا ".
يقولها ثلاثا، كل ذلك ينظرون في وجهه ويسمعون قوله ولا يطيعون
أمره، حتى غضب النبي صلى الله عليه وسلم فدخل على أم سلمة
فأخبرها بذلك متعجبا، وكانت معه في تلك السفرة، قالت أم سلمة:
" انطلق أنت يا رسول الله إلى الهدى فانحره، فإنهم سيقتدون
بك ". فكان أول من وثب عند الكتاب عمر وهو يقول:
يا رسول الله، ألسنا بالمسلمين؟ قال النبي صلى الله عليه: بلى. قال:
فعلام نعطى الدنية في ديننا؟ قال النبي عليه السلام: أنا عبد الله
ورسوله، ولن أخالف أمره ". فأقبل أبو بكر على عمر فقال: يا عمر،
الزم غرزه (1) فإني أشهد أنه رسول الله، وأن الحق ما أمر [به (2)]،
ولن يضيعه الله!
ثم إن عمر بن الخطاب عاد إلى أبى بكر فسأله فقال أبو بكر: سلم
لله ولرسوله واتهم رأيك.
وقال أبو عبيدة: لا نعطى الدنية أبدا! فقال أبو بكر، يا عم إنها
ليست بدنية، ولو كانت دنية ما أعطاها النبي صلى الله عليه وتأباها أنت،
وما كان الله ليرضى بذلك.

(1) يقول: اعتلق به وأمسكه واتبع قوله وفعله، ولا تخالفه. وأصل الغرز للجمل مثل
الركاب للفرس.
(2) التكملة من إمتاع الاسماع 293.
77

أو ما علمت أنه لم يكن في الجميع أشد في ذلك من علي بن أبي
طالب وعمر بن الخطاب!؟ وذلك أن عليا هو كان كاتب كتاب القضية،
فلما كتب " هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله " قال المشركون:
لو نعلم أنك رسوله ما حاربناك، ولكن اكتب: " محمد بن عبد الله "،
فقال النبي لعلى: امحها يا علي. فقال على: والله لا محوتها أبدا! قال
النبي صلى الله عليه وسلم: أرنى مكانها. فأراها فمحاها وكتب " محمد بن
عبد الله ". قال أبو بكر: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إن هذا كله
حدب على الاسلام وغضب له، ولكنهم لم يطلعوا من الأمور
ما تطلعه الرسل. فهذا موقف لأبي بكر مشهور.
وإنما عظمت الفتنة على أصحاب النبي صلى الله عليه لانهم خرجوا
لا يشكون في الفتح، لرؤيا النبي صلى الله عليه أنه حلق رأسه ودخل
البيت وأخذ مفتاح الكعبة وعرف مع المعرفين (1)، ثم تجهز في تلك الأيام
وهو يريد مكة عندهم وقد كان تلا عليهم: " لتدخلن المسجد الحرام
إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم " الآية. فلما رأوا الصلح والشرط،
وعاينوا الرجوع اضطربوا لذلك، مع الذي كان في نفوسهم من قوله:
" إن أتى قريشا أحد ممن كان على دين محمد لم ترده، ومن أتى محمدا
ممن هو على دين قريش رده ". فأخرجهم ما ذكرت لك إلى ما ذكرت قبل.
وأقبل عمر على أبى بكر فقال: يا أبا بكر، أليس قد أخبرنا النبي
صلى الله عليه عن الله وتلا علينا القرآن: " لتدخلن المسجد الحرام
إن شاء الله آمنين محلقين رؤسكم ومقصرين "؟ قال أبو بكر: نعم.

(1) التعريف: الوقوف بعرفات.
78

قال عمر: فما باله رجع بنا ولم ندخلها؟ قال له أبو بكر: وهل قال لك
متى؟ إنما قال: لتدخلن، وأنتم داخلوها لا محالة. وإنما كان لك
مقالا لو ضرب لك أجلا فرأيت خلافه. واعلم أن الحق ما قال وصنع.
فلم يبق في قلب مخلص جهلا بموضع الحجة في ذلك، ولا في قلب
مستريب دخله الشك شيئا إلا أصلحه. فبهذا وشبهه نعرف إخلاص
الرجل وقدره، وسعة صدره، وكثرة علمه.
ثم أخرى، أنقذ الله به من الضلالة، والناس بين ساكت لاغناء
عنده، أو خائض مستريب يحتاج إلى التعريف. أو موقن يحتاج إلى
المادة وتلقين الحجة.
من ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما توفى اقتحم الناس عليه
في منزل عائشة، فلما نظروا إليه مسجى دخلهم أمر عظيم أذهلهم وحير
عامتهم، حتى قالوا: لم يمت، وكيف يموت وهو شهيد علينا ونحن
شهداء على الناس؟! وكيف يموت وقد قال الله: " ليظهره على الدين كله "
ولم يظهر بعد؟!
وكان عثمان بن عفان وعمر بن الخطاب يرددان هذه الآيات، وتوعدا
أصحاب النبي صلى الله عليه: من قال إنه مات. وثاروا في حجرة
عائشة وعلى الباب: لم يمت!
وكان أول من رآه مسجى فأنكر موته عثمان، وقال: إنه والله
ما مات، ولكن الله رفعه إليه كما رفع عيسى بن مريم! والله لا نسمع
أحدا يقول مات إلا قطعنا لسانه!
واضطرب الناس وماجوا وقام عمر في الناس خطيبا فقال:
79

لا أسمعن أحدا يقول إن محمدا مات! وإن محمدا لم يمت، ولكن
الله رفعه. أرسل إليه كما أرسل إلى موسى عليه السلام فلبث عند
قومه أربعين ليلة (1). وإني لأرجو أن يقطع الله أيدي رجال وأرجلهم
يزعمون أن محمدا مات!
فبينما الناس هكذا إذ أقبل أبو بكر، على فرس له، من السنح (2) فسمع
مقالة عمر وما يقوله الناس وما خاضوا فيه، فبدأ بالنبي صلى الله عليه وسلم
فدخل عليه وهو مسجى، فكشف عن وجهه فقبله، ثم أقبل نحو المنبر
وقال: أيها... الحالف (3) على رسلك! فلما رآه عمر قعد، وقام أبو بكر
خطيبا ثم قال: أيها الناس اجلسوا وأنصتوا، ثم حمد الله وأثنى عليه
وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال:
أيها الناس، إن الله قد نعى نبيكم إلى نفسه وهو حي بين أظهركم
ونعاكم إلى أنفسكم، فهو الموت حتى لا يبقى أحد. ألم تعلموا أن الله قال
" إنك ميت وإنهم ميتون ".
قال عمر: بأبي أنت وأمي! فسكت الناس وأظهروا التسليم،
وعرفوا الحق وبكوا، كأنهم لم يكونوا سمعوا بهذه الآية قط.
ثم تلا: " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن
مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم " ثم تلا: " كل نفس ذائقة

(1) في السيرة 1012: " ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، فقد غاب
عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات ". ونحوه في سيرة ابن سيد الناس
2: 339.
(2) السنح، بالضم: إحدى محال المدينة في طرف من أطرافها. كان بها منزل أبى بكر
حين تزوج مليكة، وقيل حبيبة بنت خارجة.
(3) بين هذه الكلمة وسابقتها في الأصل بياض بقدر كلمة، لعلها " أيهاذا ".
80

الموت " ثم تلا: " كل شئ هالك إلا وجهه " ثم مر في خطبته
المشهورة المعروفة (1). فهذا هذا.
ثم أقبل على عمر وعثمان فقال: قال الله: " وكذلك جعلناكم
أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم
شهيدا " يقول: إنكم شهداء على من تلقون ممن لم يلق النبي صلى
الله عليه، كما كان النبي صلى الله عليه عليكم شهيدا. وقال الله:
" ليظهره على الدين كله " وإنما أراد دينه، والله متم نوره
ومظهر دينه، فإذا أظهر دينه فقد أظهره (2).
فهذا علمه وقدره وفهمه وحاجة الناس إليه.
ثم الذي كان من مشى المهاجرين والأنصار إليه وكلامهم له، ليقبل
الصلاة من العرب ويترك الزكاة، وقالوا: إنهم لو قد صلوا لقد زكوا.
قال: والله لو منعوني عقالا مما أعطوه النبي صلى الله عليه لجاهدنهم
عليه! فقال له المهاجرون والأنصار: أوليس قد قال النبي عليه السلام:
" أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها حقنوا
بها دماءهم وأموالهم " قال أبو بكر: إن فبها " إلا بحقها (3) " قالوا:
صدقت. ألا ترى إلى أنه قد علم الجميع مالم يعلموا، أو صيرهم إلى رأيه
بقدر المخالفة له.

(1) انظر خطبة أبى بكر في السيرة 1012 - 1013 وابن سعد 2: 54 والطبري
3: 198 وزهر الآداب 1: 35. (2) كذا في الأصل.
(3) في الأصل: " إلا لحقها " يشير إلى ما ورد من تتمة الحديث فيما سيأتي في الصفحة
التالية، وفيما رواه المحب الطبري 1: 98 ونصه: " فمن قال لا إله إلا الله عصم منى ماله
ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله ".
81

ونقلوا إلينا أن الأنصار قالت: يا خليفة رسول الله. أليس قد قال
النبي صلى الله عليه: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله،
فإذا قالوها حجبوا بها دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله "
قال أبو بكر: فهذا من حقها، والله لو كنت وحدى لجاهدتهم حتى
أقتل أو يظهر الله الحق ويزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقا.
ثم مضى نحو أهل الردة يريدهم مغضبا حتى لحقه المهاجرون والأنصار،
فمنعوه وكفوه وتقدموا أمامه.
وهذا خبر نقله أصحاب الاخبار مرجئهم وشيعيهم (1) إلا الروافض،
فإنهم لا يطاقون، لان من يجحد المستفيض الشائع بالأسانيد المختلفة
في الدهر المتفاوت، ويوجب على خصمه له تصديق الشاذ (2) الذي لا يعرف
ولا يدعيه إلا أهل الغلو من الروافض، ممتنع الجانب، عسير المطلب،
لا يطاق ولا يجارى.
ثم رأينا عليا يروى عنه، ويزكيه ويفضله، ولم نسمعه روى عن علي
شيئا ولا زكاه ولا فضله، على أن عليا قد كان عنده فاضلا عاليا،
عالما وجيها.
ثم الذي كان من قول عثمان بن عفان له. وذلك أن عثمان حزن
على النبي صلى الله عليه حزنا لم يحزنه أحد، فأقبل أبو بكر
يعزيه للذي يرى به من عظيم ما فدحه وغمره، فقال عثمان: ما آسى على
شئ، إنما آسى على أنني لم أسأل النبي صلى الله عليه عما فيه نجاة

(1) في الأصل: " مرحبهم وسفيهم؟؟ " بدون نقط.
(2) في الأصل: " الساد ".
82

هذه الأمة! قال أبو بكر: قد سألت النبي صلى الله عليه عن ذلك:
فقال: " من قبل الكلمة التي عرضتها على عمى فأباها ".
ألا ترى إلى حاجة الجميع إليه واستغنائه عنهم.
ولو لم يعلم من سعة علمه إلا قوله للمهاجرين والأنصار حين أشاروا
عليه بأن يقبل الصلاة وقالوا إنهم لو قد أقاموا الصلاة لآتوا الزكاة.
قال أبو بكر: إن تميما إن أذن لها من الاسلام في نقض عروة لم ترض
بمثله بكر بن وائل، ولو أعطيت كنانة وألفافها وأحابيشها أمرا لم
ترض قيس حتى تزداد، ولئن سمعت قولكم لأنقضن الاسلام عروة عروة.
وفى مشيهم إليه في تأخير جيش أسامة يشيرون عليه ويقولون ما كتبنا
في صدر الكتاب (1)، وفى قوله: " لو بقيت وحدى حتى تأكلني
الكلاب ما أخرت جيشا أمر رسول الله صلى الله عليه بإنفاذه والوحي
ينزل عليه " فلئن كان ما وصفنا لا يدل على جودة الرأي وصحة العزم
وكثرة العلم، وعلى الشهامة والصرامة، واليمن والبركة، فما في الأرض
دليل على فضيلة رجل ونقصه.
ومما يدل على سعة علمه وأنه كان المفزع دون غيره أن المهاجرين
عامة وبنى هاشم خاصة اختلفوا في موضع دفن رسول الله صلى الله
عليه، فقال قائل: خير المدافن البقيع، لأنه كان كثيرا ما يستغفر
لأهله (2). وقال آخرون: خير المواضع موضع مصلاه. وقال آخرون:
عند المنبر. قال لهم أبو بكر: إن عندي فيما تختلفون فيه علما. قالوا:
فقل يا أبا بكر. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه يقول: " ما مات

(1) انظر ما مضى في ص 65.
(2) انظر السيرة 999 - 1000 وإمتاع الاسماع 1: 541.
83

نبي قط إلا دفن حيث يقبض " فخطوا حول فراشه ثم حولوا
رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفراش في ناحية البيت. فلم نجد
الناس احتاجوا مع خبره إلى شاهد، ولم يختلف عليه في ذلك رجلان.
ولا أظهر الشك في خبره إنسان واحد قريب ولا بعيد. هذا والمنزل
منزل ابنته، وهو في موضع جر منفعة وكما تكون المنفعة، وهى المأثرة
العظمى والشرف الاعلى.
فمن لم يتهم في خبره على هذه الحال ومع هذه العلة حتى قبلت
شهادته وحده، لجدير ألا يتقدمه أحد في القدر والعم. والأمانة والصدق.
ومما يدل على أنه كان ثابتا عندهم قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه
وروايته عنه، وذلك أن عليا قال: كنت إذا سمعت من النبي
عليه السلام حديثا ينفعني الله بما شاء منه، فإذا حدثني غيره
استحلفته (1)، فإذا حلف لي صدقته، وإن أبا بكر حدثني - وصدق
أبو بكر - أن النبي صلى الله عليه قال: " ما من رجل يذنب ذنبا
فيتوضأ فيحسن الوضوء ثم يصلى ركعتين ويستغفر الله إلا غفر له (2) ".
وهذا حديث ما سمعت له براد إلا أهل الغلو من الروافض. وقد
قال قوم منهم: إنما كان هذا من على على التقية للعوام (3)، لطاعة العوام
لأبي بكر وعمر. وما في هذا من التقية؟ أن يصدق رجلا على خبره
وأن يكذب غيره (4) أو يؤمن غيره. وإن هذا من أخلاق الناس

(1) في الرياض النضرة 1: 143: " ينفعني الله بما شاء، فإذا حدثني عنه غيره استحلفته ".
(2) قال المحب الطبري في الرياض: " خرجه النسائي والحافظ في الأربعين البلدانية ".
(3) في الأصل: " للغرام ".
(4) في الأصل: " وأن يكون عنده ".
84

لموجود: أن يزكى بعض بعضا ويفضل. فنرى عليا يحمل عنه ويروى
عنه ويزكيه ويفضله، ولم نره صنع بعلى من ذلك شيئا.
ولقد بلغ من تبطنه (1) لأمر النبي صلى الله عليه أن النبي صلى الله عليه
لما حاصر أهل الطائف قال عمر لأبي محجن: إنما أنت ثعلب في جحر
يوشك أن يخرج! قال أبو محجن: هل هو إلا أن قطعتم حبلات عنب (2)،
وفى الماء والتراب ما يعيده. قال عمر: لا تقدر أن تخرج إلى ماء وتراب،
ولا تبرح باب جحرك حتى تموت جوعا. قال أبو بكر: يا عمر لا تقل
هذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤذن له في فتح الطائف. فسأل عمر
النبي صلى الله عليه فقال: نعم لم يؤذن لي.
قالوا: ولم يكن علم ذلك من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم غير
أبى بكر، ولو علمه أحد غيره لكان عمر.
قالوا: في خطبة النبي صلى الله عليه في شكاته التي توفى فيها والمسلمون
شهود، وفى معرفته بالذي أراد النبي صلى الله عليه وسلم بكلامه دون جميع
الناس، دليل على أنه المخصوص بحسن المعرفة. وفضيلة الدراية.
وذلك أن أول ما تكلم به النبي صلى الله عليه على المنبر أن قال:
" والذي نفسي بيده، إن لقائم على الحوض الساعة ". ثم تشهد فلما قضى
تشهده كان أول ما تكلم به أن استغفر للشهداء الذين قتلوا بأحد،
ثم قال: " إن عبدا من عباد الله خير بين الدنيا والآخرة فاختار ما عند الله ".
فبكى أبو بكر. قالوا: فتعجبنا من بكائه. وقال: بأبي أنت وأمي وبآبائنا

(1) في اللسان: " تبطنت الامر: علمت باطنه ".
(2) الحبلة، بالتحريك وبالفتح: شجرة العنب.. وكان النبي صلى الله عليه وسلم أمر
بقطع أعناب ثقيف. فوقع الناس فيها يقطعون. السيرة 873 وعيون الأثر 2: 201.
85

وأمهاتنا وأنفسنا وأموالنا. قالوا: فتعجب الناس من كلام أبى بكر وبكائه
وقالوا: أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن رجل!
قالوا: وكان أبو بكر أعلمنا (1) برسول الله.
ولو لم يكن من صواب رأيه وصحة فراسته. وتوفيق الله إياه إلا توليته
خالد بن الوليد حرب مسيلمة وطليحة وأهل الردة، وقد عوتب فيه من
كل جانب - وعمر تناوله - وهو يقول: لا أشيم سيفا سله الله على أعدائه
ثم اختياره عمر وفراسته فيه، حيث جعل له الامر من بعده، وعوتب
فيه ونوزع في أمره.
وكذلك قال عبد الله بن مسعود، الذي قال فيه النبي صلى الله عليه
" رضيت لأمتي ما رضى لها ابن أم عبد، وكرهت لها ما كره لها ابن
أم عبد " قال: أفرس الناس ثلاثة: المرأة التي جاءت على استحياء حين
قالت لأبيها في موسى: " يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوى
الأمين " وامرأة العزيز، وأبو بكر في عمر.
فهل رأيته ضام قوما قط وجامعهم (2) فكان لهم الرأي دونه، وهل
عوتب في شئ قط إلا والصواب ما عمل به دون رأى المعاتب له. وهل أشير
عليه برأي قط إلا وهو المصيب دون المشيرين عليه!؟
فأي فقه وأي علم أصلح وأي مذهب أحمد مما عددنا وكثرنا.
ثم أنتم لا تستطيعون أن تخبروا عن علي بن أبي طالب بموقف واحد
من هذه الآراء، وكلمة واحدة من هذا الكلام ومن الصواب الذي حكينا

(1) في الأصل: " وكان أبو علمنا ". وانظر صفة الصفوة 1: 91.
(2) في الأصل: " وجاء معهم ".
86

عن أبي بكر في حياة النبي صلى الله عليه، وعند وفاته، وفى أيام خلافته،
حتى كأن عليا ورجلا من عرض المسلمين في ذلك الدهر سواء.
وما يخيل إلينا إلا أن الذي قطعه عن كثير من ذلك حداثة سنه،
وتقديمه للمشيخة على نفسه.
فإن قالوا: إن عليا قد أشار على عمر بكذا. وقال له يوم كذا
وكذا: كذا.
قلنا: إنا لم نكن في عمر وعلى، ولو قد صرنا إلى الاخبار عنهما
تقدمنا بالذي يعرفكم فضيلة عمر، كما حكينا ووصفنا وتقدمنا في الاخبار
عن فضيلة أبى بكر.
ولقد بلغ من صحة فكره وصدق ظنه وقوة حسه أنه كان يظن الامر
فيقع به أو قريبا منه. ولذلك قال عمر: إنك لن تنتفع بعقل المرء حتى
تنتفع بظنه.
فمما يدل على صدق ظن أبى بكر وحس نفسه أن عائشة لما دخلت
عليه في شكاته التي قبضه الله إليه فيها، أنشدت عنده شعرا تذكر فيه
ما رأيت في أبيها. قال أبو بكر: لا تقولي هذا يا بنية. ولكن قولي:
" وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد "، أي بنية
إني كنت نحلتك جداد عشرين وسقا من مالي بالعالية، وإنك لم تحوزيه
ولم تقبضيه، وإنما هو مال الوارث، وإنما هما أخواك وأختاك، قالت
عائشة: إنما هي أسماء (1)! قال: إنه ألقى في روعي أن ذا (2) بطن بنت

(1) في الحيوان 6: 50 - 51: " قالت: ما أعرف لي أختا غير أسماء ".
(2) في الأصل: " أردا " صوابه في الحيوان.
87

خارجة [جارية (1)] فوضعت جارية فسميت أم كلثوم.
وله مما كان يقع في خلده ويصدق فيه ظنه وتصح فيه فراسته أمور عجيبة.
ولو قالوا: إن عليا كان من فقهاء أصحاب النبي صلى الله عليه لقد كان
ذلك عدلا وقصدا، وحسنا جميلا، كما قال إبراهيم (2) والشعبي: الفقه من
أصحاب النبي صلى الله عليه في ستة: في عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب،
وعبد الله بن مسعود، وأبى بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت.
وقد زاد قوم أبا الدرداء، وأبا موسى. وقد قال مسروق: انتهى علم
أصحاب رسول الله إلى هؤلاء الستة: عمر، وعلى، وعبد الله، وأبى،
ومعاذ، وزيد.
وقال الشعبي: كانت القضاة أربعة: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب
وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعري.
فلو أنهم كانوا يرضون بقول الفقهاء ورأى التابعين، ولم يسرفوا
وقصدوا، كان ذلك قصدا. ولقد تعدوا فيه الحق حتى قالوا: لم يقل قط
قولا يمكن أحسن منه، ولا قال قولا قط فرجع عنه، وقد علمنا أن له
غير رجعة. لا اثنتين ولا ثلاثا (3)، وأقاويل لا يجوزها أصحاب الفتيا.
وما كان إلا كبعض فقهائهم الذين يكثر صوابهم ويقل خطاؤهم، ولم
تكن لتجمع جميع هفوات إنسان وأخطاءه حتى تقرأه (4) مجموعا إلا ظننت به

(1) التكملة من الحيوان، وبنت خارجة هي حبيبة بنت خارجة زوج أبى بكر. انظر
حواشي الحيوان في الموضع السابق. وانظر الرياض النضرة 1: 129 وصفة الصفوة 1: 101،
(2) هو إبراهيم بن يزيد النخعي.
(3) أي بل أكثر من ذلك. في الأصل: " ولا اثنين ولا ثلاث ".
(4) في الأصل " ولم يكن ليجمع جميع هفوا إنسان وخطأ فيقرأه ".
88

العجز. وليس ذلك كذلك، لأنك لو قذفت بجميع ذلك في محاسنه لخفى
عليك موضعه، ولصغر خطره وقدره.
وإنما حكينا هذا لانهم جمعوا لعمر وعثمان أمورا أرادوا بها عيبهم
ونقصهم، ولعمرى إن الخطأ لخطأ حيث وقع، ولكن ربما كان خطأ
لا يخرج صاحبه من الحكمة. والخطأ (1) أمر لكل بني آدم فيه حظ ونصيب،
وهو أمر لم يسلم منه نبي ولا صديق ولا شهيد ولا أحد من العالمين.
ومما نقررهم به مما رواه حمال الآثار من رجوعه وما لا يجوز من فتياه،
قوله: أجمع رأيي ورأى عمر على عتق أمهات الأولاد، ثم رأيت أن أربهن (2).
ونقلوا جميعا أن عمر وعليا اختلفوا في الجد، فقال على بقول، وقال
عمر بقول، ثم رجع عمر إلى قول على ورجع على إلى قول عمر.
ونقلوا جميعا أن زيد بن ثابت قال لعلي وهو يحاجه في المكاتب:
أرأيت إن زنى أكنت راجمه، قال: لا. قال: أرأيت إن شهد
أتقبل شهادته؟ قال: لا. قال زيد: فهو إذن عبد ما بقى عليه درهم.
فسكت على.
وزعم أصحاب داود بن أبي هند (3)، عن داود عن الشعبي، أن
عليا رجع عن قوله: " في الحرام ثلاث (4) ".

(1) في الأصل: " والخطابة ".
(2) ربه يربه ربا: ملكه وصار سيده. والباء مهملة في الأصل.
(3) داود بن أبي هند - واسمه دينار - بن عذافر القشيري البصري، كان ثقة من
الحفاظ. توفى سنة 140 تهذيب التهذيب.
(4) ورد نحوه في اللسان (حرم) قول عمر: " في الحرام كفارة يمين ". قال:
" هو أن يقول: حرام الله لا أفعل، كما يقول يمين الله لا أفعل ". ثلاث، أي صيام
ثلاثة أيام. فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم ".
89

وكلم على عثمان أن يحجر على عبد الله بن جعفر في شئ كان
اشتراه، وقد كان الزبير قال لعبد الله: خذه فأنا شريكك. فقال له
عثمان: كيف أحجر على إنسان شريكه الزبير؟! فسكت على.
وقال في المكاتب، إذا أدى من ثمنه شيئا: إنه يسترق بحساب
ويعتق بحساب.
وقال في النصرانية تسلم وهى تحت النصراني قال: هو أحق بها
ما لم يخرجها من دار الهجرة.
وقال في رجل قال لامرأته: " اختاري " واختارته، ثم قال:
" اختاري " فاختارته، ثم قال الثالثة: " اختاري " فاختارته؟ قال:
أفرق بينهما، فإن (1) أنا فعلت كذا وكذا.
وقال في أعور فقأ عين صحيح، فأراد الصحيح أن يفقأ عين الأعور
الذي فقأ؟ قال: لا يفقؤها إلا أن يؤدى نصف الدية.
وقال في الجد: إنه سادس ستة، وسابع سبعة، وكتب إلى عبد الله
بذلك، وقال: قطع الكتاب واجعله سابعا.
وقال في جارية وثبت عليها امرأة رجل غائب فاقتضت عذرتها
بإصبعها، ثم قذفتها لتسقطها من عين بعلها، وكانت خافت أن يتزوجها،
فرفع ذلك إليه فقال لبعض بنيه: قل في هذه المسألة. قال: عليها
صداق مثلها: قال: لو كلفت الإبل الطحن (2) طحنت! فاشتد تعجب
أصحاب عبد الله من هذه المقالة.
وكان يرى حك أصابع الصبيان إذا سرقوا.

(1) كذا في الأصل. (2) في الأصل: " الطحين ".
90

وكان إذا قطع الرجل قطع القدم وترك العقب ليمشى عليه
المقطوع، وليعتمد به. وكان يقطع اليد من أصول الأصابع
ويدع الكف.
وزعم عبد الله بن سلمة (1) وغيره، عن الأعمش، عن الشعبي
أو عن غيره، أنه سئل عن رجل قال لامرأته: أنت طالق ألف
تطليقة، وله أربع نسوة؟ قال: تبين بثلاث وتقسم الباقية على نسائه.
ويقال لهم: هل تعلمون أن الله ذكر آدم وهو أول النبيين فقال:
" فنسى ولم نجد له عزما (2) ".
وذكر موسى وقتله النفس. وذكر يونس بن متى فقال:
" وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه ". فالدليل على
أن يونس قد كان صنيع وأساء قوله: " سبحانك إني كنت من الظالمين ".
وقول الله: " فالتقمه الحوت وهو مليم ".
وذكروا داود وسليمان في قضية واحدة ذهب عنها داود وأصابها
سليمان، حيث يقول الله: " وفهمناها سليمان " فلم يكن ذهاب داود
بمخرجه من قول الله: " وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب ". وقد
كان منه ما قد علمت، حتى أنزل الله عليه الملكين يكنيان عن

(1) عبد الله بن سلمة البصرية الأفطس. يروى عن الأعمش وغيره، وليس بثقة.
لسان الميزان. وفى الرواة عبد الله بن سلمة - بكسر اللام - المرادي الكوفي. وهذا
تابعي من الثقات. تهذيب التهذيب.
(2) الآية 115 من سورة طه. في الأصل: " فلم نجد له " تحريف. انظر كتاب
تحقيق النصوص من تأليفنا ص 38 - 39.
91

قصته، ويزيدان وعظه في قصة: " وهل أتاك نبأ الخصم إذ
تسوروا المحراب ".
وقد عاتب الله جل ثناؤه نبيه في غير موضع فقال: " عبس وتولى "،
وقال: " لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا " وقال: " ليغفر
لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ".
وعاتبه في الاسرى وأخبره أنه قد تقدم أمره في إطلاقهم حتى قال:
" لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم (1) ".
وقال الله وهو يريد جمع المأمورين والمنهيين: " ولو يؤاخذ الله
الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة (2) ".
فإذا كان الله قد أخبر بما ترى عن المعصومين فلم يتتبع قوم على
عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان خطاياهم وهفواتهم، وللعمرية والعثمانية
أن يعودوا عليهم بمثل ذلك وأكثر منه؟!
ومن أجهل من رجل زعم أن عليا لم يخط قط ولم يعص قط،
ولم يضيع شيئا قط، وقد سمع الله يحكى أمور أنبيائه، ويذكر
أحوال رسله؟! ولسنا نحتاج في هذا الباب إلى أكثر من هذا.
وكيف يقولون: على فوق الناس كلهم في صواب الرأي، والفقه
في الدين، ولا يكون كالرجل من عظماء السلف لضرب يخصه فيهما،
ونحن إذا سألنا الفقهاء وأصحاب الآثار والعلماء، عن أصحاب القرآن الذين
كانوا مخصوصين بحفظه على عهد رسول الله صلى الله عليه، قالوا: زيد بن ثابت

(1) الآية 68 من سورة الأنفال.
(2) من الآية 45 في سورة فاطر.
92

وأبو زيد (1)، وفلان وفلان. ولم يذكروه في باب المخصوصين بحفظ القرآن
أيام حياة رسول الله صلى الله عليه.
فإن سألناهم عن أصحاب الحروف والقراءات والوجوه، الذين بقراءتهم
يقرأ الناس، وبقدر اختلافهم اختلف الناس، قالوا: زيد بن ثابت، وأبى
بن كعب، وعبد الله بن مسعود. ولم يذكر معهم. لأنا شاهدنا الناس
يقولون: هذا في قراءة عبد الله بن مسعود (2) وهكذا هو في مصحف
عبد الله. وهذا في قراءة أبى، وهكذا هو في مصحف أبى. وهذا في قراءة
زيد، وهكذا هو في مصحف زيد. ولم نرهم يقولون: هذا في قراءة على.
وهكذا هو في مصحف على.
وإن سألناهم عن أصحاب التأويل والتفسير قالوا: عبد الله بن عباس،
والحسن. وفلان وفلان. ولم يذكروه في هذا الباب.
وإن سألناهم عن أصحاب الرواية، والمشهورين بكثرة الاسناد عن رسول الله
صلى الله عليه قالوا: ابن عمر، وعبد الله بن عمرو، وجابر بن عبد الله، وعائشة.
وأبو هريرة. ولم يذكر معهم في هذا الباب.
وإن كان الدليل على فقه المتبوع فقه أتباعه فعبد الله بن مسعود وعائشة
أفقه منه، لان أصحاب عبد الله وعائشة أفقه من أصحابه، فكيف صار أفقه
خلق الله كلهم والقصة على ما أنبأناكم ووصفنا لكم.
على أنه كان فقيها عالما، قد أخذ من كل باب بنصيب، ولا نقول

(1) في الإصابة 458 من باب الكنى: " أبو زيد الذي جمع القرآن، وقع في حديث
أنس في صحيح البخاري غير مسمى، وقال أنس: هو أحد عمومتي. واختلفوا في اسمه، فقيل:
أوس، وقيل: ثابت بن زيد، وقيل: معاذ، وقيل: سعد بن عبيد، وقيل: قيس بن السكن
وهذا هو الراجح " وانظر الإصابة 7175.
(2) في الأصل: " هذا في قراءة أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود ".
93

فيه - إذ كنا عثمانية وعمرية - قولكم في عمر وعثمان. أو ما تعلم أن الخبر
مستفيض بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أقرؤكم أبى "؟! فترى أبيا (1)
كان أقرأ منه. وقال: " أفرضكم زيد " فترى زيدا كان أفرض منه.
وقال: " وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ " فترى معاذا كان عند النبي
صلى الله عليه أعلم منه. وقال: " وأقضاكم على " فينبغي أن يكون على
أقضى منهم. وأنتم لا ترضون أن يكون زيد أفرض منه، ولا أبى أقرأ منه،
مع أن " أقضاكم على " ليس هو في حديث البصريين، فإن كان كما رواه
البصريون فهؤلاء النفر أعلم منه. وإن كان كما رواه غيرهم فكل واحد
أفقه من الآخرين فيما ذكرته. فهذا هذا.
فإن صرت إلى أن تسأل الناس عن الاختيار. وجودة الرأي، والقوة
في السلطان، والضبط للعدو والعوام قالوا: أبو بكر وعمر.
وإن سألت عن الفتوح قالوا: أبو بكر وعمر وعثمان، لان أبا بكر
رد الاسلام في نصابه برد أهل الردة، وهو الفتح الأكبر، وقتل مسيلمة،
وأسر طليحة، وغزا (2) العدو ومنع الحوزة.
ولان عمر دون الدواوين، وفرض الأعطية وجند الأجناد، ومصر
الأمصار، وجبى الفئ (3)، وبلغت خيله إفريقية، وأوطأ خيله خراسان
وأقصى كرمان، وأزال ملك بنى ساسان.
ولان عثمان هو الذي افتتح الثغور كلها، افتتح إرمينية، افتتحها حبيب
بن مسلمة الفهري وافتتح أذربيجان، افتتحها المغيرة بن شعبة، وقد

(1) في الأصل: " أبى ".
(2) في الأصل: " وعدا ".
(3) في الأصل: " وحبا الفئ ". والفئ: الغنيمة والخراج.
94

كان الأشعث معه فيها، وافتتح إفريقية، افتتحها له عبد الله بن سعد بن أبي
سرح. وافتتح سحستان، افتتحها له عبد الله بن سمرة.
فهذا باب المخصوصين بالفتوح.
وإن سألت عن الدهاة وأصحاب الإرب (1) والمكايد قالوا: عمرو
ابن العاص، والمغيرة بن شعبة، ومعاوية بن أبي سفيان، ولم نذكر فيهم زيادا
لان زيادا لا صحبة له. فهذا باب الدهاة.
وروى الناس عن قبيصة بن جابر الأسدي (2) وكان علامة داهية
حكما، أنه قال: " ما رأيت رجلا قط أخوف لله من أبى بكر، ولا أقوى
في دين الله من عمر، ولا أصدق حياء من عثمان، ولا أوصل لرحم
ولا أعطى من تلاد مال من طلحة. ولا أكثر مخارج في الأمور من معاوية
ولا أحضر جوابا، ولا أكثر صوابا من عمرو " ولم نره ذكره.
ثم الذي كان من أسماء بنت عميس، ومن قولها - وعلي بن أبي طالب
شاهد، لما تفاخر عندها بنوها من جعفر وأبى بكر وعلى، قال لها على:
اقضى بينهم - قالت: ما رأيت شابا أطهر من جعفر، ولا رأيت شيخا
أفضل من أبى بكر، وإن ثلاثة أنت أخسهم لفضلاء.
فهذه قضيتها (3)، ولم يرو عن علي في ذلك إنكار.
فإن قلتم: إن قولها ليس بحجة. قلنا: قد صدقتم لو كان ليس بحجة
إلا قولها فقط، ولكن الأمور إذا جاءت من هاهنا وهاهنا كان اجتماعها
دليلا على أنه لم يكن عندها مع فضله وصلاحه وسابقته وقرابته ذا رأى.

(1) الإرب، بالكسر: الدهاء والفكر.
(2) مما يذكر أنه كان أخا معاوية من الرضاع. تهذيب التهذيب.
(3) القضية: الحكم والقضاء.
95

ولقد بلغه ذلك عن قريش حتى قام خطيبا معتذرا فقال في خطبته:
" حتى قالت قريش: ابن أبي طالب شجاع ولكن لا علم له بالحرب،
لله أبوهم! وهل منهم (1) أحد أشد مراسا لها ولا أطول تجربة منى. لقد نهضت
فيها وما بلغت العشرين، فها أنا الآن (2) قد ذرفت على الستين، ولكنه
لا رأى لمن لا يطاع ".
وقال الأحنف بن قيس لما قدم عبيد الله (3) بن علي بن أبي طالب - وهو
قتيل (4) المختار بن أبي عبيد في أيام فتنة ابن مخربة العبدي (5): ما هذا
الذي أنتم فيه؟ قالوا: قدم عبيد الله بن علي يدعو الناس: قال: إن كان
لابد فجنبوها حسنا وأبا حسن، فإنا لم نجد عندهم علما بالحرب. ولا إنالة للمال.
وقيل لأبي برزة الأسلمي (6): لم آثرت صاحب الشام على صاحب العراق؟
قال: وجدته أطوى لسره، وأملك لعنان جيشه (7)، وأنظر لما في نفسه.
وفى قوله العباس بن عبد المطلب، وهو حليم قريش - وإذا كان حليم

(1) في الأصل: " وهم امنهم " صوابه من البيان 2: 55 حيث تجد مراجع الخطبة.
(2) في البيان وابن أبي الحديد 1: 141: " فهأنذا ".
(3) في الأصل: " عبد الله " تحريف، انظر الطبري 6: 89 / 7: 153 ومقاتل
الطالبيين 87، وفى الطبري: " إنما قتله من يزعم أنه لأبيه شيعة. أما إنهم قتلوه
وهم يعرفونه ".
(4) في الأصل: " قتل ".
(5) هو المثنى بن مخربة. الطبري 7: 93 والقاموس (خرب).
(6) في الأصل: " أبو بردة " تحريف. وهو نضلة بن عبيد أبو برزة الأسلمي،
صاحب رسول الله الإصابة وتهذيب التهذيب 10: 446 والمعارف 146. وفى تاريخ
الاسلام للذهبي 2: 328: " وكان مع معاوية بالشام، وقيل: شهد صفين مع علي رضى الله "
ويبدو أنه كان مرة مع علي، ومرة مع معاوية. انظر أيضا وقعة صفين 246.
(7) وردت الكلمة مهملة في الأصل هكذا: " حبسه ".
96

قريش فهو حلم العرب، والحلم اسم جامع للعلم والحزم - وذلك أنه لما قبض
عمر وصلى صهيب بالناس دعا العباس عليا فقال: هل أحدثتم شيئا؟
فقال: فاحفظ عنى، فإني لم أقدمك في شئ إلا رأيتك مستأخرا. من ذلك
أنى قلت له ورسول الله صلى الله عليه وسلم ثقيل (1): ادخل عليه فسله،
فإن يكن هذا الامر فينا أعلمه الناس، وإن يكن في غيرنا أوصى بنا.
فتركت ذلك وقد منيت (2) بدهاة قريش، وقد حيل دوني، فلا يعرضن عليك
شئ إلا قلت: لا لا، ولا يا أبتي، تقصر عينيك وتحك قفاك، بعد
فوت الامر.
ففيما ذكرنا دليل أنه كان لا يساوى أبا بكر ولا يجاريه، ولا يدانيه
ولا يقاربه. وأنه في طبقة أمثاله طلحة والزبير، وعبد الرحمن وسعد.
فإن قالوا: فإن عليا كان أزهد فيما تناحر الناس عليه، ولان
أزهد الناس في الدنيا أرغبهم في الآخرة، ولان أرغبهم في الآخرة
أعلمهم بأحوال الآخرة.
قلنا: قد صدقتم في صفة الزهد، ولكن أبا بكر كان أزهد منه.
وسندلكم على ذلك.
فمن ذلك أن أبا بكر كان ذا مال كثير، ووجه عريض، وتجارة
واسعة، فأنفق ذلك في سبيل الخير وعلى أهله، إيثارا لله ولرسوله،
وطلب ما عنده حتى لقى (3) [الله] وما كنت تركته يوم مات غير
بعير ناضح. وعبد صيقل (4)، مع الخلافة وكثرة الفتوح والغنائم
والخرج والصدقة.

(1) أي أثقله المرض وأشرف على الوفاة.
(2) في الأصل: " يميت؟؟ " بالاهمال.
(3) في الأصل: " بقى " بإهمال الحرف الأول.
(4) الصيقل: شحاذ السيوف وجلاؤها.
97

وكان علي بن أبي طالب مقلا مخفقا (1) يعال ولا يعول، فاستفاد
الرباع (2) والمزارع، والعيون والنخيل، ومات ذا مال وأوقاف،
وما يحسب ماله ووقفه بينبع (3) إلا مثل كل شئ ملكه أبو بكر مذ كان
في الدنيا إلى أن فارقها، وتزوج فأكثر، وطلق فأكثر، حتى عابه
بذلك معاوية، وجعله طريقا إلى تنقصه، وسبيلا إلى الطعن عليه، فقال
وهو يكنى عن ذكره ويريده، ليكون أسد لسهمه، وأوقع في (4) قلب
من سمعه: " إني والله ما أنا بنكحة ولا طلقة ".
والآثار أن عليا رحمة الله عليه، استشهد وعنده تسع عشرة سرية
مطهمة (5) وأربع نسوة عقائل.
ولا سواء من كان ذا مال فأنفقه. ومن كان مقلا فكسبه.
ولم يتزوج أبو بكر في خلافته امرأة ولا اتخذ سرية، ولا تفكه
بشئ، ولا آثر لذة (6) إن كان له طلقا مباحا.
ثم الذي كان من أبى بكر في عمالته (7): أنه كلف بنى تيم ومن
عنده أياديه ومنته أن يردوا ما أخذ من بيت المال فيه، لكي يجعل
عمالته لله. وعلى ذلك احتذى عمر. وقد كان على يأخذ عمالته، ولم
يخبرنا أصحاب الآثار أنه ردها في بيت المال، ولا كلف ذلك بني هاشم

(1) أخفق الرجل: قل ماله.
(2) الرباع: المنازل، جمع ربع.
(3) مهملة في الأصل " يبيع؟؟ " وانظر معجم البلدان.
(4) في الأصل: " فأوقع من ".
(5) السرية: الجارية المتسراة، المطهمة: الحسناء الجميلة.
(6) في الأصل: " ابرلده " بالاهمال.
(7) العمالة بتثليث العين: أجر العامل.
98

في وصية. وهذا ما لا يختلف فيه رجلان من أصحاب الآثار،
وحمال الاخبار.
وقد كان أخذ لقوحا وحبشية لرضاع بعض ولده فرد ذلك (1)
في بيت المال.
ولما بايع الناس أبا بكر غدا على سوقه كما كان يفعل، فقالوا:
فلابد أن نجعل لخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا يقيمه، قالوا:
برديه إذا أخلقهما وضعهما وأخذ مكانهما، وظهره إذا سافر، ونفقته
على أهله كما كان ينفق قبل خلافته. قال: رضيت. فجمع ذلك كله
وحفظه، ثم أمر بنى تيم فردوه في بيت المال. فخرج من الدنيا
خفيف الظهر، خميص البطن. فلما فعل ذلك قال عمر: رحم الله
أبا بكر، لقد شق على من بعده!
فإن قالوا: أوليس قد كان على ينضح بيت المال في كل جمعة
ويصلى فيه ركعتين؟
قلنا: إنا لم نكن في ذكر الأمانة والخيانة، لان أبا بكر وعليا
يرتفعان عن هذا الضرب من المديح. وعن هذا الضرب من الثناء،
وإنما كنا في ذكر الزهد في المباح، وفى الايثار والرفض للفضول،
لان بين الرجل يعطى ماله وعليه، وبين من يعطى ما عليه ولا يعطى
ماله فرق.
ومما يدل على فضله أن الله أنزل فيه من القرآن ما لم ينزله في أحد

(1) في الأصل: " في ذلك ".
99

من المهاجرين والأنصار، كل ذلك يخبر عن فضله، ويدل فيه على
مكانه منه، ويثنى عليه ويزكيه ويعظمه. وليس من أفرد الله فيه
الآى، وأفرده بالذكر كمن ذكره في جملة المؤمنين، وجمهور
الأنصار والمهاجرين.
ولا سبيل إلى المعرفة بأن الله عنى بآية كذا وآية كذا فلانا دون
غيره إلا بضربين: إما أن يكون اسمه وخاصة نسبه ونعته (1) مسطورا
في الآية، كما ذكر فرعون وأبا لهب، وفلانا وفلانا، وكما ذكر آدم
ونوحا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدا صلى الله عليه وعليهم.
أو يكون المراد بالآية وإن لم يذكر اسمه، كما ذكر لقمان، وزيد (2).
[وزيد] مشهور النسب معروف القصة أنه المراد بالآية، وبشهرة القصة
والنسبة حتى لا يكون بين أهل ذلك الدهر في ذلك تنازع، ولا بين
أصحاب التأويل والاخبار في دهرنا هذا، فيكون كأنه مسمى وإن لم يسم.
وقد كانت تحدث بين الناس أمور فينزل القرآن عقب ذلك، فيعلم
المهاجرون والأنصار من المراد بهذا التنزيل. كالذي كان من شأن عائشة
وما قرفت به، حتى أنزل الله لذلك السبب آيا كثيرا، وإن لم يكن الله
سمى عائشة ولا من قرفها. وكالذي نزل من القرآن في قصة الغار
وهجرة النبي صلى الله عليه وأبى بكر، وهربهما من قريش، ونصرة
الله لهما.
فكان مما أنزل الله في أبى بكر من تفضيله وتزكيته وإن لم يسمه
قوله لجميع المؤمنين: " إن تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين

(1) في الأصل: " لعنه ".
(2) أي ولم يذكر اسمهما في القرآن لكان معروفا أيضا أنهما المرادان.
100

كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله
معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين
كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا، والله عزيز حكيم (1) ".
فلا يخلو قوله: " إلا تنصروه " من أحد وجوه: إما أن يكون
خاطب به المشركين عامة. أو خص به الخاذلين العادين والباغين،
أو يكون خاطب به المؤمنين.
ولا يجوز أن يكون عنى به المشركين، لأنه لا يجوز في الحكمة
وفى المعروف من البيان أن يقول الرجل الحكيم المبين، للعدو المكاشف
بعداوته. المظهر لضغنه، الباذل لرأيه وماله، المعاند في فعله: إلا تنصرني
فقد نصرني فلان! لان النصر لا يلتمس من العدو المكاشف، وإنما
يلتمس من الولي أو من الخاذل.
وكيف يقول هذا وإنما غايته الانتصار منه بغيره.
وفى قول الله عز وجل: " إذ أخرجه الذين كفروا " دليل أن
المخاطب بالكلام غير الذين كفروا به وجحدوه وأخرجوه. ولا يجوز
أن يكون عنى الخاذلين له من قريش ومشركي مكة إلا والخاذلون
قد كانوا هناك معروفين، بائنين من العادين المتوثبين المبادين بالعداوة.
المظهرين للمحاربة، ولا نعلمهم كانوا ببطن مكة صنفين متمايزين،
[و] فريقين متباينين، حتى يكون كل حزب مشهورا بالذي هو عليه
من الخذلان والعداوة، وليس بطن من بطون قريش إلا وقد لقى النبي
صلى الله عليه وسلم منه أعظم المكروه وإن كانوا في ذلك على طبقات:
من مجتهد لا يبقى، ولا يفتر ولا يسأم، ومن رجل مائل معهم بضلعه (2).

(1) الآية 40 من سورة التوبة.
(2) الضلع، بالفتح: الميل.
101

مبد معهم لضره (وإن كان لا يبلغ غلو الآخر وتصميمه وقلة إغفاله.
ولقد كانت خزاعة وثقيف على بعد أنسابها وأرحامها أحسن تقية
من قريش في إظهار العداوة، والأرصاد بالمكروه، والثبات على البغى،
كالذي بلغك عن الأخنس بن شريق وعروة بن مسعود، وبديل بن
ورقاء، من ركونهم إلى الصلح وحبهم للسلامة، مع قلة التسرع
والتوثب، على أنهم قد أجلبوا وطعنوا. وكفروا وكذبوا، بعد
الافصاح لهم بالحجة، والإبانة لهم عن المحجة.
ولقد كان أبو لهب على قربه وقرابته، شبيها بأبي جهل في الغلظة
والقسوة والجفاء، وكثرة التدري (2) وقلة السآمة.
ولم يكن أبو طالب يوم نزلت هذه الآية حيا مقيما فيكون الله جل
ذكره عناه فيمن أطاعه من رهطه بهذا الكلام. على أنه لو كان حيا
لقد كان معلوما أنه لم يكن هناك أحد أحسن ذبا، ولا أشد نصرا،
ولا أظهر معونة، ولا أشد حماية منه.
ولم يكن الله ليعرف قوما موضع الخلة في النصرة، والتقصير في المدافعة،
إلا وأدنى منازلهم أن يكونوا مقرنين (3) لمن ناوأهم، مضطلعين بدفع من
شاقهم (4).
ولا نعلم يوم كانت هذه القصة، ونزلت هذه الآية، وبمكة رجل

(1) في الأصل: " لبصره "
(2) التدري: الختل.
(3) المقرن: المطيق. وفى الكتاب: " وما كنا له مقرنين ".
(4) في الأصل: " مصلعين " يقال هو مضطلع بالشئ، أي قوى عليه قادر.
102

من بني هاشم مطاع متبوع غير العباس بن عبد المطلب. ولا يجوز
أن يقول الله للعباس ومن كان في ذراه ممن يسمع له وينفذ لامره:
" إلا تنصروه فقد نصره الله " وقد علم أن العباس وأشباهه من
مشيخة بنى عبد مناف لا أعوان لهم يومئذ من بنى عبد مناف، لان
بنى عبد مناف دنيا (1) على قربهم وقرابتهم، كانوا أشد الخلق على رسول
الله، كأبى سفيان بن حرب، وعقبة بن أبي معيط، والحكم بن أبي
العاص، وأبى أحيحة، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة،
والوليد بن عتبة، وفلان وفلان. ولم تكن أمية انمازت في ذلك الدهر
من هاشم، وكان يقال للحيين: عبد مناف. [و] كان من أمر
عثمان الذي بلغك.
فقد دل الكلام على أن الله إنما عنى بالآية المؤمنين دون الكافرين،
إذ كانت مخاطبة العادي والخاذل على ما وصفنا. وليس أنه أراد تأنيب المؤمنين
وتقريع المهاجرين، ولكنه أخبر عن تقصيرهم عن فضيلة أبى بكر إذ ظعنوا
وأقام. وليس النقص في الفضل كالنقص في الفرض. فكأنه تعالى وعز
قال: لو كنتم صبرتم مع نبيكم. ما أقام، إلى وقت الاذن (2) كصبر أبى بكر
معه، ولم تخرجوا هاربين جازعين، ولدار نبيكم مهاجرين، كان أشد
لصبركم، وأكمل لرغبتكم، وأنم لتقيتكم. وليس أنكم عصيتم في
خروجكم، ولكن بعض الصبر والاحتمال أفضل من بعض، وكذلك
الطاعة تطوعها وفرضها، كما قد علمتم أن بلالا وخبابا وعمارا حين
فضهم (3) المشركون عن دينهم جزع عمار وأعطاهم الرضا، مع انطواء قلبه

(1) يقال هو ابن عمه دنيا. أي لحا. (2) أي الاذن بالخروج والهجرة.
(3) كذا في الأصل مع شدة فوق الضاد. و " فتنهم " أولى بهذا المقام.
103

على الاخلاص، وثلج صدره بالايمان، ولكن عزمه كان منقوصا عن
التمام، من غير أن يكون ذلك عصيانا ولا خلافا. ويدلك على ذلك قول الله:
" إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان ". ولذلك قال النبي صلى الله
عليه لعمار: " إن عادوا فعد " يريد بن التوسعة والرخصة والاطلاق.
وليس على الامر والترغيب.
وكما بلغك عن الرجلين الواردين على مسيلمة. حين قال لأحدهما: أتعلم
أنى رسول الله؟ قال: نعم. قال: أفتعلم أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم.
قال: فأمر به فقتل. وقال للآخر: أتعلم أنى رسول الله؟ قال: نعم. قال:
فتعلم أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم. فأمر بتخلية سبيله. فلما بلغ ذلك
النبي صلى الله عليه قال: أما الأول فمضى على عزمه ويقينه فهنيئا له، وأما
الثاني فأخذ برخصة الله فلا تبعة عليه.
فعلى هذا المثال كان تقصير القوم، لا على وجه الخلاف والمعصية.
وذلك أن أبا بكر أقام بمكة ما أقام النبي صلى الله عليه عليه وسلم،
وهاجر الناس الأول فالأول، فبعض أتى المدينة، وبعض أتى الحبشة،
حين اشتد عليهم البلاء وطال الذل وقل الناصر، وقويت الضغائن،
فكان النفر بعد النفر، والرجل بعد الرجل، يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم
في الهجرة فيأذن له. وأقام أبو بكر وحيدا لا أنيس له، وذليلا لا ناصر له،
وخائفا لا أمان معه، في كل يوم يزدادون عليه قوة ويزداد عنهم ضعفا
فإذا بلح (1) وبلغ المجهود، ولم يبق في قواه فضل يستعين به على الصبر،
استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في المضي إلى إخوانه واللحاق بهم،

(1) الكلمة مهملة في الأصل، وبلح تبليحا: أعيا.
104

فيقول له: " لعل الله أن يجعل لك صاحبا " فيزداد بها أبو بكر قوة،
وتحدث له بها همة. وهذه كلمة ما قالها النبي صلى الله عليه لمستأذن قبله،
فيعلم أبو بكر عند ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما عناه، فيشجع
من نفسه، ويشد من منته، طمعه في شرف الصحبة، وإكرامه إياه
بفضيلة المرافقة.
وقد استأذن النبي صلى الله عليه الناس [قبله (1)] بسنين، فكان
أولهم أبو سلمة بن عبد الأسد (2)، وآخرهم عمر بن الخطاب، لقرب حال عمر
في الفضل والصبر من حال أبى بكر. فكأنه خاطب المهاجرين، على التعريف
لهم بفضيلة (3) صبر أبى بكر على صبرهم. مشحذة لهم على إعطاء الجهد،
وترغيبا لهم في غاية الصبر في مستقبل الأمور وحوادث الامتحان. فكأنه
قال: إذا لم تستتموا الصبر، ولم تبلغوا غاية الجهد، ولم تصبروا ما أقام، فقد
نصرته أنا إذ أخرجته ثاني اثنين.
والدليل على ما قلنا قول عمر لقريش حين بادأهم العداوة، ونصب لهم
الحرب، وأحس من نفسه بالجلد وشدة الشكيمة، وقوة العزيمة:
" أما والله أن لو قد صرنا مائة لتركتموها لنا إن تركناها لكم "
يعنى مكة.
فلو كان جميع من هاجر إلى الحبشة وأتى المدينة على مثل هذا العزم

(1) تكملة يفتقر إليها الكلام.
(2) اسمه عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزومي، أسلم بعد
عشرة أنفس، وكان أخا النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاع. الإصابة 4774.
(3) في الأصل: " فضيلة ".
105

والاحتمال والدفع، وهم جميع، لكان ذل من أقام ووحشته أقل،
ونفوسهم أطيب.
والدليل على فضيلة مقام أبى بكر على ظعنهم أنهم حيث هاجروا
ونزلوا بالنجاشي والأنصار فنزلوا بأكرم منزول به، فكانوا في ذراه
آمنين، رافهين وادعين، إلا ما كان من قصة جعفر، وسعاية عمرو.
وإحماش النجاشي وتهييجه (1). فما كان ذاك إلا صدر نهار حتى جعل
الله العاقبة للمتقين. وأبو بكر والنبي من الوحدة والقلة، والجفوة والوحشة،
وخفة ذات اليد، والسب والإهانة، والخوف بالقدر الذي لا يأتي عليه قول
وإن كثر، ولا يبلغه وهم وإن اتسع.
وهكذا روينا عن الضحاك وقتادة وأبى بكر الهذلي في تأويل هذه
الآية: أن الله عاتب جميع المؤمنين بها غير أبى بكر. ولو لم يكن رواية (2)
ولم يفسر ذلك صاحب تأويل، لم يجز أن يكون تأويله غير الذي قلنا،
للذي شرحنا وفصلنا.
ولو كانت هذه المخاطبة وقعت على الخاذلين والعادين، أو على الخاذلين
دون العادين والمؤمنين، لقد كان لأبي بكر في الآية ما ليس لأحد، فكيف بها

(1) أما جعفر بن أبي طالب، فكان سببا في إسلام النجاشي حين أبان له حقيقة الدين
وشرح له ما يدعو إليه، وأما عمرو بن العاص - وهو أحد رجلين كانت قريش أرسلتهما
إلى النجاشي ليرد عليهم المؤمنين المهاجرين ليفتنوهم كما فتنوهم من قبل. والآخر هو عبد الله
ابن أبي ربيعة - فإنه سعى سعيا حثيثا لدى النجاشي في ذلك، وحاول أن يفسد نجاحهما في دعوة
النجاشي إلى الدين، وكان مما قاله في تهييج النجاشي: " أيها الملك إنهم يقولون في عيسى بن
مريم قولا عظيما " ولكنه أخفق في ذلك وتم إسلام النجاشي، السيرة 215 - 225.
(2) في الأصل: " ولم كان يكن " مع خط على " كان ".
106

إن كانت في المهاجرين. لان في قوله " ثاني اثنين " معنى عظيما، وفى قوله:
" فأنزل الله سكينته " معنى عظيم.
فإن قالوا: كل ما عظمتم فعظيم، ولكن بعضه لا يجوز إلا للنبي
صلى الله عليه دون أبى بكر. وهو قوله: " فأنزل الله سكينته عليه ".
قيل لهم: استكرهتم التأويل، وصرفتم الكلام عن سننه،
وغير تأويلكم أشبه بكلام العرب، وأظهر في بيان الخطباء، ومراجعة
الحكماء. وذلك أن النبي صلى الله عليه كان هو الرابط الجأش، الثابت
الجنان، الساكن النفس، وهو المعزى لأبي بكر، والمسهل عليه شدة حزنه،
والمطيب لنفسه، والمسكن لحركة قلبه، للذي (1) رأى وعاين من اكتراثه
ومن اضطرابه، وقلة سكينته، وهذه الحال التي فيها قلب النبي صلى الله عليه
وخليفته، وأبو بكر على ما وصفنا وفرقنا، هي الفاصلة بين النبي صلى الله
عليه وبين خليفته، إذ كان الخليفة قد شارك النبي صلى الله عليه في حضوره
واحتماله، وبان منه النبي صلى الله عليه بشدة عزمه وسعة صدره، وسكون
قلبه، كالفصل الذي بين الخليفة وولى عهده.
وكذلك (2) تعجل عمر الهجرة قبل أبى بكر، فكان بذلك أنقص
فضلا منه. وتأخر بعد المهاجرين، فكان بذلك أتم فضلا منهم.
(* وفى قول الله: " إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل
الله سكينته عليه " دليل على أن السكينة نزلت على صاحبه، وأن
الهاء التي في " عليه " مضمر فيها صاحبه. ولا يشبه أن تكون

(1) في الأصل: " الذي ".
(2) في الأصل: " ولذلك ".
107

السكينة نزلت على من لم يخل من السكينة وقلة الاضطراب، وعلى
المسهل على صاحبه والمطيب لنفسه (1) والمبشر له بالنصر، حين يقول:
" لا تحزن إن الله معنا ". وهو كما أخبر أبو معاوية الضرير،
عن عبد العزيز بن سياه، عن حبيب بن أبي ثابت: في قول الله:
" فأنزل الله سكينته عليه " قال: على أبى بكر، فأما النبي صلى
الله عليه فقد كانت السكينة عليه من قبل ذلك *).
فإن قالوا: فكيف وقد قال الله على نسق الكلام: " وأيده بجنود
لم تروها " والمؤيد بالجنود في هذا الموضع لا يجوز أن يكون إلا النبي
صلى الله عليه، لان الجنود الذين عنى الله ملائكته.
قيل لهم: وما تنكرون أن يكون الله أيد رجلا بالملائكة، بشفاعة
النبي صلى الله عليه وبشارته وبحق صحبته. كما أيد الله جميع أهل
بدر بالملائكة. وكما زعموا أن الملائكة نزلت في زي الزبير، وليس
أن الله حين أيد أبا بكر بالملائكة أنه أراه جبريل وميكائيل، ولكن

(1) في الأصل: " والمطيع لنفسه " انظر ما مضى في الصفحة السابقة س 9.
*) الكلام من " وفى قول الله " ص 107 س 17 إلى هنا هو موضوع الرد (28)
الذي سيأتي في نهاية الكتاب. والنص عند ابن أبي الحديد 3: 271:
" قال الجاحظ: ومن جحد كون أبى بكر صاحب رسول الله فقد كفر، لأنه جحد نص
الكتاب. ثم انظر إلى ما في قوله تعالى: " إن الله معنا " من الفضيلة لأبي بكر، لأنه شريك
رسول الله صلى الله عليه وآله في كون الله تعالى معه، وإنزال السكينة. قال كثير من الناس:
إنه في الآية مخصوص بأبي بكر، لأنه كان محتاجا إلى السكينة لما تداخله من رقة الطبع البشرى
والنبي صلى الله عليه وآله كان غير محتاج إليها، لأنه يعلم أنه محروس من الله تعالى، فلا معنى
لنزول السكينة عليه. وهذه فضيلة ثالثة لأبي بكر ". وقد جمع هذا النص بين ما ورد في
ص 44، 50 - 51.
108

ليعلمه (1) النبي صلى الله عليه أن بحضرته ملائكة قد أرسلهم الله ليمنعوه
من المشركين، ليسكن بذلك روعه، وتهدأ نفسه، وليثق بحضور
النصر وتعجيل الدفع.
وقد علمنا أن الله لم يجعل مع كل مؤمن ملكين يكتبان خيره وشره
استذكارا، ولكن المؤمن إذا شعر بمكانهما كان أقطع له عن ركوب الأدناس،
وأدعى له إلى الاستحياء، وليعلم أن الامر جد وليس بهزل.
فكذلك إحضار الملائكة لأبي بكر. ليكون بشارة النبي صلى
الله عليه له بذلك تسكينا لنفسه، وتعجيلا لبعض ما استحق بالاحتمال
والمواساة والصبر، من الثواب المعجل دون المؤجل.
ولقد بلغ من ظهور قصة أبى بكر وصحبته ومرافقته وكونه مع النبي
صلى الله عليه في الغار، أن الروافض مع شدة الاقدام، والجرأة على
تكذيب الناقلين، لم تقدر على دفعه ورده، حتى قال منهم قائلون:
إنما أخرجه النبي صلى الله عليه خوفا من أن يدل عليه ويسعى بأمره
إلى أعدائه، لأنه كان حسن من النبي بالهجرة، وعرف ميقاته الذي
عزم عليه.
وكيف يجوز أن يخاطب الله الناس فيقول: " إلا تنصروه فقد
نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين " والذي به كان النبي صلى
الله عليه بائنا قد أبر على الأعداء (2) وأربى على الكفار، لان النفاق
أعظم من التصريح.

(1) في الأصل: " يعلمه ".
(2) أبر عليهم: غلبهم. وكلمة " أبر " مهملة في الأصل.
109

وهذا ما لا يجوز في عقل، ولا يسنح في فكر، ولا يجوز في التعارف،
ولا يليق بالبيان.
وكيف والله يقول على اتصال اللفظ باللفظ والمعنى بالمعنى. وتركيب
الآية الأخرى على الأولى: " وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة
الله هي العليا ".
ولا كافر أعظم كفرا، ولا أشد عنودا من ثانيه وصاحبه في الغار، ورفيقه
في الطريق، والمعزى لشدة حزنه. إن كان الشأن على ما قالوا وكما وصفوا.
وإنما المنافقة (1) أن يكون الرجل معتقدا لجحد الرسول وعداوته
ولكن الرسول هو الغالب على داره القاطع لمن بادأه بالعداوة. وناوأه
في الفضيلة، فإنما يستبقى نفسه بنفاقه. وبتزميل حقده، وإخفاء ضغنه.
فأما رجل مقيم بمكة قليل مفرد، وذليل مطرد، وخائف مشرد، بين
استخفاء يعدل الموت، أو هرب يقطع الأحشاء، والذي هرب معه مقهور
مخذول، والغالب على داره عدوه، فكيف كان أبو بكر منافقا والحال
على ما وصفنا؟!
ولولا كثرة الفساد وما عم الناس من الغلط وفحش الخطأ ما كان
لذكر هذا وشبهه معنى.
والأثر المجتمع عليه من أصحاب السير والاشعار والاخبار، أن النبي
صلى الله عليه قال لحسان: أما قلت في أبى بكر شيئا (2)؟ فأنشأ يقول:

(1) في الأصل: " المنافقون ".
(2) في البيان 3: 361 أن الأبيات رثاء في أبى بكر. وانظر ما كتبت هناك في حواشيه
وكذا جمهرة أشعار العرب ص 13 وصفة الصفوة 1: 89.
110

إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة * فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا
التالي الثاني المحمود مشهده * وأول الناس منهم صدق الرسلا
وثاني اثنين في الغار المنيف وقد * طاف العداة به إذ صعد الجبلا
خير البرية أتقاها وأطهرها * إلا النبي وأوفاها بما حملا
فجعله تاليا، وثانيا، وصاحبا.
وقال أبو محجن:
وسميت صديقا وكل مهاجر * سواك يسمى باسمه غير منكر (1)
سبقت إلى الاسلام والله شاهد * وكنت جليسا بالعريش المشهر
وبالغار إذ سميت بالغار صاحبا * وكنت رفيقا للنبي المطهر
فجعله سابقا وصديقا، وجليسا وصاحبا.
وقال كعب بن مالك:
سبقت، أخا تيم إلى دين أحمد * وكنت لدى الغيران في الكهف صاحبا
فجعله سابقا، وجعله صاحبا.
وقال النجاشي:
غداة أتى بدرا وحر جلادهم * وكان جليسا بالعريش مؤازرا (2)
فلو لم تكن له مأثرة إلا ما دلت عليه هذه الآية، وإلا شرف
هذه الصحبة، وموقع هذه الخاصة، ونبل هذه المرافقة، ومشاهده
الثقة، لكان فوق الجميع في المكانة والفضيلة، وفى مرافقة النبي صلى
الله عليه.

(1) هذه الأبيات مما لم يرو في ديوان أبى محجن.
(2) حر يحر، من باب ضرب وقعد وعلم: اشتد حره.
111

سمع أهل مكة الهاتف بالليل على قرن الجبل (1) وهو رافع عقيرته، يقول:
جزى الله رب الناس خير جزائه * خليلي صفاء طردا كل مطرد
هما نزلا في الصبح ثمت هجرا * وأفلح من أمسى رفيق محمد
ليهنئ بنى كعب مكان فتاتهم * ومقعدها للمؤمنين بمرصد (2)
وقال الحارث بن هشام:
رفيقان في المحيا وفى الموت ضمنا * بأكرم مثوى منزل ومكان
فهذا هذا.
ثم الذي كان من قصة مسطح بن أثاثة وقضيته (3)، وكان ربيبه وابن
خالته (4) وفى مؤونته وتحت جناحه، فلما قرفت عائشة بالذي قرفت به
وبلغك، آلى أبو بكر ألا ينظر في وجهه، ولا ينفق عليه ولا يكفله
ولا يمون عياله، فلما أنزل الله عذر عائشة وبراءتها، ولم يرض لها بالطهارة
والعفة حتى جعلها غافلة، فضلا على أن يكون خطر ذلك على بالها فتنفيه،
إيثارا للحلال على الحرام. وأنزل الله على رسوله صلى الله عليه في آية (5) يأمر
أبا بكر بالصفح عن مسطح. والتجاوز عن ذنبه، وتغمد ما كان منه، وأن
يعيده في كنفه وعياله. فقال: " ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة ".
فما ظنك بإمرئ يقول الله له وفيه هذا القول. ويصفه بهذه الصفة حتى
يقول: " ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولى القربى
والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر

(1) هو جبل أبى قبيس. كما في عيون الأثر 1: 188.
(2) انظر السيرة 330 وابن سيد الناس 1: 187 - 189 والرياض النضرة 1: 77.
والفتاة هي أم معبد بنت كعب، من بنى كعب بن خزاعة.
(3) في الأصل: " وقصته ".
(4) الصواب أنه ابن بنت خالته، كما في الإصابة والسيرة 733.
(5) في الأصل: " عن آية ".
112

الله لكم والله غفور رحيم (1) " فتلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم
على أبى بكر، فلما انتهى إلى قوله: " ألا تحبون أن يغفر الله لكم " قال
أبو بكر: بلى يا رب! فعفا عنه. فوجبت له المغفرة، وأعاده إلى نعمته، وجعل
عياله في حشاه وتحت ظله.
فمن أعظم قدرا من رجل يفرد الله له الآى فيه معظما لشأنه، ذاكرا
لفضله على لسان جبريل ومحمد عليهما السلام. فهذا هذا.
وقد أجمع أهل التأويل على أن الله عنى بقوله: " والذي قال
لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي وهما
يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير
الأولين (2) " أبا بكر، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وأمه.
وكان أبو بكر وأهل بيته أهل بيت إسلام: كان هو مسلما، وامرأته
مسلمة، وأبواه مسلمان، وبناته مسلمات، وليس في العشرة الذين قال لهم
النبي صلى الله عليه إنهم في الجنة، ولا في قريش قاطبة رجل مؤمن مؤمن
الأبوين غير أبى بكر الصديق، ولا في قريش خاصة والمهاجرين عامة صاحب
ابن صاحب ابن صاحب غير عبد الله قتيل الطائف ابن أبي بكر الصديق، ابن أبي
قحافة المسلم يوم مكة (3)، والقائل فيه رسول الله صلى الله عليه
لأبي بكر: " فهلا تركت الشيخ في منزله فأتيناه! ". وله صحبة.
واجتمع أهل التأويل على أن قوله: " أفمن يمشى مكبا على وجهه

(1) الآية 22 من سورة النور.
(2) الآية 17 من سورة الأحقاف.
(3) انظر خبر إسلام أبى قحافة في السيرة 815 - 816.
113

أهدى أم من يمشى سويا على صراط مستقيم " نزلت في أبى بكر
وأبى جهل. ألا ترى أن أبا جهل رأس الكفر فلم يقرن به ولم يوضع
بإزائه من المسلمين إلا رأس مثله.
وقال الله: " فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى " الآية،
يعنى أبا بكر في إنفاقه المال وعتقه الرقاب والمعذبين، وقوله: " كذب
وتولى " يعنى أبا جهل، وليس في الأرض صاحب تأويل خالف
تأويلنا (1) ولا رد قولنا إن هذه الآية نزلت في أبى بكر.
وأما قوله: " قل للمخلفين من الاعراب ستدعون إلى قوم أولى
بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا
وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما (2) ". فزعم
ابن عباس أن القوم الذين ذكرهم بنو حنيفة، وأبو بكر استنفر إليهم
العرب، وضمهم إلى المهاجرين والأنصار، حتى أظفر الله يده وأظهر حكمه.
وأما غير ابن عباس فزعم أنهم فارس والروم.
فإن كان [ذلك (3)] كذلك فإن أبا بكر هو المستنفر إلى قتال
الروم. وإن كان عمر هو المقاتل لكسرى فإن ذلك راجع إلى أبى بكر
بتأسيسه لعمر واختياره له.
وقد زعم جويبر (4) عن الضحاك في قوله: " يا أيها الذين آمنوا
اتقوا الله وكونوا مع الصادقين " قال: أبو بكر وعمر.

(1) في الأصل: " تأويلا "
(2) الآية 16 من سورة الفتح.
(3) زدتها مساوقة لاسلوب الجاحظ الذي يلتزم هذا التعبير
(4) جويبر بن سيعد الأزدي البلخي مات ما بين 140 و 150. تهذيب التهذيب.
114

وقد زعم وكيع عن الفضل بن دلهم (1) عن الحسن في قوله:
" فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه " قال: هم والله أبو بكر
وأصحابه.
ومثل هذا كثير، ولم يجئ المجئ الذي يحتج به المنصف والمرشد،
ولكن الحجة القاطعة في إجماع (2) المفسرين في الآيات التي ذكرناها
قبل في قصة الغار، والنصرة، وفى قصة مسطح، والعفو عنه والانفاق
عليه، وفى قصة عبد الرحمن بن أبي بكر وأبويه ودعائهما له إلى الاسلام
ورده عليهما، وقصة أبى بكر وأبى جهل.
وقالت (العثمانية): فإن زعمت الرافضة أن الله أنزل في علي آيا
كثيرا، فكان مما أنزل فيه وفى ولده قوله: " أطيعوا الله وأطيعوا
الرسول وأولي الأمر منكم (3) ". فأولى الامر على وولده. فلعمري
لئن كان أصحاب الاخبار قد أطبقوا على أنها نزلت في علي وولده إن
طاعتهم لواجبة، وإن كان هذا شيئا تقوله متقول، أو جاء من وجه
ضعيف، فهو مع ضعفه شاذ، وليس في ذلك لكم حجة. لان الحديث
قد يحتمله الرجل الواحد الثقة عن مثله، فيكون شاذا، مالم يكن
مستفيضا شائعا قد نقل عن المستفيض الشائع. وقد يكون الحديث
يحتمله الرجلان والثلاثة وهم ضعفاء عند أهل الأثر فيكون
الحديث ضعيفا لضعف ناقليه، ولا يسمونه شاذا، إذا كان قد جاء من

(1) الفضل بن دلهم البصري، كان قصابا شاعرا معتزليا. ذكره في تهذيب التهذيب.
(2) في الأصل: " إجماع ".
(3) الآية 59 من سورة النساء.
115

ثلاثة أوجه، وإنما الحجة في المجئ الذي يمتنع فيه العمد والاتفاق.
وهذا الجنس من الخبر هو الاجماع.
وليس يكون الخبر إجماعا من قبل كثرة عدد الناقلين، ولا من قبل
عدالة المحدثين، وإنما هو العدد الذي نعلم أنهم لم يتلاقوا ولم يتراسلوا
ولا تتفق ألسنتهم على خبر موضوع، مع اختلاف عللهم وأسبابهم،
ثم يكون معلوما عند سامع ذلك الخبر من ذلك العدد، أنهم قد نقلوه
عن مثلهم في مثل أسبابهم وعللهم.
فإذا كان معلوما أن فرعه كأصله كان ذلك موجبا لليقين، ونافيا لعرو
الشك واسترابة التقليد.
وهو كنحو ما نقلوا من قصة الغار، وقصة مسطح.
فأما ما قالوا وادعوا أن الله عنى بقوله: " أطيعوا الله وأطيعوا
الرسول وأولي الأمر منكم " عليا وولده دون جميع المهاجرين. فليس
من شكل ما اشترطنا، ولا من فن ما بينا، لان أصحاب التأويل زعموا
أنها نزلت في عمال النبي صلى الله عليه وسلم وولاته، وفى المسلمين،
وفى أصحاب سراياه وأجنادهم كالعلاء بن الحضرمي وأبى موسى الأشعري،
وعتاب بن أسيد، وخالد بن الوليد، ومعاذ بن جبل، يأمر الناس بطاعة
الامراء والتسليم لولاة أمورهم.
حديث عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي قال: حدثنا
عبد الملك بن أبي سليمان قال: سألت أبا جعفر محمد بن علي عن تأويل
قول الله: " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم " فقلت:
من أولو الامر؟ فقال: هم أصحاب محمد. قلت: إنهم يزعمون أنه على.
فقال: على منهم.
116

وهذا من أثبت وأحسن ما يروون في تأويل هذه الآية، ومن
أحرى ما جمع الفريقين على تقبله (1) والرضا به، إذ قائله العالم
المقبول عند الفريقين، والرئيس الذي لا أحد فوقه في عصره عند الروافض.
وزعم محمد بن السائب الكلبي، عن أبي صالح (2) عن ابن عباس،
أن الله أنزلها في عبد الله بن حذافة السهمي (3).
فإذا كان تأويلها مشهورا بما ذكرنا من الاختلاف، فليس فيها
للمتشيع حجة.
وزعموا أيضا أن الله أنزل في علي: " يا أيها الذين آمنوا ادخلوا
في السلم كافة (4) " يقول: في طاعة على.
والكلام في هذا كالكلام فيما قبله. لان أصحاب الاخبار والتأويل
لا يعرفون ذلك.
والخبر المشهور عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس وغيره أن الله أنزلها
في ناس من مسلمي أهل الكتاب، كانوا بعد إسلامهم يقيمون السبت (5).
ويعافون الذبيحة، لرسوخ العادة، وغلبة الألف (6)، فأنزل الله فيهم:
" يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة " يقول: ادخلوا في جميع الشريعة،
" ولا تتبعوا خطوات الشيطان " وزينته لكم الحكم بألفكم له، ونشوكم كان فيه.

(1) في الأصل: " نفله ".
(2) هو أبو صالح باذام، أو باذان، مولى أم هانئ بنت أبي طالب، تهذيب التهذيب.
1: 416 / 9: 178.
(3) ورد في صحيح البخاري. الإصابة 4613.
(4) الآية 208 من سورة البقرة.
(5) في الأصل: " السيب " والمراد سنة اليهود في سبتهم.
(6) في الأصل: " وعليه الألف ".
117

وزعموا أن الله أنزل: " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا
الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون (1) ".
قيل لهم: أما ظاهر الكلام فيدل على ما قال أصحاب التأويل، كابن
عباس وغيره، حين زعموا أنها نزلت في عبد الله بن سلام (2)،
ورهط من مشركي أهل الكتاب، وذلك أنهم أتوا النبي صلى الله عليه
عند الظهر فقالوا: يا رسول الله، إن بيوتنا قاصية ولا نجد مسجدا
دون هذا المسجد، وإن قومنا لما صدقنا الله ورسوله عادونا وتركوا
مخالطتنا، وأقسموا ألا يكلمونا.
فبينما هم يشكون عداوة قومهم لهم إذ نزلت " إنما وليكم الله
ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم
راكعون " فلما قرأها النبي صلى الله عليه قالوا: رضينا بولاية الله
ورسوله والمؤمنين. وأذن بلال للصلاة (3)، فخرج النبي صلى الله عليه
وسلم إلى المسجد وهم معه، والناس من بين راكع وساجد، وقائم
وقاعد، فتلا النبي صلى الله عليه: " ومن يتول الله ورسوله والذين
آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون (4) " الآية. فإن تكن هذه الآية
كما قال ابن عباس ومجاهد، فليس لعلى فيها ذكر. وإن يكن الامر
ليس على ما قال ابن عباس فليس تأويل الرافضة بأقرب التأويل.

(1) الآية 55 من سورة المائدة.
(2) سلام، بتخفيف اللام. أسلم عبد الله قبل وفاة الرسول بعامين، وكان قبل من
أحبار يهود، توفى سنة 43. الإصابة 4716.
(3) في الأصل: " الصلاة ".
(4) هي الآية 56 من سورة المائدة.
118

وقد عرفنا أن تأويل ظاهر هذا الكلام يشبه غير الذي قالوا،
وليس لنا أن نجعله كما قالوا إلا بخبر عن النبي صلى الله عليه، أو بإجماع
من أصحاب التأويل على تفسيره، وذلك أن قوله: " إنما وليكم الله
ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون "
يدل على العدد الكبير وأنتم تزعمون أنه عنى عليا وحده، وليس
لاحد أن يجعل " الذين " لواحد إلا بخبر يجمع عليه، فإن لم يقدر
على ذلك فليس له أن يحول معنى الكلام عن ظاهر لفظه، والذي
عليه التعامل والتعارف. ولفظ الجميع معروف من لفظ المفرد. لان
الرافضة تزعم أن سائلا دخل المسجد فسأل الناس وعلى راكع، فلم
يعط شيئا، فنزع على خاتمه فأعطاه، فأنزل الله فيه: " إنما وليكم
الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم
راكعون ". وأنت إذا سمعت بتأويل ابن عباس وتأويلهم علمت أن
تأويلهم بعيد من لفظ التنزيل، قرب (1) تأويل ابن عباس منه.
ولو كان الامر كما قالوا ما كان أحد أعلم به من ابن عباس
ولا أشعر (2) به منه.
وأنتم تزعمون أن عليا كان أزهد من أن يحول عليه الحول وعنده مال
راهن يجب عليه فيه الزكاة.
ولو كان ذلك كذلك ما كان بلغ من قدر صنيع رجل في إعطاء درهم
ودرهمين من زكاته الواجبة ما إن يبلغ به إلى هذا القدر الذي ليس فوقه قدر،
أو يكون كان على مشهورا بإعطاء الزكاة وهو يصلى.

(1) في الأصل: " وقرب " (2) في الأصل: " أسعد.
119

ولو كان هذا هكذا لكان مشهورا مستفيضا. وكيف اتفق له ألا يزكى
إلا وهو يصلى؟!
وإن كان تطوع بإعطاء الخاتم على جهة الايثار والمواساة فليس بمعروف
في الكلام أن يكون الرجل إن تصدق بالدرهم والدرهمين متنفلا ومتطوعا
أنه معط زكاة، لان الزكاة عندنا ما وجب إخراجه وكان تطهيرا لسائر ماله،
وسببا للنماء والبقاء. إلا أن يحمل الكلام على الشاذ، وعلى أبعد المجاز.
وليس هكذا كلام الحكيم يريد أن يدل الأمة على إمامته، ويوجب
عليهم طاعته.
ولا بد في هذه الآية من أحد ضربين: إما أن يكون لفظها يدل على
ما قالوا دون ما قال غيرهم، وإما أن تكون قد نزلت في قصة مشهورة لعلى
كقصة الغار حين كانت لأبي بكر.
فإن لم تجدوا إلى واحد من هذين سبيلا فلم يبق إلا أن تزعموا أن
الرسول صلى الله عليه قال للناس: إن هذه في علي فاعرفوا له حقه
وفضيلته. ولو كان ذلك كذلك ما اختلف فيه أصحاب التأويل، ولا قال
فيه ابن عباس الذي قال.
قالت (العثمانية): قد زعمت الروافض أن الله أنزل هذه الآية في علي
فاعرفوا له حقه وفضيلته.
ولو كان ذلك كذلك ما اختلف فيه أصحاب التأويل، ولا قال فيه
ابن عباس الذي قال (1).
قالت (العثمانية): وقد زعمت الروافض أن الله أنزل فيه: " قل كفى

(1) كذا وردت هذه العبارة: ولعلها تكرار لما سبق.
120

بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب (1) ".
ولا يجوز أن يقول: " ومن عنده علم الكتاب " وهو يعنى عليا
إلا وعلى قد كان أشهر من هناك بعلم الكتاب.
وكيف يكون ذلك وقد توفى النبي صلى الله عليه وهو لم يجمع الكتاب
بعد؟! وقد زعم الشعبي أنه لم يجمعه إلى أن مات.
وكيف يكون من المشتهرين بعلم الكتاب وأنت إذا سألت أصحاب
الاخبار والتأويل عن أسماء أصحاب التأويل ذكروا ابن عباس ومن دون
ابن عباس بطبقات كالحسن البصري، ومجاهد، والضحاك، وعكرمة،
وفلان وفلان وفلان، ولا يذكرونه في هذا الصنف، كما لا يذكرون
فيه أبا بكر وعمر وعثمان، لانهم لم يكونوا بالمشتهرين بالتأويل وحفظ
القرآن ومعرفة معانيه، لان غير ذلك كان أغلب عليهم منه، وقد أخذوا
منه بنصيب. ولم يكونوا كمن تجرد لمعرفة التأويل حتى غلب عليه
كما غلب على زيد بن ثابت الفرائض، وكما غلب علم التأويل على ابن عباس،
وكما غلب كثرة الأسانيد وعدد الآثار على ابن عمر وجابر وعائشة، وكما
غلب على أبى وعلى عبد الله القراءات.
ولو كان للناس أن يقولوا في هذه الآية على الظن وما هو أشبه لكان
أولى الناس بها عبد الله بن عباس، لأنه كان أعلم الناس بالقرآن. ولو
لم يكن عرفنا فضله فيه بالذي ظهر منه، لعرفنا فضله وإن بطن وغاب
عن العيان لقول النبي صلى الله عليه فيه: " اللهم فقهه في الدين وعلمه
التأويل ". فكيف وقد ظهر من علمه بمعانيه وغريبه، وإعرابه وقصصه

(1) الآية 43 من سورة الرعد، وهى خاتمتها.
121

ومحكمه ومتشابهه، وخاصه وعامه، وناسخه ومنسوخه، ومكيه ومدنيه،
ما لم نجد عند أحد شطره ولا قريبا منه.
وقالت (العثمانية): إنه لا يعجز أحد أن يعمد إلى كل آية في
القرآن فيدعى أنها في أبى بكر وعمر كما ادعيتم ذلك في علي، وإنما الشفاء
والبيان في صحة الشهادة، وظهور الحجة.
وزعمت العثمانية أن من الدليل على فضيلة أبى بكر على على أن النبي
صلى الله عليه سماه " الصديق " دونه، وليس بعد اسم النبي اسم أنبه
من الصديق، حتى كان لا يقال قال أبو بكر وفعل أبو بكر إلا والصديق
متصل به، وحتى ربما قالوا قال الصديق وفعل الصديق، استغناء عن
اسمه وكنيته.
ولقد قال النبي صلى الله عليه: " الزبير حواري وابن عمتي، وطلحة
حواري " وقال: " عثمان ذو النورين " فلم يقل المسلمون: قال عثمان
ذو النورين، وقال الزبير الحوارى، وقال ذو النورين، استغناء عن
أسمائهما وكناهما.
فإن كان المسلمون أشاعوا اسم أبى بكر وتركوا أن يشيعوا اسم غير
أبى بكر، لفضل رأوه في أبى بكر، فهو الذي قلنا وادعينا. وإن كان ذلك
منهم لشئ رأوه في وجه رسول الله صلى الله عليه وفى صنيعه بأبي بكر،
فلا (1) شئ أدل على الفضيلة والمباينة منه.
ولم يسمه النبي صلى الله عليه عليا باسم ينسبه به، لان ذلك لو كان

(1) في الأصل: " ولا ".
122

لظهر كما ظهر اسم من ذكرنا. ولا سماه أحد من أصحاب رسول الله باسم
بان به كما سمى أصحاب رسول الله أبا بكر خليفة رسول الله.
ولابى بكر اسمان يدلان على الفضيلة والمباينة: أحدهما لم يسم به قط
إلا نبي أو من يتلوه، والآخر لم يسم به أحد من الناس.
فأما الاسم الذي لم يسم به إلا نبي فقوله " الصديق " بإجماع من
المسلمين على هذا الاسم أنه لأبي بكر دون غيره. وأما الاسم الذي لم
يسم به مؤمن قط، ولا بعده، فقول جميع الأمة: يا خليفة رسول الله.
فإن كان الذي نقل إلينا أنه [كان] يكتب في دهر النبي صلى الله عليه:
" من خليفة رسول الله " ويكتب إليه " إلى خليفة رسول الله " وكما
كان الحسن يحلف بالله أن النبي صلى الله [عليه] هو تولى استخلافه،
فلا منزلة أعظم منها قدرا، ولا أرفع منها شأنا.
وإن كان المسلمون أجمعوا له على ذلك لخاصة رأوها فيه، فكفى به
شرفا وقدرا، ومزية وذكرا.
وإن زعم قوم أن الأسماء التي ارتضاها الرسول صلى الله عليه وحبا
بها أصحابه لا تدل على فضيلة ولا على خاصة كرامة، وجسروا على أن
يقولوا إنه ليس في قول النبي صلى الله عليه لحمزة إنه أسد الله، وأسد
رسوله، فضيلة، وليس في قوله " الزبير حواري " فضيلة - فليس عندنا
في ذلك إلا مثل مالهم في صدور أهل القبلة من الاسقاط والإهانة.
فإن قالوا: إن اسم الصديق مولد موضوع محدث، أحدثته
العثمانية والحشوية (1).

(1) انظر لهذه الكلمة حواشي الحيوان 6: 62 وكذا دائرة المعارف الاسلامية
8: 429.
123

قيل لهم، فلعل قولهم: إن حمزة أسد الله، وأسد رسوله، وإن
جعفرا الطيار في الجنة، وإن الزبير حواري رسول الله، مولد موضوع
صنعته الشيعة، وأحدثه أتباع الزبير يوم الجمل، لا فرق بين ذلك.
وكيف يكون اسم الصديق مولدا محدثا، وأكثر من تكلم به
ليسوا بذوي نحلة فيتقدروا (1) له، ولا بذوي معرفة فيعرفوا فضله،
ولا ذوي قرابة فيطلبوا السبق به، مع الذي نجده في الاشعار الصحيحة
القديمة، وليس بين الاشعار والاخبار فرق إذا جاءت مجئ الحجج.
وإنما ذكرنا الاشعار مع الاخبار ليعرفوا ظهور أمره، ووجوه
دلائله وقهر أسبابه، وليكون آنس للقلوب، وأسكن للنفوس، وأقطع
لشغب الخصم، ولجحد (2) المنازع.
فمما جاء من الاشعار في ذلك قول شريح بن هانئ الحارثي (3)،
وكان معمرا وكان شيعيا، وهو يرتجز في بعض حروبه:
أصبحت ذا بث أقاسى الكبرا * قد عشت بين المشركين أعصرا (4)
ثمت أدركت الرسول المنذرا (5) * وبعده صديقه وعمرا

(1) فيتقدروا، مهملة في الأصل. والتقدر: التقدير، والتهيؤ.
(2) في الأصل: " ويجحد ".
(3) أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وبعثه على في التحكيم على أربعمائة رجل، وقتل
غازيا بسجستان مع عبد الله بن أبي بكرة في ولاية الحجاج بن يوسف سنة 79. وعاش مائة
وعشر سنين، أو عشرين ومائة سنة، الإصابة، وتهذيب التهذيب، والمعمرين للسجستاني
38 والطبري 7: 282.
(4) الإصابة: " وعشت ".
(5) الإصابة والمعمرين والطبري: " النبي المنذرا ".
124

ويوم مهران ويوم تسترا * وباجميراوات والمشقرا (1)
والجمع من صفينهم والنهرا (2) * هيهات ما أطول هذا عمرا
ألا ترى أن هذا شريح بن هانئ سمى أبا بكر صديقا على مالم
يزل يسمى به.
وقال العجاج بن رؤبة، وهو أعرابي ليس بذى نخلة ولا صاحب
خصومة، وقد أدرك الجاهلية:
عهد نبي ما عفا وما دثر * وعهد عثمان وعهدا من عمر (3)
وعهد صديق رأى برا فبر * وعهد إخوان هم كانوا الوزر
وقال الحارث بن هشام بن المغيرة، حين بلغه وهو بمكة أن الأنصار
قد كانوا اجتمعوا وقالوا لقريش في سقيفة بنى ساعدة: منا أمير ومنكم أمير:
* قبض النبي وبويع الصديق *
في قصيدة له طويلة، وهو التي يقول فيها:
* وأراد أمرا دونه العيوق *
وإنما أردنا منها المعنى.
وقال أبو محجن في ذلك:
سميت صديقا وكل مهاجر * سواك يسمى باسمه غير منكر

(1) باجميراوات، وهى باجميرى، وهو موضع دون تكريت، وسماه أبو النجم " الجميرات "
في قوله:
* بين الجميرات المباركات *
معجم ما استعجم 220. ولم يرد هذا البيت في المعمرين، وفى الإصابة: " وياحميرارات "
وفى الأصل هنا: " ويا حميرات " بإهمال الجيم والياء الثانية. وعند الطبري: " وباجميرات
مع المشقرا ".
(2) الطبري والإصابة والمعمرين: " في صفينهم ".
(3) هذا البيت متأخر عن تاليه في ديوانه 15.
125

وقال طريف بن عدي بن حاتم:
أبيدوا قريشا بالسيوف ليظهروا * معاهد دين الله بعد محمد
وصديقه التالي المعين بماله * طوى البطن محمود الضريبة مذود (1)
وأول من صلى وصاحب حبكه (2) * أصاخ لقول الصادق المتطرد
وبعد قتيل الهرمزان، وباركت * يد الله في ذاك الأديم المقدد (3)
أقاموا طغاة حائرين عن الهدى * وليس يقوم الدين إلا بمهتد
فلما تولوا طامن الحق جأشه * وثاب إليهم كل غاو مطرد
أما قوله: " وثاب إليهم كل غاو مطرد " فإن " الغاوي " مروان
ابن الحكم " والمطرد ": أراد أباه الحكم بن أبي العاص طريد رسول الله
صلى الله عليه.
وقال حسان بن ثابت في ذلك أيضا، وهو يهجو بعض الشعراء (4):
لو كنت من هاشم أو من بنى أسد * أو عبد شمس أو أصحاب اللوا الصيد
أو في الذؤابة من تيم وقعت بهم * أو من بنى جمح الخضر الجلاعيد (5)
أو من سرارة أقوام أولى حسب * لم تصبح اليوم نكسا مائل العود (6)

(1) في الأصل: " قوى البطن " تحريف. انظر الحماسة بشرح المرزوقي
1616 - 1617.
(2) حنكه. كذا وردت مهملة وبكاف مستطيلة " ك‍ ".
(3) قتيل الهرمزان، يعنى به عمر بن الخطاب، وكان الهرمزان متهما في قتل عمر، هو
وأبو لؤلؤة، وجفينة. انظر نسب قريش 355.
(4) هو مسافع بن عياض التيمي. الكامل 141 ليبسك وديوان حسان 133.
(5) الكامل والديوان: " رضيت بهم ". الجلعد والجلاعد: الصلب الشديد. في
الأصل: " الحلاحيد " صوابه في الديوان والكامل.
(6) هو من سرارتهم، أي صميمهم. النكس: الدنئ المقصر.
126

لولا الرسول وروح القدس يحفظه * وأمر ربك حتم غير مردود (1)
وأنني أحفظ الصديق مجتهدا * وطلحة بن عبيد الله ذا الجود
أتتكم خيلنا كاللوذ كالحة * تطوى السباسب بالشم المناجيد (2)
من كل خيفانة طال اللجام بها * وكل مختطف الاقراب كالسيد (3)
وقال طليحة الأسدي في ذلك:
ندمت على ما كان من قتل ثابت * وعكاشة الغنمي يا أم معبد (4)
وأعظم من هذين عندي مصيبة * رجوعي عن الاسلام رأى المقيد
وتركي بلادي والخطوب كثيرة * طريدا وقدما كنت غير مطرد
فهل يقبل الصديق أنى تائب * ومعط بما أحدثت من حدث يدي
وقال البارقي في ذلك أيضا:
بكر النعي بخير كندة كلها * بابن الأشج وخاله الصديق!
هؤلاء الذين ذكرنا: شريح بن هانئ، والعجاج بن رؤبة، والحارث
ابن هشام بن المغيرة، وطريف بن عدي بن حاتم، وحسان بن ثابت،
وطليحة الأسدي، ومن أشبههم، ليسوا بأصحاب خصومات ولا نظر
في الفاضل والمفضول.

(1) الكامل والديوان:
لولا الرسول فإني لست عاصيه * حتى يغيبني في الرمس ملحودى
(2) اللوذ: حضن الجبل وجانبه، في النسختين: " اللود ".
(3) مختطف، من الخطف، وهو الضمر وخفة لحم الجنب. وفى الأصل: " مختلف ".
ولا وجه له. والاقراب: جمع قرب بالضم، وهو الخاصرة. والسيد: الذائب، وهذا البيت
وسابقه لم يرويا في ديوان حسان.
(4) هو عكاشة بن محصن بن حرثان بن قيس بن مرة بن بكير بن غنم بن دودان بن أسد.
الإصابة 5626.
127

وإنما قدموه وسموه صديقا على ما لم يزل يسمى به. وهذا أكثر
من أن نأتى عليه في كتابنا ونستقصيه.
والعجب من الروافض حين ترى ما قال رشيد الهجري (1) والسيد
الحميري، ومنصور النمري حجة في أشعارها إذا كان ذلك القول في علي
بن أبي طالب. وإذا قال حسان بن ثابت، والعجاج، والحارث بن
هشام، وأشباههم ممن ذكرنا في القدم والقدر، في أبى بكر وعثمان وعمر
وتقديمهم، لم يكن حجة.
وفى قول عبد الله بن عباس لعائشة بعد الجمل في دار بنى خلف
الخزاعي حين أرسله علي بن أبي طالب إليها: " لم تقولين إنه ليس
في الأرض موضع أبغض إلى من موضع أنتم به. ونحن جعلنا أباك
صديقا وجعلناك أم المؤمنين " حجة في أن تسميته بالصديق قد كان
مستعملا في ذلك الدهر.
وإذا أحببت أن تعلم قدر هذا الاسم الذي سمى به النبي صلى الله عليه
أبا بكر فانظر في كتاب الله. قال الله جل ثناؤه " واذكر في الكتاب
إدريس إنه كان صديقا نبيا. ورفعناه مكانا عليا (2) " وقال: " واذكر
في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا (3) " فذكر
صديقيته (4) قبل أن يذكر نبوته.

(1) ذكره في لسان الميزان 2: 460 والأنساب 588، وكان ممن يؤمن بالرجعة.
وقد قطع زياد لسانه وصلبه على باب دار عمرو بن حريث.
(2) الآية 56، 57 من سورة مريم.
(3) الآية 54 من سورة مريم.
(4) في الأصل: " صديقه " وانظر الرياض النضرة 1: 21، 40.
128

وقال في كتابه: " ما المسيح بن مريم إلا رسول قد خلت من
قبله الرسول وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات
ثم انظر أنى يؤفكون (1) ".
ولكن انظر كيف نبين للروافض الحجج بالآيات والاجماع ثم انظر
أنى يؤفكون، أي يسخرون (2) بهذه الفضيلة له على على.
ثم الذي كان من تأمير النبي صلى الله عليه أبا بكر عليه حين ولاه
الموسم وبعثه أميرا على الحاج سنة تسع، وبعث عليا يقرأ على الناس
آيات من سورة براءة. وكان أبو بكر الامام وعلى المأموم، وكان أبو بكر
الدافع بالموسم، ولم يكن لعلى أن يندفع حتى يدفع أبو بكر، ولا يستطيع
خلق من الناس أن يزعم أن سنة تسع دفع بالناس غير أبو بكر،
ولا يستطيع أحد أن يزعم أن سنة تسع لم يبعث (3) النبي صلى الله عليه
بصدر سورة براءة مع علي بن أبي طالب ليقرأه على الناس إذا فرغ أبو بكر.
فإن قال قائل: ألا ترى أنه كان لعلي بن أبي طالب في ذلك الموقف
من الفضل ما ليس له لخصلتين: إحداهما أن النبي صلى الله عليه بعث معه
بصدر براءة، وقال: " لا يبلغ عنى إلا رجل منى ". والاخرى فرط
الاحتمال وشدة الخطار الذي احتمله على حين يقوم بالبراءة وقطع العهد
وقد وافى الموسم من قبائل العرب ومن الموتورين والناقمين والحنقين،
العدد الذي لا يحصى، والقوة التي لا تدفع، فشمر عن ساقيه وأبدى

(1) الآية 75 من سورة المائدة.
(2) كذا. وفسرت بمعنى يصرفون، ويصدون، ويخدعون.
(3) في الأصل، " لو يبعث ".
129

صفحته، ففي هاتين الخصلتين دليل على أن له في ذلك ما ليس لأبي بكر،
والمحنة عليه أشد.
قيل له: إن كان الشأن في شدة الخطار والتغرير والتعرض على
ما قلتم، فنصيب أبى بكر في ذلك أوفر، والامر عليه أخوف، وهو إليه
أسرع، لان أبا بكر كان هو الأمير والوالي والمتبوع، وعلى هو المؤتم
والرعية والسامع والمطيع. وبين التابع والمتبوع والآمر والمأمور فرق.
وأما قولكم: إن النبي صلى الله عليه قال حين بعث بصدر سورة
براءة مع علي بن أبي طالب: " إنه لا يبلغ عنى إلا رجل منى "
فإنما (1) قال هذا وليس بحضرته أبو بكر ليكون على قد قدم عليه،
لان النبي صلى الله عليه قد كان وجه أبا بكر قبل ذلك، ثم بعث عليا
بعده فلحقه في الطريق.
وقد زعم ناس من (العثمانية) أن النبي صلى الله عليه لم يقل ذلك
لعلى تفضيلا منه له على غيره في الدين، ولكن النبي صلى الله عليه
عامل العرب على مثل ما كان بعضهم يتعرفه من بعض، وكعادتهم
في عقد الحلف وحل العقد، فكان السيد منهم إذا عقد لقوم حلفا
أو عاهد عهدا لم يحل ذلك العقد غيره. أو رجل من رهطه دنيا كأخ
أو ابن، أو عم، أو ابن عم، فلذلك قال النبي صلى الله عليه ذلك القول.
ثم الذي كان من تفضيله عليه وعلى الناس جميعا أيام شكاته،
حيث أمره أن يؤم الناس ويقوم مقامه في صلاته وعلى منبره،
حتى أن عائشة وحفصة أرادتا صرف ذلك عنه لعلل سنذكرها في

(1) في الأصل: " وإنما ".
130

موضعها إن شاء الله، فقال النبي صلى الله عليه: " إليكن عنى
صواحب يوسف، أبى الله ورسوله إلا أن يصلى أبو بكر ".
ولم يستطع أحد من الناس أن يقول إنه صلى بالناس في تلك الأيام
غيره، ولا استطاع أحد أن يقول إن المأمور بالصلاة كان غيره.
حتى قالوا بأجمعهم: اختاره رسول الله لديننا فاخترناه لدنيانا. وحتى
قالوا: ولاه رسول الله صلاتنا، وزكاتنا تبع لصلاتنا وهما معظما
أمر الدين.
ولا يستطيع أحد أن يقول: إنه لما تقدم أبو بكر بالناس ليصلى
بهم والنبي صلى الله عليه مسجى قال له رجل واحد: وما لك تصلى بنا
على غير عهد ولا سبب. ولا قال رجل من خلفه مثل ذلك، ولا قال
رجل من الأنصار: منا مصل ومنكم مصل، كما قالوا: منا أمير
ومنكم أمير.
فإن كان الناس مع كثرة الخير والشر فيهم تركوا مجاراته ومدافعته
في قيامه في مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتبريزه، كان، عليهم عند
أنفسهم فكفى بذلك دليلا على الفضل، وحجة على الاستحقاق.
وإن كان رضاهم بذلك وتسليمهم (1)، للذي ثبت عندهم من أمر
رسول الله صلى الله عليه وتقديمه إياه، فليس لأحد في ذلك متكلم،
ولا لشاغب (2) فيه متعلق، ولا لواقف فيه عذر، والقوم جميع، ومصلاهم
واحد، وتقدمه ظاهر.

(1) في الأصل: " وتسليهم ".
(2) في الأصل: " ولا تساعب ".
131

ولم تكن صلاة واحدة فيكون خلسة (1). والقوم كانوا أشد تقديما
لذلك المقام من أن يدعوا رجلا لم يقهرهم بسيف، ولم يمتنع عليهم
بعشيرة، ولم يفض فيهم الأموال، وليس معه فضل بائن، ولا سبب من
من قرابة، ولا أمر من النبي صلى الله عليه.
فإن صاروا إلى الاعتلال بالأحاديث وذكر الآثار قالوا (1): إنما نحتاج
إلى المقابلة بين أفعال على وأفعال غيره، لو كنا لا نجد له غير الافعال.
فإذا كنا قد وجدنا له من غير الافعال ما هو أدل على الفضيلة من
الافعال، لم يكن لنا أن نتخطى الأفضل إلى الانقص في دفع المتغلب،
وإقامة المستحق عند ظهوره وزوال التقية فيه. لا أنهم (3) قابلوا بين
جميع المهاجرين في القرب والبعد، ولا أنهم صنعوا العلم بفضله بعد موت
النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنهم قوم قد كانوا من قبل ذلك بثلاث
وعشرين سنة يرى بعضهم بعضا ويعرف بعضهم أمر بعض، يغزون
معا ويقيمون معا، ويسمعون من النبي صلى الله عليه القول بعد القول،
ويرون أحوال الرجال عند النبي صلى الله عليه، وفى المسلمين وفى أنفسهم،
فعلموا بذلك فضل أبى بكر، فلما توفى النبي لم يحتاجوا مع علمهم الأول
إلى أن يضعوا علما ثانيا.
ولو أن رجلا منا شاهد النبي صلى الله عليه وأصحابه سنة واحدة
ما خفى عليه من المقدم عنده وعند المسلمين، ومن أشبههم به هديا

(1) في الأصل: " حلسه ".
(2) في الأصل: " وقالوا ".
(3) في الأصل: " ولأنهم ".
132

وعملا، وطريقة وعزما. فما ظنك بالسلف الطيب، والخيار المنتخبين،
وأس الاسلام ومرسى قواعده.
وذلك أن أبا بكر لا يخلو حيث أسلم أن يكون أسلم قبل الناس،
أو ثانيا، أو ثالثا. فإن كان إسلامه قبل الناس فقد تبين للثاني تقدمه،
وللثالث تقدمهما عليه. فإذا كانوا ثلاثة لم يخف عليهم أيهم أفضل.
ثم إن أسلم بعدهم نفر لم يخف أيضا قصة الثلاثة المتقدمين. وكلما
أسلم قوم لم يخف عليهم حال الأفضل بالذي يرون عند من أسلم قبلهم.
فكانوا كذلك ثلاثا وعشرين سنة.
فقد أيقنا أن القوم لم يؤتوا في تقديم أبى بكر من الجهل بموضع
الفضل، أطاعوا الله في إقامته أم عصوه. وكذلك لو كانوا قدموا غيره
ما كانوا إلا متعمدين. وذلك أن الافعال إنما تدل على ظاهر عدالة
الرجل وفضيلته، ولا تدل على باطن طهارته (1) وإخلاصه.
وقول الرسول صلى الله عليه في الرجل ومديحه له وإخباره عن
فضله ومنزلته، والوحي ينزل عليه صباح مساء، أدل على طهارته
وإخلاصه.
وإذا كان العبد كذلك كانت النفوس إليه أسكن، وكان من
التبذل (2) أبعد، مع السلامة من النفاق، والدخل في الاعتقاد، لان (3)
الغلط في خبر الرسول صلى الله عليه ونصه وتبيينه وإقراره للرجل (4)

(1) في الأصل: " طاهرته ".
(2) التبذل: ترك التصاون. في الأصل: " التبذيل ".
(3) في الأصل: " ولان ".
(4) في الأصل: " الرجل ".
133

بالفضيلة والاستحقاق، أقل من الغلط فيما بين أقدار الناس، من الموازنة
بين أفعالهم وعقولهم. وعلومهم وتجاربهم، وصلاح الناس عليهم، مع
كثرة عدد الافعال المتساوية والمتقاربة، ومع كثرة عدد المتساوين
والمتقاربين من الرجال.
فمما يدل على تفضيل النبي صلى الله عليه له قوله يوم غدير خم،
وهو قابض على يده وقد أشخصه قائما لمن بحضرته: " من كنت
مولاه فعلى مولاه. اللهم عاد من عاداه، ووال من والاه ". وقوله:
" أنت منى بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي من بعدي ".
وقوله " اللهم آتني بأحب الناس إليك يأكل معي من هذا الطير ".
ثلاثا، كل ذلك يحجبه أنس، طمعا أن يكون أنصاريا، فأبى الله
إلا أن يجعله الآكل، والآتي، والاحب.
ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه حين آخى بين أصحابه فقرن بين
الاشكال، وقرد (1) بين الأمثال، جعله أخا من بين جميع أمته وعلية
أصحابه.
قيل لهم: إن الاخبار لا بد فيها من التصادق كما لا بد في درك
العقول من التعارف، فإن في عدم التعارف في حجج العقول، والتصادق
في حجج السمع، عدم الانصاف، وبطلان الكلام.
وليس لكم أن ترفعوا خبرا له ضرب من الاسناد وتوجبون (2) تصديق
مثله. لان كل واحد من الخصمين لا يعجزه دفع المستفيض بلسانه،

(1) قرد: جمع. وفى الأصل: " فرد ".
(2) أي وأنتم توجبون.
134

فضلا عن دفع الشاذ وإن كان ناقله عدلا في ظاهره، فإذا كان ناقله
ذلك كذلك فأولى الأمور بكم وبهم الصدق، وليس كل من أراد
الصدق في مثل هذا قدر عليه إلا بالتقدم في كثرة السماع وانساع الرواية.
وليس لاحد، وإن حسن عقله وصح فكره، أن يقول فيما لا يضاف
علمه إلا من طريق الخبر حتى يكون صاحب خبر، وطالب أثر، فإذا
صح عقله وكثر سماعه، خفت (1) مؤونته على نفسه وعلى خصمه.
أو ما علمتم أن خصومكم وهم أكثر منكم عددا، وأكثر فقيها
ومحدثا، يروون أن النبي صلى الله عليه قال: " ليس أحد أمن علينا
بصحبته وذات يده من أبى بكر، ولو كنت متخذا من هذه الأمة خليلا
لاتخذت أبا بكر خليلا، لكن ودا وإخاء إيمان (2) ". فإن كان هذا
الحديث كما نقلوا لم يجز أن يكون النبي صلى الله عليه أخا أحد إلا أن
يكون الأخ غير الخليل، ولا نعلم الخليل إلا أخص منزلة وأقرب مودة.
مع أن قوله " ولكن " دليل على أنه قد كان أخاه.
وأعجب من هذا يروون أن النبي صلى الله عليه قال في شكاته وقبيل
وفاته " إنه لم يكن نبي قبلي فيموت حتى يتخذ من أمته خليلا، وإن
خليلي منكم ابن أبي قحافة (3) ".
ويروون أن النبي صلى الله عليه قال: " اقتدوا بالذين من بعدي:
أبى بكر وعمر ".

(1) في الأصل: " وخفت ".
(2) في الأصل: " وذا واخا اتيان " صوابه من الرياض النضرة 1: 85، وانظر فتح
الباري 7: 15.
(3) الرياض النضرة 1: 84.
135

وقد تعلمون أن إسناده عبد الملك (1)، عن ربعي (2) عن حذيفة (3)،
والآخر سلمة بن كهيل، عن أبي الزعراء (4)، عن عبد الله (5).
ويروون أن النبي صلى الله عليه، نظر إلى أبى بكر وعمر مقبلين.
فقال: " هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين، إلا
الأنبياء والمرسلين، يا علي لا تخبرهما ".
فزعموا جميعا أن عليا قال: ولو كانا حيين ما حدثتكم.
ويروون جميعا أن عليا قام في الناس خطيبا فقال: " ألا إن خير
هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، والثاني عمر، ولو شئت أن أخبركم
بالثالث فعلت " فكنى عن ذكر عثمان.
ويروون أن النبي صلى الله عليه لما أسس مسجد المدينة جاء بحجر
فوضعه، ثم جاء أبو بكر بحجر فوضعه، ثم جاء عمر بحجر فوضعه،
ثم جاء عثمان بحجر فوضعه، فسئل النبي صلى الله عليه عن ذلك فقال:
" هم الامر الخلافة (6) من بعدي ".
وقالوا: لما قدم المدينة رسول الله صلى الله عليه خط لأهل قباء مسجدهم
بعنزة (7) فوضع النبي صلى الله عليه حجرا، ثم قال: يا أبا بكر ضع

(1) في الأصل: " عند الملل ". وهو عبد الملك بن عمير بن سويد بن حارثة القرشي
الكوفي. المتوفى سنة 136. تهذيب التهذيب.
(2) ربعي بن حراش الكوفي. المتوفى سنة 104. تهذيب التهذيب.
(3) حذيفة بن اليمان، الصحابي الجليل، وكان صاحب سر رسول الله. توفى سنة 36.
الإصابة وتهذيب التهذيب.
(4) هو خال سلمة بن كهيل، واسمه عبد الله بن هانئ الكندي الكوفي، وهو
أبو الزعراء الكبير، كان من كبار التابعين، تهذيب التهذيب.
(5) عبد الله بن مسعود.
(6) كذا في الأصل.
(7) العنزة، بالتحريك: عصا في قدر نصف الرمح في طرفها الأسفل زج كزج الرمح.
136

حجرا إلى جنب حجري ثم قال: يا عثمان خذ حجرا فضعه إلى جنب عمر.
ثم التفت إلى سائر الناس فقال: وضع رجل حجره حيث أحب.
ويروون أن النبي صلى الله عليه قال يوم الحديبية: " مثل أبى بكر
في الملائكة مثل ميكائيل ينزل بالرحمة، ومثله في الأنبياء مثل إبراهيم،
ومثل عمر في الملائكة مثل جبريل ينزل بالسخط، وفى الأنبياء مثل
موسى " والحديث طويل ولكني اختصرته.
ويروى أن النبي صلى الله عليه وضع في كفة الميزان والأمة
في الكفة الأخرى، فرجح بهم. ثم أحرج النبي صلى الله عليه ووضع
أبو بكر مكانه فرجح بالأمة، ثم أخرج أبو بكر ووضع عمر مكانه فرجح
بالأمة، ثم أخرج فرفع الميزان (1).
وقالوا: إن النبي صلى الله عليه قال: " أيها الناس، إن الله
بعثني إليكم جميعا فقلتم: كذبت، وقال لي صاحبي: صدقت، فهل
أنتم تاركي وصاحبي؟ ".
ومما يؤكد هذا قول النبي صلى الله عليه: " ما دعوت أحدا إلى
الاسلام إلا وقد كان له تردد وكبوة، إلا ما كان من أبى بكر فإنه
لم يتلعثم ".
وقالوا: إن النبي صلى الله عليه قال: " إن أبا بكر لم يسؤني
قط، فاعرفوا ذلك له " في كلام طويل.
فإن كان ما رويتم في فضيلة على حقا، وما رووا في فضيلة أبى بكر
حقا، فأبو بكر خير من على، وعلى خير من أبى بكر. وهذا هو

(1) انظر الرياض النضرة 1: 37.
137

التناقض، والحق لا يتناقض. وفى هذا دليل أن النبي صلى الله عليه وسلم
لم يتكلم بذلك ولا قاله، لان الخبر إذا خرج مخرج العام في تفضيل
أبى بكر، وكذلك في تفضيل على، فليس له وجه إلا ما قلنا، إلا أن
يكون النبي صلى الله عليه قد قال أحد القولين وصحت به الشهادة، ولم
يقل الآخر وإنما ولدته الرجال، وصنعته حملة السير. ولا سبيل لنا إلى
معرفة ذلك إذا كان الاسناد متساويا، وعند الرجال متقاربا. وليس في هذه
الأحاديث كلها حديث يضطر خصمه إلى معرفة صحته، أو يكون النبي صلى
الله عليه قد تكلم بكثير من هاتين الروايتين وكان معناه وقصده فيها معروفا
عند من كان بحضرته، حتى كان الجميع يعرفون خاصه من عامه. ولكن
الناقلين احتملوها عن السلف مجردة (1) بغير تأويل معانيها، فأدوها على
اللفظ العام، فصار السامع يتناقض عنده إذا قابل بعضها ببعض، لجهله
بأصول مخارجها، وكيف كان موقعها.
والذي فسرت لك مثل تعرف به سمت الحجة. وقصد السبيل.
وهو كما نقلوا أن النبي صلى الله عليه قال: " ما أقلت الغبراء ولا
أظلت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر " ولم يكن بالنبي
صلى الله عليه إلى استثناء نفسه حاجة، لمعرفته باستغناء الناس
عن ذلك.
وقد عرفنا بوجه آخر أن حديث أبي ذر كان مخرجه مخرج العام
وأنه خاص وإن لم تكن خصوصيته موجودة في لفظ الحديث، لأنك
إذا سألت الشيع فقلت: أي الرجلين كان أصدق عند النبي صلى الله عليه:

(1) في الأصل: " مجرد ".
138

أبو ذر أو على؟ قالوا بأجمعهم: على. وإنما ترك (1) النبي صلى الله عليه
لعلمه بمعرفة المسلم بذلك من رأيه.
وكذلك لو سألت العثمانية فقلت: أي الرجلين كان أصدق عند النبي
صلى الله عليه: أبو بكر أو أبو ذر؟ قالوا: أبو بكر، كقول الشيع
في علي.
فقد أجمع الصنفان جميعا أن غير أبي ذر أصدق من أبي ذر.
ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه: " منا خير فارس في العرب ".
قالوا: من هو؟ قال: عكاشة بن محصن.
وليس بين الأمة تنازع أن زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب الطيار،
والزبير، خير من عكاشة.
ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه: " يأتيكم خير ذي يمن،
[عليه (2)] مسحة ملك ". فأتاهم جرير بن عبد الله.
فلو كان هذ اللفظ العام عاما في معناه، ولم يكن النبي صلى الله عليه
اتكل فيه على معرفة القوم، فترك لذلك الاستثناء والتفسير، لكان
واجبا أن يكون جرير خيرا من سعد بن معاذ، ومن حمى الدبر (3)،

(1) في الأصل: " نزل ".
(2) انظر اللسان (مسح 434).
(3) هو عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح الأنصاري، وكان قد قتل مسافعا والجلاس ابني
طلحة، من عظماء المشركين، يوم أحد ثم قتل، فأرسلت قريش ليؤتوا بشئ من جسده،
فبعث الله عليه مثل الظلة من الدبر، فحمته منهم فارتدعوا عنه حتى أخذه المسلمون فدفنوه.
الإصابة 4348 والسيرة 610، 639 واللسان (دبر). والدبر، بفتح الدال
وكسرها: النحل.
139

ومن غسيل الملائكة (1)، ومكلم الذئب (2). وهذا مالا يقوله مسلم.
ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه لأبي سفيان بن الحارث (3): " أبو سفيان
خير أهلي " وقد علمنا أن حمزة والعباس وعليا وجعفرا خير من
أبي سفيان.
ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه: " خير أهل الله عمر بن الخطاب "
وقد أجمع المسلمون أن غيره خير منه، لان الناس إما عمري وإما علوي،
فالعلوي يقدم عليا، والعمرى يقدم أبا بكر.
والجملة أنه لم يقل أحد قط: إن عمر خير الناس. فهذا باب قد
فرغت [منه]، تعرف به أن النبي صلى الله عليه قد يتكلم بالكلام
المعروف المعنى عند من حضره، فإذا نقلوا الكلام وتركوا المعنى التبس
على العابرين (4) وجه المعنى فيه.
فمن ذلك ما يعرف، كالذي حكينا من حديث أبي ذر، وعكاشة
ابن محصن، وجرير، ومنه ما يجهل كحديث على، وأبى بكر.
وقد نقلوا عن النبي صلى الله عليه في رجال كلاما وتفضيلا ما نقل
مثله في أبى بكر وعلى، اللذين فيهما التنازع.

(1) هو حنظلة بن أبي عامر بن صيفي الأنصاري، وكان أبوه في الجاهلية يعرف بالراهب
وكان حنظلة استأذن رسول الله في قتل أبيه فنهاه عن ذلك، وفيه قال صلى الله عليه وسلم
بعدما قتله شداد بن شعوب: " إن صاحبكم تغسله الملائكة ". الإصابة 1859.
(2) هو أهبان بن أوس أو ابن الأكوع، أحد الصحابة، زعموا أن الذئب كلمه وبشره
بالرسول. انظر حواشي الحيوان 3: 513.
(3) أبو سفيان، اسمه المغيرة، وقيل اسمه كنيته، وهو أخو الرسول من الرضاع، وأبوه
الحارث بن عبد المطلب عم رسول الله. الإصابة 535 باب الكنى.
(4) العابر: المفسر.
140

من ذلك أنهم نقلوا عن النبي صلى الله عليه أنه قال: " كم من
ذي طمرين (1) لا يؤبه له لو أقسم على الله لابره، منهم البراء بن مالك ".
وهذا كلام عظيم إن كان حقا، وليس عندنا فيه إلا أن نرده إلى
الله ورسوله.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في رجال كلاما لو كان قاله في أبى بكر
وعلى لكان أصحابهما سيجعلونه في أول ما يحتجون به في الإمامة والتفضيل
مثل قول النبي صلى الله عليه: " رضيت لامتى ما رضى لها ابن أم عبد،
وكرهت لها ما كره (2) ".
ومن ذلك قوله: " لكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة ".
وقوله في طلحة يوم أحد، حين واتاه السهم فوقى النبي صلى الله عليه
فقال، حين أصابه السهم: حس (3)! فقال النبي صلى الله عليه:
" لو قال باسم الله لرفعته الملائكة ".
ومن ذلك دخول عثمان عليه وهو مكشوف الفخذ، فغطاها،
فقيل له: يا رسول الله، لم تغطها من أبى بكر وعمر وغطيتها عند
دخول عثمان. فقال: " كيف لا أستحي ممن تستحى منه الملائكة ".
وقال: " اهتز العرش لموت سعد بن معاذ (4) ".

(1) الطمر: الثوب الخلق. يقول: رب ذي ثوبين خلقين أطاع الله حتى لو سأل الله
تعالى أجابه. ويروى: " رب أشعث أغبر لا يؤبه له ".
(2) انظر ما سبق في ص 86.
(3) حس: كلمة تقال عند الوجع.
(4) وفيه يقول حسان " الكامل 778 ":
وما اهتز عرش الله من موت هالك * سمعنا به إلا لسعد أبى عمرو
141

فهذا أيضا باب يعرف به أن الرجل ليس يستحق التقديم بالرواية
والحديث، إذ كان هؤلاء دون أبى بكر وعلى في الفضل، وقد جاء
فيهم مالم يجئ فيهما.
ولقد رووا في رجل لم يهاجر، ولم يصحب، ولم يشهد المشاهد،
ولم ينفق، ولم يتعرض، ولم يدع إلى الله ورسوله، إلا أنهم زعموا
أنه كان يطلب الحنيفية قبل مبعث النبي صلى الله عليه، وهو زيد بن عمرو
ابن نفيل، فزعموا أن النبي قال: " يبعث يوم القيامة أمة وحده ".
وأي شئ أدل على كل فضيلة من قول النبي صلى الله عليه
لعمار: " لا تؤذوا عمارا فإنما عمار جلدة ما بين عيني ".
ما أعطت الرافضة الطاعة أبدا، ولا رضوا من الناس بالأنصاف!
وقد علمنا أن حمزة وجعفرا وعليا، كانوا أفضل من سعد بن معاذ.
ولم يهتز لموتهم عرش الرحمن، وقتلوا شهداء، ولم تحم لحومهم
الدبر، ولا غسلتها الملائكة (1).
فالله أعلم بمعانى هذه الأحاديث. ولعل النبي صلى الله عليه قال في كل
رجل قولا عدلا. وكان ذلك قولا معروفا مفهوما عند الحاضر، ولكنه
أدى اللفظ وترك المعنى (2).
فإذا كانت الأحاديث في أسلافنا وأئمتنا على ما حكيت لك لا تمنع من
معرفة وتدافع ما وصل إلينا منه، كان واجبا أن يكون المفزع في أمرهم
إلى الخبر الذي يجئ مجئ الحجة، وترك ما سوى ذلك مما لا يبرئ من

(1) انظر ما سبق في ص 139 - 140.
(2) في الأصل: " أدنى اللفظ وبترك المعنى " وانظر ما سبق في ص 140 س 10.
142

سقم ولا يبرد من حيرة. وإنما الخبر الصحيح الذي لا يعتمد (1) بضعف
الاسناد، ولا يترك لضعف الأصل، ولا يوقف فيه لكثرة المعارض
والمناوئ (2)، كنحو ما روينا من مآثرهم في مقاماتهم ومشاهدهم، وكصنيع
على ومؤازرته ببدر، وككون أبى بكر في العريش. وهذا مالا يتدافع
ولا يتناقض، لان قتل على الاقران ببدر ليس بناقض لكون أبى بكر
في العريش، ولان موقف على بأحد لا يدفع كون أبى بكر في الغار،
ولان صنيع على بخيبر لا يدفع إنفاق أبى بكر الأموال، وعتقه الرقاب.
فهذا وما أشبهه مما لا تجد له رادا ودافعا، وليس هذا من شكل
ما قالوا: أن النبي صلى الله عليه قال: " اقتدوا بالذين من بعدي
بأبي بكر وعمر " ونقلهم أن النبي صلى الله عليه قال لعلي: " أنت منى
بمنزلة هارون من موسى ". وكما نقلوا أن النبي صلى الله عليه آخى
بين نفسه وبين على، وأن النبي قال: " لو كنت متخذا خليلا
لاتخذت أبا بكر خليلا " في أشباه لهذا قد حكيت لك في صدر
الكتاب، لتعرف مجرى الكلام في السلف.
فإن قالوا: فلعل النبي قال: " اقتدوا بالذين من بعدي " وقد كان
معلوما في [ذلك] الوقت أن عليا كان مستثنى في هذا القول.
قيل لهم: ولعله قال: " من كنت مولاه فعلى مولاه " [و] قد كان
معلوما في ذلك الوقت أن أبا بكر كان مستثنى.

(1) كذا في الأصل.
(2) في الأصل: " المساوى ".
143

فإن قالوا: الفرق في ذلك أنكم لا تنكرون روايتنا في علي،
ونحن ننكر روايتكم في أبى بكر.
قيل لهم: إن العجز كل العجز أن تعيد على خصمك بشئ
لا يعجزه. فإن أبوا إلا جحد الاخبار وتكذيب الآثار والايجاب على
الناس ما لا يوجبون لهم مثله فإن الذين نقلوا أن النبي صلى الله عليه
قال: " من كنت مولاه فعلى مولاه " لم ينقلوا معه في الحديث:
" اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه ".
وإنما سمعنا هذه الزيادة من الشيع، ولم نجد له أصلا
في الحديث المحمول.
روى الأعمش - وكان رافضيا - عن سعد بن عبيدة، عن ابن بريدة (1)
عن أبيه قال: بعث النبي صلى الله عليه عليا في سرية واستعمله عليهم.
فلما جاء قال: كيف رأيتم صاحبكم؟ قال: فإما شكوته وإما شكاه
غيري، وكنت رجلا مكبابا (2)، فرفعت رأسي فإذا النبي صلى الله عليه
قد احمر وجهه وهو يقول: " من كنت وليه فعلى وليه (3) ".
فواحدة أن الذي روى هذا الأعمش، وهو ظنين في علي مضعف
عند أهل الحجاز. وسعد بن عبيدة ليس هناك.
وثانية (4) أنه لم يقل من كنت مولاه، وقال: " من كنت وليه "

(1) هو عبد الله بن بريدة بن الحصيب الأسلمي، تهذيب التهذيب.
(2) في اللسان: الرجل مكب ومكباب: كثير النظر إلى الأرض.
(3) في الأصل: " مولاه فعلى مولاه " ثم كتب تحت " مولاه: " وليه " في
الموضعين، وهو ما يتطلبه الكلام فيما بعد.
(4) في الأصل: " وثالثة ".
144

فإذا اختلفت الألفاظ دل ذلك على الوهن. ولم يقل: " اللهم عاد من
عاداه ووال من والاه ". ونحن نشهد أن من كان النبي صلى الله عليه
وليه فسعد بن معاذ وليه. وعلى أنهم قد رووا في شكاية أقوام (1)
في تلك الغزاة لعلى كلاما قبيحا.
ووجه آخر مما يدل في هذا الحديث على الاختلاف والوهن: أنهم
نقلوا أن هذا القول في علي كان أن عليا جارى زيد بن حارثة (2)
في بعض الامر، ولاحاه فيه، لأنه أغلظ له (3) فرد عليه زيد مثل
مقالته، فقال له على: تقول هذا القول لمولاك؟! فقال زيد: إنما
ولائي لرسول الله صلى الله عليه، ولست لي بمولى. فأتى على النبي
صلى الله عليه، فشكا إليه زيدا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
من كنت مولاه فعلى مولاه ". وصدق النبي صلى الله عليه أن عليا
مولى زيد، إذ كان النبي صلى الله عليه مولاه، وكذلك العباس والفضل،
وعبد الله، وقثم، وتمام، ومعبد.
وإذا كانوا هؤلاء موالى زيد لان النبي صلى الله عليه مولاه، فلعلم
النبي صلى الله عليه من ذلك ما ليس لهم جميعا (4) فإنما أراد النبي صلى الله
عليه أن يعلم زيدا غلطه في ذلك القول، حين ظن أن ابن عم النبي
صلى الله عليه ليس مولاه.
فإذا كان أمر على وزيد مشهورا عند أصحاب الآثار، فإنما عنى

(1) في الأصل: " أقوم ".
(2) في الأصل: " زيد ثم حاربه " وهو من عجيب التحريف.
(3) في الأصل: " غلط له ".
(4) في الأصل: " ما ليس لهم بهم جميعا ".
145

مولى النعمة، وليس في هذا إخبار عن فضل على في الدين.
ولو كان النبي صلى الله عليه قال كما زعمت الروافض: " اللهم عاد
من عاداه ووال من والاه " كان هذا القول يدل على أن زيدا قد أتى
جرما عظيما، فلم (1) يكن ليتخطى دعاء النبي صلى الله عليه على من عادى
عليا إلى غيره إلا بعد وقوعه به. لان زيدا هو المشتكى، ومن أجل
صنيعه خرج النبي صلى الله عليه إلى مثل هذا القول الشديد، وهذا الدعاء
القاصم، ومن قوله ومذهبه غضب عليه، وعليه نص وإياه عنى.
وإنما يقول هذا ويجوزه من لا علم له بقدر زيد عند النبي صلى الله
عليه. أو ما علمت أن زيدا أحد من روى الناس عنه ونقلوا أنه كان
أقدم الناس إسلاما. وقد دللنا على فضيلة إسلامه على إسلام على
في صدر كتابنا. في كلام العثمانية (2).
وقد بلغ من قدره عند النبي صلى الله عليه وتفضيله إياه أنه لم يكن
في سرية قط إلا كان أميرها، ولا أقام ببلاد إلا وهو أميرها.
ويدلك على ذلك أن النبي صلى الله عليه أمره على جعفر الطيار،
وعقد له يوم مؤنة، ثم عقد لابنه أسامة على كبار المهاجرين والأنصار،
منهم عمر بن الخطاب، وسعيد بن زيد، وأبو عبيدة بن الجراح، وسعد
ابن أبي وقاص. حتى قال رجال من المهاجرين - وكان أشدهم في ذلك
عياش بن أبي ربيعة (3) -: يولى علينا هذا الغلام! فغضب عمر ورد

(1) في الأصل: " ولم "
(2) انظر ما سبق في ص 22 - 24.
(3) في الأصل: " عباس بن أبي ربيعة: " تحريف. الإصابة 6118 وإمتاع الاسماع
537 وفتح الباري 7: 69 / 8: 115 - 116.
146

عليهم، ثم أتى النبي صلى الله عليه فقال: ألا أعجبك يا رسول الله
من رجال يقولون كذا وكذا؟ فمشى النبي صلى الله عليه إلى المنبر
في شكاته التي توفى فيها فقال:
ما مقالة بلغتني عن بعضكم في أسامة وتأميره؟! ولئن طعنتم في إمارته
لقد طعنتم في إمارة أبيه. وأيم الله إن كان لخليقا للامارة، وإن ابنه
لخليق لها، وإن كان لمن أحب الناس إلى، وابنه لمن أحب
الناس إلى.
فهو الحب وأبو الحب، وهكذا يقال بالمدينة: أسامة الحب.
ولذلك قال عمر لابنه عبد الله حين زاد في فريضة أسامة على فريضته،
فقال له عبد الله: لم فضلته على ونحن سيان؟ فقال عمر: إن أباه
كان أحب إلى النبي صلى الله عليه من أبيك، وكان هو أحب إلى النبي
صلى الله عليه منك.
وقالت عائشة عند وفاة النبي صلى الله عليه: لو كان زيد حيا
لاستخلفه النبي صلى الله عليه عليكم.
هذا وأبوها الخليفة والمجعول إليه الإمامة.
ومما يدلك على فضيلة أبى بكر ومكانته وخاصته من النبي صلى الله
عليه وسلم وعظم شأنه عنده، أن النبي صلى الله عليه [لما] آخى بين المهاجرين
والأنصار آخى بينه وبين حمزة، وإليه أوصى حمزة يوم أحد. وقد
تعلمون أن حمزة استشهد وهو أجل الناس في صدور المؤمنين، وأعظم
في أنفس المهاجرين. وإن امرأ يكون كفئا لحمزة في الاخاء، وحمزة على
ما وصفنا، لعظيم الشأن، رفيع المكان.
147

ولو لم يعرف من قدره إلا أن ذكره الله باسمه في كتابه، كما ذكر
لقمان، ولم يفعل هذا لغيره من هذه الأمة، لقد كان ذلك دليلا على المنزلة
والقربة، فكيف يجوز أن يكون في الحديث: " اللهم عاد من عاداه
ووال من والاه " وحال زيد وصفته على ما ذكرنا وفسرنا؟! مع أن
اللفظ في الحديث لو كان: اللهم عاد من عاداه ووال من والاه، لم يكن
فيه دلالة تضطر إلى إمامته، وحجة تقهر العقول وتحملها على معرفة
خاصته، ولكنه لفظ يدل على الفضل والقدر، وليس بالتفضيل الذي لا بعده،
والتقديم الذي لا فوقه.
وإنما الكلام الذي لا بعده قول النبي صلى الله عليه: " ما أحد أمن
علينا بصحبته من أبى بكر " وقوله: " لو كنت متخذا خليلا لاتخذت
أبا بكر خليلا " وقوله: " أبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة
من الأولين والآخرين، إلا النبيين والمرسلين ".
فإذا كان هذا الحديث مختلفا في أصله وفى صحة مخرجه، ومختلفا في
تأويله وفرعه، والحجة في أصله متدافعة، والحجة في فرعه متكافئة،
فكيف يكون جحد على إمامته واستحقاقه وفضيلته على نظرائه.
ولو كان هذا الحديث مجتمعا على أصله وصحة مخرجه، ثم كان لفظه
محتملا لضروب التأويل، ما كان للروافض فيه حجة تقطع الخصم،
وتظهر المباينة.
ولو كان هذا الحديث مجتمعا على أصله وصحة مخرجه وكان لا يحتمل
من التأويل إلا معنى واحدا ما اختلفت في تأويله العلماء، ولا اضطربت
فيه الفقهاء، ولكان ذلك ظاهرا لكل من صح لبه، وحسن بيانه،
148

ولا سيما إذا كان الحديث ليس مفصحا عن نفسه، ومعربا عن تأويله، إلا
عن قصد الرسول وإرادته لان يكفيهم مؤونة الرواية والأسباب المشككة
فينبغي على هذا القياس أن يكون علماء العثمانية وفقهاء المرجئة تعرف من
ذلك ما تعرف الروافض، ولكنها تجحد ما تعرف، وتنكر ما تعلم.
ولو كان هذا الحديث مجتمعا على أصله ولكنه غامض التأويل،
وعويص المعنى، لا يكاد يدركه إلا الراسخ في العلم، البارع في حسن
الاستخراج، كان العذر في جهل إمامته وفضيلته على غيره واسعا مبسوطا
لأكثر المسلمين، وجل الناقلين، ولكبراء المتكلمين.
وإنما صارت الروافض إلى إكفار الأنصار والمهاجرين، بزعمهم (1)
أن النبي صلى الله عليه نص على إمامته، ودل على فضيلته، فإنه لابد
للناس في كل عصر من إمام من ولده، لان ذلك الموضع إذا كان مقنعا
ومعلما كان أخف على الناس في المحنة، وأبعد من الخطأ والزلل، ولان
اختيار الله لهم لأنفسهم، لأنه لو كان ذلك لا يكون إلا بالنظر دون النص
لم يصلوا إلى إقامته، لكثرة عدد الناس، ولكثرة عدد الفضل، ولما
في ذلك من الاشكال عند الموازنة، والشغل عن العدو.
فإذا كان السبب في الإمامة (2) هو الذي قالوا: فلابد من حديث
لا يحتمل التأويل، ولا يمنع من معرفة صحة أصله وصدق مخرجه.
فإن قالوا: فإنا سنأتيكم بمثل اللفظ الذي أتيتمونا به حتى لا يكون
لفظ أدل على الغاية منه. من ذلك قول النبي صلى الله عليه عند طائر (3)

(1) في الأصل: " وهو ". (2)
في الأصل: " وزعمهم ".
(3) انظر ما سبق في ص 134 س 9 - 10.
149

أتى به فأراد أكله فأحب أن يشركه في أكله أحب الناس إلى الله
فقال: " اللهم آتني بأحب عبادك إليك يأكل معي هذا الطائر "
ثم قال لأنس: اخرج فانظر من ترى بالباب؟ فخرج فوجد عليا فلم
يأذن له، ولم يعلم النبي صلى الله عليه مكانه طمعا أن يكون أنصاريا.
ففعل النبي صلى الله عليه ذلك ثلاثا، كل ذلك يحجبه أنس، ثم أدخله،
فلما طلع قال: " اللهم وال (1) ".
قيل لهم: أما واحدة فإن هذا الحديث ساقط عند أهل الحديث،
ولو كان صحيحا عندهم فلم يجئ إلا من قبل أنس فقط، وأنس وحده
ليس بحجة، فلم (2) يكن في ذلك مقال ولا متكلم.
وثانية: إن أولى الناس ألا يحتج بخبر أنس لأنتم معشر الشيع،
لان أنسا عندكم كافر كذاب.
ولقد بلغ من سوء قولكم فيه أنكم زعمتم أنه كذب على على،
كذبه وبهته بأمر، فدعا الله عليه ثم بصق في وجهه فبرص من قرنه
إلى قدمه. وأنتم تكفرونه بعلمه للحجاج، وتزعمون أنه ليس في الأرض
أكفر بالله ولا أجحد لامامة على ولا أنقض لامره، ولا أقتل لشيعته
من الحجاج ولا من ولاه، وأن من ولى لهما في طريقهما وحكمهما.
وأخرى أنه إن كان هذا الحديث كما تقولون وقد صدقتم على أنس،
فقد زعم أنس بزعمكم أنه كذب النبي صلى الله عليه في موقف واحد
ثلاث مرات. وقد أمسك النبي صلى الله عليه عن الطعام وهو يشتهيه،

(1) كذا ورد الحديث مبتورا في الأصل.
(2) في الأصل: " لم ".
150

فأحب لشهوته له أن يشركه فيه أشبه الناس به فدعا ربه، وأنه
إذ دعا ربه ثلاث مرار كل ذلك يستجيب له، وكل ذلك يراه أنس
ويكذب له ويصده عن حاجته، ويمنعه سرعة الاستجابة، وتعجيل
قضاء الحاجة، وتسويغه أكل المشتهى من طعامه. كلما دعا دعوة قال
اخرج يا أنس فانظر من بالباب، ثقة منه بربه، واتكالا على الذي
عنده له، ويرجع وقد كتمه وحجبه عنه، ومنعه سرور تعجيل الدعاء،
وأكل شهى الغذاء.
فإن كان أنس كما تقولون فقد ركب أمرا عظيما، وذهب مذهبا قبيحا.
وكيف يصدق على النبي صلى الله عليه من خلقه بهذا (1) وكذبه في وجهه
ثم لا تمنعه الأولى من الثانية، والثانية من الثالثة. هذا والوحي ينزل
بأسرع من الطرف بلعن قوم ومدح آخرين.
وإن امرأ احتملت نفسه وشاع في طبعه أن يواجه النبي صلى الله عليه
بالكذب ثلاث مرات في أحب الناس وأوجبهم حقا عليه، لحري ألا يصدق
عليه في معظم أمر الدين، مع أن الحديث نفسه هو أضعف حديث عند
أصحاب الأثر من (2) أن يحوجنا إلى الاطناب فيه، والاخبار عنه.
ومتى ادعينا ضعف حديث وفساده فاتهمتم رأينا، وخفتم ميلنا
أو غلطنا فاعترضوا حمال الحديث وأصحاب الأثر، فإن عندهم الشفاء فيما
تنازعنا فيه، والعلم بما التبس علينا منه.

(1) كذا في الأصل: " ولعله وجه.
(2) كذا ورد الأسلوب، وفيه استعمال " من التفضيلية " مع أفعل التفضيل المضاف،
كقول قيس بن الخطيم:
نحن بغرس الودي أعلمنا * منا بركض الجياد في السدف
151

ولقد أنصف كل الانصاف من دعاكم إلى المقنع مع قرب داره
وقلة جوره وأصحاب الأثر من شأنهم رواية كل ما صح عندهم. عليهم
كان أولهم، مع أن هذا الامر ليس يعرف من قبل الحديث، وإنما
يعرف من الوجه الذي به يقضى على جميع الدين.
وإنما احتججنا عليكم في أنس بالذي سمعتم، لأنا وجدناكم تكفرونه
حتى إذا جرى سبب يؤكد ما تقولون جعلتم كفره إيمانا، وكذبه
تصديقا، وعداوته ولاية. ثم لم ترضوا بأن ألحقتموه بالأولياء وأخرجتموه
من حدود الأعداء، حتى أقمتم خبره وحده مقام خبر من يكذب
آيا (1) به، أو مقام خبر يمتنع الكذب في مجيئه لاختلاف علل أهله.
فأما نحن فإنا نرى أنه رجل عظيم الحرمة واجب الحق (2).
إذ كان قد خدم النبي صلى الله عليه صغيرا واعتصم به كبيرا، وكان
من رهط صدق.
وأما ما حكيتم من ولايته للحجاج فقد ولى للحجاج وصلى خلفه
من كان يرى إكفاره فضلا عن من يرى تفسيقه، وفى البراءة منه وفى
التقية سعة، وفى الخوف عذر.
فأما الذي حكيتم من البياض الذي أصابه فإن المؤمن بعرض مصائب
ما كان في دار الدنيا. وما كان الذي أصابه في جنب الذي كان فيه أيوب
النبي صلى الله عليه؟! وقد كان شعيب مكفوفا!
ولو كان على كما يقولون فأراد أنه كان إذا بصق على إنسان فأراد

(1) في الأصل: " مقام حبر بلدب امامه ".
(2) في الأصل: " فأحب الحق ".
152

أن يبرص برص، لما كان بينه وبين عيسى بن مريم صلى الله
عليه فرق.
والعجب إن كان كما تزعمون، كيف لم يبصق على أبى موسى
فيجذمه، أو على جيش صفين فيهزمه؟! بل كان على أظهر سلما،
وأرجح حلما وأشد ورعا، وأكثر فقها، وأبين فضلا، من أن يدعى
هذا وشبهه.
وليس يمدح عليا بما لا يليق به إلا هازل أو جاهل.
وأما قولكم إن النبي صلى الله عليه قال: " أنت منى كهارون من
موسى إلا أنه لا نبي بعدي " وإن (2) النبي صلى الله عليه أراد بهذا
أن يعلم الناس أن عليا وصيه وخليفته، فإنا سنقول في ذلك، وبالله
وحده نستعين.
نقول: إن خلافة الرجل لا تكون إلا في إحدى منزلتين: إما
في حياة المستخلف وإما بعد موته. ولم يقل أحد إن النبي صلى الله
عليه استخلف عليا في غزوة من غزواته، في كثرة ما غزا، وكثرة
ما ولى.
قالوا بأجمعهم: إن النبي صلى الله عليه خلفه في غزوة تبوك،
واستخلف على المدينة محمد بن مسلمة، وقال قوم: المستخلف ابن أم
مكتوم، وهم إن اختلفوا فلم يختلفوا أن عليا كان مقيما بالمدينة والأمير
غيره، والامام سواه.

(1) في الأصل: " فإن "
153

ولولا أن خلفاء النبي صلى الله عليه في غزواته يصاب عليهم (1) بكل
مكان، وفى كل سيرة، لقد كتبته لك في كتابي الذي رددت فيه على
من صغر قدر الإمامة وزعم أنها غير واجبة، وأنها تصلح في العدد
الكثير. وأما غير ذلك من كتبي فلم أنتحل فيه قولي، وجعلت
الكتاب هو الذي عبر عن نفسه، وقمت مقام جميع الخصوم. وجعلت
نفسي عدلا بينهم. ولو لم أكن على ثقة من ظهور الحق على الباطل لم
أستحل كتمانه مع زوال التقية، وصلاح الدهر، وإنصاف القيم.
ثم رجعنا إلى كلامنا الأول فقلنا: لابد لخلافة الرجل من إحدى
منزلتين: إما في الحياة أو بعد الموت: فأما في الحياة فلا يستطيع أحد
أن يقول: إن النبي صلى الله عليه استخلف عليا في حياته. وليس يضع
ذلك من على، لان أبا بكر وعمر الذين هما عندنا أولى بالامر منه.
لم يستخلفهما النبي صلى الله عليه قط في حياته. أو تكون الخلافة بعد
الموت فلا يجوز أيضا أن يكون النبي صلى الله عليه عنى بقوله " أنت
منى بمنزلة هارون من موسى " الخلافة لعلى بعده والذي قد علم أن
هارون قد مات قبل موسى: لان هارون وموسى وأمهما ماتوا جميعا
في شهر واحد، وكان موسى صلى الله عليه آخرهم موتا. ولذلك قالت
بنو إسرائيل لموسى: أنت قتلت هارون (2)
فإن قالوا: ومن يقول: إن هارون مات قبل موسى؟
قيل لهم: إن شئتم فاعترضوا أصحاب التفسير والسيرة، والتمسوا علم

(1) أي يوقع عليهم. وفى اللسان: " صابوا بهم: وقعوا بهم ".
(2) انظر كامل ابن الأثير 1: 111 ففيه قصة وفاة هارون، وانظر كذلك سفر العدد
20: 28، 29.
154

ذلك من قبل أصحاب ابن عباس، وإن شئتم فأهل الكتاب يهودهم
ونصاراهم الذين ليس لهم في ذلك دفع مضرة ولا اجتلاب منفعة، ولو
آثروا أن يجحدوا ما عرفوا، وأن يطبقوا على إنكار ما علموا، وكان
ذلك ممكنا في القدرة، سائغا جائزا، لجحدوا أن بني إسرائيل أخذت
موسى بقتل هارون تعنتا وبغيا، أو غلطا أو جهلا.
وهذا مشهور عند أهل الكتاب وأهل التفسير.
وليس أحد أحق بأن يصيب في الأمثال إذا ضربها، ولا أولى بحسن
التشبيه إذا شبه، من خيرة الله وصفوته من رسله، فكيف يجوز أن يقول
النبي صلى الله عليه لعلى: " أنت منى بمنزلة هارون من موسى " وهو
يريد الخلافة، وهارون لم يكن من موسى خليفة من بعد موته، ولم يكن
على خليفة النبي صلى الله عليه في حياته. ففي أي المنزلتين وعلى أية
الحالين يكون على خليفة إذ لم يكن استخلفه النبي (1) أيام حياته. بل
كيف يجعله من نفسه بمنزلة هارون من موسى وهو يريد الخلافة من
بعده، وهارون لم يكن خليفة موسى بعده.
ولابد للحديث مع سوء تأويلكم واضطراب حجتكم من ضربين:
إما أن يكون باطلا لم يتكلم به النبي صلى الله عليه. وإما أن
يكون حقا ومعناه غير ما قلتم. وتفسيره غير ما ادعيتم.
ولو أن النبي صلى الله عليه أراد أن يجعل عليا خليفة من بعده إذ لم
يكن جعله خليفة أيام حياته، لقال (2): أنت منى بمنزلة يوشع بن نون

(1) في الأصل: " استخلفه موسى ". وكلمة " موسى ". مقحمة.
(2) في الأصل: " فقال ".
155

إلا أنه لا نبي بعدي " لان يوشع كان خليفة موسى في بني إسرائيل
بعده، وكان نبيا قبل موت موسى وبعده.
فإن قالوا: إن النبي صلى الله عليه لم يقصد إلى الخلافة ولم يرد
الإمامة، ولكنه عنى الوزارة.
قلنا: إن وزارة هارون من موسى لابد فيها من أحد أمرين:
إما أن يكون موسى هو جعل له ذلك وهو وزيره على جهة ما يتخذ
الامام وزيرا والملك وزيرا على معنى الاختيار والاستكفاء والثقة.
أو يكون وزيره على جهة المؤازرة والمكاتفة والتعاون، على أن
كل واحد منهما وزبر صاحبه ومعاونه ومكاتفه، إذا غاب عن قومه
كان الآخر خليفته، لا على أن موسى الجاعل ذلك له.
ولا منزلة لهارون من موسى إلا هاتين المنزلتين في جهة الخلافة
والوزارة، لان نبوة هارون لا تكون من قبل موسى، والنبوة
لا تكون إلا من قبل الله.
وليس يخلو قول موسى لهارون: " أخلفني في قومي " عن ضربين:
إما أن يكون هو جعله خليفته على جهة الاختيار والاستكفاء والثقة به،
وإما أن يكون خليفة على أن يكون كل واحد منهما إذا غاب عن
قومه كان الآخر خليفته.
فإن كانت وزارة هارون وخلافته لموسى إنما كانت منزلتين أنزله فيهما
موسى، وليست لهارون من موسى منزلة غيرهما، فقال النبي صلى الله
عليه: " أنت منى بمنزلة هارون من موسى " فكأنما قال: لك خلافتي
156

ووزارتي (1)، فكيف يقول: إلا أنه لا نبي بعدي. والنبوة منزلة
من الله لهارون وليست منزلة لهارون من موسى. فإذا كان ذلك كذلك
فكيف يستثنى الحكيم المرشد الشئ من [غير] شكله؟! وهل يكون بعض
من غير كله؟!
وكيف يقول: قد جعلتك خليفتي ووزيرا، إلا أنى لم أجعلك نبيا
مثلي، ومنزلة النبوة ليست إليه كما كانت منزلة الخلافة والوزارة إليه.
وإنما قوله: " أنت منى بمنزلة هارون من موسى " يريد به: إن لك
منى مثل الذي كان لهارون من موسى، وهو الخلافة والوزارة. فكيف
يقول: " إلا أنه لا نبي بعدي " فيستثنى ما لا يملكه ولا يجوز أن
يملكه، مما قد ملكه ويجوز أن يملكه من هو دونه من خلفائه ومن
خلفاء خلفائه.
أو يكون هارون كان وزير موسى على جهة المؤازرة والمعاونة، وعلى
أن يكون كل واحد منهما وزير صاحبه وخليفته عند الغيبة وحضور
الآخر، ليس أنه قد كان خليفة ووزيرا، وإن كان ذلك كذلك
فليست لهارون من موسى منزلة من الوزارة والخلافة إلا ولموسى من
هارون مثلها. وإذا كان ذلك كذلك فقد صارت خلافتهما ووزارتهما
كنبوتهما أو رسالتهما. وإذا كان ذلك كذلك فكيف يجوز أن يقول
النبي صلى الله عليه لعلى: أنت منى بمنزلة هارون من موسى، وليست
لهارون من موسى منزلة إلا ولموسى مثلها من هارون؟!. وكيف يجوز أن يقول
النبي صلى الله عليه ذلك لعلى ومنزلة هارون من موسى منزلة النبي من

(1) في الأصل: " فإنما قال ذلك خلافتي ووزارتي ".
157

النبي، والشكل من الشكل، والمثل من المثل، وهى منزلة من الله كما
أن نبوة موسى منزلة من الله؟!
وكيف يقول: إلا أنه لا نبي بعدي، وسبيل النبوة سبيل منزلة هارون
من موسى على ما حكيناه من التعاون والتآزر؟!
وإذا كان هذا الحديث لو صح في أصله وأول مخرجه، وسلم من
الزيادة والنقصان وجاء مجئ الحجة. لم يقدر القوم على أن يجعلوه دليلا
موجبا وشاهدا صادقا على (1) خلافته وإمامته دون غيره، فما ظنك به
إن كان قد دخله من الخلل والضعف والاحتمال في الفساد ما يوجب
تكذيبه ورده.
وأقل ما للعثمانية في هذا الحديث أن يساووكم في تأويلكم، وفى ذلك
الخلاف بطلان حجتكم.
وقد زعم ناس من العثمانية أن هذا الحديث باطل من أجل أنه
لا يحتمل من التأويل إلا ما حكيت لك، وأن النبي صلى الله عليه لا يعلن
ولا يظهر غير ما يضمر، ولا يتكلم بالفاسد، ولا يستكره المعاني،
ولا يتكلم بالمتعقد (1)، ولا يضرب مثلا ولا يشبه شيئا بشئ إلا وذلك
الشئ وفق ما قال: لا يزيد عليه ولا ينقص عنه.
ووجه آخر: أن هذا الحديث لم يرو إلا عن عامر بن سعد (2).
فواحدة إن عامر بن سعد هذا لو كان بالفقه والحديث والفضل معروفا

(1) في الأصل: " وعلى ".
(2) يقال عقد كلامه تعقيدا: عوصه وعماه.
(3) عامر بن سعد بن أبي وقاص، تابعي ثقة توفى سنة 104. تهذيب التهذيب.
158

وكان كأمثاله من بنى الصحابة كعبد الله بن عباس، وابن عمر، وابن
الزبير، وأبى سلمة بن عبد الرحمن (1) وغيرهم. ما كان ليكون وحده
حجة في تأخير أبى بكر عن مقامه. فكيف وهو في غير سبيلهم وطريقهم.
ولو سمعنا هذا الخبر من سعد وحده ما كان إلا حجة على نفسه
كالحجة على على في روايته أن النبي صلى الله عليه قال في أبى بكر
وعمر: " هذان سيدا كهول أهل الجنة ".
وكيف يروى هذا سعد مع قوله في الإمامة: " ما أنا بقميصي
هذا أحق منى بها " وهو يدعو عليا إلى الشورى والمخايرة والمكاثرة
بالمحاسن، ويقول: " أعيدوها شورى كما كانت ". ويعيب عليا
بالاستبداد، ويقول: " كنت سابع سبعة مع النبي صلى الله عليه،
ما لنا طعام إلا ورق الشجر، ثم جاءني أعرابي يعلمني دين الله،
ما أنا بقميصي هذا بأحق منى بها ".
وإنما فخر بأنه كان سابع سبعة على على لان عليا لم يكن فبهم
عنده، وكان إما حدثا صغيرا وإما على أمر غير ذلك.
وسعد من العشرة، ومن الستة، ومن السبعة (2)، والمستجاب

(1) أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، قيل اسمه عبد الله، وقيل إسماعيل، وقيل اسمه
كنيته. تهذيب التهذيب 12: 115 - 118.
(2) أي العشرة المبشرين بالجنة، وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلى، وطلحة بن عبيد الله.
والزبير بن العوام. وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، وأبو
عبيدة بن الجراح. وفى شأنهم ألف أبو الطيب كتابه " الرياض النضرة، في مناقب العشرة "
وأما الستة فهم أهل الشورى، الذين اختارهم عمر بعد أن طعن ليختاروا من بينهم رجلا
للخلافة، وهم على، وعثمان، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير،
وطلحة، ثم ضم إليهم عبد الرحمن بن عمر سابعا على ألا يكون له شئ من الامر. الطبري -
159

الدعوة، وقال له النبي صلى الله عليه: " ارم فداك أبي وأمي ".
ومن كان لهذه الأمور مستحقا لم يجمع بين طلب مخايرة رجل ومكاثرته
بالمحاسن وهو مقر أن النبي صلى الله عليه جعل خصمه منه بمنزلة
هارون من موسى، إلا أن يكون تأويل الحديث عند سعد وعند من
شهد سعدا على غير معناكم.
وحديث عامر على غير ما يروون، وإنما قال: " أنت منى بمنزلة
هارون بن موسى، إلا أنه ليس معي نبي " هكذا رووه عن عامر.
ابن سعد على غير معناكم.
وفى قول النبي صلى الله عليه: " هذا خالى أباهى به فليأت كل
امرئ بخاله (1) " تفضيل له على كل خال في الأرض، وقد كان على خال
جعدة بن هبيرة. ولم يستثن أحدا.
فإن قالوا: الدليل على ما قلنا أن النبي صلى الله عليه لما آخى بين
المهاجرين والأنصار آخى بينه وبينه، فلولا أنه كان أشبه الناس به
هديا، وعلما وفضلا، لم يجعله عدل نفسه دون غيره.
قيل لهم: أنتم ليس لكم علم بالأثر ولا بالخبر. وكيف يعرف الآثار
والاخبار من يكفر الأسلاف، ويبرأ من التابعين، ويجحد كل مالم

(1) - 5: 34 - 35. وأما السبعة فهم السابقون إلى الاسلام من الرجال: زيد بن حارثة،
وأبو بكر، وعثمان، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة.
الرياض النضرة 2: 292 وعيون الأثر 1: 93 - 95.
(1) يقول هذا في شأن سعد بن أبي وقاص، والإصابة وصفة الصفوة 1: 140.
والرياض النضرة 2: 296. قال أبو الطيب: " وكان سعد من بنى زهرة. وأم النبي صلى
الله عليه وسلم من بنى زهرة. فلذلك قال: خالى ".
160

يوافق هواه، ويدعى ما وافق هواه وإن كان باطلا، بل لا يرضى حتى
يتقول الزور ويولد الباطل.
وليس شئ أيسر من أن يقول قائل: إن النبي صلى الله عليه لما
آخى بين أصحابه آخى بين نفسه وبين أبى بكر. ولكن الحق أحق
ما خضع له واحتمل ما فيه. وهذه الفقهاء وأصحاب الآثار عرضة لكم،
فإن لم يقولوا إن النبي صلى الله عليه لما آخى بين المهاجرين والأنصار
آخى بين على وسهل بن حنيف فنحن أولى بجحد المعروف منكم.
وقد قال الله: " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون (1) ".
وأنتم لستم (2) أصحاب آثار، فاسألوا أصحاب الآثار إن كنتم لا تعلمون،
فإن ذلك أمر مشهور لا خفاء به، ولا دافع له، أعنى المؤاخاة بين
على وسهل بن حنيف.
ولثقة على به استعمله على المدينة حين خرج عنها. ومن أجل
سهل بن حنيف امتنع الزبير وطلحة أن يركبوا عثمان بن حنيف والى
على على البصرة بأكثر مما كانوا ركبوه به. ولذلك السبب صلى
أبو أمامة بن سهل بن حنيف بالناس في مسجد الرسول صلى الله عليه
وعثمان محاصر، لرأى على كان في ذلك، ولغلبته على الدار، وأنه
كان يطاع بأكثر من طاعة الزبير وطلحة وسعد.
وإنما آخى النبي صلى الله عليه بينه وبين سهل بن حنيف الأنصاري
كما كان آخى بين عثمان بن عفان وأوس بن ثابت (3). ولذلك قال

(1) الآية 43 من سورة النحل.
(2) في الأصل: " ليس ".
(3) هو أخو حسان بن ثابت.
161

حسان يحامى دونه وينصره بالكلام والشعر، ويظهر الميل على على
حين قال:
يا ليت شعري وليت الطير تخبرني * ما كان شأن على وابن عفانا (1)
لنسمعن وشيكا في دياركم * الله أكبر يا ثارات عثمانا
ولذلك قال في كلام له وهو يعتمد رأى على واختياره: ثكلت أم نزال
حرب لقى ابن أبي طالب كفاحا، وسعدت أم نزال رأى لقى ابن أبي طالب
سهوا. في كلام كثير. وشعر كثير.
وكما آخى النبي صلى الله عليه بين أبى الدرداء وسلمان. وبين عبد الرحمن
ابن عوف وسعد بن الربيع. وبين حذيفة وعمار (2)، وبين حمزة وزيد (3)،
وبين أبى بكر وعمر
فإن قالوا: فلعل النبي صلى الله عليه آخى بين على وبين نفسه، وبين
على وبين سهل بن حنيف، وهذا مالا يتدافع، كما كان يؤاخى بين الرجل
المهاجري وبين الأنصاري، وقبل ذلك ما آخى بين المهاجرين بعضهم
في بعض، فكان الرجل منهم تصير (4) المؤاخاة بينه وبين اثنين:
مهاجري وأنصاري.
قلنا لهم: أما واحدة فإنا (5) لم نجد لقولكم إن النبي صلى الله عليه
آخى عليا إسنادا يثق به أصحاب الحديث فضلا عن أن يكون جاء مجئ

(1) ديوان حسان 410.
(2) حذيفة بن اليمان، وعمار بن ياسر.
(3) زيد بن حارثة. عيون الأثر 1: 201.
(4) في الأصل: " تصبر ".
(5) في الأصل: " فإذا "
162

الحديث. ولو كان النبي عليه السلام حيث آخى بين المهاجرين ولم يرض
لعلى إلا بنفسه لفضل على على عيره وأنه أشبه الأمة به وأقربهم حالا
من حاله، ثم آثر أن يؤاخى بينه وبين رجل من الأنصار كفعله بغيره
من المهاجرين - كان ينبغي له أن يؤاخى بينه وبين أفضل الأنصار.
إذ كان الذي يمنعه من أن يؤاخى بينه وبين بعض المهاجرين طلب
أفضلهم، وكان ينبغي على هذا المذهب أن يؤاخى بينه وبين سعد
بن معاذ.
فإن قالوا: سهل بن حنيف أفضل من سعد ومن حمى الدبر ومن
غسيل الملائكة. ومن مكلم الذئب (1) ومن غيره، لم يكن هذا منكرا
من مكابرتهم وجهلهم.
فإن قالوا: إنه جائز أن يؤاخى بين غير الاشكال في الفضل، وجائز
ألا يؤاخى بين المتساوين والمتقاربين.
قيل لهم: فلعل أيضا النبي صلى الله عليه لم يؤاخ بين نفسه وبين
على - إن كان آخاه كما زعمتم، من قبل تقارب الحال والمشاكلة
في الافعال. ولعل النبي صلى الله عليه لم يؤاخ عليا رأسا إذا أجاز ألا
يؤاخى بين الاشكال، ولا يقارب بين الأمثال. وأدنى ما فيه أن يكون
ذلك قد كان جائزا.
فإن تركوا هذا أجمع وقالوا: كيف يجوز أن يكون أبو بكر هو الامام
وقد كان النبي صلى الله عليه جعله في جيش أسامة. وما زال يقول في شكاته:
" أنفذوا جيش أسامة " يعيد ذلك ويكرره، إلى أن قبضه الله إلى جنته.

(1) انظر ما سبق في ص 139 - 140.
163

قيل لهم: إن في أمر النبي صلى الله عليه له أن يقوم مقامه في الصلاة
بالمسلمين، وعائشة وحفصة قد اعتونتا (1) ليصرفا ذلك إلى عمر، ويقولان:
إن أبا بكر رجل رقيق لا يستطيع أن يقوم مقامك.
وهو قد ودع المسلمين في حطبته التي خطبها في شكاته حين قال:
" إن عبدا من عباد الله خيره الله بين الدنيا والآخرة فاحتار الآخرة ".
فبكى أبو بكر، فعجب الناس منه وقالوا (2): قال رسول الله صلى الله عليه:
إن عبدا من عباد الله!! قالوا: وكان أبو بكر أعلمنا برسول الله صلى الله
عليه. هكذا الخبر. ثم جاء جبريل في شكاته فقال: يا محمد، هذا ملك الموت
يستأذن عليك ولم يستأذن على آدمي قبلك. قال: ائذن له. فأذن له
جبريل حتى وقف بين يدي النبي صلى الله عليه ثم قال: يا محمد، إن الله
أرسلني إليك وأمرني أن أطيعك فيما أمرتني به، فإن أمرتني قبض نفسك
قبضتها، وإن كرهت ذلك تركتها. قالوا: فسمع النبي صلى الله عليه
يقول: " الرفيق الاعلى " فعلم أنه قد خير صلى الله عليه.
ثم كان عند كل صلاة لا يجد عندها إفاقة يقول: " مروا أبا بكر
يصلى بالناس " ويقول: " أبى الله إلا أبا بكر " وفى قوله أبى الله
أن يصلى إلا أبو بكر، دليل أن ذلك من قبل الوحي. مع قوله لعائشة
وحفصة حين أرادتا صرف ذلك إلى عمر: " أنتن صواحبات يوسف.
أبى الله ورسوله أن يصلى إلا أبو بكر " بالغلظ. فلو كان الخطب
في ذلك صغيرا ما أغلظ النبي صلى الله عليه لهما، ولا اشتد عليهما.

(1) اعتونتا، مثل تعاونتا، وفى الأصل " اعتونا ".
(2) في الأصل: " وقال ".
164

فإن قالوا: وما دعا عائشة إلى صرف هذا الامر العظيم والمقام
الشريف إلى عمر؟
قيل: فإنه ليس عندنا في ذلك إلا ما اعتذرت هي به لنفسها،
فإنها قالت: إني والله ما أردت صرف ذلك على أنى لم أعرف شرفه
وخطره، ولكني خفت أن يتشاءم المسلمون به، وألا يحبوا رجلا قام
مقامه أبدا.
فأما حديث الربيع بين صبيح (1) عن الحسن فإنه زعم أنها قالت:
خفت ألا يطبق حمل الخلافة، وظننت أن الناس سيريدون منه مثل
ما تعودوا من النبي صلى الله عليه وسلم، وعلمت أن أحدا لا يكون كالنبي.
فإن كان النبي صلى الله عليه وسلم جعله في جيش أسامة فقد استثناه حين
اشتكى، من جميع الجيش، إذا استخلفه في مقامه، وأمره بالصلاة
لامته، لان من صلى في مقام النبي صلى الله عليه وسلم وفى مسجده
ومصلاه، في أعياده وسائر أيامه، فقد صلى بجميع الأمة، وتأمر على
جميع البرية.
وإنما أدخلنا فيها صلاة الجمعة والعيدين لان النبي صلى الله عليه وسلم
حين قال: " أبى الله ورسوله إلا أن يصلى أبو بكر " لم يستثن صلاة
دون صلاة. فإذا كان الكلام عاما والنبي صلى الله عليه وسلم على يقين
من فراق الدنيا، والوحي ينزل عليه، فقد دخل في ذلك صلاة العيد
والجمعة: لان النبي يتكلم كلاما عاما (1).

(1) بفتح الصاد وكسر الباء، كما في حواشي تهذيب التهذيب.
(2) بعده في الأصل: " وهو على يقين من فراق الدنيا والوحي ينزل عليه ".
165

وقد علم الله ورسوله أن الكلام العام يتخذه الناس حجة فيما
يدل عليه العام.
وقد علم الله أن أبا بكر سيصلى بالناس في أعيادهم وسائر صلاتهم
وأنه سيحتج في استحقاق أبى بكر بقول النبي صلى الله عليه وسلم: " أبى
الله ورسوله أن يصلى إلا أبو بكر " فكان ذلك دليلا على أن الله
قد أراد ذلك وأوجبه، وعناه وأحبه.
فهذا دليل على أن أبا بكر لم يخالف أمر الله بتخلفه عن جيش
أسامة إن كان أبو بكر ممن كان في ذلك الجيش قبل شكاة النبي صلى
الله عليه وسلم وأمره له بالصلاة.
ووجه آخر يدل على ما قلنا. وهو أنا لم نجد أحدا من المسلمين
ولا من الأنصار والمهاجرين ذكروا عنه في ذلك الدهر حرفا واحدا من
ذكر تخلف أبى بكر، لا عاتبا زاريا، ولا مستفهما مسترشدا، ولا
متعجبا ناقما. ولا مصوبا عاذرا، ولم يذكر أحد حديثا - ضعف
إسناده أم قوى - أن أحدا احتج لأبي بكر ولا عليه (1).
ولا يكون رحل في مثل نباهة أبى بكر وقدره، وفى مثل نباهة
ما صار إليه، لأنه لا موضع أولى بشدة (2) الحسد وكثرة الطعن منه،
وقد كان منه التخلف الذي لا يخفى موضعه، مع توكيد النبي صلى الله
عليه وسلم وشدته على ذلك، ثم لا يلجأ في تخلفه إلى حجة ولا أمر

(1) في الأصل: " علا علبه ".
(2) بين هذه الكلمة وسابقتها بياض في الأصل بقدر كلمة واحدة.
166

من النبي صلى الله عليه وسلم ثم يطبق (1) جميع الخلق في ذلك على
السكوت والرضا والاستحسان أكثر مما صاروا إليه.
هذا وبنو عبد مناف شهود، وخالد بن سعيد (2) قد ترك بيعته
ستة أشهر، وقال: أرضيتم معشر بنى عبد مناف أن يلي عليكم
رجل من تيم؟! وقال أبو سفيان بن حرب مثل ذلك. وقالت
الأنصار: منا أمير ومنكم أمير. وقد سمع أبو قحافة رجة وهو
بمكة، وهو مكفوف، فقال: ما هذا؟ قالوا: مات النبي صلى الله عليه
وسلم قال: فما صنع الناس؟ قالوا: أقاموا ابنك. قال: فرضيت بنو
عبد مناف بذلك؟ قالوا: نعم: قال: وبنو المغيرة؟ قالوا: نعم.
قال: فلا مانع لما أعطى الله. ولا معطى لما منع (3).
وفى إطباق الجميع على السكوت على التخلف بعينه، مع قول خالد
وأبى سفيان، دليل على أنهم لو وجدوا غميزة أو خلافا أو معصية لم
يدعوا الاحتجاج به، والخوض فيه. ولو كانت التقية قطعتهم عن
ذلك لقطعتهم عن ذكر الطعن في إمامته، كما قطعتهم عن ذكر الطعن
في تخلفه
وفى رضا أسامة وتسليمه وسكوته وقناعته حتى لا يحكى عنه في
ذلك كلمة واحدة، دليل على ما قلنا.
فإن قالوا: إن أسامة قد عرف صنيعه في تخلفه ولكنه كان في
تقية منه، لان أبا بكر لو لم يكن هو المطاع في العوام، والمقنع

(1) في الأصل: " ثم يلجأ في يطبق ".
(2) خالد بن سعيد بن العاص.
(3) في الأصل: " معط ".
167

في الدهماء، ما تقدم بنى عبد مناف، وكان أسامة لا يستطيع أن يبدي
في دهر عمر من ذلك شيئا، لشدة عمر في تعظيم أبى بكر، لان
الطعن في أبى بكر راجع على عمر، وأن رعية عمر هم رعية أبى بكر
وكذلك كان أسامة في دهر عثمان، لأنه نسق واحد وسبيل واحدة.
قيل لهم: فما منعه أن يتكلم في دهر على ومع علي يومئذ مائة
ألف سيف يطيعه. وهل عندكم في أسامة أكثر من أن تدعوا على
ضميره غير ما يدل عليه ظاهر عمله؟! وإن أولى الناس ألا يحتج
بأسامة لأنتم، لان أسامة هو الشاهد لطلحة على على، حين قال على:
بايعتني ونكثت بيعتي. قال طلحة: " بايعتك واللج على قفى (1) ".
واستشهد أسامة. فقال أسامة: أما السيف على قفاه فلم أره ولكن
بايع وهو كاره. في أمور كثيرة تدل على أن أسامة كان عمريا،
ليس هذا موضع ذكرها. فهذا هذا.
وفى إطباقهم جميعا يدعونه خليفة رسول الله من تلقاء أنفسهم،
لا مكرهين ولا مقهورين، لم يرفع عليهم سوط ولا شهر (2) سيف،
ولا سمعوا وعيدا، ولا رأوا لذلك أثرا، ولا رأوا منه إمرة لبعض
العشائر، فيخافون أن يتقوى بهم عليهم، مع كثرة العدد واختلاف
الأنساب وتفرق الأهواء، و [في] الذي قبله، دليل على ما قلنا، وحجة
على الذي ادعينا.

(1) اللج: السيف. قال ابن سيده: وأظن أن السيف إنما سمى لجا في هذا الحديث وحده.
قفى، أو قفاي. وهى لغة هذيل، يجعلون ألف المقصور ياء عند إضافته للياء، ومنه قول
أبى ذؤيب:
سبقوا هوى وأعنقوا لهواهم * فتخرموا ولكل جنب مصرع
أي هواي. وانظر الطبري 5: 174 - 204 في حوادث سنة 36.
(2) في الأصل: " ولا يشهر ".
168

ومما يقرب من قولنا قول النبي صلى الله عليه: " أنفذوا جيش
أسامة " فقد يعلم المستدل أن النبي صلى الله عليه إنما قصد بذلك الامر
في خاصته والمطاعين، لان قوله: " أنفذوا " دليل أنه قد كان هناك
من ينفذ أمره، وإليه قصد بالامر مقنعين (1) غير ساخطين.
ولو كان الامر إنما كان لأسامة وأصحابه كان اللفظ على غير هذا.
فإذا كان ذلك كذلك فمن أولى بأن يكون من المخاطبين المطاعين من
أبى بكر وخليله (2) وصفيه، على ما كتبت لك في كتابي هذا، مع أنا
لم نبلغه ولم نستقصه، إما بالخوف منا والكراهة لإطالة الكتاب، وإما
بالتقصير منا في معرفة جميع محاسنه.
ووجه آخر: أنك لو جهدت أن تجد لحديث من زعم أن أبا بكر
كان في جيش أسامة أصلا لم تجد، وإنما أتى عامة ذلك (3) من قبل
كون عمر في ذلك الجيش، لان عمر وأبا عبيدة (4) كانا من أول من
انتدب في ذلك الجيش.
ولما كان الناس كثيرا ما يرون عمر يجرى مع أبي بكر غلطوا في ذلك
في مواضع كثيرة، حتى جر ذلك على أبى بكر فرار عمر يوم أحد،
فقال من لا علم له: وفر يوم أحد أبو بكر وعمر. وموقف أبى بكر
والنفر من المهاجرين في يوم أحد أشهر من أن يطمس عليه جاحد.
ومن ذلك أن عمر كان في جيش ذات السلاسل، فألحقوا به أبا بكر.

(1) مقنعين، أي راضين. أقنعه الشئ: أرضاه، وفى الأصل: " مقنمين ".
(2) في الأصل: " وخاله ".
(3) في الأصل: " عامه في ذلك ".
(4) في الأصل: " وابن عمه " وانظر عيون الأثر 2: 281 وإمتاع الاسماع 1: 537.
169

فإن أبوا إلا أن يكون قد كان في ذلك الجيش فالجواب على ما قلنا.
فإن قالوا: قد سمعنا مقالتكم. ولكن ما الدليل على أن النبي
صلى الله عليه أمر أبا بكر بالصلاة بالناس؟
قلنا لهم: إنه ليس لأنه كان مأمورا بالصلاة فقط، ولكنه صلى
بالناس سبع عشرة صلاة إلى أن توفى النبي صلى الله عليه. وذلك
أن النبي عليه السلام بدئ (1) يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من صفر،
ويوم الاثنين لاثنتي عشرة مضت من ربيع الأول. وهذا هو السبب عندهم.
وزعم أصحاب السير والاخبار أن النبي صلى الله عليه كان يأمر بلالا
بالاذن، فإذا وجد إفاقة خرج يصلى بالناس، وإن اشتد ما به قال:
" مروا أبا بكر يصلى بالناس " فكان النبي وأبو بكر يصليان على
هذه الصفة.
فإن أنكروا أن يكون النبي صلى الله عليه أمر أبا بكر أن يصلى
و [ادعوا (2)] أن هذه الأخبار كلها باطل، وأن العلة في هذه الأيام
كلها لم تمنع النبي صلى الله عليه من الصلاة حتى مات.
قيل لهم: أرأيتم هذا الذي قلتموه وادعيتموه، أشئ استخرجتموه
أو سمعتموه؟
فإن زعموا أنهم سمعوا قلنا لهم: فأتوا بفقيه واحد أو محدث يقول
كما تقولون، ويحدث كما تزعمون، وجميع ما يدعى باطل.

(1) في عيون الأثر 2: 281: " فلما كان يوم الأربعاء بدئ برسول الله صلى الله عليه
وسلم وجعه فحم وصدع ".
(2) بمثل هذه التكملة يتم القول.
170

وإن كان إذا اعترضوا المحدثين والناقلين لم يجدوا أحدا إلا وهو يخبر
بما قلنا فالحق أحق أن يتبع. ولا يجوز أن يقولوا: إنا استخرجنا
معرفة هذا المعنى، لان الاستخراج لا يكون إلا من عيان أو خبر.
أوليس قد كان النبي موضوعا على سريره حين زاغت الشمس يوم
الاثنين إلى حين زاغت من يوم الثلاثاء، يصلى الناس عليه وهو على شفير
قبره (1) وأبو بكر يصلى بالناس؟!
فإن أتوا بحديث واحد أنه صلى بالناس في غير ذلك الوقت غير
أبى بكر فالقول كما قالوا. وإن أتوا بحديث واحد أنه صلى بالناس غير
أبى بكر أول صلاة صلاها المسلمون [حين] اختلفوا في تأمير الامراء
واستخلاف الخلفاء عليهم، كما قالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير
فالقول كما قالوا.
وهل يستطيعون أن يزعموا أنهم قالوا: منا مصل ومنكم مصل.
والعجب (2) كيف لم يقولوا: إن عليا لم يزل هو المصلى بالناس،
والمأمور بالصلاة، فغصب حقه وظلم مقامه؟!
وكيف يجوز أن يجئ رجل من أرضه وسمائه من غير نسب ولا
سبب، حتى ينفذ من أشرف المقامات، بحضرة القرابة والعشيرة، من عم
وابن عم، وقريب ونسيب، وجلة المهاجرين والأنصار، والعظماء وعلية
قريش، ودهماء العرب، ثم لا يتكلم في ذلك رجل واحد؟! فإنما

(1) في إمتاع الاسماع 1: 551: " فصلى عليه وسريره على شفير قبره ".
(2) في الأصل: " وللعجب ".
171

يقول هذا من لا يعرف قدر ذلك المقام في الصدور، وكيف طبائع قريش
وأنفة العرب.
فإن قالوا: كيف يكون أبو بكر إماما ولم يجتمع المسلمون على إمامته
والرضا به؟! وقد قالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير، وقال سلمان:
" كرداذ ونكرداذ (1) ". وقال خالد بن سعيد: أرضيتم معشر
بنى عبد مناف هذا. وقال أبو سفيان بن حرب مثل مقالته، وخرج
الزبير بسيفه شادا (2)، فلما رآه عمر قال: دونكم الكلب. وجلس
على [في] منزله واعتل بأنه آلى ألا يبرح حتى يجمع القرآن.
قيل لهم: ليس الامر على ما تقولون ولو كان الامر على ما تقولون
ما كان خلاف هؤلاء ناقضا لامره. لان الرجل إذا كان أفضل الناس
وأكمله وأنفعه للمسلمين وأرده عليهم (3)، فعليهم إقامته والتسليم له،
والرضا به، لان كل ما عددت لك من فضله هم كانوا أعلم به،
إذ كانوا يسافرون معا ويقيمون معا، وكانوا أعنى بمعرفة الخير،
وأسرع إلى العلم به منا ومن أهل دهرنا.
ولو كان أبو بكر تنتقض إمامته، وكان عليه اعتزال ذلك المقام،
بخلاف (4) رجل أو رجلين أو ثلاثة، كان أولى الناس بأن يكون له في الإمامة

(1) كلمتان فارسيتان معناهما " صنعتم ولم تصنعوا " كرداد بمعنى التشييد والتأسيس
وإقامة الشئ. والنون علامة للنفي في الفارسية، انظر ما سيأتي في الكلام ص 179 وكذا
معجم استينجاس 1022.
(2) في الأصل: " شاذا ". وفى الطبري 3: 198: " مصلتا بالسيف ":
(3) أي أكثرهم نفعا. وفى اللسان: " هذا الامر أرد عليه، أي أنفع له ".
(4) في الأصل: " خلاف ". وانظر ما سيأتي في صفحة 177.
172

سبب ولاحق ومتعلق علي بن أبي طالب، لان (1) سعد بن أبي وقاص
كان أحد الشورى وأحد الأكفاء، وقد أباه وقال قولا أبين من قول خالد
وأبى سفيان وسلمان، قال: " ما أنا بقميصي هذا أحق منى بها، أعيدوها
شورى، أما بالسيف فلا أريدها " وقال لرسل على حين أرادوه على بيعته:
ثكلت أم لم تلدني، لئن كنت سادس ستة مالنا طعام إلا ورق البشام،
وقد جاءني أعراب الأوس تعلمني دين الله؟! في كلام كثير (2).
وخالفه طلحة والزبير وهما شريكاه، وأحدهما فارس النبي صلى الله عليه،
والآخر وقايته، فقال على: بايعتمانى؟ قال: الزبير، ما بايعتك قط، إن
كنت على يقين أنك أولى بها فاجعلها شورى، بيعه وحق دعواك
من باطله (3).
وقال طلحة: " بايعت واللج على قفى (4) " حين رقى (5) إليه العساكر
وطعنت عليه عائشة واستحلت محاربته. ثم اجتمع على حربه أهل الشام
قاطبة فيهم عبد الله بن عمر، وكعب بن مرة البهزي (6) وكان من فضلاء
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي قال حيث قال النبي صلى الله
عليه: " ستكون فتنة هذا فيها يومئذ على الحق " وأومأ إلى رجل مقنع،
فكشف عن رأسه فإذا هو عثمان، فلما قتل عثمان وهو يكف عن القتال
استنصر، فكان يحدث هذا الحديث.

(1) في الأصل: " ولان ".
(2) انظر ما سبق في ص 159.
(3) كذا في الأصل.
(4) انظر ما مضى في ص 168.
(5) كتبت في الأصل: " رقا ".
(6) الإصابة 7428.
173

ومنهم واثلة بن الأسقع الليثي، وله صحبة ونسك (1)، والنعمان بن
بشير، ومسلمة بن مخلد، وحبيب بن مسلمة، وذو الكلاع، ومعاوية
ابن حديج (2).
ومن التابعين أبو مسلم الخولاني، وشرحبيل بن السمط. وعمرو
بن وافد الغامدي (3) الذي قال [فيه] مكحول: كأنه قد مات ودخل النار
وحوسب (4) ثم رد إلى الدنيا، فمعه خوف المجرب.
ثم خالف عليه خاصة إخوانه ونساك أصحابه، وأهل البصائر من جنده
وحمدت (5) حتى أكفروه وخلعوا (6) إمامته وولايته.
وفيهم مع نسكهم وجدهم نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم، منهم فروة بن نوفل الأشجعي، وحرقوص بن زهير، وفيهم
من التابعين مثل رئيسهم عبد الله بن وهب الراسبي، وزيد بن حصن
الطائي (9).
ولقد دعا محمد بن مسلمة إلى عونه، واعترض آخذا بسيفه، ثم كسره
وقال: أضرب المسلمين بسيف ضربت به الكافرين؟!

(1) الإصابة 9088 وصفة الصفوة 1: 280. والأسقع بالقاف.
(2) الإصابة 8057.
(3) تهذيب التهذيب 8: 115.
(4) وردت هذه الكلمة في الأصل في نهاية هذه الفقرة.
(5) كذا في الأصل.
(6) في الأصل: " وجعلوا ".
(7) الإصابة 2887 وذكر أنه كان عامل عمر بن الخطاب. قال ابن حجر: " وقد
قدمت غير مرة أنهم كانوا لا يؤمرون في ذلك الزمان إلا الصحابة ". ولم يذكره بذلك في
تهذيب التهذيب.
174

فدعا زيد بن ثابت إلى عونه فأبى وقال: أنت والله تعلم أن لو شحا
أسد فاه (1) لألقمته كفى دونك، فأما أن أضرب بسيفي لأؤكد لك
ملكا فلا.
ودعا عبد الله بن عمر فقال حين أراده على بيعته: إني لن أنزع
يدي من جماعة وأضعها في فرقة. وكذلك قال حين قيل له بعد ذلك:
لو بايعت أخاك عبد الله بن الزبير. قال: إن أخي وضع يده في فرقة،
وإني لن أنزع يدي من جماعة وأضعها في فرقة.
وطعن عليه سعد بن زيد بن عمرو بن نفيل وعلى طلحة وقال: " فتنة
عمياء يخبط أهلها ". قال طلحة: ابن عمك كان أعلم بي وبك حين جعلني
في الشورى وأخرجك منها. قال: إن ابن عمى خانك وأمنني.
ودعا (2) إلى بيعته وعونه أسامة بن زيد فقال: إني إذن لمفتون!
وأسامة هو الذي كان طلحة استشهده على قوله: " قد بايعت واللج على
قفى " فسئل أسامة عن ذلك. فكلمه طلحة بكلام غليظ.
وقول صهيب أيضا، وسلمة بن سلامة بن وقش. كل هؤلاء السبعة
[ما منهم (3)] إلا من شهد بدرا.
وزعم ابن سيرين والشعبي أنهما قالا: وقعت الفتنة بالمدينة وأصحاب
النبي صلى الله عليه أكثر من عشرة آلاف، فقال: فما يعدون من
خف فيها عشرين رجلا. فسميا حرب على وطلحة والزبير وصفين فتنة.

(1) شحا فاه يشحوه ويشحاه: فتحه.
(2) في الأصل: " ودعاك ".
(3) بمثلها يلتئم الكلام.
175

وكما قال الشعبي: من حدثك أنه شهد الجمل ممن شهد بدرا أكثر
من أربعة نفر فكذبه. كان على وعمار في ناحية، وطلحة والزبير
في ناحية.
وقد تعلمون أنه لم يكن في الأرض عثماني إلا تعلمون أنه منكر
لامامته. وهم أكثر عددا وأكثرهم فقيها ومحدثا. ولقد كان الرجل
من أصحاب الآثار يظن به التشيع فيترك ويضعف ويتهم عند أهل العلم.
حتى أنه كان يطويه ويستره أكثر مما يستر السوء يكون بجلده.
فلو كان الفاضل الكامل تنتقض إمامته وتفسد عدالته من قبل خلاف
أربعة أو خمسة، لما كان في الأرض أشد انتقاصا من إمامة على.
وأما قولكم: إن الأنصار قالت لقريش والمهاجرين: منا أمير ومنكم
أمير! فهذا إلى أن يكون حجة عليكم أقرب، لان النبي صلى الله عليه
وعلى آله لو كان أقام عليا وجعله خليفة ووصيا ونص على ذلك بغدير خم،
أو في بعض المغازي، ما كان بلغ من حربهم (1) وعنودهم أن يقولوا هذا
الكلام والامام قائم الحجة، معروف المكان.
وكيف حاز أن يلغوا ذكره حتى لا يذكرونه في شئ من مخاطباتهم
ومنازعاتهم، إلا والقوم لم يكن عندهم فيه عهد ولا سبب. فهذه
حجة قاطعة.
وأخرى: الذي رأينا من قلة مبالاتهم من أقامه المهاجرون كائنا
من كان، لان قولهم: منا أمير ومنكم أمير، قول قوم كأنهم قالوا:

(1) الحرب، بالتحريك: الخصومة والغضب.
176

لابد لنا معشر الأنصار من أمير على حال، وأنتم بعد أعلم بشأنكم
فأمروا عليكم من بدا لكم. وليس في هذا طعن على خاصة أبى بكر،
كما أنه ليس فيه تأكيد لامامته دون غيره.
وهذا قول كان من نفر من الأنصار في سقيفة بنى ساعدة، قبل أن
يقوم فيهم أبو بكر خطيبا وواعظا، ومبينا ومحتجا. فلا يستطيع أحد
أن يقول: إن أحدا منهم رد على أبى بكر خاصة كلمة واحدة. فليس
في قولهم: منا أمير ومنكم أمير، خلاف على أبى بكر، وإن كان خلافا
فإنما هو على الجميع.
وإن كان هذا الكلام منهم حجة ما كان إلا على من زعم أن
الإمامة غير واجبة، أما على من زعم أنها لأبي بكر دون على فإنها
غير لازمة.
ولعمرى لو كان القوم حيث قالوا: منا أمير ومنكم أمير قالوا:
ولا يكون أميركم إلا على أو فلان أو فلان، أو قالوا: الرأي لكم
أن تجعلوا أميركم عليا أو فلانا أو فلانا، كان في ذلك ما يتعلق به
متعلق ويشغب به شاغب. وهذا ما لا يحتج به عالم، لان الحجة فيها
للرافضة ألزم، وعليها أوكد.
أما قولهم أن سلمان قال ما قال (1)، فإنما سلمان رجل من عرض
المسلمين، لا يصلح أن يكون خليفة، ولا يجوز أن يكون في الشورى
ومع الأكفاء، فتنتقض به مريرة أو تبرم به، لأسباب:

(1) انظر ما سبق في ص 172.
177

منها أنه ليس من المهاجرين، ولا ممن شهد بدرا ولا أحدا، ولا
لقى في الله ما لقى نظراؤه عند الناس كبلال وصهيب، وخباب وعمار،
ولا كان من الذين آووا ونصروا، وذكروا في القرآن وقدموا.
وكان حديث الاسلام قليل المشاهد، وإنما أسلم حين انحسرت الشدة
وانكشف عنهم معظم الكربة، ولكنه كان من الصالحين ومن الفضلاء
المخلصين، وكان عند النبي صلى الله عليه وسلم وجيها، وعند خلفائه
مقربا، وقد قال النبي فيه قولا حسنا، ولكنه ليس من الأكفاء في
الإمامة وموضع الشورى والخلافة، فيكون قوله حجة تنتقض به الإمامة،
وطعنه عليه يصرف الخلافة.
ثم آخر: أنا قد وجدناه ولى لعمر بن الخطاب على المدائن، يقيم له
الحدود ويجبى له الخراج، ويدعو له على المنبر، ويؤكد له خلافته،
وينفذ أمره، مطيعا غير مكره، ومخلى غير مقصور، فولايته لعمر
دليل على تصويب أبى بكر، ومطيع عمر أذعن لأبي بكر، ومعظم عمر
أشد تعظيما لأبي بكر.
ولقد كان يخرج آذن عمر والناس ببابه فيجعله في الفوج الأول.
حتى روى عن أبي سفيان بن حرب وسهيل بن عمرو في ذلك كلام
مشهور: من ذلك أنهم كانوا بباب عمر في جلة من قريش والعرب،
مثل عيينة بن حصن وغيره، إذ خرج آذن عمر فقال: أين بلال؟ أين
سلمان؟ أين صهيب؟ أين عمار؟ ادخلوا. فتغيرت وجوههم واستبان
الجزع فيهم، فأقبل عليهم سهيل بن عمرو واعظا، ومعربا (1) ومذكرا،

(1) التعريب: التبيين والايضاح.
178

فقال: دعوا ودعينا، فأسرعوا وأبطأنا [ولئن حسدتموهم (1)] على باب
عمر لما أعد الله لهم في الجنة أعظم.
فما في الأرض عاقل يظن أنه يأذن لسلمان قبل أبي سفيان بن حرب
وسهيل بن عمرو، ويوليه بلاد كسرى وآل كسرى، وسلمان عنده
ظنين في بيعة أبى بكر وناقم عليه.
وقد بارك عمر أبا بكر (2)، في خالد بن سعيد بن العاص، حين
عقد له على أجناد الشام، لكلمته التي كانت في بيعة أبى بكر،
حتى عزله.
فكيف يحتمل لسلمان الطعن والخلاف ثم لا يرضى له إلا بالولاية
على بلاد كسرى، وسلمان لا يجرى عند عمر مجرى خالد ولا قريبا؟!
ففي هذا دليل على أن سلمان لم يقل: " كرداذ ونكرداذ (3) ". وإن
كانت هذه الكلمة حقا كانت ترجمتها بالعربية: صنعتم ولم تصنعوا.
يقول: قد أقمتم فاضلا مجزيا ولو كان غيره كان أفضل منه.
وأخرى فلو كان سلمان كان عنده أن النبي صلى الله عليه كان قد

(1) مكان هاتين الكلمتين بياض في الأصل، وأثبتهما مما سيأتي في كلام الجاحظ في الورقة
162 من المخطوطة. وجاء في صفة الصفوة 1: 307: " فقال أبو سفيان: لم أر كاليوم قط
يأذن لهؤلاء العبيد ونحن على بابه لا يلتفت إلينا؟! فقال سهيل بن عمرو - وكان رجلا عاقلا -
أيها القوم إني والله لقد أرى الذي في وجوهكم، إن كنتم غضابا فاغضبوا على أنفسكم، دعى القوم
ودعيتم فأسرعوا وأبطأتم، فكيف بكم إذا دعوا يوم القيامة وتركتم؟! أما والله لما سبقوكم
إليه من الفضل مما لا ترون أشد عليكم فوتا من بابكم هذا الذي كنتم تنافسونهم عليه ".
(2) باركه: أدام له التشريف والكرامة.
(3) انظر ما سبق ص 172.
179

استخلف عليا ونصبه إماما وجعله وصيا لم يقل: صنعتم ولم تصنعوا،
إلا أن قوله: " صنعتم " تثبيت لامامته، فكأنه قال: هو إمام، لو كان
غيره كان خيرا لكم منه. وليس على هذا بنى القول (1).
ولو احتج بهذا القول الزيدية كان أشبه من أن يحتج به الطاعن
في إمامة أبى بكر حين قال: ارتد الناس كلهم عن الاسلام بإنكارهم
إمامة على، والتسليم لمن أنكر، ما خلا أربعة نفر: سلمان، والمقداد،
وأبو ذر، وبلال. ثم زعموا أن حذيفة وعمارا تابا بعد عمر.
ولئن كان بلال كما قالوا من الطعن والخلاف على أبى بكر وعمر،
لقد شاركهما حيث ولى لهما دمشق، لان عمر كان ولى بلالا دمشق،
فكان أنفذ لامره من أبى عبيدة.
وكيف يكون بلال طاعنا على أبى بكر وعمر حتى قد شهر بذلك
من بين الخلق وعمر يوليه، ويقربه ويدنيه، ويقدم إذنه، ويلحق
عطاءه بعطاء عثمان وعلى وطلحة والزبير وسعد، ويقول: " بلال
سيدنا ومولى سيدنا " ومرة يقول: " أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا ".
ولا يجوز هذا القول من عمر من يجوز طعن بلال على أبى بكر،
إلا جاهل بعمر، جاهل بأمر السلطان، وعز الخلافة.
فأما ذكرهم المقداد فما علمنا ولا علم أصحاب الآثار أنه نطق
في خلافة أبى بكر وفى نقضها، وفى خلافة على وتوكيدها، بحرف
قط، ولا وقف في ذلك موقفا، ولا قام في إنكاره [أ] وتثبيته مقاما،
وما ندري: بأي سبب ادعوه، إلا أن يكونوا ذهبوا إلى إن عليا رحمة

(1) في الأصل: " القوم ".
180

الله عليه ربما كانت له الحاجة إلى النبي عليه السلام، فيكبر النبي
صلى الله عليه ويعظمه عن مواجهته بها، فيكلف ذلك المقداد.
من ذلك حديث هشام بن عروة، عن أبيه في الرجل إذا دنا من
المرأة فأمذى ولم يمسها، فاستحيا على أن يسأل النبي صلى الله عليه عن
هذا من أجل ابنته، فقدم المقداد فسأله، فقال النبي عليه السلام:
" يغسل ذكره وأنثييه ويتوضأ ". وغير ذلك.
والأغلب علينا (1) أن المقداد لم يزل متنكرا لعلى، لان المقداد حين
خطب ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب إلى النبي صلى الله عليه، بعث
النبي إليها عليا بذلك يخبرها، وأنه قد رضيه لها، فكره على ذلك
فرجع إلى النبي صلى الله عليه، وقال: رأيتها كارهة، فأرسل النبي
إليها رسولا فقالت: أولم أخبر عليا أنني قد رضيت لنفسي بما رضى
به النبي؟! فقام النبي صلى الله عليه خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
" يا علي قم فانظر من عن يمينك وعن شمالك. واعلم أنه ليس لك
فضل على أسودهم وأحمرهم (2) إلا بالدين ". فهذا قد روى، والله أعلم.
ولم يرو عن المقداد الطعن على أبى بكر في خلافته ليؤكد بذلك
لعلى شيئا.
وأقل ما ينبغي للمتكلم أن يعرف فروق الأمور، فإنه إذا عرف ذلك
لم يتعلق من الأسباب إلا بأمتنها. فأما تجريد الباطل وكثرة الدعوى
بلا سبب، فهذا جهد العاجز.

(1) لعلها " عندنا ".
(2) الأسود والأحمر: العرب والعجم.
181

ولربما تعلقوا بالسبب الضعيف، كالذي وجدوا لعمار بن ياسر من
عداوة عثمان، وصنيع عثمان به، فلما كان عثمان عندهم في طريق عمر
وأبى بكر وفى حيزهما جعلوا طعن عمار عليه طعنا عليهما، واحتجاج
عمار لعلى احتجاجا عليهما،
ولو اجتهدت أن تصيب لعمار موقفا واحدا أو كلمة طاعنة على
أبى بكر وعمر وعثمان، فضلا عليهما قبل إحداثه، وقبل أن يجرى
بينهما ما جرى، ما قدرت عليه.
وهل كان لعمر وال أنفذ لطاعته من عمار؟! ولقد رفع عليه
جرير بن عبد الله، فجمع بينهما طمعا في ظهور حجته، والضرح عن
نفسه (1)، فلما لم يجد ذلك عنده قال: ما عندنا خير لك يا أبا اليقظان.
ومن أجل ضعف عمار في الولاية وقوة المغيرة حين شكاهما أهل
الكوفة قال عمر: " أعضل بي (2) أهل الكوفة، إن وليت عليهم تقيا
ضعفوه، وإن وليت عليهم قويا فجروه ".
فإذا كان عمار يخطب على منبر الكوفة بتوكيد إمامة عمر، ويأمر
الناس بطاعته، ويقيم الحدود والاحكام بأمره، ويفتح الفتوح بتأميره،
فيرى القتل والسبي وإحلال الفروج. غير مكره بوعيد ولا مقصور
بإيقاع، فأي دليل أدل مما حكيناه.
ولو أن طاعنا طعن في طاعة سهل بن حنيف، وعثمان بن حنيف،
وأبى أيوب الأنصاري، وأبى مسعود البدري، لعلى، هل كان عندكم

(1) الضرح: الدفع.
(2) في الأصل: " أعضابى " صوابه في اللسان (عضل 479).
182

في دفع ذلك إلا مثل ما عندنا من الدفع عن طاعة سلمان وبلال
وعمار وأقل منه.
فأما أبو ذر فزعم أصحاب الآثار أنه كان يعظم عمر بن الخطاب تعظيما
ما عظمه أحد قط. فمن ذلك أن عمر صافحه يوما فعصر (1) يده وكان أيدا،
فصاح: يا قفل الفتنة! ومسح من وجهه العرق بباطن راحته، وعمر
موعوك وهو يقول: بأبي رحضاؤك (2) لو قدمت صرنا هكذا - وشبك
بين أصابعه - أوجعتني! فخلاه وقال: ما هذا؟ فقال سمعت النبي
صلى الله عليه يقول: " لن تزالوا بخير ما كان هذا بين أظهركم ".
وقال عمر لشاب: غفر الله لك! فقام إليه أبو ذر فقال: استغفر لي!
وهو حديث فيه أمور كثيرة.
ولو لم يجئ عن أبي ذر من هذا قليل ولا كثير لكان حكمه الرضا
والتسليم، إذ لم نر منه طعنا، ولا رأينا له متوعدا.
ولو أعرضتم مائة من أصحاب النبي صلى الله عليه فقلتم: إنهم كانوا
طعانين على أبى بكر مؤكدين لخلافة على، ما كان عندنا في أمرهم
حديث قائم، ولا خبر شاهد، أكثر من أن حكم الممسك عن الطعن
والخلاف هو الرضا (3) والتسليم.
ولقد ينبغي لنا ولكم أن نتفكر في معنى كلمة سلمان (4) فقد

(1) في الأصل: " فعبر ".
(2) الرحضاء: العرق في إثر الحمى.
(3) في الأصل: " والرضا "
(4) انظر ما مضى في ص 172.
183

أكثرتم فيها، حيث قال صنعتم ولم تصنعوا، ومعنى هذا الكلام: إنكم
قد أقمتم مجزيا وتركتم من هو أجزأ منه، فيجب أن نعرف الخلل
الذي لم يسده أبو بكر... (1) التي لم يبلغها، والموضع الذي عجز عنه.
ما هو؟ وأي ضرب هو؟ إلا أن امتحن بما لم يمتحن به أحد قبله،
ولا يمتحن به أحد بعده، من قيامه في مقام رسول الله صلى الله عليه،
في عقب الذي تعود المسلمون من طريقته، وتعرفوا من سيرته في نفسه
وفى أمته، ثلاثا وعشرين سنة - وهى السيرة التي لا تحتاج إلى الاخبار
عن فضلها، والاطناب في تشريفها - فلم يغادر ولم ينحرف ولم يتغير،
ولم يؤثر (2) ولم يضعف.
وقد علمنا أن الذي عظم صغير ما كان من أمر عثمان، وشنع عظيم
ما كان منه من الضعف وغير ذلك، الذي كان من إفراط جلد عمر،
وشدة رأيه وشكيمته، ويقظته وخشونته، وثبات عزمه، وحمله
نفسه على مذهب صاحبيه قبله. ولذلك قال عن ثلاث (3): " ما قتل عثمان
غير عمر ". فالفصل الذي بين النبي صلى الله عليه وأبى بكر أكبر وأظهر
من فصل (4) ما بين عمر وعثمان. ولذلك قال عمر بن عبد العزيز: " ليس
لله ستر أكثف ولا أسبغ من ستره على الصديق حين لم يتكشف
إذ قام يعقب النبي صلى الله عليه ".
وقد تعلمون أن لو كان النبي غائبا عن المدينة في غزاة، أو حجة

(1) بياض بقدر كلمة في الأصل، لعلها " في الأمور ".
(2) في الأصل: " ولم يؤثر "
(3) كذا في الأصل.
(4) في الأصل: " وفصل ".
184

وارتدت العرب وانتقضت العهود، وظهر النفاق وماج الناس، فوثب
رجل من عرض أصحابه، فلم يزل باللين والشدة، والكف والاقدام،
والبطش والحيلة، حتى رده في نصابه، وأعاده كأحسن عادته ببذل
النفس فما دونها (1)، لقد كان صنع صنيعا عظيما، وفعل فعلا كبيرا.
فكيف برجل قام بأمر الاسلام وقد هتكت أستاره، وتقطعت أطنابه،
ومرجت عهوده (2) منفرد (3) بالرأي غير مستعين عليه، ولا مستوحش (4)
إلى غيره، بل خالفه الجميع في صوابه (5) وما أوجده الرأي، ودل عليه
النظر من عزمه، وقد أبى إلا صرامة وبصيرة وثقة، والنبي صلى الله
عليه وسلم قد مات غير مخوف ولا متوقع قدومه، فرد أهل الردة
قاطبة ما بين أعلى الحيرة، إلى شحر عمان إلى أقاصي اليمن، وقمع
النفاق بالمدينة وما حولها، وقتل مسيلمة واستفتح اليمامة، وأسر طليحة،
ثم أوطأ خيله الشام، وجند الأجناد، ومنع الحوزة، ووطأ الامر،
وقتل العدو بكل مكان. ثم لم يستأثر بدرهم، ولم يكنز دينارا،
ولم يخلف درهما، ولم يتفكه بغنيمة، وجعل عمالته مردودة على بيت مال
المسلمين، ولذلك قال عمر: " رحم الله أبا بكر لقد شق على من بعده ".
فما الشئ الذي لو كان على هو القيم به كان أجزأ منه، وبلغ منه
ما لم يبلغه. وكيف يكون على أجزأ منه ولم تغلق الفتوح إلا في زمانه،
ولم نكن الفتن إلا على رأسه، ولم تخرج الخوارج إلا عليه. وهذا

(1) في الأصل: " فيما دونها ".
(2) مرجت العهود: اختلطت وقل الوفاء بها.
(3) في الأصل: " ومنفرد ". (4) كذا في الأصل.
(5) في الأصل: " وفصوابه ".
185

باب (1) الكلام فيه على على، ولكنا إذا فعلنا ذلك فقد دخلنا
في الذي عبنا.
مع أنك لو طفت في الآفاق تطلب لكرداذ ونكرداذ (2) إسنادا (3).
ولكنا قد روينا أن سلمان قال: " أصبتم الحق وأخطأتم المعدن "
فنرى أنه إن كان قال هذا القول فإنما ذهب إلى أن الامر لو كان في
بيت النبي صلى الله عليه وعلى التوارث الأقرب فالأقرب، كان أجدر
ألا يطمع فيه ذؤبان العرب ودهاة العجم، على غابر الأيام، وتطاول الدهور.
وسلمان رجل فارسي، وهذا كان شاهد كسرى، فتوهم أن حكم
الكتاب والسنة كحكم تدبير السر (4) والقائمين بالملك، فإنما تكلم على
عادته وتربيته.
ولعمرى لقد كان في قوم قد ساسوا الناس سياسة ورتبوهم ترتيبا،
يقطع عن الطمع في الملك بآيين (5): لم يجعلوا للصانع أن ينتقل عن
صناعته إلى الكتابة، ولم يجعلوا للكاتب أن ينتقل من كتابته إلى القيادة،
ولم يجعلوا لأبنائهم إلا مثل ما كان لآبائهم، ليعودوا الناس عادة
يستوحشون معها إلى الخروج منها (6).
وإنما حسن هذا في ملكهم إذ كان بالرأي والغلبة، ولم يكن لأهله

(1) كذا. ولعله " باب يكثر " أو " باب يتسع ".
(2) انظر ما سبق في ص 172.
(3) في الكلام نقص ظاهر، تقديره " ما قدرت عليه " أو نحوه.
(4) السر: القائد والرئيس، فارسيته " سر ". وفى الأصل: " قدير السر ".
(5) الآيين: القانون، كلمة فارسية.
(6) إنما يقال: استوحش عنه ومنه: لم يأنس به.
186

أمثل من التدبير والحكم. لم يكن شأنهم الاخذ بالكتاب والسنة، وسبيل
الإمامة غير سبيل الملك.
فإن كان سلمان إلى هذا المعنى ذهب، وإياه عنى، فإنما قوله حجة
للعباسية لا للعلوية.
وسنخبر عن مقالة العباسية ووجوه احتجاجهم بعد فراغنا من
مقالة العثمانية، بغاية ما يمكن من الاستقصاء، وإنصاف البعض من
بعض، لتكون أنت المختار لنفسك بعقلك، والأقاويل ظاهرة
مجلية لذهنك، فلئن أعجزك الاختيار الأرجح بعد الكفاية إنك عن
استنباطه وتخليصه أعجز.
وقد ذكر هشيم. عن العوام بن حوشب عن إبراهيم التيمي قال:
قال سلمان حين بويع: " أصبتم حين بايعتم وحيد الناس. وأخطأتم حين
عزلتموها عن أهل بيت نبيكم، ولو وضعتموها فيهم لأكلتم رغدا ".
وهذا حكم من سلمان أن أبا بكر خير من على ومن جميع الناس،
والناس على خير الناس أصلح منهم على من دونهم.
وأخرى: أن سلمان حين قال: " كرداذ " كما زعمتم، لو لم يكن
عندكم عظيم القدر نبيل الرأي، قدوة عند الاختلاف، لم تسمعوا قوله
بهذا المكان، حتى صار مثل طعنه وخلافه، ينقض إمامة الأئمة،
وتتخذونه على خصمائكم حجة.
وإن كان سلمان على ما قد وصفتم، وبالمكان الذي وصفتم، من
الحكمة والبيان، فما دعاه إلى أن يكلم العرب والاعراب بالفارسية،
وهو عربي اللسان فصيح الكلام، وهو يعلم أنه لم يكن بحضرة المدينة
فرس ولا من يتكلم بالفارسية ولا من يفهمها. وهو إنما أراد الاحتجاج
عليهم والاعذار إليهم. وأن يقضى حق إمامة على ويقوم بشأنه.
187

وقد ينبغي لمن بلغ من صدق نيته وفرط اجتماع لبه (1) وشدة عزيمته
أن يتكلم في دار التقية (2) لا في دار العلانية، حتى خاطر بنفسه وبكل
شئ يهوله، ومن شأنه أن يفهم الحجة. ويوضح الموعظة، ويبين عن
موضع المظلمة، وإلا فسكوته (3) أحسن من الفارسية.
وكيف فهمت معناه العرب وهى لا تعرف (4) من الفارسية قليلا ولا
كثيرا، ولم يكن للنبي صلى الله عليه ترجمان يعبر عنه للفرس فيكون
ذلك الترجمان كان حاضرا لكلامه، فيفسر للناس معناه.
وكيف نقلت عنه الصحابة إلى التابعين وكل من كان بحضرة القوم
حين بايعوا أبا بكر لا يفهمون الفارسية، ويكون سلمان حين تكلم بها
استرابوا عندها فسألوه عنها ففسرها. ولو كان ذلك كذلك لحكاه
الذين نقلوا الحديث، فكان ذلك أحب إلى الروافض، لانهم إنما
نقلوه ليعرفوا من كان الطاعن على أبى بكر. والطعن كلما كثرت فيه
المراجعة والمناقضة، وطال سببه، وعرف علمه، كان أدل على الشهرة
والاستفاضة، وأن الامر كان حقا معروفا.
فواحدة أن الامر لو كان كذلك لكانت الروافض أسرع الناس إلى
حكايته، لتستشهده على الدعوى، والتقوى به الحديث، وتشد به
الحجة.

(1) اللب: ما جعل في قلب الرجل من العقل. في الأصل: " له ".
(2) بعد هذه الكلمة في الأصل ورقة بأكملها يبدو أنها قفزت إلى هذا الموضع من نهاية
الكتاب فرددتها إلى موضعها هناك منبها عليه.
(3) في الأصل: " وإلا بسكوته ".
(4) في الأصل: " وهو لا يعرف ".
188

وثانية: أن الناقلين أنفسهم كانوا سيحكونه، إذ كانوا إنما حكوا
نفس الكلمة ليعرفوا أنه قد كان هناك خلاف، ويدلونا على أن
سلمان كان ممن خالف، وممن له هذا القدر الرفيع الذي يحتج بخلافه.
وأخرى: أن ذلك لو كان قاله سلمان، وهو طعن على أبى بكر،
كان مشهورا عند عمر وعثمان، وأبى عبيدة وسعد وعبد الرحمن، وهؤلاء
عندكم شيع أبى بكر. فكيف أطبقوا على ترك التكلم على سلمان والدار
دارهم والحكم حكمهم، ومعهم الرغبة والرهبة، مع أن الجرأة (1) على
سلمان أيسر وأسلم مغبة من الجرأة على أبى بكر. وقد أطبقت على طاعته
الأمة خلا أربعة نفر: أحدهم سلمان، وليس سلمان معروفا بالنجدة
وشدة الشكيمة. ولا وراءه ظهر يمنعه، فكيف لم يزجره عن ذلك
زاجر، ولم يدفعه عن ذلك دافع، ولم يناظره مناظر، ولم يتعجب منه
متعجب، ولم يرفع ذلك رجل إلى أبى بكر كما رفعوا إليه قول خالد
ابن سعيد.
فإن قلت: إن أبا بكر كان مداريا يتسع صدره لأكثر، من هذا
كما اتسع صدره فلم يعاتب خالدا ولا أراده على بيعته. كيف سلم على حدة
حكم (2) فأين جد عمر وحده وقلة احتماله، واعتقاده لمثل هذا؟! وكيف
[سلم] طلحة مع شدة بأوه (3) وصرامته.
ولا نعلم شيئا مما ادعوه أظهر باطلا، ولا أفسد معنى من قوله
" كرداذ ونكرداذ ".

(1) في الأصل: " الحرة " بالحاء، في هذا الموضع، وبالجيم في تاليه.
(2) كذا في الأصل.
(3) البأو: الكبر ورفعة النفس.
189

وأما ما ذكرتم من ترك خالد بيعة أبى بكر ثلاثة أشهر فإن الذين
نقلوا هذا هم الذين نقلوا أن خالدا يوم توفى النبي صلى الله عليه كان
على صدقات اليمن، فقدم بعد أن بايع الناس أبا بكر، فلما دخل
المدينة استقبله عثمان وعلى فقال لهما: أرضيتم معشر بنى عبد مناف أن
يلي هذا الامر عليكم غيركم؟ فلم يذكر لنا أنهما ردا عليه قولا،
ولا أظهرا قبوله. ثم جلس عن بيعته لا يسأله ذاك أبو بكر
ولا يدعو إليه، فبينما هو كذلك إذ مر أبو بكر بدار خالد مظهرا (1).
لبعض الامر، وخالد في داره. فلم عليه أبو بكر فقال له خالد: أتحب
أن أبايعك؟ قال: أحب أن تدخل في صالح ما دخل فيه المسلمون. قال
له خالد: موعدك العشية: فأتاه وهو على المنبر فبايعه.
ففي هذا وجوه من الكلام:
منه أن خالدا لم يطعن في إمامة أبى بكر من جهة الجزء (2) والكفاية
والكمال والفضل، ولا من طريق ما تفسد به الإمامة وتنتقض به الخلافة
وإنما ذكر الحسب وطرائق (3) الجاهلية، وهذا الامر إن كان مقصورا في
قوم (4) دون قوم، فليس هو في بنى عبد مناف عامة. وإن كان ليس
[مقصورا] في قوم، وليس لقول خالد معنى، فإن كان مقصورا في
عبد مناف للشرف أو للقرابة، فالعباس أولى بذلك من على وجميع
عبد مناف.

(1) أي في وقت الظهيرة.
(2) الجزء: الكفاية والغناء، وفى الأصل: " الحرو ".
(3) في الأصل: " طرئق ".
(4) في الأصل: " ففي قوم ".
190

ولو أراد عليا لم يقل: أرضيتم بنى عبد مناف؟! لان عثمان وعليا
منافيان، بل كان يقول: أرضيتم معشر العترة، أو معشر بني هاشم
ومعشر بنى عبد المطلب. مع أنه لو قال ذلك لكان للعباس في ذلك
القول من السبب ما ليس لعلى، لان هذا الامر إن صلح أن يخرج
من رهط النبي صلى الله عليه دنيا، ومن أقرب الناس إليه، إلى أقصى
بنى عبد مناف، لصلح أن يخرج إلى أقصى بنى كلاب. فإذا كان ذلك
كذلك فتيم وعبد مناف سواء.
ومما يدلك على أن خالدا لم يقل شيئا، أن هذا الامر إن كان
إنما يستحق بالعلم والعمل والجزء (1) والغناء (2) فليس لذكر عبد مناف معنى.
وإن كان هذا الامر لافضل قريش كائنا من كان فلم يقل خالد شيئا،
وليس لذكر عبد مناف معنى.
وإن يكن هذا الامر في أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه
وعلى آله فلم يصنع خالد شيئا.
وإن يكن هذا الامر لرجل بعينه قد نصبه النبي صلى الله عليه ودل
عليه فلم يصنع خالد شيئا، لأنه كان ينبغي له أن يسير بالمنصوص
أو بالمدلول عليه.
أو يكون هذا الامر لا يصاب إلا من طريق الوراثة. فإن كان ذلك
كذلك فلم يصنع خالد شيئا، لان صاحب الوراثة أظهر أمرا وأشهر

(1) في الأصل: " الحرو " وانظر ما سبق في ص 190.
(2) كتبت في الأصل: " الغنى "
191

موضعا من أن يحتاج إلى كلمة ليست بان تدل عليه بأقرب منها من أن
تدل على خالد نفسه.
ووجه آخر: أنه قصد بكلامه إلى عثمان وعلى جميعا، ليهزهما
معا. لان هذا اللفظ الأغلب على ظاهره حب العصبية، والمحاماة على
الأحساب، وترك التخاير بالافعال، والتفاضل بالجزء (1) والكمال.
ولعله أراد عثمان دون على، أو لعله أراد نفسه والتذكير بها
والتنبيه عليها، فإنه كان أشرف من عثمان وأقدم إسلاما منه، وكان
من مهاجرة الحبشة، وكان ذا قدر عظيم. وهو ابن أبي أحيحة (2).
وكان أبو أحيحة إذا اعتم بمكة لم يعتم بها أحد، إكبارا لقدره،
وتفضيلا لحاله (3).
وكان عثمان لا يحالى... سعيد بن العاصي.
وظاهر كلام خالد وقع على عبد مناف جملة، وهو يرى أنه في السر
منهم. فإن كنتم أردتم أن تخبروا عن خلاف خالد على أبى بكر
وجلوسه عند، فلقد كان ذلك حتى راجع من تلقاء نفسه، وثاب إليه
عازب رأيه، فأناب إلى خطته، ودخل في صالح ما دخل فيه غيره.
وما كان تخلفه عن بيعته إلا ريثما ذهبت عنه حميته. وانجاب عنه...
وتيقظ من نومه.

(1) في الأصل: " والمفاصل بالحرو ".
(2) أبو أحيحة سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس. الإصابة 2163.
(3) مما يشهد لذلك ما أنشده المبرد في الكامل 197:
أبو أحيحة من يعتم عمته * يضرب وإن كان ذا مال وذا عدد
192

وما ذلك بأعجب من اجتماع الأنصار وقوله للمهاجرين الأولين:
" منا أمير ومنكم أمير!
والدار دارهم. والمهاجرون ضيفانهم ونزول
فيهم. وهم أول الناس والعدد والصلاح والرأي، فكانوا مجلبين (1)
جادين مجدين، فما هو إلا أن هجم عليه الصديق وقام فيهم مرشدا
ومحتجا [حتى] استبدلوا بالخلاف طاعة، وبالضجة إطراقا، بالانفة
خضوعا، وبالطيش حلما، وأنصتوا معا واستمعوا معا.
وكأن السائل إنما أراد تعريفنا أنه كان من خالد خلاف. فقد كان
ذلك ثم رجع إلى نفسه وعرف موضع خطئه، غير مرغوب ولا مرهوب.
وإن كان إنما أراد أن يجعل هذا وشبهه حجة في إمامة على فليس
لعلى رحمة الله عليه في ذلك من الحجة على إمامته قليل ولا كثير،
إذ لم يذكروه في شئ من أمورهم. لا في يسير أمرهم ولا عسيره.
ولو ذكروه ما كان لذكرهم دليل على أنه أولى بالإمامة من أبى بكر،
مهما عددنا عليك من خصاله التي لا يفي بها على ولا غيره.
وإنما كان يكون هذا الادخال حجة لو قلنا: إن أحدا لم يخالف
أبا بكر.
ورضى الجميع وسكونهم وصوابهم (2) لم (3) يكن ليتهيأ أبدا، حتى لا ينطق
أحد بحرف واحد لا جاهل ولا عالم، ولا عصى ولا حاسد.
وكيف يتفق إطباقهم على سكون واحد والناس من بين حاسد وراض.
وعصى وتقى، وحليم وسخيف، وغالط ومصيب، وعاقل وأحمق؟!

(1) التجليب: الصخب والتصويت.
(2) كذا في الأصل. (3) في الأصل: " ولم ".
193

وإذا كان النبي صلى الله عليه مع رجاحته على جميع الخلق لم يسلم
على أمته [من] المستجيبين له، فضلا على جاحديه والمنكرين له،
كان أبو بكر أجدر ألا يسلم من رعيته.
ولقد قام رجل إلى النبي صلى الله عليه فقال: والله يا محمد ما عدلت
في الرعية، ولا قسمت بالسوية. وقال الله: " ومنهم من يلمزك في
الصدقات (1) " وقال: " إن الذين ينادونك من وراء الحجرات (2) ".
وقال عباس بن مرداس:
أتجعل نهبي ونهب العبيد بين عيينة والأقرع (3)
فما كان حصن ولا حابس * يفوقان مرداس من المجمع
في شعر له طويل.
وقال أبو حذيفة بن عتبة (4) يوم بدر: يقتل أبناءا وأعمامنا وينهانا
عن عشيرته (5) والله لئن أدركته لألجمنه بالسيف!
وخالفوا عليه في يوم الحديبية في نحر الهدى، وحيث قالوا:
" لا نعطى الدنية مرة بعد مرة " في أمور كثيرة.
فليس في طعن الطاعن دلالة إذا كان المطعون عليه كاملا فاضلا.

(1) الآية 58 من سورة التوبة، وانظر تفسير أبى حيان 5: 55.
(2) الآية 4 من سورة الحجرات.
(3) انظر الخزانة 1: 73. والعبيد: اسم فرس العباس. عيينة بن حصن الفزاري.
والأقرع بن حابس المجاشعي التميمي. أعطاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة بعير وكان
من المؤلفة قلوبهم، وأعطى عباس بن مرداس أباعر فسخطها.
(4) الإصابة 263 من باب الكنى، والسيرة في مواضع كثيرة. وفى الأصل: " عيمه ".
(5) في الأصل " عسره "؟
194

وإجماع الناس كلهم على الصواب أمر لا ينال، ولكن إذا كانت
الأمة قد أطبقت على طاعة رجل على غير الرغبة والرهبة، ثم لم يكن
اغترارا ولا إغفالا، فلس في شذوذ رجل ولا رجلين دلالة على انتقاض
أمره، وفساد شأنه.
وليس يحتج بهذا وشبهه إلا رجل جاهل بطبائع الناس وعللهم،
ولو كان هذا وشبهه ناقضا لامامة أبى بكر. كانت إمامة على أنقض
وأفسد، لان الدنيا انكفت بأهلها عليه (1) وماجت بساكنيها...
من ولايته، وتداعت من أقطارها، تريد محاربته، حتى لقد نازعه
فيها من ليس في مثل حاله ولا شرف موضعه، ولا في فضيلة دينه
فناهضه الحرب، ونازله القتال... بيعته، والتج (2) عليه الخلاف من أهل
طاعته، وموضع الجد في عسكره، فرد بأسه في أصحابه، وصرف كيده
إلى جنده، وجلس خلى الذرع، رضى البال، [في] عجب الفاتن
وسرور المخادع، وعز المصيب، وبأو الأريب (3). ثم بعث رسولا قد اختاره
بالحكم عليه وله، وبعث خصمه رسولا قد اختاره بالحكم عليه وله.
فكان رسوله المخدوع ورسول خصمه المخادع، ثم رجعت الأمور إلى
خصمه، وانتزعت منه ومن ولده مرة بالبطش، ومرة بالحيلة.
ثم كان يرى من خلاف أصحابه واضطراب جنده وتبديل أصحابه مثل
ما يرى خصمه من طاعة خاصته. ونصرة جنده، وثبات عهد أصحابه،
فلم يكن ذلك عارا عندنا ولا عندكم على على، ولا دليلا على نقص رأيه،

(1) في الأصل: " على ".
(2) التج: اختلط. في الأصل " والفح ".
(3) البأو: الكبر والفخر.
195

وضعف حزمه، وسعة علمه وكثرة فضله، وقد أصابه من الخلاف والتعذر
وانتشار الامر، واضطراب الحبل، وظفر الأعداء وشماتة الحساد،
ما قد رأيتم، ثم قد جئتم تشبثون بطعن سلمان، وقول أبي سفيان،
وقعود خالد، كأنكم لم تعرفوا ما عند خصومكم، غرارة ونقصا.
وأعجب من هذا أنكم مرة تزعمون أن الذي حمل بنى أمية على صرف
الإمامة عن علي الضغن الذي في نفوسها، والاحقاد التي في صدورها،
لقتل على أبناءها وإخوتها وأعمامها. ومرة تعتلون وتحتجون في نقض
إمامة أبى بكر بطعن عظيمي بنى أمية في إمامته كعلى، كخالد بن سعيد،
وأبى سفيان بن حرب. وإذا شئتم كانا لكم، وإذا شئتم كانا عليكم.
وأما ما ذكرتم من قول أبى بكر: " ما كانت بيعتي إلا فلتة ".
وقول عمر: " ما كانت بيعة أبى بكر إلا فلتة وقى الله شرها " فإن
الامر على هذا واضح. والحجة فيه قائمة.
وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لما توفى كان الناس على طبقات:
من رجل مؤمن عالم، ناصح لله ورسوله.
ومن رجل مطاع ليس له علم بالإمامة، وما السبب الذي به تنعقد
من السبب الذي به تنحل.
ومن رجل مكانه في قريش أشرف من مكان أبى بكر، وليست
غايته صلاح المسلمين، إنما غايته أن يكون الامام من أقرب القبائل إليه،
ليزداد هو وقومه بذلك شرفا وفخرا.
ومن رجل له قرابة فهو يرى أنها تغنيه عن العلم والعمل.
ومن رجل شديد في بأسه، ضعيف في دينه، مخف في ذات يده
196

بعيد الهمة حامل في هدوء الناس وأمنهم، فهو لا يألو إضرام الفتنة،
وتهييج السفلة، يرى أن في الهيج ظهور نجدته، وخروجه من الخمول
إلى النباهة، ومن الاقلال إلى الاكثار.
ومن رجل دخل في الاسلام مع من دخل في دين الله، دخل من
الأفواج. لا يعرف حقيقته، ولا يستريح به إلى الثقة.
ومن رجل أخافه السيف، واتقى الذل والقتل بإسلامه ونفاقه،
كمنافقي المدينة ومن حولها من أهل القرى والبادية، يعضون على المسلمين
الأنامل بالغيظ، وهم البطانة لا يألون خبالا، يترقبون الدوائر،
وينفرجون إلى الأراجيف، ويستريحون إلى الأماني.
ومن رجل صاحب سلم، يدين لمن غلب، لا يدفع مبطلا ولا يعين
محقا. يرى أن صلاح خاصته هو صلاح العامة.
ثم الذي كان من وثوب الأنصار، وهم أهل العدد وأصحاب الدار
والأموال، على أمر لو تابعهم المهاجرون عليه حتى يكون من كل فرقة
أمير، لفتحت بذلك بابا من الفساد لا يقوى أحد على سده، ولكان
الذي يقع بين الأوس والخزرج في الامر أشد مما كان يخاف منها ومن
قريش، لان القرابة كلما كانت أمس، والجوار أقرب، كانت العداوة
على قدر ذلك.
ولو أن الأنصار حين أتاهم أبو بكر فأظهروا الشقاق والخلاف... (1)
عن الحق وجهلوه، ما كان لهم دون البوار مانع، ولكان غير مأمون
وثوب من بالمدينة ومن حولها من المنافقين وأشباههم، من الحشو

(1) بياض في الأصل بقدر ثلاث كلمات.
197

والطعام، ولكان غير مأمون أن ينضم إليهم من حول المدينة من
المرتدين، ممن بدل إسلامه ساعة بلغته وفاة النبي صلى الله عليه.
ولو صاروا إلى ذلك لكانوا أقوى من المهاجرين والأنصار، إذ كانوا
جميعا نشرا (1) وقلوبهم شتى، وبأسهم بينهم. ولكان غير مأمون
عند ذلك أن يغزوهم مسيلمة في أهل اليمامة قاطبة مع من حولها من أهل
البادية. ثم كان غير مأمون أن يستمد بجميع أهل الردة ممن نكث (2)
ونصب العداوة.
وجميع ما قلنا إنه كان غير مأمون، لم نقله إلا بأسباب قد كانت
هناك قائمة معروفة، فما عسى نقمه (3) المهاجرون والأنصار على ما وصفنا
ونزلنا.
فقد صدق أبو بكر وصدق عمر أن تلك البيعة كانت فلتة وأعجوبة وغريبة.
إذ سلمت على كل ما وصفنا من أسباب الهلكة، وهى سربخ (4)،
وليس دونها ستر ولا رد (5). فكانت بيعته يمنا وبركة أنقذ الله بها
من الهلكة، وجمع بها من الشتات، ورد بها الاسلام في نصابه، بعد
تخلعه واضطرابه. فأماتت السخيمة، وأودعت القلوب السلامة، وجمعتها
على الألفة.

(1) النشر: المتفرقون. وفى حديث عائشة: " فرد نشر الاسلام على غره " أي رد
ما انتشر من الاسلام إلى حالته.
(2) في الأصل: " لئن بكت ".
(3) كذا في الأصل.
(4) السربخ: الأرض الواسعة البعيدة الارجاء. في الأصل: " سوغ ".
(5) الرد، بالكسر: ما يرد الشئ. أنشد في اللسان:
* فكن له من البلايا ردا *
أي معقلا يرد عنه البلاء.
198

وهذه مكرمة وعطية، ولا يجوز أن يحبو بها خالق العباد إلا نبيا
أو خليفة نبي.
فأما قوله: " ما كانت بيعتي إلا فلتة وقى الله شرها "، فقول
امرئ عالم بالعواقب، عالم بأسباب الفتن، شديد الشفقة منها، حامد لربه
على السلامة منها.
أو ما علمت أن أبا بكر بينا هو يخطب على المهاجرين في مسجد النبي
صلى الله عليه، والنبي مسجى، وهو يحتج عليهم ويعرفهم سرفهم،
واعتداءهم في قولهم: إن النبي صلى الله عليه لم يمت. وقد خاف أن
يصير بهم الافراط في التعظيم، والغلو في الحب، أن يضارعوا مذهب النصارى
وخاف أن يكون آخر أمرهم أشد من أوله. وكان أشد الأمور عليه في
ذلك أن مثل عمر، وعبد الرحمن، وعثمان، هم الذين كانوا خرجوا
إلى ما لا ينبغي من القول، فبدرهم بالخطبة محتجا عليهم ومعرفا لهم مواضع
غلطهم، ونحس إفراطهم، فحين تبين لهم خطؤهم وسلموا لاحتجاجه
عليهم، أتاه آت فقال: إن الأنصار قد اجتمعت إلى سعد بن عبادة
في سقيفة بنى ساعدة، يقولون: منا أمير ومنكم أمير، فراعه ذلك،
وصور له الحزم كل مخوف، فعلم أن الداء الذي عنه نطقوا أشد علاجا
من الداء الذي نطق عنه عمر وعثمان وعبد الرحمن، والنفر من المهاجرين
الذين قالوا: إن النبي صلى الله عليه وعلى آله لم يمت، وعلم أن إبراء كل
سقم أهون من إبراء سقم الحمية والطمع في الملك، ولا سيما إذا شابهما
سوء تأويل، وضافرهما الحس بالقوة. وهذا لهو الداء العضال (1) والداهية العقام.

(1) في الأصل: " العضاه ".
199

فلما انتهى إليه أمرهم، وعرف جميع ما عليه طبائعهم وعللهم،
وطبائع أتباعهم، لم يكن شئ أهم إليه من البدار إليهم قبل أن
يستفحل الشر، ويتمكن العزم. فمر حثيثا وتبعه عمر، ولحقه أبو عبيدة
في نفر من قريش، فيمر بالناس حلقا عزين وهم يبكون ويتحدثون،
فيقبل عليهم فيقول: أنتم جلوس تفركون أعينكم وفى الاسلام العسا
البدار، وقيل البوار (1).
فلو لم يتداركهم بحيطته ويقظته وصدق حسه، وأبطأ عنهم ريثما كانوا
يتطارحون الرأي، ويستثيرون دفين الحسد حتى يتمكن ذلك الحسد،
وتتمثل لهم صورة الظفر، فلو هجم عليهم أبو بكر في ضعف من بالمدينة
من قريش، لم يكن في طاقتهم دفعهم، والدار دارهم، والبلاد بلادهم
والبادية باديتهم، ومن فيها تبع لهم، فكان من صنيع الله أن كان هو
الذائد والقائم. والحارس، والعاطف والمداوى، ولم يكلهم الله إلى نظرهم
واختيارهم، فيكون ذلك فسادهم وهلكتهم.
فإن قالوا: فما معنى قول أبو بكر للأنصار حين أتاهم: " إن هذا
الامر ليس بخلسة، قد علمتم معشر قريش [أنا] أكرم العرب
أحسابا، وأيقنها أنسابا، وأنا عترة النبي صلى الله عليه وأصله، والبيضة
التي تفقأت عنه "؟
فلم يذكر أبو بكر قريشا وأحسابها وعترة النبي صلى الله عليه والبيضة
التي تفقأت عنه، إلا وهو يرى أن له عليهم بهذا من الفضل ما ليس لهم،
ومن السبب إلى الخلافة ما ليس لهم. فقد ينبغي أن يكون لبنى هاشم على
هذا القياس من الفضل والسبب ما ليس لبنى تيم.

(1) كذا في الأصل.
200

قلنا لهم: إن أبا بكر لم يقل هذا القول وهو يريد معنى مذهبكم
فيه، مع أنكم قد قطعتم الكلام، لأنه قال: " فإنه لم يكن فينا فكان
يوبخ (1) به وإنا نحن المهاجرون وأنتم الأنصار، وإن الله لم يذكرنا
وإياكم في شئ من القرآن إلا بدأ بذكرنا قبلكم، فمنا الامراء
ومنكم الوزراء ".
فلم يقل أبو بكر: " قد علمتم يا معشر قريش أنا أكرم العرب أحسابا،
وأيقنها أنسابا، وأنا عترة النبي وأصله "، وهو يريد أن يخبر أن الرياسة
في الدين تستحق لغير الدين، والخلافة أعظم رياسات الدين، فعلى حسب
ذلك تحتاج إلى العمل الصالح.
ولكن أبا بكر خطب على قوم كانوا يرون للحسب قدرا، وللقرابة
سببا، فأتاهم من مأتاهم (2) وأخذهم من أقرب مآخذهم، واحتج عليهم
بالذي هو عندهم، ليكون أقطع للشغب، وأسرع للقبول. وليس في كل
المواضع تفسير لحجة أمثل من إظهار الجملة، وتعريف الناس الغاية،
وحملهم على أدق الحجج وأصوبها. ولربما أخفى الامام (3) كثيرا مما يريد
بالناس عنهم، للذي... من بعضهم عن فضله، وضيق صدورهم عن سعة
فضله، بل يعلم أنه لو أطلعهم طلع إرادته (4)، والذي عزم عليه من
صلاحهم، كانوا أسرع إلى طلب بغضه من عدوهم.

(1) كذا في الأصل.
(2) في الأصل: " من أتاهم ".
(3) في الأصل: " الاهتمام ".
(4) في اللسان: " وفى حديث ابن ذي يزن، قال لعبد المطلب: أطلعتك طلعه.
أي أعلمتكه، الطلع، بالكسر: اسم من اطلع على الشئ. إذا علمه ".
201

وقد دل أبو بكر على مذهبه في الأحساب في أول خطبة خطبها
على المهاجرين والأنصار. حين قال في كلامه:
" وعليكم بتقوى الله، فإن أكيس الكيس التقوى، وأحمق الحمق
الفجور، وإني متبع ولست بمبتدع، فإن أحسنت فأعينوني، وأن
زغت فقوموني، أيها الناس إنه لم يدع الجهاد قوم قط إلا ضربهم
الله بذل، ولم تشع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم بالبلاء، أيها
الناس اتبعوا كتاب الله، واقبلوا النصيحة، فإن الله يقبل التوبة،
ويعفو عن السيئة، واحذروا الخطايا التي لكل بني آدم منها نصيب،
ولكن خيرهم من اتقى الله، واتقوا يوما لا ينفع فيه حميم ولا شفيع يطاع ".
ألا تراه ذكر جميع بني آدم ثم قال: ولكن خيرهم أتقاهم كما قال الله:
" إن أكرمكم عند الله أتقاكم " ثم قال: " اتقوا يوما لا ينفع فيه حميم
ولا شفيع، فقد أخبر عن نفسه ومذهبه في ذلك المقام بغاية ما يتكلم به
أصحاب التسوية. فكأن أبا بكر إنما قال: فإن كان هذا الامر معشر
الأنصار إنما يستحق بالحسب، ويستوجب بالقرابة فقريش أكرم منكم
حسبا، وأقرب منكم قرابة، وإن كان إنما يستحق بالفضل في الدين
فالسابقون الأولون من المهاجرين المقدمون عليكم في جميع القرآن أولى به
منكم. لان أبا بكر ذكر في صدر كلامه الحسب والقرابة، وفى عجزه
فضل المهاجرين على الأنصار. فلما أبصر القوم وجه الحجة، وقررهم بما لم
يزل عليه قبل ذلك طبائعهم، لحقوا بالطاعة وأعطوا المقادة.
وكيف يكون كبار الأنصار أفضل من كبار المهاجرين، وقد سبقهم
المهاجرون وأسلموا قبلهم بالسنين قبل السنين، والأنصار بعد على دين
202

آبائهم، وعبادة أصنامهم. ثم الذي لقى المهاجرون في الله ببطن مكة
والأنصار وادعون في بيوتهم، رافهون في ديارهم، ناعم بالهم،
خلى سربهم (1) لذيذ عيشهم، ثم هاجروا إلى دارهم فكانوا معا
في العبادة والجهاد، إلا ما فضلوا به من وحشة الاغتراب، وفراق الدار
والأحباب، فللمهاجرين مثل ما للأنصار، وقد بانوا بسابقتهم. وإنما قدموا
في القرآن لتقدمهم في الاسلام.
وكما أن المهاجرين الأولين ليسوا كغيرهم من المهاجرين، وكما أن
من أسلم بعد الفتح ليس كمن أسلم قبله، فكذلك ليس من أسلم والناس
كلهم كفار غيره، كمن أسلم وقد أسلم الناس قبله.
وأنت إذا تأملت قول الصديق للأنصار: " إن هذا الامر ليس
بخلسة " علمت أنه كان ثابت الجنان، رابط الجأش، واثقا بالحجة.
عارفا بمواضع الإمامة، وإنما كانت غايته تقريرهم بفضيلة المهاجرين،
لانهم إذا صاروا إلى ذلك فلا حاجة به إلى ذكر نفسه وتعريفهم فضله،
لان تبريزه كان بينا على المهاجرين، وفضله كان ظاهرا على السابقين.
والدليل على ذلك أن خوض الأنصار وكلامها لم يكن إلا فيما بين
جملة الأنصار وجملة المهاجرين، قالوا: منا أمير ومنكم أمير. فما هو
إلا أن قررهم بفضيلة المهاجرين فلم يكن لهم بعد ذلك متكلم، حتى
أطبقوا جميعا على بيعته هم والمهاجرون من بين جميع المهاجرين - فلا يستطيع
أحد أن يدعى أن إنسانا قال من الأنصار: فإن كان لابد أن يكون
منكم الامراء فليكن فلان، فإنه أفضل وأحق بقرابة أو بعمل -
فسكتوا معا سكتة واحدة، وسلموا معا تسليما واحدا.

(1) السرب، بالفتح: الطريق والوجه والرأي.
203

ولو أن الأنصار كانوا قد سلموا للمهاجرين في البدء فلم يفارقوا
ولم يتمادوا، وكانوا كالمهاجرين في إطباقهم على أن الامام منهم ما كان
ليظهر للناس من شهامة أبى بكر وصرامته واجتماع نفسه وقوة منته،
وجلد رأيه، وقلة حيرته وتضجعه (1) مثل الذي ظهر لهم. وإنما يعرف
العاقل فضل العاقل في مضايق الأمور، وساعة الجولة، والعجلة والحيرة،
وظهور الفتنة، وموجان السفلة، واضطراب العلية (2) واختلاط الخاصة
بالعامة.
فهل أعضل به داء فلم يسد ثغره (3)، أم هل نجم بلاء فلم يتول قمعه؟!
وزعمت (العثمانية) أن أحدا لا ينال الرياسة في الدين بغير الدين.
ولو جاز أن يعطى الله رجلا عطية ويفضله على غيره لنسبه، وعملهما سواء
في دار الدنيا، جاز أن يفضله عليه في الآخرة.
وليس ذلك كالمعافى والمبتلى، لان العافية والبلاء، والشكر
والصبر، والثواب على الطاعة بهما والعقاب على المعصية فيهما، إذا وازنت
بين عواجل أمورهما وأواجلها من كل وجوهها، رأيتهما سواء لا فضل
بينهما.
وكذلك شأن المملوك والمالك، والفقير والغنى، والمبتلى والمعافى.
فإن كان القريب القرابة والبعيد القرابة سبيلهما في النقص والفضل،
والصبر والشكر، والثواب والعقاب، وجميع حلاتهما في العاجل والآجل،
كالمعافى والمبتلى، والمالك والمملوك. والفقير والغنى، فليس بين القريب

(1) تضجع في الامر: تقعد ولم يقم به.
(2) في الأصل: " الغلبة ".
(3) في الأصل: " فلم يسبر بعره ".
204

والبعيد فرق، وليس لقرابته فضيلة على غيره، ولا ينفعه شئ إلا كما
نفعت المعافى والغنى في ظاهر أمرهما، وما يقع العيان عليه منهما، وهما
في الغنى والمصلحة، والنظر والصنع، سواء.
وليس على هذا بنى القوم أمرهم في القرابة، لانهم زعموا أن القرابة
سبب للرياسة في الدين، ولو قالوا إنها سبب للقدر والنباهة في الدنيا
كان ذلك وجها، كما ترى من فضل حال المنيع الرهط، الجميل الرواء،
والمعافى في بدنه الكثير المال، على الذليل الرهط الذميم في روائه،
المبتلى في بدنه، القليل ذات اليد، وهما في مغيب أمرهما. وفيما لا يقع
العيان عليه من شأنهما، سواء في صنع الله وفضله وعائدته.
[وإنما] كان لنا أن نزعم أن القرابة تنفع في الدين والحسب
فتكون سببا إلى الرياسة فيهما، أن لو كنا رأينا من عظم قدر القرابة
ونبل من أجله (1) نال الرياسة الكبرى بالحسب. فإذا رأينا النبي صلى الله
عليه لم يستحق ذلك الموضع البائن العالي إلا بالفضل دون المركب (2)
كان من مت بقرابته أجدر ألا ينال الرياسة إلا بالفضل دون المركب،
لان النبي صلى الله عليه لو كان نال ذلك بالهاشمية كان هو ورجل من
عرض بني هاشم سواء.
ولو كان ناله بعبد المطلب لكان ولد عبد المطلب لصلبه أقرب إليه.
وقد نعلم أن ذلك لو كان لشخص بالهاشمية أو بالمطلبية لكان لعلى
في ذلك ما ليس لأحد، لأنه ابن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم،
وأمه فاطمة ابنة أسد بن هاشم.

(1) كذا في الأصل.
(2) المركب: الأصل والمنبت، هو كريم المركب، أي كريم أصل منصبه في قومه.
205

فلما وجدنا الامر كما ذكرنا، علمنا أن النبي صلى الله عليه لم
يصيره مستحقا لأعظم الرياسات وأشرف المقامات إلا بالعمل، إذ كنا
قد وجدنا من يساويه في الهاشمية لا يستحق مثل ماله.
وزعمت (العثمانية) أن لها في التسوية بين القريب والبعيد حججا
كثيرة، قد عرفتها وسمعتها من أهلها.
ولكن كتابي هذا لم يوضع إلا في الإمامة، ولربما ذكرت من المقالة
والملة (1) والنحلة التي تعرض في الإمامة صدرا، طلبا للتمام، وتعريفا
لوجوه الإمامة وما دخل فيها.
والكلام في التسوية كلام يدخل في باب التعديل والتجوير، وهو
باب يشتد الكلام فيه ويغمض، فإن أخبرنا عن فرعه ولم نخبر عن
أصله لم ينتفع القارئ به، وصار وبالا عليه.
وقد زعم ناس من (العثمانية) أن الله بفضله ومنه كفى أكثر
الناس مؤونة الروية، وتكلف غامض الكلام في التسوية، فأخبرهم
في كتابه بأبين الكلام وأوضحه عن معاني التسوية، وما يجوز في
عدله وحكمته. فقال وهو يريد أن يعلم الناس أنهم لا ينتفعون بصلاح
آبائهم، ولا يضرهم فساد رهطهم فقال: " وإبراهيم الذي وفى.
ألا تزر وازرة وزر أخرى. وأن ليس للانسان إلا ما سعى (2) ".
فإذا كان كون الانسان ابن نبي وابن خليفة نبي، أو ابن عم
نبي ليس من سعيه، فقد أخبر أنه لا شئ له في ذلك حين قال:

(1) في الأصل: " والعلة ".
(2) الآيات 37 - 39 من سورة النجم.
206

" وأن ليس للانسان إلا ما سعى " فالسعى معروف، والكون من رهط
دون رهط ليس من سعى المرء في شئ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه
لقرابته حين جمعهم " يا عباس بن عبد المطلب، ويا صفية بنت
عبد المطلب، ويا فلان ويا فلان، إني لا أغنى عنكم من الله شيئا ".
ولو أن إنسانا من القرابة إذا هو عصى وعصى غيره بمثل معصيته
غفر الله [له] لقرابته، ولم يغفر للآخر، وكان إذا أطاع وأطاع غيره
بمثل طاعته أعطاه الله أكثر مما يعطى الآخر، لكانا إذا استويا فلم
يطيعا جميعا ولم يعصيا، فكانا إما طفلين وإما مجنونين وإما نائمين،
وإما ساهيين، أعطى القريب وفضله، ولم يعط الآخر شيئا ولم يسو
بينه وبين من لم يطع ولم يعص، كما لم يطع القريب ولم يعص، لم يكن
النبي صلى الله عليه ليقول لعمه وعمته: إني لا أغنى عنكم من الله شيئا.
ولذلك قال النبي صلى الله عليه: " المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى
بذمتهم أدناهم ".
ولذلك قال النبي صلى الله عليه: الناس كلهم سواء كأسنان المشط.
والمرء كثير بأخيه. ولا خير لك في صحبة من لا يرى لك مثل
ما يرى لنفسه.
ولذلك قال حين بلغه أن عيينة قال: أنا ابن الأشياخ، أنا عيينة بن حصن
بن حذيفة بن بدر بن عمرو، قال النبي صلى الله عليه: " أشرف الناس
يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ".
ولذلك أخذ وبرة من جنب بعير يوم حنين فقال: " والذي نفسي
بيده ما أنا بهذا أحق من رجل من المسلمين ".
207

وقد قال الله: " واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا ولا يقبل
منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون (1) "، فلم يستثن من جميع
النفوس نفسا واحدة، لا ابن نبي ولا ابن عمه.
وقال الله: " يوم لا يغنى مولى عن مولى شيئا (2) ". والمولى
كلمة واقعة على جميع، فمنه ابن عم المرء، ومنه خليفته. ومنه مولاه
من فوق، ومنه مولاه من تحت، ومنه مولاه الذي ملكه قبل عنقه.
فإذا قال الله: " يوم لا يغنى مولى عن مولى شيئا " فقد دخل فيه
ابن العم وغيره، ولم يستثن الأنبياء دون المسلمين.
وقال: " يوم لا ينفع مال ولا بنون. إلا من أتى الله بقلب سليم (3) "
وقال: " يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزى والد عن
ولده، ولا مولود هو جاز عن والده شيئا (4) " ثم قال: " إن وعد
الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور ".
فمن اغتر بعد هذا بالقرابة واتكل على غير العمل الصالح فقد رد تأديب
الله وتعليمه.
ثم الذي رأينا من قصة ابن آدم حين قرب من أخيه قربانا فتقبل
من أخيه ولم يتقبل منه. فقتله حسدا له وبغيا عليه. وكيف لم تنفعه
قرابته من آدم حيث لعنه الله وبرئ منه، وجعله من أصحاب النار،
ثم قال: " وذلك جزاء الظالمين (5) ".

(1) الآية 48 من سورة البقرة.
(2) الآية 41 من سورة الدخان.
(3) الآية 88 - 89 من سورة الشعراء.
(4) الآية 33 من سورة لقمان.
(5) من الآية 29 في سورة المائدة.
208

لكي لا يتكل أحد ظالم بعده على قرابته، ولا يغتر بأن يكون
ابن نبي، ولذلك أرسل الكلام على مخرج العموم. ولم يخرجه ذلك
المخرج إلا وذلك إرادته.
فإن قالوا: إنه لم يكن لصلبه، ولو كان لصلبه لنفعه ذلك عنده.
قلنا: إنه ليس لأحد سمع الله يقول: " واتل عليهم نبأ ابني
آدم " أن يجعلهما من عرض بني آدم بعد سبعين قرنا إلا بحجة.
وإن لم تكن له في ذلك حجة فليس له أن يزيل معنى ابن عن
أصله (1)، لان الأصل المستعمل الموضوع أن يكون الابن للصلب، فإنما
جاز أن يقال لابن الابن على التشبيه بالابن، [و] على الحمل عليه.
وكذلك الابن الذي هو على التبني والتربية، لان رجلا لو قال:
أتاني فلان بن فلان، لم يكن لاحد أن يقول: إنه لم يعن ابنه وربيبه،
إلا بحجة، وإلا فالكلام موضوع على أصله وعلى المستعمل المعروف منه.
ثم صنيع الله بابن نوح. وهو كما علمت من أعظم الأنبياء قدرا
ومنزلة ومكانا، حين عصى فيمن عصى، كيف غرقه فيمن غرق (2)
ممن لا قرابة له ولا ولادة.
فإن قالوا: إنه لم يكن ابنه، لان (3) الله قال: " إنه ليس من
أهلك إنه عمل غير صالح (4) "، وذكر امرأة نوح وامرأة لوط فقال:

(1) في الأصل: " عن صلبه ".
(2) في الأصل: " كيف عرفه فيمن عرف ".
(3) في الأصل: " إلا أن ".
(4) الآية 46 من سورة هود.
209

" كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من
الله شيئا (1) ".
قيل لهم: إنه ليس لنا أن ندع قول الله: " ونادى نوح ابنه ".
إلى تأويل مختلف فيه. ولقولة الخيانة مخارج غير تأويلكم، وقد
تفجر المرأة بعد أن صح منها لبعلها ولد كبير. وفى قوله: " فلم
يغنيا عنهما من الله شيئا " دليل أن محبتهما كان الصفح عن خيانتهما.
وأن محبتهما لم تغن (2) عنهما شيئا.
ولا يشبه قولكم [في] نساء الأنبياء الذي نعرف من حسن اختيار
الله لهم من طيب المناكح، وطهارة المداخل، وهذا معنى طبائع الناس.
لم يكن الله ليترك امرأة نبي تصير إلى تهجينه والتصغير بقدره، لان
الرسالة منظفة مصفاة، لا تحمل الأقذاء، ولا تعلق بها الأدناس،
ولا يطوق (3) المبطلين عليها الاعتماد.
وفى قول الله لإبراهيم، وهو شجرة الرسالة، وخليل رب العزة
حين يقول له: " إني جاعلك للناس إماما (4) " قال إبراهيم إما مستقيما
وإما طالبا: " ومن ذريتي " قال: " لا ينال عهدي الظالمين ".
وأخبر أن عهد إمامته وخلافته لا ينال الظالم وإن كان من خير
خلق الله.

(1) الآية 10 من سورة التحريم.
(2) في الأصل: " لم تغنيا ".
(3) طاق الشئ يطوقه: أطاقه وقدر عليه.
(4) من الآية 124 من سورة البقرة.
210

ففي هذا دليل أن الرياسة في الدين لا تنال بغير الدين.
وقال الله: " ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة
والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون (1) " ألا ترى أن الذرية
وإن كانت كلها ذرية ومكانها من القرابة سواء، فمنها ولى ومنها عدو.
فإن تركوا هذا جانبا وقالوا: كيف تزعمون أن أبا بكر كان يرى
التسوية، وكان لا يرى أن الفروسية أصل للامامة، والقرابة شعبة عن
الخلافة. ولم يكن في الأرض رجل أبعد من هذا المذهب من خاصته
وخليفته وصنيعته. والمحتذى على مثاله، عمر بن الخطاب، لأنه فضل
القرشيات من نساء النبي صلى الله عليه على غيرهن، وفضل العرب
في العطاء على الموالى. وقال: " زوجوا الأكفاء " وكان أشد منه
في أمر المناكح.
قيل لهم: إنه لم يكن على ظهر الأرض رجل كان أبعد مما قلتم
من عمر، ولا [ظهر] منه - خلاف ما ادعيتم - مثل الذي ظهر منه.
والدليل على غلطكم وخطأ قولكم، أن عمر لما فرض الأعطية ودون
الدواوين وقام إليه أبو سفيان بن حرب، وحكيم بن حزام، فقالا:
يا أمير المؤمنين، أديوان كديوان بنى الأصفر (2)، إنك إن فعلت
ذلك اتكل الناس على الديوان وتركوا التجارات والمعاش! فقال عمر:
قد كثر الفئ والمسلمون.
ففرض للمهاجرين ومواليهم، وللانصار ومواليهم، ممن شهد بدرا

(1) الآية 26 من سورة الحديد.
(2) بنو الأصفر هم الروم. انظر ابن خلكان في ترجمة ياقوت بن عبد الله الرومي 2: 209.
211

في ستة آلاف ستة آلاف (1) فكان عطاء عمر وعلى وعبد الرحمن وطلحة
والزبير وأبي عبيدة بن الجراح، وعطاء بلال وسالم مولى أبى حذيفة
وجميع الموالى سواء.
ثم فرض على قدر الفضل والغناء والسابقة، على قدر بعد الدار
وقربها من المهاجر، ففرض لأهل اليمن في السبعمائة إلى الألف، وهم
أبعد خلق الله منه ومن مضر أرحاما ونسبا، وإنما أرغبهم وزادهم لبعد
دارهم من المهاجر (2)، وكانوا أهل قرى ومزارع، فتركوا مطنبهم (3)
رغبة في الهجرة.
وفرض لمضر وبلى وكلب وطئ في الثلثمائة إلى الأربعمائة، فتسويته
بين مضر وطيئ دليل على ما قلنا.
وفرض لربيعة في خمسين ومائتين وقال: إنما هاجروا من أطناب
بيوتهم. وربيعة أمس به وبمضر من بلى وطيئ.
وفرض لاشراف الأعاجم: لدهقان نهر الملك (4)، وهو فيروز بن
يزدجرد، ولابن المخبر خان (5) ولخالد وجميل ابني بصبهرى (6)

(1) في الأحكام السلطانية لأبي يعلى 222 أنها خمسة آلاف درهم في كل سنة.
(2) في الأصل: " المهاجرين ".
(3) المطنب: موضع الإقامة، يقال طنب بالمكان تطنيبا: أقام به. في الأصل: " يصبهم "
وانظر ما سيأتي.
(4) نهر الملك: كورة واسعة ببغداد كانت تشتمل على ثلثمائة وستين قرية، على عدد أيام
السنة. ياقوت.
(5) كذا، وفى الطبري " النخيرجان ". انظر 1: 1038، 2419 - 2422،
2439، 2599، 2627 طبع ليدن.
(6) انظر البيان 2: 263.
212

دهقان الفلوجة، ولبسظام بن نرسي دهقان بابل، وجفينة العبادي،
ورفيل (1) في ألفين ألفين.
وفرض للبوسحتان (1)، والهرمزان، ولسياه وخش (2) وأمقلاس
في ألفين وخمسمائة، وهو أقصى شئ أخذه عربي قط، فقيل له في ذلك،
فقال: قوم أعاجم أشراف، أحببت أن أتألف بهم غيرهم.
وفرض لسوى هؤلاء النفر من العجم من الحاشية والعوام ممن سبى
وأسر وخرج في الصلح مع رئيسه وقائده، في أقل مما فرض للأعراب
وحاشية العرب وعوامهم، فقيل له في ذلك فقال: إن الاعرابى إلا
يقاتل عن دينه قاتل عن رهطه وشقه وناحيته، وإن لم يكن ذا بصيرة
في دينه قاتل محاماة عن حسبه وأصحابه، وقد أمنت تحوله إلى عدوه
فأقل ما عنده إذا لم يبل أن يكثر السواد ويكثف الجيش. وهو على حال
أفقه في الدين، وأفهم للتأويل، والعجمي ليس بذى بصيرة في الاسلام
ولا يقاتل عن داره، ولا يحامى عن حسبه، ولا يدافع عن رهطه
وغير مأمون عليه التحول إلى أصحابه فيدل على العورة، وهو أجدر
ألا يفهم تنزيلا ولا تأويلا.
وحمل قوما في البحر وآخرين في البر، ففضل على قدر المؤونة،
وأعطى على قدر المشقة.

(1) كذا في الأصل.
(2) سياه وخش معناه في الفارسية الأسود العين. استينجاس 713. وهو سياوخش
ابن مهران بن بهرام شوبين الرازي. الطبري 4: 253.
213

فهكذا كانت عطاياه، وهكذا كان تدبيره فيما نقلت العلماء وروت
الفقهاء، ولا يشك في ذلك صاحب خبر، ولا يدفعه صاحب أثر.
فأما ما ذكروا من تهجينه أمر العجم. وتعظيمه أمر العرب، فإنما
كان ذلك لأنه لما ندب الناس إلى قتال كسرى والأساورة تثاقلت عن
ذلك العرب والاعراب وجميع المهاجرين والأنصار، هيبة لناحية كسرى
والفرس، وخفوا لغزو الروم ونشطوا له، حتى انتدب أبو عبيد الثقفي
أول من انتدب، فلذلك عقد على كبار المهاجرين الأولين،
والأنصار، والبدريين، فلم يكن له هم إلا تصغير أمرهم وتهجين شأنهم
والحط من أقدارهم ليرد ذلك من نفوس العرب.
وهكذا ينبغي أن يكون تدبير المدبر.
أو ما علمت أن المغيرة بن شعبة لما سمع قيس بن مكشوح يقول
حين عاين الفرس: وما رأيت كاليوم حديدا ولا عديدا! وهذا يوم
القادسية، وقد كان قيس شهد قبل القادسية حروب الروم، وقيس
يومئذ على الخيل، والمغيرة على الرجالة، فأقبل عليه المغيرة منتهرا له
وهو يقول: إنما هذا زبد من زبد الشيطان (1)!
وقد كان المغيرة قد عاين مثل الذي عاين قيس، ولكن التدبير
كان غير الذي ذهب إليه قيس.
ومن الدليل على ما وصفنا من تدبير عمر، تركه الاستخفاف بأقدار
العجم وإظهار احتقارهم والإزراء بهم، بعد جلولاء (2).

(1) الزبد، بالفتح: الرفد والعطاء.
(2) كان بها الوقعة المشهورة للمسلمين على الفرس سنة 16 قتلوا منهم مائة ألف.
معجم البلدان والطبري 4: 179.
214

فمن ذلك أنه لما أتى بسيف كسرى وقبائه ومنطقته ألبسه سراقة
ابن مالك بن جعشم، ثم قال له: أدبر، ثم قال له: أقبل، فلما
أقبل عليه عمر وعنده الناس فقال: أما والله لرب يوم لو كان هذا
من كسرى وآل كسرى لكان شرفا لك ولقومك، في أمور كثيرة
من هذا الضرب لم يكن عمر لينطق بحرف منها وحربهم مخوفة،
ونفوس العرب لهم هائبة.
وهكذا تدبير الخلفاء ولكن أكثر الناس لا يعلمون، ولو كانوا إذا
لم يفهموا عن الأئمة لم يعترضوا عليهم ولم يخطئوهم ولم يجهلوهم كان أيسر.
ولا أعلم في الأرض جيلا أجهل بهذا وشبهه ممن ينتحل اسم الكلام
وينصب نفسه للخصومات. ثم الروافض خاصة، ليس يعرفون من أمر
الامام إلا أنه يعلم ما يكون قبل أن يكون.
ومن الدليل على ما وصفنا به عمر، قوله لسعد بن أبي وقاص
حيث وجهه إلى القادسية وأوصاه، قال: يا سعد سعد بن وهيب (1) إن
الله عز وجل إذا أحب عبدا حببه إلى الناس، فاعتبر منزلتك من الله
بمنزلتك أن يقال خال رسول الله صلى الله عليه، فإن الناس في ذات
الله سواء.
فأي قول أجمع وأدل، وأي فعل أشبه بالذي حكينا عنه من
التسوية، من هذه الأقاويل (2) والأفاعيل.

(1) هو سعد بن مالك بن وهيب - أو أهيب - بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب
انظر ما مضى في ص 56.
(2) في الأصل: " الاوايل ".
215

وكان سعد خال النبي، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وقد أخذ
بيده: " هذا خالى أباهى به فليأت كل امرئ بخاله ".
وفى قول عمر في المناكح " ليس شئ من خصال الجاهلية إلا وقد
تركته، ألا إني لست أبالى إلى من نكحت، وإلى من أنكحت " فإن
شئت أن نقول: وأي أمر هو أوجب على العاقل المسلم الحر من ألا يبالي
إلى من نكح وأنكح؟
قلت: وإن قلت إن هذا الكلام من عمر يدل على بقية عصبية فيه.
فما تبرأ (1) إليك منه حين جعله (2) من خصال الجاهلية إلا وهو آب له
وناه عنه، وزار عليه. وفى قوله هذا دليل على أنه قد اكترث لبقية عادة
الجاهلية، وأنه راغب عنهما كما رغب عن أكبر منهما.
وفى قوله لعبد الله بن عمر حين فرض له في ألفين وفرض لأسامة
في ألفين وخمسمائة، وابنه قرشي وأسامة مولى، حين قال له عبد الله:
أتفضل على أسامة في العطاء وأنا وهو سيان؟ قال: إن أسامة كان أحب
إلى رسول الله منك، وكان أبوه أحب إلى رسول الله من أبيك.
ألا ترى أنه يدور مع الدين حيثما دار؟!
وفى قول عبد الله بن عمر لأبيه، تفضل على أسامة في العطاء وأنا
وهو سيان، دليل على أن القوم كانوا لا يعرفون إلا الدين والسابقة، والغناء
عن المسلمين.
وفى وصيته عند وفاته أن يصلى عليه صهيب، وفى أمره إياه بالصلاة

(1) في الأصل: " فقد يبرى ".
(2) لم يظهر من هذه الكلمة في الأصل إلا الحرف الأول.
216

بالناس في مقامه إلى أن يختار المسلمون رجلا، دليل على ما قلنا.
وصهيب مولى لعبد الله بن جدعان.
والدليل على أن صهيبا رجل من العجم قول رسول الله صلى الله عليه:
" بلال سابق الحبشة. وسلمان سابق فارس، وصهيب سابق الروم ".
وهذا حديث لم يختلف فيه فقيهان.
وفى خروج آذنه وحاجبه يوما إلى الناس، وقريش والعرب جلوس
ببابه ينتظرون إذنه، فيهم أبو سفيان بن حرب، وسهيل بن عمرو، وحكيم
ابن حزام. والأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن، فنادى بأعلى صوته:
أين عمار؟ أين بلال؟ أين صهيب؟ أين سلمان؟ فينهضون مكرمين ومفضلين.
وعلى الناس مقدمين، وتلك الجلة وتلك السادة جلوس لا ينطقون
ولا ينكرون، فلما كثر ذلك عليهم تمعرت وجوههم، وامتقعت ألوانهم،
فأبصرهم سهيل فعرف ما قد أصابهم ونزل بهم. وكان حليما خطيبا فقال:
لم تتمعر وجوهكم وتتغير ألوانكم، ولا ترجعون باللائمة على أنفسكم؟!
دعينا ودعوا، فأبطأنا وأسرعوا، ولئن حسدتموهم على باب عمر للذي
أعد الله لهم في الجنة أفضل (1)!
ثم الدليل الذي ليس فوقه دليل، قوله وعنده أصحاب الشورى وكبار
المهاجرين وجلة الأنصار، وعلية العرب، وهو موف على قبره ينتظر
خروج نفسه: " لو كان سالم حيا ما تخالجني فيه الشك ". وسالم مولى
امرأة من الأنصار، وكان حليفا لأبي حذيفة بن عتبة بمكة. فلذلك كان يقال:
مولى أبى حذيفة، لان حليف الرجل مولاه.

(1) انظر ما مضى في ص 178 - 179.
217

فإن كان هذا لا يدل على التباعد من الحمية والاعرابية والعصبية.
ولا يدل على التسوية. فما عندنا ولا عند أحد شئ يدل على شئ! وإذا
كان هذا مذهبه وقوله في الخلافة فما ظنك به فيما دون الخلافة؟!
وهذا باب إن استقصيناه كثر وشغل الكتاب. وفيما قلنا مقنع
لمن كان الحق له مقنعا، والصواب له مألفا.
فهل يقدر أحد أن يحكى عن علي مثل الذي حكينا عن عمر
في التسوية، أو شطره؟!
إن أكبر ما رأينا في أيديكم عنه قوله: " إنني قرأت ما بين دفتي
المصحف فلم أجد فيه لبنى إسماعيل على بنى إسحاق فضلا ".
فهذا قول إن قاله على فليس فيه دليل أنه أراد به الطعن على عمر
وإظهار خلافه، لان عليا قد ملك أكثر الأرض خمس حجج، فلو كان
رأيه في خلاف عمر على ما تصفون، وكان عمر عنده لا يرى التسوية في
العطاء، لقد كان غير دواوين عمر، وبدل أعطيته وفروضه وحولها
إلى الحق عنده، أو نطق فيها بحرف، أو أظهر ذلك في هيئته (1) إن لم ينطق به
خطيبا ومحتجا.
وكيف يكون ذلك ولا أحد أعلم بصواب ما دبر عمر في ذلك من على؟!
وكيف يكون عمر لا يرى التسوية وقد صنع صنيعا لو قام مقامه أشد الناس
سعيا - ما لم يجر عن الحق ويعدل عن السداد - ما كان عنده ولا في طاقته
أكثر منه.
والعجب أنكم تزعمون أن عليا كان يرى التسوية، وأن عمر صاحب

(1) في الأصل: " هنه ".
218

حمية، فأنتم تروون أن أكثر احتجاجه إنما كان بذكر قرابته وأمتن
أسبابه ومصاهرته، مع أن القرابة هي التي أخرجتكم إلى هذا الافراط
كله، فأنتم تحبون بني هاشم وتفضلونهم للقرابة، وتوجبون لهم الإمامة
للقرابة، ثم تزعمون أن عليا كان يرى أن ولد إسماعيل وإسحاق سواء.
وكان يرى أن العرب والعجم سواء.
وكيف غضبتم على عمر لأنه فضل قريشا على العرب، والعرب على
العجم، ولم تغضبوا على أنفسكم حين فضلتم بنى عبد المطلب على بني هاشم،
وفضلتم بني هاشم على بنى عبد شمس؟!
ففضلوا أيضا بنى عبد شمس على سائر قصي، وسائر قصي على سائر
كعب، وسائر كعب على سائر قريش، وكذلك سائر قريش على سائر
مضر، وكذلك سائر مضر على ربيعة، وربيعة على ولد إسحاق، وولد
إسحاق على ولد قحطان.
وإن شئتم ففضلوا ربيعة على اليمن، واليمن على العجم. وإذا أنتم
قد دخلتم في كل ما عبتم.
فأما أن تفضلوا من شئتم على من شئتم - وإن كان من لم تفضلوا
في القياس كمن فضلتم - فليس ذلك لكم، لان القياس قد اعترض دون
مشيئتكم وقضى عليكم.
ولو أن قائلا قال: أنا أزعم أن الناس كلهم بعد بنى عبد المطلب لصلبه
سواء، كما قلتم إن الناس كلهم بعد بني هاشم سواء، ما كان (1) الذي قال
أمس بالرسول وأولى بالحكم. فإن قلتم: فمن أين كان له أن يقف على

(1) في الأصل: " كما أن "
219

جد عبد المطلب وليس بينه وبين هاشم إلا أب؟ فيقال لكم (1): وكيف
كان لكم أن تقفوا على جد هاشم وبين هاشم وعبد مناف أب واحد؟
وكيف كان لكم أن تقطعوا التفضيل وحق القرابة من لدن هاشم،
وهاشم وعبد شمس أخوان لام وأب؟! ولذلك قال الشاعر:
عبد شمس كان يتلو هاشما * وهما بعد لام وأب
فاجعلوه يتلو هاشما في حق القرابة واستحقاق الإمامة. وإذ جاز عندكم
أن تتخطى الإمامة العم إلى ابن العم كان [ذلك] في الأخ للام وللأب
ثم زعمتم أن الدليل على أن عمر صاحب عصبية وحمية، رده
لسلمان حين خطب إليه ابنته، وسلمان كان أعقل من أن يخطب إلى
أبى بكر وعمر وعثمان وعلى.
قلنا: جوابنا في هذا في خطبته إلى علي، وإن كان على أشرف
موضعا. مع أن القائم عن سلمان أنه كان يقول: قال لي النبي صلى
الله عليه: " يا سلمان لا تبغض العرب فتبغضني ". وكان يقول: أمرنا
أن نأتم بكم ولا نؤمكم، وأمرنا أن نزوجكم ولا نتزوج منكم.
فليس في الأرض متعرب وصاحب عصبية إلا وأكبر ما يحتج به
في المناكح حديث سلمان.
وقد تمنع الاشراف عقائل نسائها لأسباب غير التحريم، لا يكون
ذلك عيبا عليهم في آدابهم، ولا نقصا في أديانهم.
وفى قول على يوم الجمل حين رأى عبد الرحمن بن عتاب صريعا:
" شفيت نفسي وجدعت أنفى، قتلت الصناديد من بنى عبد مناف

(1) في الأصل: " قال لكم ".
220

والمتني (1) الأعيان من بنى جمح! " فقال له رجل: لشد ما جزعت
عليه يا أمير المؤمنين! قال: " إنه قد قامت عنى وعنه نسوة لم يقمن
عنك " دليل أنه قد كان يرى للأمهات قدرا كثيرا، وللمناكح
خطرا عظيما.
وفى كراهته أن يتزوج المقداد ضباعة بنت الزبير، حتى كان من
النبي إليه الذي كان، دليل على شدة تدبيره.
وإنما ينبغي أن يقضى بين أصحاب محمد من قد عرف أمورهم في جميع
متقلبهم، لأنه غير مأمون على المتكلم إذا قل سماعه أن يخرجه الجهل
[إلى] استصغار بعضهم أو تضليله (2) والبراءة منه، فيهلك هلاك
الدنيا والآخرة.
وإن أغنى الناس أن يكون أصحاب محمد خصومه لأنتم معشر أصحاب
النظر والمتكلمين.
والذين نحلوا عمر العصبية رجلان: رافضي أحب أن يمقته إلى العجم
والموالي، ومتعرب عرف أن عمر عند الناس قدوة، فنحله ذلك ليكون
له حجة. فاعرف ذلك.
وأما ما ذكروا من أن الزبير خرج شادا بسيفه يوم السقيفة، فإن
كانوا صادقين فإن هذا لهو الطيش والتسرع إلى الفتنة. وتهييج الناس
على إظهار السلاح.

(1) كذا في الأصل. وانظر أنساب قريش 193.
(2) في الأصل: " لصلبه ".
221

وإنما أتى أبو بكر الأنصار واعظا ومحتجا، ومسكنا ومصلحا بألين
الكلام وأحسن الهدى، لم يحمل سوطا ولا سيفا، ولم يظهر معازة
ولا أراد المغالبة (1). فما وجه خروج الزبير بسيفه شادا نحوه؟! بل
كان أشبه الأمور بالزبير وأولاها به، والذي يجب علينا أن نظنه به،
أن يقوم محتجا ومصلحا. فإذا أبان عن حجته وأعذر في موعظته فلم ير
ذلك ناجعا (2) ولا مقبولا، ورأى شيئا يجوز به حمل السيف والشد به،
كان من وراء ذلك.
وكيف علمتم أن الزبير إنما سل سيفه ليؤكد لعلى إمامته أو ليوطئ
له خلافته؟! ولعله إنما أراد الامر لنفسه دون غيره. ولعله إنما
غضب لصرف الامر من خاله وكبيره وشيخه العباس بن عبد المطلب
فكيف علمتم أنه إنما أراد صرفها عن أبي بكر خاصة؟! وكيف يشد
على رجل لم يقل بايعوني ولا أظهر الحرص عليها، وإنما كره أن
يبقى الناس نشرا، وعلم أن على الأنصار أن يسمعوا للمهاجرين. وقد قال
للناس: " بايعوا أي هذين شئتم " يعنى أبا عبيدة وعمر، إلا أن يكون
الزبير قال: ولم كنت أنت المحتج على الأنصار والمعرف لهم فضل
المهاجرين عليهم دون على.
ويقال لهم عند ذلك: أما بادي الرأي والذي لا نشك فيه نحن
ولا أحد ممن خالفنا، فالذي كان من مناصبة الزبير لعلى ومحاربته له
دون الإمامة، وزعمه أنه أفضل منه وأولى بها منه، ولو جعلها شورى
لفرعه وبرز عليه.

(1) في الأصل: " معارة إلا أراد المغالبة ". والمعازة: المغالبة في العزة.
(2) في الأصل: " فاجعا ".
222

ثم الذي لا يشك الناس فيه من طاعته لعمر، وإنما عمر شعبة من
شعب أبى بكر. ولقد بلغ من تعظيمه لعمر وطاعته له وإكباره لقدره،
أنه محا نفسه من الديوان لما قتل عمر تسلبا عليه (1)، ورفعا لقدره أن
بلى منه من الاعطاء والمنع أحد كما كان يليه منه عمر. كما محا نفسه من
الديوان حكيم بن حزام لما توفى النبي صلى الله عليه. وكذلك محا نفسه
من الديوان عبد الله بن الزبير حين قتل عثمان.
ولقد بلغ من طاعته لعمر أنه بعثه مددا لعمرو بن العاص، فجعل
عمرا الأمير عليه ينفذ لامره ويصلى بصلاته.
والذي يدلك على انبتاته (2) في هوى أبى بكر، وانقطاعه، إليه بمودته،
الخاصة التي كانت بين أبى بكر وبينه. وذلك أن عبد الله بن مسعود
أوصى إليه حين مات. وعبد الله عمري محض، وهو القائل في عثمان
حين برز على الشورى: " ما ألونا أن جعلناها [في أعلا] نا ذا فوق (3)
فإذا كان هذا قوله في عثمان وعلى فما ظنك به في أبى بكر وعمر (4) ".
ثم أوصى إليه عثمان بن عفان [و] هو أصل العمرية والعثمانية، والمباينة
لعلى وشيعته عندهم. وأوصى إليه عبد الرحمن بن عوف، وهو المختار

(1) التسلب: الاحداد. (2) في الأصل: " انبثاثه ".
(3) في الأصل: " نادى فوق " والتكملة والتصحيح مما سيأتي مما سأنبه عليه. ومما
اشتضأت به من اللسان، ففيه مادة (فوق 195): " وفى حديث ابن مسعود: اجتمعنا فأمرنا
عثمان ولم نأل عن خيرنا ذا فوق " أي خيرنا سهما في الاسلام والسابقة والفضل. ذو الفوق.
بضم الفاء، هو السهم، وفوقه: موضع الوتر منه.
(4) في الأصل: " وعلى ".
223

لعثمان على على، وصاحب أبى بكر، والدافع بالموسم في خلافة أبى بكر
من بين جميع المهاجرين.
هذا مع أسباب الزبير الواشجة بأبي بكر: فمن ذلك إسلامه على
يديه، واحتماله مؤونته في مصاهرته، حيث رغب إليه في تزويج ابنته
أسماء ذات النطاقين، فولدت عبد الله - وعبد الله كنيته أبو خبيب -
وعروة وغيرهما. وكان عبد الله أول مولود ولد في الهجرة، فسماه الزبير
باسم جده أبى بكر، لان اسم أبى بكر عبد الله ولقبه عتيق، وإنما
لقب بعتيق لعتق وجهه ودقة محاسنه. ثم كنى الزبير بأبي بكر
بكنية جده. فكان عبد الله بن الزبير يكنى أبا بكر تيمنا منهم بكنيته
وتبركا باسمه.
وقالت عائشة رضي الله عنها: ألا تكنيني يا رسول الله؟ قال:
" بلى، اكتنى بابنك " يعنى عبد الله بن الزبير. فكانت عائشة تكنى
بأم عبد الله. ولذلك كانت تقول: قال ابني، وفعل ابني، وكادوا
يوم الجمل أن يقتلوا ابني.
فيقال للرافضة: أما العيان والوجود فهو الذي خبرناكم به. وأما
ما ادعيتم من [أن] الزبير سل سيفا ليؤكد إمامة على فقد ينبغي أن تأتوا
على ذلك ببرهان، فأما معاداة الزبير له ومحاربته إياه وفخره عليه، فهذا
مالا يدفع عنه، ولقد فخر عليه حين دعاه إلى الشورى وأبى ذلك على فقال:
أسلمت بالغا مدركا وأسلمت ناشئا طفلا، وكنت أول من سل سيفا
في الاسلام ببطن مكة وأنت مستخف في الشعب يكفلك الرجال ويمونك
الأقارب من هاشم، وكنت فارسا وكنت راجلا، وكنت شجاعا وكنت
224

بطلا. ولئن كنت تزعم [أنك ابن عمه] إني لابن عمته (1). وأنا عابر
البحر يوم الحبشة، وفى هيئتي نزلت الملائكة. وأنا حواري رسول الله
صلى الله عليه وفارسه.
خبرني بهذا الكلام أبو زفر (2). عن ضراب (3) أن الزبير
كان احتج به.
وخبرني جماعة من العثمانية عن محمد بن عائشة (4)، أن الزبير كان
احتج به، وقد سقط عنى بعضه لطول العهد بسماعه.
وقالت (العثمانية): العجب أن الروافض ربما احتجت علينا بأن
الزبير سل سيفه ومضى قدما في تأكيد بيعة على وخلع سواه، ونقص
من أبى بكر.
فيقال لهم: فما منعكم أن تقولوا لما مات النبي صلى الله عليه
وجحد السلف إمامة على: كفر الناس خلا خمسة نفر (5) أولهم الزبير
في نفسه وفضيلته على غيره، وأكبر ما كان منه من سل السيف
والشد به، وهذا موقف لم يقفه بلال ولا أبو ذر. وأنتم على ثقة أن

(1) في الأصل: " لابن عمه " ولوجه ما أثبت، فإن أباه الزبير والدته صفية بنت عبد المطلب
عمة رسول الله.
(2) أبو زفر، ذكره في لسان الميزان 6: 379 وقال: " ذكره ابن النديم في مصنفي
المعتزلة " وليس في النسخة المطبوعة من الفهرست.
(3) ضراب، آخره باء في الأصل. ولعله " ضرار " آخره راء، وهو ضرار بن عمرو
صاحب الضرارية. انظر حواشي الحيوان 5: 10.
(4) هو محمد بن حفص. انظر حواشي الحيوان 2: 12.
(5) انظر ما مضى ص 180 س 5 - 7.
225

ذلك كان. وأن السيف لم يحمل إلا لنصرة على دون العباس وجميع
بنى عبد مناف وما ولد قصي.
وكيف لم يكن أدنى منازل الزبير أن يكون قد كان مؤمنا وليا
إلى أن جحد إمامة على بعد مقتل عثمان. فيكون سبيله شبيها بسبيل
حذيفة وعمار، لأنهما كانا عندكم كافرين حتى تابا في زمن عثمان،
فكان يكون الزبير مؤمنا إلى أن كفر عند مقتل عثمان.
وإنما صار حذيفة وعمار عند الرافضة وليين لأنهما قالا بزعمهم:
والله ما دخل عثمان حفرته إلا كافرا. وإنه لحيفة على الصراط يوم
القيامة. يتأذى به أهل الجمع.
فإن كانوا إنما صاروا إلى توليهما بعد إكفارهما من أجل تصديق
هذا الحديث فإن الذين رووه هم الذي رووا أنهما قالا: والله ما دخل
عثمان حفرته إلا كافرا. وإنه لجيفة على الصراط يتأذى به أهل الجمع،
وإنه لا يلي هذا الامر بعد عمر إلا كل أصفر أبتر! فإن كانا قد تابا
بقولهما الأول لقد ارتدا بقولهما الثاني حين قالا: وإنه لا يلي هذا الامر
من بعد عمر إلا كل أصفر أبتر.
ولو لم يكن ذلك كذلك بل كانا مرتدين فتابا فتوليتموهما عند توبتهما
وعاديتموهما قبل ذلك على طاعتهما لعمر، فما بالكم لم تقولوا مثل ذلك
في الزبير أنه لم يزل مؤمنا حتى جحد إمامة على بعد؟! مع أن سل
الزبير سيفه، وعدوه نحو أبى بكر وأصحابه، وقول عمر: " دونكم
الكلب " حتى أخذ سيفه وخطر، إنما هو حديث وجدناه في بعض
السيرة، وليس من الأخبار المستفيضة، وليس مما يحققه أصحاب الحديث.
226

وإن قالوا: فما قول أبى بكر في خطبته التي خطب بها في أول
خلافته: " وليتكم ولست بخيركم "؟ وهل يخلو هذا القول من
الصدق والكذب. فإن كان صدقا فهو خلاف قولكم في تفضيله على
جميع أئمتكم، والرجل كان أعلم بنفسه وبأهل دهره، وإن كان كاذبا
فأي كذب أقبح من كذب إمام على منبر جماعة؟! ومن أحق بألا يليهم
ويحمل إمامة دينهم ودنياهم ممن يكذب على منبر الرسول من غير
أن يكرهه أحد أو يريده عليه، أو يكون في تقية كخائف السوط
والسيف؟! بل ما يدعوه إلى الكذب، والكذب مقبح في العقل مقبح
في الدين، ولم يكن هناك رهبة تسوقه ولا رغبة تقوده؟! على أن
كذب الرعية (1) أسخف وأقبح، وهو لا يخلو من أن يكون صادقا
فلا يسعه أن يتقدم من هو خير منه وقد مكنه تقديمه، أو يكون كاذبا (2)
فالقول فيه على ما قلنا.
قلنا: إن (العثمانية) تذكر لذلك وجوها:
فمنها: أن الحسن كان يقول: والله أعلم أنه كان خيرهم، ولكن
المؤمن يهضم نفسه. فزعم الحسن أنه إنما تهضم نفسه ووضع منها
لان الخلف المشفق كثيرا ما يزرى على نفسه ويعيب عليها ويستبطئها (3).
ويظهر المقت لها والخوف عليها. فهذا كان مذهب الحسن.
وأما قتادة فزعم أنه قوله: " وليتكم ولست بخيركم " إنما أراد
في الحسب، ليعلمهم أنه إذ يليهم بالحسب فإنما وليهم بالسابقة. لانهم

(1) أي الكذب على الرعية. (2) في الأصل: " كذبا ".
(3) هذه الكلمة تامة الاهمال في الأصل.
227

قد كانوا أكثروا من قولهم: أرضيتم معشر بنى عبد مناف أن تلى
عليكم تيم؟! وأراد في أول مقام قامه أن يعلمهم [أن] ذلك المقام
لا ينال بأن يكون صاحبه خير الناس حسبا ومركبا، إنما ينال بأن
يكون خير الناس علما وعملا.
وأما غيرهما فزعم أن من عادة الخائفين الوجلين المشفقين أن يقول
الرجل منهم: كل أحد خير منى؟ ثم يبكى على تضييعه، ويستعظم صغير
ذنوبه كأنه ليس في الأرض مذنب سواه، وأكثر ما يقول ذلك عند ذكر
بعض ذنوبه أو عند بعض ما يعارضه به الشيطان والانسان، من تزكيته
وتقريظه وإظهار تفضيله لنفسه وإحسانه، والعجب (1) بحاله. لأنه ليس
بعد أن يرى العبد أن ذنبه من قبل ربه مذهب هو أعظم من استكبار
الطاعة واستصغار المعصية. فعند ذلك يعارضه المؤمن بتقريع نفسه وتأنيبها،
وتوقيفها على ما فرط منها، وتذكيرها مساويها، واستعظام كل ما كان
من تقصيرها وإساءتها، واستصغار كل ما كان من عظيم إحسانها وطاعتها،
فيقول: كل أحد خير منى. وما أشبه من الكلام.
وهذا الضرب من اللفظ، إذا كان على هذا الوجه فليس في مجرى
الكذب وقول الزور، وإن كان القائل: " كل أحد خير منى " خيرا
من كل أحد.
فكأن أبا بكر لما خطب الناس وقام مقام رسول الله صلى الله
عليه، وسلم عليه المهاجرون والأنصار وعلية قريش وسادة العرب قياما
على أقدامهم، وصفوفا على مراتبهم، يقولون: السلام عليك يا خليفة رسول الله

(1) في الأصل: " وليعجب "
228

وألقيت إليه أزمة الأمور، وأعطوه المقادة، وأسمحت نفوسهم له بالطاعة
وقد صرفوها عن القرابة وعن أهل الشرف، رأى بسطة عيشه (1) من عز
الخلافة وبأو الإمامة، ما لا يعرف قدره غيره، ولا تأتى الصفة على كنهه،
وللشيطان (2) هناك مداخل ومخاتل، ودس وتحريك وطمع، ليس يقوى
بشرى على دفع تلك الفتنة، وتسكين تلك الحركة، والنهوض بتلك المحنة،
إلا بغاية الزري على النفس والهضم لها. والبخس والتخون منها، وتناسى
ذكر جميع محاسنها، واجتلاب ذكر جميع مساويها. فبالحري إذا صنع
ذلك أن يرد من غربه وطوائع نفسه، وحركة همته، وانتشار عزمه،
وانتقاض مرته.
وهذه حال لا يمتحن بها إلا الخلفاء، ولا يختبر بها إلا الأئمة الهدى،
لان معهم من قوة المنن ومن فضول الأحلام، وشدة الورع وكثرة العلم، وثبات
النفس، والمعرفة بما أداه الطائع، وإماتة الشهوات، وقمع... ما يقام به
موريه (3) مكايد الشيطان وتعظيم الانسان، وعز السلطان، والنفس لا تسمح
بإعطاء ما عليها حتى تمنعها مالها.
وإن كان قول أبى بكر: " وليتكم ولست بخيركم " إنما أراد به
مداواة قلبه، والزري على نفسه فليس بكذب وإن كان خيرهم، إذ كان إنما
أراد إصلاح قلبه، وعلاج دائه، والبعد من تقرير القوم بنقصهم عن فضله،
والفخر عليهم بتبريزه. فإنما أراد أن يكون سبيله سبيل من يظهر التعلم
إذا علم، وسبيل من يتواضع إذا عظم. فجمع بذلك حسن الأدب، والبعد

(1) في الأصل: " واسطه عنبسة ".
(2) في الأصل: " والشيطان.
(3) كذا وردت هذه العبارة ناقصة محرفة.
229

من التزكية. والتحبب إلى المستمع، والتواضع لربه، والمداواة لقلبه،
والظفر بعدوه، وإحراز دينه.
وقد يكون إخلاص ظاهر لفظه على شئ ومعناه غيره، فلا يكون
ذلك كذبا، لمعرفة القائل بفهم المستمع عنه. وهذا باب كثيرا
ما يستعمله العرب.
يقول الرجل لامرأته: ألقيت حبلك على غاربك! وهو يعنى طلاقها
وليس هناك حبل ألقى على غارب.
ويقول: مالي في هذا الامر ناقة ولا جمل! وليس ذلك يريد.
و: لست منها في عير ولا نفير! وليس ذلك يريد.
وقال عمر في الصداق ما بلغكم، فلما احتجت عليه المرأة بقول
الله: " وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا (1) " قال: كل أحد
أفقه من عمر.
وهذا القول ينبغي أن يكون على قياسكم هذا كذبا. ولا نعلم أحدا
رواه عن عمر إلا على التفضيل له. ووجهه قائم معروف.
فإن قالوا: ما معنى قول أبى بكر: " بايعوا أي هذين شئتم "، يعنى
عمرو وأبا عبيدة.
قيل لهم: إن أبا بكر إنما قال هذا الكلام للأنصار ومن حضر
بعد أن قرر الأنصار بفضل المهاجرين عليهم. وأن الامراء منهم. فعلم
عند ذلك أنه بائن عند الأنصار من جميع المهاجرين كما بان عند المهاجرين

(1) الآية 20 من سورة النساء، وفى الأصل: " وإن آتيتم " وهو تحريف.
230

ولكنه كان سائسا رفيقا، فكره أن يقول بايعوني، ليكونوا هم
الذين يطلبون منه ذلك ويريدونه عليه، ويظهرون حب تقديمه، لتكون
النفوس بطاعته أسمح، وفيها أرغب، ولمذهبه أحمد، ولان ذلك عندهم
أبعد من الاستبداد عليهم. والافتيات بالامر دونهم، والحرص على
التأمر عليهم. ولذلك مشى في الناس بعد بيعته ثلاثا يقول: هل من
مستقيل فيقال؟
وقد قال في خطبته بعد البيعة:
وقد كانت بيعتي فلتة، وخشيت الفتنة، وأيم الله ما حرصت عليها
يوما ولا ليلة، ولا سألتها الله في سر ولا علانية، ومالي فيها راحة.
وقد قلدت أمرا عظيما مالي به طاقة، ولوددت أن أقوى الناس
عليها مكاني.
ألا ترى زهده فيها (1)، وقلة حرصه عليها، وكيف يخبر أنه لو لم
يخش الفتنة ما قبلها، ولود أن أقوى الناس عليها مكانه؟!
وقوله " لوددت أن أقوى الناس عليها مكاني " يقول: وددت
أنه لو كان في الناس من هو أقوى عليها منى. ليس (2) أنه يرى أن
في الأرض يومئذ رجلا هو أقوى عليها منه.
ومثل هذا في كلام العرب كثير.
وقال الراجز (3) وذكر إبله فقال، إذا كانت عليها مغارضها (4):

(1) في الأصل: " ألا ترى في زهده فيها ".
(2) في الأصل: " فليس ".
(3) هو أبو محمد الفقعسي. اللسان (غرض).
(4) جمع مغرض، كمجلس، وأصله جانب البطن أسفل الأضلاع، وهو ما يقع عليه الغرض وهو
حزام الرحل. وقد عنى به الجاحظ الأغراض. ويبدو أن هذه العبارة مقحمة، وموضعها بعد.
231

* يشربن حتى تنقض المغارض (1) *
يقول: يشربن حتى لو [كانت عليها مغارضها (2)] سمعت لها نقيضا.
والبعير لا يورد وعليه غرضه وبطانة.
ثم رجعنا إلى الحديث الأول
فكأن أبا بكر حين قال: " بايعوا أي هذين شئتم " علم أن عمر
وأبا عبيدة لا يستجيزان تقدمه والتأمر عليه، كما بلغنا من قول عمر في أبى بكر،
يوم جمع المهاجرين والأنصار يستشيرهم في غزو الروم حيث خالفوه وأبى أبو بكر
إلا إنفاذ ذلك الجيش والتعريف لهم بالحجة (3) فيه، حين يقول: " الحمد لله
الذي يخص بالخير من يشاء من خلقه. والله ما استبقنا إلى شئ من الخير
إلا سبقنا إليه، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ".
وقال أيضا يوم السقيفة حين قال أبو بكر: بايعوا أي هذين شئتم:
" والله لان أقدم فتضرب عنقي أحب إلى من أن أتقدم أبا بكر ".
وقال: " والله لان أضجع فأذبح كما يذبح الجمل أحب إلى من أن
أتقدم أبا بكر! ".
ولقد بلغ من تعظيمه له وتقديمه إياه، أنه قال حين سئل عن
الكلالة " والله إني لاستحى الله أن أرى خلاف رأى أبى بكر ".
وأنت لم تجد أبا عبيدة تقدمه في موقف قط، وقد وجدت
أبا بكر قد تقدم أبا عبيدة في مواقف كثيرة، في حياة رسول الله صلى

(1) في أساس البلاغة " حتى تنتأ ".
(2) انظر التنبيه 4 من الصفحة السابقة.
(3) في الأصل: " الحجة " وانظر ص 105 س 8 - 9.
232

الله عليه وبعد وفاته، كما حكينا لك قبل هذا. ولم نجد ذكر
أبى بكر وعمر في موضع قط إلا وأبو بكر المقدم عليه، مع مقامات
لأبي بكر شريفة ليس لعمر فيها ذكر.
فبين أن يكون أبو بكر يأمرهم بذلك أمرا أو يطلب إليهم طلبا،
وبين أن يجعله إليهم فيكونوا الطالبين له والراغبين إليه، وليكون ذلك
من تلقائهم وطيب أنفسهم، فرق عظيم.
وأية بيعة أثبت من بيعة عقدها عمر والنبي يقول: " ضرب
بالحق على لسانه " و " الشيطان يفرق من حسه (1) " واللهم أعز
الاسلام بعمر "؟! وأية بيعة أثبت من بيعة عقدها أبو عبيدة والنبي
يقول: " لكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح ".
وأية بيعة أثبت من بيعة عقدها عبد الرحمن بن عوف وقد سماه
رسول الله صلى الله عليه وسلم " الأمين (2) " فإذا كان أمين رسول الله
صلى الله عليه في أمته، والفاروق الذي فرق الله به بين الحق والباطل،
حيث قال: " لا يعبد الله سرا بعد اليوم " قد عقدا بيعته وأكدا
أمره (3) فما عسى أن يبلغ قول قائل؟! ولو كان ذلك عن مواطأة من

(1) في الرياض النضرة 1: 208 في حديث المرأة الأنصارية: " فقامت بالدف على
رأس النبي صلى الله عليه وسلم فنقرت نقرتين أو ثلاثا، فاستفتح عمر فسقط الدف من يدها
وأسرعت إلى خدر عائشة. فقالت لها عائشة: مالك؟ قالت: سمعت صوت عمر فهبته. فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الشيطان ليفر من حس عمر ".
(2) انظر السيرة 410 جوتنجن، لقول رسول الله في شأنه: " ائتوني العشية أبعث
معكم القوى الأمين ". وفى الرياض النضرة 2: 308: " إن لكل أمة أمينا وإن أميننا
أيتها الأمة أبو عبيدة بن الجراح. أخرجه البخاري ومسلم. وأخرجه الترمذي وأبو حاتم،
ولفظهما لكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة... ".
(3) في الأصل: " عقد بيعته وأكد أمره " وإنما هما أبو عبيدة الأمين، وعمر الفاروق.
233

أبى بكر لأبي عبيدة كما واطأ معاوية عمرو بن العاص، ما استعمل عليه
خالد بن الوليد أميرا أيام حياته حتى عزله عمر بن الخطاب، ولكان كما
صنع معاوية بعمرو حين أطعمه مصر.
وأية بيعة أثبت من بيعة عقدها عبد الله بن مسعود، والنبي صلى
الله عليه يقول: " رضيت لامتى ما رضى لها ابن أم عبد، وكرهت
لها ما كره ابن أم عبد (1) ". فإذا رضى ابن أم عبد بيعة رجل فقد
رضيها النبي عليه السلام، إذ كان النبي قد قال: " رضيت لامتى ما رضى
لها ابن أم عبد، وكرهت لها ما كره ابن أم عبد ".
ولقد بلغ من تقديمه لأبي بكر وعمر وعثمان أنه قال عند اختيار
الناس لعثمان: " ما ألونا أن جعلناها في أعلانا ذا فوق (2) ".
ولقد بلغ من تعظيمه لعمر وتقديمه له، أنه قال: " لقد خشيت الله
في حب عمر ". وقال: " ما صلينا ظاهرين حتى أسلم عمر ". وقال بعد
موت عمر: " إن عمر كان للاسلام حصنا حصينا يدخل الناس فيه
ولا يخرجون منه، فلما مات انثلم ذلك الحصن فصار الناس يخرجون
منه ولا يدخلون فيه ". وقال: " إذا ذكر الصالحون فحى هلا
بعمر (3) ".
فإذا كان عمر وعثمان من أتباع أبى بكر وشيعته وأوليائه، وهذا
قوله فيهما، وتفضيله لهما، فما ظنك به في أبى بكر؟!

(1) انظر ما مضى في ص 86، 141.
(2) انظر ما مضى في ص 223. وكتبت في الأصل: " أعلى نادى فوق ".
(3) أي ابدأ به وعجل بذكره.
234

ولو أن رجلا واحدا من نحو من ذكرنا عقد لعلى إمامة، أو نطق
فيه بكلمة، لأكلت الشيع والرافض هذه الأمة فضلا عن أن تحتج
يرضاه واختياره، فهذا هذا.
ثم الذي نقلوا إلينا (1) من تثبيت على بيعة أبى بكر. وذلك أنهم
قالوا: لما بويع أبو بكر وبايعه على وبنو هاشم، قام أبو بكر فطاف
في الناس ثلاثا يقول: " أيها الناس، قد أقلتكم بيعتي "! قالوا:
يقول على من بين الناس: " والله لا نقيلك ولا نستقيلك، قدمك
رسول الله صلى الله عليه تصلى بالناس فمن ذا يؤخرك؟! ".
ثم الذي نقله الناس عن علي حين قال على منبره: " ألا إن
خير هذه الأمة أبو بكر، والثاني عمر، ولو شئت أن أخبركم بالثالث
فعلت ".
ونقلوا جميعا أن عليا قال: بينا أنا يوما عند رسول الله صلى الله عليه
إذ أقبل أبو بكر وعمر فقال النبي: " هذان سيدا كهول أهل الجنة
من الأولين والآخرين، ما خلا النبيين والمرسلين، لا تخبرهما بالذي قلت
يا علي ". قالوا: قال على: لولا أنهما قد ماتا ما حدثتكم.
قال الشعبي: قال على: " إن أبا بكر كان أواها منيبا، وإن
عمر ناصح الله فنصحه الله ".
ونقلوا أن عليا قال - ودخل على عمر وقد مات وهو مسجى -

(1) في الأصل: " نعلوا البنا ".
235

فقال: رحمك الله يا عمر! والله ما أحد أحب إلى أن ألقى الله بمثل
صحيفته من هذا المسجى صاحب السرير!
وبلغه أن رجلا تناول أبا بكر وعمر، فقال للرجل: لو سمعت
منك الذي بلغني لألقيت أكثرك شعرا.
وقال: لو أتيت برجل يشتمهما لجلدته حد المفترى.
ثم الذي نقله جميع أصحاب الآثار أنه قال: كنت إذا سمعت من
النبي صلى الله عليه حديثا نفعني الله بما شاء منه، فإذا حدثني غيره عنه
استحلفته، فإذا حلف لي صدقته، وإن أبا بكر حدثني - وصدق
أبو بكر - حدثني أن النبي صلى الله عليه قال: " ما من رجل
يذنب ذنبا فيتوضأ فيحسن الوضوء ثم يصلى ركعتين ويستغفر الله إلا
غفر له (1) ".
ألا ترى كيف أورده بالتصديق وقلة التهمة، وأقامه مقام التقليد
ورفع الاسترابة.
فهذا مذهب على فيهما وتعظيمه لهما.
ثم الذي كان من تزويجه أم كلثوم بنت فاطمة بنت رسول الله صلى
الله عليه، من عمر بن الخطاب، طائعا راغبا، وعمر يقول: إني سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إنه ليس سبب ولا نسب
إلا منقطع، إلا نسبى ". قال على: إنها والله ما بلغت يا أمير المؤمنين.
قال: إني والله ما أريدها لذاك! فأرسلها إليه فنظر إليها قبل أن يتزوجها،

(1) انظر ما سبق في ص 84.
236

ثم زوجها إياه، فولدت منه زيد بن عمر، وهو قتيل سودان مروان (1)،
فلما أتى النعي أم كلثوم كمدت عليه حزنا حتى ماتت، وقالت: واحربها!
قتل أبوها علي بن أبي طالب، وقتل زوجها عمر بن الخطاب، وقتل
ولدها زيد بن عمر.
ثم تسمية على أولاده بأسمائهم، كما يتبرك الرجل بأسماء أئمته وقادته،
حين سمى بعمر وعثمان وأبى بكر، فأعقب عمر ولم يعقب أبو بكر وعثمان.
ثم الذي كان من قبوله ولاية عمر حين استخلفه على المدينة، ومضى
عمر معسكرا يريد جيش مهران (2) بعد وقعة قس الناطف (3) فأتاه على
إلى معسكره فأشار عليه فيمن أشار (4) بأن الرأي أن يرجع إلى المدينة
ولا يلقاهم بنفسه وحده، بل يكون للمسلمين فيئة (5). فرجع عمر.
وإنما أراد عمر بذلك تحريك الناس ليجدوا ويعزموا.
فإن قالوا: هذا كله باطل، أو قالوا: إن هذا الذي حكيتموه وإن
كان حقا فإنما كان على التقية. فقد قلنا في ذلك أجمع بالذي يكتفى به.
والعجب أنهم يوجبون على الناس تصديقهم أن سلمان قال: " كرداذ

(1) انظر نسب قريش 352 - 353، 272 وجمهرة أنساب العرب 147.
(2) هو مهران بن باذان الهمذاني القائد الفارسي، وكان عربي الأصل نشأ مع أبيه باليمن
إذا كان عاملا لكسرى. وروى الطبري 4: 78 أنه قال في تلك الحرب:
إن تسألوا عنى فإني مهران * أنا لمن أنكرني ابن باذان
عسكر الرجل والجيش: كان في المعسكر. وفى الطبري 4: 83 " خرج عمر حتى نزل
على ماء يدعى ضرارا فعسكر به ".
(3) كانت في سنة 13.
(4) انظر خبر هذه الشورى في الطبري 4: 83 - 84.
(5) أمرى مرجعا.
237

ونكرداذ (1) " وأن الزبير خرج شادا بسيفه ليؤكد إمامة على، وأن
الأنصار إنما خالفت على المهاجرين نقضا من استبداد أبى بكر (2)، وأن
أبا سفيان بن حرب، وخالد بن سعيد، إنما قالا: " أرضيتم معشر
بنى عبد مناف أن بلى عليكم تيم "، نصرة لعلى دون جميع بنى عبد مناف،
فإن الله رد عليه الشمس (3)، وإن النبي قال: " أنت منى بمنزلة هارون
من موسى "، وجعل إليه طلاق نسائه، وأنه قسم النار (4)، وصاحب
العرض، والقائم على الحوض، فيوجبون علينا أن نصدقهم في هذا
ولا يوجبون على أنفسهم لحمال الآثار أن عليا قال في الخلية والبرية،
والبائنة، والبتة، وطلاق الحرج، وأمرك بيدك، والحرام، أنها كثلاث
تطليقات، ويوجبون على طلاب الحديث أن عليا كان لا يرى الطلاق
إلا طلاق السنة.
وهذا أمر ما سمعنا به قط عن علي إلا منهم.
وليس بأعجب من استشهاد خصومهم العيان والاجماع وما عليه الوجود،
واستشهادهم القصد والضمير والغيب، وجعلهم له يوازن الظاهر والشائع.
وذلك أن القائل إذا قال: أسلم أبو بكر كهلا وأسلم على طفلا.

(1) انظر ما سبق في ص 172، 179، 183، 186، 187.
(2) في الأصل: " أبى بكر على ".
(3) في الرياض النضرة 2: 179: " عن الحسن بن علي قال: كان رأس رسول الله
صلى الله عليه وسلم في حجر على وهو يوحى إليه فلما سرى عنه قال: يا علي، صليت العصر؟
قال: لا. قال: اللهم إنك تعلم أن كان في حاجتك وحاجة نبيك فرد عليه الشمس. فردها
عليه فصلى وغابت الشمس، خرجه الدولابي قال: وقال علماء الحديث: وهو حديث موضوع
ولم ترد الشمس لاحد، وإنما حبست ليوشع بن نون ".
(4) كذا في الأصل.
238

قالوا: كان على وهو ابن سبع سنين أرجح عقلا من أبى بكر وهو ابن
إحدى وأربعين سنة. فتركوا العيان وعارضوا الشاهد بالغائب.
وإن قال قائل: إن أبا بكر كان مع النبي في الغار وقد نطق به
القرآن وثبته الاجماع. قالوا: فإن عليا أباته النبي على فراشه.
وإن قلت: إن النبي سمى أبا بكر بالصديق تفضيلا له ولم يجعل له اسما
يفضله به. قالوا: بلى، قد كان النبي سماه الصديق الأكبر، ولكن
الناس منعوه ذلك وظلموه، حين لم يسيروه ويشيعوه.
وإن قلت: إن النبي اشتكى أياما وليالي، كل ذلك يأمر أبا بكر
بالصلاة، وهو حاضر ولا يأمره، قالوا: لان عليا كان مشغولا بتمريضه.
وإن قلت: إن الناس لما افتتنوا بعد موت النبي وعظموا شأنه
حتى دعاهم الافراط إلى أن قالوا: لم يمت، ولكنه يغيب مثل ما غاب موسى
عن قومه. فكان أبو بكر هو المتكلم والمحتج والمحامى حتى عرفهم الحق
وتنبهوا من الوسنة. قالوا: لان عليا قد كان اشتد حزنه حتى قطعه
عن الاحتجاج والتعريف.
فإن قلت: حين أظهروا الفرقة والدار دارهم. لو تركهم أبو بكر
ولم يعرفهم فضل المهاجرين عليهم. لكان في ذلك أشد الفتنة وأكبر
الفساد، فعاجلهم وتجرد للاحتجاج عليهم، حين كان كل إنسان همه
هم نفسه، وعلى بمعزل حتى كأنه كان غائبا. قالوا: لان عليا قد كان
عرف حسد قريش وبغيها عليه، وطاعتها وحبها لأبي بكر، فلم يكن
ليقدح في غير مقدح، أو ينفخ في غير فحم.
239

فإن قلنا: إن إظهار على الرضا بالشورى دليل على طاعة عمر.
قالوا: إنما ذلك للتقية.
فإن قيل: فلم رضى بعبد الرحمن مختارا وعبد الرحمن عنده من
عدوه، وأدنى منازله أن يكون كان مخوفا عنده، وأدنى من ذلك أن
يكون الغلط غير مأمون عليه.
قلنا: وهلا أظهر من الخلاف شيئا يسير إلينا، وهلا نطق بحرف
واحد بقدر ما يتخذه الناس بعد حجة، ولم يكن بلغ أقصى خلافهم
فيرى وعيدا أو إيقاعا.
فإن قلت: إن عليا قال لأسماء بنت عميس - وهى يومئذ امرأته -
حين تفاخر ولدها من أبى بكر وجعفر وعلى عندها: اقضى بين ولدك.
فقالت: ما رأيت شابا كان أطهر من جعفر، ولا رأيت شيخا كان
أفضل من أبى بكر. وإن ثلاثة أنت أخسهم لفضلاء (1)! فلم ينكر ولم
يحتج، ولم يفرق (2) ولم يتعجب، والكلام يؤثر والقضية تظهر.
قالوا: إن فضله أظهر في الناس من أن يحتاج إلى الاحتجاج.
وإنما قالت ذلك مازحة، كما تمزح المرأة مع زوجها وتحرش به (3).
فإن قلت: إن عليا قد بايع أبا بكر وأعطاه صفقته طائعا غير مكره
والحكم السابق من الله ورسوله أن المدعى عليه إذا أقر ولم ينكر،
ولم ير الوالي أثر جنون ولا إكراها، أن إقراره جائز عليه، فكذلك

(1) انظر ما سبق في ص 95.
(2) الفرق: الجزع. في الأصل: " ولم يعرف ".
(3) التحريش: الاغراء. في الأصل: " وتخرش به ".
240

على إذا كان قد بايع وليس على رأسه سيف ولا سوط، فحكمه حكم
الراضي المسلم.
قالوا: قد كان هناك إكراه ظاهر، ولكن الناس تكاتموه
وأخفوه فيما بيننا وبينهم، إذ كان الجمهور الأكبر معهم.
فإن قلت: قد صدقناكم في قولكم إنه قد كان في تقية من أبى بكر
وعمر وعثمان، رأيتم أيام سلطان نفسه ومعه مائة ألف سيف تطيعه
وأهل الأرض كلهم رعيته ما خلا الشام، لم كان يظهر تزكية أبى بكر
وعمر على منبره وفى مجلسه؟
قالوا: للتقية من رعيته، إذ كان أكثرهم على هواهم وطاعتهم.
قلنا: قد عرفنا أن تركه لعنهم والبراءة منهم والاخبار عن
استبدادهم وظلمهم، على التقية، فما حمله على تزكيتهم والاخبار عن
محاسنهم، والرواية الحسنة فيهم. وقد كان له في السكوت سعة، وعن
الكلام مندوحة؟! ولقد تعدى في مديح أبى بكر وعمر حتى قال لابن
طلحة: " إني لأرجو أن أكون أنا وأبوك ممن قال الله: " إخوانا
على سرر متقابلين ".
وإن قلنا: إن في تسميته بنيه بأسمائهم دليل على تعظيمه لهم.
قالوا: لأنه قد كان علم أن شيعته سيحتاجون في آخر الزمان إلى
الترحم على أبى بكر وعمر وعثمان، تقية من شيعتهم، فسمى بنيه بأسمائهم،
حتى يكون ذلك الترحم واقعا عليهم. ولان ينصب لهم من إذا قصدوا
إليه بالترحم أصابوا الحق ولم يحتاجوا إلى الالطاط (1).

(1) الالطاط: الدفاع، والاشتداد في الخصومة.
241

وإن قلنا: إنه زوج عمر غير مكره (1) ولا شئ أدل على الخاصة
والصفاء من المشاركة والمصاهرة.
قالوا: قد كان هناك توعد وتخوف، وقد قال بعضهم: إن هذا باطل
وإن عليا لم يزوج عمر قط. ونبئت عن بعضهم أنه قال: قد كان ذلك على
التقية، ولكن الله صانها فأخفاها ورفعها.
فقيل له: فخبرنا عن التي رأوها في منزل عمر وعلى فراشه، وولدت
منه زيدا، ما هي؟ وأي شئ كانت؟
قال: شيطانه في صورة امرأة.
وإن قلت لهم: كيف زعمتم أنه كان أشد أهل الأرض قلبا،
وأنتم تزعمون أنه كان يتقى كل شئ، حتى ليسلم حرمته إلى كافر من
غير أن يشهر عليه سيف أو يضرب بسوط. وقد رأينا من هو في دون
حاله في النجدة والشجاعة. والحمية والبصيرة، يمتنع حتى يقتل في دون
هذا. وقد تعلمون أنه لم يكلم وله يخدش، فضلا على أن يجرح
ويقتل، في جميع المقامات التي زعمتم أنه إنما استجاز واستحل من التقية.
وأعجب من جميع هذا أنا رأيناكم تزعمون أن أبا بكر وعثمان كانا
من أجبن البرية وأبعده من حمية، وقد رأينا صنيع أبى بكر في الردة
كيف نهض بالقليل في محاربة الكثير، وكيف أشاروا عليه بأن يستعين
بجيش أسامة حتى إذا رد الردة أعاد الجيش إلى حاله. وكيف قال لهم حين
قالوا له: إنا قد أمنا غزو الروم إيانا في يومنا هذا، ولسنا نأمن مع
ارتداد جميع العرب أن نغزى في عقر دارنا! قال: لو بقيت حتى يأكلني

(1) انظر ما مضى في ص 236 - 237.
242

الكلاب وحدى ما أخرت جيشا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإنفاذه.
ثم رأينا عثمان، وهو عندكم أضعف من أبى بكر وأجبن، قد كان
محاصرا معطشا مخذولا قد قهره عدوه، والسيوف تلمع على بابه، وقد أفضوا
إلى داره، وتسلقوا عليه من خوختة (1)، وهم يريدون نفسه أو خلع
الخلافة من عنقه، فصبر حتى قتل كريما محتسبا وهو يقول:
" لا أنزع قميصا قمصنيه الله! " وهو يرى الجد وليس معه أمان
من قبله.
وقد يزعمون أن عليا قد كان يعلم أنه لا يقتل ولا يموت حتى
يقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، ومع ذا يزعمون أن الله (2) قد
كان أسر إليه علم كل ما يحدث في هذه الأمة من الفتن والهيج. وهذا
لا يشبه اتخاذه أبا موسى حكما عليه وله، مع غباء (3) أبى موسى
وعداوته كانت له، ولا سيما إذا قرنه بعمرو بن العاص. وما ظنك برأي
عمرو وقد كان فيه معونه (4).
ففي جميع ما قلنا دليل على أن القوم إما أن يكونوا (5) مالكين لأهوائهم.
فإن قالوا: ما الدليل على إسلام أبى بكر فضلا على تقديمه وتفضيله
ومباينته؟ ومن أين لكم أن تزعموا أنه قد كان مسلما وأنتم وخصومكم
مجمعون على أنه قد كان كافرا، ثم ادعيتم أنه قد أسلم بعد كفره وأنكر
ذلك خصومكم، فليس لكم أن ترجعوا عما اجتمعتم عليه إلا بإجماع منكم

(1) الخوخة: كوة في البيت تؤدى إليه الضوء.
(2) في الأصل: " الذي ".
(3) في الأصل: " عبا " بالاهمال.
(4) كذا في الأصل.
(5) كذا في الأصل. والوجه " لم يكونوا ".
243

يوازنه. وقد ينبغي أن تطرحوا موضع الفرقة وتقضوا بموضع الجماعة،
وقد جامعتمونا أن عليا لم يزل مؤمنا.
قيل لهم: إنا لو كنا عرفنا أنه قد كان مرة كافرا من قبل خبر
أصحابنا ومجامعة خصومهم لهم، وكان علم ذلك لا يصاب إلا بمجامعتهم
لأصحابنا، لقد كان الذي قلتم واجبا وقياسا صحيحا. ولكنا عرفنا أنه
قد كان كافرا بقدر من الخبر قد يكذب مثله (1) وبه ثبت عندنا أنه
قد كان في الدنيا، فضلا على أن يكون كان له فعل يسمى كفرا وإيمانا.
وإنما الحجة في المجئ الذي لا يكذب مثله، ثم لا نلتفت بعد ذلك إلى
موافق ولا إلى مخالف، ولا إلى عقل ولا إلى نظر. ثم نظرنا فإذا الوجه
الذي منه علمنا أنه قد كان في الدنيا، منه علمنا أنه قد كان مرة كافرا،
و [هو] الوجه الذي منه علمنا أنه قد أسلم بعد كفره. ولو أنا عرفنا
كفره بنا وبخصومنا، لما عرفنا إيمانه إلا بنا وبهم.
ووجه آخر من الجواب: أنكم قد جامعتمونا على أنه قد كان
يشهد الشهادة. ويأكل الذبيحة، ويظهر الاسلام، في حيث النفاق
مستخف وثوب الاسلام داج (2)، والكفر ذليل والاسلام عزيز، [ثم]
ادعيتم بعد أن أقررتم أنه قد كان يظهر الاسلام في دار الاسلام، أنه
كان مستسرا بالكفر، وأنه كان من المؤلفة قلوبهم.
قال واجب بالقياس أن يحكم له بالاسلام على ظاهر ما اجتمعنا عليه
من جملته. ولا ندع موضع الاجماع إلى قولكم وحدكم: إنه قد كان إسلامه

(1) في الأصل: " لا يكذب مثله ".
(2) دجا: الاسلام: قوى وألبس كل شئ، كما يدجو الليل، إذا تم وألبس كل شئ.
244

على نفاق، لان الجماعة لا تنزل إلى فرقة، ولان الحجة لا تترك إلا بحجة.
فإن قالوا: فإن أبا بكر لم يشهد قط الشهادة، ولا صلى [إلى] القبلة.
قلنا: ما تقولون في رجل رأيناه كافرا في دار الكفر، ثم رأيناه
بعد ذلك في دار الاسلام وفى زي أهله، وحكم الاسلام غال، ومعلوم
أن من عادة أهله قتل من كفر، كيف يكون حكم ذلك الرجل؟
فإن قالوا: ولكنا نقف في مغيبه.
قلنا: اجعلوا أبا بكر ذلك الرجل.
فإن قالوا: فإن أبا بكر لم يزل يظهر الكفر في دار الاسلام، كما كان
يظهر الكفر في دار الكفر.
قلنا: لابد لكفره من وجهين: إما أن يكون كان يظهره على
عهده وذمة فلذلك لم تقتلوه، أو يكون كان على غير عهد وذمة.
فإن ادعوا أن كفره كان على عهد وذمة كما جعل الله ورسوله للنصارى
ولليهود، خرجوا إلى ما لا نحتاج مع فحشه إلى الكلام فيه. وإن زعموا
أنه كان على غير عهد وذمة وحكم الاسلام ظاهر، فما أشبه هذا
القول بالقول الأول.
ويقال لهم: خبرونا عن أبي بكر، هل يخلو من أن يكون لم يقل
قط في دار الاسلام: لا إله إلا الله محمد رسول الله، أو يكون قد قال
ذلك مرة واحدة؟
فإن زعموا أنه قد قالها مرة واحدة ثم تركها، قيل لهم: فقد
أقررتم وجامعتم خصومكم على أنه قد شهد الشهادة، فليس لكم أن
245

تخرجوه إلى نفاق أو إلى ترك، إلا لمجامعة خصومكم لكم، إذ كانت الفرقة
لا تنقض الجماعة.
فإن قالوا: فإنه لم يقل لا إله إلا الله محمد رسول الله مرة قط من دهره،
لا على نفاقة ولا على غيره، بل كان يظهر عبادة الأصنام، ثم مع ذلك سلم على
حكم الكتاب والسنة، وعلى حكم الدار. فليس عندنا في ذلك إلا إسقاطه
وتحريم كلامه وإمضاء حكم مثله فيه.
بل قد ثبت إسلامه بعد الوجوه التي ذكرتها بوجوه:
منها أن الله أثنى على عباده الصالحين، فخص بتفضيله السابقين
والمهاجرين الأولين. وقد اجتمعت الأمة أنه من المهاجرين الأولين
مع فضيلة هجرته، إذ كانت هجرته وهجرة رسول الله صلى الله عليه معا.
فهذا وجه.
ثم الذي رأينا من ذكر الله وثنائه على أهل بدر. وقد أجمع المسلمون
أنه كان ممن شهد بدرا، مع ما فضل من الكون في العريش، ولا موضع
أدل على الخاصة من ذلك الموضع في ذلك الموقف، مع ما شهد به من
مستجيبيه وعتقائه ومواليه، ولقد بلغ من قدر من شهد بدرا أن عامة
الفقهاء تحدث أن الله " اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم " فلذلك
كان الحسن يقول: إن طلحة والزبير وعليا في الجنة معا وإن لم يكونوا
كانوا (1) في الدنيا، لانهم عتقاء الله من النار، ولم يكن الله ليعتق عبدا
ثم يعيده في رقه، ولذلك كان الحسن. وحوشب، وهاشم الأوقص، وبكر
ابن أخت عبد الواحد، يقولون إذا ذكروا يوم الجمل: " هلكت الاتباع
ونجت القادة " فهذا هذا.

(1) في الأصل: " نوا " بالاهمال.
246

ثم الذي كان من ذكر الله وحسن ثنائه على من بايع تحت الشجرة.
وأي شئ أعجب من اجتماع السلف مهاجريها وأنصاريها خلا أربعة نفر
على تقديم رجل في مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقضى في أبشارهم
وأشعارهم، وفروجهم وأموالهم. ويحمل أماناتهم، ويدعونه خليفة
رسول الله، حتى تترك (1) الشريف المطاع ذا السابقة والقدم وتولى مكانه
الخامل القليل المقصر، فلا يراد ولا يدافع، ولا يراجع ولا يستفهم، وهو
المعروف عندهم بجحد الرسول وعبادة الأوثان، وليس بذى عشيرة منيعة.
ولا يستطيع أحد أن يزعم أنه قد كان واطأ العشائر ليصرفوا إليه
عونهم على أن يؤثرهم (2) ويفضلهم، ولو كان ذلك لظهر علمه ولم يخف أثره.
ومثل هذا لا يستطاع كتمانه وستره وتزميله.
وكيف وقد سوى بين الرفيع والوضيع، والذليل [و] المنيع؟! فلم (3)
يؤثر قريبا ولم يول نسيبا.
ولو استعان بطلحة وولاه وفضله لقد كان لذلك موضعا. وللولاية
والتقديم أهلا، بل صنع ضد ما يصنعه أصحاب الميل والأثرة،
والعصبية والمواطأة.
ولو كان قريب القرابة لجاز (4) لقائل أن يقول: إنما قدم لقرابته.
ولو كان عصبية لقالوا: إنما استحق بوراثته.
ولو كان منيع الرهط لقالوا: إنما قدم لكثرة قبيلته.

(1) في الأصل: " نقول " بالاهمال.
(2) في الأصل: " نوربهم " بالاهمال.
(3) في الأصل: " فمن لم ".
(4) في الأصل: " وجاز ".
247

ولو كان استعان بقوم على مواطأة وشريطة، كصنيع معاوية بذى
الكلاع وعمرو بن العاص، لقالوا: إنما قدم رهبة ممن واطأه، ورغبة
فيمن أكد هواه.
[و] ولى بنى مخزوم أعناق العرب وقتال أهل الردة، وحرب
مسيلمة ومحاربة طليحة. دون رهطه * ولو ولى ذلك طلحة لكان لذلك
أهلا ولكن الطاعن قد كان يجد سببا.
وكذلك عمر بن الخطاب لو كان أدخل في الشورى سعيد بن زيد
كما كلم في ذلك. وأدخل في الرقباء عبد الله بن عمر كما كلم في ذلك،
لكان لذلك أهلا، ولكن الطاعن قد كان يجد متعلقا.
وولى خالد بن الوليد حرب مسيلمة وطليحة وبنى تميم وأهل البادية،
وولى عكرمة ردة عمان، وولى المهاجر بن أبي أمية ردة أهل نجير
واليمن. وما زال عمر يعاتبه في خالد فيقول أبو بكر: " لا أشيم سيفا سله الله
على الكفار ". فهذا هذا.
والعجب (1) لهذه الأمة كيف اختلفت في رجلين أحدهما خير خلق الله.
والآخر شر خلق الله، وكيف اختلفت في رجلين أحدهما لم يزل مؤمنا
والآخر لم يزل كافرا، ثم كان المقدم الخسيس الكافر، على الرفيع المسلم!
[وهم] أصحاب القرآن وخاصة الرسول من الصحابة والبدريين والأنصار
والمهاجرين، وهم الذين قال فيهم التابعون: خير هذه الأمة أصحاب محمد
صلى الله عليه! ابتلوا فصبروا، وأنعم عليهم فشكروا.

(1) في الأصل: " وللعجب " في هذا الموضع والموضعين بعده.
248

والعجب كيف رأوا (1) تفضيل على على أبى بكر وعمر مديحا له.
وإنما كان يكون على عاليا رفيعا متقدما زاهدا عالما سائسا أن لو كان
أفضل من فضلاء، وأعلم من علماء، وأعقل من عقلاء، وأزهد من
زهاد، وأسوس من ساسة، فأما أن يكون أفضل من أنقص الناس،
وأزهد من أرغب الناس، وخيرا من شر الناس، وأعلم من أجهل
الناس، فليس في هذا التفضيل درك فيتكلفه متكلف، ويقوم به قائم.
والعجب من رجلين بينهما هذا التفاوت والتباين ثم شهد المتكلمين (2)
من سمعهما يتنازعان فيهما، فيحسب الحاضر أن شرهما خيرهما، وهو
الأريب الأديب الذاهب مع التعارف عن التناكر. وكيف التبس الامر
وأشكل أن لم يكن الامر مشكلا ملتبسا.
وكيف يجوز أن يكون أبو بكر لم يزل كافرا، أو يكون كفر بجحده
إمامة على وكفر معه المهاجرون والأنصار، وقد أجمع أصحاب الاخبار
وحمال الآثار أن النبي صلى الله عليه قال: " إن من أمتي سبعين ألفا
يدخلون الجنة بغير حساب " فقام عكاشة بن محصن فقال: يا رسول الله،
دع الله يجعلني منهم. قال: أنت منهم. فقتل مع خالد بن الوليد يوم بزاخة
في إمرة أبى بكر وطاعته والاقرار بخلافته، قتله طليحة بن خويلد
الأسدي. فكيف يجوز أن تكون إمامة أبى بكر معصية فضلا على أن
تكون كفرا والمقتول في طاعته والمنقاد لامره من أهل الجنة.
ثم تزعم الروافض أن من الدليل على أن عليا كان المحق دون طلحة
والزبير، أن النبي صلى الله عليه [قال] وذكر زيد بن صوحان " زيد
.

(1) في الأصل: " نأوا ".
(2) كذا وردت هذه العبارة.
249

وما زيد! يسبقه عضو منه إلى الجنة " فقتل يوم الجمل. فجعلوا الدليل
على صواب على في قتاله أن زيدا قتل في طاعته.
قيل لهم: ففي قول النبي " يسبقه عضو منه إلى الجنة " دليل أن ذلك
العضو لم يسبق إلى الجنة إلا وقد قطع في طاعة الله. وقد اجمعوا أن يده
قطعت يوم نهاوند، في طاعة عمر.
وهذا باب كبير إن تتبعه متتبع. ولكنا أردنا أن ندل على جميع
الأبواب في تفضيل الشيخين، ونفى التنص عنهما (1).
وإن سأل سائل فقال: هل على الناس أن يتخذوا إماما وأن
يقيموا خليفة؟
قيل لهم: إن قولكم " الناس " يحتمل الخاصة والعامة، فإن كنتم
قصدتم إليهما، ولم تفصلوا بين حاليهما، فإنا نزعم أن العامة لا تعرف معنى
الإمامة وتأويل الخلافة. ولا تفصل بين فضل وجودها ونقص عدمها (2)
ولأي شئ ارتدت ولأي أمر أملت، وكيف مأتاها والسبيل إليها، بل هي
مع كل ريح تهب، وناشئة تنجم (3) ولعلها بالمبطلين أقر عينا [منها (4)] بالمحقين.
وإنما العامة أداة للخاصة، تبتذلها للمهن، وتزجى بها الأمور، وتطول (5)
بها على العدو، وتسد بها الثغور، ومقام العامة من الخاصة مقام جوارح
الانسان من الانسان، فإن الانسان إذا فكر أبصر، وإذا أبصر عزم،

(1) بعد هذه الكلمة يبدأ اختيار جديد في نسخة المتحف البريطاني المرموز إليها بالرمز
(ب) وسأنبه على نهايته من بعد.
(2) في الأصل: " عزمها " صوابه في ب.
(3) في الأصل: " وباسمه بشخص " وأثبت ما في ب.
(4) التكملة من ب.
(5) ب: " تصول ".
250

وإذا عزم تحرك أو سكن وهدأ (1) بالجوارح [دون القلب. وكما أن
الجوارح (2)] لا تعرف قصد النفس ولا تروى في الأمور، ولم يخرجها
ذاك من الطاعة للعزم، فكذلك العامة لا تعرف قصد القادة (3) ولا
تدبير الخاصة، ولا تروى معها، وليس يخرجها ذلك من طاعة عزمها،
وما أبرمت من تدبيرها.
والجوارح والعوام وإن كانت مسخرة ومدبرة فقد تمتنع لعلل تدخلها،
وأمور تصرفها، وأسباب تنقضها (4) كاليد يعرض لها الفالج. واللسان
يعتريه الخرس، فلا تقدر النفس على تسديدهما وتقويمهما، ولو اشتد
عزمها وحسن تأتيها ورفقها. وكذلك العامة عند نفورها وتهييجها (5)
وغلبة الهوى والسخف عليها، وإن حسن تدبير الخاصة وتعهد الساسة.
غير أن معصية الجارحة أيسر ضررا وأهون أمرا، لان العامة إذا انكفت (6)
بالخاصة وتنكرت للقادة، وتشزنت على الراضة (7) كان البوار الذي
لا حيلة له، والفناء الذي لا بقاء معه.
وصلاح الدنيا وتمام النعمة، في تدبير الخاصة وطاعة العامة، كما أن
كمال المنفعة وتمام درك الحاجة (8) بصواب قصد النفس وطاعة الجارحة،

(1) في النسختين: " وهما ".
(2) التكملة من ب.
(3) في الأصل: " العادة " وب " العامة " والوجه ما أثبت.
(4) في النسختين " ينقصها ".
(5) أ: " ثبورها وتهيجها ".
(6) كذا في النسختين، لعلها: " نكثت ".
(7) الراضة: جمع رائض، تشزنت: تصعبت. والكلمة مهملة في الأصل: وفى ب
" تشربت " تحريف.
(8) في الأصل: " الخاصة " صوابه في ب.
251

لان النفس لو أدركت كل بغية. وأوفت على كل غاية، وفتحت كل
مستغلق، واستثارت كل دفين، ثم لم يطعها اللسان بحسن العبارة،
واليد بحسن الكتابة، كان وجود ذلك المستنبط - وإن جل قدره وعظم
خطره - [وعدمه (1)] سواء.
فالخاصة تحتاج إلى العامة كحاجة العامة إلى الخاصة. وكذلك القلب
والجارحة، وإنما العامة جنة للدفع، وسلاح للقطع، وكالترس للرامي،
والفأس للنجار. وليس مضى (2) سيف صارم بكف امرئ صارم بأمضى
من شجاع أطاع أميره وقلد إمامه! وما كلب أشلاه ربه وأحمشه كلابه،
بأفرط تنزقا (3) ولا أسرع تقدما، ولا أشد تهورا، من جندي أغراه
طمعه، وصاح به قائده.
وليس في الأعمال أقل من الاختيار، ولا في الاختيار أقل من
الصواب، فلباب كل عمل اختياره، وصفوة كل اختيار صوابه، ومع
كثرة الاختيار يكثر الصواب. فأكثر الناس اختيارا أكثرهم صوابا،
وأكثرهم أسبابا موجبة أقلهم اختيارا، وأقلهم اختيارا أقلهم صوابا.
فإن قالوا: فقد ينبغي للعوام ألا يكونوا مأمورين ولا منهيين،
ولا عاصين ولا مطيعين.
قيل لهم: أما فيما يعرفون فقد يطيعون ويعصون.
فإن قالوا: فما الامر الذي يعرفون من الامر الذي يجهلون؟

(1) التكملة من ب.
(2) في الأصل: " يمضى " صوابه في ب.
(3) ب: " نزقا ".
252

قيل: أما الذي يعرفون فالتنزيل المجرد بغير (1) تأويله، وجملة الشريعة
بغير تفسيرها، وما جل من الخبر واستفاض، وكثر ترداده على الاسماع،
وكروره على الافهام، وأما الذي يجهلون فتأويل المنزل، وتفسير المجمل،
وغامض السنن التي حملتها (2) الخواص عن الخواص من حملة الأثر، وطلاب
الخبر، مما يتكلف معرفته ويتتبع في مواضعه، ولا يهجم على طالبه (3)
ولا يقهر سمع القاعد عنه.
والخبر، خبران: خبر للخاصة فيه فضل على العامة، كالصلوات
الخمس، وصوم رمضان، وغسل الجنابة، وفى المائتين خمسة (4). وخبر
تفضل فيه الخاصة العامة، وهو كما سن الرسول في الحلال والحرام،
وأبواب القضاء (5) والطلاق، والمناسك، والبيوع، والأشربة.
والكفارات وأشباه ذلك.
وباب آخر يجهله العوام ويخبط فيه الحشو، ولا تشعر بعجزها (6)
و [لا] موضع دائها (7). ومتى جرى سببه أو ظهر شئ منه تسنمت
أعلاه، وركبت حومته (8)، كالكلام في القدر والتشبيه، والوعد والوعيد،

(1) في الأصل: " بعد " صوابه في ب.
(2) في الأصل: " جهلتها " صوابه في ب.
(3) أي يسهل فهمه. ب " يعجم " تحريف.
(4) يشير إلى الزكاة.
(5) هذا ما في ب. وفى الأصل: " الفضل ".
(6) ب: " بسرها ".
(7) التكملة السالفة من ب ودائها هي في الأصل: " ذاتها " وفى ب " دأبها "
والوجه ما أثبت.
(8) في الأصل: " حرمة " ووجهه من ب.
253

لأنها قد تحجم (1) [عن] دعوى الفتيا، ولا تتهافت فيها، [ولا] تتسكع
فيما لا يعرف منها (2)، ولا تستوحش من الكلام في [التعديل والتجوير،
ولا تفرغ من الكلام في (3)] الاختيار والطباع، ومجئ الاخبار (4) وكل
ما جرى سببه من دقيق الكلام وجليله في الله وفى غيره.
ولو برز (5) عالم على جادة منهج وقارعة طريق، فنازع في النحو
واحتج في العروض. وخاض في الفتيا، وذكر النجوم والحساب، والطب
والهندسة، وأبواب الصناعات، لم يعرض له ولم يفاتحه إلا أهل
هذه الطبقات.
ولو نطق بحرف في القدر حتى يذكر العلم والمشيئة (6)، والاستطاعة
والتكليف، وهل خلق الله الكفر وقدره؟ أو لم يخلقه ولم يقدره
لم يبق حمال أغثر (7) ولا يطاف (8) غث، ولا خامل غفل، ولا غبي
كهام، ولا جاهل سفيه، إلا وقف عليه ولاحاه، وصوبه وخطاه،
ثم لم يرض حتى يتولى من أرضاه، ويكفر من يخالف هواه. فإن
جاراه محق، أو أغلظ له واعظ، واتفق أن يكون بحضرته أشكاله، استعوى
أمثاله (9) فأشعلوها فتنة، وأضرموها نارا.

(1) ب: " عجزت " والتكملة التالية من ب.
(2) التسكع: أن يمشى متعسفا لغير وجهة. ب: " ولا تتسع ".
(3) التكملة من ب.
(4) ب: " الآثار ".
(5) في الأصل: " ولم يرد " صوابه من ب.
(6) هذا ما في ب. وفى الأصل: " التشبيه ".
(7) الاغثر. الأحمق الجاهل.
(8) كذا في ب. والحرف الأول مهمل في الأصل.
(9) استعواهم: نعق بهم إلى الفتنة.
254

فليس لمن كانت هذه صفته أن يتحيز مع الخاصة. مع أنه لو حسنت
نيته لم تحتمل فطرته معرفة الفصول وتمييز الأمور.
فإن قالوا: ولعلهم لا يعرفون الله ورسوله كما لا يعرفون عدله من جوره،
وتشبيهه بخلقه من نفى ذلك عنه، وكما لا يعرفون [القرآن و (1)]
تفسير (2) جمله، وتأويل منزله.
قيل لهم: إن قلوب البالغين مسخرة لمعرفة رب العالمين. ومحمولة
على تصديق المرسلين، بالتنبيه على [مواضع (1)] الأدلة، وقصر النفوس
على الروية، ومنعها [عن (1)] الجولان والتصرف، وكل ما ربث عن
التفكير (3)، وشغل عن التحصيل، من وسوسة أو نزاع شهوة، لان
الانسان ما لم يكن معتوها أو طفلا فمحجوج على ألسنة المرسلين عند جميع
المسلمين، ولا يكون محجوجا حتى يكون عالما بما أمر به، عارفا بما
نهى عنه، لان من لم يعلم في أي الضربين سخط الله وفى أي النوعين
رضاه، ثم ركب السخط أو أتى الرضا، لم يكن ذلك منه إلا على
الاتفاق. وإنما الاستحقاق مع القصد، والله يتعالى أن يعاقب من لم يرد
خلافه ولم يعرف رضاه، أو يحمد من لم يعتمد رضاه ولم يقصد إليه.
ولم يكن الله ليعدل صنعته ويسوى أداته (4)، ويفرق بينه وبين
المنقوص في بنيته وتركيبه، إلا ليفرق بين حاله وحال الطفل والمعتوه.

(1) التكملة من ب.
(2) هذا ما في ب. وفى الأصل " نفيس ".
(3) ربثه عن الشئ: حبسه وصرفه في النسختين: " على التفكير " تحريف.
(4) ب: " آدابه " تحريفه.
255

وليس للمعرفة وجه إلا لتبصيره (1) وتخييره، ولولا ذاك لم يكن للذي خص به
من الإبانة، وتعديل الصنعة، وإحكام البنية (2) معنى. والله يتعالى عن
فعل مالا معنى له.
وفى قول الله: " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " دليل
على ما قلنا.
وليس لاحد أن يخرج بعض الجن والإنس من أن يكون خلق
للعبادة إلا بحجة. ولا حجة إلا في عقل، أو كتاب، أو خبر.
فإن قالوا: فإن كان الله إنما أبانهم بالتعديل والتسوية للعبادة
والاختيار مع الأمة فحكمهم (3) حكم المسلمين المتعبدين، وإنما الامام
إمام المسلمين والمتعبدين.
قلنا: إنما يلزم الناس الامر فيما عرفوا سبيله، وليس للعوام خاصة
معرفة بسبيل إقامة الأئمة فيلزمها (4) أمر، أو يجرى عليها نهى.
والعامة وإن كانت تعرف جمل الدين بقدر ما معها من العقول فإنه
لم يبلغ من قوة عقولها وكثرة خواطرها أن ترتفع إلى معرفة العلماء،
ولم تبلغ من ضعف عقولها أن تنحط إلى طبقة المجانين والأطفال.
وأقدار طبائع العوام والخواص ليست مجهولة فنحتاج إلى الاخبار عنها
بأكثر من التنبيه عليها، لأنكم تعلمون أن طبائع الرسل فوق طبائع

(1) في الأصل: " وليس المتفرقة وجه إلا لسعده " صوابه في ب.
(2) في الأصل: " وتحكيم البنية " صوابه في ب.
(3) في النسختين: " وحكمهم ".
(4) في الأصل: " الأمة فليلزمها " صوابه في ب.
256

الخلفاء، وطبائع الخلفاء فوق طبائع الوزراء، وكذلك الناس على
منازلهم من الفضل، وطبقاتهم من التركيب في البخل والسخاء. والبلدة
والذكاء، والغدر والوفاء. والجبن (2) والنجدة. والجزع [والصبر (3)]
والطيش والحلم، والكبر والتيه، والحفظ والنسيان، والعي والبيان.
ولو كانت العامة تعرف من الدين والدنيا ما تعرف الخاصة كانت العامة
خاصة. وذهب التفاضل في المعرفة، والتباين في البنية. ولو لم يخالف
بين طبائعهم لسقط الامتحان وبطل الاختبار، ولم يكن (4) في الأرض
اختيار، وإنما خولف بينهم في الغريزة ليصبر صابر، ويشكر شاكر،
وليتفقوا على الطاعة. ولذلك كان الاختلاف هو سبب الائتلاف (5).
ويقال لهم عند ذلك: إنكم قد أكثرتم في أمر العوام، وخلطتم
في الحكم عليهم. فمرة تزعمون أنا نكذب عليهم حين نزعم أنهم غير
محجوجين، لانهم بزعمكم لا يفصلون بين الأمور، ولا يفرقون بين
الكاذب المحتال وبين الصادق المحق. وجعلتم الدليل على ذلك أنكم
اعترضتموهم بزعمكم فسألتموهم عن الدليل والحجة، والفرق والعلة، فلم
تجدوهم يشعرون بما (6) يلزم فيها ولا يعرفون بابها، وكيف الكلام فيها.

(1) البلدة، بفتح الباء وضمها، والبلادة أيضا: ضد النفاذ والذكاء والمضاء في الأمور.
ب: " البلادة ".
(2) في الأصل: " والخبر " مع الاهمال، صوابه في ب.
(3) التكملة من ب.
(4) في الأصل: " ولو لم يكن " صوابة في ب.
(5) إلى هنا ينتهى هذا الاختيار الأخير في نسخة (ب). وتنفرد نسختنا هذه بالنص.
(6) في الأصل: " لما ".
257

وإنا معشر أصحاب المعرفة قد تعمدنا الكذب عليهم. حين زعمنا أنهم يعرفون
ذلك. ويفرقون بين معانيه، ومرة تزعمون أنهم يعرفون ما يعرفه الخواص
والعلماء، ويعلمون ما يعلمه المتكلمون والفقهاء، من إقامة الأئمة وعقد
الخلافة. فمرة تخرجونهم من جميع المعرفة، ومرة تجعلونهم في غاية المعرفة.
وأعدل الأمور في ذلك وأقسطها أن تزعموا أنهم يعرفون جمل الشرائع
الظاهرة الجلية (1) وجمل السنن الواضحة المستفيضة، ويجهلون تفسير جملها
وتأويل منزلها، وكل منصوص لم (2) يظهر كظهور الحج، ولم يشهر
كشهرة (3) صوم رمضان، وغسل الجنابة، وتحريم الخمر والخنزير والميتة والدم.
ولكن دعونا جانبا. واضربوا عما نقول صفحا. وقربوا جميع القولين
لنتعاون عليهما. فأيهما كان أثبت على الامتحان، وأنفى للقذى، وأحسن
مغزى، وأجد على الأيام. وأصح على التقليب، دنا به، وحامينا عليه.
وتقربنا به، وآثرناه على ما سواه.
على أنا لا نستملى حق ذلك وصدقه إلا منكم، ولا نحتج عليكم
إلا بما تقرون به على أنفسكم.
خبرونا عن العوام: هل يخلو أمرهم من أن يكونوا محجوجين أو غير
محجوجين؟ فإن كانوا غير محجوجين فقد دخلوا في أكثر مما عابوا.
وإن كانوا محجوجين فهل تخلو الحجة الذي بها قطع الرسول عذرهم
من ضربين: إما أن تكون المعرفة بصدق الرسول وفصل ما بينه وبين

(1) في الأصل: " الجليلة ".
(2) في الأصل: " ولم ".
(3) في الأصل: " كشهور ".
258

المتنبي كما نقول. وإما أن تكون الحجة في الدليل على المعرفة،
وليست بالمعرفة.
فإن زعموا أن الحجة هي المعرفة فقد وافقوا وأصابوا، وإن زعموا
أنها الدليل على المعرفة فليخبرونا عن ذلك الدليل ما هو؟
فإن قالوا: هو كلام الذئب (1) وحنين العود (2)، وإظلال الغمامة (3)،
وقصة الميضاة (4) وخد الشجرة (5)، وكلام الذراع (6)، وعجز الشعراء عن
تأليف القرآن، والبشارات برسالته في الكتب.
قلنا: قد صدقتم فيما ذكرتم من هذه الآيات والأعاجيب، ولكن

(1) هو ذئب أهبان بن أوس الصحابي. قالوا: كلمه الذئب وبشره بالرسول. انظر
حواشي الحيوان 3: 513.
(2) انظر لحنين الجذع سيرة ابن سيد الناس 1: 239 - 241. وجاء في الحديث أن
النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلى في أصل أسطوانة جذع في مسجده، ثم تحول إلى أصل
أخرى، فحنت إليه الأولى ومالت نحوه، حتى رجع إليها فاحتضنها وسكنت.
وفى حديث آخر أنه كان يصلى إلى جذع في مسجده فلما عمل له المنبر صعد إليه، فحن الجذع
إليه، أي نزع واشتاق، انظر اللسان (حنن).
(3) كان ذلك فيما يروون في رحلة إلى الشام. السيرة 120 جوتنجن.
(4) الميضأة: الاناء يتوضأ منه. وهو إشارة إلى ما ورد من أنه صلى الله عليه وسلم أتى
بقدح فيه ماء فوضع أصابعه في القدح فلم يسع، فوضع أربعة منها وقال: هلموا. فتوضؤوا أجمعين
وهم من السبعين إلى الثمانين. سيرة ابن سيد الناس 2: 288.
(5) الخد: الشق. في الأصل: " وخد البشرة " تحريف، وفى سيرة ابن سيد الناس
2: 286: " ونام فجاءت شجرة تشق الأرض حتى قامت عليه فلما استيقظ ذكرت له فقال:
هي شجرة استأذنت ربها في أن تسلم على فأذن لها ".
(6) هو ذراع الشاة التي أهدتها إليه زينب بنت الحارث، امرأة سلام بن مشكم. وكانت
أكثرت له من السم في الذراع فتناول الذراع فلاك منها مضغة فلم يسغها ثم قال: " إن هذا
العظم ليخبرني أنه مسموم ". السيرة 764 - 765.
259

[لا] تخلو عقول العوام من أن تكون قد عرفت هذا كله وأقرت به،
أو لم تعرفه ولم تقر به، ولم تودع العلم بصحة مجيئه.
فإن زعموا أنها لم تعرف ذلك ولم تقرر به، قيل لهم: فمن أين
زعمتم أن الحجة لهم قاطعة، والفريضة لهم لازمة، ولا يعرفوا الحق
ولا الدليل عليه.
وإذا كانت المعرفة لا تستطاع إلا بالدليل، والدليل معدوم. والتكليف
لازم، فقد كلفوا ما لا يستطاع، ولم يضع الكلام بيننا وبين الجبرية.
وإن كان الله قد قرر (1) عقولهم بالآيات، وعرفهم صدقها وصحة مجيئها،
فإنما الفرق بيننا وبينهم أنا نزعم أن العاقل إذا كان قد جرب بعض
التجربة أنه لا يمتنع من تصديق من أحيا الموتى، وأبرأ الأكمه، وفلق
البحر، وأنطق السباع. وأنتم تزعمون أنه يمتنع، ويجوز أن يعتقد أنه
أكذب العالمين وأبطل المبطلين، مع ما أراه (2) من عظيم البرهان وعجيب
الآيات. ولعل قوم موسى كلما زادهم موسى آية وأردفها بعلامة،
ازدادوا جهلا بصدقه (3) واستبصارا في تكذيبه.
وكيف يستطيع ذلك من صحت فطرته، وقد جرب من أمور الدنيا
بعض التجربة، وعرف ما يحدث في العادة وغير العادة.
وإن كانت العامة قد قررت بأعلام الأنبياء، وعرفت الآيات كما
زعمتم، فقد كان ينبغي لنا إذا سألناهم عن صدقها وصحة مجيئها وإن لم
نفصل بينها وبين جبلة المبطل، أن يخبرونا عنها وينزلوا لنا أمرها. فما بالنا

(1) في الأصل: " قدر ". وانظر ص 261 س 6.
(2) أي ما أراه إياه محي الموتى ومبرئ الأكمه.
(3) في الأصل: " فصدقه ".
260

إذا سألناهم لم نرهم يعرفونها. ولا يحصلون مجيئها، ولا يخبرونا عن صدقها.
فإن كان لكم أن تقضوا على العامة بالجهل بين النبي والمتنبى. لانهم
لم تروهم يحسنون الفروق، ويفصلون بين الأمور، فقد ينبغي لنا أيضا
أن نقضي عليهم بالجهل. وأنهم لم يعرفوا الدلالة، ولم يقرروا (1) بشئ
من الآيات والأعاجيب.
فإذا كان القوم عندكم محجوجين قد قرروا وعرفوا، ونحن لا نجد
عندهم على المسألة من ذلك شيئا، وجاز لكم أن تزعموا ما زعمتم،
فلم لا يجوز لنا أن نزعم أنهم [كانوا] عارفين وإن لم نجد ذلك عندهم
على المسألة.
ولولا أنى قد ذكرت هذا الباب مفسرا في " كتاب المعرفة " لأخبرت
من أي وجهة جاز أن يكون بعض العارفين لا يخبر عن كل ما في نفسه
ومن أين امتنع ذلك عليه.
فإن قالوا: قد فهمنا قولكم في العامة فما تقولون في الخاصة؟
فهل كلفها الله ذلك أم لم يكلفها كما لم يكلف العامة؟ وفى ذلك سقوط
التكليف عن الجميع.
قلنا: بل نقول: إن على الناس إقامة الامام، زيد الخاصة.
ولا نقول أيضا إن على الخاصة إقامة الامام إلا على الامكان.
فإن قالوا: وما سبب عجز الخاصة وإمكانها؟
قلنا: من ذلك أن تكون العامة عليها مع جند الباغي (2) المتغلب.

(1) في الأصل: " لم يعروا " قرره بالشئ: حمله على الاقرار به والاعتراف.
(2) في الأصل: " الساعي " وانظر ما سيأتي ص 264 س 3.
261

فإن قالوا: فهل يلزمها فرض الإقامة إذا كانت العامة كافة عن
العون عليها.
قلنا: قد يلزمها في ذلك ولا يلزمها في أخرى.
وإن قالوا: ففي أية الحالين يلزمها؟
قلنا: إذا كان المستحق للامامة والمستوجب للخلافة معروف الموضع،
مكشوف الامر، وكانت التقية عنها زائلة.
فإن قالوا: وكيف لا تكون التقية عنها زائلة، وهى على حال أكثر
عددا من جند المتغلب والباغي، والعامة كافة ممسكة لا لها ولا عليها.
قلنا: إنه ليس في حال أكثر عددا. فإذا كانوا أكثر عددا
وكانت التقية زائلة، فعليهم إقامته.
فإن قالوا: فلم جعلتم لهم التقية، وأسقطتم عنهم الفرض في الحال التي
هم فيها أكثر عددا؟
قلنا: لأسباب، منها أن العدو إذا كان معدا، ذا سلاح وعتاد
وكراع، وكانوا على هيئة وأمرهم جميع، فقليل مجتمع أكثر من
كثير نشر (2). مع أن معهم أنفذ السلاحين، وأوفر العتادين: الضرا (1)
والدربة، وحسن التدبير والمعرفة، بطول الممارسة وكثرة الحاجة.
ومنها أن الخاصة وإن عرفت موضع المستحق، وظهر لها المستوجب،
وكانوا أكثر جماحا، فكل واحد منهم على ثقة من محل صاحبه به (3)
وخذلانه له. ولابد، ما دامت التقية، من التواكل والتخاذل، وإن

(1) ضري بالشئ ضرا: لهج به وصار عادة له.
(2) النشر: المتفرق. (3) المحل والمحال: المكر والكيد.
262

اتفق رأى الجميع في المغيب على النصرة. وليس ينتفع باتفاق أهوائهم
ما لم يتشاعروا (1).
فإن قالوا: إن كان الامر كما تصفون وجب ألا يقيموا إماما أبدا،
لانهم كما لا ينفكون من التقية، كذلك لا ينفكون من التخاذل.
قلنا: ليس الامر كما تقولون، لان تقية بعض الخاصة لبعض قد
تزول بأسباب كثيرة: منها أن تسوء سيرة المتسلط الباغي فيهم ويفحش
جوره، ويكثر تعضيله (2) واستئثاره وقهره، حتى يكون ذلك إحراجا
لهم وسببا للكلام والشكاية والتلاقي، لانهم قد عموا بالاحراج معا
ليكون كل واحد من المحرجين يتكل على رأى صاحبه. لعلمه بالذي
لقى من المكروه الذي هو فيه، من ثوران النفس وتهييج الطبيعة، فلا
يزال بهم ذلك حتى يتفقوا في الظاهر كاتفاقهم في الباطن، إذ كان
الاحراج قد شملهم وعمهم. وبلغ أقصاهم بعد أدناهم. وعند التلاقي
تزداد النفوس حمية وغضبا وبصيرة. فإذا تباثوا وتكاشفوا وشاع ذلك
من شأنهم، وشهر من أمرهم، علموا أن ذلك قد ظهر لعدوهم،
والمتسلط عليهم. فإذا علموا ذلك علموا أنهم قد لحجوا في الحرب،
ونشبوا في المناصبة. فإذا علموا ذلك لم يجدوا بدا من بذل المال.
وإعطاء الجهد. وإنما هي أسباب ترامى، وعلل تداعى، وأمور تهيج
أمورا، وأسباب توجب أفعالا، فعند ذلك تمكن الشدة، ويجب الفرض.

(1) في أساس البلاغة مادة (شعر): " وتقول: بينهما معاشرة ومشاعرة ".
(2) التعضيل: أن يضيق عليه ويحول بينه وبين ما يريد. وفى الأصل " تعطيله " تحريف.
(3) في الأصل: " إخراجا لهم ".
263

ومدار الامر على الامكان، فمتى بطل بطل الفرض، ومتى وجد
وجد الفرض.
وربما كان سبب تكاشفهم ما يعرفون من ضعف جند الباغي عليهم.
والمستبد عليهم بأمرهم (1).
ولضعفهم أسباب: فربما كان لاختلاف يقع بينهم. وربما كان لعدو
يدهمهم وينازعهم ملكهم، وربما كان للخلل (2) يدخل عليهم. والرقة تصيبهم،
من موت أعلامهم، أو قتل قوادهم، وربما كان لضعف رأى مدبرهم
وسياسة سائسهم (3)، أو موت قيمهم.
فبهذا وأشباهه تتكاشف الناس، وتظهر على ألسنتهم ضمائرهم، وتبدو
أسرارهم، ونفوسهم من قبل ذلك حنقة عليهم، متدينة بخلعهم والاستبدال
بهم، وإنما أمسكت عن الانكار وأظهرت التسليم ريثما تجد فرصة
وترى خلة، ويستجمع الامر، وتزول التقية. مع أنا نعلم أن العامة
أسخف أحلاما وأخف حركة، وأشد طيشا، أن تؤثر الكف والعزلة والتسليم
والمجانبة، عند حرب المحقين المتسلطين. ولو كانت تطيق ذلك ويجوز عليها
ما كانت العامة بعامة، ولكانت العامة خاصة. ولكنا أجبنا على قدر
مجرى المسألة.
وإنما البلية العظمى والداهية الكبرى، أن تنماز العامة حتى يصير
بعضها مع الخاصة، وبعضها مع البغاة والظلمة.

(1) في الأصل: " أمرهم ".
(2) في الأصل: " وإنما كان للحل " تحريف.
(3) في الأصل: " وصبا ".
264

والجملة أنهم متى أقرنوا لعدوهم (1) وأمكنهم منعهم، والرجل المستحق
ظاهر لهم معروف عندهم، فعليهم إقامته والدفع عنه.
فإن قالوا: ومن لهم بمعرفة الرجل الذي لا بعده (2)؟
قيل: إنه ليس على الناس أن يصنعوا المعرفة، وإنما عليهم إذا عرفوه
واستطاعوا إقامته أن يقيموه، ولابد للناس أن يقوم (3) فيهم - إذ فرض
ذلك عليهم - رجل يصلح لجباية خراجهم. وإقامة صلاتهم، وسد ثغورهم
وتنفيذ أحكامهم.
فإن قالوا: فكيف تعرفون فضله ولم تقابلوا بينه وبين غيره، وأهل
الفضل كثير، والفضل ممنون (4) مستفيض؟
قيل: كما بان عند المعتزلة عمرو بن عبيد، وكما بان الحسن بن حي (5)
عند الزيدية من بينها، وكما بان مرداس بن أدية عند جميع الخوارج من بينهم،
وكما علمتم من حال غيلان بدمشق، وحال عبد الله بن المبارك بخراسان.
وليس أن المعتزلة اجتمعت من أقطار الأرض فقالت نعم جميعها (6).
ولا وضعت فيه شورى، ولا تساوى (7) منهم نفر فاحتاجوا إلى القرعة.
وكذلك الزيدية في الحسن بن حي. والخوارج في مرداس بن أدية. ولكن

(1) أقرن للشئ: أطاقه وقدر عليه
(2) الكلمة مهملة في الأصل.
(3) في الأصل: " يقول ".
(4) كذا في الأصل. ولعلها " منجنون ".
(5) هو الحسن بن صالح بن صالح بن حي الهمداني ولد سنة 100 وتوفى سنة 169.
تهذيب التهذيب.
(6) في الأصل: " وجميعها ".
(7) في الأصل: " تساود ".
265

الأمور ترد على القلوب، وتهجم على العقول على طول الأيام، [إما] بالخبر
الذي يشفى من الشك ويبرئ السقم، وإما بالعيان (1) الذي يثلج الصدور
ويضطر العقول.
وقد علمنا نحن على حداثة أسناننا وتقادم الناس قبلنا. أن جالينوس
قد كان بائنا في طبه، وأن الارسطاطاليس كان البائن في المنطق.
وكذلك علمنا أن قيس بن زهير كان داهية قيس في الجاهلية، وأن
الحارث بن ظالم كان فاتكها، وأن هرم بن سنان كان جوادها. وأن
النابغة كان شاعرها، وأن الحارث بن كلدة كان أطبها، وأن عامر
ابن الطفيل كان أفرسها. ولم نضع قط في هذا شورى، ولا وضعه من
كان قبلنا، ولا استجمعت قيس فقابلت بين خصال هؤلاء (2) وبين جميع
قيس، لتعرف الفضيلة بالموازنة (3) والمقابلة، ولا احتاجوا في ذلك إلى
الاقراع والمساهمة.
وإذا كنا مع تقادم الاخبار نعرف البائن في كل عصر. والمقدم
في كل أمر، فعلى شبيه ما وصفنا (4) يعرف الناس فضيلة المستوجب.
والخير لا يستطاع كتمانه، والشر لابد من ظهوره.
واعلم أنه لا يمكن أن يكون رجل أعلم الناس بالدين والدنيا
ثم لا يسمع به، لأنه لا يصير كذلك إلا بالاختلاف إلى العلماء، وبطول

(1) في الأصل: " فأما العيان ".
(2) في الأصل: " خصالهم‍ لا ".
(3) في الأصل: " المواربه " بدون باء وبالاهمال.
(4) في الأصل: " ها وصفنا.
266

مجاثاة (1) الفقهاء، وكثرة درس كتب الله وكتب الناس، ومنازعة
الخصم ومقاولة الأكفاء. وهذا كله مما يظهر أمره، ويشهر مكانه.
ثم الذي يدخل العالم (2) من خيلاء العلم وعز الحق، وسرور الظفر
بما أعيا الناس معرفته، حتى لا يستطيع أن يكتمه وإن اشتد عزمه، وقل
رياؤه ونفجه، لان للعلم سورة، ولانفتاحه بعد استغلاقه فرحة،
لا يضبطها بشرى وإن اشتدت حنكته، وقويت منته، وفضلت قوته.
وإنك لتجد كثيرا من العقلاء يخاطرون بأعناقهم، لبعض العظمة
يجدونها (3) في أنفسهم على خصومهم وأكفائهم. حتى لا يمتنعون من
إظهارها والفخر بها، فما ظنك بالعالم إذا كان بائنا بنفسه، وكان
في دولته، وتعظيم الناس موكل بصاحبه كيف يستطيع كتمانه وإماتته،
مع ما أخذ الله على العالم من حسن الارشاد واحتمال المؤونة، واستنقاذ
الناس من الجهالة. ومن القيام بحق العلم تعليم الجاهل. فهذا كله يغنى عن
لقاء الكل للكل.
ولو أشكل أمره ولم يبن من أمثاله، وهو للناس أصلح من غيره،
فقد أمكن البأس (4) إذ لو كان ظاهرا لهم إقامته لنبه الله على مواضع
فضله، ولاذكر الناس ما سقط عنهم من تدبيره، ولبعث الهمم على حبه
وطلب محاسنه.

(1) مهملة في الأصل. جاثاه: جعل ركبته إلى ركبته.
(2) في الأصل: " العلما ".
(3) في الأصل: " ويجدونها ".
(4) البأس: الشدة. في الأصل: " وقد أمكن الناس أن لو كان ظاهرا ". وانظر ما سيأتي
ص 269 س 5.
267

وكيف يجوز أن يكون أكمل الناس خفى العلم ومغيب العمل، وهو
لا يكون كذلك حتى تكثر تجربته ويكثر صوابه، ويشتد حلمه،
ويحسن تدبيره، ولابد من كثرة حج وغزو، وصلاة وصوم وصدقة،
وذكر وقراءة قرآن، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وحدب على
الأولياء وغلظة على الأعداء. إن دام فقره دامت قناعته وقل إسفافه،
وإن دام غناه دام بذله وقل طغيانه. وليس من هذا شئ إلا وهو
يشهر صاحبه ويظهر للناس مكانه، ويدعو إلى محبته وتعظيمه.
وإن زعموا أنه يجوز أن يكون خير الناس أو أعلم الناس، وإن لم
يعرف بشئ مما ذكرنا، فقد صار خير الناس من لم يعمل خيرا قط.
فإن قالوا: فما تقولون إن وجدوا عشرة سواء؟
قلنا: قد يكون أن تجدوا عشرة متقاربين، فإذا صاروا إلى الموازنة
بان الأفضل من الانقص. وقليلا (1) ما يكون ذلك، كما وجدنا الستة
الشورى الذين اختارهم عمر والمهاجرون والأنصار معه، فقد كانوا في طبقة
واحدة. ولكن أهل الطبقة قد يتفاضلون بأمر بين لا خفاء به، كما
نظروا فاختاروا عثمان غير مكرهين ولا محمولين.
ولكن لا يجوز بوجه من الوجوه أن يتفق عشرة سواء في الحقيقة،
وعند الموازنة الصحيحة، لان في اتفاق ذلك بطلان الإمامة. ولو جاز
أن يتفق عشرة سواء لجاز أن يكون الرقباء والشهود عليهم سواء. ولو
جاز أن تستوى حالاتهم وأفعالهم جاز أن يقولوا لما ينبغي أن يقولوا فيه
نعم: " لا " معا، ولما ينبغي لهم أن يقولوا فيه لا: " نعم " معا.

(1) في الأصل: " وقليل ".
268

وفى هذا فساد الاختيار والاقراع، فإذا فسد الاختيار والاقراع ولم
يكن الرجل بائنا فلا سبيل إلى إقامته. ولم يكن الله ليفرض أمرا
ولا يجعل إليه سبيلا، ولم يكن الله ليكلف الناس أمرا إلا وذلك الامر
مصلحة لهم. فكيف يمنعهم مصلحتهم، بل كيف يظهر لهم فرض
الإمامة وقد أمكنتهم الشدة (1)، والمعلوم عنده أن العالم سيتهيأ فيه ويتفق
ما لا يمكن معه أداء الفرض، ولا بلوغ المصلحة.
ولو جاز أن يتفق عشرة سواء في الحقيقة وعند الموازنة في جميع
الخصال، ما كان إحياء الموتى وإبراء الأكمه أعجب منه، ولا أخرج
من العادة، وإنما جعل الله ذلك لرسله فقط.
ولو جاز أن يتفق في العالم شئ يكون جاعلا (2) من الرسالة جاز
ذلك في أمور كثيرة. ولو جاز ذلك اختلط الكاذب بالصادق، والحجة
بالشبهة، وهذا مالا يجوز على الله تبارك اسمه، وتعالى جده.
ولو عرفوا موضع الامام بعينه ثم قال الشامي: لا يكون إلا منا،
وقال العراقي: لا يكون إلا منا، وقال الحجازي: لا يكون إلا
منا، وكذلك التهامي والجزري، وكذلك إذا قال القرشي: لا يكون
إلا منا، وقال الحسيني: لا يكون إلا منا، وقال الحسنى: لا يكون
إلا منا، وكذلك الفلاني والفلاني. وكذلك أن لو قال الأباضي:
لا يكون إلا منا، وكذلك لو قال الصفري والأزرقي والنجدي والزيدي،

(1) انظر ما مضى في ص 267 س 15.
(2) كذا في الأصل.
269

والفلاني والفلاني - لما وصل أهل الحق إلى إقامته إلا بأن يكونوا
في عدد الجميع وفى عتادهم.
والامام يقام من ثلاثة أوجه:
فوجه كالذي حكينا ووصفنا.
ووجه آخر مثل ما أقام المسلمون عثمان بن عفان حين اختار عمر
ستة متقاربين فاختاروا منهم رجلا، فلولا أن الستة كانوا بائنين عند
الجميع لم يطبقوا ذلك الاطباق، لأنه لم يقل واحد: كان ينبغي أن يكون
منا (1)، ولم يقل واحد من الرقباء ولا من الفقهاء والخاصة: فينا
واحد كان ينبغي أن يكون معهم، ولا قالوا: فيهم واحد كان ينبغي
أن يكون معنا، فهذا دليل أن الستة كما كانوا بائنين عند عمر كانوا
بائنين عند الخاصة.
ووجه آخر، وهو مثل إقامة الناس لأبي بكر، ليس على أن النبي
صلى الله عليه وسلم جعل شورى كما وضعها (2) عمر، ولا على جهة
ما حكينا من أمر الخاصة والعامة بإقامة الامام والنص عليه، لان ذلك
أسلم وأخف في المؤونة، وأبعد من الغلط والفتنة، وقد وجدتم ما هو
أغمض معنى وأدق مسلكا، وأغوص مستخرجا، وأفحش مأثما، غير
مفسر ولا منصوص عليه، كالكلام في التعديل والتجوير، وفصل
ما بين الطباع والاختيار، والكلام في التشبيه ونفيه، وفى مجئ الاخبار
وحجج العقول.
ونحن لم نر أحدا قط ألحد ولا تزندق من قبل الغلط في كلام

(1) في الأصل: " معنا ".
(2) في الأصل: " وصفها ".
270

الامام والاختلاف فيها. ومن وجدناه قد ارتد زنديقا أو دهريا من
قبل هذه الأبواب أكثر من أن نحصى لهم عددا، أو نقف منهم
على حد.
فإذ جاز أن يتركنا وأشد الامرين لنكون نحن الذين نستنبطه
ونتكلف معرفته، ليكون عاجل سروره وريثه (1) وآجل ثوابه وعظيم
جزائه، كان الذي هو (2) أظهر للعقول، وأسهل على الطالب، وألين
كنفا للواطئ، وأقرب مأخذا للمسترشد، أولى بذلك.
ولا بد لهم من أن يقولوا أحد أمرين: إما أن يقولوا: إنا إذ وجدنا
نصب الإمام والنص عليه أسلم لنا من الخطأ، فالواجب علينا أن نزعم
أن الله قد فعل ذلك، وإن لم نجد خبرا نضطر إليه، ولا قرآنا ينص
عليه، والإمامة مختلفة في ذلك، فإنما أوجبنا ذلك من قبل حسن الظن
بالله. وإن لم يكن في القرآن آية تدل على أن الله لم ينصب إماما،
ولا في الخبر.
وإما أن تقولوا إن ذلك قد كان وقع منه (3)، وإنما عرفناه بالاخبار
والآثار والكتاب.
فإن كانوا إنما حكموا على الله بفعل ذلك لأنه أسلم لهم من الخطأ،
وأبعد لهم من الغلط، إلا أنهم قد وجدوا بذلك خبرا قائما، وكتابا
دالا، فإن كان ذلك كذلك فلم أوجبوا على الله فعل ما هو أيسر

(1) الريث: البطئ. وفى الأصل " وريبه ".
(2) في الأصل: " كان هو الذي ".
(3) في الأصل: " وقوع منه ".
271

وأظهر، وقد وجدوا الله لم يصنع ذلك فيما هو أغمض وأشكل. كالذي
وصفنا قبل هذا من الكلام في التعديل والتجوير، والتشبيه، ومجئ الاخبار.
وقد علموا مع ذلك أن أكثر الناس لم يؤتوا في هلكتهم إلا
من قبل سرف شهواتهم، وغلبة طبائعهم.
وكيف لم يحكموا على الله بغير ما وجدوا من رفع مؤونتها، وقمع
دواعيها، حتى لا يلحج الناس طبائعهم، ولا تورطهم شهواتهم،
وإنما يحكم بهذا وأشباهه على الله من لا علم له بالله وتدبيره، لان الله لو
أسقط عن الناس كل ما أثقل ظهورهم، واستبشعته نفوسهم، وخالف أهواءهم
لسقط الامتحان، وبطل الاختبار (1)، إذ لم يكن هناك حلاوة تجتنب
ومرارة تركب، ولذيذ يؤخر، وكريه يقدم.
وإن ذهب السائل إلى غير هذا الوجه، وزعم أنه إنما قال إن الله
قد نص على إمامة على لان الخبر به جاء المجئ الذي لا يكذب مثله.
ولولا أن الخبر صحيح (2) جاز عنده أن يكون الله يطوقهم النظر (3).
ويضع لهم الدلالة، ولا ينصهم (4) على شئ ولا يفسره لهم، كفعله فيما هو أدق
وأخفى، وأعظم إثما وأشد خطرا.
قيل لهم: إنكم وإن سمعتم فلستم بأعلم بالاخبار من غيركم.
ولئن كنتم مجيبين بخبر قد سمعناه معكم فلم يحجنا كما حجكم، إنه
لعجب. وإن كان الخبر قد حج جميع من خالفكم مع كثرتهم،
وأطبقوا على كتمانه وجحده واتفقوا عليه، إن هذا لاعجب.

(1) في الأصل: " إن ".
(2) في الأصل: " الصحيح ".
(3) أي يكلفهم بالنظر.
(4) في اللسان والقاموس: " النص: التعيين على شئ ما ".
272

وكيف تحجون بخبر لا تستطيعون أن تقيموا حجته على من
خالفكم. فإن كنتم إنما حجكم سلفكم فحجوا أهل عصركم ومن
معكم، كما حجكم من قبلكم من أسلافكم.
وقد نفضنا القرآن من أوله إلى آخره فلم نجد فيه آية (1) تنص على
إمامة، ولا أنها إذ لم تنص كانت دالة عند النظر والتفكير، ولا أنها
إذ لم تدل بالنظر والتفكير وكان ظاهر لفظها غير ذلك على ما قلتم كان
أصحاب التأويل والتفسير مطبقين على أن الله أراد بها إمامة فلان.
فهذا باب لا تقدرون من قبله على حجة. وليس لكم في باب الخبر
والاجماع متعلق ولا سبب، مع قول الأنصار: منا أمير ومنكم أمير.
وقول المهاجرين: بل منا الامراء ومنكم الوزراء.
ثم وجدنا أبا بكر وهو متكلم قريش وصاحب أمر المهاجرين، والمنازع
عنهم يوم السقيفة، يقول للناس بعد سكون الأنصار وارتداعهم: بايعوا
أي هذين شئتم - يعنى عمر وأبا عبيدة - فلم نجده ادعاها لنفسه، ولا
أبى أن تكون لغيره. ولم يقل إنسان من الأنصار ولا من المهاجرين، ولا
من أفناء الناس (2): إن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان جعلها لفلان
وحض عليها له. ولا أنهم إذا لم يدعوا النص (3) قال قائل إن النبي الله
عليه قد كان قال قولا يوم كذا وكذا يدل على أنها لفلان، ولم ينطق
بذلك أحد بعد تلك الأيام كما لم ينطق أحد فيها (4).

(1) في الأصل: " أنه ".
(2) أفناء الناس: أخلاطهم.
(3) في الأصل: " النصر ".
(4) في الأصل: " منها ".
273

ثم وجدنا أبا بكر حين أراد أن يجعلها إلى عمر من بعده كيف يمشى
إليه رجال المهاجرين وعلية السابقين، ليصرفها إلى من هو ألين جانبا
وأخفض جناحا، وأقل هيبة، ويقولون: يا خليفة رسول الله، إن الحاجة
للأرمل والأرملة، والضعيف والضعيفة، وعمر رجل مهيب في صدور الناس
والله ما نريد صرفها عنه ألا يكون سبق إلى كل يوم خير! قال أبو بكر:
أبربي تهددوني، أما إذا لقيته فقال لي: من (1) استخلفت على عبادي؟
قلت: استخلفت عليهم خير أهلك عندي (2).
فلم يجر بينهم مما يقولون حرف واحد.
ثم أن عمر بعد ذلك جعلها شورى بين ستة وجعل إليهم الخيار،
وسلم ذلك جميع المسلمين، فيهم الزهري والتيمي والهاشمي والأموي
والأسدي، على أنها إن وقعت للأسدي لم يكن منكرا عند الجميع،
وكذلك الزهري والأموي.
وأعجب من هذا أجمع وأدل على الاختلاف، وأبعد من النص
والاجماع، قول عمر في شكاته وهو موف على قبره وعنده المهاجرون
الأولون: " لو أدركت سالما مولى أبى حذيفة ما تخالجني فيه الشك ".
حين ذكر دعابة على، وبخل (3) الزبير، وبأو طلحة، وحب عثمان لرهطه.

(1) في الأصل: " لمن " تحريف.
(2) في الطبري 4: 54: " عن أسماء بنت عميس قالت: دخل طلحة بن عبيد الله على
أبى بكر فقال: استخلفت على الناس عمر وقد رأيت ما يلقى الناس منه وأنت معه، فكيف به
إذا خلا بهم؟! وأنت لاق ربك فسائلك عن رعيتك؟ فقال أبو بكر - وكان مضطجعا -
أجلسوني، فأجلسوه فقال لطلحة: أبالله تفرقني - أو أبالله تخوفني - إذا لقيت الله ربى
فساءلني قلت: استخلفت على أهلك خير أهلك ".
(3) انظر أنساب الأشراف للبلاذري 5: 17 حيث يقول عمر فيه إنه: " لقس، =
274

ثم الذي كان من منازعة سعد بن أبي وقاص لعلى، وتركه بيعته
ودعائه له إلى وضع الشورى، والتخاير بالاعمال والجزء (1) فلم تجدوا أحدا
من الناس يقول من وراء سعد أو في وجهه: ولم تخايرك وقد اختاره
الرسول دونك.
وقد كان ينبغي لأصحاب على ومن معه من المهاجرين والبدريين وسائر
الصحابة والتابعين، ألا يمسكوا عن ذكر هذه الحجة وإن أمسك عنها
الناس وأضاعوها، وعاندوا أو غلطوا فيها. ولم نعلم هذا وأشباهه إلا دليلا
قاطعا لمن لم يمنع قلبه معرفة الحق ولسانه الاقرار به، في محاربة طلحة والزبير
وعائشة وعلى، وما أراقوا من الدماء. ولم يقل واحد من الناس: ولم
تقاتلون رجلا (2) أو تطلبون مخايرته وقد نصبه النبي صلى الله عليه وفسر
أمره، وبين شأنه. [وهذا] دليل على ما قلنا، وبرهان لما ادعينا.
ولقد قال رجل لعمر بن علي: خبرني عن وصية رسول الله صلى الله
عليه إلى أبيك. قال: والله إن هذا الكلام ما سمعت به قط إلا الساعة.
وقد تعلمون أن الأمة كلها مع اختلاف أهوائها ونحلها، لا تعرف مما
تدعون من أمر النص والوصية قليلا ولا كثيرا، وإنما هذه دعوى
مقصورة فيكم، لا يعرفها سواكم. وإن أشد الناس عليكم في الوصية

= مؤمن الرضا كافر الغضب، شحيح ". لكن في الإصابة 2783 أنه " كان له ألف مملوك
يؤدون إليه الخراج فكان لا يدخل بيته منها شيئا، يتصدق به كله ". وانظر أيضا الرياض
النضرة 2: 271 - 272 حيث التنويه بجوده وكرمه.
(1) الجزء: الاجزاء والكفاية: في الأصل: " الحر ".
(2) في الأصل: " بعلا " وإذا التصقت الراء مائلة إلى أعلى بالجيم صارت على هذا
الشكل المحرف.
275

والنص للزيدية مع تشيعها وإفراطها وشدة إقدامها على عثمان. وسوء قولها
وشدة عداوتها للزبير وطلحة.
فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم نصبه للناس وبين أمره واحتج له،
لم يكن هناك اختلاف ولا ارتياب، ولا تحير، ولا احتج بذلك المحجوجون
على شاذ إن شذ ومفارق. [وفى] هذا وأقل منه ما يردع ذا اللب،
ويكف ذا الحجا.
وزعمت الرافضة أن النبي صلى الله عليه أوصى إلى رجل بعينه، وأمر
أمته بالوصية في تركاتهم، لان ذلك أجمع للشمل، وأدعى إلى الألفة،
وأمنع للفساد، وأقطع للشغب، وأذهب للضغائن، وأبعد من الغلط.
إلا أن الله قد كان يعلم أن النبي صلى الله عليه متى أوصى إلى ذلك
المستحق تكفر أمة محمد صلى الله عليه إلا ثلاثة أنفس، وأن الوصي
سيضعف عن القيام بالحق، وسبرل مع العام (1) بيديه (2) إظهاره بلسانه، وأنه
لا يرضى بالكف عن شتمه الكافرين حتى يزكيهم على منبره. فسبحان
الله ما أعجب هذا القول!.
وإن تركوا الكتاب وأضربوا عن الاجماع واحتجوا بالرواية، فما
أحد أجحد لها ولا أرد لمعرفتها منهم. مع أن رواية غيرهم أكثر،
وعلى ألسنة أصحاب الحديث أظهر.
ولو كانت روايتهم ورواية خصومهم سواء ما كان تأويلهم بأقطع
لتأويل خصومهم من تأويل خصومهم لتأويلهم. مع أن الحديث إن كان
يحتمل ضروب التأويل فغلط في حق ذلك من باطله رجل فليس بكافر

(1) كذا في الأصل.
(2) في الأصل: " بيديه ".
276

ولا مكابر، لان ذلك الحديث لو كان صحيحا لم يكن بأبين من القرآن
ولا أوضح.
وقد يختلف الناس في تأويله ولا يكفرون ولا يكابرون، فكيف
يكفر من غلط في تأويل حديث لو كان رده لم يكن عاصيا.
وإن كانت إمامة على لا تثبت عندهم إلا من قبل الرواية فقد
أفلح خصم الرافضة، واستراح من كد المنازعة.
وقد زعم ناس من (العثمانية) أن الله قد اختار للناس إماما،
ونصب لهم قيما، على معنى الدلالة والايضاح عنه بالعلامة، لا على النص
والتسمية، لان الله إذا قال: " وأشهدوا ذوي عدل منكم ".
- وقد عرفنا صفة العدالة - فمتى رأيناها في إنسان علمنا أنه الذي
كان عنى الله بالآية وإن لم يسمه فيها. وكذلك قول الرسول:
" ليؤمكم خياركم " فقد عرفنا الله الخيار من الشرار، والفضل من
النقص، فمتى وجدنا الفضيلة في رجل فهو الذي عناه النبي صلى الله عليه
وإن لم يذكره باسمه.
(1) ولا يهمل الناس ويتركهم سدى من وضع لهم الأدلة، ونبههم
على موضع البرهان، وعرفهم أبواب الصلاة.
ولو قلنا إن النبي صلى الله عليه قد اختار (2) للناس إماما على معنى
أنه إذ أمر أبا بكر بأن يتقدم المسلمين في مصلاه ومقامه ومنبره فقد
استخلفه، جاز ذلك في الكلام. وباب الجواب في هذه المسائل كثير (3).

(1) في الأصل: " ومن لا ".
(2) في الأصل: " أجاز ".
(3) الكلام بعد إلى " وحكمتم عليه " ص 279 س 4 موضعه في نسخة الأصل بعد كلمة
" التقية " ص 188 س 2. وقد أثبته في موضعه الصحيح هنا.
277

لأنه لا يجوز أن يكونوا لم يعلموا ذلك وقد علموا ما هو أخفى وأدق
وأيسر خطبا وأقل نفعا، وهم القوم الذين لا يؤتون من نصيحة وحسن
معرفة. وكيف يؤتون منهما وبهم عرفنا النصيحة والمعرفة.
فإن قالوا: فإنما كان خيرا للناس أن يختاروا لأنفسهم أو يختار
النبي لهم.
قلنا: لو كان النبي قد اختاره لهم لقد كان ذلك خيرا لهم من
اختيارهم لأنفسهم. فإذ لم يختره (1) لهم فترك اختياره خير لهم، لأنه
إذا كان أن لو كان اختاره لهم (2) فقد دل تركه الاختيار أن تركه
الاختيار لهم خير لهم، إذ كان قد كان اختار الترك دون الاختيار،
وترك الاختيار ربما (3) كان اختيارا. وهو في هذه المواضع اختيار،
لان النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ليختار لهم ترك النص والتسمية
إلا وترك النص والتسمية خير من النص والتسمية.
وإنما هذا مثل قائل لو قال لنا: أرأيتم التأويل الذي قد ضل من أجله
عالم، والتشبيه، والوعد والوعيد، والقدر، والأسماء، والاحكام التي قد كفر
من أجلها بشر، وبسببها تناحر الناس. وإنما كان خيرا لهم أن يعرفوه
بأسره، وينصوا على حقيقته، ويكفوا المؤونة فيه، حتى كان لا يقع
خلاف، ولا يوجد خطأ، ولا يشيع فساد، ولا يتفانى الناس أو يتركوا
ونظرهم، ويخلوا واختيارهم.
قلنا: الخيرة فيما صنع الله. فلو كان الله بين ذلك بالنص والتفسير

(1) في الأصل: " لم يختاره ".
(2) كذا وردت هذه العبارة، وأراها مقحمة.
(3) في الأصل: " بما ".
278

دون الدلالة ووضع العلامة، كان ذلك خيرة، لأنا نعلم أن الله لا يصنع
إلا ما هو خير.
فلو لم يفعل ذلك (1) ولم ينص عليه فتركه الامر على ما نحن عليه خير
لنا وأفضل. فكيف أوجبتم على الله وحكمتم عليه.
هذا جمل جوابات العثمانية بجمل مسائل الرافضة والزيدية. ولولا أن
فيما قدمنا غنى عما أخرنا لقد فسرنا كما أجملنا. وإنما ملاك وضع الكتاب
إحكام أصله، وألا يشذ عنه شئ من أركانه، فأما استقصاؤه حتى
لا يجرى بين الخصمين منه إلا شئ قد وضع بعينه، فهذا مالا يمكن الواضع
ولا يحتمل الكتاب. ولو أمكن الواضع واحتمله الكتاب لكان طوله
قاطعا لنشاط القارئ، ومجلبة لنعاس المستمع، إلا لمن صحت إرادته،
وأفرطت شهوته وقوى طبعه، وحسن احتسابه.
وقد أعيتنا هذه الصفة في المعلمين. فكيف [في] المتعلمين.
وعلى أن للنحل صورا كصور الناس، فكما أن بعض الصور أشد
مشاكلة لطبعك، وآنق في عينك، وأخف على نفسك، فكذلك النحل
في مقابلة الأهواء، ومشاكلة الشهوات، والخفة على النفوس.
فاحذر حوادث الشهوات، واتصال المشاكلة، فإنه أخفى من الدقيق،
وأدق من الخفى.
هذا إذا كان المعنى مجردا والمذهب عاريا، فكيف إذا موهه صاحبه،
وزخرفه واضعه، بأعذب الألفاظ وأشهاها، وأحسن المخارج وأعفاها (2)

(1) في الأصل: " قالوا فلم لم ".
(2) كذا في الأصل.
279

فشفى كل واحد منهما صاحبه، وحببه إلى سامعه، فإن وافق ذلك منه
تعظيم لسلفه، وهوى في قائله، فقد أسمحت نفسه بالتقليد،
واستسلمت للاعتقاد.
فاحذر في (1) هذه الصفة، ولا تستخفن بهذه الوصية.
واعلم أن واضع الكتاب لا يكون بين الخصوم عدلا، ولأهل النظر
مألفا حتى يبلغ من شدة الاستقصاء لخصمه مثل الذي يبلغ لنفسه، حتى
لو لم يقرأ القارئ من كتابه إلا مقالة خصمه لخيل له أنه الذي اجتباه
لنفسه، واختاره لدينه.
ولولا اتكالي على انقطاع الباطل عن مدى الحق وإن استقصيته وبلغت
غايته، ما استجزت حكايته. وقمت (2) مقام صاحبه.
ونحن مبتدئون في كتاب المسائل وبالله ذي المن والطول نستعين،
وعليه نتوكل.
هذه جمل أقوال (3) العثمانية، والحمد لله كثيرا دائما،
وصلى الله على سيدنا محمد نبيه، وآله الطاهرين
وصحبه، وسلم تسليما.

(1) كذا في الأصل.
(2) في الأصل: " وأقمت ".
(3) في الأصل: " قول ".
280

مناقضات
أبى جعفر الإسكافي
لبعض ما أورده الجاحظ في العثمانية
من شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد
281

(1)
مناقضة لصفحة 1 - 6 من العثمانية
قال أبو جعفر الإسكافي:
لولا ما غلب على الناس من الجهل وحب التقليد لم نحتج إلى نقض ما احتجت
به العثمانية، فقد علم الناس كافة أن الدولة والسلطان لأرباب مقالتهم، وعرف
كل أحد [علو (1)] أقدار شيوخهم وعلمائهم وأمرائهم، وظهور كلمتهم، وقهر
سلطانهم. وارتفاع التقية عنهم، والكرامة والجائزة لمن روى الاخبار والحديث
في فضل أبى بكر. وما كان من تأكيد بنى أمية لذلك. وما ولده المحدثون من
الأحاديث طلبا لما في أيديهم، فكانوا لا يألون جهدا في طول ما ملكوا أن
يخملوا ذكر علي عليه السلام وولده، ويطفئوا نورهم ويكتموا فضائلهم، ومناقبهم
وسوابقهم، ويحملوا على شتمهم وسبهم ولعنهم على المنابر، فلم يزل السيف يقطر
من دمائهم مع قلة عدهم وكثرة عدوهم، فكانوا بين قتيل وأسير، وشريد وهارب،
ومستخف ذليل، وخائف مترقب، حتى إن الفقيه والمحدث والقاضي والمتكلم
ليتقدم إليه ويتوعد بغاية الايعاد وأشد العقوبة أن لا يذكروا شيئا من فضائلهم
ولا يرخصوا لاحد أن يطيف بهم، وحتى بلغ من تقية المحدث إذا ذكر حديثا عن
علي عليه السلام كنى عن ذكره فقال: قال رجل من قريش، وفعل رجل من قريش
ولا يذكر عليا عليه السلام ولا يتفوه باسمه. ثم رأينا جميع المختلفين قد حاولوا نقض
فضائله ووجهوا الحيل والتأويلات نحوها، من خارجي مارق، وناصب حنق، ونابت
مستبهم، وناشئ معاند، ومنافق مكذب، وعثماني حسود، يعترض فيها ويطعن،
ومعتزلي قد نفذ في الكلام وأبصر علم الاختلاف، وعرف الشبه ومواضع الطعن
وضروب التأويل، قد التمس الحيل في إبطال مناقبه، وتأول مشهور فضائله.
فمرة يتأولها بما لا يحتمل، ومرة يقصد أن يضع من قدرها بقياس منتقض،
ولا يزداد مع ذلك إلا قوة ورفعة، ووضوحا واستنارة.

(1) هذه من ط. أي من النسخة المطبوعة من شرح نهج البلاغة.
282

وقد علمت أن معاوية ويزيد ومن كان بعدهما من بنى مروان أيام ملكهم
- وذلك نحو ثمانين سنة - لم يدعوا جهدا في حمل الناس على شتمه ولعنه
وإخفاء فضائله، وستر مناقبه وسوابقه.
روى خالد بن عبد الله الواسطي عن حصين بن عبد الرحمن عن هلال بن يساف
عن عبد الله بن ظالم قال: لما بويع لمعاوية أقام المغيرة بن شعبة خطباء يلعنون عليا
عليه السلام. فقال سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل: ألا ترون إلى هذا الرجل الظالم،
يأمر بلعن رجل من أهل الجنة؟!
روى سليمان بن داود عن شعبة عن الحر بن الصباح قال: سمعت عبد الرحمن
ابن الأخنس يقول: شهدت المغيرة بن شعبة خطب فذكر عليا عليه السلام فنال منه.
روى أبو كريب قال: حدثنا أبو أسامة قال حدثنا صدقة بن المثنى النخعي عن
رياح بن الحارث قال: بينما المغيرة بن شعبة بالمسجد الأكبر وعنده ناس إذ جاءه
رجل يقال له قيس بن علقمة، فاستقبل المغيرة فسب عليا عليه السلام.
روى محمد بن سعيد الأصفهاني عن شريك عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن علي
ابن الحسين عن أبيه علي بن الحسين عليه السلام قال: قال لي مروان: ما كان
في القوم أدفع عن صاحبنا من صاحبكم. قلت: فما بالكم تسبونه على المنابر؟ قال:
إنه لا يستقيم لنا الامر إلا بذلك.
روى مالك بن إسماعيل أبو غسان النهدي عن ابن أبي سيف قال: خطب مروان
والحسن عليه السلام جالس، فنال من علي عليه السلام، فقال الحسن: ويلك يا مروان.
أهذا الذي تشتم أشر الناس (1)؟ قال: لا، ولكنه خير الناس.
روى أبو غسان أيضا قال: قال عمر بن عبد العزيز: كان أبى يخطب فلا يزال
مستمرا في خطبته حتى إذا صار إلى ذكر على وسبه تقطع لسانه واصفر وجهه
وتغيرت حاله، فقلت له في ذلك فقال: أو قد فطنت لذلك؟ إن هؤلاء لو يعلمون من
على ما يعلمه أبوك ما تبعنا منهم رجل.

(1) هو كما في قراءة أبى قلابة: " سيعلمون غدا من الكذاب الأشر ".
283

روى أبو غسان قال: حدثنا أبو اليقظان قال: قام رجل من ولد عثمان إلى هشام
ابن عبد الملك يوم عرفة، فقال: إن هذا يوم كانت الخلفاء تستحب فيه لعن
أبى تراب.
روى عمرو بن القناد عن محمد بن فضيل عن أشعث (1) بن سوار قال: سب عدى
ابن أرطاة عليا عليه السلام على المنبر فبكى الحسن البصري وقال: لقد سب هذا
اليوم رجل إنه لأخو رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة.
روى عدى بن ثابت عن إسماعيل بن إبراهيم قال: كنت أنا وإبراهيم بن يزيد
جالسين في الجمعة مما يلي أبواب كندة، فخرج المغيرة فخطب، فحمد الله ثم ذكر
ما شاء الله أن يذكر، ثم وقع في علي عليه السلام، فضرب إبراهيم على فخذي أو ركبتي
ثم قال: أقبل على فحدثني فإنا لسنا في جمعة، ألا تسمع ما يقول هذا؟
روى عبد الله بن عثمان الثقفي قال: حدثنا ابن أبي سيف قال: قال ابن عامر بن
عبد الله بن الزبير لولده: لا تذكر يا بنى عليا إلا بخير، فإن بنى أمية لعنوه على
منابرهم ثمانين سنة فلم يزده الله بذلك إلا رفعة، وإن الدين لم يبن شيئا قط فهدمته
الدنيا، وإن الدنيا لم تبن شيئا قط إلا رجعت على ما بنت فهدمته.
وروى عثمان بن سعيد قال: حدثنا مطلب بن زياد عن أبي بكر بن عبد الله
الأصبهاني قال: كان دعى لبنى أمية، يقال له خالد بن عبد الله، لا يزال يشتم عليا
عليه السلام، فلما كان يوم جمعة وهو يخطب الناس قال: والله إن كان رسول الله
ليستعمله وإنه ليعلم ما هو، ولكنه كان ختنه، وقد نعس سعيد بن المسيب، ففتح
عينيه ثم قال: ويحكم ما قال هذا الخبيث؟ رأيت القبر انصدع ورسول الله صلى الله
عليه وآله يقول: كذبت يا عدو الله؟
وروى القناد قال حدثنا أسباط بن نصر الهمداني عن السدى قال: بينما أنا
بالمدينة عند أحجار الزيت إذ أقبل راكب على بعير فوقف فسب عليا عليه السلام،
فحف به الناس ينظرون إليه، فبينا هو كذلك إذ أقبل سعد بن أبي وقاص فقال:

(1) في الأصل: " أشعب " صوابه في ط.
284

اللهم إن كان سب عبدا لك صالحا فأر المسلمين خزيه! فما لبث أن نفر به بعيره
فسقط فاندقت عنقه.
وروى عثمان بن أبي شيبة عن عبد الله بن موسى عن فطر بن خليفة عن أبي
عبد الله الجدلي قال: دخلت على أم سلمة رحمها الله فقالت - له -: أيسب رسول
الله صلى الله عليه وآله فيكم وأنتم أحياء؟ قلت: وأنى يكون هذا؟ قالت: أليس
يسب علي عليه السلام ومن يحبه.
وروى العباس بن بكار الضبي قال: حدثني أبو بكر الهذلي عن الزهري قال:
قال ابن عباس لمعاوية: ألا تكف عن شتم هذا الرجل؟ قال: ما كنت لافعل حتى
يربو عليه الصغير ويهرم فيه الكبير. فلما ولى عمر بن عبد العزيز كف عن شتمه
فقال الناس: ترك السنة. قال: وقد روى عن ابن مسعود إما موقوفا عليه أو مرفوعا:
كيف أنتم إذا شملتكم فتنة يربو عليها الصغير ويهرم فيها الكبير، يجرى عليها
الناس فيتخذونها سنة، فإذا غير منها شئ قيل: غيرت السنة.
قال أبو جعفر: وقد تعلمون أن بعض الملوك ربما أحدثوا قولا أو دينا لهوى.
فيحملون الناس على ذلك حتى لا يعرفون غيره، كنحو ما أخذ الناس الحجاج
ابن يوسف بقراءة عثمان وترك قراءة ابن مسعود وأبى بن كعب، وتوعد على ذلك
بدون ما صنع هو وجبابرة بنى أمية وطغاة بنى مروان بولد علي عليه السلام وشيعته.
وإنما كان سلطانه نحو عشرين سنة فما مات الحجاج حتى اجتمع أهل العراق على
قراءة عثمان، ونشأ أبناؤهم ولا يعرفون غيرها لامساك الآباء عنها، وكف المعلم عن
تعليمها، حتى لو قرئت عليهم قراءة عبد الله وأبى ما عرفوها، ولظنوا بتأليفها الاستكراه
والاستهجان، لألف العادة وطول الجهالة، لأنه إذا استولت على الرعية العلية وطالت
عليهم أيام التسلط، وشاعت فيهم المخافة، وشملتهم التقية، اتفقوا على التخاذل والتساكت،
فلا تزال الأيام تأخذ من بصائرهم، وتنقص من ضمائرهم، وتنقض من مرائرهم، حتى
تصير البدعة التي أحدثوها غامرة للسنة التي كانوا يعرفونها.
ولقد كان الحجاج ومن ولاه، كعبد الملك والوليد، ومن كان قبلهما وبعدهما من
285

فراعنة بنى أمية على إخفاء محاسن علي عليه السلام وفضائله، وفضائل ولده وشيعته
وإسقاط أقدارهم، وأحرص منهم على إسقاط قراء عبد الله وأبى، لان تلك القراءات
لا تكون سببا لزوال ملكهم وفساد أمرهم وانكشاف حالهم. وفى إشهار فضل
علي عليه السلام وولده وإظهار محاسنهم بوارهم. وتسليط حكم الكتاب المنبوذ عليهم.
فحرصوا واجتهدوا في إخفاء فضائله، وحملوا الناس على كتمانها وسترها، وأبى الله
أن يزيد أمره وأمر ولده إلا استنارة وإشراقا، وحبهم إلا شغفا وشدة، وذكرهم
إلا انتشارا وكثرة، وحجتهم إلا وضوحا وقوة، وفضلهم إلا ظهورا، وشأنهم إلا
علوا، وأقدارهم إلا أعظاما، حتى أصبحوا بإهانتهم إياهم أعزاء، وبإماتتهم ذكرهم
أحياء، وما أرادوا به وبهم من الشر تحول خيرا. فانتهى إلينا من ذكر فضائله
وخصائصه، ومزاياه وسوابقه، ما لم يتقدمه السابقون، ولا ساواه فيه القاصدون،
ولا يلحقه الطالبون. ولولا أنها كانت كالقبلة المنصوبة في الشهرة، وكالسنن
المحفوظة في الكثرة، لم يصل إلينا منها في دهرنا حرف واحد، إذ كان الامر
كما وصفناه.
فأما ما احتج به الجاحظ بإمامة أبى بكر بكونه أول الناس إسلاما فلو كان هذا
احتجاجا صحيحا لأحتج به أبو بكر يوم السقيفة. وما رأيناه صنع ذلك. لأنه أخذ بيد
عمر ويد أبى عبيدة بن الجراح وقال للناس: قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين
فبايعوا منهما من شئتم. ولو كان هذا احتجاجا صحيحا لما قال عمر: كانت بيعة
أبى بكر فلتة وقى الله شرها! ولو كان احتجاجا صحيحا لادعى واحد من الناس
لأبي بكر الإمامة في عصره أو بعد عصره بكونه سبق إلى الاسلام. وما عرفنا
أحدا ادعى له ذلك. على أن جمهور المحدثين لم يذكروا أن أبا بكر أسلم إلا بعد عدة
من الرجال، منهم علي بن أبي طالب، وجعفر أخوه، وزيد بن حارثة، وأبو ذر
الغفاري، وعمرو بن عبسة (1) السلمي، وخالد بن سعيد بن العاص. وخباب بن الأرت.
وإذا تأملنا الروايات الصحيحة والأسانيد القوية الوثيقة وجدناها كلها ناطقة بأن عليا

(1) ط: " عنبسة " صوابه في الأصل وتهذيب التهذيب.
286

عليه السلام أول من أسلم. فأما الرواية عن ابن عباس أن أبا بكر أولهم إسلاما
فقد روى عن ابن عباس خلاف ذلك بأكثر مما رووا وأشهر.
فمن ذلك ما رواه يحيى بن حماد عن أبي عوانة وسعيد بن عيسى عن أبي داود
الطيالسي، عن عمرو بن ميمون عن ابن عباس أنه قال: أول من صلى من الرجال علي عليه
السلام.
وروى الحسن البصري قال: حدثنا عيسى بن راشد عن أبي بصير عن عكرمة
عن ابن عباس قال: فرض الله تعالى الاستغفار لعلى عليه السلام في القرآن على كل
مسلم بقوله تعالى: " ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان ". فكل من
أسلم بعد على فهو يستغفر لعلى عليه السلام.
وروى سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس قال:
" السباق ثلاثة: سبق يوشع بن نون إلى موسى، وسبق صاحب يس إلى عيسى،
وسبق علي عليه السلام بن أبي طالب إلى محمد عليه وعليهم السلام. فهذا قول ابن
عباس في سبق عليه السلام إلى الاسلام. وهو أثبت من حديث الشعبي وأشهر.
على أنه قد روى عن الشعبي خلاف ذلك من حديث أبي بكر الهذلي وداود بن أبي
هند عن الشعبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله لعلى عليه السلام: " هذا أول
من آمن بي وصدقني وصلى معي ".
قال: فأما الأخبار الواردة بسبقه إلى الاسلام، المذكورة في الكتب الصحاح
والأسانيد الموثوق بها، فمنها ما روى شريك بن عبد الله عن سليمان بن المغيرة،
عن زيد بن وهب عن عبد الله بن مسعود أنه قال: أول شئ علمته من أمر رسول الله
صلى الله عليه وآله أنى قدمت مكة مع عمومة لي وناس من قومي، وكان من أنفسنا
شراء عطر، فأرشدنا إلى العباس بن عبد المطلب، فانتهينا إليه وهو جالس إلى
زمزم، فبينا نحن عنده جلوسا إذ أقبل رجل من باب الصفا وعليه ثوبان أبيضان
وله وفرة إلى أنصاف أذنيه جعدة، أشم أقنى، أدعج العينين، كث اللحية، براق
الثنايا، أبيض تعلوه حمرة، كأنه القمر ليلة البدر. وعلى يمينه غلام مراهق أو محتلم
287

حسن الوجه، تقفوهم امرأة قد سترت محاسنها، حتى قصدوا نحو الحجر. فاستلمه
واستلمه الغلام ثم استلمته المرأة، ثم طاف بالبيت سبعا والغلام والمرأة يطوفان معه،
ثم استقبل الحجر فقام ورفع يديه وكبر، وقام الغلام إلى جانبه وقامت المرأة خلفهما
فرفعت يديها وكبرت، فأطال القنوت، ثم ركع وركع الغلام والمرأة ثم رفع رأسه
فأطال ورفع الغلام والمرأة معه ثم سجدوا وسجد الغلام معه يصنعان مثل ما يصنع،
فلما رأينا شيئا ننكره لا نعرفه بمكة أقبلنا على العباس فقلنا: يا أبا الفضل، إن هذا
الدين ما كنا نعرفه فيكم! قال: أجل والله. وقلنا: فمن هذا؟ قال: هذا ابن أخي،
هذا محمد بن عبد الله، وهذا الغلام ابن أخي أيضا، هذا علي بن أبي طالب وهذه
المرأة زوجة محمد، هذه خديجة بنت خويلد. والله ما على وجه الأرض أحد يدين
بهذا الدين إلا هؤلاء الثلاثة.
ومن حديث موسى بن داود عن خالد بن نافع عن عفيف بن قيس الكندي
- وقد رواه عن عفيف أيضا مالك بن إسماعيل النهدي والحسن بن عنبسة الوراق
وإبراهيم بن محمد بن ميمونة - قالوا جميعا: حدثنا سعيد بن جشم عن أسد بن
عبد الله (1) البجلي عن يحيى بن عفيف بن قيس عن أبيه قال:
كنت في الجاهلية عطارا، فقدمت مكة فنزلت على العباس بن عبد المطلب،
فبينا أنا جالس عنده أنظر إلى الكعبة وقد تحلقت الشمس في السماء أقبل شاب كأن
في وجهه القمر، حتى رمى ببصره إلى السماء، فنظر إلى الشمس ساعة ثم أقبل حتى
دنا من الكعبة فصف قدميه يصلى، فخرج على إثره فتى كأن وجهه صحيفة يمانية،
فقام عن يمينه، فجاءت امرأة متلففة في ثيابها فقامت خلفهما، فأهوى الشاب
راكعا فركعا معه، ثم أهوى إلى الأرض ساجدا فسجدا معه، فقلت للعباس:
يا أبا الفضل، أمر عظيم. فقال: أمر والله عظيم، أتدرى من هذا الشاب؟ قلت:
لا. قال: هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، أتدرى من هذا الفتى؟ قلت:

(1) في الأصل: " ابن عبد " صوابه في ط.
288

لا. قال: هذا ابن أخي أبى طالب بن عبد المطلب. أتدرى من المرأة؟ قلت: لا.
قال: ابنة خويلد بن أسد بن عبد العزى، هذه خديجة زوج محمد. هذا وإن محمدا هذا
بذكر أن إلهه إله السماء، وأمره بهذا الدين، فهو عليه كما ترى. ويزعم أنه نبي، وقد
صدقه على قوله على ابن عمه هذا الفتى، وزوجته خديجة هذه المرأة، والله ما أعلم على
وجه الأرض كلها أحدا على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة، قال عفيف: فقلت له:
فما تقولون أنتم؟ قال: ننتظر الشيخ ما يصنع، يعنى أبا طالب أخاه.
وروى عبيد الله بن موسى والفضل بن دكين والحسن بن عطية قالوا: حدثنا
خالد بن طهمان عن نافع بن أبي نافع عن معقل بن يسار قال: كنت أوصى (1) النبي
صلى الله عليه وآله فقال له: هل لك أن نعود فاطمة؟ قلت: نعم يا رسول الله.
فقام يمشى متوكئا على وقال: أما إنه سيحمل ثقلها غيرك ويكون أجرها لك. قال:
فوالله كأنه لم يكن على من ثقل النبي صلى الله عليه وآله شيئا. فدخلنا على فاطمة
عليها السلام فقال لها صلى الله عليه وسلم: كيف تجدينك؟ قالت: لقد طال أسفى
واشتد حزني وقال لي النساء زوجك أبوك فقيرا لا مال له؟ فقال لها: أما ترضين
أنى زوجتك أقدم أمتي سلما، وأكثرهم علما، وأفضلهم حلما؟ قالت: بلى،
رضيت يا رسول الله.
وقد روى هذا الخبر يحيى بن عبد الحميد، وعبد السلام بن صالح، عن قيس بن
الربيع عن أبي أيوب الأنصاري بألفاظه أو نحوها (2).
وروى عبد السلام بن صالح عن إسحاق الأزرق عن جعفر بن محمد عن آبائه أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم لما زوج فاطمة - دخل النساء عليها فقلن: يا بنت
رسول الله، خطبك فلان وفلان فردهم عنك وزوجك فقيرا لا مال له! فلما دخل
عليها أبوها عليه السلام رأى ذلك في وجهها، فسألها فذكرت له ذلك، فقال:

(1) ط: " أوصل ". (2) الكلام بعده إلى نهاية الفقرة التالية ساقط من ط.
289

يا فاطمة، إن الله أمرني فأنكحتك أقدمهم سلما، وأكثرهم علما، وأعظمهم حلما.
وما زوجتك إلا بأمر من السماء. أما علمت أنه أخي في الدنيا والآخرة؟!
وروى عثمان بن سعيد عن الحكم بن ظهير عن السدى، أن أبا بكر وعمر خطبا
فاطمة عليها السلام فردهما رسول الله صلى الله عليه وآله وقال: لم أومر بذلك.
فخطبها علي عليه السلام فزوجه إياها وقال لها: زوجتك أقدم الأمة إسلاما.
وذكر تمام الحديث.
قال: وقد روى هذا الخبر جماعة من الصحابة منهم أسماء بنت عميس، وأم أيمن
وابن عباس، وجابر بن عبد الله.
قال: وقد روى محمد بن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه عن جده أبى رافع قال:
أتيت أبا ذر بالربذة أودعه، فلما أردت الانصراف قال لي ولا ناس معي: ستكون
فتنة فاتقوا الله، وعليكم بالشيخ علي بن أبي طالب فاتبعوه، فإني سمعت رسول الله صلى الله
عليه وآله يقول له: أنت أول من آمن بي، وأول من يصافحني يوم القيامة، وأنت
الصديق الأكبر، وأنت الفاروق الذي يفرق بين الحق والباطل، وأنت يعسوب
المؤمنين، والمال يعسوب الكافرين، وأنت أخي ووزيري وخير من أترك بعدي،
تقضى ديني وتنجز موعودي.
قال: وقد روى ابن أبي شيبة عن عبد الله بن نمير عن العلاء بن صالح عن المنهال
ابن عمرو عن عباد بن عبد الله الأسدي قال:
سمعت علي بن أبي طالب يقول: أنا عبد الله وأخو رسوله، وأنا الصديق الأكبر
لا يقولها غيري إلا كذاب، ولقد صليت قبل الناس سبع سنين.
وروت معاذة بنت عبد الله العدوية قالت: سمعت عليا عليه السلام يخطب على
منبر البصرة ويقول: أنا الصديق الأكبر آمنت قبل أن يؤمن أبو بكر، وأسلمت
قبل أن يسلم.
وروى حبة بن جوين العرني أنه سمع عليا عليه السلام يقول: أنا أول رجل
290

أسلم مع رسول الله صلى الله عليه وآله. رواه أبو داود الطيالسي عن شعبة عن
سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل عن حبة بن جوين.
وروى عثمان بن سعيد الحرار عن علي بن حرار عن علي بن عامر عن أبي الجحاف
عن حكيم مولى زاذان قال: سمعت عليا عليه السلام يقول: صليت قبل الناس
سبع سنين، وكنا نسجد ولا نركع، وأول صلاة ركعنا فيها صلاة العصر فقلت:
يا رسول الله ما هذا؟ قال: أمرت به.
وروى إسماعيل بن عمرو عن قيس بن الربيع عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن
جابر بن عبد الله قال:
صلى رسول الله صلى الله عليه وآله يوم الاثنين، وصلى على يوم الثلاثاء بعده.
وفى الرواية الأخرى عن أنس بن مالك: استنبئ النبي صلى الله عليه وآله يوم
الاثنين وأسلم على يوم الثلاثاء بعده.
وروى أبو رافع أن رسول الله صلى الله عليه وآله صلى أول صلاة صلاها غداة
الاثنين، وصلت خديجة آخر نهار يومها ذلك. وصلى علي عليه السلام يوم الثلاثاء
غداة ذلك اليوم.
قال: وقد روى بروايات مختلفة كثيرة متعددة عن زيد بن أرقم وسلمان
الفارسي وجابر بن عبد الله، وأنس بن مالك. أن عليا عليه السلام أول من أسلم.
وذكر الروايات والرجال بأسمائهم.
وروى سلمة بن كهيل عن رجاله الذين ذكرهم أبو جعفر في الكتاب، أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: " أولكم ورودا على الحوض أولكم إسلاما: على
ابن أبي طالب ".
وروى يس بن محمد بن أيمن. عن أبي حازم مولى ابن عباس، عن ابن عباس
قال: سمعت عمر بن الخطاب وهو يقول: كفوا عن علي بن أبي طالب، فإني سمعت من
291

رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه خصالا لو أن خصلة منها في جميع آل الخطاب كان
أحب إلى مما طلعت عليه الشمس.
كنت ذات يوم وأبو بكر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة، مع نفر من
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نطلبه، فانتهينا إلى باب أم سلمة فوجدنا عليا
متكئا على نجاف الباب (1)، فقلنا: أرونا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: هو
في البيت، رويدكم. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فثرنا حوله، فاتكأ على علي عليه
السلام وضرب بيده على منكبه فقال: أبشر يا علي بن أبي طالب، إنك مخاصم
وإنك تخصم الناس بسبع لا يجاريك أحد في واحدة منهن: أنت أول الناس إسلاما
وأعلمهم بأيام الله. وذكر الحديث.
قال: وقد روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل هذا الحديث.
قال: وروى أبو أيوب الأنصاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: لقد
صلت الملائكة على وعلى علي عليه السلام سبع سنين. وذلك أنه لم يصل معي رجل فيها غيره.
قال أبو جعفر: فأما ما رواه الجاحظ من قوله صلى الله عليه وسلم: " إنما تبعني
حر وعبد " فإنه لم يسم في هذا الحديث أبا بكر وبلالا. وكيف وأبو بكر لم يشتر
بلالا إلا بعد ظهور الاسلام بمكة، فلما أظهر بلال إسلامه عذبه أمية بن خلف، ولم
يكن ذلك حال إخفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الدعوة ولا في أمر الاسلام.
وقد قيل إنه عليه السلام إنما عنى بالحر علي بن أبي طالب، وبالعبد
زيد بن حارثة.
وروى ذلك محمد بن إسحاق.
قال: وقد روى إسماعيل بن نصر الصفار عن محمد بن ذكوان عن الشعبي قال:
قال الحجاج للحسن وعنده جماعة من التابعين وذكر علي بن أبي طالب: ما تقول

النجاف: العتبة، وهى أسكفة الباب.
292

أنت يا حسن؟ فقال: ما أقول؟ هو أول من صلى إلى القبلة، وأجاب دعوة
الرسول، وإنه لعلى منزلة من ربه، وقرابة من رسوله، وقد سبقت له سوابق
لا يستطيع ردها أحد. فغضب الحجاج غضبا شديدا وقام عن سريره فدخل بعض
البيوت، وأمر بصرفنا.
قال الشعبي: وكنا جماعة ما منا إلا من نال من علي عليه السلام، مقاربة
للحجاج، غير الحسن بن أبي الحسن رحمه الله.
وروى محرز بن هشام عن إبراهيم بن سلمة عن محمد بن عبيد الله قال: قال رجل
للحسن مالنا لا نراك تثنى على على وتفر منه؟ قال: كيف وسيف الحجاج يقطر
دما، إنه لأول من أسلم، وحسبكم بذلك.
قال: فهذه الأخبار، وأما الاشعار المروية فمعروفة كثيرة منتشرة.
فمنها قول عبد الله بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب مجيبا للوليد بن عقبة
بن أبي معيط:
وإن ولى الله بعد محمد * على وفى كل المواطن صاحبه
وصى رسول الله حقا وصنوه * وأول من صلى ومن لان جانبه
وقال خزيمة بن ثابت في هذا:
وصى رسول الله من دون أهله * وفارسه قد كان في سالف الزمن
وأول من صلى الله من الناس كلهم * سوى خيرة النسوان والله ذو منن
وقال أبو سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس حين بويع أبو بكر:
ما كنت أحسب أن الامر منصرف * عن هاشم ثم منها عن أبي حسن
أليس أول من صلى لقبلتهم * وأعلم الناس بالأحكام والسنن
وقال أبو الأسود الدؤلي يهدد طلحة والزبير:
وإن عليا لكم مصحر * يماثله الأسد الأسود
إما إنه أول العابدين * بمكة والله لا يعبد
293

وقال سعيد بن قيس الهمداني يرتجز بصفين:
هذا على وابن عم المصطفى * أول من أجابه فيما روى
هو الامام لا يبالي من غوى
وقال زفر بن يزيد بن حذيفة الأسدي:
فحوطوا عليا وانصروه فإنه * وصى وفى الاسلام أول أول
ولن تخذلوه والحوادث جمة * فليس لكم عن أرضكم متحول
قال: والاشعار كالاخبار إذا امتنع في مجئ القبيلين (1) التواطؤ والاتفاق كان
ورودهما حجة.
فأما قول الجاحظ: " فأوسط الأمور أن نجعل إسلامهم معا " فقد أبطل بهذا
ما احتج به لامامة أبى بكر، لأنه احتج بالسبق وقد عدل الآن عنه.
قال أبو جعفر: ويقال لهم: لسنا نحتاج من ذكر سبق علي عليه السلام إلا
مجامعتكم إيانا على أنه أسلم قبل الناس. ودعواكم أنه أسلم وهو طفل دعوى غير
مقبولة إلا لحجة. قلنا: قد ثبت إسلامه بحكم إقراركم. ولو كان طفلا لكان في
الحقيقة غير مسلم، لان اسم الايمان والاسلام والكفر، والطاعة والمعصية، إنما يقع
على البالغين دون الأطفال والمجانين.
وإذا أطلقتم وأطلقنا عليه اسم الاسلام فالأصل في الاطلاق الحقيقة. كيف وقد
قال النبي صلى الله عليه وسلم: أنت أول من آمن بي وأول من صدقني. وقال
لفاطمة: " زوجتك أقدمهم سلما " أو قال " إسلاما ".
فإن قالوا: إنما دعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الاسلام على جهة العرض
لا التكليف؟
قلنا: قد وافقتمونا على الدعاء - وحكم الدعاء حكم الامر والتكليف - ثم
.

(1) في الأصل: " القبيلتين " صوابه في ط.
294

ادعيتم أن ذلك كان على وجه العرض. وليس لكم أن تقبلوا معنى الدعاء إلا لحجة.
فإن قالوا: لعله كان على وجه التأديب والتعليم، كما يعتمد مثل ذلك مع الأطفال.
قلنا: إن ذلك إنما يكون إذا تمكن الاسلام بأهله، أو عند النشو عليه والولادة
فيه. فأما في دار الشرك فلا يقع مثل ذلك، لا سيما إذا كان الاسلام غير معروف
ولا معتاد بينهم. على أنه ليس من سنة النبي صلى الله عليه وسلم دعاء أطفال المشركين
إلى الاسلام والتفريق بينهم وبين آبائهم قبل أن يبلغوا الحلم. وأيضا فمن شأن الطفل
اتباع أهله وتقليد أبيه والمضى على منشئه ومولده. وقد كانت منزلة النبي صلى الله عليه
وسلم حينئذ منزلة ضيق وشدة ووحدة، وهذه منازل لا ينتقل إليها إلا من ثبت
الاسلام عنده بحجة، ودخل اليقين قلبه بعلم ومعرفة.
فإن قالوا: إن عليا عليه السلام كان يألف النبي صلى الله عليه وسلم، فوافقه
على طريق المساعدة له.
قلنا: إنه وإن كان يألفه فلم يكن يألفه أكثر من أبويه، وإخوته وعمومته وأهل
بيته، ولم يكن الألف ليخرجه عما نشأ عليه، ولم يكن الاسلام مما غذى به وكرر
على سمعه، لان الاسلام هو خلع الأنداد، والبراءة ممن أشرك بالله، وهذا لا يجتمع
في اعتقاد طفل.
ومن العجب قول العباس لعفيف بن قيس: " ننتظر الشيخ وما يصنع " فإذا كان
العباس وحمزة ينتظران أبا طالب ويصدران عن رأيه، فكيف يخالف ابنه ويؤثر
القلة على الكثرة. ويفارق المحبوب إلى المكروه، والعز إلى الذل، والامن إلى
الخوف، من غير معرفة ولا علم بما فيه.
فإما قوله: " إن المقلل يزعم أنه أسلم وهو ابن خمس سنين، والمكثر يزعم أنه
أسلم وهو ابن تسع سنين " فأول ما يقال في ذلك أن الاخبار جاءت في سنه عليه
السلام يوم أسلم على خمسة أقسام:
295

القسم (الأول) الذين قالوا: أسلم وهو ابن خمس عشرة سنة، حدثنا بذلك
أحمد بن سعيد الأسدي عن إسحاق بن بشر القرشي عن الأوزاعي، عن حمزة بن
حبيب، عن شداد بن أوس قال: سألت خباب بن الأرت عن إسلام على فقال:
أسلم وهو ابن خمس عشرة سنة، ولقد رأيته يصلى قبل الناس مع النبي صلى الله عليه
وسلم وهو يومئذ بالغ مستحكم البلوغ.
وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن الحسن أن أول من أسلم علي بن أبي
طالب وهو ابن خمس عشرة سنة
القسم (الثاني): الذين قالوا: إنه أسلم وهو ابن أربع عشرة سنة. رواه أبو قتادة
الحراني عن أبي حازم الأعرج عن حذيفة بن اليمان قال: كنا نعبد الحجارة ونشرب
الخمر وعلى من أبناء أربع عشرة سنة قائم يصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلا
ونهارا، وقريش يومئذ تسافه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يذب عنه إلا علي عليه
السلام.
وروى ابن أبي شيبة عن جرير بن عبد الحميد قال: أسلم على وهو ابن أربع
عشرة سنة.
القسم (الثالث): الذين قالوا أسلم وهو ابن إحدى عشرة سنة. رواه إسماعيل
ابن عبد الله الرقي عن محمد بن عمر عن عبد الله بن سمعان عن جعفر بن محمد عليهما السلام
عن أبيه عن محمد بن علي عليهما السلام: أن عليا حين أسلم كان ابن إحدى عشرة سنة.
وروى عبد الله بن زياد المدني عن محمد بن علي الباقر عليهما السلام قال: أول من
آمن بالله علي بن أبي طالب وهو ابن إحدى عشرة سنة، وهاجر إلى المدينة وهو ابن
أربع وعشرين سنة.
القسم (الرابع): الذين قالوا: إنه أسلم وهو ابن عشر سنين. رواه نوح بن دراج
عن محمد بن إسحاق قال: أول من آمن وصدق بالنبوة علي بن أبي طالب وهو ابن
عشر سنين، ثم أسلم زيد بن حارثة، ثم أسلم أبو بكر وهو ابن ست وثلاثين
سنة فيما بلغنا.
296

القسم (الخامس): الذين قالوا إنه أسلم وهو ابن تسع سنين. رواه الحسن بن عنبسة
الوراق عن سليم مولى الشعبي عن الشعبي قال: أول من أسلم من الرجال علي بن أبي
طالب وهو ابن تسع سنين، وكان له يوم قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم
تسع وعشرون سنة.
قال شيخنا أبو جعفر: فهذه الأخبار كما تراها. فإما أن يكون الجاحظ جهلها
أو قصد العناد.
فأما قوله " فالقياس أن نأخذ بأوسط الامرين من الروايتين فنقول: إنه أسلم
وهو ابن سبع سنين " فإن هذا تحكم منه، ويلزمه مثله في رجل ادعى قبل رجل
عشرة دراهم فأنكر ذلك وقال: إنما يستحق قبلي أربعة دراهم، فينبغي أن نأخذ
الامر المتوسط ويلزمه سبعة دراهم، ويلزمه في أبى بكر حيث قال قوم: كان كافرا
وقال قوم: كان إماما عادلا، أن نقول: أعدل الأقاويل أوسطها، وهو منزلة بين
المنزلتين، فنقول: كان فاسقا ظالما. وكذلك في جميع الأمور المختلف فيها.
فأما قوله: " وإنما يعرف حق ذلك من باطله بأن نحصى سنى ولاية عثمان وعمر
وأبى بكر وسني الهجرة ومقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة بعد الرسالة إلى أن هاجر ".
فيقال له: لو كانت الرواية متفقة على هذه التأريخات لكان لهذا القول مساغ،
لكن الناس قد اختلفوا في ذلك، فقيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بعد
الرسالة خمس عشرة، رواه ابن عباس. وقيل ثلاث عشرة، وروى [عن (1)] ابن
عباس أيضا. وأكثر الناس يردونه. وقيل عشر سنين، رواه عروة بن الزبير،
وهو قول الحسن البصري وسعيد بن المسيب.
واختلفوا في سن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قوم: كان ابن خمس
وستين، وقيل: كان ابن ثلاث وستين، وقيل: كان ابن ستين، واختلفوا في
سن علي عليه السلام، فقيل كان ابن سبع وستين، وقيل: كان ابن خمس وستين،

(1) التكملة من ط.
297

وقيل: ابن ثلاث وستين. وقيل ابن ستين، وقيل: ابن تسع وخمسين. فكيف
يمكن مع هذه الاختلافات تحقيق هذا الحال.
وإنما الواجب أن يرجع إلى إطلاق قولهم أسلم على، فإن هذا الاسم لا يكون
مطلقا إلا على البالغ. على أن ابن إحدى عشرة سنة يكون بالغا ويولد الأولاد.
فقد روت (1) الرواة أن عمرو بن العاص لم يكن أسن من ابنه عبد الله إلا باثنتي
عشرة سنة. وهذا يوجب أنه احتلم وبلغ في أقل من إحدى عشرة سنة.
ورووا أيضا أن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس كان أصغر من أبيه علي بن
عبد الله بن العباس بإحدى عشرة سنة.
فيلزم الجاحظ أن يكون عبد الله بن العباس حين مات رسول الله صلى الله عليه
وسلم غير مسلم على الحقيقة، ولا مثاب، ولا مطيع بالاسلام، لأنه كان يومئذ
ابن عشر سنين. رواه هشيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: توفى رسول الله
صلى الله عليه وسلم وأنا ابن عشر سنين.
(2)
لصفحة 6 - 9 من العثمانية
هذا كله مبنى على أنه أسلم وهو ابن سبع أو ثمان، ونحن قد بينا أنه أسلم بالغا
ابن خمس عشرة سنة أو ابن أربع عشرة سنة. على أنا لو نزلنا على حكم الخصوم وقلنا
ما هو الأشهر والأكثر من الرواية، وهو أنه أسلم وهو ابن عشر، لم يلزم ما قاله
الجاحظ، لان ابن عشر قد يستجمع عقله ويعلم من مبادئ المعارف ما يستخرج
به كثيرا من الأمور المعقولة. ومتى كان الصبى عاقلا مميزا كان مكلفا بالعقليات
وإن كان تكليفه بالشرعيات موقوفا على حد آخر وغاية أخرى، فليس بمنكر
أن يكون علي عليه السلام وهو ابن عشر قد عقل المعجزة فلزمه الاقرار بالنبوة،
وأسلم إسلام عارف، لا إسلام مقلد تابع.
.

(1) في الأصل: " ردت " صوابه في ط
298

وإن كان ما نسقه الجاحظ وعدده من معرفة السحر والنجوم، والفصل بينهما
وبين النبوة، ومعرفة ما يجوز في الحكمة مما لا يجوز وما لا يحدثه إلا الخالق،
والفرق بينه وبين ما يقدر عليه القادرون بالقدرة، ومعرفة التمويه والخديعة والتلبيس
والمماكرة، شرطا في صحة الاسلام لما صح إسلام أبى بكر ولا عمر ولا غيرهما من
العرب، وإنما التكليف لهؤلاء بالجمل (1) ومبادئ المعارف، لا بدقائقها والغامض
منها. وليس يفتقر الاسلام إلى أن يكون المسلم قد فاتح الرجال وجرب الأمور ونازع
الخصوم، وإنما يفتقر إلى صحة الغريزة وكمال العقل وسلامة الفطرة. ألا ترى أن طفلا
لو نشأ في دار لم يعاشر الناس بها ولا فاتح الرجال ولا نازع الخصوم ثم كمل عقله
وحصلت العلوم البديهية عنده لكان مكلفا بالعقليات.
فأما توهمه أن عليا عليه السلام أسلم عن تربية الحاضن وتلقين القيم ورياضة
السائس، فلعمري إن محمدا صلى الله عليه وآله كان حاضنه وقيمه وسائسه، ولكن لم
يكن منقطعا عن أبيه أبى طالب، ولا عن إخوته طالب وعقيل وجعفر، ولا عن
عمومته وأهل بيته، وما زال مخالطا لهم ممتزجا بهم، مع خدمته لمحمد صلى الله عليه وآله
وسلم، فما باله لم يمل إلى الشرك وعبادة الأصنام لمخالطته إخوته وأباه وعمومته وأهله،
وهم كثير ومحمد صلى الله عليه وآله واحد، وأنت تعلم أن الصبى إذا كان له أهل
ذوو كثرة وفيهم واحد يذهب إلى رأى مفرد لا يوافقه عليه غيره منهم فإنه إلى ذوي
الكثرة أميل، وعن ذي الرأي الشاذ المنفرد أبعد.
وعلى أن عليا عليه السلام لم يولد في دار الاسلام وإنما ولد في دار الشرك، وربى
بين المشركين وشاهد الأصنام، وعاين بعينيه أهله ورهطه يعبدونها، فلو كان في دار
الاسلام لكان في القول مجال، ولقيل إنه ولد بين المسلمين فإسلامه عن تلقين الظئر،
وعن سماع كلمة الاسلام، ومشاهدة شعاره، لأنه لم يسمع غيره ولا خطر بباله سواه،
فلما لم يكن ولد كذلك [ثبت أن إسلامه إسلام المميز العارف بما دخل عليه. ولولا

(1) في الأصل: " بالجهل " صوابه في ط.
299

أنه كذلك (1)] لما قدمه (2) رسول الله صلى الله عليه وآله بذلك، ولا أرضى
ابنته فاطمة لما وجدت من تزويجه بقوله لها: " زوجتك أقدمهم سلما ". ولا قرن
إلى ذلك قوله " وأكثرهم علما وأعظمهم حلما " والحلم: العقل. وهذان الأمران غاية
الفضل. فلولا أنه أسلم إسلام عارف عالم مميز لما ضم إسلامه إلى العلم والحلم اللذين
وصفه بهما. وكيف يجوز أن يمدحه بأمر لم يكن مثابا عليه ولا معاقبا عليه لو تركه.
ولو كان إسلامه على تلقين وتربية لما افتخر هو عليه السلام على رؤوس الاشهاد
ولا خطب على المنبر، وهو بين عدو محارب وخاذل منافق، فقال: " أنا عبد الله وأخو
رسوله، وأنا الصديق الأكبر والفاروق الأعظم، صليت قبل الناس سبع سنين،
وأسلمت قبل إسلام أبى بكر وآمنت قبل إيمانه ". فهل بلغكم أن أحدا من أهل
ذلك العصر أنكر ذلك أو عابه أو أدعاه لغيره أو قال له: إنما كنت طفلا أسلمت
على تربية محمد صلى الله عليه وآله لك وتلقينه إياك، كما تعلم الطفل الفارسية والتركية
منذ يكون رضيعا، فلا فخر له في تعلم ذلك، وخصوصا في عصر قد حارب فيه أهل
البصرة والشام والنهروان، وقد اعتورته الأعداء وهجته الشعراء. فقال فيه
النعمان بن بشير:
لقد طلب الخلافة من بعيد * وسارع في الضلال أبو تراب
معاوية الامام وأنت منها * على وتح بمنقطع السراب (3)
وقال فيه أيضا بعض الخوارج:
دسسنا له تحت الظلام ابن ملجم * جزاء إذا ما جاء نفسا كتابها
وقال عمران بن حطان يمدح قاتله:
يا ضربة من تقى ما أراد بها * إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره حينا فأحسبه * أوفى البرية عند الله ميزانا

(1) التكملة من ط. (2) ط: " مدحه ". (3) الوتح: القليل التافة.
300

فلو وجد هؤلاء سبيلا إلى دحض حجة فيما كان يفخر به من تقدم إسلامه لبدأوا
بذلك وتركوا مالا معنى له.
وقد أوردنا ما مدحه الشعراء به من سبقه إلى الاسلام فكيف لم يرد على هؤلاء
الذين مدحوه بالسبق شاعر واحد من أهل حربه. ولقد قال في أمهات الأولاد قولا
خال فيه عمر فذكروه بذلك وعابوه، فكيف تركوا أن يعيبوه بما كان يفتخر به مما
لا فخر فيه عندهم وعابوه بقوله في أمهات الأولاد.
ثم يقال له (1) خبرنا عن عبد الله بن عمر، وقد أجازه النبي صلى الله عليه وآله
يوم الخندق ولم يجزه يوم أحد: هل [كان] يميز ما ذكرته. وهل كان يعلم فرق ما بين النبي
المتنبي ويفصل بين السحر والمعجزة إلى غيره مما عددت وفصلت. فإن قال نعم
وتجاسر على ذلك قيل له: فعلي عليه السلام بذلك أولى من ابن عمر، لأنه أذكى وأفطن
بلا خلاف بين العقلاء، وأنى يشك في ذلك وقد رويتم أنه لم يميز بين الميزان والعود
بعد طول السن وكثرة التجارب، ولم يميز أيضا بين إمام الرشد وإمام الغى، فإنه امتنع
من بيعة علي عليه السلام، وطرق على الحجاج بابه ليلا ليبايع لعبد الملك، كي لا يبيت تلك
الليلة بلا إمام، زعم. لأنه روى عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: " من مات
ولا إمام له مات ميتة جاهلية " وحتى بلغ من احتقار الحجاج له واسترذاله حاله أن
أخرج رجله من الفراش فقال: أصفق بيدك عليها. فذلك تمييزه بين الميزان والعود،
وهذا اختياره في الأئمة، وحال علي عليه السلام في ذكائه وفطنته وتوقد حسه
وصدق حدسه معلومة مشهورة. فإذا جاز أن يصح إسلام ابن عمر ويقال عنه إنه
عرف تلك الأمور التي سردها الجاحظ ونسقها، وأظهر فصاحته وتشادقه فيها. فعلى
بمعرفة ذلك أحق، وبصحة إسلامه أولى.
وإن قال: لم يكن ابن عمر يعلم ويعرف ذلك، أبطل إسلامه وطعن في رسول الله
صلى الله عليه وآله، حيث حكم بصحة إسلامه وأجازه يوم الخندق، لأنه عليه السلام
كان قال: لا أجير إلا البالغ العاقل، ولذلك لم يجزه يوم أحد. ثم يقال: إن ما نقوله

(1) كذا في ط. وفى الأصل: " قلنا له ".
301

في بلوغ علي عليه السلام الحد الذي يحسن فيه التكليف العقلي بل يجب، وهو ابن
عشر سنين، ليس بأعجب من مجئ الولد لستة أشهر. وقد صحح ذلك أهل العلم
واستنبطوه من الكتاب وإن كان خارجا من التعارف والتجارب والعادة. وكذلك
مجئ الولد لسنتين خارج أيضا عن التعارف والعادة، وقد صححه الفقهاء والناس. ويروى
أن معاذا لما نهى عمر عن رجم الحامل تركها حتى ولدت غلاما قد نبتت ثنيتاه فقال
أبوه: ابني ورب الكعبة! فثبت ذلك سنة يعمل بها الفقهاء. وقد وجدنا العادة
تقضى بأن الجارية تحيض لاثنتي عشرة سنة، وأنه أقل سن تحيض فيه المرأة. وقد
يكون في الأقل نساء يحضن لعشر وتسع، وقد ذكر ذلك الفقهاء، وقد قال الشافعي
في اللعان: لو جاءت المرأة بحمل وزوجها صبي له دون عشر سنين لم يكن ولدا له،
لان من لم يبلغ عشر سنين من الصبيان لا يولد له، وإن كان له عشر سنين جاز أن
يكون الولد له، وكان بينهما لعان إذا لم يقر به، وقال الفقهاء أيضا: إن نساء تهامة
يحضن لتسع سنين، لشدة الحر ببلادهن.
(3)
لصفحة 9 - 12 من العثمانية
إن مثل الجاحظ. مع فضله وعلمه، لا يخفى عليه كذب هذه الدعوى وفسادها،
ولكنه يقول ما يقول تعصبا وعنادا. وقد روى الناس كافة افتخار علي عليه السلام
بالسبق إلى الاسلام، وأن النبي صلى الله عليه وسلم استنبئ يوم الاثنين وأسلم على يوم
الثلاثاء، وأنه كان يقول: صليت قبل الناس سبع سنين، وأنه ما زال يقول: أنا أول
من أسلم، ويفتخر بذلك ويفتخر له به أولياؤه ومادحوه وشيعته في عصره وبعد وفاته.
والامر في ذلك أشهر من كل شهير، وقد قدمنا طرفا منه. وما علمنا أحدا من الناس
فيما خلا استخف بإسلام علي عليه السلام، ولا تهاون به، ولا زعم أنه أسلم إسلام
حديث غرير، وطفل صغير ر ومن العجب أن يكون مثل العباس وحمزة ينتظران أبا طالب
[وفعله (1)] ليصدرا عن رأيه، ثم يخالفه على ابنه لغير رغبة ولا رهبة، يؤثر القلة على

(1) هذه التكملة من ط.
302

الكثرة. والذل على العزة، من غير علم ولا معرفة بالعاقبة. وكيف ينكر الجاحظ
والعثمانية أن رسول الله صلى الله عليه وآله دعاه إلى الاسلام وكلفه التصديق. وروى في
الخبر الصحيح أنه كلفه في مبدأ الدعوة قبل ظهور كلمة الاسلام وانتشارها بمكة أن
يصنع له طعاما، وأن يدعو له بنى عبد المطلب، فصنع له الطعام ودعاهم له، فخرجوا ذلك
اليوم، ولم ينذرهم صلى الله عليه وآله لكلمة قالها عمه أبو لهب، فكلفه اليوم الثاني
أن يصنع مثل ذلك الطعام وأن يدعوهم ثانية، فصنعه ودعاهم فأكلوا، ثم كلمهم صلى
الله عليه وآله فدعاهم إلى الدين ودعاه معهم لأنه من بنى عبد المطلب، ثم ضمن لمن
بوارزه منهم وينصره على قوله أن يجعله أخاه في الدين ووصيه بعد موته، وخليفته من
بعده، فأمسكوا كلهم وأجابه هو وحده وقال: أنا أنصرك على ما جئت به، وأؤازرك
وأبايعك! فقال لهم لما رأى منهم الخذلان ومنه النصر، وشاهد منهم المعصية ومنه
الطاعة، وعاين منهم الاباء ومنه الإجابة: هذا أخي ووصي وخليفتي من بعدي!
فقاموا يسخرون ويضحكون ويقولون لأبي طالب: أطع ابنك فقد أمره عليك! فهل
يكلف عمل الطعام ودعاء القوم صغير غير مميز، وغر غير عاقل؟! وهل يؤتمن على سر
النبوة طفل ابن خمس سنين أو ابن سبع؟! وهل يدعى في جملة الشيوخ والكهول
إلا عاقل لبيب؟! وهل يضع رسول الله صلى الله عليه وآله يده في يده ويعطيه صفقة
يمينه بالاخوة والوصية والخلافة إلا وهو أهل لذلك، بالغ حد التكليف، محتمل
لولاية الله، وعداوة أعدائه؟!
وما بال هذا الطفل لم يأنس بأقرانه ولم يلصق بأشكاله، ولم ير مع الصبيان
في ملاعبهم بعد إسلامه، وهو كأحدهم في طبقته كبعضهم في معرفته. وكيف لم ينزع
إليهم في ساعة من ساعاته فيقال: دعاه نقص الصبا وخاطر من خواطر الدنيا، وحملته
الغرة والحداثة على حضور لهوهم والدخول في حالهم، بل ما رأيناه إلا ماضيا على
إسلامه، مصمما في أمره، محققا لقوله بفعله، وقد صدق إسلامه بعفافه وزهده، ولصق
برسول الله صلى الله عليه وآله من بين جميع من بحضرته، فهو أمينه وأليفه في دنياه
303

وآخرته. وقد قهر شهوته، وجاذب خواطره، صابرا على ذلك نفسه، لما يرجوه من
فوز العاقبة وثواب الآخرة.
وقد ذكر هو عليه السلام في كلامه وخطبه بدء حاله وافتتاح أمره حيث أسلم
لما دعا رسول الله صلى الله عليه وآله الشجرة فأقبلت تخد الأرض، فقالت قريش:
ساحر خفيف السحر! فقال علي عليه السلام: يا رسول الله، أنا أول من يؤمن بك،
آمنت بالله ورسوله وصدقتك فيما جئت به، وأنا أشهد أن الشجرة فعلت ما فعلت
بأمر الله تصديقا لنبوتك، وبرهانا على صحة دعوتك. فهل يكون إيمان قط أصح من
هذا الايمان وأوثق عقدة وأحكم مرة؟! ولكن حنق العثمانية وغيظهم وعصبية
الجاحظ وانحرافه، مما لا حيلة فيه.
ثم لينظر المنصف وليدع الهوى جانبا ليعلم نعمة الله علي عليه السلام بالاسلام،
حيث أسلم على الوضع الذي أسلم عليه، فإنه لولا الألطاف التي خص بها، والهداية
التي منحها له، لما كان إلا كبعض أقارب محمد صلى الله عليه وأهله. فقد كان
ممازجا له كممازجته، ومخالطا له كمخالطة كثير من أهله ورهطه، ولم يستجب منهم
أحد له إلا بعد حين، ومنهم من لم يستجب له أصلا، فإن جعفرا عليه السلام كان
ملتصقا به ولم يسلم حينئذ. وكان عتبة بن أبي لهب ابن عمه وصهره زوج ابنته
ولم يصدقه، بل كان شديدا عليه، وكان لخديجة بنون من غيره ولم يسلموا حينئذ وهم
ربائبه ومعه في دار واحدة، وكان أبو طالب أباه في الحقيقة، وكافله وناصره، والمحامى
عنه، ومن لولاه لم تقم له قائمة. ومع ذلك لم يسلم في أغلب الروايات. وكان العباس
عمه وصنو أبيه، وكالقرين له في الولادة والمنشأ والتربية، ولم يستجب له إلا بعد حين
طويل. وكان أبو لهب عمه وكدمه ولحمه، ولم يسلم، وكان شديدا عليه، فكيف
ينسب إسلام علي عليه السلام إلى الألف والتربية والقرابة واللحمة، والتلقين والحضانة
والدار الجامعة وطول العشرة، والانس والخلوة. وقد كان كل ذلك حاصلا لهؤلاء
أو لكثير منهم، ولم يهتد أحد منهم إذ ذاك، بل كانوا بين من جحد وكفر ومات
على كفره، ومن أبطأ وتأخر وسبق بالاسلام وجاء سكيتا وقد فاز بالمنزلة غيره.
304

وهل يدل تأمل حال علي عليه السلام مع الانصاف إلا على أنه أسلم، لأنه شاهد
الاعلام ورأى المعجزات وشم ريح النبوة، ورأى نور الرسالة، وثبت اليقين في قلبه
بمعرفة وعلم ونظر صحيح، لا بتقليد ولا حمية، ولا رغبة ولا رهبة إلا فيما يتعلق
بأمور الآخرة.
(4)
ص 22 من العثمانية
ينبغي أن ينظر أهل الانصاف هذا الفصل ويقفوا على قول الجاحظ (1) والأصم
في نصرة العثمانية، واجتهادهما في القصد إلى فضائل هذا الرجل وتهجينها، فمرة
يبطلان معناها، ومرة يتوصلان إلى حط قدرها. فلينظر في كل باب اعترضا فيه أين
بلغت حيلتهما؟ وما صنعا في احتيالهما في قصصهما وسجعهما؟ أليس إذا تأملتها
علمت أنها ألفاظ ملفقة بلا معنى، وأنها عليها شجى وبلاء، وإلا فما عسى أن تبلغ
حيلة الحاسد ويغنى كيد الكائد الشانئ لمن قد جل قدره عن النقص، وأضاءت
فضائله إضاءة الشمس.
وأين قول الجاحظ من دلائل السماء، وبراهين الأنبياء وقد علم الصغير والكبير،
والعالم والجاهل ممن بلغه ذكر علي عليه السلام، وعلم مبعث النبي صلى الله عليه وآله
أن عليا عليه السلام لم يولد في دار الاسلام، ولا غذى في حجر الايمان، وإنما
استضافه رسول الله صلى الله عليه وآله إلى نفسه سنة القحط والمجاعة. وعمره يومئذ
ثماني سنين، فمكث معه سبع سنين حتى أتاه جبرئيل بالرسالة، فدعاه وهو بالغ
كامل العقل إلى الاسلام، فأسلم بعد مشاهدة المعجزة، وبعد إعمال النظر والفكرة.
وإن كان قد ورد في كلامه أنه صلى سبع سنين قبل الناس كلهم فإنما يعنى ما بين
الثمان والخمس عشرة، ولم يكن حينئذ دعوة ولا رسالة ولا ادعاء نبوة، وإنما كان
رسول الله صلى الله عليه وآله يتعبد على ملة إبراهيم ودين الحنيفية، ويتحنث ويجانب

(1) هذا ما في ط. وفى الأصل: " الأخرى ".
305

الناس ويعتزل ويطلب الخلوة وينقطع في جبل حراء. وكان علي عليه السلام معه
كالتابع والتلميذ، فلما بلغ الحلم وجاءت النبي صلى الله عليه وآله الملائكة وبشرته
بالرسالة، دعاه فأجابه عن نظر ومعرفة بالأعلام في المعجزة، فكيف يقول الجاحظ
إن إسلامه لم يكن مقتضبا؟!
وإن كان إسلامه ينقص عن إسلام غيره في الفضيلة لما كان يمرن عليه من
التعبد مع رسول الله صلى الله عليه وآله قبل الدعوة، ليكونن طاعة كثير من
المكلفين أفضل من طاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وأمثاله من المعصومين، لان
العصمة عند أهل العدل لطف يمنع من اختص به من ارتكاب القبيح. فمن اختص
بذلك اللطف كانت الطاعة عليه أسهل، فوجب أن يكون ثوابه أنقص من ثواب
من أطاع مع تلك الألطاف.
وكيف يقول الجاحظ إن إسلامه ناقص عن إسلام غيره وقد جاء في الخبر أنه
أسلم يوم الثلاثاء واستنبئ النبي صلى الله عليه وآله يوم الاثنين، فمن هذه حاله لم
تكثر حجج الرسالة على سمعه، ولا تواترت أعلام النبوة على مشاهدته. ولا تطاول
الوقت عليه لتخف محنته ويسقط ثقل تكليفه، بل بان فضله وظهر حسن اختياره
لنفسه، إذ أسلم حال بلوغه، وعانى نوازع طبعه، ولم يؤخر ذلك بعد سماعه.
وقد غمر الجاحظ في كتابه هذا أن أبا بكر كان قبل إسلامه مذكورا، ورئيسا
معروفا، يجتمع إليه كثير من أهل مكة فينشدون الاشعار ويتذاكرون الاخبار
ويشربون الخمر، وقد كان سمع دلائل النبوة. وحجج الرسل، وسافر إلى البلدان
ووصلت إليه الاخبار، وعرف دعوى الكهنة وحيل السحرة، ومن كان كذلك
كان انكشاف الأمور له أظهر، والاسلام عليه أسهل، والخواطر على قلبه أقل
اعتلاجا، وكل ذلك عون لأبي بكر على الاسلام، ومسهل إليه سبيله، ولذلك لما قال
النبي صلى الله عليه وآله: " أتيت بيت المقدس " سأله أبو بكر عن المسجد ومواضعه،
فصدقه وبان له أمره، وخفت مؤنته لما تقدم معرفته بالبيت. فخرج إذا إسلام
أبى بكر على قول الجاحظ من معنى المقتضب.
306

وفى ذلك رويتم عنه صلى الله عليه وآله أنه قال: " ما دعوت أحدا إلى الاسلام
إلا وكان له تردد ونبوة إلا ما كان من أبى بكر فإنه لم يتلعثم حتى هجم به اليقين إلى
المعرفة والاسلام. فأين إسلام هذا وإسلام من خلى وعقله، وألجئ إلى نظره مع صغر
سنه واعتلاج الخواطر على قلبه. ونشأته في ضد ما دخل فيه، والغالب على أمثاله
وأقرانه حب اللعب واللهو. فلجأ إلى ما ظهر له من دلائل الدعوة، ولم يتأخر إسلامه
فيلزمه التقصير بالمعصية، فقهر شهوته، وغالب خواطره، وخرج من عادته وما كان
غذى به، لصحة نظره، ولطافة فكره. وغامض فهمه، فعظم استنباطه، ورجح
فضله، وشرف قدر إسلامه، ولم يأخذ من الدنيا بنصيب ولا تنعم فيها بنعيم، حدثا
ولا كبيرا، [وحمى نفسه عن الهوى (1)]، وكسر شرة حداثته بالتقوى، واشتغل
بهم الدين عن نعيم الدنيا، وأشغل (2) هم الآخرة قلبه، ووجه إليه رغبته،
فإسلامه هو السبيل الذي لم يسلم عليه أحد غيره، وما سبيله في ذلك إلا
كسبيل الأنبياء، ليعلم أن منزلته من النبي صلى الله عليه وآله كمنزلة هارون
من موسى، وأنه وإن لم يكن نبيا فقد كان في سبيل الأنبياء سالكا. ولمنهاجهم
متبعا، وكانت حاله كحال إبراهيم عليه السلام، فإن أهل العلم ذكروا أنه لما كان
صغيرا جعلته أمه في سرب لم يطلع عليه أحد، فلما نشأ ودرج وعقل قال لامه: من
ربى؟ قالت: أبوك. قال: فمن رب أبى؟ فزبرته ونهرته، إلى أن اطلع من شق
السرب فرأى كوكبا فقال: هذا ربى. فلما أفل قال: لا أحب الآفلين، فلما رأى
القمر بازغا قال: هذا ربى. فلما أفل قال: لئن لم يهدني ربى لأكونن من القوم
الضالين. فلما رأى الشمس بازغة قال: هذا ربى هذا أكبر. فلما أفلت قال: يا قوم
إني برئ مما تشركون، إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا
وما أنا من المشركين. وفى ذلك يقول الله جل ثناؤه: " وكذلك نرى إبراهيم ملكوت
السماوات والأرض وليكون من الموقنين ". وعلى هذا كان إسلام الصديق الأكبر

(1) التكملة من ط.
(2) كذا في النسختين، ولعلها " أشعر ".
307

عليه السلام. لسنا نقول إنه كان مساويا له في الفضيلة، ولكن كان مقتديا بطريقه،
على ما قال الله تعالى: " إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين
آمنوا والله ولى المؤمنين ".
وأما اعتلال الجاحظ (1) بأن له ظهرا كأبى طالب، وردءا كبنى هاشم، فإنه
يوجب عليه أن يكون محنة أبى بكر وبلال وثوابهما وفضل إسلامهما أعظم مما
لرسول الله صلى الله عليه وآله، لان أبا طالب ظهره، وبنى هاشم رداؤه. وحسبك
جهلا من معاند لم يستطع حط قدر علي عليه السلام إلا بحطه من قدر رسول الله
صلى الله عليه وآله.
ولم يكن أحد أشد على رسول الله صلى الله عليه وآله من قراباته الأدنى منهم
فالأدنى كأبى لهب عمه، وامرأة أبى لهب، وهى أم جميل بنت حرب بن أمية وإحدى
أولاد عبد مناف. ثم ما كان من عقبة بن أبي معيط وهو ابن عمه، وما كان من
النضر بن الحارث وهو من بنى عبد الدار بن قصي وهو ابن عمه أيضا، وغير هؤلاء
من يطول تعداده، وكلهم كان يطرح الأذى في طريقه وينقل أخباره، ويرميه
بالحجارة، ويرمى الكرش والفرث (2) عليه، وكانوا يؤذون عليا عليه السلام كأذاه،
ويجتهدون في غمه ويستهزئون به، وما كان لأبي بكر قرابة تؤذيه كقرابة على. ولما
كان بين على وبين النبي صلى الله عليه وآله من الاتحاد والألف والاتفاق، أحجم
المنافقون بالمدينة عن أذى رسول الله صلى الله عليه وآله خوفا من سيفه وأنه صاحب
الدار والجيش، وأمره مطاع وقوله نافذ، فخافوا على دمائهم منه فاتقوه، وأمسكوا
عن إظهار بغضه وأظهروا بغض علي عليه السلام وشنآنه، فقال رسول الله صلى الله
عليه وآله في حقه الخبر الذي روى في جميع الصحاح: " لا يحبك إلا مؤمن، ولا
يبغضك إلا منافق ". وقال كثير من أعلام الصحابة كما روى في الخبر المشهور بين
المحدثين: " ما كنا نعرف المنافقين إلا ببغض علي بن أبي طالب ". وأين كان ظهر

(1) هذا ما في ط. وبدلها في الأصل: " وقوله " فقط.
(2) في الأصل: " والضرب " صوابه في ط.
308

أبى طالب من جعفر وقد أزعجه الأذى عن وطنه حتى هاجر إلى بلاد الحبشة وركب
البحر. أيتوهم الجاحظ أن أبا طالب نصر عليا وخذل جعفرا؟!
(5)
ص 25 - 27 من العثمانية
أما ما ذكره من كثرة المال والصديق، واستفاضة الذكر وبعد الصيت، وكبر
السن، فكله عليه لا له. وذلك لأنه قد علم أن من سيرة العرب وأخلاقها حفظ
الصديق، والوفاء بالذمام، والتهيب الذي الثروة، واحترام ذي السن العالية،
وفى كل هذا ظهر شديد وسند، وثقة يعتمد عليها عند المحن، ولذلك كان المرء منهم
إذا تمكن من صديقه أبقى عليه واستحيا منه، وكان ذلك سببا لنجاته والعفو عنه.
على أن علي بن أبي طالب عليه السلام إن لم يكن شهره سنه فقد شهره نسبه
وموضعه من بني هاشم، وإن لم يستفض ذكره بلقاء الرجال وكثرة الاسفار استفاض
بأبي طالب. فأنتم تعلمون أنه ليس تيم في بعد الصيت كهاشم، ولا أبو قحافة
كأبى طالب. وعلى حسب ذلك يعلو ذكر الفتى على ذي السن، ويبعد صيت الحدث
على الشيخ.
ومعلوم أيضا أن عليا على أعناق المشركين أثقل، إذ كان هاشميا وإن كان أبوه
حامى رسول الله صلى الله عليه وآله والمانع لحوزته. وعلى هو الذي فتح على العرب
باب الخلاف واستهان بهم بما أظهر من الاسلام والصلاة، وخالف رهطه وعشيرته
وأطاع ابن عمه فيما لم يعرف من قبل، ولا عهد له نظير، كما قال تعالى: " لتنذر قوما
ما أنذر آباؤهم فهم غافلون ".
ثم كان بعد صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله ومشتكى حزنه، وأنيسه
في خلوته وجليسه، وأليفه في أيامه كلها. وكل هذا يوجب التحريض عليه ومعاداة
العرب له.
ثم أنتم معاشر (1) العثمانية تثبتون لأبي بكر فضيلة بصحبة الرسول صلى الله عليه

(1) ط: " معشر ".
309

وآله من مكة إلى يثرب، ودخوله معه في الغار، فقلتم: مرتبة شريفة. وحالة جليلة،
إذ كان شريكه في الهجرة. وأنيسه في الوحشة، فأين هذه من صحبة علي عليه السلام
له في خلوته. وحيث لا يجد أنيسا غيره ليله ونهاره أيام مقامه بمكة يعبد الله معه
سرا، ويتكلف له الحاجة جهرا، ويخدمه كالعبد يخدم مولاه، ويشفق عليه ويحوطه،
وكالولد يبر والده ويعطف عليه.
ولما سئلت عائشة: من كان أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله؟
قالت: أما من الرجال فعلى، وأما من النساء ففاطمة.
(6)
ص 27 - 31 من العثمانية
أما القول فممكن والدعوى سهلة، سيما على مثل الجاحظ، فإنه ليس على لسانه من
دينه وعقله رقيب، وهو من دعوى الباطل غير بعيد، فمعناه نزر، وقوله لغو، ومطلبه
سجع، وكلامه لعب ولهو. يقول الشئ وخلافه ويحسن القول وضده، ليس له
من نفسه واعظ، ولا لدعواه حد قائم. وإلا فكيف تجاسر على القول بأن عليا
حينئذ لم يكن مطلوبا ولا طالبا؟! وقد بينا بالأخبار الصحيحة والحديث المرفوع
المسند أنه كان يوم أسلم بالغا كاملا، منابذا بلسانه وقلبه لمشركي قريش، ثقيلا
على قلوبهم، وهو المخصوص دون أبى بكر بالحصار في الشعب. وصاحب الخلوات
برسول الله صلى الله عليه وآله في تلك الظلمات، والمتجرع لغصص المرار من أبى لهب
وأبى جهل وغيرهما، والمصطلى لكل مكروه، والشريك لنبيه في كل أذى، قد نهض
بالحمل الثقيل، وبان بالامر الجليل. ومن الذي كان يخرج ليلا من الشعب على هيئة
السارق، ويخفى نفس ويضائل شخصه، حتى يأتي إلى من يبعثه إليه أبو طالب
من كبراء قريش، كمطعم بن عدي وغيره، فيحمل لبنى هاشم على ظهره أعدال الدقيق
والقمح، وهو على أشد خوف من أعدائهم كأبى جهل وغيره، لو ظفروا به لأراقوا
دمه. أعلى كان يفعل ذلك أيام الحصار في الشعب أم أبو بكر؟
310

وقد ذكر هو عليه السلام حاله يومئذ، فقال في خطبة له مشهورة: " فتعاقدوا
ألا يعاملونا ولا يناكحونا، وأوقدت الحرب علينا نيرانها، واضطرونا إلى جبل وعر،
مؤمننا يرجو الثواب، وكافرنا يحامى عن الأصل ". ولقد كانت القبائل كلها
اجتمعت عليهم، وقطعوا عنهم المادة والميرة، فكانوا يتوقعون الموت جوعا صباحا
ومساء، لا يرون وجها ولا فرجا، قد اضمحل عزمهم وانقطع رجاؤهم، فمن الذي
خلص إليه مكروه تلك المحن بعد محمد صلى الله عليه وآله إلا علي عليه السلام وحده.
وما عسى أن يقول الواصف والمطنب في هذه الفضيلة من تقصى معانيها وبلوغ غاية
كنهها وفضيلة الصابر عندها. ودامت هذه المحنة ثلاث سنين حتى (1) انفرجت عنهم
بقصة الصحيفة. والقصة مشهورة.
وكيف يستحسن الجاحظ لنفسه أن يقول في علي عليه السلام: إنه قبل الهجرة
كان وادعا رافها، لم يكن مطلوبا ولا طالبا، وهو صاحب الفراش، الذي فدى
رسول الله صلى الله عليه وآله بنفسه، ووقاه بمهجته، واحتمل السيوف، ورضخ
الحجارة دونه. وهل ينتهى الواصف وإن أطنب، والمادح وإن أسهب، إلى الإبانة
عن مقدار هذه الفضيلة، والايضاح لمزية هذه الخصيصة.
فأما قوله: " إن أبا بكر عذب بمكة " فإنا لا نعلم أن العذاب كان واقعا إلا بعبد
أو عسيف، أو لمن لا عشيرة له تمنعه. فأنتم في أبى بكر بين أمرين: تارة تجعلونه
دخيلا ساقطا وهجينا، رذيلا مستضعفا [ذليلا]، وتارة تجعلونه رئيسا متبعا وكبيرا
مطاعا، فاعتمدوا على أحد القولين لنكلمكم بحسب ما تختارونه لأنفسكم.
ولو كان الفضل في الفتنة والعذاب لكان عمار وخباب وبلال وكل معذب بمكة
أفضل من أبى بكر، لانهم كانوا من العذاب في أكثر مما كان فيه، ونزل فيهم
من القرآن ما لم ينزل فيه، كقوله تعالى: " والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا "
قالوا: نزلت في خباب وبلال. ونزل في عمار قوله: " إلا من أكره وقلبه

(1) في الأصل: " لو " صوابه في ط.
311

مطمئن بالايمان ". وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يمر على عمار وأبيه وأمه
وهم يعذبون، يعذبهم بنو مخزوم لانهم كانوا حلفاءهم، فيقول: " صبرا آل ياسر
فإن موعدكم الجنة! ". وكان بلال يقلب على الرمضاء وهو يقول: أحد أحد!!
وما سمعنا لأبي بكر في شئ من ذلك ذكرا.
ولقد كان لعلى عليه السلام عنده يد غراء - إن صح ما رويتموه في تعذيبه -
لأنه قتل نوفل بن خويلد، وعمير (1) بن عثمان يوم بدر. ضرب نوفلا فقطع ساقه
فقال: أذكرك الله والرحم! فقال: قد قطع الله كل رحم وصهر، إلا من كان تابعا
لمحمد!! ثم ضربه أخرى ففاضت نفسه. وصمد لعمير (2) بن عثمان التيمي فوجده
يروم الهرب وقد ارتج عليه المسلك، فضربه على شراسيف (3) صدره، فصار نصفه
الاعلى بين رجليه. وليس أن أبا بكر لم يطلب بثأره منهما ويجتهد، [لكنه]
لم يقدر على أن يفعل فعل علي عليه السلام، فبأن علي عليه السلام بفعله دونه.
(7)
ص 28 - 29 من العثمانية
كيف كانت بنو جمح تؤذى عثمان بن مظعون وتضربه وهو فيهم ذو سطوة وقدر،
وتترك أبا بكر يبنى مسجدا يفعل فيه ما ذكرتم. وأنتم الذين رويتم عن ابن مسعود
أنه قال: " ما صلينا ظاهرين حتى أسلم عمر بن الخطاب " والذي تذكرونه من بناء
المسجد كان قبل عمر، فكيف هذا؟
وأما ما ذكرتم من رقة صوته وعتاق (4) وجهه فكيف يكون ذلك وقد روى
الواقدي وغيره، أن عائشة رأت رجلا من العرب خفيف العارضين، معروق الخدين،

(1) هذه من ط.
(2) في الأصل: " عمر " صوابه في ط والسيرة 508.
(3) كذا في ط. وفى الأصل: " شر سوف ".
(4) العتاق: العتق.
312

غائر العينين، أجنأ (1) لا يمسك إزاره، فقالت: ما رأيت أشبه بأبي بكر من هذا.
فلا أهادلت على شئ من الجمال في صفته.
(8)
ص 31 - من العثمانية
هذا الكلام وهجر السكران سواء في تقارب المخرج واضطراب المعنى، وذلك أن
قريشا لم تقدر على أذى النبي صلى الله عليه وآله وأبو طالب حي يمنعه، فلما مات طلبته
لتقتله، فخرج تارة إلى بنى عامر، وتارة إلى ثقيف، وتارة إلى بنى شيبان، ولم يكن
يتجاسر على المقام بمكة إلا مستترا حتى أجاره مطعم بن عدي، ثم خرج إلى المدينة
فبذلت فيه مائة بعير لشدة حنقها عليه، حين فاتها فلم تقدر عليه. فما بالها بذلت في
أبى بكر مائة بعير أخرى وقد كان رد الجوار وبقى بينهم فردا لا ناصر له، ولا دافع
عنده، يصنعون به ما يريدون. إما أن يكونوا أجهل البرية كلها، أو يكون العثمانية
أكذب جيل في الأرض وأوقحه وجها. وهذا مما لم يذكر في سيرة، ولا روى في
أثر، ولا سمع به بشر، ولا سبق الجاحظ به أحد.
(9)
ص 31 - من العثمانية
ما أعجب هذا القول، إذ تدعى العثمانية لأبي بكر الرفق في الدعاء وحسن الاحتجاج
وقد أسلم ومعه في منزله ابنه عبد الرحمن فما قدر أن يدخله الاسلام طوعا برفقه ولطف
احتجاجه، ولا كرها بقطع النفقة عنه وإدخال المكروه عليه، ولا كان لأبي بكر
عند ابنه عبد الرحمن من القدر ما يطيعه فيما يأمره به ويدعوه إليه، كما روى أن
أبا طالب فقد النبي صلى الله عليه وآله يوما وكان يخاف عليه من قريش أن يغتالوه فخرج
ومعه ابنه جعفر يطلبان النبي صلى الله عليه وآله، فوجد قائما في بعض شعاب

(1) الأجنأ من الجنأ، وهو ميل الظهر.
313

مكة يصلى وعلي عليه السلام معه عن يمينه، فلما رآهما أبو طالب قال لجعفر: تقدم
وصل جناح ابن عمك! فقام جعفر عن يسار محمد صلى الله عليه وسلم فلما صاروا ثلاثة
تقدم رسول الله صلى الله عليه وآله وتأخر الاخوان، فبكى أبو طالب وقال:
إن عليا وجعفرا ثقتي * عند ملم الخطوب والنوب
لا تخذلا وانصرا ابن عمكما * أخي لامى من بينهم وأبى
والله لا أخذل النبي ولا * يخذله من بنى ذو حسب
فتذكر الرواة أن جعفرا أسلم منذ ذلك اليوم لان أباه أمره بذلك وأطاع أمره.
وأبو بكر لم يقدر على إدخال ابنه عبد الرحمن في الاسلام، حتى أقام بمكة على كفره ثلاث
عشرة سنة. وخرج يوم أحد في عسكر المشركين ينادى: أنا عبد الرحمن بن عتيق
هل من مبارز!! ثم مكث بعد ذلك على كفره حتى أسلم عام الفتح، وهو اليوم الذي
دخلت فيه قريش في الاسلام طوعا وكرها، ولم يجد أحد منها إلى ترك ذلك سبيلا.
وأين كان رفق أبى بكر وحسن احتجاجه عند أبيه أبى قحافة وهما في دار
واحدة؟ هلا رفق به ودعاه إلى الاسلام فأسلم. وقد علمتم أنه بقى على الكفر إلى يوم
الفتح فأحضره ابنه عند النبي صلى الله عليه وآله وهو شيخ كبير رأسه كالثغامة (1) فنفر
رسول الله صلى الله عليه وآله منه وقال: غيروا هذا. فخضبوه ثم جاءوا به مرة أخرى
فأسلم. وكان أبو قحافة فقيرا مدقعا سيئ الحال وأبو بكر عندهم كان مثريا فائض
المال، فلم يمكنه استمالته إلى الاسلام بالنفقة والاحسان. وقد كانت امرأة أبى بكر
أم عبد الله ابنه - واسمها نملة بنت عبد العزى بن أسعد بن عبد ود العامرية - لم تسلم
وأقامت على شركها بمكة، وهاجر أبو بكر وهى كافرة، فلما نزل قوله تعالى: " ولا
تمسكوا بعصم الكوافر " فطلقها أبو بكر. فمن عجز عن ابنه وأبيه وامرأته فهو عن
غيرهم من الغرباء أعجز، ومن لم يقبل منه أبوه وابنه وامرأته لا برفق واحتجاج،
ولا خوفا من قطع النفقة عنهم وإدخال المكروه عليهم فغيرهم أقل قبولا منه، وأقل
خلافا عليه.

(1) الثغام، كسحاب: ضرب من النبات أبيض.
314

(10)
ص 31 - 32 من العثمانية
أخبرونا من هذا الذي أسلم ذلك اليوم من أهل بيت أبى بكر، إذا كانت امرأته
لم تسلم وابنه عبد الرحمن لم يسلم وأبو قحافة لم يسلم، وأخته أم فروة لم تسلم، وعائشة
لم تكن قد ولدت في ذلك الوقت، لأنها ولدت بعد مبعث النبي صلى الله عليه وآله
بخمس سنين، ومحمد بن أبي بكر ولد بعد مبعث رسول الله صلى الله عليه وآله بثلاث
وعشرين سنة، لأنه ولد في حجة الوداع. وأسماء بنت أبي بكر التي قد روى الجاحظ
هذا الخبر عنها كانت يوم بعث رسول الله صلى الله عليه وآله بنت أربع سنين، وفى
رواية من يقول: بنت سنتين. فمن الذي أسلم من أهل بيته يوم أسلم. نعوذ بالله من
الجهل والكذب والمكابرة. وكيف أسلم سعد والزبير وعبد الرحمن بدعاء أبى بكر
وليسوا من رهطه ولا من أترابه ولا من جلسائه ولا كانت بينهم قبل ذلك صداقة
متقدمة ولا أنس وكيد. وكيف ترك أبو بكر عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة لم
يدخلهما في الاسلام برفقه وحسن دعائه، وقد زعمتم أنهما كانا يجلسان إليه لعلمه
وطريف حديثه. وما باله لم يدخل جبير بن مطعم في الاسلام وقد ذكرتم أنه أدبه
وخرجه، ومنه أخذ جبير العلم بأنساب قريش ومآثرها. فكيف عجز عن هؤلاء
الذين عددناهم - وهم منه بالحال التي وصفنا - ودعا من لم يكن بينه وبينه أنس
ولا معرفة إلا معرفة عيان. وكيف لم يقبل منه عمر بن الخطاب وقد كان شكله وأقرب
الناس شبها به في أغلب أخلاقه. ولئن رجعتم إلى الانصاف لتعلمن أن هؤلاء لم يكن
إسلامهم إلا بدعاء الرسول صلى الله عليه وآله لهم، وعلى يديه أسلموا.
ولو فكرتم في حسن التأتي في الدعاء ليصحن لأبي طالب في ذلك - على
شركه - أضعاف ما ذكرتموه لأبي بكر، لأنكم رويتم أن أبا طالب قال لعلي عليه
السلام: يا بنى ألزمه فإنه لن يدعوك إلا إلى خير. وقال لجعفر: صل جناح ابن عمك.
فأسلم بقوله، ولاجله أصفق بنو عبد مناف على نصرة رسول الله صلى الله عليه وآله
315

بمكة من بنى مخزوم وبنى سهم وبنى جمح. ولاجله صبر بنو هاشم على الحصار
في الشعب، وبدعائه وإقباله على محمد صلى الله عليه وآله أسلمت امرأته فاطمة بنت
أسد. فهو أحسن رفقا وأيمن نقيبة من أبى بكر وغيره. وما منعه عن الاسلام إن
ثبت أنه لم يسلم إلا تقية. وأبو بكر لم يكن له إلا ابن واحد، وهو عبد الرحمن، فلم يمكنه
أن يدخله في الاسلام ولا أمكنه إذ لم يقبل منه الاسلام أن يجعله كبعض مشركي
قريش في قلة الأذى لرسول الله صلى الله عليه وآله وفيه أنزل " والذي قال لوالديه
أف لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي، وهما يستغيثان الله ويلك
آمن إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين ".
وإنما يعرف حسن رفق الرجل وتأتيه بأن يصلح أولا أمر بيته وأهله ثم يدعو
الأقرب فالأقرب، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله لما بعث كان أول من دعا
زوجته خديجة ثم مكفوله وابن عمه عليا عليه السلام، ثم مولاه زيدا، ثم أم أيمن
خادمته. فهل رأيتم أحدا ممن كان يأوى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله لم يسارع؟
وهل التاث عليه أحد من هؤلاء؟ فهكذا يكون حسن التأتي والرفق في الدعاء. هذا
ورسول الله مقل، وهو من جملة عيال خديجة حين بعثه الله تعالى، وأبو بكر عندكم
كان موسرا وكان أبوه مقترا (1)، وكذلك ابنه وامرأته أم عبد الله. والموسر في فطرة
العقول أولى أن يتبع من المقتر. وإنما حسن التأتي والرفق في الدعاء ما صنعه مصعب
بن عمير لسعد بن معاذ لما دعاه. وما صنع سعد بن معاذ ببنى عبد الأشهل لما دعاهم
وما صنع بريدة بن الحصيب بأسلم لما دعاهم، قالوا: أسلم بدعائه ثمانون بيتا من قومه.
وأسلم بنو عبد الأشهل بدعاء سعد في يوم واحد. وأما من لم يسلم ابنه ولا امرأته
ولا أبوه ولا أخته بدعائه فهيهات أن يوصف ويذكر بالرفق في الدعاء، وحسن
التأتي والأناة.

(1) المقتر: القليل المال.
316

(11)
ص 33 - 35 من العثمانية
أما بلال وعامر بن فهيرة فإنما أعتقهما رسول الله صلى الله عليه وآله.
روى ذلك الواقدي وابن إسحاق وغيرهما. وأما باقي مواليهم الأربع فإن
سامحناكم في دعواكم لم يبلغ ثمنهم في تلك الحال لشدة بغض مواليهم لهم إلا مائة درهم
أو نحوها، فأي فخر في هذا؟
وأما الآية فإن ابن عباس قال في تفسيرها: " وأما من من أعطى واتقى وصدق
بالحسنى. فسنيسره لليسرى " أي لان يعود. وقال غيره: نزلت في مصعب بن عمير.
(12)
ص 35 - 36 من العثمانية
أخبرونا على أي نوائب الاسلام أنفق هذا المال، وفى أي وجه وضعه، فإنه ليس
بجائز أن يخفى ذلك ويدرس حتى يفوت حفظه، وينسى ذكره.
وأنتم فلم تقفوا على شئ أكثر من عتقه بزعمكم ست رقاب لعلها يبلغ ثمنها في
ذلك العصر مائة درهم. وكيف يدعى له الانفاق الجليل وقد باع من رسول الله صلى
الله عليه وآله بعيرين عند خروجه إلى يثرب وأخذ منه الثمن في تلك الحال، روى
ذلك جميع المحدثين.
وقد رويتم أيضا أنه كان حيث كان بالمدينة موسرا. ورويتم عن عائشة أنها
قالت: هاجر أبو بكر وعنده عشرة آلاف درهم. وقلتم إن الله تعالى أنزل فيه:
" ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولى القربى ".
قلتم: هي في أبى بكر ومسطح بن أثاثة. فأين الفقر الذي زعمتم أنه أنفق حتى
تخلل بالعباءة (1).

(1) في الأصل: " بالعباء " وأثبت ما في ط.
317

ورويتم أن لله تعالى في سمائه ملائكة تخللوا بالعباء وأن النبي صلى الله عليه وآله
رآهم ليلة الاسراء فسأل جبريل عنهم فقال: هؤلاء ملائكة تأسوا بأبي بكر بن أبي
قحافة صديقك في الأرض، فإنه سينفق عليك ماله حتى يخل عباءته في عنقه.
وأنتم رويتم أيضا أن الله تعالى لما أنزل آية النجوى فقال: " يا أيها الذين آمنوا إذا
ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلكم خير لكم " الآية. لم
يعمل بها إلا علي بن أبي طالب وحده، مع إقراركم بفقره وقلة ذات يده، وأبو بكر في
الذي ذكرنا من السعة أمسك عن مناجاته، فعاتب الله المؤمنين في ذلك فقال:
" أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم "،
فجعله سبحانه وذنبا يتوب عليهم منه، وهو إمساكهم عن تقديم الصدقة. فكيف
سخت نفسه بإنفاق أربعين ألفا وأمسك عن مناجاة الرسول، وإنما كان يحتاج إلى
إخراج درهمين.
وأما ما ذكرتم من كثرة عياله ونفقته عليهم فليس في ذلك دليل على تفضيله، لان
نفقته على عياله واجبة. مع أن أرباب السير ذكروا أنه لم يكن ينفق على أبيه شيئا،
وأنه كان أجيرا لابن جدعان على مائدته يطرد عنها الذباب.
(13)
ص 37 - 39 من العثمانية
إننا لا ننكر فضل الصحابة وسوابقهم. ولسنا كالامامية الذين يحملهم الهوى على
جحد الأمور المعلومة. ولكنا ننكر تفضيل أحد الصحابة على علي بن أبي طالب
ولسنا ننكر غير ذلك - وننكر تعصب الجاحظ للعثمانية وقصده إلى فضائل هذا
الرجل ومناقبه بالرد والابطال. وأما حمزة فهو عندنا ذو فضل عظيم، ومقام جليل،
وهو سيد الشهداء الذين استشهدوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله.
وأما فضل عمر فغير منكر، وكذلك الزبير وسعد، وليس فيما ذكرنا ما يقتضى
كون علي عليه السلام مفضولا لهم أو لغيرهم إلا قوله " وكل هذه الفضائل لم يكن لعلى
عليه السلام فيها ناقة ولا جمل " فإن هذا من التعصب البارد والحيف، والفاحش.
318

وقد قدمنا من آثار علي عليه السلام قبل الهجرة وماله إذ ذاك من المناقب والخصائص
ما هو أفضل وأعظم وأشرف من جميع ما ذكر لهؤلاء. على أن أرباب السيرة يقولون:
إن الشجة التي شجها سعد، وأن السيف الذي سله الزبير هو الذي جلب الحصار
في الشعب على النبي صلى الله عليه وآله وبنى هاشم، وهو الذي سير جعفرا وأصحابه
إلى الحبشة. وسل السيف في الوقت الذي لم يؤمر المسلمون فيه بسل السيف غير جائز.
قال تعالى: " ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة
فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله " فتبين أن التكليف
له أوقات، فمنها وقت لا يصلح فيه سل السيف، ومنها وقت يصلح فيه ويجب.
فأما قوله تعالى: " لا يستوى منكم من أنفق " فقد ذكرنا ما عندنا من دعواهم
لأبي بكر إنفاق المال. وأيضا فإن الله تعالى لم يذكر إنفاق المال مفردا. وإنما قرن
به القتال. ولم يكن أبو بكر صاحب قتال وحرب، فلا تشمله الآية. وكان علي عليه
السلام صاحب قتال وإنفاق قبل الفتح. أما قتاله فمعلوم بالضرورة، وأما إنفاقه
فقد كان على حسب حاله وفقره. وهو الذي أطعم الطعام على حبه مسكينا ويتيما
وأسيرا. وأنزلت فيه وفى زوجته وابنيه سورة كاملة من القرآن (1)، وهو الذي ملك
أربعة دراهم فأخرج منها درهما سرا ودرهما علانية ليلا، ثم أخرج منها في النهار درهما
سرا ودرهما علانية، فأنزل فيه قوله تعالى: " الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار
سرا وعلانية ".
وهو الذي قدم بين يدي نجواه صدقة دون المسلمين كافة.
وهو الذي تصدق بخاتمه وهو راكع، فأنزل الله فيه: " إنما وليكم الله ورسوله
والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ".

(1) هذا من عظيم الافتراء، زعم ذلك بعض غلاة الشيعة. انظر فصل الخطاب، لحسين
ابن محمد تقي النوري الطبرسي ص 156. فقد أورد سورة مختلقة أولها " بسم الله الرحمن الرحيم.
يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالنورين أنزلناهما يتلوان عليكم آياتي ويحذرانكم عذاب يوم عظيم "!
319

(14)
ص 39 - 40 من العثمانية
لا أشك أن الباطل خان أبا عثمان، والخطأ أقعده، والخذلان أصاره إلى الحيرة،
فما علم وعرف حتى قال ما قال. فزعم أن عليا عليه السلام قبل الهجرة لم يمتحن
ولم يكابد المشاق، وأنه إنما قاسى مشاق التكليف ومحن الابتلاء منذ يوم بدر، ونسى
الحصار في الشعب وما منى به، وأبو بكر وادع رافه يأكل ما يريد ويجلس مع من يحب
مخلى سربه طيبة نفسه، ساكنا قلبه، وعلى يقاسى الغمرات ويكابد الأهوال،
ويجوع ويظمأ، ويتوقع القتل صباحا ومساء، لأنه كان هو المتوصل المحتال في إحضار
قوت زهيد من شيوخ قريش وعقلائها سرا، ليقيم به رمق رسول الله صلى الله عليه
وآله وبنى هاشم وهم في الحصار، ولا يأمن في كل وقت مفاجأة أعداء رسول الله
صلى الله عليه وآله له بالقتل، كأبى جهل بن هشام، وعقبة بن أبي معيط، والوليد
ابن المغيرة، وعتبة بن ربيعة، وغيرهم من فراعنة قريش وجبابرتها. ولقد كان يجيع
نفسه ويطعم رسول الله صلى الله عليه وآله زاده، ويظمئ نفسه ويسقيه ماءه، وهو
كان المعلل له إذا مرض، والمؤنس له إذا استوحش، وأبو بكر بنجوة عن ذلك
لا يمسه مما يمسهم ألم، ولم يلحقه مما يلحقهم مشقة، ولا يعلم بشئ من أخبارهم
وأحوالهم إلا على سبيل الاجمال دون التفصيل، ثلاث سنين محرمة معاملتهم ومناكحتهم
ومجالستهم، محبوسين محصورين، ممنوعين من الخروج، والتصرف في أنفسهم.
فكيف أهمل الجاحظ هذه الفضيلة ونسى هذه الخصيصة ولا نظير لهما.
ولكن لا يبالي الجاحظ بعد أن يسوغ له لفظه وتنسق (1) له خطابته ما ضيع من
المعنى ورجع عليه من الخطأ.
فأما قوله: " وعلموا أن العاقبة للمتقين " ففيه إشارة إلى معنى غامض قصده
الجاحظ، يعنى أن لا فضيلة لعلى عليه السلام في الجهاد، لان الرسول كان أعلمه أنه

(1) كذا في ط. وفى الأصل: " وتنشق ".
320

منصور، وأن العاقبة له. وهذا من وساوس الجاحظ وهمزاته ولمزاته، وليس بحق
ما قاله، لان رسول الله صلى الله عليه وآله أعلم أصحابه جملة أن العاقبة لهم، ولم يعلم
واحدا منهم بعينه أنه لا يقتل لا عليا ولا غيره. وإن صح أنه كان أعلمه أنه لا يقتل
فلم يعلمه أنه لا يقطع عضو من أعضائه، ولم يعلمه أنه لا يمسه ألم الجراح في جسده،
ولم يعلمه أنه لا يناله الضرب الشديد.
وعلى أن رسول الله صلى الله عليه وآله قد أعلم أصحابه قبل يوم بدر، وهو يومئذ
بمكة، أن العاقبة لهم، كما أعلم أصحابه بعد الهجرة ذلك. فإن لم يكن لعلى والمجاهدين
فضيلة في الجهاد بعد الهجرة لاعلامه إياهم بذلك فلا فضيلة لأبي بكر وغيره في احتمال
المشاق قبل الهجرة، لاعلامه إياهم بذلك. فقد جاء في الخبر: أنه وعد أبا بكر قبل
الهجرة بالنصر، وأنه قال له: أرسلت إلى هؤلاء بالذبح وأن الله سيغنمنا أموالهم
ويملكنا ديارهم، فالقول في الموضعين متساو ومتفق (1).
(15)
ص 41 - 42 من العثمانية
ما نرى الجاحظ احتج لكون أبى بكر أغلظهم وأشدهم محنة إلا بقوله: لأنه
أقام بمكة مدة مقام الرسول صلى الله عليه وآله بها. وهذه الحجة لا تختص أبا بكر
وحده، لان عليا عليه السلام أقام معه هذه المدة، وكذلك طلحة وزيد وعبد الرحمن
وبلال وخباب وغيرهم. وقد كان الواجب عليه أن يخص أبا بكر وحده بحجة تدل
على أنه كان أغلظ الجماعة وأشدهم محنة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله.
فالاحتجاج في نفسه فاسد.
ثم يقال له: ما بالك أهملت أمر مبيت علي عليه السلام على الفراش بمكة ليلة
الهجرة، هل نسيته أم تناسيته؟ فإنها المحنة العظيمة والفضيلة الشريفة، التي متى
امتحنها الناظر وأجال فكره فيها، رأى تحتها فضائل متفرقة، ومناقب متغايرة. وذلك

(1) في ط: " ومتسق ".
321

أنه لما استقر الخبر عند المشركين أن رسول الله صلى الله عليه وآله مجمع على الخروج
من بينهم للهجرة إلى غيرهم قصدوا إلى معاجلته، وتعاقدوا على أن يبيتوه في فراشه
وأن يضربوه بأسياف كثيرة، بيد كل صاحب قبيلة من قريش سيف منها، ليضيع
دمه بين الشعوب، ويتفرق بين القبائل، ولا يطلب بنو هاشم بدمه قبيلة واحدة بعينها
من بطون قريش، وتحالفوا على ذلك تلك الليلة واجتمعوا عليها، فلما علم رسول الله
صلى الله عليه وآله من أمرهم دعا أوثق الناس عنده وأمثلهم في نفسه، وأبذلهم
في ذات الاله لمهجته، وأسرعهم إجابة إلى طاعته، فقال له: إن قريشا قد تحالفت
على أن تبيتني هذه الليلة، فامض إلى فراشي ونم في مضجعي والتف في بردى
الحضرمي، ليروا أنى لم أخرج، وإني خارج إن شاء الله. فمنعه أولا من التحرز وإعمال
الحيلة، وصده عن الاستظهار لنفسه بنوع من أنواع المكايد والجهات التي
يحتاط بها الناس لنفوسهم، وألجأه إلى أن يعرض نفسه لظبات السيوف الشحيذة
من أرباب الحنق والغيظة، فأجاب إلى ذلك سامعا مطيعا، طيبة بها نفسه، ونام على
فراشه صابرا محتسبا، واقيا له بمهجته ينتظر القتل، ولا نعلم فوق بذل النفس درجة
يلتمسها صابر، ولا يبلغها طالب، " والجود بالنفس أقصى غاية الجود (1) " ولولا أن
رسول الله صلى الله عليه وآله علم أنه أهل لذلك لما أهله، ولو كان عنده نقص
في صبره أو في شجاعته أو في مناصحته لابن عمه واختير لذلك، لكان من اختاره
منقوضا في رأيه، مضرا في اختياره ولا يجوز أن يقول هذا أحد من أهل الاسلام،
وكلهم مجمعون على أن الرسول صلى الله عليه وآله عمل الصواب، وأحسن في الاختيار.
ثم في ذلك إذا تأمله المتأمل وجوه من الفضل: منها أنه وإن كان عنده في موضع
الثقة فإنه غير مأمون عليه ألا يضبط السر فيفسد التدبير بإفشائه تلك الليلة إلى من
يلقيه إلى الأعداء. ومنها أنه وإن كان ضابطا للسر وثقة عند من اختاره فغير
مأمون عليه الجبن عند مفاجأة المكروه ومباشرة الأهوال، فيفر من الفراش، فيفطن

(1) عجز بيت لمسلم بن الوليد وصدره:
* يجود بالنفس إن ضن الجواد بها *
322

لموضع الحيلة ويطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيظفر به ومنها أنه وإن كان
ثقة ضابطا للسر شجاعا نجدا فلعله غير محتمل للمبيت على الفراش، لان هذا أمر
خارج عن الشجاعة إن كان قد قامه مقام المكتوف الممنوع، بل هو أشد مشقة من
المكتوف الممنوع، لان المكتوف الممنوع يعلم من نفسه أنه لا سبيل إلى الهرب
وهذا يجد السبيل إلى الهرب وإلى الدفع عن نفسه، ولا يهرب ولا يدافع. ومنها أنه
وإن كان ثقة عنده ضابطا للسر شجاعا محتملا للمبيت على الفراش فإنه غير مأمون
أن يذهب صبره عند العقوبة الواقعة، والعذاب النازل بساحته، حتى يبوح بما عنده
ويصير إلى الاقرار بما يعلمه، وهو أنه أخذ طريق كذا، فيطلب فيؤخذ. فلهذا
قال علماء المسلمين: إن فضيلة علي عليه السلام تلك الليلة لا نعلم أحدا من البشر نال
مثلها، إلا ما كان من إسحاق وإبراهيم عند استسلامه للذبح. ولولا أن الأنبياء
لا يفضلهم غيرهم لقلنا إن محنة على أعظم، لأنه قد روى أن إسحاق تلكأ لما أمره
أن يضطجع، وبكى على نفسه، وقد كان أبوه يعلم أن عنده في ذلك وقفة، ولذلك
قال له: " فانظر ماذا ترى " وحال علي عليه السلام بخلاف ذلك، لأنه ما تلكأ
ولا تعتع ولا تغير لونه ولا اضطربت أعضاؤه. ولقد كان أصحاب النبي صلى الله
عليه وآله يشيرون عليه بالرأي المخالف لما كان أمر به وتقدم فيه فيتركه ويعمل
بما أشاروا به، كما جرى يوم الخندق في مصانعة الأحزاب بثلث تمر المدينة، فإنهم
أشاروا عليه بترك ذلك فتركه. وهذه كانت قاعدته معهم وعادته بينهم. وقد كان لعلى
عليه السلام أن يقتل بعلة وأن يقف ويقول: يا رسول الله، أكون معك أحميك
من العدو، وأذب بسيفي عنك، فلست مستغنيا في خروجك عن مثلي، ونجعل
عبدا من عبيدنا في فراشك قائما مقامك، يتوهم القوم برؤيته نائما في بردك أنك
لم تخرج ولم تفارق مركزك. فلم يقل ذلك ولا تحبس، ولا توقف ولا تلعثم،
وذلك لعلم كل واحد منهما صلى الله عليه وآله أن أحدا لا يصبر على ثقل هذه المحنة،
ولا يتورط في هذه الهلكة، إلا من خصه الله تعالى بالصبر على مشقتها، والفوز
بفضيلتها. وله من جنس ذلك أفعال كثيرة، كيوم دعا عمرو بن عبد ود المسلمين
323

إلى المبارزة، فأحجم الناس كلهم عنه لما علموا من بأسه وشدته. ثم كرر النداء
فقام علي عليه السلام فقال: أنا أبرز إليه! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله:
إنه عمرو. قال: نعم وأنا على. فأمره بالخروج إليه، فلما خرج قال صلى الله عليه وآله:
برز الايمان كله إلى الشرك كله. وكيوم أحد حيث حمى رسول الله صلى الله عليه وآله
من أبطال قريش وهم يقصدون قتله، فقتلهم دونه حتى قال جبريل عليه السلام:
يا محمد، إن هذه هي المواساة. فقال: " إنه منى وأنا منه " فقال جبريل: وأنا
منكما، ولو عددنا أيامه ومقاماته التي شرى فيها نفسه لله تعالى لأطلنا وأسهبنا.
(16)
ص 42 - 43 من العثمانية
أما كثرة المستجيبين فالفضل فيها راجع إلى المجيب لا إلى المجاب. على أنا قد
علمنا أن من استجاب لموسى عليه السلام أكثر ممن استجاب لنوح عليه السلام،
وثواب نوح أكثر، لصبره على الأعداء ومقاساة خلافهم وعنتهم.
وأما إنفاق المال فأين محنة الغنى من محنة الفقير، وأين يعدل إسلام من أسلم
وهو غنى إن جاع أكل وإن أعيا ركب، وإن عرى لبس، قد وثق بيساره واستغنى
بماله، واستعان على نوائب الدنيا بثروته - بمن لا يجد قوت يومه، وإن وجد لم
يستأثر به، فكان الفقر شعاره، وفى ذلك قيل: " الفقر شعار المؤمن " وقال الله
تعالى لموسى: يا موسى إذا رأيت الفقر مقبلا فقل مرحبا بشعار الصالحين. وفى الحديث
" إن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام " وكان النبي صلى الله عليه وسلم
يقول: " اللهم احشرني في زمرة الفقراء ". ولذلك أرسل الله محمدا صلى الله عليه
وآله فقيرا وكان بالفقر سعيدا، فقاسى محنة الفقر ومكابدة الجوع، حتى شد الحجر
على بطنه. وحسبك بالفقر فضيلة في دين الله لمن صبر عليه، فإنك لا تجد صاحب
الدنيا يتمناه، لأنه مناف لحال الدنيا وأهلها، وإنما هو شعار أهل الآخرة.
324

وأما طاعة علي عليه السلام وكون الجاحظ زعم أنها كانت لان في عز محمد عزه
وعز رهطه، بخلاف طاعة أبى بكر، فهذا يفتح عليه أن يكون جهاد حمزة كذلك،
وجهاد عبيدة بن الحارث، وهجرة جعفر إلى الحبشة، بل لعل محاماة المهاجرين من
قريش على رسول الله صلى الله عليه وآله كانت لان في دولته دولتهم، وفى نصرته
استجداد ملك لهم. وهذا يجر إلى الالحاد ويفتح باب الزندقة، ويفضى إلى الطعن
في الاسلام والنبوة.
(17)
ص 44 من العثمانية
هذا فرق غير مؤثر، لأنه قد ثبت بالتواتر حديث الفراش، فلا فرق بينه وبين
ما ذكر في نص الكتاب، ولا يجحده إلا مجنون أو غير مخالط لأهل الملة. أرأيت
كون الصلوات خمسا، وكون زكاة الذهب ربع العشر، وكون خروج الريح ناقضا
للطهارة، وأمثال ذلك مما هو معلوم بالتواتر حكمه، هل هو مخالف لما نص
في الكتاب عليه من الاحكام. هذا ما لا يقوله رشيد ولا عاقل. على أن الله تعالى لم
يذكر اسم أبى بكر في الكتاب، وإنما قال: " إذ يقول لصاحبه "، وإنما علمنا أنه
أبو بكر بالخبر وما ورد في السيرة. وقد قال أهل التفسير إن قوله تعالى: " ويمكر الله
والله خير الماكرين " كناية عن علي عليه السلام، لأنه مكر بهم. وأول الآية
" وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله
والله خير الماكرين " أنزلت في ليلة الهجرة، ومكرهم كان توزيع السيوف على
بطون قريش، ومكر الله تعالى هو منام علي عليه السلام على الفراش. فلا فرق بين
الموضعين في أنهما مذكوران كناية لا تصريحا. وقد روى المفسرون كلهم أن قول
الله تعالى: " ومن الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضاة الله " أنزلت في علي عليه
السلام ليلة المبيت على الفراش. فهذه مثل قوله تعالى: " إذ يقول لصاحبه "،
لا فرق بينهما.
325

(18)
ص 44 - 45 من العثمانية
هذا هو الكذب الصراح والتحريف، والادخال في الرواية ما ليس منها.
والمعروف المنقول أنه صلى الله عليه وآله قال له: " اذهب فاضطجع في مضجعي
وتغش ببردى الحضرمي فإن القوم سيفقدونني ولا يشهدون مضجعي، فلعلهم إذا
رأوك يسكنهم ذلك حتى يصبحوا. فإذا أصبحت فاغد في أمانتي " ولم ينقل
ما ذكره الجاحظ، وإنما ولده أبو بكر الأصم وأخذه الجاحظ ولا أصل له. ولو كان
هذا صحيحا لم يصل إليه منهم مكروه.
وقد وقع الاتفاق على أنه ضرب ورمى بالحجارة قبل أن يعلموا من هو حتى
تضور، وأنهم قالوا له: رأينا تضورك، فإنا كنا نرمي محمدا ولا يتضور. ولان
لفظة " المكروه " إن كان قالها إنما يراد بها القتل، فهب أنه أمن من القتل كيف
يأمن من الضرب والهوان، أو من أن ينقطع بعض أعضائه، وبأن سلمت نفسه.
أليس الله تعالى قال لنبيه: " بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته
والله يعصمك من الناس ". ومع ذلك فقد كسرت رباعيته وشج وجهه وأدميت
ساقه، وذلك لأنها عصمة من القتل خاصة. وكذلك المكروه الذي أومن علي عليه
السلام منه - إن كان صح ذلك الحديث - إنما هو مكروه القتل.
ثم يقال له: وأبو بكر لا فضيلة له أيضا في كونه في الغار، لان النبي صلى الله عليه
وآله قال له: " لا تحزن إن الله معنا "، ومن يكن الله معه فهو آمن لا محالة من
كل سوء، فكيف قلت: " ولم ينقل ناقل أنه قال لأبي بكر في الغار مثل ذلك "
فكل ما يجيب به عن هذا فهو جواب عما أورده. فنقول له: هذا ينقلب عليك
في النبي صلى الله عليه وآله، لان الله تعالى وعده بظهور دينه وعاقبة أمره، فيجب على
قولك ألا يكون مثابا عند الله تعالى على ما يحتمله من المكروه ولا ما يصيبه من
الأذى، إذ كان أيقن بالسلامة والفتح في غده (1)

(1) ط: " عدته " أي وعده، وأثبت ما في الأصل.
326

(19)
ص 45 - 47 من العثمانية
لقد أعطى أبو عثمان مقولا وحرم معقولا، إن كان يقول هذا على اعتقاد وجد،
ولم يذهب به مذهب اللعب والهزل، أو على طريق التفاصح والتشادق، وإظهار
القوة والسلاطة، وذلاقة اللسان، وحدة الخاطر، والقوة على جدال الخصوم.
ألم يعلم أبو عثمان أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان أشجع البشر، وأنه خاض
الحروب وثبت في المواقف التي طاشت فيها الألباب وبلغت القلوب الحناجر.
فمنها يوم أحد ووقوفه بعد أن فر المسلمون بأجمعهم ولم يبق معه إلا أربعة: على والزبير
وطلحة وأبو دجانة، فقاتل ورمى بالنبل حتى فنيت نبله، وانكسرت سية قوسه،
وانقطع وتره، فأمر عكاشة بن محصن أن يوترها فقال: يا رسول الله لا يبلغ الوتر.
قال: أوتر ما بلغ، قال عكاشة: فوالذي بعثه بالحق لقد أوترت حتى بلغ وطويت منه
شبرا على سية القوس، ثم أخذها فما زال يرميهم حتى نظرت إلى قوسه قد تحطمت.
وبارز أبي بن خلف فقال له أصحابه: إن شئت عطف عليه بعضنا! فأبى وتناول الحربة
من الحارث بن الصمة ثم انتفض بأصحابه كما ينتفض البعير. قالوا: فتطايرنا عنه
تطاير الشعارير (1) فطعنه بالحربة فجعل يخور كما يخور الثور، ولو لم يدل على ثباته
حين انهزم أصحابه وتركوه إلا قوله تعالى: " إذ تصعدون ولا تلوون على أحد
والرسول يدعوكم في أخراكم " فكونه عليه السلام في أخراهم وهم يصعدون
ولا يلوون هاربين دليل على أنه ثبت ولم يفر.
وثبت يوم حنين في تسعة من أهله ورهطه الأدنين، وقد فر المسلمون كلهم،
والنفر التسعة محدقون به: العباس أخذ بحكمة بغلته، وعلى بين يديه مصلت سيفه،
والباقون حول بغلة رسول الله صلى الله عليه وآله يمنة ويسرة، وقد انهزم المهاجرون

(1) جمع شعرور، وهو ما يجتمع على دبرة البعير من الذبان.
327

والأنصار، وكلما فروا أقدم هو صلى الله عليه وآله، وصمم مستقدما يلقى السيوف
والنبل بنحره وصدره، ثم أخذ كفا من البطحاء وحصب المشركين وقال:
شاهت الوجوه!!
والخبر المشهور عن علي عليه السلام وهو أشجع البشر: " كنا إذا اشتد البأس
وحمى الوطيس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وآله ولذنا به ". فكيف يقول
الجاحظ: إنه ما خاض الحرب ولا خالط السيوف وأي فرية أعظم من فرية من نسب
رسول الله صلى الله عليه وآله إلى الاحجام واعتزال الحرب؟! ثم أي مناسبة بين
أبى بكر ورسول الله صلى الله عليه وآله في هذا المعنى ليقيسه الجاحظ به (1) وينسبه
إلى رسول الله صلى الله عليه وآله صاحب الجيش والدعوة، ورئيس الاسلام والملة
والملحوظ بين أصحابه وأعدائه بالسيادة، وإليه الايماء والإشارة، وهو الذي أحنق
قريشا والعرب، وورى أكبادهم بالبراءة من آلهتهم وعيب دينهم وتضليل أسلافهم،
ثم وترهم فيما بعد بقتل رؤسائهم وأكابرهم. وحق لمثله إذا تنحى عن الحرب واعتزلها
أن يتنحى ويعتزل، لان ذلك شأن الملوك والرؤساء، إذ كان الجيش منوطا بهم
وببقائهم، فمتى هلك الملك هلك الجيش، ومتى سلم الملك أمكن أن يبقى عليه ملكه
وإن عطب جيشه بأن يستجد جيشا آخر، ولذلك نهى الحكماء أن يباشر الملك
الحرب بنفسه، وخطؤوا الإسكندر لما بارز فورا (2) ملك الهند، ونسبوه إلى مجانبه
الحكمة. ومفارقة الصواب والحزم. فليقل لنا الجاحظ: أي مدخل لأبي بكر في هذا
المعنى؟ ومن الذي كان يعرفه من أعداء المسلمين (3) ليقصده بالقتل، وهل هو إلا واحد
من عرض المهاجرين حكمه حكم عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان وغيرهما، بل كان
عثمان أنبه صيتا (4) وأشرف منه مركبا. والعيون إليه أطمح، والعدو عليه أحنق

(1) هذه الكلمة وسابقتها ساقطتان من المطبوعة.
(2) ط: " قوسرا " صوابه في الأصل. وفى معجم استينجاس 941 أن " فورا " راجا قنوج
قتله الإسكندر.
(3) ط: " الاسلام ".
(4) ط: " أكثر منه صيتا ".
328

وأكلب. ولو قتل أبو بكر في بعض تلك المعارك هل كان يؤثر قتله في الاسلام ضعفا
أو يحدث فيه وهنا، أو يخاف على الملة لو قتل أبو بكر في بعض تلك الحروب أن
تندرس وتعفى آثارها وتنطمس منارها، ليقول الجاحظ إن أبا بكر كان حكمه حكم
رسول الله صلى الله عليه وآله في مجانبة الحروب واعتزالها. نعوذ بالله من الخذلان!
وقد علم العقلاء كلهم ممن له بالسير معرفة، وبالآثار والاخبار ممارسة، حال حروب
رسول الله صلى الله عليه وآله كيف كانت، وحاله عليه السلام فيها كيف كانت،
ووقوفه حيث وقف، وحرب حيث حارب، وجلوسه في العريش يوم جلس،
وأن وقوفه صلى الله عليه وآله وقوف رياسة وتدبير، ووقوف ظهر وسند، يتعرف
أمور أصحابه ويحرس صغيرهم وكبيرهم بوقوفه من ورائهم، وتخلفه عن التقدم في أوائلهم،
ولأنهم متى علموا أنه في أخراهم اطمأنت قلوبهم. ولم يتعلق بأمره نفوسهم فيشتغلوا
بالاهتمام به عن عدوهم، ولا يكون لهم فيئة يلجئون إليها، وظهر يرجعون إليه،
ويعلمون أنه متى كان خلفهم تفقد أمورهم وعلم مواقفهم، وآوى كل إنسان مكانه
في الحماية والنكاية، وعند المنازلة في الكر والحملة، فكان وقوفه حيث وقف أصلح
لأمرهم، وأحمى وأحرس لبيضتهم، ولأنه المطلوب من بينهم، إذ هو مدبر أمورهم ووالى
جماعتهم. ألا ترون أن موقف صاحب اللواء موقف شريف، وأن صلاح الحرب
في وقوفه، وأن فضيلته في ترك التقدم في أكثر حالاته. فللرئيس حالات:
الأولى حالة يتخلف ويقف آخرا ليكون سندا وقوة، وردءا وعدة، وليتولى
تدبير الحرب. ويعرف مواضع الخلل.
والحالة الثانية يتقدم فيها في وسط الصف ليقوى الضعيف ويشجع الناكص (1).
وحالة ثالثة وهى إذا اصطدم الفيلقان، وتكافح السيفان، اعتمد ما يقتضيه
الحال من الوقوف حيث يستصلح، أو من مباشرة الحر بنفسه، فإنها آخر المنازل،
وفيها تظهر شجاعة الشجاع النجد، وفشالة الجبان المموه.

(1) ط: " الناكس " بالسين.
329

فأين مقام الرياسة العظمى لرسول الله صلى الله عليه وآله وأين منزلة أبى بكر
ليسوى بين المنزلتين، ويناسب بين الحالتين؟!
ولو كان أبو بكر شريكا لرسول الله صلى الله عليه وآله في الرسالة، وممنوحا
من الله بفضيلة النبوة، وكانت قريش والعرب تطلبه كما تطلب محمدا صلى الله عليه وآله
وكان يدبر من أمر الاسلام وتسريب العساكر وتجهيز السرايا وقتل الأعداء ما يدبره
محمد صلى الله عليه وسلم لكان للجاحظ أن يقول ذلك. فأما وحاله حاله وهو أضعف
المسلمين جنانا، وأقلهم عند العرب ترة، لم يرم قط بسهم ولا سل سيفا،
ولا أراق دما، وهو أحد الاتباع غير مشهور ولا معروف، ولا طالب ولا مطلوب،
فكيف يجوز أن يجعل مقامه ومنزلته مقام رسول الله صلى الله عليه وآله ومنزلته.
ولقد خرج ابنه عبد الرحمن مع المشركين يوم أحد فرآه أبو بكر فقام مغيظا عليه فسل
من السيف مقدار إصبع يروم البروز إليه فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله:
يا أبا بكر، شم سيفك وأمتعنا بنفسك! ولم يقل له " وأمتعنا بنفسك " إلا لأنه
ليس أهلا للحرب وملاقاة الرجال، وأنه لو بارز لقتل.
وكيف يقول الجاحظ: لا فضيلة لمباشرة الحرب ولقاء الاقران وقتل أبطال
الشرك. وهل قامت عمد الاسلام إلا على ذلك؟؟ وهل ثبت الدين واستقر إلا بذلك؟!
أتراه لم يسمع قول الله تعالى: " إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان
مرصوص " والمحبة من الله تعالى هي إرادة الثواب. فكل من كان أشد ثبوتا في هذا
الصف وأعظم قتالا، كان أحب إلى الله، ومعنى الأفضل هو الأكثر ثوابا. فعلي عليه السلام
إذن هو أحب المسلمين إلى الله، لأنه أثبتهم قدما في الصف المرصوص
لم يفر قط بإجماع الأمة، ولا بارزه قرن إلا قتله.
وأتراه لم يسمع قول الله تعالى: " وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما "
وقوله: " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل
الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن " ثم قال سبحانه
330

مؤكدا لهذا البيع والشراء " ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي
بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم ". وقال الله تعالى: " ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ
ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون
من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح ".
فمواقف الناس في الجهاد على أحوال، وبعضهم في ذلك أفضل من بعض. فمن
دلف إلى الاقران واستقبل السيوف والأسنة كان أثقل على أكتاف الأعداء لشدة
نكايته فيهم، ممن وقف في المعركة وأعان ولم يقدم، وكذلك من وقف في المعركة
وأعان ولم يقدم إلا أنه بحيث تناله السهام والنبل، وأعظم غناء وأفضل ممن وقف حيث
لا يناله ذلك. ولو كان الضعيف والجبان يستحقان الرياسة بقلة بسط الكف وترك
الحرب، وأن ذلك يشاكل فعل النبي صلى الله عليه وآله، لكان أوفر الناس حظا
في الرياسة وأشدهم لها استحقاقا حسان بن ثابت. وإن بطل فضل علي عليه السلام
في الجهاد لان النبي صلى الله عليه وآله كان أقلهم قتالا - كما زعم الجاحظ -
ليبطلن على هذا القياس فضل أبى بكر في الانفاق، لان رسول الله صلى الله عليه وآله
كان أقلهم مالا.
وأنت إذا تأملت أمر العرب وقريش، ونظرت السير وقرأت الاخبار، عرفت
أنها كانت تطلب محمدا صلى الله عليه وآله وتقصد قصده، وتروم قتله، فإن أعجزها
وفاتها طلبت عليا عليه السلام وأرادت قتله، لأنه كان أشبههم بالرسول حالا،
وأقربهم منه قربا، وأشدهم عنه دفعا، وأنهم متى قصدوا عليا فقتلوه أضعفوا أمر
محمد صلى الله عليه وآله وكسروا شوكته، إذ كان أعلى (1) من ينصره في البأس
والقوة والشجاعة، والنجدة والاقدام والبسالة. ألا ترى إلى قول عتبة بن ربيعة
يوم بدر وقد خرج هو وأخوه شيبة وابنه الوليد بن عتبة، فأخرج إليهم الرسول نفرا
من الأنصار فاستنسبوهم فانتسبوا لهم. فقالوا: ارجعوا إلى قومكم ثم نادوا: يا محمد،

(1) هذا ما في ط: وفى الأصل: " على ".
331

أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا. فقال النبي صلى الله عليه وآله لأهله الأدنين:
قوموا يا بني هاشم فانصروا حقكم الذي آتاكم الله على باطل هؤلاء. قم يا علي،
قم يا حمزة، قم يا عبيدة، ألا ترى ما جعلت هند لمن قتله يوم أحد لأنه اشترك هو
وحمزة في قتل أبيها يوم بدر؟! ألم تسمع قول هند ترثى أهلها:
ما كان لي عن عتبة من صبر * أبى وعمى وشقيقي صدري
أخي الذي كان كضوء البدر * بهم كسرت يا علي ظهري
وذلك لأنه قتل أخاها الوليد بن عتبة، وشرك في قتل أبيها عتبة. وأما عمها
شيبة فإن حمزة تفرد بقتله.
وقال جبير بن مطعم لوحشي مولاه يوم أحد: إن قتلت محمدا فأنت حر،
وإن قتلت حمزة فأنت حر! فقال: أما محمد فسيمنعه أصحابه، وأما على فرجل حذر
كثير الالتفات في الحرب، ولكني سأقتل حمزة، فقعد له وزرقه بالحربة فقتله.
ولما قلناه من مقاربة حال علي عليه السلام في هذا الباب لحال رسول الله
صلى الله عليه وآله، ومناسبتها إياها، وما وجدناه في السير والاخبار من إشفاق رسول الله
صلى الله عليه وآله وحذره عليه، ودعائه له بالحفظ والسلامة، قال صلى الله عليه وآله
يوم الخندق وقد برز على إلى عمرو ورفع يديه إلى السماء بمحضر من أصحابه: " اللهم
إنك أخذت منى حمزة يوم أحد، وعبيدة يوم بدر، فاحفظ اليوم [على (1)] عليا،
رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين ". ولذلك ضن به عن مبارزة عمرو حين
دعا عمرو الناس إلى نفسه مرارا، في كلها يحجمون ويقدم على، فيسأل الاذن في البراز
حتى قال له رسول الله صلى الله عليه وآله: إنه عمرو! فقال: وأنا على! فأدناه وقبله
وعممه بعمامته، وخرج معه خطوات كالمودع له القلق لحاله، المنتظر لما يكون منه.
ثم لم يزل صلى الله عليه وآله رافعا يديه إلى السماء مستقبلا لها بوجهه، والمسلمون
صموت حوله كأنما على رؤوسهم الطير، حتى ثارت الغبرة وسمعوا التكبير من تحتها

(1) التكملة من ط.
332

فعلموا أن عليا قتل عمرا. فكبر رسول الله صلى الله عليه وآله، وكبر المسلمون
تكبيرة سمعها من وراء الخندق من عساكر المشركين. ولذلك قال حذيفة بن اليمان:
" لو قسمت فضيلة علي عليه السلام بقتل عمرو يوم الخندق بين المسلمين بأجمعهم
لوسعتهم " وقال ابن عباس في قوله تعالى: " وكفى الله المؤمنين القتال " قال:
بعلى بن أبي طالب.
(20)
ص 47 من العثمانية
فيقال للجاحظ: فعلى أيها كان مشى علي بن أبي طالب إلى الاقران بالسيف؟
فأيما قلت من ذلك بانت عداوتك لله تعالى ولرسوله. وإن كان مشيه ليس على وجه
مما ذكرت وإنما كان على وجه النصرة والقصد إلى المسابقة إلى ثواب الآخرة، والجهاد
في سبيل الله وإعزاز الدين، كنت بجميع ما قلت معاندا، وعن سبيل الانصاف
خارجا، وفى إمام المسلمين طاعنا. وإن تطرق مثل هذا بوهم علي عليه السلام ليتطرقن
مثله على أعيان المهاجرين والأنصار أرباب الجهاد والقتال، الذين نصروا رسول الله
صلى الله عليه وآله بأنفسهم، ووقوه بمهجهم، وفدوه بأبنائهم وآبائهم. فلعل ذلك
كان لعلة من العلل المذكورة، وفى ذلك الطعن في الدين، وفى جماعة المسلمين.
ولو جاز أن يتوهم هذا في علي عليه السلام وفى غيره لما قال رسول الله صلى الله
عليه وآله حكاية عن الله تعالى لأهل بدر: " اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم "،
ولا قال لعلي عليه السلام: " برز الايمان كله إلى الشرك كله " ولا قال:
" أوجب طلحة (1) ".
وقد علمنا ضرورة من دين الرسول صلى الله عليه وآله تعظيمه لعلى عليه السلام
تعظيما دينيا لأجل جهاده ونصرته، فالطاعن فيه طاعن في رسول الله صلى الله عليه

(1) أي عمل عملا أوجب له الجنة.
333

وآله، إذ زعم أنه قد يمكن أن يكون جهاده لا لوجه الله تعالى، بل لأمر آخر من
الأمور التي عددها وبعثه على التفوه بها إغواء الشيطان وكيده، والافراط في عداوة
من أمر الله بمحبته، ونهى عن بغضه وعداوته. أترى رسول الله صلى الله عليه وآله
خفى عليه من أمر علي عليه السلام ما لاح للجاحظ والعثمانية، فمدحه وهو غير
مستحق للمدح.
(21)
ص 47 و 48 من العثمانية
فيقال له: فلعل إنفاق أبى بكر كما تزعم أربعين ألف درهم لا ثواب له، لان نفسه
ربما تكون غير معتدلة، لأنه يكون مطبوعا على الجود والسخاء، ولعل خروجه
مع النبي صلى الله عليه وآله يوم الهجرة إلى الغار (1) لا ثواب له فيه، لان أسبابه
كانت له مهيجة. ودواعيه غالبة، لحبه - كان - الخروج وبغضه - كان
المقام (2). ولعل رسول الله صلى الله عليه وآله في دعائه إلى الاسلام، وإكبابه على
الصلوات الخمس في جوف الليل، وتدبيره أمر الأمة، لا ثواب له فيه، لأنه تكون
نفسه غير معتدلة، بل يكون في طباعه الرياسة وحبها، والعبادة والالتذاذ بها.
ولقد كنا نعجب من مذهب أبي عثمان أن المعارف ضرورة، وأنها تقع طباعا.
وفى قوله بالتولد، وحركة الحجر بالطبع، حتى رأينا من قوله ما هو أعجب منه، فزعم
أنه ربما يكون جهاد علي عليه السلام وقتله المشركين لا ثواب له فيه، لأنه فعله طبعا.
وهذا أطرف من قوله في المعرفة وفى التولد (3).

(1) إلى الغار. ساقطة من ط.
(2) في ط: " غالبة محبة الخروج وبغض المقام ".
(3) انظر ما كتبت في حواشي الحيوان 4: 208.
334

(22)
ص 49 - 50 من العثمانية
هذا راجع على الجاحظ في النبي صلى الله عليه وآله، لان الله تعالى قال له:
" والله يعصمك من الناس " فلم يكن له في جهاده كبير طاعة وكثير طاعة وكثير
من الناس يروى عنه صلى الله عليه وآله: " اقتدوا باللذين من بعدي أبى بكر وعمر ".
فوجب أن يبطل جهادهما، وقد قال للزبير: " ستقاتل عليا وأنت ظالم له " فأشعره
بذلك أنه لا يموت في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله. وقال في الكتاب العزيز
لطلحة: " وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده ".
قالوا: نزلت في طلحة. فأعلمه بذلك أنه يبقى بعده. فوجب أن لا يكون لهما كبير
ثواب في الجهاد.
والذي صح عندنا من الخبر، وهو قوله " ستقاتل بعدي الناكثين " أنه قاله
لما وضعت الحرب أوزارها، ودخل الناس في دين الله أفواجا، ووضعت الجزية
ودان العرب قاطبة.
(23)
ص 58 - 59 من العثمانية
أمر عمرو بن عبد ود أشهر وأكثر من أن يحتج له، فليتلمح كتب المغازي
والسير، ولينظر ما رثته به شعراء قريش لما قتل.
فمن ذلك ما ذكره محمد بن إسحاق في مغازيه قال: وقال مسافع بن عبد مناف
ابن زهرة بن حذافة بن جمح، يبكى عمرو بن عبد الله بن عبد ود، حين قتله علي بن أبي
طالب عليه السلام مبارزة، لما جزع المذاد (1) - أي قطع الخندق.

(1) ط: " لمحبة الخروج وبغض المقام " وصواب النص من الأصل. و " كان " تزاد
بين المتلازمين.
(1) المذاد، بالذال المعجمة: موضع بالمدينة حيث حفر الخندق. ط: " المزار " صوابه في الأصل.
335

عمرو بن عبد كان أول فارس * جزع المذاد وكان فارس يليل (1)
سمح الخلائق ماجد ذو مرة * يبغي القتال بشكة لم ينكل
ولقد علمتم حين ولوا عنكم * أن ابن عبد منهم لم يعجل (2)
حتى تكنفه الكماة وكلهم * يبغي القتال له وليس بمؤتل
ولقد تكنفت الفوارس فارسا * بجنوب سلع غير نكس أميل
سال النزال هناك فارس غالب * بجنوب سلع ليته لم ينزل
فاذهب على ما ظفرت بمثلها * فخرا ولو لاقيت مثل المعضل
نفسي الفداء لفارس من غالب * لاقي حمام الموت لم يتململ
أعنى الذي جزع المذاد ولم يكن * فشلا وليس لدى الحروب بزمل
وقال هبيرة بن أبي وهب المخزومي، يعتذر من فراره عن علي بن أبي طالب
وتركه عمرا يوم الخندق ويبكيه:
لعمرك ما وليت ظهري محمدا * وأصحابه جنبا ولا خيفة القتل
ولكنني قلبت أمرى فلم أجد * لسيفي غناء إن وقفت ولا نبلى
وقفت فلما لم أجد لي مقدما * صدرت كضرغام هزبر أبى شبل
ثنى عطفه عن قرنه حين لم يجد * مجالا وكان الحزم والرأي من فعلى
فلا تبعدن يا عمرو حيا وهالكا * فقد مت محمود الثنا ماجد الفعل
ولا تبعدن يا عمرو حيا وهالكا * فقد كنت في حرب العدى مرهف النصل
فمن لطراد الخيل تقدع بالقنا * وللبذل يوما عند قرقرة البزل
هنالك لو كان ابن عمرو لزازها * لفرجها عنهم فتى غير ما وغل
كفتك على لن ترى مثل موقف * وقفت على شلو المقدم كالفحل
فما ظفرت كفاك يوما بمثلها * أمنت بها ما عشت من زلة النعل

(1) يليل هو وادى الصفراء، دوين بدر.
(2) ط: " فيهم لم يعجل ".
336

وقال هبيرة بن أبي وهب أيضا يرثى عمرا ويبكيه:
لقد علمت عليا لؤي بن غالب * لفارسها عمرو إذا ناب نائب
وفارسها عمرو إذا ما يسوقه * على وأن الموت لا شك طالب
عشية يدعوه على وإنه * لفارسها إذ خام عنه الكتائب
فيا لهف نفسي إن عمرا لكائن * بيثرب لا زالت هناك المصائب
لقد أحرز العليا على بقتله * وللخير يوما لا محالة جالب
وقال حسان بن ثابت الأنصاري يذكر عمرا:
أمسى الفتى عمرو بن عبد ناظرا * كيف العبور وليته لم ينظر
ولقد وجدت سيوفنا مشهورة * ولقد وجدت جيادنا لم تقصر
ولقد لقيت غداة بدر عصبة * ضربوك ضربا غير ضرب الحسر
أصبحت لا تدعى ليوم عظيمة * يا عمرو أو لجسيم أمر منكر
وقال حسان أيضا:
لقد شقيت بنو جمح بن عمرو * ومخزوم وتيم ما نقيل (1)
وعمرو كالحسام فتى قرش * كأن جبينه سيف صقيل (2)
فتى من نسل عارم أريحى * تطاوله الأسنة والنصول
دعاه الفارس المقدام لما * تكشفت المقانب والخيول
أبو حسن فقنعه حساما * جرازا لا أفل ولا نكول
فغادره مكبا مسلحبا * على عفراء لا بعد القتيل
فهذه الاشعار فيه، بل بعض ما قيل فيه.
وأما الآثار والاخبار فموجودة في كتب السير وأيام الفرسان ووقائعهم. وليس
أحد من أرباب هذا العلم يذكر عمرا إلا قال: كان فارس قريش وشجاعها. وإنما قال
له حسان:

(1) في الأصل: " لقد شقيت " و " ما تقيل ".
(2) هذا البيت ساقط من ط.
337

* ولقد لقيت غداة بدر عصبة *
لأنه شهد مع المشركين بدرا وقتل قوما من المسلمين ثم فر مع من فرو ولحق بمكة.
وهو الذي كان قال وعاهد الله عند الكعبة ألا يدعوه أحد إلى واحدة من ثلاث
إلا أجابه. وآثاره في أيام الفجار مشهورة تنطق بها كتب الأيام والوقائع، ولكنه
لم يذكر مع الفرسان الثلاثة وهم عتيبة وبسطام وعامر، لانهم كانوا أصحاب غارات
ونهب وأهل بادية، وقريش أهل مدينة وساكنو مدر وحجر، لا يرون الغارات
ولا ينهبون غيرهم من العرب، وهم مقتصرون على المقام ببلدتهم وحماية حرمهم،
فلذلك لم يشتهر اسمه كاشتهار هؤلاء.
ويقال له: إذا كان عمرو كما تذكر ليس هناك. فما باله لما جزع الخندق في ستة
فرسان هو أحدهم فصار مع أصحاب النبي صلى الله عليه وآله على أرض واحدة.
وهم ثلاثة آلاف. ودعاهم إلى البراز مرارا، لم ينتدب أحد منهم للخروج إليه، ولا سمح
منهم أحد بنفسه، حتى وبخهم وقرعهم وناداهم: ألستم تزعمون أنه من قتل منا فإلى
النار ومن قتل منكم فإلى الجنة؟ أفلا يشتاق أحدكم أن يذهب إلى الجنة أو يقدم
عدوه إلى النار؟ فجبنوا كلهم ونكلوا، وملكهم الرعب والوهل. فإما أن يكون
هذا أشجع الناس كما قيل عنه، أو يكون المسلمون كلهم أجبن العرب وأذلهم وأفشلهم.
وقد روى الناس كلهم الشعر الذي أنشده لما نكل القوم بجمعهم عنه، وأنه
جال بفرسه واستدار، وذهب يمنة ثم ذهب يسرة. ثم وقف تجاه القوم فقال:
ولقد بححت من الندا * ء بجمعهم هل من مبارز
ووقفت إذ جبن المشيع * وقفة القرن المناجز
وكذاك أنى لم أزل * متسرعا نحو الهزاهز
إن الشجاعة في الفتى * والجود من خير الغرائز
فلما برز إليه على أجابه فقال له:
لا تعجلن فقد أتا * ك مجيب صوتك غير عاجز
338

دو نية وبصيرة * يرجو الغداة نجاة فائز
إني لأرجو أن أقيم * عليك نائحة الجنائز
من ضربة تفنى ويبقي * في ذكرها عند الهزائز
ولعمرى لقد سبق الجاحظ بما قاله بعض جهال الأنصار لما رجع رسول الله
من بدر وقال فتى من الأنصار شهد معه بدرا " إن قتلنا إلا عجائز صلعا! " فقال له
النبي صلى الله عليه وآله " لا تقل ذلك يا ابن أخ، أولئك الملا! ".
(24)
ص 59 من العثمانية
كان من دون أخبار قريش وآثار رجالها وصف الوليد بالشجاعة والبسالة،
وكان مع شجاعته أيدا يصارع الفتيان فيصرعهم، وليس لأنه لم يشهد حربا قبلها
ما يجب أن يكون بطلا شجاعا، فإن عليا عليه السلام لم يشهد قبل بدر حربا،
وقد رأى الناس آثاره فيها.
(25)
ص 62 من العثمانية
أما ثباته يوم أحد فأكثر المؤرخين وأرباب السير ينكرونه، وجمهورهم يروى
أنه لم يبق مع النبي صلى الله عليه وآله إلا على وطلحة والزبير وأبو دجانة.
وقد روى عن ابن عباس أنه قال: ولهم خامس، وهو عبد الله بن عباس، ومنهم
من أثبت سادسا وهو المقداد بن عمرو.
وروى يحيى بن سلمة بن كهيل قال: قلت لأبي: كم ثبت مع رسول الله
صلى الله عليه وآله يوم أحد؟ فقال: اثنان. قلت: من هما؟ قال: على وأبو دجانة.
وهب أبا بكر ثبت يوم أحد كما بدعيه الجاحظ، أيجوز له أن يقول: ثبت
على، فلا فخر لأحدهما على الآخر. وهو يعلم آثار علي عليه السلام ذلك اليوم وأنه
339

قتل أصحاب الألوية من بنى عبد الدار. منهم طلحة بن أبي طلحة الذي رأى رسول
الله صلى الله عليه وآله في منامه أنه مردف كبشا فأوله وقال: كبش الكتيبة
نقتله (1). فلما قتله علي عليه السلام مبارزة - وهو أول قتيل قتل من المشركين
ذلك اليوم - كبر رسول الله صلى الله عليه وآله وقال: هذا كبش الكتيبة!
وما كان منه من المحاماة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وقد فر الناس
وأسلموه، فتصمد له كتيبة من قريش فيقول: " يا علي، اكفني هذه ". فيحمل
عليها فيهزمها ويقتل عميدها، حتى سمع المسلمون والمشركون صوتا من قبل السماء:
لا سيف إلا ذو الفقا * ر ولا فتى إلا على
وحتى قال النبي صلى الله عليه وآله عن جبرئيل ما قال.
أتكون هذه آثاره وأفعاله ثم يقول الجاحظ: لا فخر لأحدهما على صاحبه!
ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين.
(26)
ص 62 من العثمانية
ما كان أغناك يا أبا عثمان عن ذكر هذا المقام المشهور لأبي بكر، فإنه لو تسمعه
الامامية لاضافته إلى ما عندها من المثالب، لان قول النبي صلى الله عليه وآله له:
ارجع، دليل على أنه لا يحتمل مبارزة أحد، لأنه إذا لم يحتمل مبارزة ابنه، وأنت
تعلم حنو الابن على الأب وتبجيله له وإشفاقه عليه وكفه عنه، لم يحتمل مبارزة
الغريب الأجنبي. وقوله له " ومتعنا بنفسك " إيذان له بأنه كان يقتل لو خرج.
ورسول الله كان أعرف به من الجاحظ. فأين حال هذا الرجل من حال الرجل
الذي صلى بالحرب، ومشى إلى السيف بالسيف، فقتل السادة والقادة،
والفرسان والرجالة.

(1) ط: " فقتلته ".
340

(27)
ص 62 من العثمانية
أما قوله " إنه بذل الجهد " فقد صدق. وأما قوله " لا حال أشرف من حاله "
فخطأ، لان حال من بلغت قوته أضعاف قوته فأعملها في قتل المشركين، أشرف
من حال من نقصت قوته عن بلوغ الغاية. ألا ترى أن حال الرجل أشرف في الجهاد
من حال المرأة، وحال البالغ الأيد أشرف من حال الصبى الضعيف.
قال ابن أبي الحديد:
فهذه جملة ما ذكره الشيخ أبو جعفر محمد بن عبد الله الإسكافي رحمه الله
في نقض العثمانية، اقتصرنا عليها هنا. وسنعود فيما بعد إلى ذكر جملة أخرى من
كلامه إذا اقتضت الحال ذكره.
وأنا أقول: قد تتبعت ما تلا هذا القول مما ورد في أثناء الشرح من نصوص،
فوجدت أن ابن الحديد قد وقف عند هذا الحد ولم يورد في كتابه نصا آخر من
نصوص رد الإسكافي يزيد عما نقله في هذه المواضع التي حرصت على أن أقرنها هنا
بالمواضع التي استدعت الرد.
(28)
ص 107 - 108 من العثمانية
إن أبا عثمان يجر على نفسه ما لا طاقة له به من مطاعن الشيعة. ولقد كان في غنية
عن التعلق بما تعلق به، لان الشيعة تزعم إن هذه الآية بأن تكون طعنا وعيبا
على أبى بكر أولى من أن تكون فضيلة ومنقبة له، لأنه لما قال له " لا تحزن "
دل على أنه قد كان حزن وقنط، وأشفق على نفسه، وليس هذا من صفات
المؤمنين الصابرين.
341

ولا يجوز أن يكون حزنه طاعة. لان الله تعالى لا ينهى عن الطاعة، فلو لم
يكن ذنبا لم ينه عنه. وقوله " إن الله معنا " أي إن الله عالم بحالنا وما نضمره من
اليقين أو الشك، كما يقول الرجل لصاحبه: لا تضمرن سوءا ولا تنوين قبيحا
فإن الله تعالى يعلم ما نسره وما نعلنه وهذا مثل قوله تعالى: " ولا أدنى من ذلك
ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ". أي عالم بهم. وأما السكينة فكيف يقول إنها
ليست راجعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبعدها قوله: " وأيده بجنود لم تروها ".
أترى المؤيد بالجنود كان أبا بكر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
وقوله: " إنه مستغن عنها " ليس بصحيح. ولا يستغنى أحد عن ألطاف الله
تعالى توفيقه وتأييده وتثبيت قلبه. وقد قال الله تعالى في قصة حنين: " وضاقت
عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ". ثم أنزل الله سكينته على رسول
الله صلى الله عليه وسلم.
وأما الصحبة فلا تدل إلا على المرافقة والاصطحاب. وقد تكون حيث
لا إيمان، كما قال تعالى: " قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك ".
ونحن وإن كنا نعتقد إخلاص أبى بكر وإيمانه الصحيح السليم، وفضيلته
التامة. إلا أنا لا نحتج له بمثل ما احتج به الجاحظ من الحجج الواهية، ولا نتعلق
بما يجر علينا دواهي الشيعة ومطاعنها.
342

(29)
وهى مناقضة لم أعثر على النص الذي سيقت له من العثمانية
وقد جاءت في شرح ابن الحديد عقب المناقضة رقم 18
قال الجاحظ:
وعلى أنا لو نزلنا إلى ما يريدونه جعلنا الفراش كالغار وخلصت فضائل أبى بكر
في غير ذلك عن معارض.
قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله:
قد بينا فضيلة المبيت على الفراش على فضيلة الصحبة في الغار بما هو واضح
لمن أنصف. ونزيد هنا تأكيدا بما لم نذكره فيما تقدم فنقول:
إن فضيلة المبيت على الفراش على الصحبة لوجهين:
أحدهما أن عليا عليه السلام قد كان أنس بالنبي صلى الله عليه وسلم، وحصل
له بمصاحبته قديما أنس عظيم، وألف شديد، فلما فارقه عدم ذلك الانس وحصل
به أبو بكر، فكان ما يجده عليه السلام من الوحشة وألم الفرقة موجبا زيادة ثوابه،
لان الثواب على قدر المشقة.
وثانيا: أن أبا بكر كان يؤثر الخروج من مكة، وقد كان خرج من قبل فرد،
فازداد كراهية للمقام، فلما خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وافق ذلك
هوى قلبه ومحبوب نفسه، فلم يكن له من الفضيلة ما يوازى فضيلة من احتمل
المشقة العظيمة، وعرض نفسه لوقع السيوف، ورأسه لرضخ الحجارة، لان على
قدر سهولة العبادة يكون نقصان الثواب.
تمت المناقضات
343