الكتاب: الكامل في التاريخ
المؤلف: ابن الأثير
الجزء: ٥
الوفاة: ٦٣٠
المجموعة: مصادر التاريخ
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع: ١٣٨٦ - ١٩٦٦م
المطبعة: دار صادر - دار بيروت
الناشر: دار صادر للطباعة والنشر - دار بيروت للطباعة والنشر
ردمك:
ملاحظات:

الكامل في التاريخ
5
1

الكامل في التاريخ
تأليف
الشيخ العلامة عز الدين أبي الحسن علي بن أبي الكرم
محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني المعروف
بابن الأثير
المجلد الخامس
دار صادر
للطباعة والنشر
دار بيروت
للطباعة والنشر
بيروت
1385 ه‍ _ 1965 م
3

بسم الله الرحمن الرحيم
96
ثم دخلت سنة ست وتسعين
ذكر فتح قتيبة مدينة كاشغر
وفي هذه السنة غزا قتيبة كاشغر فسار وحمل مع الناس عيالاتهم ليضعهم بسمرقند فلما عبر النهر استعمل رجلا على معبر النهر ليمنع من يرجع إلا بجواز منه ومضى إلى فرغانة وأرسل إلى شعب عصام من يسهل الطريق إلى كاشغر وهي أدنى مدائن الصين وبعث جيشا مع كثير بن فلان إلى كاشغر فغنم وسبى سبيا فختم أعناقهم وأوغل حتى بلغ قريب الصين.
فكتب إليه ملك الصين أن ابعث إلي رجلا شريفا يخبرني عنكم وعن دينكم فانتخب قتيبة عشرة لهم جمال وألسن وبأس وعقل وصلاح فأمر لهم بعدة حسنة ومتاع حسن من الخز والوشي وغير ذلك وخيول حسنة وكان منهم هبيرة بن مشمرج الكلابي فقال لهم إذا دخلتم عليه فاعلموه أني قد حلفت أني لا أنصرف حتى أطأ بلادهم وأختم ملوكهم وأجبي خراجهم.
فساروا وعليهم هبيرة فلما قدموا عليهم دعاهم ملك الصين فلبسوا
5

ثيابا بياضا تحتها الغلائل وتطيبوا ولبسوا النعال والأردية ودخلوا عليه وعنده عظماء قومه فجلسوا فلم يكلمهم الملك ولا أحد ممن عنده فنهضوا فقال الملك لمن حضره كيف رأيتم هؤلاء فقالوا: رأينا قوما ما هم إلا نساء ما بقي منا أحد إلا انتشر ما عنده.
فلما كان الغد دعاهم فلبسوا الوشي والعمائم الخز والمطارف وغدوا عليه فلما دخلوا قيل لهم: ارجعوا وقال لأصحابه كيف رأيتم هذه الهيئة؟ قالوا: هذه أشبه بهيئة الرجال من تلك. فلما كان اليوم الثالث دعاهم فشدوا سلاحهم ولبسوا البيض والمغافر وأخذوا السيوف والرماح والقسي وركبوا فنظر إليهم ملك الصين فرأى أمثال الجبال مقبلة فلما دنوا ركزوا رماحهم وأقبلوا مشمرين فقيل لهم: ارجعوا فركبوا خيولهم وأخذوا رماحهم ودفعوا خيلهم كأنهم يتطاردون فقال الملك لأصحابه كيف ترونهم قالوا: ما رأينا مثل هؤلاء.
فلما أمسى بعث إليهم أن ابعثوا إلي زعيمكم فبعثوا إليه هبيرة بن مشمرج فقال له حين دخل عليه قد رأيتم عظم ملكي وأنه ليس أحد يمنعكم مني وأنتم في يدي بمنزلة البيضة في كفي وإني سائلكم عن أمر فإن لم تصدقوني قتلتكم قال سل قال لم صنعتم بزيكم الأول اليوم الأول والثاني والثالث ما صنعتم قال أما زينا اليوم الأول فلباسنا في أهلنا وأما اليوم الثاني فزينا إذا أممنا أمراءنا وأما الثالث فزينا لعدونا قال ما أحسن ما دبرتم دهركم فقولوا لصاحبكم ينصرف فإني قد عرفت قلة أصحابه وإلا بعث إليكم من يهلككم قالوا: كيف يكون قليل الأصحاب من أول خيله في بلادك وآخرها في منابت الزيتون وأما تخويفك إيانا بالقتل فإن لنا آجالا إذا حضرت
6

فأكرمها القتل ولسنا نكرهه ولا نخافه وقد حلف أن لا ينصرف حتى يطأ أرضكم ويختم ملوككم وتعطوا الجزية.
فقال: فإنا نخرجه من يمينه ونبعث تراب أرضنا فيطأه ونبعث إليه ببعض أبناءنا فيختمهم ونبعث إليه بجزية يرضاها. فبعث إليه بهدية وأربعة غلمان من أبناء ملوكهم ثم أجازهم فأحسن فقدموا على قتيبة فقبل قتيبة الجزية وختم الغلمان وردهم ووطئ التراب. فقال سوادة بن عبد الملك السلولي:
(لا عيب في الوفد الذين بعثتهم * للصين إن سلكوا طريق المنهج)
(كسروا الجفون على القذى خوف الردى * حاشى الكريم هبيرة بن مشمرج)
(أدى رسالتك التي استدعيته * فأتاك من حنث اليمين بمخرج)
فأوفد قتيبة هبيرة إلى الوليد فمات بقرية من فارس فرثاه سوادة فقال:
(لله در هبيرة بن مشمرج * ماذا تضمن من ندى وجمال)
(وبديهة تعنى بها أبناؤها * عند احتفال مشاهد الأقوال)
(كان الربيع إذا السنون تتابعت * والليث عند تكعكع الأبطال)
(فسقى بقرية حيث أمسى قبره * غر يرحن بمسبل هطال)
7

(بكت الجياد الصافنات لفقده * وبكاه كل مثقف عسال)
(وبكته شعث لم يجدن مواسيا * في العام ذي السنوات والإمحال)
ووصل الخبر إلى قتيبة في هذه الغزاة بموت الوليد وكان قتيبة إذا رجع من غزاته كل سنة اشترى اثني عشر فرسا من جياد الخيل واثني عشر هجينا فتحدر إلى وقت الغزو فإذا تأهب للغزو ضمرها وحمل عليها الطلائع وكان يجعل الطلائع فرسان الناس وأشرافهم ومعهم من العجم من يستنصحه وإذا بعث طليعة أمر بلوح فنقش ثم شقه بنصفين وجعل شقه عنده ويعطي نصفه الطليعة ويأمرهم أن يدفنوه في موضع يصفه لهم من شجرة أو مخاضة أو غيرهما ثم يبعث بعد الطليعة من يستخرجه ليعلم أصدق الطليعة أم لا.
وفيها غزا بشر بن الوليد الشاتية ورجع وقد مات الوليد.
ذكر موت الوليد بن عبد الملك
وفي النصف من جمادى الآخرة من هذه السنة مات الوليد بن عبد الملك في قول جميعهم وكانت خلافته تسع سنين وسبعة أشهر وقيل تسع
8

سنين وثمانية أشهر وقيل وأحد عشر شهرا وكانت وفاته بدير مران ودفن خارج الباب الصغير وصلى عليه عمر بن عبد العزيز وكان عمره اثنتين وأربعين سنة وستة أشهر وقيل كان عمره خمسا وأربعين سنة وقيل ستا وأربعين سنة وأشهرا وقيل تسعا وأربعين وخلف تسعة عشر ابنا وكان دميما يتبختر في مشيته وكان سائل الأنف جدا فقيل فيه:
(فقدت الوليد وأنفا له * كمثل الفصيل بدا أن يبولا)
ولما دلي في جنازته جمعت ركبتاه إلى عنقه فقال ابنه أعاش أبي فقال له عمر بن عبد العزيز وكان فيمن دفنه عوجل والله أبوك واتعظ به عمر.
ذكر بعض سيرة الوليد
كان الوليد عند أهل الشام من أفضل خلفاءهم، بنى المساجد، مسجد دمشق ومسجد المدينة على ساكنها الصلاة والسلام والمسجد الأقصى ووضع المنابر وأعطى المجذمين ومنعهم من سؤال وأعطى كل مقعد خادما وكل ضرير قائدا وفتح في ولايته فتوحا عظاما منها الأندلس وكاشغر والهند.
وكان يمر بالبقال فيقف عليه ويأخذ منه حزمة بقل فيقول بكم هذه فيقول بفلس فيقول زد فيها.
9

وكان صاحب بناء واتخاذ المصانع والضياع فكان الناس يلتقون في زمانه فيسأل بعضهم بعضا عن البناء وكان سليمان صاحب طعام ونكاح فكان الناس يسأل بعضهم بعضا عن النكاح والطعام وكان عمر بن عبد العزيز صاحب عبادة فكان الناس يسأل بعضهم بعضا عن الخير ما وردك الليلة وكم تحفظ من القرآن وكم تصوم من الشهر؟
ومرض الوليد مرضه قبل وفاته وأغمي عليه فبقي يومه ذلك كأنه ميت فبكوا عليه وسارت البرد بموته فاسترجع الحجاج وشد في يده حبلا إلى أسطوانة وقال اللهم لا تسلط علي من لا رحمة له فقد طال ما سألتك أن تجعل منيتي قبله فبينما هو كذلك يدعو إذ قدم عليه البريد بإفاقته ولما أفاق الوليد قال ما أحد أشد سرورا بعافيتي من الحجاج ثم لم يمت حتى قفل الحجاج عليه.
وكان الوليد أراد أن يخلع أخاه سليمان ويبايع لولده عبد العزيز فأبى سليمان فكتب إلى عماله ودعا الناس إلى ذلك فلم يجبه إلا الحجاج وقتيبة وخواص من الناس فكتب الوليد إلى سليمان يأمره بالقدوم عليه فأبطأ فعزم الوليد على المسير إليه ليخلعه وأخرج خيمه فمات قبل أن يسير إليه.
ولما أراد أن يبني مسجد دمشق كان فيه كنيسة فهدمها وبناها مسجدا فلما ولي عمر بن عبد العزيز شكوا إليه ذلك فقال لهم عمر إن ما كان خارج المدينة فتح عنوة ونحن نرد عليكم كنيستكم ونهدم كنيسة توما فإنها فتحت عنوة ونبنيها مسجدا فقالوا: بل ندع لكم هذا ودعوا كنيسة توما.
وكان الوليد لحانا لا يحسن النحو دخل عليه إعرابي فمت إليه بصهر
10

بينه وبين قرابته، فقال له الوليد: من ختنك؟ بفتح النون وظن الأعرابي أنه يريد الختان فقال بعض الأطباء فقال له سليمان إنما يريد أمير المؤمنين من ختنك؟ وضم النون. فقال الأعرابي: نعم فلان وذكر ختنه وعاتبه أبوه على ذلك وقال إنه لا يلي العرب إلا من يحسن كلامهم فجمع أهل النحو ودخل بيتا فلم يخرج منه ستة أشهر ثم خرج وهو أجهل منه يوم دخل فقال عبد الملك قد أعذر قيل إنه لما ولي الخلافة كان يختم القرآن في كل ثلاث وكان يقرأ في رمضان كل يوم ختمة وخطب يوما فقال يا ليتها كانت القاضية وضم التاء فقال عمر بن عبد العزيز عليك وأراحتنا منك.
ذكر خلافة سليمان بن عبد الملك وبيعته
وفي هذه السنة بويع سليمان بن عبد الملك في اليوم الذي توفي فيه الوليد وهو بالرملة.
وفيها عزل سليمان بن الملك عثمان بن حيان عن المدينة لسبع بقين من رمضان واستعمل عليها أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وكان عثمان قد عزم على أن يجلد أبا بكر ويحلق لحيته من الغد فلما كان الليل جاء البريد إلى أبي بكر بتأميره وعزل عثمان وحده، [وأن] يقيده.
وفيها عزل سليمان يزيد بن أبي مسلم عن العراق واستعمل يزيد بن المهلب وجعل صالح بن عبد الرحمن على الخراج وأمره بقتل بني عقيل وبسط العذاب عليهم وهم أهل الحجاج فكان يعذبهم ويلي عذابهم عبد الملك بن المهلب وكان يزيد بن المهلب قد استعمل أخاه زيادا على حرب عثمان.
11

ذكر مقتل قتيبة
قيل: وفي هذه السنة قتل قتيبة بن مسلم الباهلي بخراسان.
وكان سبب قتله أن الوليد بن عبد الملك أراد أن ينزع أخاه سليمان من ولاية العهد ويجعل [بدله] ابنه عبد العزيز فأجابه إلى ذلك الحجاج وقتيبة على ما تقدم فلما مات الوليد وولي سليمان خافه قتيبة وخاف أن يولي سليمان يزيد بن المهلب خراسان فكتب قتيبة إلى سليمان كتابا يهنئه بالخلافة ويذكر بلاءه وطاعته لعبد الملك والوليد وانه له على مثل ذلك أن لم يعزله عن خراسان وكتب إليه كتابا آخر يعلمه فيه بفتوحه ونكايته وعظم قدره عند ملوك العجم وهيبته في صدورهم وعظم صولته فيهم ويذم أهل المهلب ويحلف بالله لئن استعمل يزيد على خراسان ليخلعنه وكتب كتابا ثالثا فيه خلعه وبعث الكتب مع رجل من باهلة فقال له ادفع الكتاب الأول إليه فإن كان يزيد حاضرا فقرأه ثم ألقاه إلى يزيد فادفع إليه هذا الثاني فإن قرأه ودفعه إلى يزيد فادفع إليه هذا الثالث فإن قرأ الكتاب الأول ولم يدفعه إلى يزيد فاحبس الكتابين الآخرين.
فقدم رسول قتيبة فدخل على سليمان وعنده يزيد بن المهلب فدفع إليه الكتاب فقرأه وألقاه إلى يزيد فدفع إليه الكتاب الآخر فقرأه وألقاه إلى يزيد فأعطاه الكتاب الثالث فقرأه فتغير لونه وختمه وأمسك بيده.
وقيل كان في الكتاب الثالث لئن لم تقرني على ما كنت عليه وتؤمنني
12

لأخلعنك ولأملأنها عليك رجالا وخيلا.
ثم أمر سليمان برسول قتيبة فأنزل ثم أحضره ليلا فأعطاه دنانير جائزته وأعطاه عهد قتيبة على خراسان وسير معه رسولا بذلك فلما كانا بحلوان بلغهما خلع قتيبة فرجع رسول سليمان.
وكان قتيبة لما هم بخلع سليمان استشار اخوته فقال له أخوه عبد الرحمن أقطع بعثا فوجه فيه كل من تخافه ووجه قوما إلى مرو وسر حتى تنزل سمرقند وقل لمن معك من أحب المقام فله المراسلة ومن أراد الانصراف فغير مستكره فلا يقيم عندك إلا مناصح ولا يختلف عليك أحد.
وقال له أخوه عبد الله: اخلعه مكانك فلا يختلف عليك رجلان فخلع سليمان مكانه ودعا الناس إلى خلعه وذكر أثره فيهم وسوء أثر من تقدمه فلم يجبه أحد فغضب وقال لا أعز الله من نصرتم ثم والله لو اجتمعتم على عنز ما كسرتم قرنها يا أهل السافلة ولا أقول يا أهل العالية أو باش صدقتي جمعتكم كما تجمع إبل الصدقة من كل أوب يا معشر بكر بن وائل يا أهل النفخ والكذب والبخل بأي يوميكم تفخرون بيوم حربكم أو بيوم سلمكم يا أصحاب مسيلمة يا بني ذميم ولا أقول تميم يا أهل الجور والقصف كنتم تسمون الغدر في الجاهلية كيسان يا أصحاب سجاح يا معشر عبد القيس الفساة تبدلتم بتأبير النخل أعنة الخيل يا معشر
13

الأزد تبدلتم بقلوس السفن أعنة الخيل! إن هذا بدعة في الإسلام الأعراب وما الأعراب لعنة الله عليهم! يا كناسة المصرين جمعتكم من منابت الشيخ والقيصوم ومنابت الفلفل تركبون البقر والحمر فلما جمعتكم قلتم كيت وكيت! أما والله إني لابن أبيه وأخو أخيه والله لأعصبنكم عضب السلمة! إن حول الصليان لزمزمة! يا أهل خراسان تغدرون من وليكم يزيد بن مروان كأني بأمير جاءكم فغلبكم على فيئكم وظلالكم ارموا غرضكم القصي حتى متى يتبطح أهل الشام بأفنيتكم يا أهل خراسان انسبوني تجدوني عراقي الأم والمولد والرأي والهوى والدين وقد أصبحتم فيما ترون من الأمن والعافية قد فتح الله لكم البلاد وأمن سبلكم فالظعينة تخرج من مرو إلى بلخ بغير جواز فاحمدوا الله على العافية واسألوه الشكر والمزيد.
ثم نزل فدخل بيته فأتاه أهله وقالوا: ما رأيناك كاليوم قط ولاموه فقال لما تكلمت فلم يجبني أحد غضبت فلم أدري ما قلت وغضب الناس وكرهوا خلع سليمان فأجمعوا على خلع قتيبة وخلافه وكان أول من تكلم من الأزد فأتوا حضين بن المنذر (بضاد معجمة). فقالوا:: إن هذا قد دعا إلى خلع الخليفة وفيه فساد الدين والدنيا وقد شتمنا فما ترى فقال إن مضر بخراسان كثيرة وتميم أكثرها وهم فرسان خراسان ولا يرضون أن يسير الأمر في غير مضر فإن أخرجتموهم منه أعانوا قتيبة فأجابوه إلى ذلك وقالوا: من ترى من تميم قال لا أرى غير وكيع فقال حيان النبطي مولى بني شيبان أن أحدا يتولى هذا غير وكيع ليصلى بحره ويبذل
14

دمه ويتعرض للقتل فإن قدم أمير أخذه بما جنى فإنه لا ينظر في عاقبة وله عشيرة تطيعه وهو موتور يطلب قتيبة برياسته إذ صرفها عنه وصيرها لضرار بن حصين الضبي.
فمشى الناس بعضهم إلى بعض سرا وقيل لقتيبة ليس يفسد أمر الناس إلا حيان فأراد أن يغتاله وكان حيان يلاطف خدم الولاة فدعا قتيبة رجلا فأمره بقتل حيان وسمع بعض الخدم فأتى حيان فأخبره فلما جاء رسوله يدعوه تمارض وأتى الناس وكيعا وسألوه أن يلي أمرهم ففعل.
وبخراسان يومئذ من أهل البصرة والعالية من المقاتلة تسعة آلاف ومن بكر سبعة آلاف ورئيسهم حضين بن المنذر ومن تميم عشرة آلاف وعليهم ضرار بن حصين ومن
عبد القيس أربعة آلاف وعليهم عبد الله بن علوان ومن الأزد عشرة آلاف وعليهم عبد الله بن حوذان ومن أهل الكوفة سبعة آلاف وعليهم جهم بن زحر والموالي سبعة آلاف عليهم حيان وهو من الديلم وقيل من خراسان وإنما قيل له نبطي للكنته.
فأرسل حيان إلى وكيع إن أنا كففت عنك وأعنتك أتجعل لي الجانب الشرقي من نهر بلخ خراجه ما دمت حيا وما دمت أميرا قال نعم فقال حيان للعجم هؤلاء يقاتلون على غير دين فدعوهم يقتلوا بعضهم بعضا ففعلوا فبايعوا وكيعا سرا.
وقيل لقتيبة إن الناس يبايعون وكيعا فدس ضرار بن سنان الضبي إلى وكيع فبايعه سرا فظهر لقتيبة أمره فأرسل يدعوه فوجده قد طلى رجليه
15

بمغرة وعلق على رأسه حرزا وعنده رجلان يرقيان رجله فقال للرسول قد ترى ما برجلي فرجع فأخبر قتيبة فأعاده إليه يقول له لتأتني محمولا قال لا أستطيع فقال قتيبة لصاحب شرطته انطلق إلى وكيع فأتني به فإن أبى فاضرب عنقه ووجه معه خيلا وقيل أرسل إليه شعبة بن ظهير التميمي فقال له وكيع يا ابن ظهير البث قليلا تلحق الكتائب ولبس سلاحه ونادى في الناس فأتوه وركب فرسه وخرج فتلقاه رجل فقال ممن أنت قال من بني أسد قال ما اسمك قال ضرغامة قال أين من قال ابن ليث فأعطاه رايته وقيل كانت مع عقبة بن شهاب المازني وأتاه الناس ارسالا من كل وجه فتقدم بهم وهو يقول:
(قرم إذا حمل مكروهة * شد الشراسيف لها والحزيم)
واجتمع إلى قتيبة أهل بيته وخواص أصحابه وثقاته منهم إياس بن بهيس بن عمرو وهو ابن عم قتيبة فأمر قتيبة رجلا فنادى أين بنو عامر فقال له محقر بن جزء العلائي وهو قيسي أيضا وكان قتيبة قد جفاهم نادهم حيث وضعتهم قال قتيبة ناد أذكركم الله والرحم قال محقر أنت قطعتها قال ناد لكم العقبى قال محقر لا أفاء لنا الله إذن فقال قتيبة عند ذلك:
(يا نفس صبرا على ما كان من ألم * إذ لم أجد لفضول العيش أقرانا)
16

ودعا ببرذون له مدرب ليركبه فجعل يمنعه حتى أعيا فلما رأى ذلك عاد إلى سريره فجلس عليه وقال دعوه إن هذا أمر يراد.
وجاء حيان النبطي في العجم وقتيبة واجد عليه فقال عبد الله أخو قتيبة لحيان احمل عليهم فقال حيان لم يأن بعد فقال عبد الله ناولني قوسي فقال حيان ليس هذا بيوم قوس وقال حيان لابنه إذا رأيتني قد حولت قلنسوتي ومضيت نحو عسكر وكيع فمل بمن معك من العجم إلي.
فلما حول حيان قلنسوته مالت الأعاجم إلى عسكر وكيع وكبروا فبعث قتيبة أخاه صالحا إلى الناس فرماه رجل من بني ضبة وقيل من بلعم فأصاب رأسه فحمل إلى قتيبة ورأسه مائل فوضع في مصلاه وجلس قتيبة عنده ساعة.
وتهايج الناس وأقبل عبد الرحمن أخوا قتيبة نحوهم فرماه أهل السوق والغوغاء فقتلوه وأحرق الناس موضعا كانت فيه إبل لقتيبة ودوابه ودنوا منه فقاتل عنه رجل من باهلة فقال له قتيبة انج بنفسك فقال بئس ما جزيتك إذا وقد أطعمتني الجردق وألبستني النرمق وجاء الناس حتى بلغوا فسطاطة فقطعوا أطنابه وجرح قتيبة جراحات كثيرة فقال جهم بن زحر بن قيس لسعد انزل فحز رأسه فنزل سعد فشق الفسطاط واحتز رأسه وقتل معه من أهله إخوته عبد الرحمن وعبد الله وصالح وحصين وعبد الكريم بنو مسلم وقتل كثير ابنه وقيل قتل عبد الكريم بقزوين.
وكان عدة من قتل مع قتيبة من أهل بيته أحد عشر رجلا ونجى عمر بن مسلم أخو قتيبة نجاه أخواله وكانت أمه الغبراء بنت ضرار بن القعقاع
17

ابن معبد بن زرارة القيسية. فلما قتل قتيبة صعد وكيع المنبر فقال: مثلي ومثل قتيبة كما قال الأول:
(ينك العير ينك نياكا)
أراد قتيبة قتلي وأنا قتال:
(قد جربوني ثم جربوني * من غلوتين ومن المئتين)
(حتى إذا شبت وشيبوني * خلوا عناني وتنكبوني)
أنا أبو مطرف! ثم قال:
(أنا ابن خندف تنميني قبائلها * بالصالحات وعمي قيس عيلانا)
ثم أخذ بلحيته فقال:
(شيخ إذا حمل مكروهة * شد الشراسيف لها والحزيم)
والله لأقتلن ثم لأقتلن! ولأصلبن ثم لأصلبن! إن مرزبانكم هذا ابن الزانية قد أعلى أسعاركم والله ليصيرن القفيز بأربعة دراهم أو لأصلبنه صلوا على نبيكم ثم نزل وطلب رأس قتيبة وخاتمه فقيل له: إن الأزد أخذته فخرج وكيع مشهرا وقال والله الذي لا اله إلا هو لا أبرح حتى أوتى بالرأس أو يذهب رأسي معه فقال له حضين اسكن يا أبا مطرف فإنك تؤتى به وذهب حضين إلى الأزد وهو سيدهم فأمرهم
18

بتسليم الرأس إلى وكيع فسلموه إليه فسيره إلى سليمان مع نفر ليس فيهم تميمي ووفى وكيع لحيان النبطي بما كان ضمن له.
فلما أوتي سليمان برأس قتيبة ورؤوس أهله كان عنده الهذيل بن زفر بن الحرث هل ساءك هذا يا هذيل فقال لو ساءني لساء قوما كثيرا فقال سليمان ما أردت هذا كله وإنما قال سليمان هذا للهذيل لأنه هو وقتيبة من قيس عيلان ثم أمر بالرؤوس فدفنت ولما قتل قتيبة قال رجل من أهل خراسان يا معشر العرب قتلتم قتيبة والله لو كان منا فمات
لجعلناه في تابوت فكنا نستسقي به ونستفتح به إذا غزونا وما صنع أحد بخراسان قط ما صنع قتيبة إلا أنه غدر وذلك أن الحجاج أن اختلهم واقتلهم الله.
وقال الأصبهبذ: قتلتم قتيبة ويزيد بن المهلب وهما سيدا العرب فقيل له: أيهما كان أعظم عندكم وأهيب فقال لو كان قتيبة بأقصى جحر في الغرب مكبلا ويزيد معنا في بلادنا وال علينا لكان قتيبة أهيب في صدورنا وأعظم من يزيد وقال الفرزدق في ذلك:
(أتاني ورحلي في المدينة وقعة * لآل تميم أقعدت كل قائم)
وقال عبد الرحمن بن جمانة الباهلي يرثي قتيبة:
(كأن أبا حفص قتيبة لم يسر * بجيش إلى جيش ولم يعل منبرا)
(ولم تخفق الرايات والجيش حوله * وقوف ولم يشهد له الناس عسكرا)
(دعته المنايا فاستجاب لربه * وراح إلى الجنات عفوا مطهرا)
19

(فما رزئ الإسلام بعد محمد * بمثل أبي حفص فبكيه عبهرا)
وعبهرة أم ولد له قيل وقال شيوخ من غسان كنا بثنية العقاب إذا نحن برجل معه عصا وجراب فقلنا من أين أقبلت قال من خراسان هل كان بها من خبر قال نعم قتل بها قتيبة بن مسلم أمس فعجبنا لقوله فلما رأى إنكارنا قال أين ترون الليلة من إفريقية وتركنا فمضى فاتبعناه على خيولنا فإذا هو يسبق الطرف.
ذكر عدة حوادث
قيل وفي هذه السنة مات قرة بن شريك العبسي أمير مصر في صفر وقيل مات سنة خمس وتسعين في الشهر الذي مات فيه الحجاج.
وحج بالناس هذه السنة أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وهو أمير المدينة وكان على مكة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد بفتح الهمزة وكسر السين وعلى حرب العراق وصلاتها يزيد بن المهلب وعلى خراجها صالح بن عبد الرحمن وعلى البصرة سفيان بن عبد الله الكندي من قبل يزيد بن المهلب وعلى قضائها عبد الرحمن بن أذينة وعلى قضاء الكوفة أبو بكر بن أبي موسى وعلى حرب خراسان وكيع بن أبي سود.
وفيها مات شريح القاضي وقيل سنة سبع وتسعين وله مائة وعشرون سنة وفيها مات عبد الرحمن بن أبي بكرة ومحمود بن لبيد الأنصاري وله صحبة وفي ولاية الوليد مات عبد الله من محيريز قيل له صحبة. وأبو
20

سعيد المقبري كان يسكن المقابر فنسب إليها وفيها توفي إبراهيم بن يزيد النخعي الفقيه وإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف وله خمس وسبعون سنة وفيها توفي عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان في أيام الوليد بن عبد الملك وفيها توفي محمد بن أسامة بن زيد بن حارثة وعباس بن سهل بن سعد الساعدي.
21

97
ثم دخلت سنة سبع وتسعين
ذكر مقتل عبد العزيز بن موسى بن نصير
وكان سبب قتله أن أباه استعمله على الأندلس، كما ذكرنا عند عوده إلى الشام فضبطها وسدد أمورها وحمى ثغورها وافتتح في إمارته مدائن بقيت بعد أبيه وكان خيرا فاضلا وتزوج امرأة رذريق فحظيت عنده وغلبت عليه فحملته على أن يأخذ أصحابه ورعيته بالسجود له إذا دخلوا عليه كما كان يفعل لزوجها رذريق فقال لها إن ذلك ليس في ديننا فلم تزل به حتى أمر ففتح باب قصير لمجلسه الذي كان يجلس فيه فكان أحدهم إذا دخل منه طأطأ رأسه فيصير كالراكع فرضيت به وصار كالسجود عندها فقالت له الآن لحقت بالملوك وبقي أن أعمل لك تاجا مما عندي من الذهب اللؤلؤ فأبى فلم تزل به حتى فعل فانكشف ذلك للمسلمين فقيل تنصر وفطنوا للباب فثاروا عليه فقتلوه في آخر سنة سبع وتسعين وقيل إن سليمان بن عبد الملك بعث إلى الجند في قتله عند سخطه على والده موسى بن نصير فدخلوا عليه وهو في المحراب فصلى الصبح وقد قرأ الفاتحة وسورة الواقعة فضربوه بالسيوف ضربة واحدة وأخذوا رأسه فسيروه إلى سليمان فعرضه سليمان على أبيه فتجلد للمصيبة وقال هنيئا له الشهادة وقد قتلتموه والله صواما قواما وكانوا يعدونها من زلات سليمان وكان قتله على هذه الرواية سنة ثمان وتسعين في آخرها.
22

ثم إن سليمان ولى الأندلس الحرث بن عبد الرحمن الثقفي فأقام واليا عليها إلى أن استخلف عمر بن عبد العزيز فعزله هذا آخر ما أردنا ذكره من قتل عبد العزيز على سبيل الاختصار.
وفيها عزل سليمان بن عبد الملك عبد الله بن موسى بن نصير عن إفريقية واستعمل عليها محمد بن يزيد القرشي فلم يزل عليها حتى مات سليمان فعزل فاستعمل عمر بن عبد العزيز مكانه إسماعيل بن عبيد الله سنة مائة وكان حسن السيرة، فأسلم البربر في أيامه جميعهم.
ذكر ولاية يزيد بن المهلب خراسان
كان السبب في ذلك أن سليمان بن عبد الملك لما ولى يزيد العراق فوض إليه حربها والصلاة بها وخراجها فنظر يزيد لنفسه وقال إن العراق قد أخربها الحجاج وأنا اليوم رجل أهل العراق ومتى قدمتها وأخذت الناس بالخراج وعذبتهم على ذلك صرت مثل الحجاج وأعدت عليهم السجون وما عافاهم الله منه ومتى لم آت سليمان بمثل ما كان الحجاج أتى به لم يقبل مني فأتى يزيد سليمان وقال: أدلك على رجل بصير بالخراج توليه إياه قال نعم قال صالح بن عبد الرحمن مولى [بني] تميم فولاه الخراج وسيره قبل يزيد فنزل واسطا وأقبل يزيد فخرج الناس يتلقونه ولم يخرج صالح حتى قرب يزيد فخرج صالح في الدارعة بين يديه أربعمائة من أهل الشام فلقي يزيد وسايره فنزل
يزيد وضيق عليه صالح فلم يمكنه من شيء واتخذ [يزيد] ألف خوان يطعم الناس عليها، فأخذها صالح، فقال يزيد:
23

اكتب ثمنها علي. واشترى يزيد متاعا وكتب صكا بثمنه إلى صالح فلم يقبله منه وقال ليزيد إن الخراج لا يقوم بما تريد ولا يرضى بهذا أمير المؤمنين وتؤخذ به فضاحكه يزيد وقال أجر هذا المال هذه المرة ولا أعود ففعل صالح.
وكان سليمان لم يجعل خراسان إلى يزيد فضجر يزيد من العراق لتضييق صالح عليه فدعا عبد الله بن الأهيم فقال له إني أريدك لأمر قد أهمني فأحب أن تكفينيه قال أفعل قال أنا فيما ترى من الضيق وقد ضجرت منه وخراسان شاغرة برجلها فهل من حيلة قال نعم قال سرحني إلى أمير المؤمنين قال فاكتم ما أخبرتك وكتب إلى سليمان يخبره بحال العراق وأثنى على ابن الأهيم وذكر علمه بها وسير ابن الأهيم على البريد.
فأتى سليمان واجتمع به فقال له سليمان إن يزيد كتب إلي يذكر علمك بالعراق وخراسان فكيف علمك بها قال أنا أعلم الناس بها بها ولدت وبها نشأت ولي بها وبأهلها خبر وعلم قال فأشر علي برجل أوليه خراسان قال أمير المؤمنين أعلم بمن يريد فإن ذكر منهم أحدا أخبرته برأيي فيه فسمى رجلا من قريش فقال ليس من رجال خراسان قال فعبد الملك بن المهلب قال لا يصلح فإنه يصبو عن هذا فليس له مكر أبيه ولا شجاعة أخيه حتى عدد رجالا وكان آخر من ذكر وكيع بن أبي سود فقال يا أمير المؤمنين وكيع رجل شجاع صارم رئيس مقدام وما أحد أوجب شكرا ولا أعظم عندي يدا من وكيع لقد أدرك بثأري وشفاني من عدوي ولكن أمير المؤمنين أعظم حقا والنصيحة له تلزمني أن وكيعا لم تجتمع له مائة عنان قط إلا حدث نفسه بغدره خامل في الجماعة ثابت
24

في الفتنة، قال: ما هو ممن نستعين به فمن لها ويحك قال رجل أعلمه لم يسمه أمير المؤمنين قال فمن هو قال لا أذكره حتى يضمن لي أمير المؤمنين ستر ذلك وأن يجيرني منه إن علم قال نعم قال يزيد بن المهلب قال العراق أحب إليه من خراسان قال ابن الأهيم قد علمت ولكن تكرهه فيستخلف على العراق ويسير قال أصبنا الرأي. فكتب عهد يزيد على خراسان وسيره مع ابن الأهيم فأتى يزيد به فأمر بالجهاز للمسير ساعته وقدم ابنه مخلدا إلى خراسان ومن يومه ثم سار يزيد بعده واستخلف على واسط الجراح بن عبد الله الحكمي واستعمل على البصرة عبد الله بن هلال الكلابي وجعل أخاه مروان بن المهلب على حوائجه وأموره بالبصرة وكان أوثق إخوته عنده واستخلف بالكوفة حرملة بن عمير اللخمي أشهرا ثم عزله وولى بشير بن حيان النهدي وكانت قيس تزعم أن قتيبة لم يخلع فلما سار يزيد إلى خراسان أمره سليمان أن يسأل عن قتيبة فإن أقامت قيس البينة أن قتيبة لم يخلع قيد وكيعا به ولما وصل مخلد بن يزيد مرو أخذه وكيع فحبسه وعذبه وأخذ أصحابه وعذبهم قبل قدوم أبيه وكانت ولاية وكيع خراسان تسعة أشهر أو عشرة أشهر ثم قدم يزيد في هذه السنة خراسان فآذى أهل الشام وقوما من أهل خراسان فقال نهار بن توسعة في ذلك:
(وما كنا نؤمل من أمير * كما كنا نؤمل من يزيد)
(فأخطأ ظننا فيه وقدما * زهدنا في معاشرة الزهيد)
(إذا لم يعطنا نصفا أمير * مشينا نحوه مشي الأسود)
(فمهلا يا يزيد أنب إلينا * ودعنا من معاشرة العبيد)
25

(نجيب ولا نرى إلا صدودا * على أنا نسلم من بعيد)
(ونرجع خائبين بلا نوال * فما بال التجهم والصدود)
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة جهز سليمان بن عبد الملك الجيوش إلى القسطنطينية واستعمل ابنه داود على الصائفة فافتتح حصن المرأة.
وفيها غزا مسلمة أرض الوضاحية ففتح الحصن الذي فتحه الوضاح صاحب الوضاحية وفيها غزا عمر بن هبيرة أرض الروم في البحر فشتى فيها وفيها حج سليمان بن عبد الملك بالناس وفيها عزل داود بن طلحة الحضرمي عن مكة وكان عمله عليها ستة أشهر وولى عبد العزيز بن عبد الله بن خالد وكان عمال الأمصار من تقدم ذكرهم.
وفيها مات عطاء بن يسار، وقيل سنة ثلاث ومائة. وفيها مات موسى بن نصير الذي فتح الأندلس وكان موته بطريق مكة مع سليمان بن عبد الملك وفيها توفي قيس بن أبي حازم البجلي وقد جاوز مائة سنة وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليسلم فرآه قد توفي وروى عن العشرة وقيل لم يرو عبد الرحمن بن عوف وذهب عقله في آخر عمره.
(حازم بالحاء المهملة والزاي المعجمة).
وفيها توفي سالم بن أبي الجعد مولى أشجع واسم أبي الجعد رافع.
26

98
ثم دخلت سنة ثمان وتسعين
ذكر محاصرة القسطنطينية
في هذه السنة سار سليمان بن عبد الملك إلى دابق وجهز جيشا مع أخيه مسلمة بن عبد الملك ليسير إلى القسطنطينية ومات ملك الروم فأتاه اليون من آذربيجان فأخبره فضمن له فتح الروم فوجه مسلمة معه فسارا إلى القسطنطينية فلما دنا منها أمر كل فارس أن يحمل معه مدين من طعام على عجز فرسه إلى القسطنطينية ففعلوا فلما أتاها أمر بالطعام فألقي أمثال الجبال وقال للمسلمين لا تأكلوا منه شيئا وأغيروا في أرضهم وازرعوا وعمل بيوتا من خشب فشتى فيها وصاف وزرع الناس وبقي الطعام في
الصحراء والناس يأكلون ما أصابوا من الغارات ومن الزرع وأقام مسلمة قاهرا للروم معه أعيان الناس خالد بن معدان ومجاهد بن جبر وعبد الله بن أبي زكرياء الخزاعي وغيرهم.
فأرسل الروم إلى مسلمة يعطونه عن كل رأس دينارا فلم يقبل. فقالت الروم لأليون: ان صرفت عنا المسلمين ملكناك. فاستوثق منهم، فأتى مسلمة فقال له أن الروم قد علموا أنك لا تصدقهم القتال وأنك
27

تطاولهم ما دام الطعام عندك فلو أحرقته أعطوا الطاعة بأيديهم فأمر به فأحرق فقوي الروم وأصابوا المسلمين حتى كادوا يهلكون وبقوا على ذلك حتى مات سليمان. وقيل: إنما خدع اليون مسلمة بأن سأله أن يدخل من الطعام إلى الروم بمقدار ما يعيشون به ليلة واحدة ليصدقوا أن امره وأمر مسلمة واحد وأنهم في أمان من السبي والخروج من بلادهم فأذن له وكان اليون قد أعد السفن والرجال فنقلوا تلك الليلة الطعام فلم يتركوا في تلك الحظائر إلا ما لا يذكر وأصبح أليون محاربا وقد خدع مسلمة خديعة لو كانت لامرأة لعيبت بها ولقي الجند ما لم يلقه جيش آخر حتى أن كان الرجل ليخاف أن يخرج من العسكر وحده وأكلوا الدواب والجلود وأصول الشجر والورق وكل شيء غير التراب وسليمان مقيم بدابق ودخل الشتاء فلم يقدر أن يمدهم حتى مات.
* * *
وفي هذه السنة بايع سليمان لابنه أيوب بولاية العهد فمات أيوب قبل أبيه. وفي هذه السنة فتحت مدينة الصقالبة وكان برجان قد أغار على مسلمة بن عبد الملك وهو في قلة من الناس فكتب إلى سليمان يستمده فأمده فمكرت بهم الصقالبة ثم انهزموا وفيها غزا الوليد بن هشام وعمرو بن قيس فأصيب ناس من أهل أنطاكية وأصاب الوليد ناسا من ضواحي الروم وأسر منهم بشرا كثيرا.
28

ذكر فتح جرجان وطبرستان
في هذه السنة غزا يزيد بن المهلب جرجان وطبرستان لما قدم خراسان.
وسبب غزوهما واهتمامه بهما أنه لما كان عند سليمان بن عبد الملك بالشام فكان سليمان كلما فتح قتيبة فتحا يقول ليزيد ألا ترى إلى ما يفتح الله على قتيبة فيقول يزيد ما فعلت جرجان التي قطعت الطريق وأفسدت قومس ونيسابور ويقول هذه الفتوح ليست بشيء الشأن هي جرجان.
فلما ولاه سليمان خراسان لم يكن له همة غير جرجان فسار إليها في مائة ألف من أهل الشام والعراق وخراسان سوى الموالي والمتطوعة ولم تكن جرجان يومئذ مدينة إنما هي جبال ومخارم وأبواب يقوم الرجل على باب منها فلا يقدم عليه أحد فابتدأ بقهستان فحاصرها وكان أهلها طائفة من الترك وأقام عليها وكان أهلها يخرجون ويقاتلون فيهزمهم المسلمون في كل ذلك فإذا هزموا دخلوا الحصن فخرجوا ذات يوم وخرج إليهم الناس فاقتتلوا قتالا شديدا فحمل محمد بن أبي سبرة على تركي قد صد الناس عنه فاختلفا ضربتين فثبت سيف التركي في بيضة ابن أبي سبرة وضربه ابن أبي سبرة فقتله ورجع وسيفه يقطر دما وسيف التركي في بيضته فنظر الناس إلى أحسن منظر رأوه.
وخرج يزيد بعد ذلك يوما ينظر مكانا يدخل منه عليهم وكان في أربعمائة من وجوه الناس وفرسانهم فلم يشعروا حتى هجم عليهم الترك في نحو أربعة آلاف فقاتلوهم ساعة وقاتل يزيد قتالا شديدا، فسلموا وانصرفوا،
29

وكانوا قد عطشوا فانتهوا إلى الماء فشربوا ورجع عنهم العدو.
ثم إن يزيد ألح عليهم في القتال وقطع عنهم المواد حتى ضعفوا وعجزوا فأرسل صول دهقان قهستان إلى يزيد يطلب منه أن يصالحه ويؤمنه على نفسه وأهله وماله ليدفع إليه المدينة بما فيها فصالحه ووفى له ودخل المدينة فأخذ مما كان فيها من الأموال والكنوز والسبي ما لا يحصى وقتل أربعة عشر ألف تركي صبرا وكتب إلى سليمان بن عبد الملك بذلك.
ثم خرج حتى أتى جرجان وكان أهل جرجان قد صالحهم سعيد بن العاص وكانوا يجبون أحيانا مائة ألف وأحيانا مائتي ألف وأحيانا ثلاثمائة ألف وربما أعطوا ذلك وربما منعوه ثم امتنعوا وكفروا فلم يعطوا خراجا ولم يأت جرجان بعد سعيد أحد ومنعوا ذلك الطريق فلم يكن يسلك طريق خراسان أحد إلا على فارس وكرمان وأول من صير الطريق من قومس قتيبة بن مسلم حين ولي خراسان وبقي أمر جرجان كذلك حتى ولي يزيد وأتاهم فاستقبلوه بالصلح وزادوه وهابوه فأجابهم إلى ذلك وصالحهم.
فلما فتح قهستان وجرجان طمع في طبرستان أن يفتحها فعزم على أن يسير إليها فاستعمل عبد الله بن معمر اليشكري على الساسان وقهستان وخلف معه أربعة آلاف ثم أقبل إلى أداني جرجان مما يلي طبرستان فاستعمل على إيزوسا راشد بن عمرو وجعله في أربعة آلاف ودخل بلاد طبرستان فأرسل إليه الأصبهبذ صاحبها يسأله الصلح وأن يخرج من طبرستان فأبى يزيد ورجا أن يفتتحها ووجه أخاه أبو عيينة من وجه وابنه خالد بن يزيد من وجه وأبا الجهم الكلبي من وجه وقال إذا اجتمعتم فأبو عيينة على الناس فسار أبو عيينة وأقام يزيد معسكرا.
30

واستجاش الأصبهبذ أهل جيلان والديلم فأتوه فالتقوا في سفح جبل فانهزم المشركون في الجبل فاتبعهم المسلمون حتى انتهوا إلى فم الشعب فدخله المسلمون وصعد المشركون في الجبل وأتبعهم المسلمون يرمون الصعود فرماهم العدو بالنشاب والحجارة فانهزم أبو عيينة والمسلمون يركب بعضهم بعضا يتساقطون في الجبل حتى انتهوا إلى عسكر يزيد وكف عدوهم عن اتباعهم وخافهم الأصبهبذ فكانت أهل جرجان ومقدمهم المرزبان يسألهم أن يبيتوا من عندهم من المسلمون وأن يقطعوا عن يزيد المادة والطريق فيما بينه وبين بلاد الإسلام ويعدهم أن يكافئهم على ذلك فثاروا بالمسلمين فقتلوهم أجمعين وهم غارون في ليلة وقتل عبد الله بن معمر وجميع من معه فلم ينج منهم
أحد، وكتبوا إلى الأصبهبذ بأخذ المضايق والطرق.
وبلغ ذلك يزيد وأصحابه فعظم عليهم وهالهم، وفزع يزيد إلى حيان النبطي وقال له لا يمنعك ما كان مني إليك عن نصيحة المسلمين وقد جاءنا عن جرجان ما جاءنا فاعمل في الصلح فقال نعم فأتى حيان الأصبهبذ فقال أنا رجل منكم وإن كان الدين فرق بيني وبينكم فأنا لكم ناصح فأنت أحب إلي من يزيد وقد بعث يستمد وأمداده منه قريبة وإنما أصابوا منه طرفا ولست آمن أن يأتيك من لا تقوم له فارح نفسك وصالحه فإن صالحته صير حده على أهل جرجان بغدرهم وقتلهم أصحابه فصالحه على سبعمائة ألف وقيل خمس مائة ألف وأربعمائة وقر زعفران أو قيمته من العين وأربعمائة رجل على كل رجل منهم ترس وطيلسان ومع كل رجل جام من فضة وخرقة حرير وكسوة ثم رجع حيان إلى يزيد فقال ابعث من يحمل صلحهم فقال من عندهم أو من عندنا قال من عندهم وكان يزيد قد طابت نفسه أن يعطيهم ما سألوه أو يرجع إلى جرجان، فأرسل
31

يزيد من يقبض ما صالحهم عليه حيان وانصرف إلى جرجان وكان يزيد قد أغرم حيان مائتي ألف درهم وسبب ذلك أن حيان كتب إلى مخلد بن يزيد فبدأ بنفسه فقال له ابنه مقاتل بن حيان تكتب إلى مخلد وتبدأ بنفسك قال نعم لم يرض لقي ما لقي قتيبة فبعث مخلد الكتاب إلى أبيه يزيد فأغرمه مائتي ألف درهم.
وقيل: إن سبب مسير يزيد إلى جرجان أن صولا التركي كان ينزل قهستان والبحيرة وهي جزيرة في البحر بينها وبين قهستان خمسة فراسخ وهما من جرجان مما يلي خوارزم وكان يغير على فيروز [بن] قول مرزبان جرجان فيصيب من بلاده فخافه فيروز فسار إلى يزيد بخراسان وقم عليه فسأله عن سبب قدومه فقال خفت صولا فهربت منه وأخذ صول جرجان فقال يزيد لفيروز هل من حيلة لقتاله قال نعم شيء واحد إن ظفرت به قتلته وأعطى بيده قال ما هو قال تكتب إلى الصبهبذ كتابا تسأله فيه أن يحتال لصول حتى يقيم بجرجان واجعل له على ذلك جعلا فإنه يبعث كتابك إلى صول يتقرب [به] إليه فيتحول عن جرجان فينزل البحيرة وأن تحول عن جرجان وحاصرته ظفرت به ففعل يزيد وضمن للأصبهبذ خمسين ألف دينار إذا هو حبس صولا عن البحيرة ليحاصره بجرجان فأرسل الأصبهبذ الكتاب إلى صول فلما أتاه الكتاب رحل إلى البحيرة ليتحصن بها وبلغ يزيد مسيره فخرج إلى جرجان ومعه فيروز واستعمل على خراسان ابنه مخلدا وعلى سمرقند وكش ونسف وبخارى ابنه معاوية وعلى طخارستان حاتم بن قبيصة بن المهلب وأقبل حتى أتى جرجان فدخلها ولم يمنعه منها أحد وسار منها إلى البحيرة فحصر صولا بها فكان يخرج إليه صول فيقاتله ثم
32

يرجع، فمكثوا بذلك ستة أشهر فأصابهم مرض وموت فأرسل صول يطلب الصلح على نفسه وماله وثلاثمائة من أهله وخاصته ويسلم إليه البحيرة فأجابه يزيد فخرج بماله وثلاثمائة ممن أحب.
وقتل يزيد من الأتراك أربعة عشر ألف صبرا وأطلق الباقين وطلب الجند أرزاقهم فقال لإدريس بن حنظلة العمي احص لنا ما في البحيرة حتى نعطي الجند فدخلها إدريس فلم يقدر على إحصاء ما فيها فقال ليزيد لا أستطيع ذلك وهو في ظروف فتحصى الجواليق ويعلم ما فيها ويعطى الجند فمن أخذ شيئا عرفنا ما أخذ من الحنطة والشعير والأرز والسمسم والعسل ففعلوا ذلك وأخذوا شيئا كثيرا وكان شهر بن حوشب على خزائن يزيد بن المهلب فرفعوا له أنه أخذ خريطة فسأله يزيد عنها فأتاه بها فأعطاه شهرا فقال بعضهم:
(لقد باع شهر دينه بخريطة * فمن يأمن القراء بعدك يا شهر)
وقال مرة الحنفي:
(يا ابن المهلب ما أردت إلى امرئ * لولاك لكان كصالح القراء)
وأصاب يزيد بجرجان تاجا فيه جوهر فقال أترون أحدا يزهد في هذا قالوا: لا فدعا محمد بن واسع الأزدي فقال خذ هذا التاج فقال لا حاجة لي فيه قال عزمت عليك فأخذه فأمر يزيد رجلا أن يرى ما يصنع به فلقي سائلا فدفعه إليه فأخذ الرجل السائل وأتى به يزيد فأخبره فأخذ يزيد التاج وعوض السائل مالا كثيرا.
33

ذكر فتح جرجان الفتح الثاني
قد ذكرنا فتح جرجان وقهستان وغدر أهل جرجان فلما صالح يزيد أصبهبذ طبرستان إلى جرجان عاهد الله تعالى لئن ظفر بهم لا يرفع السيف حتى يطحن بدمائهم ويأكل من ذلك الطحين فأتاه وحصر أهلها بحصن فجاه ومن يكون بها لا يحتاج إلى عدة من طعام وشراب فحصرهم يزيد فيها سبعة أشهر وهم يخرجون إليه في الأيام فيقاتلونه ويرجعون.
فبينما هم على ذلك إذ خرج رجل من عجم خراسان يتصيد وقيل رجل من طيئ فأبصر وعلا في الجبل فتبعه ولم يشعر حتى هجم على عسكرهم فرجع كأنه يريد أصحابه وجعل يخرق قبائه ويعقد على الشجر علامات فأتى يزيد فأخبره فضمن له يزيد دية إن دلهم على الحصن فانتخب معه ثلاثمائة رجل واستعمل عليهم ابنه خالد بن يزيد وقال له إن غلبت على الحياة فلا تغلبن عن الموت وإياك أن أراك عندي مهزوما وضم إليه جهم بن زحر وقال للرجل متى تصلون قال غدا العصر قال يزيد سأجهد على مناهضتهم عند الظهر.
فساروا فلما كان الغد وقت الظهر أحرق يزيد كل حطب كان عندهم فصار مثل الجبال من النيران فنظر العدو إلى النيران فهالهم ذلك فخرجوا إليهم وتقدم يزيد إليهم فاقتتلوا وهجم أصحاب يزيد الذين ساروا على عسكر الترك قبل العصر وهم آمنون من ذلك الوجه ويزيد يقاتلهم من هذا الوجه،
34

فما شعروا إلا بالتكبير من ورائهم فانقطعوا جميعا إلى حصنهم وركبهم المسلمون فأعطوا بأيديهم ونزلوا على حكم يزيد فسبى ذراريهم وقتل مقاتلتهم وصلبهم فرسخين إلى يمين الطريق ويساره وقاد منهم اثني عشر ألفا إلى وادي جرجان وقال من طلبهم بثار فليقتل فكان الرجل من المسلمين يقتل والأربعة والخمسة وأجرى الماء على الدم
وعليه أرحاء ليطحن بدمائهم ليبر يمينه فطحن وخبز وأكل، وقيل: قتل منهم أربعين ألفا.
وبنى مدينة جرجان ولم تكن بنيت قبل ذلك مدينة ورجع إلى خراسان واستعمل على جرجان جهم بن زحر الجعفي، وقيل: بل قال يزيد لأصحابه لما ساروا إذا وصلتم إلى الحصن انتظروا فإذا كان السحر كبروا واقصدوا الباب فستجدونني قد نهضت بالناس إليه فلما دخل ابن زحر امهل حتى كانت الساعة التي أمره يزيد أن ينهض فيها فكبر ففزع أهل الحصن وكان أصحاب لا يلقون أحدا إلا قتلوه ودهش الترك فبقوا لا يدرون أين يتوجهون وسمع يزيد التكبير فسار في الناس إلى الباب فلم يجد عند ه أحد يمنع وهم مشغولون بالمسلمين فدخل الحصن من ساعته واخرج من فيه وصلبهم فرسخين عن يمين الطريق ويساره فصلهم أربعة فراسخ وسبى أهلها وغنم ما فيها، وكتب إلى سليمان بالفتح يعظمه ويخبره أنه قد حصل عنده من الخمس ستمائة ألف ألف فقال له كاتبه المغيرة بن أبي قرة مولى بني سدوس لا تكتب تسمية المال فإنك من ذلك بين أمرين إما استكثره فأمرك بحمله وإما سمحت نفسه لك به فأعطاكه فتكلف الهدية فلا يأتيه من قبلك شيء إلا أستقله فكأني بك قد استغرقت ما سميت
35

ولم يقع منه موقعا ويبقى المال الذي سميت مخلدا في دواوينهم فإن ولي وال بعده أخذك به وإن ولي من يتحامل عليك لم يرض بأضعافه ولكن اكتب فسله القدوم وشافهه بما أحببت فهو أسلم فلم يقبل منه وأمضى الكتاب وقيل كان المبلغ أربعة آلاف ألف.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة توفي أيوب بن سليمان بن عبد الملك وهو ولي عهد وفيها فتحت مدينة الصقالبة وقيل غير ذلك وقد تقدم وفيها غزا داود بن سليمان أرض الروم ففتح حصن المرأة مما يلي ملطية. وفيها كانت الزلازل في الدنيا كثيرة ودامت ستة أشهر وفيها مات عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وأبو عبيد مولى عبد الرحمن بن عوف ويعرف بمولى ابن أزهر وعبد الرحمن بن زيد بن حارثة الأنصاري وسعيد بن مرجانة مولى قريش وهي أمة واسم أبيه عبد الله.
وحج بالناس عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد وهو أمير على مكة وكان العمال من تقدم ذكرهم إلا البصرة فإن يزيد استعمل سفيان بن عبد الله الكندي.
36

99
ثم دخلت سنة تسع وتسعين
ذكر موت سليمان بن عبد الملك
في هذه السنة توفي سليمان بن عبد الملك بن مروان بيوم الجمعة لعشر ليال بقين من صفر فكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر وخمسة أيام وقيل توفي فيها لعشر مضين من صفر فتكون ولايته سنتين وثمانية أشهر إلا خمسة أيام وصلى عليه عمر بن عبد العزيز وكان الناس يقولون سليمان مفتاح الخير ذهب عنهم الحجاج وولي سليمان فأطلق الأسرى وأخلى السجون وأحسن إلى الناس واستخلف عمر بن عبد العزيز وكان موته بدابق من أرض قنسرين لبس يوما حلة خضراء وعمامة خضراء ونظر في المرآة فقال أنا الملك الفتى فما عاش جمعة ونظرت إليه جارية. فقال: ما تنظرين؟ فقالت:
(أنت نعم المتاع لو كنت تبقى * غير أن لا بقاء للانسان)
(ليس فيما علمته فيك عيب * كان في الناس غير أنك فإن)
قيل وشهد سليمان جنازة بدابق فدفنت في حقل فجعل سليمان يأخذ من تلك التربة ويقول ما أحسن هذه [التربة] وأطيبها! فما أتى عليه جمعة حتى دفن إلى جنب [ذلك] القبر.
37

قيل: حج سليمان وحج الشعراء فلما كان بالمدينة قافلا تلقوه بنحو أربعمائة أسير من الروم فقعد سليمان وأقربهم منه مجلسا عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب فقدم بطريقهم فقال يا عبد الله اضرب عنقه فأخذ سيفا من حرسي فضربه فأبان الرأس وأطن الساعد وبعض الغل ودفع البقية إلى الوجوه يقتلونهم ودفع إلى جرير رجلا منهم فأعطاه بنو عبس سيفا جيد أصحابه فضربه فأبان رأسه ودفع إلى الفرزدق أسيرا فأعطوه سيفا رديئا لا يقطع فضرب به الأسير ضربات فلم يصنع شيئا فضحك سليمان والقوم وشمتت به بنو عبس أخوال سليمان فألقى السيف وأنشأ يقول:
(وإن يك سيف خان أو قدر أتى * بتأخير نفس حتفها غير شاهد)
(فسيف بني عبس وقد ضربوا به * نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد)
(كذاك سيوف الهند تنبو ظباتها * وتقطع أحيانا مناط القلائد)
ورقاء هو ورقاء بن زهير بن جذيمة العبسي ضرب خالد بن جعفر بن كلاب وخالد قد أكب على زهير وضربه بالسيف فصرعه فأقبل ورقاء فضرب خالدا ضربات فلم يصنع شيئا فقال ورقاء بن زهير:
(رأيت زهيرا تحت كلكل خالد * فأقبلت أسعى كالعجول أبادر)
(فشلت يميني يوم أضرب خالدا * ويمنعه مني الحديد المظاهر)
ذكر خلافة عمر بن عبد العزيز
في هذه السنة استخلف عمر بن عبد العزيز وسبب ذلك أن سليمان بن عبد الملك كان بدابق ومرض على ما
38

وصفنا، فلما ثقل عهد في كتاب كتبه لبعض بينه وهو غلام لم يبلغ فقال له رجاء بن حيوة ما تصنع يا أمير المؤمنين ان مما يحفظ الخليفة في قبره أن يستخلف على الناس
الرجل الصالح فقال سليمان أنا أستخير الله وأنظر [فيه]. ولم أعزم [عليه]؛ فمكث سليمان يوما أو يومين ثم خرقه ودعا رجاء فقال ما ترى في ولدي داود فقال رجاء هو غائب عن القسطنطينية ولا تدري أحي [هو] أم لا. قال: فمن ترى؟ قال يا أمير المؤمنين رأيك يا أمير المؤمنين قال فكيف ترى في عمر بن عبد العزيز فقال رجاء فقلت أعلمه والله خيرا فاضلا سليما قال سليمان هو والله على ذلك ولئن وليته ولم أول أحدا سواه لتكونن فتنة ولا يتركونه أبدا يلي عليهم إلا أن يجعل أحدهم بعده، وكان عبد الملك قد عهد إلى الوليد وسليمان أن يجعلا أخاهما يزيد ولي عهد فأمر سليمان أن يجعل يزيد بن عبد الملك بعد عمر وكان يزيد غائبا في الموسم. قال رجاء: قلت رأيك. فكتب:
بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من عبد الله سليمان أمير المؤمنين لعمر بن عبد العزيز إني قد وليتك الخلافة بعدي ومن بعدك يزيد بن عبد الملك فاسمعوا له وأطيعوا واتقوا الله ولا تختلفوا فيطمع فيكم وختم الكتاب ثم أرسل إلى كعب بن جابر العبسي صاحب شرطته فقال ادع أهل بيتي فجمعهم كعب ثم قال سليمان لرجاء بعد اجتماعهم اذهب بكتابي إليهم وأخبرهم بكتابي ومرهم فيبايعوا من وليت فيه.
ففعل رجاء فقالوا: ندخل ونسلم على أمير المؤمنين قال نعم فدخلوا فقال لهم سليمان في هذا الكتاب الذي في يد رجاء بن حيوة عهدي فاسمعوا وأطيعوا لمن سميت فيه فبايعوه رجلا رجلا وتفرقوا.
39

قال رجاء: فأتاني عمر بن عبد العزيز فقال أخشى أن يكون هذا أسند إلي شيئا من هذا الأمر فأنشدك الله وحرمتي ومودتي إلا أعلمتني إن كان ذلك حتى أستعفيه الآن قبل أن تأتي حال لا أقدر فيها على ذلك قال رجاء ما أنا بمخبرك [حرفا]. قال: فذهب عني عمر غضبان.
قال رجاء ولقيني هشام بن عبد الملك فقال إن لي بك حرمة ومودة قديمة وعندي شكر فأعلمني بهذا الأمر فإن كان إلى غيري تكلمت ولله علي أن لا أذكر شيئا من ذلك أبدا فأبيت أن أخبره حرفا فانصرف هشام وهو يضرب بإحدى يديه على الأخرى ويقول فإلى من إذا نحيت عني أتخرج من بني عبد الملك؟
قال رجاء: ودخلت على سليمان فإذا هو يموت، فجعلت إذا أخذته سكرة من سكرات الموت حرفته إلى القبلة فيقول حين يفيق: لم يأن بعد. ففعلت ذلك مرتين أو ثلاثا فلما كانت الثالثة قال من الآن يا رجاء إن كنت تريد شيئا اشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله فحرفته فمات فلما غمضته وسجيته وأغلقت الباب أرسلت إلى زوجته فقالت كيف أصبح فقلت هو نائم قد تغطي ونظر إليه الرسول متغطيا فرجع فأخبرها فظنت أنه نائم قال فأجلست على الباب من أثق به وأوصيته أن لا يبرح ولا يترك أحدا يدخل على الخليفة قال فخرجت فأرسلت إلى عقب بن جابر فجمع أهل بيت سليمان فاجتمعوا في مسجد دابق فقلت بايعوا فقالوا: قد بايعنا مرة قلت وأخرى هذا عهد أمير المؤمنين فبايعوا الثانية فلما بايعوا بعد موته رأيت إني قد أحكمت الأمر فقلت قوموا إلى
40

صاحبكم فقد مات قالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون وقرأت الكتاب عليهم فلما انتهيت إلى ذكر عمر بن عبد العزيز قال هشام لا نبايعه والله أبدا قلت أضرب والله عنقك قم فبايع فقام يجر رجليه قال رجاء فأخذت بضبعي عمر بن عبد العزيز فأجلسته على المنبر وهو يسترجع لما وقع فيه وهشام يسترجع لما أخطأه. فبايعوه.
وغسل سليمان وكفن وصلى عليه عمر بن عبد العزيز ودفن فلما دفن أتي عمر بمراكب الخلافة ولكل دابة سائس فقال ما هذا فقيل مراكب الخلافة قال دابتي أوفق لي وركب دابته وصرفت تلك الدواب ثم أقبل سائرا فقيل له: أمنزل الخلافة فقال فيه عيال أبي أيوب يعني سليمان وفي فسطاطي كفاية حتى يتحولوا فأقام في منزله حتى فرغوه.
قال رجاء: فأعجبني ما صنع في الدواب ومنزل سليمان ثم دعا كاتبا فأملى عليه كتابا واحدا وأمره أن ينسخه ويسيره إلى كل بلد.
وبلغ عبد العزيز بن الوليد، وكان غائبا، موت سليمان، ولم يعلم ببيعة عمر فعقد لواء ودعا إلى نفسه فبلغه بيعة عمر بعهد سليمان فأقبل حتى دخل عليه فقال له عمر بلغني أنك بايعت من قبلك وأردت دخول دمشق فقال قد كان ذاك وذلك أنه بلغني أن سليمان لم يكن عهد لأحد فخفت على الأموال أن تنهب فقال عمر لو بايعت وقمت بالأمر لم أنازعك فيه ولقعدت في بيتي فقال عبد العزيز ما أحب أنه ولي هذا الأمر غيرك وبايعه وكان يرجى لسليمان بتوليته عمر بن عبد العزيز وترك ولده.
فلما استقرت البيعة لعمر بن عبد العزيز قال لامرأته فاطمة بنت عبد الملك إن أردت صحبتي فردي ما معك من مال وجلي وجوهر إلى بيت المسلمين فإنه لهم وإني لا أجتمع أنا وأنت وهو في بيت واحد فردته جميعه.
41

فلما توفي عمر وولي أخوها يزيد رده عليها وقال أنا أعلم أن عمر قد ظلمك قالت كلا والله وامتنعت من أخذه وقالت ما كنت أطيعه حيا وأعصيه ميتا فأخذه يزيد وفرقه على أهله.
ذكر ترك سب أمير المؤمنين علي عليه السلام
كان بنو أمية يسبون أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام إلى أن ولي عمر بن عبد العزيز فترك ذلك وكتب إلى العمال في الآفاق بتركه.
وكان سبب محبته عليا أنه قال كنت بالمدينة أتعلم العلم وكنت ألزم عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود فبلغه عني شيء من ذلك فأتيته يوما وهو يصلي فأطال الصلاة فقعدت أنتظر فراغه فلما فرغ من صلاته التفت إلي فقال لي متى علمت أن الله غضب على أهل بدر وبيعة الرضوان بعد أن رضي عنهم؟ قلت لم أسمع ذلك. قال: فما الذي بلغني عنك في علي فقلت معذرة إلى الله وإليك وتركت ما كنت عليه، وكان أبي إذا خطب فنال من علي رضي الله عنه تلجلج فقلت يا أبت إنك تمضي في خطبتك فإذا أتيت على ذكر علي عرفت منك تقصيرا؟ قال: أو فطنت لذلك؟ قلت: نعم. فقال يا بني إن الذين حولنا لو يعلمون من علي ما نعلم تفرقوا عنا إلى أولاده.
فلما ولي الخلافة لم يكن عنده من الرغبة في الدنيا يا يرتكب هذا الأمر العظيم لأجله فترك ذلك وكتب بتركه وقرأ عوضه: (^ إن الله يأمر
42

بالعدل والاحسان وايتاء ذي القربى) الآية؛ فحل هذا الفعل عند الناس محلا حسنا وأكثروا مدحه بسببه؛ فمن ذلك قول كثير عزة:
(وليت فلم تشتم عليا ولم تخف * بريا ولم تتبع مقالة مجرم)
(تكلمت بالحق المبين وإنما * تبين آيات الهدى بالتكلم)
(وصدقت معروف الذي قلت بالذي * فعلت فأضحى راضيا كل مسلم)
(ألا إنما يكفي الفتى بعد زيغه * من الأود البادي ثقاف المقوم)
فقال عمر حين أنشده هذا الشعر: أفلحنا إذا.
ذكر عدة حوادث
وفي هذه السنة وجه عمر بن عبد العزيز إلى مسلمة وهو بأرض الروم يأمره بالقفول منها بمن معه من المسلمين ووجه له خيلا عتاقا وطعاما كثيرا وحث الناس على معونتهم وفيها أغارت الترك على أذربيجان فقتلوا من المسلمين جماعة فوجه عمر حاتم بن النعمان الباهلي فقتل أولئك الترك ولم يفلت منهم إلا اليسير وقدم على عمر منهم بخمسين أسيرا وفيها عزل يزيد بن المهلب عن العراق ووجه إلى البصرة عدي بن أرطأة الفزاري وعلى الكوفة عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب العدوي القرشي وضم إليه أبا الزناد وكان كاتبه وبعث عدي في أثر يزيد بن المهلب موسى بن الوجيه الحميري.
وحج بالناس هذه السنة أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وكان عامل [عمر على] المدينة. وكان العامل على مكة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد. وعلى
43

الكوفة عبد الحميد وعلى القضاء بها عامر الشعبي وكان على البصرة عدي بن أرطأة وعلى القضاء الحسن بن أبي الحسن البصري ثم استعفى عديا فأعفاه واستقضى اياس بن معاوية وقيل بل شكا الحسن فعزله عدي واستقضى إياسا.
واستعمل عمر بن عبد العزيز على خراسان الجراح بن عبد الله الحكمي.
وفي هذه السنة مات نافع بن جبير بن مطعم بن عدي بالمدينة ومحمود بن الربيع ولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو ظبيان بن حصين بن جندب الجنبي والد قابوس؛ (ظبيان بالظاء المعجمة). وفيها توفي أبو هاشم عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب من سم سقيه عند عوده من الشام وضع عليه سليمان بن عبد الملك من سقاه فلما أحس بذلك عاد إلى محمد بن علي بن عبد الله بن عباس وهو بالحميمة فعرفه حاله وأعلمه أن الخلافة صائرة إلى ولده وأعلمه كيف يصنع ثم مات عنده وفي أيام سليمان توفي عبيد الله بن سريج المغني المشهور وعبد الرحمن بن كعب من مالك بن أبو الخطاب.
44

100
ثم دخلت سنة مائة
ذكر خروج شوذب الخارجي
وفي هذه السنة خرج شوذب واسمه بسطام من بني يشكر في جوخى وكان في ثمانين رجلا فكتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد عامله بالكوفة أن لا يحركهم حتى يسفكوا دما ويفسدوا في الأرض فإن فعلوا وجه إليهم رجلا صليبا حازما في جند.
فبعث عبد الحميد محمد بن جرير بن عبد الله البجلي في ألفين وأمره بما كتب به عمر وكتب عمر إلى بسطام يسأله عن مخرجه فقدم كتاب عمر عليه وقد قدم عليه محمد بن جرير فقام بإزائه لا يتحرك.
فكان في كتاب عمر بلغني أنك خرجت غضبا لله ولرسوله ولست أولى بذلك مني فهلم إلي أناظرك فإن كان الحق بأيدينا دخلت فيما دخل فيه الناس وإن كان في يدك نظرنا في أمرك.
فكتب بسطام إلى عمر: قد أنصفت وقد بعثت إليك رجلين يدارسانك ويناظرانك وأرسل إلى عمر مولى لبني شيبان حبشيا اسمه عاصم ورجلا من بني يشكر فقدما على عمر بخناصرة فدخلا إليه فقال لهما ما أخرجكما هذا المخرج وما الذي نقمتم؟ فقال عاصم: ما نقمنا سيرتك، إنك
45

لتتحرى العدل والإحسان فأخبرنا عن قيامك بهذا الأمر أعن رضا من الناس ومشورة أم ابتززتم أمرهم؟
فقال عمر ما سألتهم الولاية عليهم ولا غلبتهم عليها وعهد إلي رجل كان قبلي فقمت ولم ينكره علي أحد ولم يكرهه غيركم وأنتم ترون الرضا بكل من عدل وأنصف من كان الناس فاتركوني ذلك الرجل فإن خالفت الحق ورغبت عنه فلا طاعة لي عليكم.
فقالا: بيننا وبينك أمر واحد قال ما هو قال رأيناك خالفت أعمال أهل بيتك وسميتها مظالم فإن كنت على هدى وهم على الضلالة فالعنهم وابرأ منهم فقال عمر قد علمت أنكم لم تخرجوا طلبا للدنيا ولكنكم أردتم الآخرة فأخطأتم طريقها، إن الله عز وجل لم يبعث رسوله صلى الله عليه وسلم، لعانا، وقال إبراهيم: (فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم) وقال الله عز وجل: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) وقد سميت أعمالهم ظلما وكفى بذلك ذما ونقصا وليس لعن أهل الذنوب فريضة لا بد منها فإن قلتم إنها فريضة فأخبرني متى لعنت فرعون قال ما أذكر متى لعنته قال أفيسعك أن لا تلعن فرعون وهو أخبث الخلق وشرهم ولا يسعني أن لا ألعن أهل بيتي وهم مصلون صائمون قال أما هم كفار بظلمهم؟ قال: لا لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا الناس إلى الإيمان فكان من أقر به وبشرائعه قبل منه فإن أحدث حدثا أقيم عليه الحد.
46

فقال الخارجي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا الناس إلى توحيد الله والإقرار بما نزل من عنده قال عمر فليس أحد منهم يقول لا أعمل بسنة رسول الله ولكن القوم أسرفوا على أنفسهم على علم منهم أنه محرم عليهم ولكن غلب عليهم الشقاء قال عاصم فابرأ مما خالف عملك ورد أحكامهم قال عمر أخبرني عن أبي بكر وعمر أليسا على حق قالا: بلى قال أتعلمان أن أبا بكر حين قاتل أهل الردة سفك دماءهم وسبى الذراري وأخذ الأموال؟ قالا: بلى قال أتعلمون أن عمر رد السبايا بعده إلى عشائرهم بفدية؟ قالا: نعم قال فهل برئ عمر من أبي بكر؟ قالا: لا قال أفتبرؤن أنتم من واحد منهما قالا: لا قال فأخبراني عن أهل النهروان وهم أسلافكم هل تعلمان أن أهل الكوفة خرجوا فلم يسفكوا دما ولم يأخذوا مالا وأن من خرج إليهم من أهل البصرة قتلوا عبد الله بن خباب وجاريته وهي حامل قالا: نعم قال فهل برئ من لم يقتل ممن قتل واستعرض قالا: لا قال أفتبرؤن أنتم من أحد من الطائفتين قالا: لا قال أفيسعكم أن تتولوا أبا بكر وعمر وأهل البصرة وأهل الكوفة وقد علمتم اختلاف أعمالهم ولا يسعني إلا البراءة من أهل بيتي والدين واحد فاتقوا الله فإنكم جهال تقبلون من الناس ما رد عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتردون عليهم ما قبل ويأمن عندكم من خاف عنده ويخاف عندكم من أمن عنده فإنكم يخاف عندكم من يشهد لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وكان من فعل ذلك عند رسول الله آمنا وحقن دمه وماله وأنتم تقتلونه ويأمن عندكم سائر أهل الأديان فتحرمون دماءهم وأموالهم.
فقال اليشكري أرأيت رجلا ولي قوما وأموالهم فعدل فيها ثم صيرها بعده
47

إلى رجل غير مأموم أتراه أدى الحق الذي يلزمه لله عز وجل أو تران قد سلم قال عمر لا قال أفتسلم هذا الأمر إلى يزيد من بعدك وأنت تعرف أنه لا يقوم فيه بالحق قال إنما ولاه غيري والمسلمون أولى بما يكون منهم فيه بعدي قال أفترى ذلك من صنع من ولاه حقا فبكى عمر وقال أنظراني ثلاثا.
فخرجا من عنده ثم عادا إليه فقال عاصم أشهد أنك على حق فقال عمر لليشكري ما تقول أنت قال ما أحسن ما وصفت ولكني لا أفتات على المسلمين بأمر أعرض عليهم ما قلت وأعلم ما حجتهم.
فأما عاصم فأقام عند عمر فأمر له عمر بالعطاء فتوفي بعد خمسة عشر يوما فكان عمر بن عبد العزيز يقول أهلكني أمر يزيد وخصمت فيه فاستغفر الله.
فخاف بنو أمية أن يخرج ما بأيديهم من الأموال وأن يخلع يزيد من ولاية العهد فوضعوا على عمر من سقاه سما فلم يلبث بعد ذلك إلا ثلاثا حتى مرض فمات ومحمد بن جرير مقابل الخوارج لا يتعرض إليهم ولا يتعرضون إليه كل منهم ينتظر عود الرسل من عند عمر بن عبد العزيز فتوفي والأمر على ذلك.
ذكر القبض على يزيد بن المهلب واستعمال الجراح على خراسان
قيل وفي هذه السنة كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطأة يأمره بإنفاذ يزيد بن المهلب إليه موثوقا وكان عمر قد كتب إليه أن يستخلف على
48

عمله ويقبل إليه، فاستخلف مخلدا ابنه وقدم من خراسان ونزل واسطا ثم ركب السفن يريد البصرة فبعث عدي بن أرطأة موسى بن الوجيه الحميري فلحقه في نهر معقل عند الجسر فأوثقه وبعث به إلى عمر بن عبد العزيز فدعا به عمر وكان يبغض عمر ويقول إنه مراء فلما ولي عمر عرف يزيد أنه بعيد من الرياء ولما دعا عمر يزيد سأله عن الأموال التي كتب بها إلى سليمان فقال كنت من سليمان بالمكان الذي قد رأيت وإنما كتبت إلى سليمان لأسمع الناس به وقد علمت أن سليمان لم يكن ليأخذني به فقال له لا أجد في أمرك إلا حبسك فاتق الله وأد ما قبلك فإنها حقوق المسلمين ولا يسعني تركها.
وحبسه بحصن حلب وبعث الجراح بن عبد الله الحكمي فسرحه إلى خراسان أميرا عليها وأقبل مخلد بن يزيد من خراسان يعطي الناس ففرق أموالا عظيمة ثم قدم على عمر فقال له يا أمير المؤمنين أن الله منع هذه الأمة بولايتك وقد ابتلينا بك فلا تكن نحن أشقى الناس بولايتك علام تحبس هذا الشيخ أنا أتحمل ما عليه فصالحني على ما تسأل فقال عمر لا إلا أن تحمل الجميع فقال يا أمير المؤمنين إن كانت لك بينة فخذ بها وإلا فصدق مقالة يزيد واستحلفه فإن لم يفعل فصالحه فقال عمر ما آخذه إلا بجميع الأموال فخرج مخلد من عنده فقال عمر هذا خير من أبيه ثم لم يلبث مخلدا إلا قليلا حتى مات فصلى عليه عمر بن عبد العزيز وقال اليوم مات فتى العرب وأنشد:
(بكوا حذيفة لم يبكوا مثله * حتى تبيد خلائق لم تخلق)
فلما أبى يزيد أن يؤدي إلى عمر شيئا ألبسه جبة صوفية وحمله على جمل وقال سيروا به إلى دهلك فلما خرج ومروا به على الناس أخذ يقول:
49

أما لي عشيرة؟ إنما يذهب إلى دهلك الفاسق واللص فدخل سلامة بن نعيم الخولاني على عمر فقال يا أمير المؤمنين أردد يزيد إلى محبسه فإني أخاف إن أمضيته أن ينتزعه قومه فإنهم قد غضبوا له فرده إلى محبسه فبقي فيه حتى بلغه مرض عمر.
ذكر عزل الجراح واستعمال عبد الرحمن بن نعيم
القشيري وعبد الرحمن بن عبد الله
قيل في هذه السنة عزل عمر الجراح بن عبد الله الحكمي عن خراسان واستعمل عليها عبد الرحمن بن نعيم القشيري وكان عزل الجراح في رمضان.
وكان سبب ذلك أن يزيد لما عزل عن خراسان أرسل عامل العراق عاملا على جرجان فأخذه جهم بن زحر الجعفي وكان على جرجان عاملا ليزيد بن المهلب فحبسه وقيده وحبس رهطا قدموا معه ثم خرج إلى الجراح بخراسان فأطلق أهل جرجان عاملهم وقال الجراح لجهم لولا أنك ابن عمي لم أسوغك هذا فقال جهم لولا انك ابن عمي لما آتك.
وكان جهم سلف الجراح من قبل ابنتي الحصين بن الحرث وأما كونه ابن عمه فلأن الحكم وجعفي ابنا سعد القشيري.
فقال له الجراح: خالفت إمامك فاغز لعلك تظفر فيصلح أمرك عنده. فوجهه إلى الختل فغنم منهم ورجع، وأفد الجراح إلى عمر وفدا رجلين
50

من العرب ورجلا من الموالي يكنى أبا الصيد فتكلم العربيان والمولى ساكت فقال عمر ما أنت من الوفد قال بلى قال فما يمنعك من الكلام فقال يا أمير المؤمنين عشرون ألفا من الموالي يغزون بلا عطاء ولا رزق ومثلهم قد أسلموا من الذمة يؤخذون بالخراج فأميرنا عصبي جاف يقوم على منبرنا فيقول أتيتكم خفيا وأنا اليوم عصبي والله لرجل من قومي أحب إلى من مائة من غيرهم وهو بعد سيف من سيوف الحجاج قد عمل بالظلم والعدوان. قال عمر: أحر بمثلك أن يوفد.
فكتب عمر إلى الجراح انظر من صلى قبلك إلى القبلة فضع عنه الجزية فسارع الناس إلى الإسلام فقيل الجراح بذلك إن الناس قد سارعوا إلى الإسلام نفورا من الجزية فامتحنهم بالختان فكتب الجراح إلى بذلك إلى عمر فكتب عمر إليه أن الله بعث محمدا داعيا ولم يبعثه خاتنا وقال ائتوني رجل صدوق أسأله عن خراسان فقيل له: عليك بأبي مجلز فكتب إلى الجراح أن أقبل وأحمل أبا مجلز وخلف على حرب خراسان عبد الرحمن بن نعيم القشيري فخطب الجراح وقال يا أهل خراسان جئتكم في ثيابي هذه التي علي وعلى فرسي لم أصب من مالكم إلا حلية سيفي ولم يكن عنده إلا فرس وبغلة فسار عنهم فلما قدم على عمر قال متى خرجت قال في شهر رمضان قال صدق من وصفك بالجفاء هلا أقمت حتى تفطر ثم تخرج!
51

وكان الجراح كتب إلى عمر إني قدمت خراسان فوجدت قوما قد أبطرتهم الفتنة فهم منبثون فيها فأحب الأمور إليهم أن يعودوا ليمنعوا حق الله عليهم فليس يكفهم إلا السيف والسوط فكرهت الإقدام على ذلك إلا بإذنك فكتب إليه عمر يا ابن أم الجراح أنت احرص على الفتنة منهم لا تضرب مؤمنا ولا معاهدا سوطا إلا في الحق واحذر القصاص فإنك صائر إلى من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وتقرأ كتابا: (لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها).
فلما قدم الجراح على عمر وقدم أبو مجلز قال له عمر أخبرني عن عبد الرحمن بن عبد الله فقال يكافئ الأكفاء ويعادي الأعداء وهو أمير يفعل ما يشاء ويقدم إن وجد من يساعده قال فعبد الرحمن بن نعيم قال يحب العافية والتأني قال هو أحب إلي فولاه الصلاة والحرب وولى عبد الرحمن القشيري الخراج وكتب إلى أهل خراسان إني استعملت عبد الرحمن على حربكم وعبد الرحمن [بن عبد الله] خراجكم وكتب إليهما يأمرهما بالمعروف والإحسان.
فلم يزل عبد الرحمن بن نعيم على خراسان حتى مات عمر وبعد ذلك حتى قتل يزيد بن المهلب ووجه مسلمة بن عبد العزيز الحرث بن الحكم فكانت ولايته أكثر من سنة ونصف.
52

ذكر ابتداء الدعوة العباسية
في هذه السنة وجه محمد بن علي بن عبد الله بن عباس الدعاة في الآفاق وكان سبب ذلك أن محمدا كان ينزل أرض الشراة من أعمال البلقاء بالشام فسار أبو هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية إلى الشام إلى سليمان بن عبد الملك فاجتمع به محمد بن علي فأحسن صحبته واجتمع أبو هاشم بسليمان فأكرمه وقضى عليه من وقف على طريقة فسمه في لبن.
فلما أحس أبو هاشم بالشر قصد الحميمة من أرض الشراة وبها محمد فنزل عليه وأعلمه أن هذا الأمر صائر إلى ولده وعرفه ما يعمل وكان أبو هاشم قد أعلم شيعته من أهل خراسان والعراق عند ترددهم إليه أن الأمر صائر إلى ولد محمد بن علي وأمرهم بقصده بعده.
فلما مات أبو هاشم قصدوا محمدا وبايعوه وعادوا فدعوا الناس إليه فأجابوهم وكان الذين سيرهم إلى الآفاق جماعة فوجه ميسرة إلى العراق ووجه محمد بن خنيس وأبا عكرمة السراج وهو أبو محمد الصادق وحيان العطار خال إبراهيم بن سلمة إلى خراسان وعليها الجراح الحكمي وأمرهم بالدعاء إليه وإلى أهل بيته فلقوا من لقوا ثم انصرفوا بكتب من استجاب له إلى محمد بن علي فدفعوها إلى ميسرة فبعث بها ميسرة إلى محمد بن علي بن عبد الله بن عباس فاختار أبو محمد الصادق لمحمد بن علي اثني عشر رجلا نقباء منهم سليمان بن كثير الخزاعي ولاهز ابن قريظ التميمي وقحطبة بن شبيب الطائي وموسى بن كعب التميمي،
53

وخالد بن إبراهيم أبو داود من بني شيبان بن ذهل والقاسم بن مجاشع التميمي وعمران بن إسماعيل أبو النجم مولى آل أبي معيط ومالك بن الهيثم الخزاعي وطلحة بن زريق الخزاعي وعمرو بن أعين أبو حمزة مولى خزاعة وشبل بن طهمان أبو علي الهروي مولى لبني حنيفة وعيسى بن أعين مولى خزاعة واختار سبعين رجلا وكتب إليهم محمد بن علي كتابا ليكون لهم مثالا وسيرة يسيرون بها.
(الحميمة بضم الحاء المهملة والشراة بالشين المعجمة).
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة أمر عمر بن عبد العزيز أهل طرندة بالقفول عنها إلى ملطية وطرندة واغلة في البلاد الرومية من ملطية بثلاث مراحل وكان عبد الله بن عبد الملك قد أسكنها المسلمين بعد أن غزاها سنة ثلاث وثمانين وملطية يومئذ خراب وكان يأتيهم جند من الجزيرة يقيمون عندهم إلى أن ينزل الثلج ويعودون إلى بلادهم فلم يزالوا كذلك إلى أن ولي عمر فأمرهم بالعود إلى ملطية وأخلى طرندة خوفا على المسلمين من العدو وأخرب طرندة واستعمل على ملطية جعونة بن الحرث أحد بني عامر بن صعصعة.
وفيها كتب عمر بن عبد العزيز إلى ملوك السند يدعوهم إلى الإسلام على أن يملكهم بلادهم ولهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين وقد كانت سيرته بلغتهم فأسلم جيشبة بن زاهر والملوك تسموا له بأسماء العرب وكان عمر قد استعمل على ذلك الثغر عمرو بن مسلم أخو قتيبة بن مسلم،
54

فغزا بعض الهند فظفر وبقي ملوك السند مسلمين على بلادهم أيام عمر ويزيد بن عبد الملك فلما كان أيام هشام ارتدوا عن الإسلام وكان سببه ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وفيها أغزى عمر بن عبد العزيز الوليد بن هشام المعيطي وعمرو بن قيس الكندي الصائفة.
وفيها استعمل عمر بن عبد العزيز عمر بن هبيرة الفزازي على الجزيرة عاملا عليها.
وحج بالناس هذه السنة أبو بكر بن محمد بن عمرو وكان العمال من تقدم ذكرهم إلا عامل خراسان وكان على حربها عبد الرحمن بن نعيم وعلى خراجها عبد الرحمن بن عبد الله في آخرها.
وفيها استعمل عمر بن عبد العزيز إسماعيل بن عبد الله مولى بني مخزوم على إفريقية واستعمل السمح بن مالك الخولاني على الأندلس وكان قد رأى منه أمانة وديانة عند الوليد بن عبد الملك فاستعمله.
وفي هذه السنة مات أبو الطفيل عامر بن واثلة بمكة وهو آخر من مات من الصحابة وفيها مات شهر بن حوشب وقيل سنة اثنتي عشرة ومائة. وفيها توفي القسم بن مخيمرة الهمداني وفيها توفي مسلم بن يسار الفقيه وقيل سنة إحدى ومائة وفيها توفي أبو امامة أسعد بن سهل بن حنيف وكان ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فسماه وكناه بجده لأمه أبي أمامة أسعد بن زرارة وكان قد مات قبل بدر وفيها توفي بسر بن سعد مولى الحضرميين؛ (بسر بضم الباء الموحدة وبالسين المهملة). وعيسى بن
55

طلحة بن عبد الله التيمي ومحمد بن جبير بن مطعم ورعي بن حراش الكوفي؛ (حراش بكسر الحاء المهملة، وبالراء المهملة)، وقيل سنة أربع ومائة وحنش بن عبد الله الصنعاني كان من أصحاب علي فلما قتل انتقل إلى مصر وهو أول من اختط جامع سرقسطة بالأندلس؛ (حنش بالحاء المهملة والنون المفتوحتين والشين المعجمة).
56

101
ثم دخلت سنة إحدى ومائة
ذكر هرب ابن المهلب
قد ذكرنا حبس يزيد بن المهلب وأنه لم يزل محبوسا حتى اشتد مرض عمر بن عبد العزيز فعمل في الهرب فخاف يزيد بن عبد الملك لأنه قد عذب أصهاره آل أبي عقيل وكانت أم الحجاج بنت محمد بن يوسف وهي ابنه أخي الحجاج زوجة يزيد بن عبد الملك.
وكان سبب تعذيبهم أن سليمان بن عبد الملك لما ولي الخلافة طلب آل أبي عقيل فأخذهم وسلمهم إلى يزيد بن المهلب ليخلص أموالهم ويعذبهم وبعث ابن المهلب إلى البلقاء من أعمال دمشق وبها خزائن الحجاج بن يوسف وعياله فنقلهم وما معهم إليه وكان فيمن أتى به أم الحجاج زوجة يزيد بن عبد الملك وقيل بل أخت لها فعذبها يزيد بن عبد الملك إلى ابن المهلب في منزله فشفع فيها فلم يشفعه فقال الذي قررتم عليها أنا أحمله فلم يقبل منه فقال لابن المهلب أما والله لئن وليت من الأمر شيئا لأقطعن منك عضوا! فقال ابن المهلب: وأنا والله لئن كان ذلك لأرمينك بمائة ألف سيف. فحمل يزيد على عبد الملك ما كان عليها، وكان مائة
57

ألف دينار وقيل أكثر من ذلك.
فلما اشتد مرض عمر بن عبد العزيز خاف ابن المهلب من يزيد بن عبد الملك فأرسل إلى مواليه فأعدوا له إبلا وخيلا وواعدهم مكانا يأتيهم فيه فأرسل إلى عامل حلب مالا والى الحرس الذين يحفظونه وقال إن أمير المؤمنين قد ثقل وليس برجاء وإن ولي يزيد يسفك دمي فأخرجوه فهرب إلى المكان الذي واعد فيه أصحابه فيه فركب الدواب وقصد البصرة وكتب إلى عمر بن عبد العزيز كتابا يقول إني والله لو وثقت بحياتك لم أخرج من محبسك ولكني خفت أن يلي يزيد فيقتلني شر قتلة فورد الكتاب وبه رمق فقال اللهم إن كان يريد بالمسلمين سوءا فألحقه وهضه فقد هاضني.
ومر يزيد في طريقه بالهذيل بن زفر بن الحرث وكان يخافه فلم يشعر الهذيل إلا وقد دخل يزيد منزله ودعا بلبن فشربه فاستحيا منه الهذيل وعرض عليه خيله وغيرها فلم يأخذ منه شيئا.
وقيل في سبب خوف ابن المهلب من يزيد تب عبد الملك ما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر وفاة عمر بن عبد العزيز
قيل توفي عمر بن عبد العزيز في رجب سنة إحدى ومائة وكانت شكواه عشرين يوما ولما مرض قيل له: لو تداويت قال لو كان دوائي في مسح أذني ما مسحتها نعم المذهوب إليه ربي وكان موته بدير سمعان وقيل بخناصرة ودفن بدير سمعان. وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر،
58

وكان عمره تسعا وثلاثين سنة وشهرا وقيل كان عمره أربعين سنة وأشهرا وكانت كنيته أبا حفص وكان يقال له أشج بني أمية وكان قد رمحته دابة من دواب أبيه فشجته وهو غلام فدخل على أمه فدخل على أمه فضمته إليها وعذلت أباه ولامته حيث لم يجعل معه حاضنا فقال لها عبد العزيز اسكتي يا أم عاصم فطوبى لك ان كان أشج بني أمية.
قال ميمون بن مهران قال عمر بن عبد العزيز لما وضعت الوليد في حفرته نظرت فإذا وجهه قد اسود فإذا مت ودفنت فاكشف عن وجهي ففعلت فرأيته أحسن مما كان أيام تنعمه.
وقيل كان ابن عمر يقول يا ليت شعري من هذا الذي من ولد عمر في وجهه علامة يملأ الأرض عدلا؟
وكانت أم عمر بن عبد العزيز أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب وهو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية ورثاه الشعراء فأكثروا فقال كثير عزة:
(أقول لما أتاني ثم مهلكه * لا تبعدن قوام الحق والدين)
(قد غادروا في ضريح اللحد منجدلا * بدير سمعان قسطاس الموازين)
ورثاه جرير والفرزدق وغيرهما.
59

ذكر بعض سيرته
قيل: لما ولي الخلافة كتب إلى يزيد بن المهلب أما بعد فإن سليمان كان عبدا من عباد الله أنعم الله عليه ثم قبضه واستخلفني ويزيد بن عبد الملك من بعدي أن كان وأن الذي ولاني الله من ذلك وقدر لي ليس علي بهين ولو كانت رغبتي في اتخاذ أزواج أو اعتقال أموال لكان في الذي أعطاني من ذلك ما قد بلغ بي أفضل ما بلغ بأحد من خلافة وأنا أخاف فيما ابتليت به حسابا شديدا ومسألة غليظة الا ما عفا الله ورحم وقد بايع من قبلنا فبايع من قبلك.
فلما قرأ الكتاب قيل له: لست من عماله لأن كلامه ليس ككلام من مضى من أهله فدعا يزيد الناس إلى البيعة فبايعوا.
قال مقاتل بن حيان كتب عمر إلى عبد الرحمن بن نعيم أما بعد فاعمل عمل من يعلم أن الله لا يصلح عمل المفسدين.
قال طفيل بن مرادس: كتب عمر إلى سليمان بن أبي السري أن اعمل خانات في بلادك فمن مر بك من المسلمين فأقروه يوما وليلة وتعهدوا دوابهم ومن كانت به علة فأقروه يومين وليلتين وإن كان منقطعا به فأبلغه بلده فلما أتاه كتاب عمر قال له أهل سمرقند قتيبة ظلمنا وغدر بنا فأخذ بلادنا وقد أظهر الله العدل والإنصاف فأذن لنا فليقدم منا وفد على أمير المؤمنين فأذن لهم فوجهوا وفدا إلى عمر فكتب لهم إلى سليمان إن أهل سمرقند شكوا ظلما وتحاملا من قتيبة عليهم حتى أخرجهم من أرضهم فإذا أتاك كتابي فأجلس لهم القاضي فلينظر في أمرهم، فإن قضى لهم فأخرج
60

العرب إلى معسكرهم كما كانوا قبل أن يظهر عليهم قتيبة قال فأجلس لهم سليمان جميع من حاضر القاضي فقضى أن يخرج عرب سمرقند إلى معسكرهم وينابذهم على سواء فيشون صلحا جديد أصحابه أو ضفرا عنوة فقال أهل الصغد بل نرضى بما كان ولا نحدث حربا وتراضوا بذلك.
قال دواد بن سليمان الجعفي كتب عمر إلى عبد الحميد أما بعد فإن أهل الكوفة قد أصابهم بلاء وشدة وجور في أحكام الله وسنة خبيثة سنها عليهم عمال السوء وإن قوام الدين والعدل والإحسان فلا يكون شيء أهم إليك من نفسك فلا تحملها قليلا من الإثم ولا تحمل خرابا على عامر وخذ منه ما أطاق وأصلحه حتى يعمر ولا يؤخذن من العامر إلا وظيفة الخراج في رفق وتسكين لأهل الأرض ولا تأخذن أجور الضرابين ولا هدية النوروز ولا ثمن الصحف ولا أجور الفتوح ولا أجور البيوت ولا درهم النكاح ولا خراج على من أسلم من أهل الأرض فاتبع في ذلك أمري فإني قد وليتك من ذلك ما ولاني الله ولا تتعجل دوني بقطع ولا صلب حتى تراجعني فيه وانظر من أراد من الذرية أن يحج فعجل له مائة ليحج بها والسلام.
قال عثمان بن عبد الحميد: حدثني أبي قال: قالت فاطمة بنت عبد الملك، رحمها الله، امرأة عمر: لما مرض اشتد قلقه ليلة فسهرنا معا فلما أصبحنا أمرنا وصيفا له يقال له مرثد ليكون عنده فإن كانت له حاجة كنت قريبا منه ثم نمنا فلما انتفخ النهار استيقظت فوجهت إليه فرأيت مرثدا خارجا من البيت نائما فقلت له ما أخرجك؟ قال: هو أخرجني، وقال
61

لي: إني أرى شيئا ما هو بأنس لا جن فخرجت فسمعته يتلو: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين). قالت فدخلت فوجدته بعد ما دخلت قد وجه نفسه للقبلة وهو ميت.
قال مسلمة بن عبد الملك: دخلت على عمر أعوده فإذا عليه قميص وسخ فقلت لامرأته فاطمة وكانت أخت مسلمة اغسلوا ثياب أمير المؤمنين فقالت نفعل ثم عدت فإذا القميص على حاله فقلت ألم آمركم أن تغسلوا قميصه فقالت والله ماله غيره قيل وكانت نفقته كل يوم درهمين قيل وكان عبد العزيز قد بعث ابنه إلى المدينة للتأدب بها فكتب إلى صالح بن كيسان أن يتعاهده فأبطأ عمر يوما عن الصلاة فقال: ما حبسك؟ فقال: كانت مرجلتي تصلح شعري فكتب إلى أبيه بذلك، فأرسل أبوه رسولا، فلم يزل حتى حلق شعره.
وقال محمد بن علي الباقر: إن لكل قوم نجيبة وإن نجيبة بني أمية عمر بن عبد العزيز وانه يبعث يوم القيامة أمة وحده.
وقال مجاهد: أتينا عمر نعلمه فلم نبرح حتى تعلمنا منه.
وقال ميمون: كانت العلماء عند عمر تلامذة وقيل لعمر ما كان بدء إنابتك؟ قال: أردت ضرب غلام لي فقال اذكر ليلة صبيحتها يوم القيامة. وقال عمر ما كذبت منذ أن علمت أن الكذب يضر بأهله.
وقال رياح بن عبيدة: خرج عمر بن عبد العزيز وشيخ متوكئ على يده، فلما فرغ ودخل قلت: أصلح الله الأمير من الشيخ الذي كان متوكئا
62

على يدك قال رأيته قلت نعم قال ذاك أخي الخضر أعلمني أني سألي أمر هذه الأمة سأعدل فيها.
قال: وأتاه أصحاب مراكب الخلافة يطلبون علفها فأمر بها فبيعت وجعل أثمانها في بيت المال وقال تكفيني بغلتي هذه قال ولما رجع من جنازة سليمان بن عبد الملك رآه مولى له مغتما فسأله فقال ليس أحد من أمة محمد في شرق الأرض ولا غربها إلا وأنا أريد أن أؤدي إليه حقه من غير طلب منه قال ولما ولي الخلافة قال لامرأته وجواريه إنه قد شغل بما في عنقه عن النساء وخيرهن بين أن يقمن عنده أو يفارقنه فبكين واخترن المقام معه.
قال: ولما ولي عمر بن عبد العزيز صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وكانت أول خطبة خطبها ثم قال أيها الناس من صحبنا فليصحبنا بخمس وإلا فلا يقربنا يرفع إلينا حاجة من لا يستطيع رفعها ويعيننا على الخير بجهده ويدلنا من الخير على ما نهتدي إليه ولا يغتابن أحدا ولا يعترض فيما لا يعنيه فانقشع الشعراء والخطباء وثبت عنده
الفقهاء والزهاد وقالوا: ما يسعنا نفارق هذا الرجل حتى يخالف قوله فعله قال فلما ولي الخلافة أحضر قريشا ووجوه الناس فقال لهم إن فدك كانت بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يضعها حيث أراه الله ثم وليها أبو بكر كذلك وعمر كذلك ثم أقطعها مروان ثم إنها صارت إلي ولم تكن من مالي أعود منها علي وإني أشهدكم أني قد رددتها على ما كانت عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فانقطعت ظهور الناس ويئسوا من الظلم.
قال: وقال عمر بن عبد العزيز لمولاه مزاحم إن أهلي أقطعوني ما لم يكن لي أن آخذه ولا لهم أن يعطونيه وإني قد هممت برده على أربابه قال فكيف تصنع بولدك فجرت دموعه وقال أكلهم إلى الله. قال: وجد
63

لولده ما يجد الناس، فخرج مزاحم حتى دخل على عبد الملك بن عمر فقال له إن أمير المؤمنين قد عزم على كذا وكذا وهذا أمر يضركم وقد نهيته عنه فقال عبد الملك بئس وزير الخليفة أنت ثم قام فدخل على أبيه وقال له إن مزاحما أخبرني بكذا وكذا فما رأيك قال إني أريد أن أقوم به العشية قال عجله فما يؤمنك أن يحدث لك حدث أو يحدث بقلبك حدث فرفع عمر يديه وقال الحمد لله الذي جعل من ذريتي من يعينني على ديني ثم قام به من ساعته في الناس وردها.
قال: ولما ولي عمر الخلافة أخذ من أهله ما بأيديهم وسمى ذلك مظالم ففزع بنو أمية إلى عمته فاطمة بنت مروان فأتته فقالت له تكلم أنت يا أمير المؤمنين فقال إن الله بعث محمدا رحمة ولم يبعثه عذابا إلى الناس كافة ثم اختار له ما عنده وترك للناس نهرا شربهم سواء ثم ولي أبو بكر فترك النهر على حاله ثم ولي عمر فعمل عملهما ثم لم يزل النهر يستقي منه يزيد ومروان وعبد الملك ابنه والوليد وسليمان ابنا عبد الملك حتى أفضى الأمر إلي وقد يبس النهر الأعظم فلم يرو أصحابه حتى يعود إلى ما كان عليه فقالت حسبك قد أردت كلامك فأما إذا كانت مقالتك هذه فلا أذكر شيئا أبدا فرجعت إليهم فأخبرتهم كلامه وقد قيل إنها قالت له إن بني أمية يقولون كذا وكذا فلما قال لها هذا الكلام قالت له إنهم يحذرونك يوما من أيامهم فغضب وقال كل يوم أخافه غير يوم القيامة فلا أمن شره فرجعت إليهم فأخبرتهم وقالت أنتم فعلتم هذا
64

بأنفسكم، تزوجتم بأولاد عمر بن الخطاب فجاء يشبه جده. فسكتوا.
قال وقال سفيان الثوري الخلفاء خمسة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز وما كان سواهم فهم منتزون.
قال: وقال الشافعي مثله قال وكان يكتب إلى عماله بخلال فهي تدور بينهم بإحياء سنة أو إطفاء بدعة أو قسم في مسكنة أو رد مظلمة.
قال: وكانت فاطمة بنت الحسين بن علي تثني عليه وتقول لو كان بقي لنا عمر بن عبد العزيز ما احتجنا بعده إلى أحد قالت فاطمة امرأته دخلت عليه وهو في مصلاه ودموعه تجري على لحيته فقلت أحدث شيء فقال إني تقلدت أمر أمة محمد فتفكرت في الفقير الجائع والمريض الضائع والغازي والمظلوم المقهور والغريب الأسير والشيخ الكبير وذي العيال الكثير والمال القليل وأشباههم في أقطار الأرض فعلمت أن ربي سيسألني عنهم يوم القيامة وان خصمي دونهم محمد إلى الله فخشيت أن لا تثبت حجتي عند الخصومة فرحمت نفسي فبكيت.
قيل: ولما مرض ابنه عبد الملك مرض موته، وكان من أشد أعوانه على العدل دخل عليه عمر فقال له يا بني كيف تجدك قال أجدني في الحق يقال يا بني أن تكون في ميزاني أحب إلي من أن أكون في ميزانك فقال ابنه يا أبتاه لأن يكون ما تحب أحب إلي من أن يكون ما أحب فمات في مرضه وله سبع عشرة سنة.
قيل وقال عبد الملك لأبيه عمر يا أمير المؤمنين ما تقول لربك إذا أتيته وقد تركت حقا لم تحيه وباطلا لم تمته فقال يا بني إن أجدادك قد دعوا الناس عن الحق فانتهت الأمور إلي وقد أقبل شرها
65

وأدبر خيرها ولكن أليس حسنا وجميلا أن لا تطلع الشمس علي في يوم إلا أحييت فيه حقا وأمت فيه باطلا حتى يأتيني الموت فأنا على ذلك وقال له أيضا يا أمير المؤمنين انقد لأمر الله وإن جاشت بي وبك القدور فقال يا بني إن بادهت الناس بما تقول أحوجوني إلى السيف ولا خير في خير لا يحيا إلا بالسيف فكرر ذلك.
قيل: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله نسخة واحدة أما بعد فإن الله عز وجل أكرم بالإسلام أهله وشرفهم وأعزهم وضرب الذلة والصغار على من خالفهم وجعلهم خير أمة أخرجت للناس فلا تولين أمور المسلمين أحدا من أهل ذمتهم وخراجهم فتتبسط عليهم أيديهم وألسنتهم فتذلهم بعد أن أعزهم لله وتهينهم بعد أن أكرمهم الله تعالى وتعرضهم لكيدهم والاستطالة عليهم ومع هذا فلا يؤمن غشهم إياهم فإن الله عز وجل يقول: (لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم)، و (لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض)؛ والسلام.
فهذا القدر كاف في التنبيه على فضله وعدله.
* * *
وفي هذه السنة مات محمد بن مروان في قول، وأبو صالح ذكوان.
66

ذكر خلافة يزيد بن عبد الملك
وفيها توفي يزيد بن عبد الملك بن مروان الخلافة وكنيته أبو خالد بعهد من أخيه سليمان بعد عمر بن عبد العزيز ولما احتضر عمر قيل له: اكتب إلى يزيد فأوصه بالأمة قال بماذا أوصيته إنه من بني عبد الملك ثم كتب إليه أما بعد فاتق يا يزيد الصرعة بعد الغفلة حين لا تقال العثرة ولا تقدر على الرجعة إنك تترك ما تترك لمن لا يحمدك وتصير بعد الغفلة إلى من لا يعذرك، والسلام.
فلما ولي يزيد نزع أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن المدينة واستعمل عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس الفهري عليها واستقضى عبد الرحمن سلمة بن عبد الله به عبد الأسد المخزومي وأراد معارضة ابن حزم فلم يجد عليه سبيلا حتى شكا عثمان بن حيان إلى يزيد بن عبد الملك من ابن حزم وانه ضربه حدين وطلب منه أن يقيده منه
فكتب يزيد إلى عبد الرحمن بن الضحاك كتابا أما بعد فانظر فيما ضرب ابن حزم بن حيان فإن كان ضربه في أمرين أو أمر يختلف فيه فلا تلتفت إليه.
فأرسل ابن الضحاك فأحضر ابن حزم وضربه حدين في مقام واحد ولم يسأله عن شيء.
وعمد يزيد إلى كل ما صنعه عمر بن عبد العزيز مما لم يوافق هواه فرده ولم يخف شناعة عاجلة ولا إثما عاجلا فمن ذلك أن محمد بن يوسف أخا
67

الحجاج بن يوسف كان على اليمن، فجعل عليهم خراجا مجددا فلما ولي عمر بن عبد العزيز كتب إلى عامله يأمره بالاقتصار على العشر ونصف العشر وترك ما جدده محمد بن يوسف وقال لأن يأتيني من اليمن حفنة ذرة أحب إلي من تقرير هذه الوضعية فلما ولي يزيد بعد عمر أمر بردها وقال لعامله خذها منهم ولو صاروا حرضا، والسلام.
ذكر مقتل شوذب الخارجي
قد ذكرنا خروجه ومراسلته عمر بن عبد العزيز لمناظرته فلما مات عمر أحب عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب وهو الأمير على الكوفة أن يحظى عند يزيد بن عبد الملك فكتب إلى محمد بن جرير يأمره بمناجزة شوذب واسمه بسطام ولم يرجع رسولا شوذب ولم يعلم بموت عمر.
فلما رأوا محمدا يستعد للحرب أرسل إليه شوذب ما أعجلكم قبل انقضاء المدة! أليس قد تواعدنا إلى أن يرجع الرسولان فأرسل محمد انه لا يسعنا ترككم على هذه الحال فقالت الخوارج ما فعل هؤلاء هذا إلا وقد مات الرجل الصالح.
فاقتتلوا فأصيب من الخوارج نفر وقتل الكثير من أهل الكوفة وانهزموا وجرح محمد بن جرير في استه فدخل الكوفة وتبعهم الخوارج حتى بلغوا الكوفة ثم رجعوا إلى مكانهم.
وأقام شوذب ينتظر صاحبيه فقدما عليه وأخبراه بموت عمر، ووجه
68

يزيد من عنده تميم بن الحباب في ألفين قد أرسلهم، وأخبرهم أن يزيد لا يفارقهم على ما فارقهم عليه عمر فلعنوه ولعنوا يزيد معه وحاربوه فقتلوه وقتلوا أصحابه ولجأ بعضهم إلى الكوفة وبعضهم إلى يزيد فأرسل إليهم يزيد نجدة بن الحكم الأزدي في جمع فقتلوه وهزموا أصحابه فوجه إليهم يزيد الشجاع بن وداع في ألفين فراسلهم وراسلوه فقتلوه وهزموا أصحابه وقتل منهم نفر منهم هدية بن عم شوذب فقال أيوب بن خولي يرثيهم:
(تركنا تميما في الغبار ملحبا * تبكي عليه عرسه وقرائبه)
(وقد أسلمت قيس تميما ومالكا * كما أسلم الشحاج أمس أقاربه)
(وأقبل من حران يحمل راية * يغالب أمر الله والله غالبه)
(فيا هدب للهيجا ويا هدب للندى * ويا هدب للخصم الألد يحاربه)
(ويا هدب كم من ملجم قد أجبته * وقد أسلمته للرماح جوالبه)
(وكان أبو شيبان خير مقاتل * يرجى ويخشى حربه من يحاربه)
(ففاز ولاقى الله في الخير كله * وخذمه بالسيف في الله ضاربه)
(تزود من دنياه درعا ومغفرا * وعضبا حساما لم تخنه مضاربه)
(وأجرد محبوك السراة كأنه * إذا انقض وافي الريش حجن مخالبه)
وأقام الخوارج بمكانهم حتى دخل مسلمة بن عبد الملك الكوفة فشكا إليه أهل أهل الكوفة مكان شوذب وخوفوه منه فأرسل إليه مسلمة سعيد بن
69

عمرو الحرشي، وكان فارسا في عشرة آلاف فأتاه وهو بمكانه فرأى شوذب وأصحابه ما لا قبل لهم به فقال لأصحابه من كان يريد الشهادة فقد جاءته ومن كان يريد الدنيا فقد ذهبت فكسروا أغماد سيوفهم وحملوا فكشفوا سعيدا وأصحابه مرارا حتى خاف سعيد الفضيحة فوبخ أصحابه وقال من هذه الشرذمة لا أب لكم تفرون يا أهل الشام يوما كأيامكم فحملوا عليهم فطحنوهم طحنا قتلوا بسطام وهو شوذب وأصحابه.
ذكر موت محمد بن مروان
وفي هذه السنة توفي محمد بن مروان بن الحكم أخو عبد الملك وكان قد ولي الجزيرة وأرمينية واذربيحان وغزا الروم وأهل أرمينية عدة دفعات وكان شجاعا قويا وكان عبد الملك يحسده لذلك فلما انتظمت الأمور لعبد الملك أظهر ما في نفسه له فتجهز محمد ليسير إلى أرمينية فلما ودع عبد الملك سأله عن سبب مسيره، فقال وأنشد:
(وإنك لا ترى طردا لحر * كإلصاق به بعض الهوان)
(فلو كنا بمنزلة جميعا * جريت وأنت مضطرب العنان)
فقال له عبد الملك أقسمت عليك لتقيمن فوالله لا رأيت مني ما تكره وصلح له ولما أراد الوليد عزله طلب من يسد مكانه فلم يقدم عليه أحد الا مسلمة بن عبد الملك.
70

ذكر دخول يزيد بن المهلب البصرة
وخلعه يزيد بن عبد الملك
قيل: وفي هذه السنة هرب يزيد بن المهلب من حبس عمر بن عبد العزيز على ما تقدم فلما مات عمر وبويع يزيد بن عبد الملك كتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن والى
عدي بن أرطأة يأمرهما بالتحرز من يزيد ويعرفهما هربه وأمر عديا أن يأخذ من بالبصرة من آل المهلب فأخذهم وحبسهم فيهم المفضل وحبيب ومروان بنو المهلب وأقبل يزيد حتى ارتفع على القطقطانة وبعث عبد الحميد جندا إليهم عليهم هشام بن مساحق العامري عامر بن لؤي فساروا حتى نزلوا العذيب ومر يزيد قريبا منهم فلم يقدموا عليه ومضى يزيد نحو البصرة وقد جمع عدي بن أرطأة أهل البصرة وخندق عليها وبعث على خيل البصرة المغيرة بن عبد الله بن أبي عقيل الثقفي وجاء يزيد في أصحابه الذين معه فالتقاه أخوه محمد بن المهلب فيمن اجتمع اليه من أهله وقومه ومواليه فبعث عدي على كل خمس من أخماس البصرة رجلا فبعث على الأزد المغيرة بن زياد بن عمرو العتكي وبعث على تميم محرز بن حمران السعدي وعلى خمس بكر مفرج بن شيبان بن مالك بن مسمع وعلى عبد القيس مالك بن المنذر بن الجارود وعلى أهل العالية عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر وأهل العالية قريش وكنانة والأزد وحجيلة وخثعم وقيس عيلان كلها ومزينة وأهل العالية والكوفة يقال لهم ربع أهل المدينة.
فاقبل يزيد لا يمر بخيل من خيلهم ولا قبيلة من قبائلهم إلا تنحوا له عن طريقه وأقبل يزيد حتى نزل داره فاختلف الناس إليه، فأرسل إلى عدي:
71

أن ابعث إلى اخوتي وإني أصالحك على البصرة وأخليك وإياها حتى آخذ لنفسي من يزيد ما أحب فلم يقبل منه فسار حميد بن عبد الملك بن المهلب إلى يزيد بن عبد الملك فبعث معه يزيد بن عبد الملك خالدا القسري وعمر بن يزيد الحكمي بأمان يزيد بن المهلب وأهله.
وأخذ يزيد بن المهلب يعطي من أتاه قطع الذهب والفضة فمال الناس إليه وكان عدي لا يعطي إلا درهمين درهمين ويقول لا يحل لي أن أعطيكم من بيت المال درهما إلا بأمر يزيد بن عبد الملك ولكن تبلغوا بهذه حتى يأتي الأمر في ذلك وفي ذلك يقول الفرزدق:
(أظن رجال الدرهمين تقودهم * إلى الموت آجال لهم ومصارع)
(وأكيسهم من قر في قعر بيته * وأيقن أن الموت لا بد واقع)
وخرجت بنو عمرو بن تميم من أصحاب عدي فنزلوا المربد وبعث إليهم يزيد بن المهلب مولى له يقال له دارس فحمل عليهم فهزمهم وخرج يزيد حين اجتمع الناس له حتى نزل جبانة بني يشكر وهي النصف فيما بينه وبين القصر فلقيه قيس وتميم وأهل الشام واقتتلوا هنيهة وحمل عليهم أصحاب يزيد فانهزموا وتبعهم ابن المهلب حتى دنا من القصر فخرج إليهم عدي بنفسه فقتل من أصحابه موسى بن الوجيه الحميري والحرث بن المصرف الأودي وكان من فرسان الحجاج وأشراف أهل الشام وانهزم أصحاب عدي وسمع إخوة يزيد وهم في محبس عدي الأصوات تدنو والنشاب تقع في القصر فقال لهم عبد الملك إني أرى أن يزيد قد ظهر ولا آمن من مع عدي من مضر وأهل الشام أن يأتونا فيقتلونا قبل أن
72

يصل إلينا يزيد فأغلقوا الباب وألقوا عليه الرحل ففعلوا فلم يلبثوا أن جاءهم عبد الله بن دينار مولى بني عامر وكان على حرس عدي فجاء يشتد إلى الباب هو وأصحابه وأخذوا يعالجون الباب فلم يطيقوا قلعه وأعجلهم الناس فخلوا عنهم.
وجاء يزيد بن المهلب حتى نزل دارا لسليمان بن زياد ابن أبيه إلى جنب القصر وأتى بالسلالم وفتح القصر وأتى بعدي بن أرطأة فحبسه وقال له لولا حبسك إخوتي لما حبستك.
فلما ظهر يزيد هرب رؤوس أهل البصرة من تميم وقيس ومالك بن المنذر فلحقوا بالكوفة ولحق بعضهم بالشام وخرج المغيرة بن زياد بن عمرو العتكي نحو الشام فلقي خالدا القسري وعمرو بن يزيد الحكمي ومعهما حميد بن عبد الملك بن المهلب قد أقبلوا بأمان يزيد بن المهلب وكل شيء أراده فسألاه عن الخبر فخلا بهما سرا من حميد وأخبرهما وقال أين تريدان فأخبراه بأمان يزيد فقال إن يزيد قد ظهر على البصرة وقتل القتلى وحبس عديا فارجعا فرجعا وأخذا حميدا معهما فقال لهما حميد أنشدكما الله أن تخالفا ما بعثتما به فإن ابن المهلب قابل منكما وإن هذا وأهل بيته لم يزالوا لنا أعداء فلا تسمعا مقالته فلم يقبلا قوله ورجعا به.
وأخذ عبد الحميد بن عبد الرحمن بالكوفة خالد بن يزيد بن المهلب وجمال بن زحر ولم يكونا في شيء من الأمر فأوثقهما وسيرهما إلى الشام فحبسهما يزيد بن عبد الملك فلم يفارقا السجن حتى هلكا فيه وأرسل يزيد بن عبد الملك إلى الكوفة شيئا يفرق على أهلها ويمنيهم الزيادة وجهز أخاه مسلمة
73

ابن عبد الملك وابن أخيه العباس بن الوليد بن عبد الملك في سبعين ألف مقاتل من أهل الشام والجزيرة وقيل كانوا ثمانين ألفا فساروا إلى العراق وكان مسلمة يعيب العباس ويذمه فوقع بينهما اختلاف فكتب إليه العباس:
(ألا نفسي فداك أبا سعيد * وتقصر عن ملاحاتي وعذلي)
(فلولا أن أصلك حين ينمى * وفرعك منتهى فرعي وأصلي)
(وإني إن رميتك هضت عظمي * ونالتني إذا نالتك نبلي)
(لقد أنكرتني إنكار خوف * يقصر منك عن شتمي وأكلي)
(كقول المرء عمرو في القوافي * أريد حياته ويريد قتلي)
قيل ان هذه الأبيات للعباس وقيل إنما تمثل بها.
فبلغ ذلك يزيد بن عبد الملك، فأرسل إليهما وأصلح بينهما وقدما الكوفة ونزلا بالنخيلة، فقال مسلمة: ليت هذا المزوني، يعني ابن المهلب لا كلفنا اتباعه في هذا البرد فقال حيان النبطي مولى لشيبان أنا أضمن لك أن لا يبره الأرضة يريد واضمن انه لا يبرح العرصة فقال له العباس لا أم لك أنت بالنبطية أبصر منك بهذا فقال حيان أنبط الله وجهك أشقر أحمر ليس عليه طابع الخلافة يريد أشقر أحمر ليس عليه طابع الخلافة قال مسلمة يا أبا سفيان لا يهولنك كلام العباس فقال إنه أهمق يريد أحمق.
74

ولما سمع أصحاب ابن المهلب وصول مسلمة وأهل الشام راعهم ذلك فبلغ ابن المهلب فخطب الناس وقال قد رأيت أهل العسكر وخوفهم يقولون جاء أهل الشام ومسلمة وما أهل الشام هل هم إلا تسعة أسياف سبعة منها إلي وسيفان علي وما مسلمة إلا جرادة صفراء أتاكم في برابرة وجرامقة وجراجمة وأنباط وأبناء فلاحين وأوباش وأخلاط أو ليسوا بشرا يألمون كما تألمون وترجون من الله مالا يرجون أعيروني سواعدكم تصفقون بها وجوههم وقد ولوا الأدبار واستوثقوا أهل البصرة ليزيد بن المهلب وبعث عماله على الأهواز وفارس وكرمان وبعث إلى خراسان مدرك بن المهلب وعليها عبد الرحمن بن نعيم فقال لأهلها هذا مدرك قد أتاكم ليلقى بينكم الحرب وأنتم في بلاد عافية وطاعة فسار بنو تميم ليمنعوه وبلغ الأزد بخراسان ذلك فخرج منهم نحو ألفي فارس فلقوا مدركا على رأس المفازة فقالوا: له إنك أحب الناس إلينا وقد خرج أخوك فإن يظهر فإنما ذلك لنا ونحن أسرع الناس إليكم وأحقهم بذلك وإن تكن الأخرى فمالك في أن تغشينا البلاء راحة فانصرف عنهم فلما استجمع أهل البصرة ليزيد خطبهم وأخبرهم أنه يدعوهم إلى كتاب الله وسنة نبيه ويحثهم على الجهاد ويزعم أن جهاد أهل الشام أعظم ثوابا من جهاد الترك والديلم وكان الحسن البصري يسمع فرفع صوته يقول والله لقد رأيناك واليا ومواليا عليك فما ينبغي لك ذلك ووثب أصحابه فأخذوا بفمه وأجلسوه ثم خرجوا من المسجد وعلى باب المسجد النضر بن أنس بن مالك يقول يا
75

عباد الله ما تنقمون من أن تجيبوا إلى كتاب الله وسنة نبيه فوالله ما رأينا ذلك [ولا رأيتموه] مذ ولوا عليا إلا أيام [من إمارة] عمر بن عبد العزيز. فقال الحسن والنضر أيضا قد شهد. ومر الحسن بالناس وقد نصبوا الرايات وهم ينتظرون خروج يزيد وهم يقولون تدعونا إلى سنة العمرين فقال الحسن كان يزيد بالأمس يضرب أعناق هؤلاء الذين ترون ثم يرسلها إلى بني مروان يريد رضاهم فلما غضب نصب قصبا ثم وضع عليها خرقا ثم قال إني قد خالفتهم فخالفوهم فقال هؤلاء نعم ثم قال إني أدعوهم إلى سنة العمرين وإن من سنة العمرين أن يوضع في رجله قيد ثم يرد إلى محبسه فقال ناس من أصحابه لكأنك راض عن أهل الشام فقال أنا راض عن أهل الشام قبحهم الله وبرحهم أليس هم الذين أحلوا حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتلون أهله ثلاثا قد أباحوها لأنباطهم وأقباطهم يحملون الحرائر ذوات الدين لا ينتهون عن انتهاك حرمة ثم خرجوا إلى مال بيت الله الحرام فهدموا الكعبة وأوقدوا النيران بين أحجارها وأستارها عليهم لعنة الله وسوء الدار.
ثم إن يزيد سار من البصرة واستعمل عليها أخاه مروان بن المهلب وأتى واسطا وكان قد استشار من أصحابه حين توجه نحو واسط فقال له اخوه خبيب وغيره نرى أن نخرج وننزل بفارس فنأخذ بالشعاب والعقاب وندنو من خراسان ونطاول أهل الشام فإن أهل الجبال يأتون إليك وفي يدك القلاع والحصون فقال ليس هذا برأيي تريدون أن تجعلوني طائرا على رأس جبل فقال خبيب إن الرأي الذي كان ينبغي أن يكون أول الأمر قد فات قد أمرتك حيث ظهرت على البصرة أن توجه خيلا عليها بعض أهلك إلى الكوفة
76

وإنما بها عبد الحميد، مررت به في سبعين رجلا فعجز عنك فهو من خيلك أعجز فسبق إليها أهل الشام وأكثر أهلها يرون رأيك ولأن تلي عليهم أحب إليهم من أن يلي عليهم أهل الشام فلم تطعني وأنا أشير الآن برأي سرح مع بعض أهلك خيلا كثيرة من خيلك فتأتي الجزيرة ويسيروا إليها حتى ينزلوا حصنا من حصونهم وتسير في أثرهم فإذا أقبل أهل الشام يريدونك لم يدعوهم جندك بالجزيرة يقبلون إليك فيقيموا عليهم فيحبسوهم عنك حتى تأتيهم ويأتيك من بالموصل من قومك وينفض إليك أهل العراق وأهل الثغور وتقاتلهم في أرض رخيصة السعر وقد جعلت العراق كله وراء ظهرك قال أكره أن أقطع جيشي فلما نزل واسطا أقام بها أياما يسيرة وخرجت السنة.
ذكر عدة حوادث
حج بالناس عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس وكان عامل المدينة وكان على مكة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بني أسيد وكان على الكوفة عبد الحميد وعلى قضائها الشعبي وكانت البصرة قد غلب عليها ابن المهلب وكان على خراسان عبد الرحمن بن نعيم.
وفيها عزل إسماعيل بن عبيد الله عن إفريقية واستعمل مكانه يزيد بن أبي
77

مسلم كاتب الحجاج فبقي عليها إلى أن قتل على ما نذكره إن شاء الله تعالى وفيها توفي مجاهد بن جبر وقيل سنة ثلاث وقيل سنة أربع وقيل سبع ومائة وله ثلاث وثمانون سنة وفيها توفي عمار بن جبر قيل وفيها توفي أبو صالح ذكوان وفيها توفي عامر بن أكثمة الليثي وأبو صالح السمان وقيل له الزيات أيضا لأنه كان ببيعهما وأبو عمرو سعيد بن إياس الشيباني وكان عمره سبعا وعشرين ومائة سنة وليست له صحبة وفي خلافة عمر توفي عبيدة بن أبي لبابة أبو القاسم العامري.
78

102
ثم دخلت سنة اثنتين ومائة
ذكر مقتل يزيد بن المهلب
ثم إن يزيد بن المهلب سار عن واسط واستخلف عليها ابنه معاوية واجعل عنده بيت المال والأسراء، وسار على فم النيل حتى نزل العقر وقدم أخاه عبد الملك بن المهلب نحو الكوفة فاستقبله العباس بن الوليد بسورا فاقتتلوا فحمل عليهم أصحاب عبد الملك حملة كشفوهم فيها ومعهم ناس من تميم وقيس من أهل البصرة ممن انهزم من يزيد فنادوا يا أهل الشام الله الله أن تسلمونا وقد اضطرهم أصحاب عبد الملك إلى النهر فقال أهل الشام لا بأس عليكم إن لنا جولة في أول القتال ثم كروا عليهم فانكشف أصحاب عبد الملك فانهزموا وعادوا إلى يزيد وأقبل مسلمة يسير على شاطئ الفرات إلى الأنبار وعقد عليها الجسر فعبر وسار حتى نزل على ابن المهلب وأتى إلى ابن المهلب ناس من أهل الكوفة كثير ومن الثغور فبعث على من خرج اليه من أهل الكوفة وربع أهل المدينة عبد الله بن سفيان بن يزيد بن المغفل الأزدي وعلى ربع مذحج وأسد النعمان ابن إبراهيم بن الأشتر وعلى كندة وربيعة محمد بن إسحاق بن الأشعث وعلى تميم وهمدان حنظلة بن عتاب بن ورقاء التميمي وجمعهم جميعا المفضل بن
المهلب وأحصى ديوان ابن المهلب مائة ألف وعشرين ألفا فقال لوددت أن لي بهم من بخراسان من قومي ثم قام في أصحابه فحرضهم على القتال.
79

وكان عبد الحميد بن عبد الرحمن قد عسكر بالنخيلة وشق المياه وجعل على أهل الكوفة الأرصاد لئلا يخرجوا إلى ابن المهلب وبعث بعثا إلى مسلمة مع سبرة بن عبد الرحمن بن مخنف، وبعث مسلمة فعزل عبد الحميد عن الكوفة واستعمل عليها محمد بن عمرو بن الوليد بن عقبة وهو ذو الشامة.
فجمع يزيد رؤوس أصحابه فقال قد رأيت أن أجمع اثني عشر ألفا فأبعثهم مع أخي محمد بن المهلب حتى يبيتوا مسلمة ويحمل معهم البراذع والأكف والزبل لدفن خندقهم فيقاتلهم على خندقهم بقية ليلته وأمده بالرجال حتى أصبح فإذا أصبحت نهضت إليهم في الناس فأناجزهم فإني أرجو عند ذلك أن ينصرني الله عليهم فقال السميدع إنا قد دعوناهم إلى كتاب الله وسنة نبيه وقد زعموا انهم قبلوا هذا منا فليس لنا أن نمكر ولا نغدر حتى يردوا علينا [ما زعموا انهم قابلوه منا]. وقال أبو رؤبة، وهو رأس الطائفة المرجئة ومعه أصحاب له صدق هكذا ينبغي.
فقال يزيد: ويحكم أتصدقون بني أمية أنهم يعملون بالكتاب والسنة وقد ضيعوا ذلك منذ كانوا؟ إنهم يخادعونكم ليمكروا بكم فلا يسبقوكم اليه إني لقيت بني مروان فما لقيت منهم أمكر ولا أبعد غدرا من هذه الجرادة الصفراء يعني مسلمة قالوا: لا نفعل ذلك حتى يردوا علينا ما زعموا أنهم قابلوه منا.
وكان مروان بن المهلب بالبصرة يحث الناس على حرب أهل الشام ويسرح الناس إلى يزيد والحسن البصري يثبطهم فلما بلغ ذلك مروان قام في الناس يأمرهم بالجد والاحتشاد،
80

ثم قال: بلغني أن هذا الشيخ الضال المرائي ولم يسمه يثبط الناس والله لو أن جاره نزع من خص داره قصبة لظل يرعف أنفه وأيم الله ليكفن عن ذكرنا وعن جمعه إليه سقاط الأبلة وعلوج فرات البصرة أو لأنحين عليه مربدا خشنا.
فلما بلغ ذلك الحسن قال والله [ما اكره] أن يكرمني الله بهوانه. فقال ناس من أصحابه: لو أرادك ثم شئت لمنعناك فقال لهم فقد خالفتكم إذ ذاك إلى ما نهيتكم عنه آمركم أن لا يقتل بعضكم بعضا مع غيري وآمركم أن يقتل بعضكم بعضا دوني فبلغ ذلك مروان فاشتد عليهم وطلبهم وتفرقوا وكف عن الحسن.
وكان اجتماع يزيد بن المهلب ومسلمة بن عبد الملك بن مروان ثمانية أيام فلما كان يوم الجمعة لأربع عشرة مضت من صفر بعث مسلمة إلى الوضاح أن يخرج بالسفن حتى يحرق الجسر ففعل وخرج مسلمة فعبئ جنود أهل الشام ثم قرب من ابن المهلب وجعل على ميمنته جبلة بن مخرمة الكندي وعلى ميسرته الهذيل بن زفر بن الحرث الكلابي وجعل العباس بن الوليد على ميمنته سيف بن هانئ الهمداني وعلى ميسرته سويد بن القعقاع التميمي وكان مسلمة على الناس.
وخرج يزيد بن المهلب وقد جعل على ميمنته حبيب بن المهلب وعلى ميسرته المفضل بن المهلب فخرج رحل من أهل الشام فدعا إلى المبارزة فبرز إليه محمد بن المهلب. فضربه محمد، فاتقاه الرجل بيده وعلى كفه
81

كف من حديد فضربه محمد فقطع الكف الحديد وأسرع السيف في كفه واعتنق فرسه فانهزم.
فلما دنا الوضاح من الجسر ألهب فيه النار فسطع دخانه وقد أقبل الناس ونشبت الحرب ولم يشتد القتال فلما رأى الناس الدخان وقيل لهم: أحرق الجسر انهزموا فقيل ليزيد قد انهزم الناس فقال مم انهزموا هل كان قتال ينهزم من مثله فقيل له قالوا: احرق الجسر فلم يثبت أحد فقال قبحهم الله بق دخن عليه فطار ثم خرج ومعه أصحابه فقال اضربوا وجوه المنهزمين ففعلوا ذلك بهم حتى كثروا عليه واستقبله أمثال الجبال فقال دعوهم فوالله إني لأرجو أن لا يجمعني وإياهم مكان أبدا دعوهم يرحمهم الله غنم عدا في نواحيها الذئب!
وكان يزيد لا يحدث نفسه بالفرار وكان قد أتاه يزيد بن الحكم بن أبي العاص الثقفي وهو ابن أخي عثمان بن أبي العاص صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بينه وبين الحكم بن أبي العاص والد مروان نسب وهو بواسط فقال له إن بني مروان قد باد ملكهم والله فإن كنت لم تشعر بذلك فاشعر فقال ما شعرت فقال ابن الحكم:
(فعش ملكا أو مت كريما فإن تمت * وسيفك مشهور بكفك تعذر)
فقال أما هذا فعسى فلما رأى يزيد انهزام أصحابه قال يا سميدع أرأيي أجود أم رأيك ألم أعلمك ما يريد القوم؟ قال: بلى، فنزل سميدع ونزل يزيد في أصحابهما وقيل كان على فرس أشهب فأتاه آت فقال أن أخاك حبيبا قد قتل فقال لا خير في العيش بعده قد كنت والله أبغض للحياة بعد الهزيمة وقد ازددت لها بغضا أمضوا قدما فعلموا أنه قد استقتل فتسلل عنه من يكره القتال وبقي معه جماعة جنسه وهو يتقدم فكلما مر بخيل
82

كشفها، أو جماعة من أهل الشام عدلوا عنه وأقبل نحو مسلمة لا يريد غيره فلما دنا منه أدنى مسلمة فرسه ليركب فعطف عليه خيول أهل الشام وعلى أصحابه فقتل يزيد والسميدع ومحمد بن المهلب.
وكان رجل من كلب يقال له القحل بن عياش فلما نظر إلى يزيد قال هذا والله يزيد والله لأقتلنه أو ليقتلني فمن يحمل معي يكفيني أصحابه حتى أصل إليه فحمل معه ناس فاقتتلوا ساعة وانفرج الفريقان عن يزيد قتيلا وعن القحل بآخر رمقه فأومأ إلى أصحابه يريهم مكان يزيد وأنه هو قاتله وأن يزيد قتله.
وأتى برأس يزيد مولى لبني مرة فقيل له: أنت قتلته قال لا فلما أتى مسلمة سيره إلى يزيد بن عبد الملك مع خالد بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط وقيل بل قتله الهذيل بن زفر بن الحرث الكلابي ولم ينزل يأخذ رأسه أنفة.
ولما قتل يزيد كان المفضل بن المهلب يقاتل أهل الشام وما يدري بقتل يزيد ولا بهزيمة الناس وكان كلما حمل على الناس انكشفوا ثم يحمل حتى يخالطهم وكان معه عامر بن العميثل الأزدي يضرب بسيفه ويقول:
(قد علمت أم الصبي المولود * أني بنصل السيف غير رعديد)
فاقتتلوا ساعة فانهزمت ربيعة فاستقبلهم المفضل يناديهم يا معشر ربيعة الكرة الكرة والله ما كنتم بكشف ولا لئام ولا لكم هذه بعادة فلا يؤتين أهل العراق من قبلكم فدتكم نفسي فرجعوا إليه يريدون الحملة، فأتى
83

وقيل له: ما تصنع ههنا وقد قتل يزيد وحبيب ومحمد وانهزم الناس منذ طويل فتفرق الناس عنه ومضى المفضل إلى واسط فما كان من العرب أضرب بسيفه ولا أحسن تعبية للحرب ولا أغشى للناس منه وقيل بل أتاه أخوه عبد الملك وكره أن يخبره بقتل يزيد فيستقتل فقال له ان الأمير قد انحدر إلى واسط فانحدر المفضل بمن بقي من ولد المهلب إلى واسط فلما علم بقتل يزيد حلف أنه لا يكلم عبد الملك أبدا فما كلمه حتى قتل بقندابيل وكانت عينه أصيبت في الحرب فقال فضحني عبد الملك ما عذري إذا رآني الناس فقالوا: شيخ أعور مهزوم! ألا صدقني فقتلت؟ ثم قال:
(ولا خير في طعن الصناديد بالقنا * ولا في لقاء الحرب بعد يزيد)
فلما فارق المفضل المعركة جاء عسكر الشام إلى عسكر يزيد فقاتلهم أبو رؤبة صاحب المرجئة ساعة من النهار وأسر مسلمة نحو ثلاثمائة أسير فسرحهم إلى الكوفة فحبسوا فيها فجاء كتاب يزيد بن عبد الملك إلى محمد بن عمرو بن الوليد يأمره بضرب رقاب الأسرى فأمر العريان بن الهيثم وكان على شرطته أن يخرجهم عشرين عشرين وثلاثين ثلاثين فقام نحو ثلاثين رجلا من تميم فقالوا: نحن انهزمنا بالناس فابدأوا بنا قبل الناس فأخرجهم العريان فضرب رقابهم وهم يقولون انهزمنا بالناس فكان هذا جزاءنا فلما فرغوا منهم جاء رسول بكتاب من عند مسلمة يأمره بترك قتل الأسرى وأقبل مسلمة حتى نزل الحيرة.
ولما أتت هزيمة يزيد إلى واسط أخرج ابنه معاوية اثنين وثلاثين أسيرا
84

كانوا عنده فضرب أعناقهم منهم عدي بن أرطأة ومحمد بن عدي بن أرطأة ومالك وعبد الملك ابنا مسمع وغيرهم ثم أقبل حتى أتى البصرة ومعه المال والخزائن وجاء المفضل بن المهلب واجتمع جميع أهل المهلب بالبصرة فأعدوا السفن وتجهزوا للركوب في البحر وكان يزيد بن المهلب بعث وداع بن حميد الأزدي على قندابيل أميرا وقال له إني سائر إلى هذا العدو ولو قد لقيتهم لم أبرح العرصة حتى يكون لي أولهم فإن ظفرت أكرمتك وإن كانت الأخرى كنت بقندابيل حتى يقدم عليك أهل بيتي فيتحصنوا بها حتى يأخذوا [لأنفسهم] أمانا وقد اخترتك لهم من بين قومي فكن عند أحسن ظني وأخذ عليه العهود ليناصحن أهل بيته إن هم لجأوا إليه.
فلما اجتمع آل المهلب بالبصرة حملوا عيالاتهم وأموالهم في السفن البحرية ثم لججوا في البحر حتى إذا كانوا بجبال كرمان خرجوا من سفنهم وحملوا عيالاتهم وأموالهم على الدواب وكان المقدم عليهم المفضل بن المهلب وكان بكرمان فلول كثيرة فاجتمعوا إلى المفضل وبعث مسلمة بن عبد الملك مدرك بن ضب الكلبي في طلبهم وفي أثر الفل فأدرك مدرك المفضل ومعه الفلول في عقبة فعطفوا عليه فقاتلوه واشتد قتالهم [إياه] فقتل من أصحاب المفضل النعمان بن إبراهيم بن الأشتر النخعي ومحمد بن إسحاق بن محمد بن الأشعث وأخذ ابن أصول ملك قهستان أسيرا، وجرح عثمان بن إسحاق بن محمد بن الأشعث جراحة شديدة وهرب حتى انتهى إلى حلوان فدل عليه فقتل وحمل رأسه إلى مسلمة بالحيرة ورجع ناس من أصحاب ابن المهلب فطلبوا الأمان فأمنوا، منهم: مالك بن إبراهيم بن الأشتر، والورد بن عبد
85

الله بن حبيب السعدي التميمي.
ومضى آل المهلب ومن معهم إلى قندابيل وبعث مسلمة إلى مدرك بن ضب فرده وسير في أثرهم هلال بن أحوز التميمي فلحقهم بقندابيل فأراد أهل المهلب دخولها فمنعهم وداع بن حميد وكان هلال بن أحوز لم يباين آل المهلب فلما التقوا كان وداع على الميمنة وعبد الملك بن هلال على الميسرة وكلاهما أزدي فرفع هلال بن أحوز راية أمان فمال إليه وداع بن حميد وعبد الملك بن هلال وتفرق الناس عن آل المهلب، فلما رأى ذلك مروان بن المهلب أراد أن ينصرف إلى النساء فيقتلهن لئلا يصرن إلى أولئك فنهاه المفضل عن ذلك وقال إنا لا نخاف عليهن من هؤلاء فتركهن، وتقدموا بأسيافهم فقاتلوا حتى قتلوا من عند آخرهم وهم المفضل وعبد الملك وزياد ومروان بنو المهلب ومعاوية بن يزيد بن المهلب والمنهال بن أبي عيينة بن المهلب وعمرو والمغيرة ابنا قبيصة بن المهلب وحملت رؤوسهم وفي أذن كل واحد رقعة فيها اسمه إلا أبا عيينة بن الملهب وعمرو بن يزيد بن المهلب وعثمان بن المفضل بن المهلب فإنهم لحقوا برتبيل وبعث هلال بن أحوز بنسائهم ورؤوسهم والأسرى من آل المهلب إلى مسلمة بالحيرة فبعثهم مسلمة إلى يزيد بن عبد الملك فسيرهم يزيد إلى العباس بن الوليد وهو على حلب فنصب الرؤوس وأراد مسلمة أن يبيع الذرية فاشتراهم منه الجراح بن عبد الله الحكمي بمائة ألف وخلى سبيلهم ولم يأخذ مسلمة من الجراح شيئا.
ولما بلغ يزيد بن عبد الملك الخبر بقتل يزيد سره لانتصاره ولما في نفسه منه قبل الخلافة.
86

وكان سبب العداوة بينهما أن ابن المهلب خرج من الحمام أيام سليمان بن عبد الملك وقد تضمخ بالغالية فاجتاز بيزيد بن عبد الملك وهو إلى جانب عمر بن عبد العزيز فقال قبح الله الدنيا لوددت أن مثقال غالية بألف دينار فلا ينالها إلا كل شريف فسمع ابن المهلب فقال له بل وددت أن الغالية لو كانت في جبهة الأسد فلا ينالها إلا مثلي فقال له يزيد بن عبد الملك والله لئن وليت يوما لأقتلنك فقال له ابن المهلب والله لئن وليت هذا الأمر وأنا حي لأضربن وجهك بخمسين ألف سيف فهذا كان سبب البغض بينهما وقيل غير ذلك وقد تقدم ذكره.
وأما الأسرى فكانوا ثلاثة عشر رجلا فلما قدم بهم على يزيد بن عبد الملك وعنده كثير عزة أنشد:
(حليم إذا نال عاقب مجملا * أشد العقاب أو عفا لم يثرب)
(فعفوا أمير المؤمنين وحسبه * فما تأته من صالح لك يكتب)
(أساؤوا فإن تصفح فإنك قادر * وأفضل حلم حسبه حلم مغضب)
فقال يزيد بن عبد الملك هيهات يا أبا صخر طف بك الرحم لا سبيل إلى ذلك ان الله عز وجل أفادنيهم بأعمالهم الخبيثة ثم أمر بهم فقتلوا وبقي غلام صغير فقال اقتلوني فما أنا بصغير فقال انظروا أنبت فقال أنا أعلم بنفسي قد احتلمت ووطئت النساء فأمر به يزيد فقتل.
وأسماء الأسرى الذين قتلوا المعارك وعبد الله والمغيرة والمفضل ومنجاب أولاد يزيد بن المهلب ودريد والحجاج وغسان وشبيب والفضل أولاد المفضل بن المهلب والمفضل بن قبيصة بن المهلب. وقال ثابت قطنة
87

يرثي يزيد بن المهلب:
(أبى طول هذا الليل أن يتصرما * وهاج لك الهم الفؤاد المتيما)
(أرقت ولم تأرق معي أم خالد * وقد أرقت عيناي حولا محرما)
(على هالك هد العشيرة فقده * دعته المنايا فاستجاب وسلما)
(على ملك بالعقر يا صاح جبنت * كتائبه واستورد الموت معلما)
(أصيب ولم أشهد ولو كنت شاهدا * تسليت إن لم يجمع الحي مأتما)
(وفي غير الأيام يا هند فاعلمي * لطالب وتر نظرة أن تلوما)
(فعلي إن مالت بي الريح ميلة * على ابن أبي ذبان أن يتندما)
(أمسلم أن تقدر عليك رماحنا * نذقك بها قيء الأساود مسلما)
(وأن نلقى للعباس في الدهر عثرة * نكافئه باليوم الذي كان قدما)
(قصاصا ولم نعد الذي كان قد أتى * إلينا وإن كان ابن مروان أظلما)
(ستعلم إن زلت بك النعل زلة * وأظهر أقوام حياء مجمجما)
(من الظالم الجاني على أهل بيته * إذا أحضرت أسباب أمر وأبهما)
(وإن لعاطفون بالحلم بعدما * نرى الجهل من فرط اللئيم تكرما)
(وإنا لحلالون بالثغر لا نرى * به ساكنا إلا الخميس العرمرما)
(نرى أن للجيران حقا وذمة * إذا الناس لم يرعوا لذي الجار محرما)
88

(وإنا لنقري الضيف من قمع الذرى * إذا كان رفد الرافدين تجشما)
وله فيه مرثيات كثيرة.
وأما أبو عيينة بن المهلب فأرسلت هند بنت المهلب إلى يزيد بن عبد الملك في أمانه فأمنه وبقي عمر وعثمان حتى ولي أسد بن عبد الله القسري خراسان.
(فكتب إليه بأمانهما فقدما خراسان قطنة بالنون وهو ثابت بن كعب بن جابر العتكي الأزدي أصيبت عينه بخراسان فجعل عليها قطنة فعرف بذلك وهو يشتبه بثابت بن قطبة بالباء الموحدة وهو خزاعي وذاك عتكي).
ذكر استعمال مسلمة على العراق وخراسان
ولما فرغ مسلمة بن عبد الملك من حرب يزيد بن المهلب جمع له أخوه يزيد بن عبد الملك ولاية الكوفة والبصرة وخراسان فأقر محمد بن عمرو بن الوليد على الكوفة وكان قد قام بأمر البصرة بعد آل المهلب شبيب بن الحرث التميمي فبعث عليها مسلمة بن عبد الرحمن بن سليمان الكلبي وعلى شرطتها وأحداثها عمرو بن يزيد التميمي فأراد عبد الرحمن أن يستعرض أهل البصرة فيقتلهم فنهاه عمرو واستمهله عشرة أيام وكتب إلى مسلمة بالخبر فعزله وولى البصرة عبد الملك بن بشر بن مروان وأقر عمر بن يزيد على الشرطة والأحداث.
89

ذكر استعمال سعيد خذينة على خراسان لمسلمة
استعمل مسلمة على خراسان سعيد بن عبد العزيز بن الحرث بن الحكم بن أبي العاص بن أمية وهو الذي يقال له سعيد خذينة وإنما لقب بذلك لأنه كان رجلا لينا متنعما فدخل عليه ملك أبغر وسعيد في ثياب مصبغة وحوله مرافق مصبغة فلما خرج من عنده قالوا: كيف رأيت الأمير قال خذينة فلقب خذينة وخذينة هي الدهقانة ربة البيت.
وكان سعيد تزوج ابنة مسلمة فلهذا استعمله على خراسان. فلما استعمل مسلمة سعيدا على خراسان سار إليها فاستعمل شعبة بن ظهير النهشلي على سمرقند فسار إليها فقدم الصغد وكان أهلها كفروا في ولاية عبد الرحمن بن نعيم ثم عادوا إلى الصلح فخطب شعبة أهل الصغد ووبخ سكانها من العرب وغيرهم بالجبن وقال ما أرى فيكم جريحا ولا أسمع أنة فاعتذروا إليه بأنهم جبنهم أميرهم علباء بن حبيب العبدي.
وأخذ سعيد عمال عبد الرحمن بن عبد الله الذين ولو أيام عمر بن عبد العزيز فحبسهم ثم أطلقهم ثم رفع إلى سعيد أن جهم بن زحر الجعفي وعبد العزيز بن عمرو بن الحجاج الزبيدي والمنتجع بن عبد الرحمن الأزدي ولوا ليزيد بن المهلب في ثمانية نفر وعندهم أموال قد أخفوها فحبسهم بقهندزمرو وحمل جهم بن زحر على حمار
وأطاف به فضربه مائتي سوط وأمر به وبالثمانية الذين حبسوا معه فسلموا إلى ورقاء بن نصر الباهلي فاستعفاه فأعفاه فسلمهم إلى عبد الحميد
90

ابن دثار وعبد الملك بن دثار والزبير بن نشيط مولى باهلة فقتلوا في العذاب جهم بن زحر وعبد العزيز والمنتجع وعذبوا القعقاع وقوما حتى أشفوا على الموت فلم يزالوا في السجن حتى غزاهم الترك والصغد فأمر سعيد بإخراجهم وكان يقول قبح الله الزبير فإنه قتل جهما!
ذكر البيعة بولاية العهد لهشام والوليد
لما وجه يزيد عبد الملك الجيوش إلى يزيد بن المهلب على ما ذكرناه واستعمل على الجيش مسلمة بن عبد الملك أخاه والعباس بن الوليد بن عبد الملك وهو ابن أخيه قالوا: له يا أمير المؤمنين ان أهل العراق أهل غدر وأرجاف وقد توجهنا محاربين والحوادث تحدث ولا نأمن أن يرجف أهل العراق ويقولوا مات أمير المؤمنين فيفت ذلك في أعضادنا فلو عهدت إلى عبد العزيز بن الوليد لكان رأيا صوابا.
فبلغ ذلك مسلمة بن عبد الملك فأتى أخاه يزيد فقال يا أمير المؤمنين أيما أحب إليك أخوك أم ابن أخيك فقال بل أخي فقال فأخوك أحق بالخلافة فقال يزيد إذا لم تكن وفي ولدي فأخي أحق بها من ابن أخي كما ذكرت قال فابنك لم يبلغ فبايع لهشام بن عبد الملك ثم بعده لابنك الوليد وكان الوليد يومئذ ابن إحدى عشرة سنة فبايع بولاية العهد لهشام بن عبد الملك أخيه وبعده لابنه الوليد بن يزيد ثم عاش يزيد حتى بلغ ابنه الوليد فكان إذا رآه يقول الله بيني وبين من جعل هشاما بيني وبينك.
91

ذكر عزوة الترك
لما ولي سعيد خراسان استضعفه الناس وسموه خذينة وكان قد استعمل شعبة على سمرقند ثم عزله فطمعت الترك فجمعهم خاقان ووجههم إلى الصغد وعلى الترك كور صول فاقبلوا حتى نزلوا بقصر الباهلي.
وقيل: أراد عظيم من عظماء الدهاقين أن يتزوج امرأة من باهلة كانت في ذلك القصر فأبت فاستجاش ورجوا أن يسبوا من في القصر فأقبل كور صول حتى حصر أهل القصر وفيه مائة أهل بيت بذراريهم وكان على سمرقند عثمان بن عبد الله بن مطرف بن الشخير قد استعمله سعيد بعد شعبة فكتبوا إليه وخافوا أن يبطئ عنهم المدد فصالحوا الترك على أربعين ألفا وأعطوهم سبعة عشر رجلا رهينة، وندب عثمان الناس فانتدب المسيب بن بشر الرياحي وانتدب معه أربعة آلاف من جميع القبائل وفيهم شعبة بن ظهير وثابت قطنة وغيرهما من الفرسان فلما عسكروا قال لهم المسيب إنكم تقدمون على حلبة الترك عليهم خاقان والعوض ان صبرتم الجنة والعقاب ان فررتم النار فمن أراد الغزو والصبر فليقدم فرجع عنه ألف وثلاثمائة فلما سار فرسخا رجع بمثل مقالته الأولى فاعتزله ألف ثم سار فرسخا آخر فقال لهم مثل ذلك فاعتزله ألف ثم سار فلما كان على فرسخين منهم نزل فأتاهم ترك خاقان ملك قي فقال لم يبق ههنا دهقان إلا وقد بايع الترك غيري وأنا في ثلاثمائة مقاتل فهم معك وعندي الخبر قد كانوا صالحوهم على أربعين ألفا وأعطوهم سبعة عشر رجلا يكونون رهينة في أيديهم
92

حتى يأخذوا صلحهم فلما بلغهم مسيركم إليهم قتلوا الرهائن وميعادهم أن يقاتلوا غدا ويفتحوا لهم القصر.
فبعث المسيب رجلين رجلا من العرب ورجلا من العجم ليعلما علم القوم فأقبلا في ليلة مظلمة وقد أخذت الترك الماء في نواحي القصر فليس يصل إليه أحد ودنوا من القصر فصاح بهما الربيئة فقالا: له اسكت وادع لنا عبد الملك بن دثار فدعاه فأعلماه بقرب المسيب منهم وقالا: هل عندكم امتناع الليلة وغدا قالوا: قد اجمعنا على تقديم نسائنا للموت أمامنا حتى نموت جميعا غدا فرجعا إلى المسيب فأخبراه فقال لمن معه إني سائر إلى هذا العدو فمن أحب أن يذهب فليذهب فلم يفارقه أحد وبايعوه على الموت.
فأصبح وسار وقد ازداد القصر تحصينا بالماء الذي أجراه الترك فلما صار بينة وبين الترك نصف فرسخ نزل وقد أجمع على بياتهم فلما أمسى أمر أصحابه بالصبر وحثهم عليه وقال ليكن شعاركم يا محمد ولا تتبعوا موليا وعليكم بالدواب فاعقروها فإنها إذا عقرت كانت أشد عليهم منكم وليست بكم قلة فإن سبعمائة سيف لا يعرب بها في عسكر إلا أوهنوه وان كثر أهله وجعل على ميمنته كثيرا الدبوسي وعلى مسيرته ثابت قطنة وهو من الأزد فلما دنوا منهم كبروا وذلك في السحر وثار الترك وخالطهم المسلمون فعقروا الدواب وترجل المسيب في رجاله معه فقاتلوا قتالا شديدا وانقطعت يمين البختري المرائي فأخذ السيف بشماله فقطعت فجعل يذب بيديه حتى استشهد وضرب ثابت قطنة عظيما من عظماء الترك فقتله وانهزمت الترك ونادى منادي المسيب لا تتبعوهم فإنهم لا يدرون من الرعب اتبعوهم أم لا واقصدوا القصر، لا تحملوا إلا الماء ولا
93

تحملوا إلا من يقدر على المشي ومن حمل امرأة أو صبيا أو ضعيفا حسبة فأجره على الله ومن أبى فله أربعون درهما وأن كان في القصر أحد من أهل عهدكم فاحملوه فحملوا من في القصر وأتى ترك خاقان فأنزلهم قصره وأتاهم بطعام ثم ساروا إلى سمرقند ورجعت الترك من الغد فلم يرو في القصر أحدا ورأوا قتلاهم فقالوا: لم يكن الذي جاءنا من الأنس فقال ثابت قطنة:
(فدت نفسي فوارس من تميم * غداة الروع في ضنك المقام)
(فدت نفسي فوارس أكنفوني * على الأعداء في رهج القتام)
(بقصر الباهلي وقد رأوني * أحامي حيث ضربه المحامي)
(بسيفي بعد حطم الرمح قدما * أذودهم بذي شطب حسام)
(أكر عليهم اليحموم كرا * ككر الشرب آنية المدام)
(أكر به لدى الغمرات حتى * تجلت لا يضيق به مقامي)
(فلولا الله ليس له شريك * وضربي قونس الملك الهمام)
(إذا لسعت نساء بني دثار * أمام الترك بادية الخدام)
(فمن مثل المسيب في تميم * أبي بشر كقادمة الحمام)
وعور تلك الليلة معاوية بن الحجاج الطائي وشلت يده وكان قد ولي ولاية من قبل سعيد فأخذه سعيد بشيء بقي عليه فدفعه إلى شداد بن خليد
94

الباهلي ليستأديه فضيق عليه شداد فقال معاوية يا معشر قيس سرت إلى قصر الباهلي وأنا شديد البطش حديد البصر فعورت وشلت يدي وقاتلت حتى استنقذناهم بعدما أشرفوا على القتل والأسر والسبي وهذا صاحبكم يصنع بي ما يصنع فكفوه عني، فخلاه.
قال بعض من كان بالقصر لما التقوا ظننا أن القيامة قد قامت لما سمعنا من هماهم القوم ووقع الحديد وصهيل الخيل.
ذكر غزو الصغد
وفي هذه السنة عبر سعيد خذينة النهر وغزا الصغد وكانوا قد نقضوا العهد وأعانوا الترك على المسلمين فقال الناس لسعيد انك وقد تركت الغزو وقد أغار الترك وأعانهم أهل الصغد فقطع النهر وقصد الصغد فلقيه الترك وطائفة من الصغد فهزمهم المسلمون فقال سعيد لا تتبعوهم فإن الصغد بستان أمير المؤمنين وقد هزمتموهم أفتريدون بوارهم وقد قاتلتم يا أهل العراق الخلفاء غير مرة فهل أبادوكم وقال سورة بن الحر لحيان النبطي ارجع عنهم يا حيان قال عقيرة الله لا أدعها قال انصرف يا نبطي قال أنبط الله وجهك!
وسار المسلمون فانتهوا إلى واد بينهم وبين المرج فقطعه بعضهم وقد أكمن لهم الترك فلما جاءهم المسلمون خرجوا عليهم، فانهزم المسلمون
95

حتى انتهوا إلى الوادي فصبروا حتى انكشفوا لهم وقيل بل كان المنهزمون مسلحة للمسلمين فما شعروا إلا والترك قد خرجوا عليهم من غيضة وعلى الخيل شعبة بن ظهير فأعجلهم الترك عن الركوب فقاتلهم شعبة فقتل وقتل نحو من خمسين رجلا وانهزم أهل المسلحة وأتى المسلمين الخبر فركب الخليل بن أوس العبشمي أحد بني ظالم ونادى يا بني تميم إلي أنا الخليل فاجتمع معه جماعة فحمل بهم على العدو فكفوهم حتى جاء الأمير والناس فانهزم العدو فصار الخليل على خيل بني تميم حتى ولي نصر بني سيار ثم صارت رياستهم لأخيه الحكم بن أوس.
فلما كان العام المقبل بعث رجلا من تميم إلى ورغش فقالوا: ليتنا نلقى العدو فنطاردهم وكان سعيد إذا بعث سرية فأصابوا وغنموا وسبوا رد السبي وعاقب السرية فقال الهجري الشاعر:
(سريت إلى الأعداء تلهو بلعبة * وأيرك مسلول وسيفك مغمد)
(وأنت لمن عاديت عرس خفية * وأنت علينا كالحسام المهند)
فثقل سعيد على الناس وضعفوه وكان رجل من بني أسد يقال له إسماعيل منقطعا إلى مروان بن محمد فذكر إسماعيل عند خذينة ومودته لمروان فقال خذينة وما ذاك السلط فقال إسماعيل:
(زعمت خذينة أنني سلط * لخذينة المرآة والمشط)
(ومجامر ومكاحل جعلت * ومعازف وبخدها نقط)
96

(أفذاك أم زغف مضاعفة * ومهند من شأنه القط)
(لمقرس ذكر أخي ثقة * لم يغذه التأنيث والقط)
في أبيات غيرها.
ذكر موت حيان النبطي
وقد ذكرنا من أمر حيان فيما تقدم عند قتل قتيبة وانه ساد وتقدم بخراسان فلما قال له سورة بن الحر يا نبطي وأجابه حيان فقال أنبط الله وجهك على ما تقدم آنفا حقدها عليه سورة فقال لسعيد خذينة إن هذا العبد أعدى الناس للعرب والوالي وهو أفسد خراسان على قتيبة وهو واثب بك يفسد عليك خراسان ثم يتحصن في بعض هذه القلاع فقال سعيد لا أسمعن هذا أحدا ثم دعا في مجلسه بلبن وقد أمر بذهب فسحق وألقي في اللبن الذي في إناء حيان فشربه حيان ثم ركض سعيد والناس معه أربعة فراسخ ثم رجع فعاش حيان بعده أربعة أيام ومات وقيل إنه لم يمت هذه السنة وسيرد ذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى.
ذكر عزل مسلمة عن العراق وخراسان وولاية ابن هبيرة
وكان سبب ذلك أنه ولي العراق وخراسان فلم يدفع من الخراج شيئا واستحيا يزيد بن عبد الملك أن يعزله وكتب إليه استخلف على عملك واقبل.
97

وقيل: ان مسلمة شاور عبد العزيز بن حاتم بن النعمان في الشخوص إلى يزيد ليزوره قال أمن شوق إليه ان عهدك منه لقريب قال لا بد من ذلك قال إذن لا تخرج من عملك حتى تلقى الوالي عليه فسار مسلمة فلقيه عمر بن هبيرة الفزاري بالعراق على دواب البريد فسأله عن مقدمه فقال عمر وجهني أمير المؤمنين في حيازة أموال بني المهلب.
فلما خرج من عنده أحضر مسلمة بن عبد العزيز بن حاتم وأخبره خبر ابن هبيرة فقال قد قلت لك قال مسلمة فإنه جاء لحيازة أموال آل المهلب قال هذا أعجب من الأول يكون ابن هبيرة على الجزيرة فيعزل عنها ويبعث لحيازة أموال بني المهلب ولم يكتب معه إليك كتاب فلم يلبث حتى أتاه عزل ابن هبيرة عماله والغلظة عليهم؛ فقال الفرزدق:
(راحت بمسلمة البغال عشية * فارعي فزارة لا هناك المرتع)
(عزل ابن بشر وابن عمرو قبله * وأخو هراة لمثلها يتوقع)
يعني بابن بشر عبد الملك بن بشر بن مروان وبابن عمرو محمدا ذا الشامة وبأخي هراة سعيد خذينة.
وأما ابتداء أمر ابن هبيرة حتى ولي العراق فإنه قدم من البادية من بني فزارة فافترض مع بعض ولاة الحرب وكان يقول لأرجو أن لا تنقضي الأيام حتى ألي العراق وسار مع عمرو بن معاوية العقيلي إلى غزو الروم فأوتي بفرس رائع إلا أنه لا يستطاع ركوبه فقال من ركبه فهو له فقام عمر بن هبيرة وتنحى عن الفرس وأقبل حتى إذا كان بحيث تناله رجلاه إذا رمحه وثب فصار على سرجه فأخذ الفرس.
98

فلما خلع مطرف بن المغيرة بن شعبة الحجاج سار عمر بن هبيرة في الجيش الذي حاربوه من الري فلما التقى العسكران التحق ابن هبيرة بمطرف مظهرا أنه معه فلما جال الناس كان ممن قتله وأخذ رأسه وقيل قتله غيره وأخذ هو رأسه وأتى به عديا فأعطاه مالا وأوفده إلى الحجاج بالرأس فسيره الحجاج إلى عبد الملك فاقطعه بيرزه وهي قرية بدمشق وعاد إلى الحجاج فوجهه إلى كردم بن مرثد الفزاري ليخلص منه مالا فأخذه منه وهرب إلى عبد الملك وقال أنا عائذ بالله وبأمير المؤمنين فإنني قتلت ابن عمه مطرف بن المغيرة وأتيت أمير المؤمنين برأسه ثم رجعت فأراد قتلي ولست آمن أن يسبني إلى أمر يكون فيه هلاكي فقال أنت في جواري فأقام عنده فكتب فيه الحجاج إلى عبد الملك يذكر أخذه المال وهربه فقال له أمسك عنه.
وتزوج بعض ولد عبد الملك بنتا للحجاج فكان ابن هبيرة يهدي لها ويبرها وييسر عليها فكتبت إلى أبيها تثني عليه فكتب الحجاج يأمره أن ينزل به حاجاته وعظم شأنه بالشام فلما استخلف عمر بن عبد العزيز استعمله على الجزيرة فلما ولي يزيد بن عبد الملك ورأى ابن هبيرة تحكم حبابة عليه تابع هداياه إليها والى يزيد بن عبد الملك فعملت له في ولاية العراق فولاه يزيد.
وكان ابن هبيرة بينه وبين القعقاع بن خليد العبسي تحاسد فقال القعقاع من يطيق ابن هبيرة حبابة بالليل وهداياه بالنهار فلما ماتت حبابة قال القعقاع:
(هلم فقد ماتت حبابة سلمني * بنفسك يقدمك الذرا والكواهل)
99

(أغرك أن كانت حبابة مرة * تميحك فانظر كيفما أنت فاعل)
في أبيات وكان بينه وبين القعقاع يوما كلام فقال له القعقاع يا ابن اللخناء من قدمك فقال قدمك أنت وأهلك أعجاز الغواني وقدمني صدور العوالي فسكت القعقاع يعني أن عبد الملك قدمهم لما تزوج إليهم فإن أم الوليد وسليمان عبد الملك بن مروان عبسية.
ذكر بعض الدعاة للدولة العباسية
وفي هذه السنة يسر ميسرة رسله من العراق إلى خراسان فظهر أمر الدعاة بها فجاء عمرو بن بحير بن ورقاء السعدي إلى سعيد خذينة فقال له ان ههنا قوما قد ظهر منهم كلام قبيح وأعلمه حالهم فبعث سعيد إليهم فأتي بهم فقال من أنتم قالوا: أناس من التجار قال فما هذا الذي يحكى عنكم قالوا: لا ندري قال جئتم دعاة قالوا: ان لنا في أنفسنا وتجارتنا شغلا عن هذا فقال من يعرف هؤلاء فجاء ناس من أهل خراسان أكثرهم من ربيعة واليمن فقالوا: نحن نعرفهم وهم علينا إن أتاك منهم شيء تكرهه فخلى سبيلهم.
100

ذكر قتل يزيد بن أبي مسلم
قيل: كان يزيد بن عبد الملك قد استعمل يزيد بن أبي مسلم بإفريقية سنة إحدى ومائة وقيل هذه السنة وكان سبب قتله أنه عزم أن يسير فيهم بسيرة الحجاج في أهل الإسلام الذين سكنوا الأمصار ممن كان أصله من السواد من أهل الذمة فأسلم بالعراق فإنه ردهم إلى قراهم ووضع الجزية على رقابهم على نحو ما كانت تؤخذ منهم وهم كفار فلما عزم يزيد على ذلك اجتمع رأيهم على قتله فقتلوه وولوا على أنفسهم الوالي الذي كان عليهم قبل يزيد بن أبي مسلم وهو محمد بن يزيد مولى الأنصار وكان عندهم وكتبوا إلى يزيد بن عبد الملك أنا لم نخلع أيدينا من طاعة ولكن يزيد بن أبي مسلم سامنا ما لا يرضاه الله والمسلمون فقتلناه وأعدنا عاملك فكتب إليهم يزيد بن عبد الملك إني لم ارض ما صنع يزيد بن أبي مسلم وأقر محمد بن يزيد على عمله.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة غزا عمر بن هبيرة الروم من ناحية أرمينية وهو على الجزيرة قبل أن يلي العراق فهزمهم وأسر منهم خلقا كثيرا وقتل سبعمائة أسير وفيها غزا عباس بن الوليد بن عبد الملك الروم فافتتح دلسة.
وحج بالناس هذه السنة عبد الرحمن بن الضحاك وهو عامل المدينة.
101

وكان على مكة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد وكان على الكوفة محمد بن عمرو ذو الشامة وعلى قضائها القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود وعلى البصرة عبد الله بن بشر بن مروان إلى أن عزله عمر بن هبيرة وعلى خراسان سعيد خذينة وعلى مصر أسامة بن زيد.
102

103
ثم دخلت سنة ثلاث ومائة
ذكر استعمال سعيد الحرشي على خراسان
في هذه السنة عزل عمر بن هبيرة سعيد خذينة عن خراسان وكان سبب عزله أن المجشر بن مزاحم السلمي وعبد الله بن عمير الليثي قدما على عمر بن هبيرة فشكوه فعزله واستعمل سعيد بن عمرو الحرشي بالحاء المهملة والشين المعجمة من بني الحريش بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة وكان خذينة [غازيا] بباب سمرقند فبلغه عزله فقفل خذينة وخلف بسمرقند ألف رجل.
وقيل: أن عمر بن هبيرة كتب إلى يزيد بن عبد الملك بأسماء من أبلى يوم العقر ولم يذكر سعيد الحرشي فقال يزيد لم لم يذكر الحرشي وكتب إلى عمر بن هبيرة أن ول الحرشي خراسان فولاه فقدم بين يديه المجشر بن مزاحم السلمي فقال نهار بن توسعة:
(فهل من مبلغ فتيان قومي * بأن النبل ريشت كل ريش)
(وان الله أبدل من سعيد * سعيدا لا المخنث من قريش)
وقدم سعيد الحرشي خراسان فلم يعرض لعمال خذينة وقرأ رجل عهده فلحن فيه فقال صه مهما سمعتم فهو من الكتاب والأمير منه برئ ولما قدم الحرشي خراسان كان الناس بإزاء العدو وكانوا قد نكبوا، فخطبهم
103

وحثهم على الجهاد وقال إنكم لا تقاتلون عدو الإسلام بكثرة ولا بعدة ولكن بنصر الله وعز الإسلام فقولوا لا حول ولا قوة إلا بالله [العلي] العظيم؛ وقال:
(فلست لعامر إن لم تروني * أمام الخيل نطعا بالعوالي)
(وأضرب هامة الجبار منهم * بعضب الحد حودث بالصقال)
(فما أنا بالحروب بمستكين * ولا أخشى مصاولة الرجال)
(أبى لي والدي من كل ذم * وخالي في الحوادث خير خال)
فلما سمع أهل الصغد بقدوم الحرشي خافوا على نفوسهم لأنهم كانوا قد أعانوا الترك أيام خذينة فاجتمع عظماؤهم على الخروج من بلادهم فقال لهم ملكهم لا تفعلوا أقيموا واحملوا خراج ما مضى واضمنوا له خراج ما يأتي وعمارة الأرض والغزو معه إن أراد ذلك واعتذروا مما كان منكم وأعطوه رهائن قالوا: نخاف أن لا يرضى ولا يقبل ذلك منا ولكن نأتي خجنده فنستجير ملكها ونرسل إلى الأمير فنسأله الصفح عما كان منا ونوثق أنه لا يرى أمرا يكرهه فقال أنا رجل منكم والذي أشرت به عليكم خير لكم فأبوا وخرجوا إلى خجندة وأرسلوا إلى ملك فرغانة يسألونه أن يمنعهم وينزلهم مدينته فأراد أن يفعل فقالت أمه لا تدخل هؤلاء الشياطين مدينتك ولكن فرغ لهم رستاقا يكونون فيه فأرسل إليهم سموا رستاقا تكونون فيه
104

حتى أفرغه لكم وأجلوني أربعين يوما وقيل عشرين يوما فاختاروا شعب عصام بن عبد الله الباهلي وكان قتيبة قد خلفه فيهم فقال نعم وليس [لكم] على عقد وجوار حتى تدخلوه وإن أتتكم [العرب] قبل أن تدخلوه لم أمنعكم فرضوا ففرغ لهم الشعب.
ذكر عدة حوادث
قيل: وفي هذه السنة أغارت الترك على اللان وفيها غزا العباس الروم ففتح مدينة يقال لها دسلة وفيها جمعت مكة والمدينة لعبد الرحمن بن الضحاك وفيها ولي عبد الواحد بن عبد الله النضري الطائف وعزل عبد العزيز بن عبد الله بن خالد عنه وعن مكة.
وحج بالناس عبد الرحمن بن الضحاك وكان عامل مكة والمدينة وكان على العراق عمر بن هبيرة وعلى خراسان الحرشي وعلى قضاء الكوفة القاسم بن عبد الرحمن وعلى قضاء عبد الملك بن يعلى.
وفي هذه السنة مات الشعبي وقيل سنة أربع وقيل خمس وقيل سبع ومائة وهو ابن سبع وسبعين سنة وفيها مات يزيد بن الأصم وهو ابن أخت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وقيل مات سنة أربع ومائة وعمره ثلاث وسبعون سنة. وفيها مات أبو بردة بن أبي موسى الأشعري ويزيد بن الحصين
105

بن نمير السكوني وفيها توفي عطاء بن يسار وهو أخو سليمان يسار بالياء المثناة من تحت والسين المهملة وفيها توفيت عمرة بنت عبد الرحمن بن سعيد بن زرارة الأنصارية وهي ابنه سبع وسبعين سنة وفيها توفي مصعب بن سعد بن أبي وقاص ويحيى بن وثاب الأسدي المنقري وعبد العزيز بن حاتم بن النعمان الباهلي وكان عامل عمر بن عبد العزيز على الجزيرة.
106

104
ثم دخلت سنة أربع ومائة
ذكر الوقعة بين الحرشي والصغد
قيل: وفي هذه السنة غزا الحرشي فقطع النهر وسار فنزل في قصر الريح على فرسخين من الدبوسية ولم يجتمع إليه جنده فأمر بالرحيل فقال له هلال بن عليم الحنظلي يا هناه انك وزيرا خيرا منك أميرا لم يجتمع إليك جندك وقد أمرت بالرحيل فعاد وأمر بالنزول وأتاه ابن عمر ملك فرغانة فقال له أن أهل الصغد بخجندة وأخبره بخبرهم
وقال عاجلهم قبل أن يصلوا إلى الشعب فليس لهم جوار علينا حتى يمضي الأجل فوجه معه عبد الرحمن القشيري وزياد بن عبد الرحمن في جماعة ثم ندم بعد ما فصلوا وقال جاءني علج لا أعلم أصدق أم كذب فغررت بجند من المسلمين فارتحل في أثرهم حتى نزل أشروسنة فصالحهم بشيء يسير.
فبينا هو يتعشى إذ أقبل له هذا عطاء الدبوسي وكان مع عبد الرحمن فسقطت اللقمة من يده ودعا بعطاء فقال: ويلك قاتلتم أحدا؟ قال لا. قال: لله الحمد! وتعشى وأخبره بما قدم له، فسار مسرعا حتى لحق القشيري بعد
107

ثلاثة أيام، وسار فلما انتهى إلى خجندة قال له بعض أصحابه ما ترى قال أرى العاجلة قال لا أرى ذلك إن جرح رجل فإلى أين يرجع أو قتل قتيل فإلى من يحمل ولكني أرى النزول والتأني والاستعداد للحرب. فنزل فأخذ في التأهب، فلم يخرج أحد من العدو فجبن الناس الحرشي وقالوا: كان يذكر بشجاعة وديانة صار بالعراق ماق فحمل رجل من العرب فضرب باب خجندة بعمود ففتح الباب وكانوا حفروا في ربضهم وراء الباب الخارج خندقا غطوه بقصب وتراب مكيدة وأرادوا إذا التقوا إذا انهزموا كانوا قد عرفوا الطريق ويشكل على المسلمين ويسقطون في الخندق فلما خرجوا قاتلوهم فانهزموا وأخطأهم الطريق فسقطوا في الخندق وأخرج منهم المسلمين أربعين رجلا وحصرهم الحرشي ونصب عليهم المجانيق فأرسلوا إلى ملك فرغانة أنك غدرت بنا وسألوه أن ينصرهم فقال قد أتوكم قبل انقضاء الأجل ولستم في جواري فطلبوا الصلح وسألوا الأمان وأن يردهم إلى الصغد واشترط عليهم أن يردوا ما في أيديهم من نساء العرب وذراريهم وأن يؤدوا ما كسروا من الخراج ولا يغتالوا أحدا ولا يتخلف منهم بخجندة أحد فإن أحدثوا حدثا حلت دماؤهم.
فخرج إليهم الملوك والتجار من الصغد وترك أهل خجندة على حالهم ونزل عظماء الصغد على الجند الذين يعرفونهم ونزل كارزنج على أيوب بن أبي حسان وبلغ الحرشي انهم قتلوا امرأة ممن كان في أيدهم فقال لهم بلغني أن ثابتا قتل امرأة ودفنها فجحدوا فسأل فإذا الخبر صحيح فدعا بثابت إلى خيمته فقتله فلما سمع كارزنج بقتله خاف أن يقتل وأرسل إلى ابن أخيه ليأتيه بسراويل وكان قد قال لابن أخيه إذا طلبت سراويل فاعلم أنه
108

القتل فبعث به إليهم وخرج واعترض الناس فقتل ناسا وتضعضع العسكر ولقوا منه شرا وانتهى إلى ثابت بن عثمان بن مسعود فقتله ثابت.
وقتل الصغد اسرى عندهم من المسلمين مائة وخمسين رجلا فأخبر الحرشي بذلك فسأل فرأى الخبر صحيحا فأمر بقتلهم وعزل التجار عنهم فقاتلهم الصغد بالخشب ولم يكن لهم سلاح فقتلوا عن آخرهم وكانوا ثلاثة آلاف وقيل سبعة آلاف واصطفى أموال الصغد وذراريهم وأخذ منه ما أعجبه ثم دعا مسلم بن بديل العدوي عدي الرباب وقال وليتك المقسم فقال بعدما عمل فيه عمالك ليلة وله غيري فولاه غيره وكتب الحرشي إلى يزيد بن عبد الملك ولم يكتب إلى عمر بن هبيرة فكان هذا مما أوغر صدره عليه وقال ثابت قطنة يذكر ما أصابوا من عظمائهم:
(أقر العين مصرع كارزنج * وكشكير وما لاقى يباد)
(وديوشتى وما لاقى خلنج * بحصن خجند إذ دمروا فبادوا)
يقال: أن ديوشتي دهقان سمرقند واسمه ديو أشنج فأعربوه وقيل كان على أقباض خجندة علباء بن أحمر اليشكري فاشترى رجل منهم جونة بدرهمين فوجد فيها سبائك ذهب فرجع وقد وضع يده على وجهه كأنه رمد فرد الجونة فأخذ الدرهمين فطلب فلم يعرف.
وسرح الحرشي سليمان بن أبي السري إلى حصن لا يطيف به وادي الصغد إلا عن وجه واحد ومعه خوارزمشاه وصاحب آخرون وشومان فسير سليمان على مقدمته المسيب بن بشر الرياحي فتلقوه على فرسخ فهزمهم حتى
109

ردهم إلى حصنهم فحصرهم فطلب الديوشتى أن ينزل على حكم الحرشي فسيره إليه فأكرمه وطلب أهل القلعة الصلح على أن لا يتعرض لنسائهم وذراريهم ويسلموا القلعة فبعث سليمان إلى الحرشي ليبعث الأمناء لقبض ما في القلعة فبعث من قبضه وباعوه وقسموه.
وسار الحرشي إلى كش وصالحوه على عشرة آلاف رأس وقيل ستة آلاف رأس وسار إلى زرنج فوافاه كتاب ابن هبيرة بإطلاق ديوشنج فقتله وصلبه وولى نصر بن سيار قبض صلح كش واستعمل سليمان بن أبي السري على كشر ونسف حربها وخراجها وكانت خزائن منيعة فقال المجشر للحرشي ألا أدلك على من يفتحها لك بغير قتال قال بلى قال المسربل بن الخريت بن راشد الناجي فوجهه إليها وكان صديقا لملكها واسم الملك سبغرى فأخبر الملك بما صنع الحرشي بأهل خجندة وخوفه قال فما ترى قال أن تنزل بأمان قال فما أصنع بمن لحق بي قال تجعلهم في أمانك فصالحهم فأمنوه وبلاده ورجع الحرشي إلى بلاده ومعه سبغرى فقتل سبغرى وصلب معه الأمان.
ذكر ظفر الخزر بالمسلمين
في هذه السنة دخل جيش للمسلمين بلاد الخزر من أرمينية وعليهم ثبيت النهراني فاجتمعت الخزر في جمع كثير وأعانهم قفجاق وغيرهم من أنواع الترك فلقوا المسلمين في مكان يعرف بمرج الحجارة فاقتتلوا هنالك قتالا شديدة فقتل من المسلمين بشر كثير واحتوت الخزر على عسكرهم وغنموا جميع ما
110

فيه وأقبل المنهزمون إلى الشام فقدموا على يزيد بن عبد الملك وفيهم ثبيت فوبخهم يزيد على الهزيمة فقال يا أمير المؤمنين ما جبنت ولا نكبت عن لقاء العدو ولقد لصقت الخيل بالخيل والرجل بالرجل ولقد طاعنت حنى انقصف رمحي وضاربت حتى انقطع سيفي غير أن الله تبارك وتعالى يفعل ما يريد.
ذكر ولاية الجراح أرمينية وفتح بلنجر وغيرها
لما تمت الهزيمة المذكورة على المسلمين طمع الخزر في البلاد فجمعوا وحشدوا واستعمل يزيد بن عبد الملك الجراح بن عبد الله الحكمي حينئذ على أرمينية وأمده بجيش كثيف وأمره بغزو الخزر وغيرهم من الأعداء وبقصد بلادهم فسار الجراح وتسامع الخزر به فعاد حتى نزلوا بالباب والأبواب ووصل الجراح إلى برذعة فأقام حتى
واستراح هو ومن معه وسار نحو الخزر فعبر نهر الكر فسمع بان بعض من معه من أهل تلك الجبال قد كاتب ملك الخزر يخبره بمسير الجراح إليه فحينئذ أمر الجراح مناديه فنادى في الناس إن الأمير مقيم ههنا عدة أيام فاستكثروا من الميرة فكتب ذلك الرجل إلى ملك الخزر يخبره أن الحجار مقيم ويشير عليه بترك الحركة لئلا يطمع المسلمون فيه.
فلما كان الليل أمر الجراح بالرحيل فسار مجدا حتى انتهى إلى مدينة الباب والأبواب فلم ير الخزر فدخل البلد فبث سراياه في النهب والغارة على ما يجاوره فغنموا وعادوا من الغد وسار الخزر إليه وعليهم ابن ملكهم فالتقوا
111

عند نهر الران واقتتلوا قتالا شديدا، وحرض الجراح أصحابه واشتد القتال فظفروا بالخزر وهزموهم وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون فقتل منهم خلق كثير وغنم المسلمون جميع ما معهم وساروا حتى نزلوا على حصن يعرف الحصين فنزل أهله بالأمان على مال يحملونه فأجابهم ونقلهم عنها.
ثم سار إلى مدينة يقال لها يرغوا فأقام عليها ستة أيام وهو مجد في قتالهم فطلبوا الأمان فأمنهم وتسلم حصنهم ونقلهم منه.
ثم سار الجراح إلى بلنجر وهو حصن مشهور من حصونهم فنازله وكان أهل الحصي قد جمعوا ثلاثمائة عجلة فشدوا بعضها إلى بعض وجعلوها حول حصنهم ليحتموا بها وتمنع المسلمين من الوصول إلى الحصن وكانت تلك العجل أشد شيء على المسلمين في قتالهم فما رأوا الضرر الذي عليهم منها انتدب جماعة منهم نحو ثلاثين رجلا وتعاهدوا على الموت وكسروا جفون سيوفهم وحملوا حملة رجل واحد وتقدموا نحو العجل وجد الكفار في قتالهم ورموا من النشاب ما كان يحجب الشمس فلم يرجع أولئك حتى وصلوا العجل وتعلقوا بها وقطعوا الحبل الذي يمسكها وجذبوها فانحدرت وتبعها سائر العجل لأن بعضها كان مشدودا إلى بعض وانحدر الجميع إلى المسلمين والتحم القتال واشتد وعظم الأمر على الجميع حتى بلغت القلوب الحناجر ثم أن الخزر انهزموا واستولى المسلمون على الحصن عنوة وغنموا جميع ما فيه في ربيع الأول فأصاب الفارس ثلاثمائة دينار وكانوا بضعة وثلاثين ألفا.
ثم أن الجراح أخذ أولاد صاحب بلنجر وأهله وأرسل إليه أحضره ورد إليه أمواله وأهله وحصنه وجعله عينا لهم يخبرهم بما يفعله الكفار.
ثم سار عن بلنجر فنزل على حصن الوبندر وبه نحو أربعين ألف بيت
112

من الترك، فصالحوا الجراح على مال يؤدونه ثم عن أهل تلك البلاد تجمعوا وأخذوا الطرق على المسلمين فكتب صاحب بلنجر إلى الجراح يعلمه بذلك فعاد مجدا حتى وصل إلى رستاق ملى وأدركهم الشتاء فأقام المسلمون به وكتب الجراح إلى يزيد بن عبد الملك يخبره بما فتح الله عليه وبما اجتمع من الكفار ويسأله المدد فوعده إنفاذ العساكر إليه فأدركه أجله قبل إنفاذ الجيش فأرسل هشام بن عبد الملك إلى الجراح أقره على عمله ووعده المدد.
ذكر عزل عبد الرحمن بن الضحاك عن المدينة ومكة
وفي هذه السنة عزل يزيد بن عبد الملك عبد الرحمن بن الضحاك عن المدينة ومكة وكان عامله عليهما ثلاث سنين وولى عبد الواحد النضري.
وكان سبب ذلك أن عبد الرحمن خطب فاطمة بنت الحسين بن علي فقالت مالك ما أريد النكاح ولقد قعدت على بني هؤلاء فألح عليها وقال لئن لم تفعلي لأجلدن أكبر بنيك في الخمر يعني عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي وكان على الديوان بالمدينة ابن هرمز رجل من أهل الشام وقد رفع حسابه ويريد أن يسير إلى يزيد فدخل على فاطمة يودعها [فقال: لها هل من حاجة؟] فقالت تخبر أمير المؤمنين بما ألقى من ابن الضحاك وما يتعرض مني وبعثت رسولا بكتاب إلى يزيد بذلك.
وقدم ابن هرمز على يزيد فاستخبره عن المدينة وقال هل من مغربة خير فلم يذكر شأن فاطمة فقال الحاجب ليزيد بالباب رسول من فاطمة بن الحسين فقال ابن هرمز إنها حملتني رسالة وأخبره بالخبر.
113

فنزل من فراشه وقال لا أم لك عندك هذا ولا تخبرنيه فاعتذر بالنسيان وأذن لرسولها فأدخله وأخذ الكتاب فقرأه وجعل يضرب بخيزران في يده ويقول لقد اجترأ ابن الضحاك هل من رجل يسمعني صوته في العذاب وأنا على فراشي قيل له: عبد الواحد بن عبد الله النضري فدعا بقرطاس فكتب بيده إلى عبد الواحد قد وليتك المدينة فاهبط إليها واعزل عنها ابن الضحاك وغرمه أربعين ألف دينار وعذبه حتى أسمع صوته وأنا على فراشي.
وسار البريد بالكتاب ولم يدخل على ابن الضحاك فأخبر ابن الضحاك فأحضر البريد وأعطاه الف دينار ليخبره خبره فأخبر فسار ابن الضحاك مجدا فنزل على مسلمة بن عبد الملك فاستجاره فحضر مسلمة عند يزيد فطلب إليه حاجة حالة فقال كل حاجة فهي لك إلا ابن الضحاك فقال هي والله ابن الضحاك فقال والله لا أعفيه أبدا ورده إلى المدينة إلى عبد الواحد فعذبه ولقي شرا ثم لبس جبة صوف يسأل الناس.
وكان قدوم النضري في شوال سنة أربع ومائة وكان ابن الضحاك قد آذى الأنصار طرا فهجاه الشعراء وذمه الصالحون ولما وليهم النضري أحسن السيرة فأحبوه وكان خيرا يستشير فيما يريد فعله القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله بن عمر.
ذكر ولادة أبي العباس السفاح
وقيل: وفيها ولد أبو العباس عبد الله بن محمد بن علي بن محمد بن علي في ربيع الآخر وهو السفاح ووصل إلى أبيه محمد بن علي أبو محمد الصادق من خراسان في عدة من أصحابه فأخرج إليهم أبا العباس في خرقة
114

وله خمسة عشر يوما وقال لهم: هذا صاحبكم الذي يتم الأمر على يده فقبلوا أطرافه وقال لهم والله ليتمن الله هذا الأمر حتى تدركوا ثأركم من عدوكم.
ذكر عزل سعيد الحرشي
وفي هذه السنة عزل عمر بن هبيرة سعيدا الحرشي عن خراسان وولاها مسلم بن سعيد بن أسلم بن زرعة الكلابي.
وكان السبب في ذلك ما كان كتبه هبيرة إلى الحرشي بإطلاق الديوشتى فقتله وكان يستخف بابن هبيرة ويذكره بأبي المثنى [ولا يقول الأمير] فيقول: [قال] أبو المثنى وفعل أبو المثنى فبلغ ذلك ابن هبيرة فأرسل جميل بن عمران ليعلم حال الحرشي وأظهر أنه ينظر في الدواوين فلما قدم على الحرشي قال كيف أبو المثنى فقيل له: أن جميلا لم يقدم إلا ليعلم عملك فسم بطيخة وبعث بها إليه فأكلها ومرض وسقط شعره ورجع إلى ابن هبيرة وقد عولج فصح فقال له الأمر أعظم مما بلغك ما يرى الحرشي إلا انك عامل له فغضب وعزله ونفخ في بطنه النمل وعذبه حتى أدى الأموال.
وسمر ليلة ابن هبيرة فقال من سيد قيس فقالوا: الأمير قال دعوا هذا سيد قيس الكوثر بن زفر لو ثور بليل لوافاه عشرون ألفا لا يقولون لم دعوتنا وفارسها هذا الحمار الذي في الحبس وقد أمرت بقتله يعني الحرشي فأما خير قيس لها فعسى أن أكونه. فقال له أعرابي من بني
115

فزارة: لو كنت كما تقول ما أمرت بقتل فارسها فأرسل إلى معقل بن عروة أن كف عن قتله وكان قد سلمه إليه ليقتله وكان ابن هبيرة لما ولي مسلم بن سعيد خراسان أمره بأخذ الحرشي وتقييده وإنفاذه إليه فقدم مسلم دار الإمارة فرأى الباب مغلقا فقيل للحرشي قدم مسلم فأرسل إليه أقدمت أميرا أو وزيرا أو زائرا فقال مثلي لا يقدم زائرا ولا وزيرا فأتاه الحرشي فشتمه وقيده وأمر بحبسه ثم أمر صاحب الحبس أن يزيده قيدا فأخبر الحرشي بذلك فقال لكاتبه اكتب إليه أن صاحب سجنك ذكر انك أمرته أن يزيدني قيدا فإن كان أمرا من فوقك فسمعا وطاعة وإن كان رأيا رأيته فسيرك الحقحقة وهي أشد السير؛ وتمثل:
(فإما تثقفوني فاقتلوني * ومن يثقف فليس له خلود)
(هم الأعداء إن شهدوا وغابوا * أولو الأحقاد والأكباد سود)
فلما هرب ابن هبيرة عن العراق أرسل خالد القسري في طلب الحرشي فأدركه على الفرات فقال ما ظنك بي قال ظني بك انك لا تدفع رجلا من قومك إلى رجل من قيس فقال هو ذاك.
ذكر عدة حوادث
وحج بالناس هذه السنة عبد الواحد بن عبد الله النضري وعلى العراق والمشرق عمر به هبيرة وعلى قضاء الكوفة حسين بن حسن الكندي وعلى قضاء البصرة عبد الملك بن يعلى وفيها مات أبو قلابة الجرمي، وقيل سنة
116

سبع ومائة وعبد الرحمن بن حسان بن ثابت الأنصاري وفيها توفي يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب بن أبي بلتعة وفيها مات عامر بن سعد بن أبي وقاص وفيها توفي موسى بن طلحة بن عبد الله وعمير مولى ابن عباس يكنى أبا عبد الله وخالد بن معدان بن أبي كرب الكلاعي سكن الشام.
117

105
ثم دخلت سنة خمس ومائة
ذكر خروج عقفان
في أيام يزيد بن عبد الملك خرج حروري اسمه عقفان في ثمانين رجلا فأراد يزيد أن يرسل إليه جندا يقاتلونه فقيل له: إن قتل بهذه البلاد اتخذها الخوارج دار هجرة والرأي أن تبعث إلى كل رجل من أصحابه رجلا من قومه يكلمه ويرده ففعل ذلك فقال لهم أهلوهم إنا نخاف أن نؤخذ بكم وأمنوا وبقي عقفان وحده فبعث إليه يزيد أخاه فاستعطفه فرده فلما ولي هشام بن عبد الملك ولاه أمر العصاة فقدم ابنه من خراسان عاصيا فشده وثاقا وبعث به إلى هشام فأطلقه لأبيه وقال لو خاننا عقفان لكتم أمر ابنه واستعمل عقفان على الصدقة فبقي عليها إلى أن توفي هشام.
ذكر خروج مسعود العبدي
وخرج مسعود بن أبي زينب العبدي بالبحرين على الأشعث بن عبد الله بن الجارود ففارق الأشعث البحرين وسار مسعود إلى اليمامة وعليها سفيان
118

ابن عمرو العقيلي ولاه إياها عمر بن هبيرة فخرج إليه سفيان فاقتتلوا بالخضرمة قتالا شديدا فقتل مسعود وأقام بأمر الخوارج بعده هلال بن مدلج فقاتلهم يومه كله فقتل ناس من الخوارج وقتلت زينب أخت مسعود فلما أمسى هلال تفرق عنه أصحابه وبقي في نفر يسير فدخل قصرا فتحصن به فنصبوا عليه السلاليم وصعدوا إليه فقتلوه واستأمن أصحابه فأمنهم وقال الفرزدق في هذا اليوم:
(لعمري لقد سلت حنيفة سلة * سيوفا أبت يوم الوغى أن تغيرا)
(تركن لمسعود وزينب أخته * رداء وسربالا من الموت أحمرا)
(أرين الحروريين يوم لقائهم * ببرقان يوما يجعل الموت أشقرا)
وقيل: أن مسعودا غلب على البحرين واليمامة تسع عشر سنة حتى قتله سفيان بن عمرو العقيلي.
(الخضرمة بكسر الخاء وسكون الضاد المعجمتين وكسر الراء).
ذكر مصعب بن محمد الوالبي
كان مصعب من رؤساء الخوارج وطلبه عمر بن هبيرة وطلب معه مالك بن الصعب وجابر بن سعد فخرجوا واجتمعوا بالخورنق وأمروا عليهم مصعبا ومعه أخته آمنة
وساروا عنه فلما ولي هشام بن عبد الملك واستعمل على العراق خالدا القسري سير إليهم جيشا وكانوا قد صاروا بحزة من أعمال الموصل فالتقوا واقتتلوا فقتل الخوارج وقيل كان قتلهم آخر
119

أيام يزيد بن عبد الملك. فقال فيهم بعض الشعراء:
(فتية تعرف التخشع فيهم * كلهم أحكم القرآن إماما)
(قد برى لحمه التهجد حتى * عاد جلدا مصفرا وعظاما)
(غادروهم بقاع حزة صرعى * فسقى الغيث أرضهم يا إماما)
ذكر موت يزيد بن عبد الملك
في هذه السنة توفي يزيد بن عبد الملك لخمس بقين من شعبان وله أربعون سنة وقيل خمس وثلاثون سنة وقيل غير ذلك وكانت ولايته أربع سنين وشهرا وأياما وكنيته أبو خالد وكان مرضه السل.
وقيل كان سبب موته أن حبابة لما ماتت وجد عليها وجدا شديدا على ما نذكره إن شاء الله تعالى فخرج مشيعا لجنازتها ومعه أخوه مسلمة بن عبد الملك ليسليه ويعزيه فلم يجبه بكلمة وقيل إن يزيد لم يطق الركوب من الجزع وعجز عن المشي فأمر مسلمة فصلى عليها وقيل منعه مسلمة عن ذلك لئلا يرى الناس منه ما يعيبونه به فلما دفنت بقي بعدها خمسة عشر يوما ومات ودفن إلى جانبها وقيل بقي بعدها أربعين يوما لم يدخل عليه أحد إلا مرة واحدة ولما مات صلى عليه أخوه مسلمة وقيل ابنه الوليد وكان هشام بن عبد الملك بحمص.
120

ذكر بعض سيرته
كان يزيد من فتيانهم فقال يوما وقد طرب وعنده حبابة وسلامة القس دعوني أطير فقالت حبابة على من تدع الأمة قال عليك قيل وغنته يوما:
(وبين التراقي واللهاة حرارة * وما تطمئن وما تسوغ فتبردا)
فاهوى ليطير فقالت يا أمير المؤمنين أن لنا فيك حاجة فقال والله لأطيرن فقالت على من تخلف الأمة والملك قال عليك والله وقبل يدها فخرج بعض خدمه وهو يقول سخنت عينك فما أسخفك!
وخرجت معه إلى ناحية الأردن يتنزهان فرماها بحبة عنب فدخلت حلقها فشرقت ومرضت وماتت فتركها ثلاثة أيام لم يدفنها حتى أنتنت وهو يشمها ويقبلها وينظر إليها ويبكي فكلم في أمرها حتى أذن في دفنها وعاد إلى قصره كئيبا حزينا وسمع جاريه له تتمثل بعدها:
(كفى حزنا بالهائم الصب أن يرى * منازل من يهوى معطلة قفرا)
فبكى وبقي يزيد بعد موتها سبعة أيام لا يظهر للناس أشار عليه مسلمة بذلك خاف أنه يظهر منه ما يسفهه عندهم.
وكان يزيد قد حج أيام أخيه سليمان فاشترى حبابة بأربعة آلاف دينار، وكان اسمها العالية وقال سليمان لقد هممت أن احجر على يزيد فردها يزيد فاشتراها رجل من أهل مصر فلما أفضت الخلافة إلى يزيد قالت امرأته
121

سعدة: هل بقي من الدنيا شيء تتمناه؟ قال: نعم حبابة فأرسلت فاشترتها ثم صيغتها وأتت بها يزيدا فأجلستها من وراء الستر وقالت يا أمير المؤمنين هل بقي من الدنيا شيء تتمناه قال قد علمت فرفعت الستر وقالت هذه حبابة وقامت وتركتها عنده فحظيت سعدة عنده وأكرمها. وسعدة بنت عبد الله بن عمرو بن عثمان ولما مات يزيد لم يعلم بموته حتى ناحت سلامة فقالت:
(لا تلمنا إن خشعنا * أو هممنا بخشوع)
(قد لعمري بت ليلي * كأخي الداء الوجيع)
(ثم بات الهم مني * دون من لي بضجيع)
(للذي حل بنا اليو * م من الأمر الفظيع)
(كلما أبصرت ربعا * خاليا فاضت دموعي)
(قد خلا من سيد كا * ن لنا غير مضيع)
ثم نادت وا أمير المؤمنيناه! فعلموا بموته والشعر لبعض الأنصار.
وأخبار يزيد مع سلامة وحبابة كثيرة ليس هذا موضع ذكرها.
وإنما قيل لسلامة [سلامة] القس لأن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار أحد بني جشم بن معاوية بن بكير كان فقيها عابدا مجتهدا في العبادة وكان يسمى القس لعبادته مر يوما بمنزل مولاها فسمع غناءها فوقف يسمعه فرآه مولاها فقال له هل لك أن تنظر وتسمع فأبى وقال أنا أقعدها بمكان لا تراها وتسمع غناءها فدخل معه فغنته فأعجبه غناءها ثم أخرجها مولاها إليه فشغف بها وأحبها وأحبته هي أيضا وكان شابا جميلا فقالت له يوما
122

على خلوة. أنا والله أحبك! قال وأنا والله أحبك فقالت وأحب أن أقبلك قال وأنا والله قالت وأحب أن أضع بطني على بطنك قال وأنا والله قالت فما يمنعك قال قول الله
تعالى: (الاخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين) وأنا أكره أن تؤل خلتنا إلى عداوة ثم قام وانصرف عنها وعاد إلى عبادته وله فيها أشعار منها:
(ألم ترها لا يبعد الله دارها * إذا طربت في صوتها كيف تصنع)
(تمد نظام القول ثم ترده * إلى صلصل من صوتها يترجع)
وله فيها:
(ألا قل لهذا القلب هل أنت مبصر * وهل أنت عن سلامة اليوم مقصر)
(ألا ليت أني حيث صارت بها النوى * جليس لسلمى كلما عج مزهر)
(إذا أخذت في الصوت كاد جليسها * يطير إليها قلبه حين ينظر)
فقيل لها سلامة القس لذلك.
(سلامة بتشديد اللام وحبابة بتخفيف الباء الموحدة).
ذكر خلافة هشام بن عبد الملك
في هذه السنة استخلف هشام بن عبد الملك لليال بقين من شعبان وكان عمره يوم استخلف أربعا وثلاثين سنة وأشهرا وكانت ولادته عام قتل مصعب بن الزبير سنة اثنتين وسبعين، فسماه عبد الملك منصورا، وسمته أمه
123

باسم أبيها هشام بن إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي فلم ينكر عبد الملك ذلك وكانت أمه عائشة بنت هشام حمقاء فطلقها عبد الملك وكانت كنية هشام أبا الوليد واتته الخلافة وهو بالرصافة أتاه البريد بالخاتم والقضيب وسلم عليه بالخلافة فركب منها حتى أتى دمشق.
ذكر ولاية خالد القسري العراق
فيها عزل هشام عمر بن هبيرة عن العراق واستعمل خالد بن عبد لله القسري في شوال.
قال عمر بن يزيد بن عمير الأسيدي دخلت على هشام وخالد عنده وهو يذكر طاعة أهل اليمن فقلت والله ما رأيت هكذا خطأ وخطلا والله ما فتحت فتنة في الاسلام إلا بأهل اليمن هم قتلوا عثمان وهم خلعوا عبد الملك وان سيوفنا لتقطر من دماء أهل المهلب قال فلما قمت تبعني رجل من آل مروان فقال يا أخا بني تميم ورت بك زنادي قد سمعت مقالتك وأمير المؤمنين قد ولى خالدا العراق وليست لك بدار فسار خالد إلى العراق من يومه.
(الأسيدي بضم الهمزة وتشديد الياء هكذا يقوله المحدثون وأما النحاة فإنهم يخففون الياء وهي عند الجميع نسبة إلى عمرو بن أسيد بن عمروا بن تميم بضم الهمزة وتشديد الياء).
124

ذكر دعاة بني العباس
قيل: وفي هذه السنة قدم بكير بن ماهان من السند كان بها مع الجنيد بن عبد الرحمن ترجمانا له فلما عزل الجنيد قدم بكير الكوفة ومعه أربع لبنات من فضة ولبنة من ذهب فلقي أبا عكرمة الصادق وميسرة ومحمد بن خنيس وسالما الأعين وأبا يحيى مولى بني سلمة فذكروا له أمر دعوة بني هاشم فقبل ذلك ورضيه وأنفق ما معه عليهم ودخل إلى محمد بن علي ومات ميسرة فأقامه مقامه.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة غزا الجراح الحكمي اللان حتى جاز ذلك إلى مدائن وحصون وراء بلنجر ففتح بعض ذلك وأصاب غنائم كثيرة وفيها كانت غزوة سعيد بن عبد الملك أرض الروم فبعث سرية في نحو ألف مقاتل فأصيبوا جميعا وفيها غزا مسلم بن سعيد الكلابي أمير خراسان الترك بما وراء النهر فلم يفتح شيئا وقفل فتبعه الترك فلحقوه والناس يعبرون جيحون وعلى الساقة عبيد الله بن زهير بن حيان على خيل تميم فحاموا حتى عبر الناس وغزا مسلم أفشين فصالح أهلها على ستة آلاف رأس ودفع إليها القلعة وذلك لتمام خمس ومائة بعد موت يزيد بن عبد الملك وفيها غزا مروان بن محمد الصائفة اليمني فافتتح قونية من أرض الروم وكمخ.
125

وحج بالناس هذه السنة إبراهيم بن هشام خال هشام بن عبد الملك فأرسل إلى عطاء متى أخطب قال بعد الظهر قبل التروية بيوم فخطب قبل الظهر وقال أخبرني رسولي عن عطاء فقال عطاء ما أمرته إلا بعد الظهر فاستحيا.
وكان هذه السنة على المدينة ومكة والطائف عبد الواحد النضري وكان على العراق وخراسان عمر بن هبيرة وكان على قضاء الكوفة حسين بن حسن الكندي وعلى قضاء البصرة موسى بن أنس.
وفي هذه السنة مات كثير عزة وعكرمة مولى ابن عباس وكان عكرمة زوج أم سعيد بن جبير وفيها مات حميد بن عبد الرحمن بن عوف وقيل سنة خمس وتسعين وهو ابن ثلاث وسبعين سنة وفيها توفي الضحاك بن مزاحم وفيها توفي عبيد بن حسين وهو ابن خمس وسبعين سنة وأبو رجاء العطاردي وأبو عبد الرحمن السلمي وله تسعون سنة واسمه عبد الله بن حبيب بن ربيعة وفيها توفي أخوه عبيد الله بن عمر بن الخطاب أمه صفية أخت المختار وأوصى إليه أبوه وفيها توفي أخوه عبيد الله بن عبد الله بن عمر وهو أخو سالم لأمه أمهما أم ولد وفي أيام يزيد بن عبد الملك توفي أبان بن عثمان بن عفان وكان قد فلج وفيها توفي عمارة بن خزيمة بن ثابت الأنصاري وله خمس وسبعون سنة وفي أيام يزيد بن عبد الملك مات المغيرة بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام المخزومي وعطاء بن يزيد الجندعي الليثي ومولده سنة خمس وعشرين سكن
الشام،
(الجندعي بضم الجيم والدال المهملة المفتوحة والنون وعراك بن مالك الغفاري والدخيثم بن عراك ومورق العجلي.
126

106
ثم دخلت سنة ست ومائة
ذكر الوقعة بين مضر واليمن بخراسان
قيل وفي هذه السنة كانت الوقعة بين المضرية واليمانية بالبروقان من أرض بلخ.
وكان سبب ذلك ان مسلم بن سعيد بن أسلم بن زرعة غزا فتبطأ الناس عنه وكان ممن تبطأ عنه البختري بن درهم فرد مسلم نصر بن سيار وبلعاء بن مجاهد وغيرهما إلى بلخ فأمرهم أن يخرجوا الناس إليه فأحرق نصر باب البختري وزياد بن طريف الباهلي فمنعهم عمرو بن مسلم أخو قتيبة دخول بلخ وكان عليها وقطع مسلم بن سعيد النهر ونزل نصر بن سيار البروقان وأتاه أهل الصغانيان ومسلمة التميمي وحسان بن خالد الأسدي وغيرهما وتجمعت ربيعة والأزد بالبروقان على نصف فرسخ من نصر وخرجت مضر إلى نصر وخرجت ربيعة والأزد إلى عمرو بن مسلم بن عمرو، وأرسلت تغلب إلى عمرو بن مسلم إنك منا وأنشدوه شعرا قاله رجل من باهلة إلى تغلب وكان بنو قتيبة من باهلة فلم يقبل عمرو ذلك وسفر الضحاك بن مزاحم ويزيد بن المفضل الحداني في الصلح وكلما نصرا فانصرف فحمل أصحاب عمرو بن مسلم والبختري على نصر وكر نصر
127

عليهم، فكان أول قتيل رجل من باهلة من أصحاب عمرو بن مسلم في ثمانية عشر رجلا وانهزم عمرو وأرسل يطلب الأمان من نصر فأمنه وقيل أصابوا عمرا في طاحونة فاتوا به نصرا وفي عنقه حبل فأمنه وضربه مائة وضرب البختري وزياد بن طريف مائة مائة وحلق رؤوسهم ولحاهم وألبسهم المسموح.
وقيل إن الهزيمة كانت أولا على نصر ومن معه من مضر فقال عمرو بن مسلم لرجل معه من تميم كيف ترى استاه قومك يا أخا تميم يعيره بذلك ثم كرت تميم فهزمت أصحاب عمرو فقال التميمي لعمرو هذه استاه قومي وقيل كان سبب انهزام عمرو أن ربيعة كانت مع عمرو فقتل منهم ومن الأزد جماعة فقالت ربيعة علام نقاتل اخواننا وأميرنا وقد تقربنا إلى عمرو فأنكر قرابتنا فاعتزلوا فانهزمت الأزد وعمرو ثم أمنهم نصر وأمرهم أن يلحقوا مسلم بن سعيد.
ذكر غزوة مسلم الترك
ثم قطع مسلم النهر ولحق به من لحق من أصحابه فلما بلغ بخارى أتاه كتاب خالد بن عبد الله بولايته العراق ويأمر باتمام غزاته فسار إلى فرغانة فلما وصلها بلغه أن خاقان قد أقبل إليه وأنه في موضع ذكروه فارتحل فسار ثلاث مراحل في يوم واقبل إليهم خاقان فلقي طائفة من المسلمين وأصاب دواب لمسلم وقتل جماعة من المسلمين وقتل المسيب بن بشر الرياحي
128

والبراء وكان من فرسان المهلب وقتل أخو غوزك وثار الناس في وجوههم فأخرجوهم من العسكر ورحل مسلم بالناس فسار ثمانية أيام وهو مطيفون بهم فلما كان التاسعة أرادوا النزول فشاوروا الناس فأشاروا به وقالوا: إذا أصبحنا وردنا الماء [والماء] منا غير بعيد فنزلوا ولم يرفعوا بناء في العسكر وأحرق الناس ما ثقل من الآنية والأمتعة فحرقوا ما قيمته ألف ألف وأصبح الناس فساروا فوردوا النهر وأهل فرغانة والشاش دونه فقال مسلم بن سعيد أعزم على كل رجل الا أخترط سيفه ففعلوا وصارت الدنيا كلها سيوفا فتركوا الماء وعبروا.
فأقام يوما ثم قطع من غد وأتبعهم ابن لخاقان فأرسل إليه حميد بن عبد الله وهو على الساقة قف لي فان خلفي مائتي رجل من الترك حتى أقاتلهم وهو مثقل جراحة فوقف الناس وعطف على الترك فقاتلهم وأسر أهل الصغد وقائدهم وقائد الترك في سبعة ومضى البقية ورجع حميد فرمي بنشابة في ركبته فمات.
وعطش الناس، وكان عبد الرحمن العامري حمل عشرين قربة على إبله فسقاها الناس جرعا جرعا واستسقى مسلم بن سعيد فأتوه بإناء فأخذه جابر وحارثة بن كثير أخو سليمان بن كثير من فيه فقال مسلم دعوه فما نازعني شربتي إلا من حر دخله. وأتوا خجندة، وقد أصابهم مجاعة وجهد، فانتشر الناس، فإذا فارسان يسألان عن عبد الرحمن بن نعيم، فأتياه بعهده
129

على خراسان من أسد بن عبد الله أخي خالد فأقرأه عبد الرحمن مسلما فقال سمعا وطاعة وكان عبد الرحمن أول من اتخذ الخيام في مفازة آمل.
قال الخزرج التغلبي قاتلنا الترك فأحاطوا بنا حتى أيقنا بالهلاك فحمل حوثرة بن يزيد بن الحر بن الحنيف على الترك في أربعة آلاف فقاتلهم ساعة ثم رجع وأقبل نصر سن سيار في ثلاثين فارسا فقاتلهم حتى أزالهم عن مواضعهم فحمل عليهم الناس فانهزم الترك وحوثرة هذا هو ابن أخي رقبة بن الحر.
قيل: وكان عمر بن هبيرة قال لمسلم بن سعيد حين ولاه ليكن حاجبك من صالح مواليك فإنه لسانك والمعبر عنك وعليك بعمال العذر قال وما عمال العذر؟ قال: تأمر أهل كل بلد أن يختاروا لأنفسهم فإن كان خيرا كان لك وإن كان شرا كان لهم دونك وكنت معذورا.
وكان على خاتم مسلم بن سعيد توبة بن أبي سعيد فلما ولي أسد بن عبد الله خراسان جعله على خاتمه أيضا.
ذكر حج هشام بن عبد الملك
وحج بالناس هذه السنة هشام بن عبد الملك وكتب له أول الزناد سنن الحج.
قال أبو الزناد: لقيت هشاما فإني لفي الموكب إذ لقيه سعيد بن عبد الله بن الوليد بن عثمان بن عفان فسار إلى جنبه فسمعه يقول: يا أمير المؤمنين ان الله لم يزل ينعم
على أهل بيت أمير المؤمنين وينصر خليفته المظلوم ولم يزالوا
130

يلعنون في هذه المواطن أبا تراب! فإنها مواطن صالحة وأمير المؤمنين ينبغي له أن يلعنه فيها.
فشق على هشام قوله وقال ما قدمنا لشتم أحد ولا للعنة قدمنا حجاجا ثم قطع كلامه وأقبل علي فسألني عن الحج فأخبرته بما كتبت له قال وشق على سعيد إني سمعته تكلم بذلك وكان منكسرا كلما رآني.
ذكر ولاية خراسان
قيل وفي هذه السنة استعمل خالد بن عبد الله أخاه أسدا على خراسان فقدمها ومسلم بن سعيد [غاز] بفرغانة فلما أتى أسد النهر ليقطعه منعه الأشهب بن عبيد التميمي وكان على السفن بآمل وقال قد نهيت عن ذلك فأعطاه ولاطفه فأبى قال فإني أمير فأذن له فقال أسد اعرفوا هذا حتى نشكره في أمانتنا.
وأتى الصغد فنزل بالمرج وعلى سمرقند هانئ بن هانئ فخرج في الناس يلقى أسدا فرآه على حجر فتفاءل الناس وقالوا: ما عند هذا خير أسد على حجر ودخل سمرقند وبعث رجلين معهما عهد عبد الرحمن بن نعيم على الجند فقدما وسألا عنه وسلما إليه العهد فأتى به مسلما فقال سمعا وطاعة وقفل عبد الرحمن بالناس ومعه مسلم، فقدموا على أسد بسمرقند فعزل هانئا عنها واستعمل عليها الحسن بن أبي العمرطة الكندي.
وقيل للحسن: أن الأتراك قد أتوك في سبعة آلاف. فقال: ما أتونا،
131

نحن أتيناهم وغلبناهم على بلادهم واستعبدناهم ومع هذا فلأدنين بعضكم من بعض ولأقرنن نواصي خيلكم بخيلهم ثم سبهم ودعا عليهم ثم خرج إليهم متباطئا فأغاروا ورجعوا سالمين واستخلف على سمرقند ثابت قطنة فخطب الناس فارتج عليه وقال ومن يطع الله ورسوله فقد ضل فسكت ولم ينطق بكلمة وقال:
(إن لم أكن فيكم خطيبا فإنني * بسيفي إذا جد الوغى لخطيب)
فقيل له: لو قلت هذا على المنبر لكنت أخطب الناس فقال حاجب الفيل اليشكري يعيره بحضرته:
(أبا العلاء لقد لاقيت معضلة * يوم العروبة من كرب وتخنيق)
(تلوي اللسان إذا رمت الكلام به * كما هوى زلق من شاهق النيق)
(لما رمتك عيون الناس ضاحية * أنشأت تجرض لما قمت بالريق)
(أما القران فلا تهدى لمحكمة * من القرآن ولا تهدى لتوفيق)
ذكر استعمال الحر على الموصل
في هذه السنة استعمل هشام الحر بن يوسف بن يحيى بن الحكم بن أبي العاص بن أمية على الموصل وهو الذي بنى المنقوشة دارا يسكنها وإنما سميت المنقوشة لأنها كانت منقوشة بالساج والرخام والفصوص الملونة وما
132

شاكلها، وكانت عند سوق القتابين والشعارين وسوق الأربعاء واما الآن فهي خربة تجاور سوق الأربعاء وهذا الحر الذي عمل النهر الذي كان بالموصل.
وسبب ذلك أنه رأى امرأة تحمل جرة ماء وهي تحملها قليلا ثم تستريح قليلا لبعد الماء فكتب إلى هشام بذلك فأمر بحفر نهر إلى البلد فحفره فكان أكثر شرب أهل البلد منه وعليه كان الشارع المعروف بشارع النهر وبقي العمل فيه عدة سنين ومات الحر سنة ثلاث عشر ومائة.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة كلم إبراهيم بن محمد بن طلحة هشام بن عبد الملك وهو في الحجر فقال له أسألك بالله وبحرمة هذا البيت الذي خرجت معظما له إلا رددت علي ظلامتي. قال: أي ظلامة قال داري قال فأين كنت عن أمير المؤمنين عبد الملك قال ظلمني والله قال فالوليد وسليمان قال ظلماني قال فعمر قال يرحمه الله ردها على قال فيزيد بن عبد الملك قال ظلمني وقبضها مني بعد قبضي لها وهي في يدك فقال هشام لو كان فيك ضرب لضربتك فقال في الله ضرب بالسيف والسوط فانصرف هشام [والأبرش خلفه] فقال: [أبا مجاشع] كيف وجدت هذا الإنسان قال ما أجوده قال هي قريش وألسنتها ولا يزال في الناس بقايا ما رأيت مثل هذا.
وفيها عزل هشام عبد الواحد النضري عن مكة والمدينة والطائف وولى ذلك خاله إبراهيم بن هشام بن إسماعيل فقدم المدينة في جمادى الآخرة فكانت ولاية النضري سنة وثمانية أشهر.
133

وفيها غزا سعيد بن عبد الملك الصائفة وفيها غزا الجراح النضري بن عبد الله اللان فصالح أهلها فأدوا الجزية وفيها ولد عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن عباس في رجب وفيها استقضى إبراهيم بن هشام على المدينة محمد بن صفوان الجمحي ثم عزله واستقضى الصلت الكندي.
وكان العامل على مكة والمدينة والطائف إبراهيم بن هشام المخزومي وكان على العراق وخراسان خالد بن عبد الله القسري البجلي وكان عامل خالد على البصرة على صلاتها عقبة بن عبد الأعلى وعلى شرطتها مالك بن المنذر بن الجارود وعلى قضائها ثمامة بن عبد الله بن أنس.
وحج بالناس هشام بن عبد الملك.
وفيها مات يوسف بن مالك مولى الحضرميين وبكر بن عبد الله المزني.
134

107
ثم دخلت سنة سبع ومائة
ذكر ملك الجنيد بعض بلاد السند وقتل صاحبه جيشبه
في هذه السنة استعمل خالد القسري الجنيد بن عبد الرحمن على السند فنزل شط مهران فمنعه جيشبه بن ذاهر العبور وقال إننا مسلمون فقد استعملني الرجل الصالح يعني عمر بن عبد العزيز على بلادي ولست آمنك فأعطاه رهنا وأخذ منه رهنا بما على بلاده من الخراج ثم إنهما ترادا الرهن وكفر جيشبه وحاربه وقيل لم يحاربه ولكن الجنيد تجنى عليه فأتى الهند فجمع وأخذ السفن واستعد للحرب فسار الجنيد إليه في السفن أيضا فالتقوا فأخذ جيشبة أسيرا وقد جنحت سفينته فقتله وهرب أخوه صصه إلى العراق ليشكو غدر الجنيد فخدعه الجنيد حتى جاء إليه فقتله.
وغزا الجنيد الكرج وكانوا قد نقضوا ففتحها عنوة وفتح أزين والمالبة وغيرهما من ذلك الثغر.
135

ذكر غزوة عنبسة الفرنج بالأندلس
في هذه السنة غزا عنبسة بن سحيم الكلبي عامل الأندلس بلد الفرنج في جمع كثير ونازل مدينة قرقسونة وحصر أهلها فصالحوه على نصف أعمالها وعلى جميع ما في المدينة من أسرى المسلمين وأسلابهم وأن يعطوا الجزية ويلتزموا بأحكام الذمة من محاربة من حاربه المسلمون ومسالمة من سالموه فعاد عنهم عنبسة وتوفي في شعبان سنة سبع ومائة أيضا وكانت ولايته أربع سنين وأربعة أشهر ولما مات استعمل عليهم بشر بن صفوان يحيى بن سلمة الكلبي في ذي القعدة سنة سبع أيضا.
ذكر حال الدعاة لبني العباس
قيل وفيها وجه بكير بن ماهان أبا عكرمة وأبا محمد الصادق ومحمد بن خنيس وعمارا العبادي وزياد خال الوليد الأزرق في عدة من شيعتهم دعاة إلى خراسان فجاء من كندة إلى أسد بن عبد الله فوشى بهم إليه فأتي بأبي عكرمة ومحمد بن خنيس وعامة أصحابه ونجا عمار فقطع أسد أيدي من ظفر به منهم وصلبهم وأقبل عمار إلى بكير بن ماهان فأخبره الخبر فكتب إلى محمد بن علي بذلك فأجابه الحمد لله الذي صدق دعوتكم ومقالتكم وقد بقيت منكم قتلى ستقتل.
136

وفيها قدم مسلم به سعيد إلى خالد بن عبد الله فكان أسد يكرمه بخراسان ولم يعرض له فقدم مسلم وابن هبيرة يريد الهرب فنهاه عن ذلك وقال إن القوم فينا أحسن رأيا منكم فيكم.
* * *
وفيها غزا أسد جبال نمرون ملك غرشستان مما يلي جبال الطالقان، فصالحة نمرون وأسلم على يده وهم يتولون [اليوم] اليمن.
ذكر الخبر عن غزوة الغور
قيل وفي هذه السنة غزا أسد الغور وهو جبال هراة فعمد أهلها إلى أثقالهم فصيروها في كهف ليس إليه طريق فأمر أسد باتخاذ توابيت ووضع فيها الرجال ودلاها بسلاسل فاستخرجوا ما قدروا عليه.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة عزل هشام الجراح بن عبد الله الحكمي عن أرمينية وأذربيجان واستعمل عليها أخاه مسلمة بن عبد الملك فاستعمل عليها مسلمة الحارث
137

بن عمرو الطائي فافتتح من بلاد الترك رستاقا وقرى كثيرة وأثر فيها أثرا حسنا.
وفيها نقل أسد من كان بالبروقان إلى بلخ من الجند وأقطع كل من كان له بالبروقان بقدر مسكنه ومن لم يكن له مسكن أقطعه مسكنا وأراد أن ينزلهم على الأخماس فقيل له إنهم يتعصبون فخلى بينهم وتولى بناء المدينة مدينة بلخ برمك أبو خالد بن برمك وبينها وبين البروقان فرسخان.
وحج بالناس هذه السنة إبراهيم بن هشام وكان عمال الأمصار من تقدم ذكرهم في السنة قبلها.
وفيها مات سليمان بن يسار وعمره ثلاث وسبعون سنة وعطاء بن زيد الليثي وله ثمان وتسعون سنة وقد تقدم ذكر وفاته سنة خمس ومائة.
(يسار بالياء المثناة من تحت وبالسين المهملة).
138

108
ثم دخلت سنة ثمان ومائة
ذكر غزو الختل والغور
قيل: وفي هذه السنة قطع أسد النهر وأتاه خاقان فلم يكن بينهما قتال في هذه الغزوة وقيل عاد مهزوما من الختل وكان أسد قد أظهر أنه يريد يشتو بسرخ دره فأمر الناس فارتحلوا ووجه وراياته وسار في ليلة مظلمة إلى سرخ دره فكبر الناس فقال ما لهم؟ فقالوا: هذه علامتهم إذا قفلوا فقال للمنادي ناد أن الأمير يريد غوريين فمضى إليهم فقاتلوهم يوما وصبروا لهم وبرز رجل من المشركين بين الصفين فقال سالم بن أحوز لنصر بن سيار أنا حامل على هذا العلج فلعلي أقتله فيرضى أسد فحمل عليه فطعنه فقتله ورجع سالم فوقف ثم قال لنصر أنا حامل حملة أخرى فحمل فقتل رجلا آخر وجرح سالم فقال نصر لسالم قف حتى أحمل عليهم فحمل حتى خالط العدو فصرع رجلين ورجع جريحا وقال أترى ما صنعنا يرضيه؟ لا أرضاه الله! قال: لا والله. قال: وأتاهما رسول أسد فقال: يقول لكما الأمير قد رأيت موقفكما وقلة غنائكما عن المسلمين
139

لعنكما الله فقالا: آمين إن عدنا لمثل هذا وتحاجزوا.
ثم عادوا من الغد فاقتتلوا وانهزم المشركون وحوى المسلمون عسكرهم وظهروا على البلاد وأسروا وسبوا وغنموا وقد كان أصاب الناس جوع شديد بالختل فبعث أسد بكبشين مع غلام له وقال بعهما بخمسمائة درهم فلما مضى الغلام قال أسد لا يشتريهما إلا ابن الشخير وكان في المسلحة فدخل حين أمسى فرأى الشاتين في السوق فاشتراهما بخمسمائة فذبح أحدهما وبعث الآخر إلى بعض إخوانه فلما أخبر الغلام أسدا بالقصة بعث إلى ابن الشخير بألف درهم وابن الشخير هذا عثمان بن عبد الله بن الشخير أبو مطرف.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة غزا مسلمة بن عبد الملك الروم مما يلي الجزيرة ففتح قيسارية وهي مدينة مشهورة. وفيها أيضا غزا إبراهيم بن هشام ففتح حصنا من حصون الروم وفيها وجه بكير بن ماهان إلى خراسان جماعة من شيعة بني العباس منهم عمار العبادي فسعى بهم رجل إلى أسد بن عبد الله أمير خراسان فأخذ عمارا فقطع يديه ورجليه ونجا أصحابه فوصلوا إلى بكير فأخبروه بذلك فكتب إلى محمد بن علي بن عبد الله بن عباس فأجابه الحمد لله الذي صدق دعوتكم ونجى شيعتكم وقد تقدم سنة سبع ومائة ذكر هذه القصة وفيها أن عمارا نجا وفي هذه الرواية أن عمارا قطع فلهذا أعدنا ذكرها والله أعلم.
وفيها وقع الحريق بدابق فاحترق المرعى والدواب والرحال وفيها سار
140

ابن خاقان ملك الترك إلى أذربيجان فحصر بعض مدنها فسار إليه الحرث به عمروا الطائي فالتقوا فاقتتلوا فانهزم الترك وتبعهم الحرث حتى عبر نهر أرس فعاد إليه ابن خاقان فقاد الحرب أيضا فانهزم ابن خاقان وقتل من الترك خلق كثير وفيها خرج عباد الرعيني باليمن محكما فقتله أميرها يوسف بن عمر وقتل أصحابه وكانوا ثلاثمائة وفيها غزا معاوية بن هشام بن عبد الملك ومعه ميمون بن مهران على أهل الشام فقطعوا البحر إلى قبرس وغزا في البر مسلمة بن عبد الملك بن مروان وفيها كان بالشام طاعون شديد.
وحج بالناس هذه السنة إبراهيم بن هشام وهو على المدينة ومكة والطائف وكان العمال من تقدم ذكرهم في السنة قبلها.
وفيها مات محمد بن كعب القرظي، وقيل: سنة سبع عشرة، وقيل: أنه ولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفيها مات موسى بن محمد بن علي بن عبد الله والد عيسى ببلاد الروم غازيا وكان عمره سبعا وسبعين سنة وفيها مات القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وكان عمره سبعين سنة وقيل اثنتين وسبعين سنة وكان قد عمي وقيل مات سنة إحدى ومائة وفيها توفي أبو المتوكل علي بن داود الناجي وأبو الصديق الناجي أيضا واسمه بكر بن قيس الناجي (الناجي بالنون والجيم). وأبو نضرة المنذر بن مالك بن قطعة النضري (نضرة بالنون والضاد المعجمة). ومحارب بن دثار الكوفي قاضيها؛ (دثار بكسر الدال المهملة والثاء المثلثة).
141

109
ذكر عزل خالد وأخيه أسد عن خراسان وولاية أشرس
قيل: وفي هذه السنة عزل هشام بن عبد الملك خالد بن عبد الله وأخاه عن خراسان.
وسبب ذلك أن أسدا تعصب حتى أفسد الناس وضرب نصر بن سيار، ونفرا معه بالسياط، منهم عبد الرحمن بن نعيم، وسورة بن الحر، والبختري بن أبي درهم، وعامر بن مالك الحماني وحلقهم وسيرهم إلى أخيه خالد، فكتب إليه: إنهم أرادوا الوثوب بي. فلما قدموا على خالد لام أسدا وعنفه وقال: ألا بعث إلي برؤوسهم؟ فقال نصر:
(بعثت بالعتاب في غير ذنب * في كتاب تلوم أم تميم)
(إن أكن موثقا أسيرا لديهم * في هموم وكربة وسهوم)
(رهن قسر فما وجدت بلاء * كإسار الكرام عند اللئيم)
(أبلغ المدعين قسرا وقسر * أهل عود القناة ذات الوصوم)
142

(هل فطمتم عن الخيانة والغد * ر أم أنتم كالحاكر المستديم)
وقال الفرزدق:
(أخالد لولا الله لم تعط طاعة * ولولا بنو مروان لم يوثقوا نصرا)
(إذا للقيتم عند شد وثاقه * بني الحرب لا كشف اللقاء ولا ضجرا)
وخطب يوما أسد فقال: قبح الله هذه الوجوه وجوه أهل الشقاق والنفاق والشغب والفساد! اللهم فرق بيني وبينهم وأخرجني إلى مهاجري ووطني.
فبلغ فعله هشام بن عبد الملك فكتب إلى خالد اعزل أخاك فعزله فرجع إلى العراق في رمضان سنة تسع ومائة واستخلف على خراسان الحكم بن عوانة الكلبي فأقام الحكم صيفية فلم يغز ثم استعمل هشام أشرس بن عبد الله السلمي على خراسان وأمره أن يكاتب خالدا. وكان أشرس فاضلا خيرا، وكانوا يسمونه الكامل لفضله، فلما قدم خراسان فرحوا به، واستقض أبا المنازل الكندي ثم عزله واستقض محمد بن زيد.
ذكر دعاة بني العباس
قيل: أول من قدم خراسان من دعاة بني العباس زياد أبو محمد مولى همدان في ولاية أسد بعثه محمد بن علي بن عبد الله بن عباس وقال له انزل في اليمن وألطف مضر ونهاه عن رجل من نيسابور يقال له غالب لأنه كان مفرطا في حب بني فاطمة ويقال أول من أتى خراسان بكتاب محمد بن علي حرب بن عثمان مولى بني قيس بن ثعلبة من أهل بلخ، فلما قدم زياد
143

دعا إلى بني العباس وذكر سيرة بني أمية وظلمهم وأطعم الناس الطعام وقدم عليه غالب وتناظرا في تفضيل آل علي وآل العباس وافترقا وأقام زياد بمرو شتوة ويختلف إليه من أهلها يحيى بن عقيل الخزاعي وغيره.
فأخبر به أسد فدعاه وقال له ما هذا الذي بلغني عنك؟ قال: الباطل، إنما قدمت إلى تجارة وقد فرقت مالي على الناس فإذا اجتمع خرجت. فقال له أسد: اخرج عن بلادي فانصرف فعاد إلى أمره فرفع أمره إلى أسد وخوف من جانبه فأحضره وقتله وقتل معه عشرة من أهل الكوفة ولم ينج منهم إلا غلامان استصغرهما وقيل بل أمر بزياد أن يوسط بالسيف فضربوه بالسيف فلم يعمل فيه فكبر الناس فقال أسد ما هذا قيل نبا السيف عنه ثم ضرب أخرى فنبا السيف عنه ثم ضربه الثالثة فقطعه باثنتين وعرض البراءة على أصحابه فمن تبرأ أخلى سبيله فتبرأ اثنان فتركا وأبى البراءة ثمانية فقتلوا.
فما كان الغد أقبل أحدهما إلى أسد فقال أسألك أن تلحقني بأصحابي فقتله وذلك قبل الأضحى بأربع أيام ثم قدم بعدهم رجل من أهل الكوفة يسمى كثيرا فنزل على أبي النجم وكان يأتيه الذين لقوا زيادا فكان على ذلك سنة أو سنتين وكان أميا فقدم عليه خداش واسمه عمارة غلب عليه خداش فغلب كثيرا على أمره.
وقيل في أمر الدعاة ما تقدم.
144

ذكر عدة حوادث
في هذه السنة غزا عبد الله بن عقبة الفهري في البحر وغزا معاوية بن هشام أرض الروم ففتح حصنا يقال له طيبة فأصيب معه قوم من أهل أنطاكية. وفيها قتل عمر بن يزيد الأسيدي قتله مالك بن المنذر بن الجارود وسبب قتله أنه أبلى في قتال يزيد بن المهلب فقال يزيد بن عبد الملك هذا رجل العراق فغاظ ذلك خالد بن عبد الله وأمر مالك بن المنذر وهو على شرط البصرة أن يعظمه ولا يعصي له أمرا وأقبل يطلب له عثرة يقتله بها فذكر مالك بن المنذر بن عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر فافترى عليه فقال عمر بن يزيد لا تفتر على مثل عبد الأعلى فأغلظ له مالك وضربه بالسياط حتى قتله.
(الأسيدي بضم الهمزة وتشديد الياء تحتها نقطتان).
وفيها غزا مسلمة بن عبد الملك الترك من ناحية أذربيجان وسبى وعاد سالما.
وحج بالناس هذه السنة إبراهيم بن هشام، فخطب الناس فقال: اسألوني فإنكم لا تسألون أحدا أعلم مني فسأله رجل من أهل العراق عن الأضحية أواجبة هي فما درى ما يقول فنزل وكان هو العامل على المدينة ومكة والطائف وكان على البصرة والكوفة خالد بن عبد الله القسري وكان قد استخلف على الصلاة بالبصرة أبان بن ضبارة اليثربي، وعلى الشرطة بها بلال
145

ابن أبي بردة، وعلى قضائها ثمامة بن عبد الله بن أنس وعلى خراسان أشرس.
وفي هذه السنة مات أبو مجلز لاحق بن حميد البصري. وفيها غزا بشر بن صفوان عامل إفريقية جزيرة صقلية فغنم شيئا كثيرا ثم رجع من غزاته إلى القيروان وتوفي بها من سنتها فاستعمل هشام بعده عبيدة بن عبد الرحمن بن أبي الأغر السلمي فعزل عبيدة يحيى بن سلمة الكلبي عن الأندلس واستعمل حذيفة بن الأحوص الأشجعي فقدم الأندلس في ربيع الأول سنة عشر ومائة فبقي واليا عليها ستة أشهر ثم عزل ووليها عثمان بن أبي لسعة الخثعمي.
146

110
ثم دخلت سنة عشر ومائة
ذكر ما جرى لأشرس مع أهل سمرقند وغيرها
في هذه السنة أرسل أشرس إلى أهل سمرقند وما وراء النهر يدعوهم إلى الإسلام على أن توضع عنهم الجزية وأرسل في ذلك أبا الصيداء صالح بن طريف مولى بني ضبة والربيع بن عمران التميمي فقال أبو الصيداء إنما أخرج على شريطة أن من أسلم لا تؤخذ منه الجزية إل إنما خراج خراسان على رؤوس الرجال فقال أشرس نعم فقال أبو الصيداء لأصحابه فإني أخرج فإن لم يف العمال أعنتموني عليهم قالوا: فشخص إلى سمرقند وعليها الحس بن العمرطة الكندي على حربها وخراجها فدعا أبو الصيدا أهل سمرقند ومن حولها إلى الإسلام على أن توضع عنهم الجزية فسارع الناس فكتب غوزك إلى أشرس أن الخراج قد انكسر فكتب أشرس إلى ابن العمرطة أن في الخراج قوة للمسلمين وقد بلغني أن أهل الصغد وأشباههم لم يسلموا رغبة إنما أسلموا تعوذا من الجزية فانظر من اختتن وأقام الفرائض وحسن اسلامه وقرأ سورة من القران فارفع خراجه.
ثم عزل أشرس بن العرمطة عن الخراج وصيره إلى هانئ بن هانئ فمنعهم أبو الصيداء من أخذ الجزية ممن أسلم فكتب هانئ إلى أشرس:
147

أن الناس قد أسلموا وبنوا المساجد فكتب أشرس إليه وإلى العمال خذوا الخراج ممن كنتم تأخذونه منه فأعادوا الجزية على من أسلم فامتنعوا واعتزلوا في سبعة آلاف على عدة فراسخ من سمرقند وخرج إليهم أبو الصيداء وربيع بن عمران التميمي والهيثم الشيباني وأبو فاطمة الأزدي وعامر بن قشيراء وبحير الخجندي وبنان العنبري وإسماعيل بن عقبة لينصرهم فعزل أشرس ابن العمرطة عن الحرب واستعمل مكانه المجشر بن مزاحم السلمي على الحرب وضم إليه عميرة بن سعد الشيباني.
فلما قدم المجشر كتب إلى أبي الصيداء يسأله أن يقدم عليه هو وأصحابه فقدم أبو الصيداء وثابت قطنة فحبسهما فقال أبو الصيداء غدرتم ورجعتم عما قلتم فقال له هانئ ليس بغد ما كان فيه حقن الدماء ثم سيروه إلى أشرس واجتمع أصحابه وولوا أمرهم أبا فاطمة ليقاتلوا هانئا فقال لهم كفوا حتى نكتب إلى أشرس فكتبوا إليه فكتب أشرس ضعوا عنهم الخراج فرجع أصحاب أبي الصيداء وضعف أمرهم فتبع الرؤساء فأخذوا وحملوا إلى مرو وبقي ثابت محبوسا فألح هانئ في الخراج واستخفوا بعظماء العجم والدهاقين وأقيموا وتخرقت ثيابهم وألقيت مناطقهم في أعناقهم وأخذوا الجزية ممن أسلم من الضعفاء فكفرت الصغد وبخارى واستجاشوا الترك.
148

ولم يزل ثابت قطنة في حبس المجشر حتى قدم نصر بن سيار إلى المجشر واليا فحمله إلى أشرس فحبسه وكان نصر قد أحصن إليه فقال ثابت يمدحه [بأبيات] يقول فيها:
(ما هاج شوقك من نؤي وأحجار * ومن رسوم عفاها صوب أمطار)
(إن كان ظني بنصر صادقا أبدا * فيما أدبر من نقضي وإمراري)
(لا يصرف الجند حتى يستفئ بهم * نهبا عظيما ويحوي ملك جبار)
(إني وإن كنت من جذم الذي نظرت * منه الفروع وزندي الثاقب الواري)
(لذاكر منك أمرا قد سبقت به * من كان قبلك يا نصر بن سيار)
(ناضلت عني نضال الحر إذ قصرت * دوني العشيرة واستبطأت أنصاري)
(وصار كل صديق كنت آمله * ألبا على ورث الحبل من جاري)
(وما تلبست بالأمر الذي وقعوا * به علي ولا دنست أطماري)
(ولا عصيت إماما كان طاعته * حقا علي ولا قارفت من عار)
وخرج أشرس غازيا فنزل آمل فأقام ثلاثة أشهر وقدم قطن بن قتيبة بن مسلم فعبر النهر في عشرة آلاف فأقبل أهل الصغد وبخارى معهم خاقان والترك فحصروا قطنا في خندقه فأرسل خاقان من أغار على مسرح الناس فأخرج أشرس ثابت قطنة بكفالة عبد الله بن بسطام بن مسعود بن عمرو فوجهه مع عبد الله بن بسطام في خيل فقاتلوا الترك بآمل حتى استنقذوا ما بأيديهم ورجع الترك.
149

ثم عبر أشرس بالناس إلى قطن وبعث أشرس سرية مع مسعود أحد بني حيان فلقيهم العدو فقاتلوهم فقتل رجال من المسلمين وهزم مسعود فرجع إلى أشرس وأقبل العدو فلقيهم المسلمون فجالوا جولة فقتل في تلك الجولة رجال من المسلمين ثم رجع المسلمون وصبروا فانهزم المشركون، وسار أشرس بالناس حتى نزل بكيند فقطع العدو عنهم الماء وأقام المسلمون يوما وليلة وعطشوا فرحلوا إلى المدينة التي قطع العدو [المياه] منها، وعلى المقدمة قطن بن قتيبة فلقيهم العدو فقاتلوهم فجهدوا من العطش فمات منهم سبعمائة فعجز الناس عن القتال فحرض الحرث بن سريج الناس فقال: القتل بالسيف أكرم في الدنيا وأعظم أجرا عند الله من الموت عطشا وتقدم الحرث وقطن في فوارس من تميم فقاتلوا حتى أزالوا الترك عن الماء فابتدره الناس فشربوا واستقوا.
ثم مر ثابت قطنة بعبد الملك بن دثار الباهلي فقال هل لك في الجهاد فقال أمهلني حتى أغتسل وأتحنط فوقف له حتى اغتسل ثم مضيا وقال ثابت لأصحابه أنا أعلم بقتال هؤلاء منكم وحرضهم فحملوا واشتد القتال فقال ثابت قطنة اللهم إني كنت ضيف ابن بسطام البارحة فاجعلني ضيفك الليلة والله لا ينظر إلي بنو أمية مشدودا في الحديدة فحمل وحمل أصحابه فرجع أصحابه وثبت هو فرمى برذونه فشب وضربه فما قدم وضرب ثابت فرتث فقال وهو صريع اللهم إني أصبحت ضيفا لابن
150

بسطام وأمسيت ضيفك فاجعل قراي منك الجنة فقتلوه وقتلوا معه عدة من المسلمين منهم صخر بن مسلم بن النعمان العبدي وعبد الملك بن دثار الباهلي وغيرهما وجمع قطن وإسحاق بن محمد بن حيان خيلا من المسلمين تبايعوا على الموت فحملوا على العدو فقاتلوهم فكشفوهم وركبهم المسلمون يقتلونهم حتى حجزهم الليل وتفرق العدو وأتى أشرس بخارى فحصر أهلها.
(الحارث بن سريج بالسين المهملة والجيم).
ذكر وقعة كمرجه
ثم أن خاقان حصر كمرجه وهي من أعظم بلدان خراسان وبها جمع من المسلمين ومع خاقان أهل فرغانة وأفشينة وطوائف من أهل بخارى فأغلق المسلمون الباب وقطعوا القنطرة التي على الخندق فأتاهم ابن خسرو بن يزدجرد فقال يا معشر العرب لم تقتلون أنفسكم أنا الذي جئت بخاقان ليرد علي مملكتي وأنا آخذ لكم الأمان فشتموه وأتاهم بازغرى في مائتين وكان داهية وكان خاقان لا يخالفه فدنا من المسلمين بأمان وقال لينزل إلي رجل منكم أكلمه بما أرسلني به خاقان فأحضروا يزيد بن سعيد الباهلي وكان يفهم بالتركية يسيرا فقال له إن خاقان أرسلني وهو يقول إني أجعل من عطاؤه منكم ستمائة ألفا ومن عطاؤه ثلاثمائة ستمائة، وهو
151

يحسن إليكم فقال [له] يزيد: كيف تكون العرب وهم ذئاب مع الترك وهم شاء! لا يكون بيننا وبينهم صلح فغضب بازغرى وكان معه تركيان فقالا: ألا تضرب عنقه فقال إنه نزل بأمان وفهم يزيد ما قالا: فخاف فقال بلى إنما تجعلوننا نصفين فيكون نصفنا مع أثقالنا ويسير النصف معكم فإن ظفرتم فنحن معكم وإن كان غير ذلك كنا كسائر مدائن الصغد فرضوا بذلك وقال أعرض على أصحابي هذا وصعد في الحبل فلما صار على السور نادى يا أهل كمرجة اجتمعوا فقد جاءكم قوم يدعونكم إلى الكفر بعد الإيمان فما ترون؟ قالوا: لا نجيب ولا نرضى قال يدعونكم إلى قتال المسلمين مع المشركين قالوا: نموت قبل ذلك فرد بازغرى.
ثم أمر خاقان بقطع الخندق فجعلوا يلقون الحطب الرطب ويلقي المسلمون الحطب اليابس حتى سوى الخندق ليقطعوا إليهم فأشعلوا فيه النيران وهاجت ريح شديدة صنعا من الله فاحترق الحطب وكانوا جمعوه في سبعة أيام في ساعة واحدة.
ثم فرق خاقان على الترك أغناما وأمرهم أن يأكلوا لحمها ويحشوا جلودها ترابا ويكبسوا خندقها ففعلوا ذلك فأرسل الله سحابة فمطرت مطرا شديدا فاحتمل السيل ما في الخندق وألقاه في النهر الأعظم ورماهم المسلمون بالسهام فأصابت بازغرى نشابة في سرته فمات من ليلته فدخل عليهم بموته أمر عظيم فلما امتد النهار جاؤوا بالأسرى الذين عندهم وهم مائة فيهم أبو العوجاء العتكي والحجاج بن حميد النضري فقتلوهم ورموا برأس الحجاج وكان عند المسلمين مائتان من أولاد المشركين رهائن فقتلوهم واستماتوا واشتد القتال.
ولم يزل أهل كمرجة كذلك حتى أقبلت جنود العرب فنزلت فرغانة
152

فعير خاقان أهل الصغد وفرغانة والشاش والدهاقين وقال زعمتم أن في هذه خمسين حمارا وأنا نفتحها في خمسة أيام فصارت الخمسة شهرين وأمرهم بالرحيل وشتمهم فقالوا: ما ندع جهدا فأحضرنا غدا وانظر ما نصنع فلما كان الغد وقف خاقان وتقدم ملك الطاربندة فقاتل المسلمين فقتل منهم ثمانية وجاء حتى وقف على ثلمة إلى جنب بيت فيه مريض من تميم فرماه التميمي بكلوب فتعلق بدرعه ثم نادى النساء والصبيان فجذبوه فسقط لوجهه ورماه رجل بحجر فأصاب أصل أذنه فصرع وطعنه آخر فقتله فاشتد قتله على الترك.
وأرسل خاقان إلى المسلمين أنه ليس من رأينا أن نرتحل عن مدينة نحاصرها دون افتتاحها فترحلوا أنتم عنها فقالوا: له ليس من ديننا أن نعطي بأيدينا حتى نقتل فاصنعوا ما بدا لكم فأعطاهم الترك الأمان أن يرحل خاقان عنهم ويرحلوا هم عنها إلى سمرقند أو الدبوسية فرأى أهل كمرجة ما هم فيه من الحصار فأجابوا إلى ذلك فأخذوا من الترك رهائن أن لا يعرضوا لهم وطلبوا أن كور صول التركي يكون معهم في جماعة ليمنعهم إلى الدبوسية فسلموا إليهم الرهائن واخذوا أيضا من المسلمين رهائن وارتحل خاقان عنهم ثم رحلوا هم بعده.
فقال الأتراك الذين مع كور صول إن بالدبوسية عشرة آلاف مقاتل ولا نأمن من أن يخرجوا علينا فقال لهم المسلمون ان قاتلوكم قاتلناهم معكم.
فساروا فلما صار بينهم وبين الدبوسية فرسخ نظر أهلها إلى الفرسان فظنوا
153

ان كمرجة فتحت وان خاقان قد قصدهم فتأهبوا للحرب فأرسل المسلمون إليهم يخبرونهم خبرهم فلقوهم وحملوا من كان يضعف عن المشي ومن كان مجروحا فلما بلغ المسلمون الدبوسية أرسلوا إلى من عنده الرهائن يعلمونه بوصولهم ويأمرونه باطلاقهم فجعلت الأعرب تطلق رجلا من الرهن والترك رجلا حتى بقي سباع بن النعمان مع الترك ورجل من الترك عند العرب وجعل كل فريق يخاف من صاحبه الغدر فقال سباع خلوا رهينة الترك فخلوه وبقي سباع مع الترك فقال له كور صول ما حملك على هذا قال وثقت بك وقلت ترفع نفسك عن الغدر فوصله كور صول وأعطاه سلاحه وبرذونا وأطلقه.
وكان مدة حصار كمرجة ثمانية وخمسين يوما فيقال إنهم لم يسقوا إبلهم خمسة وثلاثين يوما.
ذكر ردة أهل كردر
في هذه السنة ارتد أهل كردر فأرسل إليهم أشرس جندا فظفروا بهم فقال عرفجة:
(ونحن كفينا أهل مرو وغيرهم * ونحن نفينا الترك عن أهل كردر)
(فإن تجعلوا ما قد غنمنا لغيرنا * فقد يظلم المرء الكريم فيصبر)
154

ذكر عدة حوادث
في هذه السنة جمع خالد القسري الصلاة والأحداث والشرط والقضاء بالبصرة لبلال بن أبي بكرة وعزل ثمامة عن القضاء.
وفيها غزا مسلمة الترك من باب اللان فلقي خاقان في جموعه فاقتتلوا قريبا من شهر وأصابهم مطر شديد فانهزم خاقان وانصرف ورجع مسلمة فسلك على مسلك ذي القرنين وفيها غزا معاوية الروم ففتح صملة وفيها غزا الصائفة عبد الله بن عقبة الفهري وكان على جيش البحر عبد الرحمن بن معاوية بن حديج، (بضم الحاء وفتح الدال المهملتين).
وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بن إسماعيل فكان العمال على البلاد هذه السنة من تقدم ذكرهم في السنة التي قبلها.
وفيها مات الحسن البصري وله سبع وثمانون سنة ومحمد بن سيرين وهو ابن إحدى وثمانين سنة وفيها أعني سنة عشر ومائة مات الفرزدق الشاعر وله إحدى وتسعون سنة وجرير [بن] الخطفي الشاعر.
155

111
ثم دخلت سنة إحدى عشرة ومائة
ذكر عزل أشرس عن خراسان واستعمال الجنيد
في هذه السنة عزل هشام أشرس بن عبد الله عن خراسان.
وكان سبب ذلك أن شداد بن خليد الباهلي شكاه إلى هشام. واستعمل الجنيد بن عبد الرحمن على خراسان وهو الجنيد بن عبد الرحمن بن عمرو بن الحرث بن خارجة بن
سنان بن أبي حارثة المري وكان سبب استعماله انه أهدى لأم حكيم بنت يحيى بن الحكم امرأة هشام قلادة من جوهر فأعجبت هشاما فأهدى لهشام قلادة أخرى فاستعمله وحمله على ثمانية من البريد فسأله أكثر من تلك الدواب فلم يفعل فقدم خراسان في خمسمائة وسار إلى ما وراء النهر وسار معه حطاب بن محرز السلمي خليفة أشرس بخراسان وقطعا النهر وأرسل الجنيد إلى أشرس وهو يقاتل أهل بخاري والصغد أن أمدني بخيل وخاف أن يقتطع دونه فوجه إليه أشرس عامر بن مالك الحماني فلما كان عامر ببعض الطريق عرض له الترك والصغد فدخل حائطا حصينا وقاتلهم على الثلمة ومعه ورد بن زياد بن أدهم بن كلثوم ابن أخي الأسود بن كلثوم وواصل بن عمرو القيسي فخرج واصل وعاصم بن عمير السمرقندي ومعهما غيرهما فاستداروا حتى صاروا من وراء الماء الذي هناك ثم جمعوا قصبا وخشبا وعبروا عليه،
156

فلم يشعر خاقان إلا والتكبير من خلفه، وحمل المسلمون على الترك فقاتلوهم فقتلوا عظيما من عظمائهم وانهزم الترك. وسار عامر إلى الجنيد فلقيه وأقبل معه وعلى مقدمة الجنيد عمارة بن حريم فلما انتهى إلى فرسخين من بيكند تلقته خيل الترك فقاتلهم فكاد الجنيد يهلك ومن معه ثم أظهره الله وسار حتى قدم العسكر فظفر الجنيد وقتل الترك وزحف إليه خاقان فالتقوا دون رزمان من بلاد سمرقند وقطن بن قتيبة على ساقة الجنيد فأسر الجنيد من الترك ابن أخي خاقان في هذه الغزاة فبعث به إلى هشام.
وكان الجنيد قد استخلف في غزوته هذه مجشر بن مزاحم السلمي على مرو وولى سورة بن الحر التميمي بلخ وأوفد لما أصاب في وجهه هذا وفدا إلى هشام ورجع الجنيد إلى مرو وقد ظفر فقال خاقان هذا غلام مترف هزمني العام وأنا مهلكه في قابل.
واستعمل الجنيد عماله ولم يستعمل الا مضريا استعمل قطن بن قتيبة على بخارى والوليد بن القعقاع العبسي على هراة وحبيب بن مرة العبسي على شرطته وعلى بلخ مسلم بن عبد الرحمن الباهلي وكان عليها نصر بن سيار وكان ما بينة وبين الباهليين متباعدا لما كان بينهم بالبروقان وأرسل مسلم إلى نصر فصادفوه نائما فجاؤوا به في قميص ليس عليه سراويل ملببا فقال شيخ من مضر جئتم به على هذه الحال فعزل الجنيد مسلما عن بلخ واستعمل يحيى بن ضبيعة واستعمل على خراج سمرقند شداد بن خليد الباهلي.
157

ذكر عدة حوادث
في هذه السنة غزا معاوية بن هشام الصائفة اليسرى وغزا سعيد بن هشام الصائفة اليمنى حتى أتى قيسارية وغزا في البحر عبد الله بن أبي مريم واستعمل هشام على عامة الناس من الشام ومصر الحكم بن قيس بن مخرمة بن عبد المطلب بن عبد مناف.
وفيها سارت الترك إلى أذربيجان فلقيهم الحرث بن عمرو فهزمهم وفيها استعمل هشام الجراح بن عبد الله الحكمي على أرمينية وعزل أخاه مسلمة بن عبد الملك فدخل بلاد الخزر من ناحية تفليس ففتح مدينتهم البيضاء وانصرف سالما فجمعت الخزر وحشدت وسارت إلى بلاد الاسلام وكان ذلك سبب قتل الجراح على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وفيها عزل عبيدة بن عبد الرحمن عامل إفريقية عثمان بن لسعة عن الأندلس واستعمل بعده الهيثم بن عبيد الكناني وقدمها في المحرم سنة إحدى عشرة ومائة وتوفي في ذي الحجة من السنة فكانت ولايته عشرة أشهر.
وحج بالناس هذه السنة إبراهيم بن هشام المخزومي فكان العمال من تقدم ذكرهم إلا خراسان كان بها الجنيد وكان بأرمينية الجراح بن عبد الله.
158

112
ثم دخلت سنة اثنتي عشرة ومائة
ذكر قتل الجراح الحكمي
في هذه السنة قتل الجراح بن عبد الله الحكمي وسبب ذلك ما ذكرناه قبل من دخوله بلاد الخزر وانهزامهم فلما هزمهم اجتمع الخزر والترك من ناحية اللان فلقيهم الجراح بن عبد الله فيمن معه من أهل الشام فاقتتلوا أشد قتال رآه الناس فصبر الفريقان وتكاثرت الخزر والترك على المسلمين فاستشهد الجراح ومن كان معه بمرج أردبيل فكان قد استخلف أخاه الحجاج بن عبد الله على أرمينية.
ولما قتل الجراح طمع الخزر وأوغلوا في البلاد حتى قاربوا الموصل وعظم الخطب على المسلمين.
وكان الجراح خيرا فاضلا من عمال عمر بن عبد العزيز ورثاه كثير من الشعراء وقيل كان قتله ببلنجر.
ولما بلغ هشاما خبره دعا سعيدا الحرشي فقال له بلغني أن الجراح قد انحاز عن المشركين قال كلا يا أمير المؤمنين الجراح أعرف بالله من أن ينهزم ولكنه قتل قال فما رأيك قال تبعثني على أربعين دابة من دواب البريد ثم تبعث إلي كل يوم أربعين رجلا ثم اكتب إلى أمراء
159

ففعل ذلك هشام، وسار الحرشي فكان لا يمر بمدينة إلا ويستنهض أهلها فيجيبه من يريد الجهاد ولم يزل كذلك حتى وصل إلى مدينة أرزن فلقيه جماعة من أصحاب الجراح وبكوا وبكى لبكائهم وفرق فيهم نفقة وردهم معه وجعل لا يلقاه أحد من أصحاب الجراح إلا رده معه ووصل إلى خلاط وهي ممتنعة عليه فحصرها أيضا وفتحها وقسم غنائمها في أصحابه ثم سار عن خلاط وفتح الحصون والقلاع شيئا بعد شيء إلى أن وصل إلى برذعة فنزلها.
وكان ابن خاقان بومئذ بأذربيجان يغير وينهب ويسبي ويقتل وهو محاصر مدينة ورثان فخاف الحرشي أن يملكها فأرسل بعض أصحابه إلى أهل ورثان سرا يعرفهم وصولهم ويأمرهم بالصبر فسار القاصد ولقيه بعض الخزر فأخذوه وسألوه عن حاله فأخبرهم وصدقهم فقالوا: له إن فعلت ما نأمرك به أحسنا إليك وأطلقناك وإلا قتلناك قال فما الذي تريدون قالوا: تقول لأهل ورثان إنكم ليس لكم مدد ولا من يكشف ما بكم وتأمرهم بتسليم البلد إلينا فأجابهم إلى ذلك.
فلما قارب المدينة وقف بحيث يسمع أهلها كلامه فقال لهم أتعرفونني قالوا: نعم أنت فلان قال فإن الحرشي قد وصل إلى مكان كذا في عساكر كثيرة وهو يأمركم بحفظ البلد والصبر ففي هذين اليومين يصل إليكم فرفعوا أصواتهم بالتكبير والتهليل.
وقتلت الخزر ذلك الرجل ورحلوا عن مدينة ورثان فوصلها الحرشي في العساكر وليس عندها أحد فارتحل يطلب الخزر إلى أردبيل فسار الخزر
160

عنها ونزل الحرشي باجروان فأتاه فارس على فرس أبيض فسلم عليه وقال له هل لك أيها الأمير في الجهاد والغنيمة قال كيف لي بذلك قال هذا عسكر الخزر في عشرة آلاف ومعهم خمسة آلاف من المسلمين أسارى وسبايا وقد نزلوا على أربعة فراسخ.
فسار الحرشي ليلا فوافاهم آخر الليل وهم نيام ففرق أصحابه في أربع جهات فكبسهم مع الفجر ووضع المسلمون فيهم السيف فما بزغت الشمس حتى قتلوا أجمعون غير رجل واحد وأطلق الحرشي من معهم من المسلمين وأخذهم إلى باجروان فلما دخلها أتاه ذلك الرجل صاحب الفرس الأبيض فسلم وقال هذا جيش للخزر ومعهم أموال للمسلمين وحرم الجراح وأولادهم بمكان كذا فسار الحرشي إليهم فما شعروا إلا والمسلمون معهم فوضعوا فيهم السيف فقتلوهم كيف شاؤوا ولم يفلت منهم الخزر إلا الشريد واستنقذوا من معهم من المسلمين والمسلمات وغنموا أموالهم وأخذ أولاد الجراح فأكرمهم وأحسن إليهم وحمل الجميع إلى باجروان.
وبلغ خبر ما فعله الحرشي بعساكر الخزر بابن ملكهم فوبخ عساكره وذمهم ونسبهم إلى العجز والوهن فحرض بعضهم بعضا وأشاروا عليه بجمع أصحابه والعود إلى قتال الحرشي فجمع أصحابه من نواحي أذربيجان فاجتمع معه عساكر كثيرة وسار الحرشي إليه فالتقيا بأرض برزند واقتتل الناس أشد قتال وأعظمه فانحاز المسلمون يسيرا فحرضهم الحرشي فأمرهم بالصبر فعادوا إلى القتال وصدقوهم الحملة واستغاث من مع الخزر من الأسارى ونادوا بالتكبير والتهليل والدعاء فعندها حرض المسلمون بعضهم بعضا ولم يبق أحد إلا وبكى رحمة للأسرى واشتدت نكايتهم في العدو فولوا الأدبار
161

منهزمين وتبعهم المسلمون حتى بلغوا بهم نهر أرس وعادوا عنهم وحووا ما في عساكرهم من الأموال والغنائم وأطلقوا الأسرى والسبايا وحملوا الجميع إلى باجروان.
ثم ان ابن ملك الخزر جمع من لحق به من عساكره وعاد بهم نحو الحرشي فنزل على نهر البيلقان وبلغ الخبر الحرشي فسار نحوه في عساكر المسلمين فوافاهم على نهر البيلقان فالتقوا هناك فصاح الحرشي بالناس فحملوا حملة صادقة ضعضعوا صفوف الخزر وتابع الحملات وصبر الخزر صبرا عظيما ثم كانت الهزيمة عليهم فولوا الأدبار منهزمين وكان من غرق منهم في النهر أكثر ممن قتل.
وجمع الحرشي الغنائم وعاد إلى باجروان فقسمها وأرسل الخمس إلى هشام بن عبد الملك وعرفه ما فتح الله على المسلمين فكتب إليه هشام يشكره وأقام بباجروان فأتاه كتاب هشام يأمره بالمسير إليه واستعمل أخاه مسلمة بن عبد الملك على أرمينية وأذربيجان فوصل إلى البلاد وسار إلى الترك في شتاء شديد حتى جاز البلاد في آثارهم.
ذكر وقعة الجنيد بالشعب
في هذه السنة خرج الجنيد غازيا يريد طخارستان، فوجه عمارة بن حريم إلى طخارستان في ثمانية عشر ألفا ووجه إبراهيم بن بسام الليثي في عشرة آلاف إلى وجه آخر وجاشت الترك فأتوا سمرقند وعليها سورة بن الحر فكتب سورة إلى الجنيد أن خاقان جاش الترك فخرجت إليهم
162

فلم أطق [أن] أمنع حائط سمرقند، فالغوث الغوث!
فأمر الجنيد الناس بعبور النهر فقام اليه المجشر بن مزاحم السلمي وابن بسطام الأزدي وغيرهما وقالوا: إن الترك ليسوا كغيرهم لا يلقونك صفا ولا زحفا وقد فرقت جندك فمسلم به عبد الرحمن بالبيروزكوه والبختري بهراة وعمارة بن حريم غائب بطخارستان وصاحب خراسان لا يعبر النهر في أقل من خمسين ألفا فاكتب إلى عمارة فليأتك وامهل ولا تعدل قال فكيف بسورة ومن معه من المسلمين لو لم أكن إلا في بني مرة أو من طلع معي من الشام لعبت وقال شعرا:
(أليس أحق الناس أن يشهد الوغى * وأن يقتل الأبطال ضخما على ضخم)
وقال:
(ما علتي ما علتي ما علتي * إن لم أقتلهم فجزوا لمتي)
وعبر الجنيد فنزل كش وتأهل للمسير بلغ الترك فعوروا الآبار التي في طريق كش فقال الجنيد أي طريق إلى سمرقند أصلح فقالوا: طريق المحترقة فقال المجشر القتل بالسيف أصلح من القتل بالنار طريق المحترقة كثير الشجر والحشيش ولم يزرع منذ سنين فان لقينا خاقان أحرق ذلك كله فقتلنا بالنار والدخان ولكن خذ طريق العقبة فهو بيننا وبينهم سواء فأخذ الجنيد طريق العقبة فارتقى في الجبل فاخذ المجشر بعنان دابته وقال انه كان يقال ان رجلا مترفا من قيس يهلك على يديه جند من جنود خراسان وقد خفنا أن تكونه فقال ليفرخ روعك قال أما ما كان بيننا مثلك فلا فبات في أصل العقبة ثم سار بالناس حتى صار بينه وبين سمرقند أربع فراسخ
163

ودخل الشعب فصبحه خاقان في جمع عظيم وزحف إليه أهل الصغد وفرغانة والشاش وطائفة من الترك فحمل خاقان على المقدمة وعليها عثمان بن عبد الله بن الشخير فرجعوا إلى العسكر والترك تتبعهم وجاؤوهم من كل وجه فجعل الجنيد تميما والأزد في الميمنة وربيعة في الميسرة مما يلي الجبل وعلى مجففة خيل بني تميم عبيد الله بن زهير بن حيان وعلى المجردة عمرو بن جرقاش المنقري وعلى جماعة بني تميم بن مالك الحماني وعلى الأزد عبد الله بن بسطام بن مسعود بن عمرو وعلى المجففة والمجردة فضيل بن هناد وعبد الله بن حوذان.
فالتقوا، وقصد العدو الميمنة لضيق الميسرة فترجل حسان بن عبيد الله بن زهير بين يدي أبيه فأمره أبوه بالركوب فركب وأحاط العدو بالميمنة فأمدهم الجنيد بنصر بن سيار فشد هو ومن معه على العدو فكشفوهم ثم كروا عليهم وقتلوا عبيد الله بن زهير وابن جرقاش والفضيل ين هناد وجالت الميمنة والجنيد واقف في القلب فأقبل إلى
الميمنة ووقف تحت راية الأزد وكان قد جفاهم فقال له صاحب الراية ما هلكنا فجئت لتكرمنا ولكنك علمت أنه لا يوصل إليك ومنا رجل حي فإن ظفرنا كان لك وإن هلكنا لم تبك علينا وتقدم فقتل وأخذ الراية ابن مجاعة فقتل وتداولها ثمانية عشر رجلا فقتلوا وقتل يومئذ من الأزد ثمانون رجلا.
وصبر الناس يقاتلون حتى أعيوا فكانت السيوف لا تقطع شيئا فقطع عبيدهم الخشب يقاتلون به حتى مل الفريقان فكانت المعانقة ثم تحاجزوا وقتل من الأزد عبد الله بن بسطام ومحمد بن عبد الله بن حوذان والحسن بن شيخ والفضيل صاحب الخيل ويزيد بن الفضل الحداني وكان قد حج فأنفق في حجته ثمانين ومائة ألف وقال لأمه وحشية ادعي الله أن يرزقني الشهادة فدعت له وغشي عليها فاستشهد بعد مقدمه من الحج بثلاثة عشر
164

يوما وقتل النضر ين راشد العبدي وكان قد دخل على امرأته والناس يقتتلون فقال لها كيف أنت إذا أتيت [بأبي ضمرة] في لبد مضرجا بالدم؟ فشقت جيبها ودعت بالويل فقالت له حسبك لو أعولت على كل أنثى لعصيتها شوقا إلى الحور العين فرجع وقاتل حتى استشهد رحمه الله.
فبينا الناس كذلك إذ أقبل رهج وطلعت فرسان فنادى منادي الجنيد الأرض الأرض فترجل وترجل الناس ثم نادى ليخندق كل قائد على حياله فخندقوا وتحاجزوا وقد أصيب من الأزد مائة وتسعون رجلا وكان قتالهم يوم الجمعة فلما كان يوم السبت قصدهم خاقان وقت الظهر فم ير موضعا للقتال أسهل من موضع بكر بن وائل وعليهم زياد بن الحرث فقصدهم فلما قربوا حملت بكر عليهم فأفرجوا لهم فسجد الجنيد واشتد القتال بينهم.
ذكر مقتل سورة بن الحر
فلما اشتد القتال ورأى الجنيد شدة الامر استشار أصحابه فقال له عبيد الله بن حبيب اختر إما أن تهلك أنت أم سورة بن الحر قال هلاك سورة أهون علي قال فاكتب إليه فليأتك في أهل سمرقند فإنه إذا بلغ الترك إقباله توجهوا إليه فقاتلوه فكتب إليه الجنيد يأمره بالقدوم وقال حليس بن غالب الشيباني إن الترك بينك وبين الجنيد فإن خرجت كروا
165

عليك فاختطفوك فكتب إلى الجنيد إني لا أقدر على الخروج فكتب إليه الجنيد يا ابن اللخناء تخرج وإلا وجهت إليك شداد بن خليد الباهلي وكان عدوه فأخرج والزم الماء ولا تفارقه فاجمع على المسير وقال إذا سرت على النهر لا أصل في يومين وبيني وبينه في هذا الوجه ليلة فإذا سكت الرجل سرت.
فجاءت عيون الأتراك فأخبروهم بمقالة سورة ورحل سورة واستخلف على سمرقند موسى بن أسود الحنظلي وسار في اثني عشر ألفا فأصبح على رأس جبل فتلقاه خاقان حين أصبح وقد سار ثلاثة فراسخ وبينه وبين الجنيد فرسخ فقاتلهم واشتد القتال وصبروا فقال غوزك لخاقان اليوم حار فلا نقاتلهم حتى يحمي عليهم السلاح فواقفهم وأشعل النار في الحشيش وحال بينهم وبين الماء فقال سورة لعبادة ما ترى يا أبا سليم فقال أرى أن الترك يريدون الغنيمة فاعقر الدواب وأحرق المتاع وجرد السيف فإنهم يخلون لنا الطريق وإن منعونا شرعنا الرماح ونزحف زحفا وإنما هو فرسخ حتى نصل إلى العسكر فقال لا أقوى على هذا ولا فلان وفلان وعد رجالا ولكن أرى أن أجمع الخيل فأصكهم بها سلمت أم عطبت.
وجمع الناس وحملوا فانكشفت الترك وثار الغبار فلم يبصروا ومن وراء الترك لهب فسقطوا فيه وسقط العدو والمسلمون وسقط سورة فاندقت فخذه وتفرق الناس فقتلهم الترك ولم ينج منهم غير ألفين ويقال ألف وكان ممن نجا منهم عاصم بن عمير السمرقندي، واستشهد حليس بن غالب الشيباني، وانحاز المهلب بن زياد العجلي في سبعمائة إلى رستاق يسمى المرغاب فنزلوا قصرا هناك فأتاهم الأشكند صاحب نسف [في خيل] ومعه غوزك فأعطاهم غوزك الأمان فقال قريش بن عبد الله العبدي: لا تثقوا
166

بهم ولكن إذا جننا الليل خرجنا عليهم حتى نأتي سمرقند فعصوه فنزلوا بالأمان فساقهم إلى خاقان فقال لا أجيز أمان غوزك فقاتلهم الوجف بن خالد والمسلمون فأصيبوا غير سبعة عشر رجلا فقتلوا غير ثلاثة.
وقتل سورة في اللهب، فلما قتل خرج الجنيد من الشعب يريد سمرقند مبادرا فقال له خالد بن عبيد الله سر وأسرع فقال له المجشر انزل وأخذ بلجام دابته فنزل ونزل الناس معه فلم يستتم نزولهم حتى طلع الترك فقال المجشر له لو لقونا ونحن نسير ألم يهلكونا فلما أصبحوا تناهضوا فجال الناس فقال الجنيد أيها الناس إنها النار فرجعوا ونادى الجنيد أي عبد قاتل فهو حر فقاتل العبيد قتالا عجب منه الناس فسروا بما رأوا من صبرهم وصبر الناس حتى انهزم العدو ومضوا فقال موسى بن التعراء [للناس]: تفرحون بما رأيتم من العبيد! إن لكم منهم ليوما أروزبان.
ومضى الجنيد إلى سمرقند فحمل عيال من كان مع سورة إلى مرو وأقام بالصغد أربعة أشهر وكان صاحب رأي خراسان في الحرب المجشر بن مزاحم وعبد الرحمن بن صبح الخرقي وعبيد الله بن حبيب الهجري وكان المجشر ينزل الناس على راياتهم ويضع المسالح ليس لأحد مثل رأيه في ذلك وكان عبد الرحمن إذا نزل الأمر العظيم في الحرب لم يكن لأحد مثل رأيه وكان عبيد الله على تعبية القتال وكان رجال من الموالي مثل هؤلاء في الرأي والمشورة والعلم بالحرب فمنهم الفضل بن بسام مولى بني ليث وعبد الله بن أبي عبد الله ولي بني سليم والبختري بن مجاهد مولى شيبان.
فلما انصرف الترك بعث الجنيد نهار بن توسعة أحد بني تيم اللات،
167

وزبل بن سويد المري إلى هشام وكتب إليه أن سورة عصاني أمرته بلزوم الماء فلم يفعل فتفرق عنه أصحابه فأتتني طائفة [إلى كش] وطائفة إلى نسف وطائفة إلى سمرقند وأصيب سورة في بقية أصحابه.
فسأل هشام نهار بن توسعة عن الخبر فأخبره بما شهد وكتب هشام إلى الجنيد قد وجهت إليك عشرة آلاف من أهل البصرة وعشرة آلاف من أهل الكوفة ومن السلاح
ثلاثين ألف رمح ومثلها ترسة فافرض فلا غاية لك في الفريضة بخمسة عشر ألفا فلما سمع هشام مصاب سورة قال إنا لله وأنا إليه راجعون مصاب سورة بخراسان ومصاب الجراح بالباب.
وأبلى نصر بن سيار يومئذ بلاء حسنا وأرسل الجنيد ليلة بالشعب رجلا وقال [له]: تسمع ما يقول الناس وكيف حالهم ففعل ثم رجع إليه فقال رأيتهم طيبة أنفسهم يتناشدون الأشعار ويقرأون القرآن فسره ذلك.
قال عبيد بن حاتم بن النعمان رأيت فساطيط بين السماء والأرض فقلت لمن هذا؟ فقالوا: لعبد الله بن بسطام وأصحابه فقتلوا في غد فقال رجل مررت في ذلك الموضع بعد ذلك بحين فشممت رائحة المسك.
وأقام الجنيد بسمرقند وتوجه خاقان إلى بخارى وعليها قطن بن قتيبة بن مسلم فخاف الجنيد الترك على قطن بن قتيبة فشاور أصحابه فقال قوم نلزم سمرقند وقال قوم نسير منها فنأتي ربنجن ثم كشر ثم إلى نسف فنتصل منها إلى أرض زم ونقطع النهر وننزل آمل فنأخذ عليه بالطريق.
فاستشار عبد الله بن أبي عبيد الله مولى بني سليم وأخبره بما قالوا: فاشترط
168

عليه أن لا يخالفه فيما يشير به عليه من ارتحال أو نزول أو قتال فقال: نعم قال: فإني أطلب إليك خصالا قال وما هي قال تخندق حيثما نزلت ولا يفوتنك حمل الماء ولو كنت على شاطئ نهر وأن تطيعني في نزولك وارتحالك قال نعم قال أما ما أشاروا عليك في مقامك بسمرقند حتى يأتيك الغياث فالغياث يبطئ عنك وأما ما أشاروا من طريق كش ونسف فإنك إن سرت بالناس في غير الطريق فتت في أعضادهم وانكسروا عن عدوهم واجترأ عليك خاقان وهو اليوم قد استفتح بخارى فلم يفتحوا له فإن أخذت غير الطريق بلغ أهل بخارى ما فعلت فيستسلموا لعدوهم وإن أخذت الطريق الأعظم هابك العدو.
والرأي عندي أن تأخذ عيال من قتل مع سورة فتقسمهم على عشائرهم وتحملهم معك فإني أرجوا بذلك أن ينصرك الله على عدوك وتعطي كل رجل تخلف بسمرقند ألف درهم وفرسا.
فأخذ برأيه وخلف بسمرقند عثمان بن عبد الله بن الشخير في أربعمائة فارس وأربعمائة راجل فشتم الناس عبد الله بن أبي عبد الله وقالوا: ما أراد إلا هلاكنا فخرج الجنيد وحمل العيال معه وسرح الأشحب بن عبيد الحنظلي ومعه عشرة من الطلائع وقال كلما مضيت مرحلة تسرح إلي رجلا يعلمني الخبر وسار الجنيد فأسرع السير فقال له عطاء الدبوسي انظر أضعف شيخ في العسكر فسلحه سلاحا تاما بسيفه ورمحه وترسه وجعبته ثم سر على قدر مشيه فإنا لا نقدر على سرعة المسير والقتال [ونحن رجالة]. ففعل الجنيد ذلك ولم يعرض للناس عارض حتى خرجوا من الأماكن المخوفة ودنا من الطواويس وأقبل إليه خاقان بكرمينية أول يوم من رمضان واقتتلوا فأتاه عبد الله بن أبي عبد الله وهو يضحك فقال الجنيد ليس هذا يوم ضحك قال الحمد لله إذا لم يلقك هؤلاء في جبال معطشة وعلى ظهر إنما أتوك وأنت مخندق آخر النهار كالين وأنت معك الزاد، فقاتلوا قليلا ثم رجعوا. ثم قال للجنيد: ارتحل
169

فإن خاقان ود أنك تقيم فينطوي عليك إذا شاء.
فسار وعبد الله على الساقة ثم أمره بالنزول فنزل واستقى الناس وباتوا فلما أصبحوا ارتحلوا فقال عبد الله إني أتوقع أن خاقان يصدم بالساقة اليوم فشدوها بالرجال فقواهم الجنيد وجاءت الترك فمالت على الساقة فاقتتلوا واشتد القتال بينهم وقتل مسلم بن أحوز عظيما من عظماء الترك فتطيروا من ذلك وانصرفوا من الطواويس وسار المسلمون فدخلوا بخارى يوم المهرجان فتلقوهم بالدراهم البخارية فأعطاهم عشرة عشرة.
قال عبد المؤمن بن خالد رأيت عبد الله بن أبي عبد الله في المنام بعد موته فقال حدث الناس عني برأي يوم الشعب وكان الجنيد يذكر خالد بن عبد الله فيقول زبدة من الزبد صنبور من صنبور قل من قل هيفة من الهيف والهيفة الضبع والقل الفرد والصنبور الذي لا أخ له وقيل الملصق وقدمت الجنود من الكوفة على الجنيد فسرح معهم حوثرة بن زيد العنبري فيمن انتدب معه وقيل إن وقعة الشعب كانت سنة ثلاث عشرة وقال نصر بن سيار يذكر يوم الشعب:
(إني نشأت وحسادي ذوو عدد * يا ذا المعارج لا تنقص لهم عددا)
(ان تحسدوني على مثل البلاء لكم * يوما فمثل بلائي جر لي الحسدا)
(يأبى الإله الذي أعلى بقدرته * كعبي عليكم وأعطى فوقكم عددا)
170

(أرمي العداة بأفراس مكلمة * حتى اتخذت على حسادهن يدا)
(من ذا الذي منكم في الشعب إذ وردوا * لم يتخذ حومة الأثقال معتمدا)
(هلا شهدتم دفاعي عن جنيدكم * وقع القنا وشهاب الحرب قد وقدا)
وقال ابن عرس يمدح نصرا:
(يا نصر أنت فتى نزار كلها * فلك المآثر والفعال والأرفع)
(فرجت عن القبائل كربة * بالشعب حين تخاضعوا وتضعضعوا)
(يوم الجنيد إذ القنا متشاجر * والبحر دام والخوافق تلمع)
(ما زلت ترميهم بنفس حرة * حتى تفرج جمعهم وتصدعوا)
(فالناس كل يعدها عتقاؤكم * ولك المكارم والمعالي أجمع)
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة غزا معاوية ين هشام الصائفة فافتتح خرشنة. وحج بالناس هذه السنة إبراهيم بن هشام المخزومي وقيل سليمان بن هشام بن عبد الملك وفيها استعمل أهل الأندلس على أنفسهم بعد موت الهيثم أميرهم محمد بن
171

عبد الملك الأشجعي فبقي شهرين وولى بعده عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي وكان عمال الأمصار هذه السنة من ذكرناهم في السنة قبلها.
وفيها مات رجاء بن حيوة بقسين؛ (حيوة بالحاء المهملة المفتوحة وسكون الياء المثناة من تحت وفيها توفي مكحول أبو عبد الله الشامي الفقيه وعبد الجبار بن وائل بن حجر الحضرمي ومات أبوه وأمه حامل به فكل ما يروونه عن أبيه فهو منقطع).
172

113
ثم دخلت سنة ثلاث عشرة ومائة
ذكر قتل عبد الوهاب
في هذه السنة قتل عبد الوهاب بن بخت وكان قد غزا مع عبد الله البطال أرض الروم فانهزم الناس عن البطال فحمل عبد الوهاب وهو يقول ما رأيت فرسا أجبن منك وسفك الله دمي إن لم أسفك دمك ثم ألقى بيضته عن رأسه وصاح أنا عبد الوهاب بن بخت أمن الجنة تفرون ثم تقدم في نحر العدو فمر برجل يقول وا عطشاه فقال تقدم الري أمامك فخالط القوم فقتل وقتل فرسه.
ذكر غزو مسلمة وعوده
فيها فرق مسلمة الجيوش ببلاد خاقان ففتحت مدائن وحصون على يديه وقتل منهم وأسر وسبى وأحرق ودان له من وراء جبال بلنجر وقتل ابن خاقان فاجتمعت تلك الأمم جميعها الخز وغيرهم عليه في جمع لا يعلم عددهم إلا الله تعالى وقد جاز مسلمة بلنجر فلما بلغه خبرهم أمر
173

أصحابه فأوقدوا النيران ثم ترك خيامهم وأثقالهم وعاد هو وعسكره جريدة وقدم الضعفاء وأخر الشجعان وطووا المراحل كل مرحلتين في مرحلة حتى وصل إلى الباب والأبواب في آخر رمق.
ذكر قتل عبد الرحمن أمير الأندلس
وولاية عبد الملك بن قطن
في هذه السنة وهي سنة ثلاث عشرة ومائة، غزا عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي أمير الأندلس من قبل عبيدة بن عبد الرحمن السلمي وكان هشام بن عبد الملك قد استعمل عبيدة على إفريقية والأندلس سنة عشر ومائة فلما قدم إفريقية رأى المستنير بن الحرث الحريثي غازيا بصقلية وأقام هناك حتى هجم عليه الشتاء ثم فقل راجعا ففرق من معه وسلم المستنير في مركبه فحبسه عبيدة عقوبة له وجلده وشهره بالقيروان.
ثم أن عبيدة استعمل على الأندلس عبد الرحمن بن عبد الله فغزا إفرنجة وأوغل في أرضهم وغنم غنائم كثيرة وكان فيما أصاب رجل من ذهب مفصصة بالدر والياقوت والزمرد فكسرها وقسمها في الناس فبلغ ذلك عبيدة فغضب غضبا شديد فكتب إليه يتهدده فأجابه عبد الرحمن وكان رجلا صالحا أما بعد فان السماوات والأرض لو كانتا رتقا لجعل الله للمتقين منها مخرجا ثم خرج غازيا ببلاد الفرنج هذه السنة وقيل سنة أربع عشرة
174

وهو الصحيح، فقتل هو ومن معه شهداء.
ثم إن عبيدة سار من إفريقية إلى الشام ومعه من الهدايا والإماء والعبيد والدواب وغير ذلك شيء كثير واستعفى هشاما فأجابه إلى ذلك وعزله وكان قد استعمل على الأندلس بعد قتل عبد الرحمن عبد الملك بن قطن.
ثم ان هشاما استعمل على إفريقية بعد عبيدة عبيد الله بن الحبحاب وكان على مصر فسار عبيد الله إلى إفريقية سنة ست عشرة ومائة فأخرج المستنير من الحبس وولاه تونس ثم إن عبيد الله جهز جيشا مع خبيب بن أبي عبيدة وسيرهم إلى أرض السودان فطفر بهم ظفرا لم يظفر أحد مثله وأصاب ما شاء ثم غزا البحر ثم انصرف.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة مات عدي بن ثابت الأنصاري ومعاوية بن قرة بن أياس المزني والد اياس قاضي البصرة الذي يضرب بذكائه المثل وفيها توفي حرام بن سعيد بن محيصة أبو سعيد وعمره سبعون سنة؛ (حرام بفتح الحاء المهملة وبالراء المهملة ومحيصة بضم الميم وفتح الحاء المهملة وتشديد الياء المثناة من تحت وبالصاد المهملة). وفيها توفي طلحة بن مصرف الأيامي وعبد الله بن عبيد الله بن عمير الليثي وعبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري
175

ويكنى أبا جعفر وعمره سبع وسبعون سنة ووهب بن منبه الصنعاني وكان أصغر [من] أخيه همام، وكانوا خمسة اخوة همام ووهب وغيلان وعقيل ومعقل وقيل مات سنة عشر ومائة. وفيها توفي الحر بن يوسف أمير الموصل ودفن بمقابر قريش بالموصل وكانت بإزاء داره المعروفة بالمنقوشة في ذي الحجة واستعمل هشام مكانه الوليد بن تليد العبسي وأمره بالجد في إتمام حفر النهر في البلد فشرع فيه واهتم بعمله وفيها غزا معاوية بن هشام أرض الروم فرابط من ناحية مرعش ثم رجع.
وفي هذه السنة سار جماعة من دعاة بني العباس إلى خراسان فأخذ الجنيد رجلا منهم فقتله وقال من أصبت منهم فدمه هدر.
وحج بالناس هذه السنة سليمان ين هشام بن عبد الملك وقيل إبراهيم بن هشام بن إسماعيل الخزومي وكان العمال من تقدم ذكرهم.
176

114
ثم دخلت سنة أربع عشرة ومائة
ذكر ولاية مروان بن محمد أرمينية وأذربيجان
في هذه السنة استعمل هشام بن عبد الملك مروان بن محمد بن مروان وهو ابن عمه على الجزيرة وأذربيجان وأرمينية.
وكان سبب ذلك أنه كان عسكر في مسلمة بأرمينية حين غزا الخزر فلما عاد مسلمة سار مروان إلى هشام فلم يشعر به حتى دخل عليه فسأله عن سبب قدومه فقال ضقت ذرعا بما أذكره ولم أر من يحمله غيري قال وما هو قال مروان قد كان من دخول الخزر إلى بلا الاسلام وقتل الجراح وغيره من المسلمين ما دخل به الوهن على المسلمين ثم رأى أمير المؤمنين أن يوجه أخاه مسلمة بن عبد الملك إليهم فوالله ما وطئ من بلادهم إلا أدناها ثم انه لما رأى كثرة جمعه أعجبه ذلك فكتب إلى الخزر يؤذنهم بالحرب وأقام بعد ذلك ثلاثة أشهر فاستعد القوم وحشدوا فلما دخل بلادهم لم يكن له فيهم نكاية وكان فصاراه السلامة وقد أردت ان تأذن لي في غزوة أذهب بها عنا العار وانتقم من العدو قال قد أذنت لك قال وتمدني بمائة وعشرين ألف مقاتل قال قد فعلت قال وتكتم هذا الأمر عن كل واحد قال قد فعلت وقد استعملتك على أرمينية.
177

فودعه وسار إلى أرمينية واليا عليها وسير هشام الجنود من الشام والعراق والجزيرة فاجتمع عنده من الجنود والمتطوعة مائة وعشرون ألفا فأظهر أنه يري غزو اللان وقصد بلادهم وأرسل إلى ملك الخزر يطلب منه المهادنة فأجابه إلى ذلك وأرسل اليه من يقر الصلح فأمسك الرسول عنده إلى أن فرغ من جهازه وما ير يد ثم أعلظ لهم القول وأذنهم بالحرب وسير الرسول إلى صاحبه بذلك ووكل به من يسيره على طريق فيه بعد وسار هو في أقرب الطرق فما وصل الرسول إلى صاحبه إلا ومروان قد وافاهم فأعلم صاحبه الخبر وأخبره بما قد جمع له مروان وحشد واستعد. فاستشار ملك الخزر أصحابه فقالوا: إن هذا قد اغترك ودخل بلادك فإن أعمت إلى أن تجمع لم يجتمع عندك إلى مدة فيبلغ منك ما يريد وإن أنت لقيته على حالك هذه هزمك وظفر بك والرأي ان تتأخر إلى أقصى بلادك وتدعه وما يريد فقبل رأيهم وسار حيث أمروه.
ودخل مروان البلاد وأوغل فنها وأخربها وغنم وسبى وانتهى إلى آخرها وأقام فيها عدة أيام حتى أذلهم وانتقم منهم ودخل بلاد ملك السرير فأوقع بأهله وفتح قرعا ودان له الملك وصالحه على أل رأس وخمسمائة غلام وخمسمائة جارية سود الشعور ومائة الف مدبر تحمل إلى الباب وصالح مروان أهل تومان على مائة رأس نصفين وعشرين الف مدبر ثم دخل أرض زريكران فصالحه ملكها ثم أتى إلى أرض حمزين فأبى حمزين أن يصالحه فحصرهم فافتتح حصنهم ثم أتى سغدان فافتتحها صلحا ووظف على طيرشانشاه عشرة آلاف مدبر كل سنة تحمل إلى الباب،
178

ثم نزل على قلعة صاحب اللكز وقد امتنع من أداء الوظيفة فخرج ملك اللكز يريد ملك الخزر فقتله راع بسهم وهو لا يعرفه فصالح أهل اللكز مروان استعمل عليهم عاملا وسار إلى قالعة شروان وهي على البحر فأذعن أهلها بالطاعة وسار إلى الدودانية فأوقع بهم ثم عاد.
ذكر عدة حوادث
* في هذه السنة غزا معاوية بن هشام الصائفة اليسرى فأصاب ربض أقرن وإن عبد الله البطال البطال هو وقسطنطين في جمع فهزمهم البطال وأسر قسطنطين وفيها غزا سليمان بن هشام الصائفة اليمنى فبلغ قيسارية. وفي هذه السنة عزل هشام بن عبد الملك إبراهيم بن هشام المخزومي عن المدينة واستعمل عليها خالد بن عبد الملك بن الحرث بن الحكم في ربيع الأول وكانت إمرة إبراهيم على المدينة ثماني سنين وعزل أيضا إبراهيم عن مكة والطائف واستعمل عليهما محمد بن هشام المخزومي وقيل بل ولى محمدا سنة ثلاث عشرة فلما عزل إبراهيم أقر محمد عليها وفيها وقع الطاعون بواسط وفيها أقبل سلمة بن عبد الملك بعدما هزم خاقان وأحكم ما هناك وبنى الباب.
وحج بالناس خالد بن عبد الملك بن الحرث وقيل محمد بن هشام وكان العمال من تقدم ذكرهم في السنة قبلها غير أن المدينة كان عاملها خالد بن عبد الملك وعامل مكة والطائف محمد بن هشام وعامل أرمينية وأذربيجان مروان بن محمد.
وفيها مات عطاء بن أبي رباح وقيل سنة خمس عشرة وعمه ثمان
179

وثمانون سنة، وقيل مائة سنة وفيها توفي محمد بن علي بن الحسين الباقر وقيل سنة خمس عشرة وكان عمره ثلاثا وسبعين سنة وقيل ثمانيا وخمسين سنة والحكم بن عتيبة بن النهاس أبو محمد وهو مولى امرأة من كندة ومولده سنة خمسين وفيها توفي عبد الله بن بريدة بن الحصيب الأسلمي قاضي مرو وكان مولده لثلاث سنين مضت من خلافة عمر بن الخطاب.
(عتيبة بضم العين المهملة وفتح التاء فوقها وبعدها ياء مثناة من تحتها وآخره باء موحدة وبريدة بضم الباء الموحدة وفتح الراء والحصيب بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين وآخره باء موحدة).
180

115
ثم دخلت سنة خمس عشرة ومائة
في هذه السنة غزا معاوية بن هشام أرض الروم وفيها وقع الطاعون بالشام وفيها وقع بخراسان قحط شديد فكتب الجنيد إلى الكور بحمل الطعام إلى مرو فأعطى الجنيد رجلا درهما فاشترى به رغيفا فقال لهم أتشكون الجوع ورغيف بدرهم لقد رأيتني بالهند وان الحفنة من الحبوب تباع عددا بدرهم.
قال: وحج بالناس هذه السنة محمد بن هشام المخزومي وكان الأمير بخراسان الجنيد، وقيل: بل كان قد مات الجنيد واستخلف عمارة بن حريم المري وقيل بل كان موت الجنيد سنة ست عشرة ومائة.
وفيها غزا عبد الملك بن قطن عامل الأندلس أرض البشكنس وعاد سالما.
181

116
ثم دخلت سنة ست عشرة ومائة
في هذه السنة غزا معاوية بن عبد الملك أرض الروم الصائفة وفيها كان طاعون شديد بالعراق والشام وكان أشد ذلك بواسط.
ذكر عزل الجنيد ووفاته وولاية عاصم خراسان
وفيها عزل هشام بن عبد الملك الجنيد بن عبد الرحمن المري عن خراسان واستعمل عليها عاصم بن عبد الله بن يزيد الهلالي.
وسبب ذلك أن الجنيد تزوج الفاضلة بنت يزيد بن المهلب فغضب هشام فولى عاصما خراسان وكان الجنيد قد سقى بطنه فقال هشام لعاصم إن أدركته وبه رمق فأزهق نفسه فقدم عاصم وقد مات الجنيد وكان بينهما عداوة فأخذ عمارة بن حرين وكان الجنيد قد استخلفه وهو ابن عمه فعذبه عاصم وعذب عمال الجنيد.
وعمارة هذا جد أبي الهيذام صاحب العصبية بالشام وسيأتي ذكرها إن شاء الله.
وكان موت الجنيد بمرو وكان من الأجواد الممدوحين غير محمود في حروبه.
182

ذكر خلع الحرث بن سريج بخراسان
وفي هذه السنة خلع الحرث بن سريج وأقبل إلى الفارياب فأرسل اليه عاصم بن عبد الله رسلا فيهم مقاتل بن حيان النبطي وخطاب بن محرز السلمي فقالا: لمن معهما لا نلقى الحرث إلا بأمان فأبى القوم عليهما فأخذهم الحرث وحبسهم ووكل بهم رجلا يحفظهم فأوثقوه وخرجوا من السجن فركبوا وعادوا إلى عاصم فأمرهم فخطبوا وذموا الحرث وذكروا خبث سيرته وغدره وكان الحرث قد لبس السواد ودعا إلى كتاب الله وسنة نبيه والبيعة للرضا فسار من الفارياب فأتى بلخ وعليها نصر بن سيار [و] التجيبي [ابن ضبيعة المري]، فلقيا الحرث وهو في عشرة آلاف والحرث في أربعة آلاف فقاتله فانهزم أهل بلخ وتبعهم الحرث فدخل مدينة بلخ وخرج نصر بن سيار منها من باب آخر وأمر الحرث بالكف عنهم واستعمل عليها رجلا من ولد عبد الله بن خازم وسار إلى الجوزجان فغلب عليها وعلى الطالقان ومرو الروذ.
فلما كان بالجوزجان استشار أصحابه في أي بلد يقصد فقيل له: مرو بيضة خراسان وفرسانهم كثير ولو لم يلقوك إلا بعبيدهم لانتصفوا منك فأقم فإن أتوك قاتلتهم وإن أقاموا قطعت المادة عنهم فقال لا أرى ذلك وسار إلى مرو فقال لأهل الرأي من مرو إن أي عاصم نيسابور فرق جماعتنا وإن أتانا نكب.
وبلغ عاصما أن أهل مرو يكاتبون الحرث فقال يا اله مرو قد
183

كاتبتم الحرث بأنه لا يقصد مدينة إلا تركتموها له وإني لاحق بنيسابور وأكاتب أمير المؤمنين حتى يمدني بعشرة آلاف من أهل الشام فقال له المجشر بن مزاحم إن أعطوك بيعتهم بالطلاق والعتاق على القتال معك والمناصحة لك فلا تفارقهم.
وأقبل الحرث إلى مرو يقال في ستين ألفا ومئة فرسان الأزد وتميم منهم محمد بن المثنى وحماد بن عامر الحماني وداود الأعسر وبشر بن أنيف الرياحي وعطاء الدبوسي ومن الدهاقين دهقان الفارياب وملك الطالقان ودهقان مرو الروذ في أشباههم.
وخرج عاصم في أهل مرو وغيرهم فعسكر وقطع عاصم القناطر وأقبل أصحاب الحرث فأصلحوا القناطر فمال محمد بن المثنى الفراهيدي الأزدي إلى عاصم في ألفين فأتى الأزد وما حماد بن عامر الحماني إلى عاصم فأتى بنو تميم والتقى الحرث وعاصم وعلى ميمنة الحرث وابض بن عبد الله بن زرارة التغلبي فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزم أصحاب الحرث فغرق منهم بشر كثير في أنهار مرو وفي النهر الأعظم ومضت الدهاقين إلى بلادهم وغرق خازم بن عبد الله بن خازم وكان مع الحرث وقتل أصحاب الحرث قتلا ذريعا وقطع الحرث وادي مرو فضرب رواقا عند منازل الرهبان وكف عنه عاصم واجتمع إلى الحرث زهاء ثلاثة آلاف.
184

ذكر عدة حوادث
وفيها عزل هشام عبيد الله بن الحبحاب الموصلي عن ولاية مصر واستعمله على إفريقية فسار إليها وفيها سير ابن الحبحاب جيشا إلى صقلية فلقيهم مراكب الروم فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزمت الروم وكانوا قد أسروا جماعة من المسلمين منهم عبد الرحمن بن زياد فبقي أسيرا إلى سنة إحدى وعشرين ومائة وفيها سير ابن الحبحاب أيضا جيشا إلى السوس وأرض السودان فغنموا وظفروا وعادوا وفيها استعمل عبد الله بن الحبحاب عطية بن الحجاج القيسي على الأندلس فسار إليها ووليها في شوال من هذه السنة وعزل عبد الملك بن قطن وكان له كل سنة غزاة وهو الذي افتتح جليقية والبتة وغيرها وقيل بل ولي عبد الله بن الحبحاب إفريقية سنة سبع عشرة وسترد أخباره هناك وهذا أصح.
وحج بالناس هذه السنة الوليد بن يزيد بن عبد الملك وكان ولي عهد وكان العمال على الأمصار من تقدم ذكرهم الا خراسان فكان عاملها عاصم بن عبد الله.
185

117
ثم دخلت سنة سبع عشرة ومائة
في هذه السنة غزا معاوية بن هشام الصائفة اليسرى وغزا سليمان بن هشام الصائفة اليمنى من نحو الجزيرة وفرق سراياه في أرض الروم وفيها بعث مروان بن محمد
وهو على أرمينية بعثين وافتتح أحدهما حصونا ثلاثة من اللان ونزل الآخر على تومانشاه فنزل أهلها على الصلح.
ذكر عزل عاصم عن خراسان وولاية أسد
وفي هذه السنة عزل هشام بن عبد الملك عاصم بن عبد الله عن خراسان وولاها خالد بن عبد الله القسري فاستخلف خالد عليها أخاه أسد بن عبد الله.
وكان سبب ذلك أن عاصما كتب إلى هشام أما بعد فان الرائد لا يكذب أهله وان خراسان ر تصلح إلا [أن] تضم إلى [صاحب] العراق وتكون موادها ومعونتها من قريب لتباعد أمير المؤمنين [عنها] وتباطؤ غياثه. عنها فضم هشام خراسان إلى خالد بن عبد الله القسري وكتب إليه ابعث أخاك
186

يصلح ما أفسد فإن كان سببه كانت به فسير خالد إليها أخاه أسد فلما بلغ عاصما إقبال أسد وأنه قد سير على مقدمته محمد بن مالك الهمداني صالح الحرث بن سريج وكتبا بينهما كتابا على أن ينزل الحرث أي كور خراسان شاء وان يكتبا جميعا إلى هشام يسألانه بكتاب الله وسنة نبيه فإن أبى اجتمعا عليه فختم الكتاب بعض الرؤساء وأبى يحيى بن حضين بن المنذر أن يختم وقال هذا خلع لأمير المؤمنين فانفسخ ذلك.
وكان عاصم بقرية بأعلى مرو وأتاه الحرب بن سريج فالتقوا واقتتلوا قتالا شديدا فانهزم الحرث وأسر من أصحابه أسرى كثيرة منهم عبد الله بن عمرو المازني رأس أهل مرو الروذ فقتل عاصم الأسرى وكان فرس الحرث قد رمي بسهم فنزعه الحرث وألح على الفرس بالضرب والحضر ليشغله عن أثر الجراحة وحمل عليه رجل من أهل الشام، فلما قرب منه مال الحرث عن فرسه ثم اتبع الشامي فقال له أسألك بحرمة الإسلام في دمي فقال انزل عن فرسك فنزل عن فرسه فركبه الحرث فقال رجل من عبد القيس في ذلك:
(تولت قريش لذة العيش واتقت * بنا كل فج من خراسان أغبرا)
(فليت قريشا أصبحوا ذات ليلة * يعومون في لج من البحر أخضرا)
وعظم أهل الشام يحيى بن حضين لما صنع في نقض الكتاب وكتبوا كتابا
187

بما كان وبهزيمة الحرث مع محمد بن مسلم العنبري فلقي أسد بن عبد الله بالري وقيل ببيهق فكتب إلى أخيه خالد ينتحل أنه هزم الحرث ويخبره بأمر يحيى فأجاز خالد يحيى بعشرة آلاف دينار ومائة [كساه] من الحلة. وكانت ولاية عاصم أقل من سنة فحبسه أسد وحاسبه وطلب منه مائة ألف درهم وقال إنك لم تغز وأطلق عمارة بن حبيب وعمال الجنيد.
فلما قدم أسد لم يكن لعاصم إلا مرو ونيسابور والحرث بمرو الروذ وخالد بن عبد الله الهجري بآمل موافق للحرث فخاف أسد ان قصد الحرث بمرو الروذ أن يأتي الهجر من قبل آمل وإن قصد الهجري قصد الحرث مرو من قبل مرو الروذ فأجمع على توجيه عبد الرحمن بن نعيم في أهل الكوفة والشام إلى الحرث بمرو الروذ وسار أسد بالناس إلى آمل فلقيه خيل آمل عليهم زيد القرشي مولى حيان النبطي وغيره فهزموا حتى رجعوا إلى المدينة فحصرهم أسد ونصب عليهم المجانيق وعليهم الهجري من أصحاب الحرث فطلبوا الأمان فأرسل إليهم أسد ما تطلبون قالوا: كتاب الله وسنة نبيه وأن لا تأخذ أهل المدن بجنايتنا فأجابهم إلى ذلك فاستعمل عليهم يحيى بن نعيم بن هبيرة الشيباني وسار يريد بلخ فأخبر أن أهلها قد بايعوا سليمان بن عبد الله بن خازم فسار حتى قدمها واتخذ سفنا وسار منها إلى ترمذ فوجد الحرث محاصرا لها وبها سنان الأعرابي فنزل أسد دون النهر ولم يطق العبور إليهم ولا أن يمدهم وخرج أهل ترمذ من المدينة فقاتلوا الحرث قتالا شديدا واستطرد الحرث لهم وكان قد وضع كمينا
188

فتبعوه ونصر بن سيار مع أسد جالس ينظر فأظهر الكراهية وعرف أن الحرث قد كادهم وظن أسد أن ذلك شفقة على الحرث حين ولى وأراد معاتبة نصر وإذا الكمين قد خرج عليهم فانهزموا.
ثم ارتحل أسد إلى بلخ وخرج أهل ترمذ إلى الحرث فهزموه وقتلوا جماعة من أهل البصائر منهم عكرمة وأبو فاطمة ثم سار أسد إلى سمرقند في طريق زم فلما قدم زم بعث إلى الهيثم الشيباني وهو في حصن من حصونها وهو من أصحاب الحرث فقال له أسد إنما أنكرتم علي قولكم ما كان من سوء السيرة ولم يبلغ ذلك السبي واستحلال الفروج ولا غلبة المشركين على مثل سمرقند وأنا أريد سمرقند ولك عهد الله وذمته ان لا ينالك مني شر ولك المواساة والكرامة والأمان ولمن معك وإن أبيت ما دعوتك إليه فعلى عهد الله إن أنت رميت بسهم لا أؤمنك بعد وإن جعلت لك ألف أمان لا أفي لك به فخرج إليه على الأمان وسار معه إلى سمرقند ثم ارتفع إلى ورغسر وماء سمرقند منها فسكر الوادي وصرفه عن سمرقند ثم رجع إلى بلخ.
وقيل إن أمر أسد وأصحاب الحرث كان سنة ثمان عشرة.
ذكر حال دعاة بني العباس
قيل وفي هذه السنة أخذ أسد بن عبد الله جماعة من دعاة بني العباس بخراسان فقتل بعضهم ومثل ببضعهم وحبس بعضهم وكان فيمن أخذ:
189

فيمن سليمان بن كثير ومالك بن الهيثم وموسى بن كعب ولاهز بن قريظ وخالد بن إبراهيم وطلحة بن زريق فأتى بهم، فقال [لهم]: يا فسقة ألم يقل الله تعالى: (عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه)؟ فقال له سليمان نحن والله كما قال الشاعر:
(لو بغير الماء حلقي شرق * كنت كالغصان بالماء اعتصاري)
صيدت والله العقارب بيدك! انا ناس من قومك! وان المضرية رفعوا إليك هذا لأنا كنا أشد الناس على قتيبة بن مسلم فطلبوا بثأرهم. فبعث بهم إلى الحبس ثم قال لعبد الرحمن بن نعيم ما ترى قال أرى أن تمن بهم على عشائرهم قال افعل فأطلق من كان فيهم من أهل اليمن لأنه منهم ومن كان من ربيعة أطلقه أيضا لحلفهم مع اليمن وأراد
قتل من كان من مضر فدعا موسى بن كعب وألجمه بلجام حمار وجذب اللجام فحطمت أسنانه ودق وجهه وأنفه ودعا لاهز بن قريظ فقال له ما هذا بحق تصنع بنا هذا وتترك اليمانيين والربعيين فضربه ثلاثمائة سوط ثم قال صلبوه فشهد له الحسن بن زيد الأزدي بالبراءة ولأصحابه فتركهم.
ذكر ولاية عبيد الله بن الحبحاب إفريقية والأندلس
في هذه السنة استعمل هشام بن عبد الملك على إفريقية والأندلس عبيد الله بن الحبحاب وأمره بالمسير إليهما وكان واليا على مصر فاستخلف عليها ولده وسار إلى إفريقية واستعمل على الأندلس عقبة بن الحجاج واستعمل على طنجة ابنه إسماعيل وبعث حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع غازيا
190

إلى المغرب فبلغ السوس الأقصى وأرض السودان فلم يقاتله أحد إلا وأصاب من الغنائم والسبي أمرا عظيما فملئ أهل المغرب منه رعبا وأصاب في السبي جاريتين من البربر ليس لكل واحدة منهما غير ثدي واحد ورجع سالما وسير جيشا في البحر سنة سبع عشرة إلى جزيرة السردانية ففتحوا منها ونهبوا وغنموا وعادوا ثم سيره غازيا إلى جزيرة صقلية سنة اثنتين وعشرين ومائة ومعه ابنه عبد الرحمن بن حبيب فلما نزل بأرضها وجه عبد الرحمن على الخيل فلم يلقه أحد إلا هزمه عبد الرحمن فظفر ظفرا لم ير مثله حتى نزل على مدينة سرقوسة وهي من أعظم مدن صقلية فقاتلوه فهزمهم وحصرهم فصالحوه على الجزية وعاد إلى أبيه وعزم حبيب على المقام بصقلية إلى أن يملكها جميعا فأتاه كتاب ابن الحبحاب يستدعيه إلى إفريقية.
وكان سبب ذلك أنه استعمل على طنجة ابنه إسماعيل وجعل معه عمر بن عبد الله المرادي فأساء السيرة وتعدى وأراد أن يخمس مسلمي البربر وزعم أنهم فيء للمسلمين وذلك شيء لم يرتكبه أحد قبله فلما سمع البربر بمسير حبيب بن عبيدة إلى صقلية بالعساكر طمعوا ونقضوا الصلح على ابن الحبحاب وتداعت عليه بأسرها مسلمها وكافرها وعظم البلاء وقدم من بطنجة من البربر على أنفسهم ميسرة السقاء ثم المدغوري وكان خارجيا صفريا وسقاء وقصدوا طنجة فقاتلهم عمر بن عبد الله فقتلوه واستولوا على طنجة وبايعوا ميسرة بالخلافة وخوطب بأمير المؤمنين وكثر جمعه من البربر وقوي أمره بنواحي طنجة.
وظهر في ذلك الوقت جماعة بإفريقية فأظهروا مقالة الخوارج فأرسل ابن الحبحاب إلى حبيب وهو بصقلية يستدعيه إليه لقتال ميسرة السقاء لأن
191

أمره كان قد عظم فعاد إلى إفريقية.
وكان ابن الحبحاب قد سير خالد بن حبيب في جيش إلى ميسرة فلما وصل حبيب بن أبي عبيدة سيره في أثره والتقى خالد وميسرة بنواحي طنجة واقتتلوا قتالا شديدا لم يسمع بمثله وعاد ميسرة إلى طنجة فأنكرت البربر سيرته وكانوا بايعوه بالخلافة فقتلوه وولوا أمرهم خالد بن حميد الزناتي ثم التقى خالد بن حميد ومعه البربر بخالد بن حبيب ومعه العرب وعسكر هشام وكان بينهم قتال شديد صبرت فيه العرب وظهر عليهم كمين من البربر فانهزموا وكره خالج بن حبيب أن ينهزم من البربر فصبروا معه فقتلوا جميعهم.
وقبل في هذه الوقعة حماة العرب وفرسانها فسميت غزوة الأشراف وانتقضت البلاد ومرج أمر الناس وبلغ أهل الأندلس الخبر فثاروا بأميرهم عقبة بن الحجاج فعزلوه وولوا عبد الملك بن قطن فاختلطت الأمور على ابن الحبحاب وبلغ الخبر هشام بن عبد الملك فقال لأغضبن للعرب غضبة وأسير جيشا يكون أولهم عندهم وآخرهم عندي ثم كتب إلى ابن الحبحاب يأمره بالحضور فسار إليه في جمادى سنة ثلاث وعشرين ومائة واستعمل هشام عوضه كلثوم بن عياض القشيري وسير معه جيشا كثيفا وكتب إلى سائر البلاد التي على طريقه بالمسير معه فوصل إفريقية وعلى مقدمته بلج بن بشر فوصل إلى القيروان ولقي أهلها بالجفاء والتكبر عليهم وأراد أن ينزل العسكر الذي معه في منازلهم فكتب أهلها إلى حبيب بن أبي عبيدة وهو بتلمسان مواقف البربر يشكون إليه بلجا وكلثوما فكتب حبيب إلى كلثوم يقول له إن بلجا فقل كيت وكيت فارحل عن البلد وإلا رددنا أعنة الخيل إليك.
فاعتذر كلثوم وسار إلى حبيب وعلى مقدمته بلج بن بشر، فاستخف بحبيب
192

وسبه وجرى بينهما منازعة ثم اصطلحوا واجتمعوا على قتال البربر وتقدم إليهم البربر من طنجة فقال لهم حبيب اجعلوا الرجالة للرجالة والخيالة للخيالة فلم يقبلوا منه وتقدم كلثوم بالخيل فقاتله رجالة البربر فهزموه فعاد كلثوم منهزما ووهن الناس ذلك ونشب القتال وانكشفت خيالة البربر وثبتت رجالتها واشتد القتال وكثر البربر عليهم فقتل كلثوم بن عياض وحبيب بن أبي عبيدة ووجوه العرب وانهزمت العرب وتفرقوا فمضى أهل الشام إلى الأندلس ومعهم بلج بن بشر وعبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة وعاد بعضهم إلى القيروان.
فلما ضعفت العرب بهذه الوقعة ظهر إنسان يقال له عكاشة بن أيوب الفزاري بمدينة قابس وهو على رأي الخوارج الصفرية فسار إليه جيش من القيروان فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزم عسكر القيروان فخرج إليه عسكر آخر فانهزم عكاشة بعد قتال شديد وقتل كثير من أصحابه ولحق عكاشة ببلاد الرمل.
فلما بلغ هشام بن عبد الملك قتل كلثوم بعث أميرا على إفريقية حنظلة بن صفوات الكلبي فوصلها في ربيع الآخر سنة أربع وعشرين ومائة فلم يمكث بالقيروان إلا يسيرا حتى زحف إليه عكاشة الخارجي في جمع عظيم من البربر وكان حين انهزم حشدهم ليأخذ بثأره وأعانه عبد الواحد بن يزيد الهواري ثم المدغمي وكان صفريا في عدد كثير وافترقا ليقصد القيروان من جهتين فلما قرب عكاشة خرج إليه حنظلة ولقيه منفردا واقتتلوا قتالا شديدا وانهزم عكاشة وقتل من البربر ما لا يحصى وعاد حنظلة إلى القيروان خوفا عليها من عبد الواحد وسير إليه جيشا كثيفا عدتهم أربعون ألفا فساروا إليه فلما قاربوه لم يجدوا شعيرا يطعمونه دوابهم فأطعموها حنطة
193

ثم لقوه من الغد فانهزموا من عبد الواحد وعادوا إلى القيروان وهلكت دوابهم بسبب الحنطة.
فلما وصلوها نظروا وإذ قد هلك منهم عشرون ألف فرس، وسار عبد الواحد فنزل على ثلاثة أميال من القيروان بموضع يعرف بالأصنام وقد اجتمع معه ثلاثمائة ألف
مقاتل فحشد حنظلة كل من بالقيروان وفرق فيهم السلاح والمال فكثر جمعه فلما دنا الخوارج مع عبد الواحد خرج إليهم حنظلة من القيروان واصطفوا للقتال وقام العلماء في أهل القيروان يحثونهم على الجهاد وقتال الخوارج ويذكرونهم ما يفعلونه بالنساء من السبي وبالأبناء من الاسترقاق وبالرجال من القتل فكسر الناس أجفان سيوفهم وخرج إليهم نساؤهم يحرضنهم فحمي الناس وحملوا على الخوارج حملة واحدة وثبت بعضهم لبعض فاشتد اللزام وكثر الزحام وصبر الفريقان ثم ان الله تعالى هزم الخوارج والبربر ونصر العرب وكثر القتل في البربر وتبعوهم إلى جلولاء يقتلون ولم يعلموا أن عبد الواحد قد قتل حتى حمل رأسه إلى حنظلة، فخر الناس لله سجدا.
فقيل لم يقتل بالمغرب أكثر من هذه القتلة فأن حنظلة أمر باحصاء القتلى فعجز الناس عن ذلك حتى عدوهم بالقصب فكانت عدة القتلى مائة ألف وثمانين ألفا ثم أسر عكاشة مع طائفة أخرى بمكان آخر وحمل إلى حنظلة فقتله وكتب حنظلة إلى هشام بن عبد الملك بالفتح وكان الليث بن سعد يقول ما غزوة إلى الآن أشد بعد غزوة بدر من غزوة العرب بالأصنام.
194

ذكر عدة حوادث
في هذه السنة عزا معاوية بن هشام الصائفة اليسرى وغزا سليمان بن هشام الصائفة اليمنى من نحو الجزيرة وفرق سراياه في أرض الروم.
وحج بالناس هذه السنة خالد بن عبد الملك وكان العامل على مكة والمدينة والطائف محمد بن هشام بن إسماعيل المخزومي وعلى أرمينية وأذربيجان مروان بن محمد وفيها توفيت فاطمة بنت الحسن بن علي بن أبي طالب وسكينة بنت الحسين وفيها مات عبد الرحمن بن هرمز الأعرج بالإسكندرية وفيها توفي ابن أبي مليكة واسمه عبد الله بن عبيد الله بن مليكة وأبو رجاء العطاردي وأبو شاكر مسلمة بن هشام بن عبد الملك وفيها توفي ميمون بن مهران الفقيه وقيل سنة ثمان عشرة وفيها توفي نافع مولى ابن عمر وقيل سنة عشرين وفيها توفي أبو بكر محمد بن عمرو بن حزم وقيل سنة عشرين وقيل سنة ست وعشرين وقيل سنة ثلاثين وفيها ماتت عائشة ابنة سعد بن أبي وقاص وسعيد بن يسار وقتادة بن دعامة البصري وكان ضريرا ومولده سنة ستين.
195

118
ثم دخلت سنة ثمان عشر ومائة
في هذه السنة غزا معاوية وسليمان ابنا هشام بن عبد الملك أرض الروم.
ذكر دعاة بني العباس
في هذه السنة وجه بكير بن ماهان عمار بن يزيد إلى خراسان واليا على شيعة بني العباس فنزل مرو وغير اسمه وتسمى بخداش ودعا إلى محمد بن علي فسارع إليه الناس وأطاعوه ثم غير ما دعاهم إليه وتكذب وأظهر دين الخرمية [ودعا إليه] ورخص لبعضهم في نساء بعض وقال لهم إنه لا صوم ولا صوم ولا صلاة ولا حج وان تأويل الصوم أن يصام عن ذكر الإمام فلا يباح باسمه والصلاة الدعاء له والحج القصد إليه وكان يتأول من القرآن قوله تعالى: (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات). وكان خداش نصرانيا بالكوفة فأسلم ولحق بخراسان.
وكان ممن اتبعه على مقالته مالك بن الهيثم والحريش بن سليم الأعجمي وغيرهما وأخبرهم أن محمد بن علي أمر بذلك.
196

فبلغ خبره أسد بن عبد الله فظفر به فأغلظ القول لأسد فقطع لسانه وسمل عينيه وقال الحمد لله الذي انتقم لأبي بكر وعمر منك وأمر يحيى بن نعيم الشيباني فقتله وصلبه بآمل وأتى أسد بجزور مولى المهاجرين ابن دارة الضبي فضرب عنقه بشاطئ النهر.
ذكر ما كان من الحرث وأصحابه
وفي هذه السنة نزل أسد بلخ وسرح جديعا الكرماني إلى القلعة التي فيها أهل الحرث وأصحابه واسمها التبوشكان من طخارستان العليا وفيها بنو برزي التغلبيون أصهار الحرث فحصرهم الكرماني حتى فتحها فقتل بني برزي وسبى عامة أهله من العرب والموالي والذراري وباعهم فيمن بزيد في سوق بلخ ونقم على الحرث أربعمائة وخمسون رجلا من أصحابه وكان رئيسهم جرير بن ميمون القاضي فقال لهم الحرث إن كنتم لا بد مفارقي فاطلبوا الأمان وأنا شاهد فإنهم يجيبونكم وإن ارتحلت قبل ذلك لم يعطوا الأمان فقالوا: ارتحل أنت وخلنا وأرسلوا يطلبون الأمان فأخبر أسد أن القوم ليس لهم طعام ولا ماء فسرح إليهم أسد جديعا الكرماني في ستة آلاف فحصرهم في القلعة وقد عطش أهلها وجاعوا فسألوا أن ينزلوا على الحكم وترك لهم نساءهم وأولادهم فأجابهم فنزلوا على حكم
197

أسد فأرسل إلى الكرماني يأمره أن يحمل إليه خمسين رجلا من وجوههم فيهم المهاجر بن ميمون فحملوا إليه فقتلهم وكتب إلى الكرماني أن يجعل الذين بقوا عنده أثلاثا فثلث يقتلهم وثلث يقطع أيديهم وأرجلهم وثلث يقطع أيديهم ففعل ذلك الكرماني وأخرج أثقالهم فباعها واتخذ أسد مدينة بلخ دارا ونقل إليها الدواوين ثم غزا طخارستان ثم أرض جبوية فغنم وسبى.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة عزل هشام خالد بن عبد الملك بن الحرث بن الحكم عن المدينة واستعمل عليها خاله محمد بن هشام بن إسماعيل. وفيها غزا مروان بن محمد بن مروان من أرمينية ودخل أرض ورنيس من ثلاثة أبواب فهرب منه ورنيس إلى الخزر ونزل حصنه فحصره مروان ونصب عليه المجانيق فقتل ورنيس قتله بعض من اجتاز به وأرسل رأسه إلى مروان فنصبه لأهل حصنه فنزلوا على حكمه فقتل المقاتلة وسبى الذرية.
وفي هذه السنة مات علي بن عبد الله بن عباس وكان موته بالحميمة من أرض الشام وهو ابن سبع أو ثمان وسبعين سنة وقيل إنه ولد في الليلة التي قتل فيها علي بن أبي
طالب فسماه أبوه عليا وقال سميته باسم أحب الناس إلي وكناه أبا الحسن فلما قدم على عبد الملك بن مروان أكرمه وأجلسه معه على سريره وسأله عن كنيته فأخبره فقال لا يجتمع في عسكري هذا الاسم والكنية لأحد وسأله هل ولد لك من ولد قال نعم،
198

وقد سميته محمدا. قال: فأنت أبو محمد.
وحج بالناس هذه السنة محمد بن هشام بن إسماعيل وكان أمير المدينة وقيل كان هذه السنة على المدينة خالد بن عبد الملك وكان على العراق والمشرق كله خالد القسري وعامله على خراسان أخوه أسد وعامله على البصرة بلال بن أبي بردة وكان على أرمينية مروان بن محمد بن مروان.
وفي هذه السنة مات عبادة بن نسي قاضي الأردن وعمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العباس ومات بالطائف أبو صخرة جامع بن شداد وأبو عشابة المعافري وعبد الرحمن بن سليط.
199

119
ثم دخلت سنة تسع عشرة ومائة
ذكر قتل خاقان
لما دخل أسد الختل كتب ابن السايجي إلى خاقان وهو بنواكث يعلمه دخول أسد الختل وتفرق جنوده فيها وأنه يحتال مضيعة فلما أتاه كتابه أمر أصحابه بالجهاز وسار فلما أحس ابن السايجي بمجيء خاقان بعث إلى أسد اخرج عن الختل فإن خاقان قد أظلك فشتم الرسول ولم يصدقه.
فبعث ابن السايجي إني لم أكذبك وأنا الذي أعلمته دخولك وتفرق عسكرك وانها فرصة له وسألته المدد فإن لقيك على هذه الحال ظفر بك وعادتني العرب أبدا ما بقيت واستطال علي خالقان واشتدت مؤنته وقال أخرجت العرب من بلادك ورددت عليك ملكك.
فعرف أسد أنه قد صدقه فأمر بالأثقال أن تقدم وجعل عليها إبراهيم بن عاصم العقيلي وأخرج معه المشيخة، فسارت الأثقال ومعها أهل الصغانيان وصغان خذاه وأقبل أسد من الختل نحو جبل الملح يريد ان يخوض نهر بلخ، وقد قطع إبراهيم بن عاصم بالسبي وما أصابوا، وأشرف أسد على النهر
200

فأقام يومه فلما كان الغد عبر النهر في مخاضة وجعل أناس يعبرون فأدركهم خاقان فقتل من لم يقطع النهر وكانت المسلحة على الأزد وتميم فقاتلوا خاقان وانكشفوا.
وأقبل خاقان وظن المسلمون أنه لا يعبر إليهم النهر فلما نظر خاقان إلى النهر أمر الترك بعبوره فعبروه ودخل المسلمون عسكرهم وأخذ الترك ما رأوه خارجا وخرج الغلمان فضاربوهم بالعمد فعادوا وبات أسد والمسلمون وعبأ أصحابه من الليل فلما أصبح لم ير خاقان فاستشار أصحابه فقالوا: له اقبل العافية قال ما هذه عافية هذه بلية إن خاقان أصاب أمس من الجند والسلاح ما منعه اليوم منا إلا أنه قد أخبره بعض من أخذه من الأسرى بموضع الأثقال أمامنا فسار طمعا فيها.
فارتحل وبعث الطلائع فلما أمسى استشار الناس في النزول أو المسير فقال الناس اقبل العافية وما عسى أن يكون ذهاب الأموال بعافيتنا وعافية أهل خراسان ونصر بن سيار مطرق فقال له أسد مالك لا تتكلم قال أيها الأمير خلتان كلتاهما لك ان تسر تغث وتنجد من مع الأثقال وتخلصهم فإن انتهيت إليهم وقد هلكوا فقد قطعت مشقة لا بد من قطعها فقبل رأيه وسار بقية يومه.
ودعا أسد سعيدا الصغير مولى باهلة وكان فارسا بأرض الختل وكتب معه كتابا إلى إبراهيم يأمره بالاستعداد ويخبره بمسير خاقان إليه وقال له لتجد السير فطلب منه فرسه الذبوب فقال أسد لعمري لئن جدت بنفسك وبخلت عليك بالفرس إني إذا للئيم فدفعه إليه فأخذ معه جنيبا وسار.
201

فلما حاذى الترك وقد ساروا نحو الأثقال طلبته طلائعهم فركب الذبوب فلم يلحقوه فأتى إبراهيم بالكتاب وسار خاقان إلى الأثقال وقد خندق إبراهيم خندقا فأتاهم وهم قيام عليه فأمر أهل الصغد بقتالهم فهزمهم المسلمون وصعد خاقان تلا فجعل ينظر ليرى عورة يأتي منها وهكذا كان يفعل فلما صعد التل رأى خلف العسكر جزيرة دونها مخاضة فدعا بعض قواد الترك فأمرهم أن يقطعوا فوق العسكر حتى يصيروا إلى الجزيرة ثم ينحدروا حتى يأتوا عسكر المسلمين من خلفهم وأن يبدأوا بالأعاجم وأهل الصغانيان وقال لهم إن رجعوا إليكم دخلنا نحن ففعلوا ودخلوا من ناحية الأعاجم فقتلوا صغان خذاه وعامة أصحابه وأخذوا أموالهم ودخلوا عسكر إبراهيم فأخذوا جميع ما فيه وترك المسلمون التعبية واجتمعوا في موضع وأحسوا بالهلاك وإذا رهج قد ارتفع وإذا أسد في جنده قد أتاهم فارتفعت الترك عنهم إلى الموضع الذي كان فيه خاقان وإبراهيم يعجب من كفهم وقد ظفروا وقتلوا من قتلوا وهو لا يطمع في أسد وكان أسد قد أغذ المسير وأقبل حتى وقف على التل الذي كان عليه خاقان وتنحى خاقان إلى ناحية الجبل فخرج إلى أسد من كان بقي مع الأثقال وقد قتل منهم بشرا كثيرا.
ومضى خاقان بالأسرى والجمال الموقرة والجواري وأمر خاقان رجلا كان معه منه أصحاب الحرث بن سريج فنادى أسدا قد كان لك فيما وراء النهر مغزى إنك لشديد الحرص وقد كان عن الخبل مندوحة وهي أرض آبائي وأجدادي فقال أسد لعل الله أن ينتقم منك.
202

وسار أسد إلى بلخ فعسكر في مرجها حتى أتى الشتاء ثم فرق الناس في الدور ودخل المدينة وكان الحرث بن سريج بناحية طخارستان فانضم إلى خاقان فلما كان وسط الشتاء أقبل خاقان وكان لما فارق أسد أتى طخارستان فأقام عنه جبوية فأقبل فأتى الجوزجان وبث الغارات.
وسبب مجيئه أن الحرث أخبره أنه لا نهوض بأسد فلم يبق معه كثير جهد ونزل جزة فأتى الخبر إلى أسد بنزول خاقان بجزة فأمر بالنيران فرفعت بالمدينة فجاء الناس من الرساتيق إليها فأصبح أسد وصلى صلاة العيد عيد الأضحى وخطب الناس وقال إن عدو الله الحرث استجلب الطاغية ليطفئ نور الله ويبدل دينه والله مذله إن شاء الله وإن عدوكم قد أصاب من إخوانكم من أصاب وإن يرد الله نصركم لن يضركم قلتكم وكثرتهم فاستنصروا الله وإن أقرب ما يكون العبد من ربه إذا وضع جبهته له وإني نازل
وواضع جبهتي فاسجدوا له وادعوه مخلصين ففعلوا ورفعوا رؤوسهم ولا يشكون في الفتح ثم نزل وضحى وشاور الناس في المسير إلى خاقان فقال قوم تحفظ مدينة بلخ وتكتب إلى خالد والخليفة تستمده وقال قوم نأخذ في طريق زم فتسبق خاقان إلى لا مرو وقال قوم بل تخرج إليهم فوافق خراسان والشام واستخلف على بلخ الكرماني بن علي وأمره أن لا يدع أحدا يخرج من مدينتها وإن ضرب الترك بابها ونزل بابا من أبواب بلخ وصلى بالناس ركعتين طولهما ثم استقبل القبلة ونادى في الناس ادعوا الله تعالى وأطال الدعاء فلما فرغ قال
203

نصرتم ورب الكعبة ان شاء الله تعالى! ثم سار فلما جاز قنطرة عطاء نزل وأراد المقام حتى يتلاحق به الناس ثم امر بالرحيل وقال لا حاجة لنا إلى المتخلفين.
ثم ارتحل وعلى مقدمته سالم بن منصور البجلي في ثلاثمائة فلقي ثلاثمائة من الترك طليعة لخاقان فأسر قائدهم وسبعة معه وهرب بقيتهم فأتى به أسد فبكى التركي فقال ما يبكيك قال لست أبكي لنفسي ولكني أبكي لهلاك خاقان انه قد فرق جنوده بينه وبين مرو.
فسار أسد حتى شارف مدينة الجوزجان فنزل عليها على فرسخين من خاقان وكان قد استباحها خاقان فلما أصبحوا تراءى العسكران فقال خاقان للحرث بن سريج ألم تكن أخبرتني أنه أسدا لا حراك به وهذه العساكر قد أقبلت من هذا قال هذا محمد بن المثنى ورايته.
فبعث خاقان طليعة وقال انظروا هل ترون على الإبل سريرا وكراسي فعادوا إليه فأخبروه أنهم رأوها فقال خاقان هذا أسد.
وسار أسد قدر غلوة، فلقيه سالم بن جناح فقال أبشر أيها الأمير قد حزرتم ولا يبلغون أربعة آلاف وأرجو أن يكون خاقان عقيرة الله فصف أسد أصحابه وعبأ خاقان أصحابه فلما التقوا حمل الحرث ومن معه من الصغد وغيرهم وكانوا ميمنة خاقان على ميسرة أسد فهزمهم فلم يردهم شيء دون رواق أسد وحملت ميمنة أسد وهم الجوزجان والأزد وتميم عليهم فانهزم الحرث من معه وانهزمت الترك جميعها وحمل الناس جميعا فتفرق الترك في الأرض لا يلوون على أحد فتبعهم الناس مقدار ثلاثة فراسخ
204

يقتلون [من يقدرون عليه] حتى انتهوا إلى أغنامهم وأخذوا منها أكثر من مائة ألف وخمسين ألف رأس ودواب كثيرة.
وأخذ خاقان طريقا في الجبل والحرث يحميه وسار منهزما فقال الجوزجاني لعثمان بن عبد الله بن الشخير إني لأعلم ببلادي وبطرقها فهل تتبعني لعلنا نهلك خاقان قال نعم فأخذا طريقا وسارا ومن معهما حتى أشرفوا على خاقان فأوقعوا به فولى منهزما فحوى المسلمون عسكر الترك وما فيه من الأموال ووجدوا فيه من نساء العرب والموليات من نساء الترك من كل شيء ووحل بخاقان برذونه فحماه الحرث بن سريج ولم يعلم الناس أنه خاقان وأراد الخصي الذي لخاقان ان يحمل امرأة خاقان فأعجلوه فقتلها واستنقذوا من كان مع خاقان من المسلمين.
وتتبع أسد خيل الترك التي فرقها في الغارة إلى مرو الروذ وغيرها فقتل من قدر عليه منهم ولم ينج منهم غير القليل ورجع إلى بلخ وكان بشر الكرماني في السرايا فيصيبون من الترك الرجل والرجلين وأكثر.
ومضى خاقان إلى طخارستان وأقام عند جبوية الخزلجي ثم ارتحل إلى بلاده فلما ورد أشروسنة تلقاه خرا بغره أبو خاناجزه جد كاوس أبي أفشين بكل ما قدر عليه وكان ما بينهما متباعدا إلا أنه أحب أن يتخذ عنده يدا ثم أتى خاقان بلاده واستعد للحرب ومحاصرة سمرقند وحمل الحرث وأصحابه على خمسة آلاف برذون فلاعب خاقان يوما كروصول بالنرد على خطر فتنازعا فضرب كورصول يد خاقان فكسرها وتنحى وجمع جمعا وبلغه أن خاقان قد حلف ليكسرن يده فبيت خاقان فقتله وتفرقت الترك وتركوه مجردا فأتاه نفر من الترك فدفنوه واشتغلت الترك يغير
205

بعضها على بعض فعند ذلك طمع أهل الصغد في الرجعة إليها.
وأرسل أسد مبشرا إلى هشام بن عبد الملك بما فتح الله عليهم وبقتل خاقان فلم يصدقه وقال للربيع حاجبه لا أظن هذا صادقا اذهب فعده ثم سله عما يقول ففعل ما أمره به فأخبره به هشام ثم أرسل أسد مبشرا آخر فوقف على باب هشام وكبر فأجابه هشام بالتكبير فلما انتهى إليه أخبره بالفتح فسجد شكرا لله تعالى فحسدت القيسية أسدا وقالوا: لهشام اكتب بطلب مقاتل بن حيان النبطي ففعل فسيره أسد إلى هشام فلما دخل عليه أخبره لما كان فقال له هشام حاجتك قال إن يزيد بن المهلب اخذ من ابني مائة ألف درهم بغير حق فاستحلفه على ذلك فكبت إلى أسد فردها عليه من بيت مال خراسان وقسمها مقاتل بين ورثة حيان على كتاب الله تعالى.
وفرائضه وقال أبو الهندي يذكر هذه الوقعة:
(أبا منذر رمت الأمور وقستها * وساءلت عنها كالحريص المساوم)
(فما كان ذو رأي من الناس قسته * برأيك الأمثل رأي البهائم)
(أبا منذر لولا مسيرك لم يكن * عراق ولا انقادت ملوك الأعاجم)
(ولا حج بيت الله من حج راكبا * ولا عمر البطحاء بعد المواسم)
(وكم من قتيل بين سان وجزة * كثير الأيادي من ملوك قماقم)
(تركت بأرض الجوزجان تزوره * سباع وعقبان لحز الغلاصم)
(وذي سوقة فيه من السيف خبطة * به رمق ملقى لحوم الحوائم)
206

(فمن هارب منا ومن دائن لنا * أسيرا يقاسي مبهمات الأداهم)
(فدتك نفوس من تميم وعامر * ومن مضر الحمراء عند المآزم)
(هم أطمعوا خاقان فينا فأصبحت * حلائبه ترجو خلو المغانم)
وكان ابن السايجي الذي أخبر أسدا بمجيء خاقان قد استخلفه السبل على مملكته عند موته وأوصاه بثلاث خصال قال لا تستطل على أهل الختل استطالتي عليهم فإني ملك وأنت لست بملك إنما أنت رجل منهم وقال له اطلب الحنيش حتى ترده إلى بلادكم فإنه الملك بعدي وكان الحنيش قد هرب إلى الصين وقال له لا تحاربوا العرب وادفعوها عنكم بكل حيلة فقال له ابن السايجي أما تركي استطالتي عليهم وردي الحنيش فهو الرأي وأما قولك لا تحاربوا العرب فكيف وقد كنت أكثر الملوك محاربة لهم قال السبل قد جربت قوتكم بقوتي فما رأيتكم تقعون مني موقعا وكنت إذا حاربتهم لم أفلت [منهم] إلا جريضا، وإنكم إذا حاربتموهم هلكتم. فهذا الذي أكره إلى ابن السايجي ومحاربة العرب.
ذكر قتل المغيرة بن سعيد وبيان
في هذه السنة خرج المغيرة بن سعيد وبيان في ستة نفر وكانوا يسمون الوصفاء وكان المغيرة ساحرا وكان يقول: لو أردت أن أحيي عادا وثمودا
207

وقرونا بين ذلك كثيرا لفعلت وبلغ خالد بن عبد الله القسري خروجهم بظهر الكوفة وهو يخطب فقال أطعموني ماء فقال يحيى بن نوفل في ذلك:
(أخالد لا جزاك الله خيرا * وأير في حر أمك من أمير)
(وكنت لدى المغيرة عبد سوء * تبول من المخافة للزئير)
(وقلت لما أصابك أطعموني * شرابا ثم بلت على السرير)
(لأعلاج ثمانية وشيخ * كبير السن ليس بذي نصير)
فأرسل خالد فأخذهم وأمر بسريره فأخرج إلى المسجد الجامع وأمر بالقصب والنفط فأحضر فأحرقهم وأرسل إلى مالك بن أعين الجرمي فسأله فصدقه فتركه.
وكان رأي المغيرة التجسيم يقول إن الله على صورة رجل على رأسه تاج وأن أعضاءه على عدد حروف الهجاء ويقول مالا ينطق به لسان تعالى الله عن ذلك ويقول إن الله تعالى لما أراد أن يخلق تكلم باسمه الأعظم فطار فوقع على تاجه ثم كتب بإصبعه على كفه أعمال عباده من المعاصي والطاعات فلما رأى المعاصي ارفض عرقا فاجتمع من عرقه بحران أحدهما ملح مظلم والآخر عذب نير ثم اطلع في البحر فرأى ظله فذهب ليأخذه فطار فأدركه فقلع عيني ذلك الظل ومحقه فخلق من عينية الشمس وسماء أخرى وخلق من البحر الملح الكفار ومن البحر العذب المؤمنين وكان يقول بإلهية علي وتكفير أبي بكر وعمر وسائر الصحابة إلا من ثبت مع
208

علي، وكان يقول: إن الأنبياء لم يختلفوا في شيء من الشرائع وكان يقول بتحريم ماء الفرات وكل نهر أو عين أو بئر وقعت فيه نجاسة وكان يخرج إلى المقبرة فيتكلم فيرى أمثال الجراد على القبور.
وجاء المغيرة إلى محمد الباقر فقال له أقرر أنك تعلم الغيب حتى أجبي لك العراق فنهره وطرده وجاء إلى ابنه جعفر بن محمد الصادق فقال له مثل ذلك فقال أعوذ بالله وكان الشعبي يقول للمغيرة ما فعل الإمام فيقول أتهزأ به فيقول لا إنما أهزأ بك.
وأما بيان فإنه كان يقول بإلهية علي وأن الحسن والحسين إلهان ومحمد بن الحنفية بعدهم ثم بعده ابنه أبو هاشم بن محمد بنوع من التناسخ وكان يقول إن الله تعالى يفنى جميعه إلا وجهه ويحتج بقوله: (ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام). تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا وادعى النبوة وزعم أنه المراد بقوله تعالى: (هذا بيان للناس).
ذكر خبر الخوارج هذه السنة
في هذه السنة خرج بهلول بن بشر الملقب كثارة وهو من الموصل من شيبان.
فقتل: وكان سبب خروجه أنه خرج يريد الحج فأمر غلامه يبتاع له
209

خلا بدرهم، فأتاه بخمر فأمره برده وأخذ الدرهم فلم يجبه صاحب الخمر إلى ذلك فجاء بهلول إلى عامل القرية وهي من السواد فكلمه فقال العامل الخمر خير منك ومن قولك فمضى في حجه وقد عزم على الخروج فلقي بمكة من كان على مثل رأيه فاتعدوا قرية من قرى الموصل فاجتمعوا بها وهم أربعون رجلا وأمروا عليهم بهلولا وكتموا أمرهم وجعلوا لا يمرون بعامل إلا أخبروه أنهم قدموا من عند هشام على بعض الأعمال وأخذوا دواب البريد فلما انتهوا إلى القرية التي ابتاع الغلام بها الخمر قال بهلول نبدأ بهذا العامل فنقتله فقال أصحابه نحن نريد قتل خالد فإن بدأنا بهذا شهر أمرنا وحذرنا خالد وغيره فنشدناك الله أن لا تقتل هذا فيفلت منا خالد الذي يهدم المساجد ويبني البيع والكنائس ويولي المجوس على المسلمين وينكح أهل الذمة المسلمات فاذهب بنا إليه لعلنا نقتله فيريح الله منه فقال والله لا أدع ما يلزمني لما بعده وأرجو أن أقتل هذا وخالدا فقتله فعلم بهم الناس أنهم خوارج فهربوا وخرجت البرد إلى خالد فاعلموه بهم ولا يدرون من رئيسهم.
فخرج خالد من واسط وأتى الحيرة وكان بها جند قد قدموا من الشام مددا لعامل الهند فأمرهم خالد بقتاله وقال من قتل منهم رجلا أعطيته عطاء سوى ما أخد في الشام وأعفيته من الخروج إلى أرض الهند فسارعوا إلى ذلك فتوجه مقدمهم وهو من بني القين ومعه ستمائة منهم فضم إليه خالد مائتين من الشرط فالتقوا على الفرات فقال القيني لمن معه من الشرط لا تكونوا معنا ليكون الظفر له ولأصحابه وخرج إليهم بهلول فحمل على القيني فطعنه فأنفذه وانهزم أهل الشام والشرط وتبعهم بهلول وأصحابه يقتلونهم حتى بلغوا الكوفة.
فأما أهل الشام فكانوا على خيل جياد ففاتوهم وأما شرط الكوفة
210

فأدركهم فقالوا: اتق الله فينا فإنا مكرهون مظهرون فجعل يقرع رؤوسهم بالرمح ويقول النجاء النجاء ووجد بهلول مع القيني بدرة فأخذها.
وكان في الكوفة ستة يرون رأي بهلول فخرجوا إليه فقتلوا بصريفين فخرج بهلول ومعه البدرة فقال من قتل هؤلاء حتى أعطيه هذه البدرة فجاء قوم فقالوا: نحن قتلناهم وهم يظنونه من عند خالد فقال بهلول لأهل القرية أصدق هؤلاء قالوا: نعم فقتلهم وترك أهل القرية.
وبلغت الهزيمة خالدا وما فعل بصريفين فوجه إليه قائدا من شيبان أحد بني حوشب بن يزيد بن رويم فلقيه فيما بين الموصل والكوفة فانهزم أهل الكوفة فأتوا خالدا فارتحل بهلول من يومه يريد الموصل فكتب عامل الموصل إلى هشام بن عبد الملك يخبره بهم ويسأله جندا فكتب إليه هشام وجه إليه كثارة بن بشر وكان هشام لا يعرف بهلولا إلا بلقبه فكتب إليه العامل أن الخارج هو كثارة ثم قال بهلول لأصحابه إنا والله ما نصنع بابن النصرانية شيئا يعني خالدا فلم لا نطلب الرأس الذي سلط خالدا فسار يريد هشاما بالشام فخاف عمال هشام من هشام إن تركوه يجوز إلى بلادهم فسير خالد جندا من العراق وسير عامل الجزيرة جندا من الجزيرة ووجه هشام جندا من الشام واجتمعوا بدير بين الجزيرة والموصل وأقبل بهلول إليهم وقيل التقوا بكحيل دون الموصل فنزل بهلول على باب الدير وهو في سبعين وحمل عليهم فقتل منهم نفرا وقاتلهم عامة نهاره وكانوا عشرين ألفا فأكثر فيهم القتل والجراح ثم ان بهلولا وأصحابه عقروا دوابهم وترجلوا فقاتلوا قتالا شديدا فقتل كثير من أصحاب بهلول فطعن بهلول فصرع فقال له أصحابه ول أمرنا من بعدك من يقدم له فقال إن هلكت فأمير المؤمنين دعامة الشيباني وإن هلك فأمروا اليشكري ومات بهلول من ليلته فلما أصبحوا
211

هرب دعامة وخلاهم فقال الضحاك بن قيس يرثي بهلولا:
(بدلت بعد أبي بشر وصحبته * قوما علي مع الأحزاب أعوانا)
(كأنهم لم يكونوا من صحابتنا * ولم يكونوا لنا بالأمس خلانا)
(بأعين أذري دموعا منك تهتانا * وابكي لنا صحبة بانوا وإخوانا)
(خلوا لنا ظاهر الدنيا وباطنها * وأصبحوا في جنان الخلد جيرانا)
فلما قتل بهلول خرج عمرو اليشكري فلم يلبث أن قتل.
وخرج البختري صاحب الأشهب وبهذا كان يعرف على خالد في ستين فوجه إليه خالد الشمط بن مسلم البجلي في أربعة آلاف فالتقوا بناحية الفرات فانهزمت الخوارج فتلقاهم عبيد أهل الكوفة وسفلتهم فرموهم بالحجارة حتى قتلوهم.
ثم خرج وزير السختياني على خالد بالحيرة في نفر فجعل لا يمر بقرية إلا أحرقها ولا يلقى أحدا إلا قتله وغلب على ما هنالك وعلى بيت المال فوجه إليه خالد جندا فقاتلوا عامة أصحابه وأثخن بالجراح وأتى به خالد وأقبل على خالد فوعظه فأعجب خالدا ما سمع منه فلم يقتله وحبسه عنده وكان يؤتى به في الليل فيحادثه فسعى بخالد إلى هشام وقيل أخذ حروريا قد قتل وحرق وأباح الأموال فجعله سميرا فغضب هشام وكتب إليه يأمره بقتله وكان خالد يقول إني أنفس به عن الموت فأخر قتله فكتب إليه هشام ثانيا يذمه ويأمره بقتله واحراقه فقتله وأحرقه ونفرا معه ولم يزل يتلوا القرآن حتى مات وهو يقرأ: (قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون).
212

ذكر خروج الصحارى بن شبيب
وفي هذه السنة خرج الصحارى بن شبيب بن يزيد بناحية جبل وكان قد أتى خالدا يسأله الفريضة فقال خالد وما يصنع ابن شبيب بالفريضة فمضى وندم خالد وخاف أن يفتق عليه [فتقا]، فطلبه فلم يرجع إليه وسار حتى أتى جبل وبها نفر من بني تيم اللات بن ثعلبة فأخبرهم فقالوا: وما ترجو من ابن النصرانية كنت أولى أن تسير إليه بالسيف فتضربه به فقال والله ما أردت الفريضة وما أردت إلا التوصل إليه لئلا ينكرني ثم أقتله بفلان يعني بفلان رجلا من قعدة الصفرية وكان خالد قتله صبرا ثم دعاهم إلى الخروج معه فتبعه منهم ثلاثون رجلا وخرج بهم فبلغ خبره خالدا فقال قد كنت خفتها منه ثم وجه إليه خالد جندا فلقوه بناحية المناذر فقاتلهم قتالا شديدا فقتلوه وجميع أصحابه.
ذكر غزوة أسد الختل
وفيها غزا أسد الختل فوجه مصعب بن عمرو الخزاعي إليها فسار حتى نزل بقرب بدر طرخان فطلب الأمان ليخرج إلى أسد فآمنه مصعب وسيره إلى أسد فسأله أن يقبل منه ألف ألف درهم فأبى أسد وقال إنك دخلتها وأنت غريب من أهل الباميان اخرج من الختل كما دخلت فقال بدرطرخان فأنت دخلت إلى خراسان على عشرة من الدواب ولو خرجت منها لم تحتمل على
213

خمسمائة بعير وغير ذلك إني دخلت الختل شابا فاردد علي شبابي وخذ ما كسبت منها.
فغضب أسد ورده إلى مصعب ليمكنه من العود إلى حصنه فوصل بدر طرخان مع مولى لأسد إلى مصعب فأخذه سلمة بن عبيد الله وهو من الموالي وقال إن الأمير يندم على تركه وحبسه عنده.
وأقبل أسد بالناس فقال لمجشر بن مزاحم كيف أنت قال مجشر كنت أمس أحسن حالا مني اليوم كان بدر طرخان في أيدينا وعرض ما عرض فلا الأمير قبل منه ما عرض عليه ولا هو شد يده عليه ولكنه خلى سبيله وأمر بإدخاله حصنه فندم أسد عند ذلك وأرسل إلى مصعب يسأله هل دخل بدر طرخان حصنه أم لا فجاء الرسول فوجده عند سلمة بن عبيد الله فحوله أسد إليه وأمر به فقطعت يده وقال من ههنا من أولياء أبي فديك رجل من الأزد كان بدرطرخان قد قتله فقام رجل من الأزد فقال أنا
فقال اضرب عنقه ففعل وغلب أسد على القلعة العظمى وبقيت قلعة فوقها صغيرة وفيها ولده وأمواله فلم يصل إليها وفرق أسد العسكر في أودية الختل فملأ أيديهم من الغنائم والسبي وهرب أهله إلى الصين.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة غزا الوليد بن القعقاع أرض الروم وحج بالناس هذه السنة أبو شاكر مسلمة بن هشام بن عبد الملك وحج معه ابن شهاب [الزهري].
214

وكان العامل على مكة والمدينة والطائف محمد بن هشام المخزومي وعلى العراق والمشرق كله خالد القسري وعلى خراسان أخوه أسد وقيل كان أسد قد هلك في هذه السنة واستخلف عليها جعفر بن حنظلة البهراني وقيل إنما هلك أسد سنة عشرين ومائة على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وفيها غزا مروان بن محمد أرمينية فدخل بلاد اللان وسار فيها حتى خرج منها إلى بلاد الخزر فمر ببلنجر وسمندر وانتهى إلى البيضاء التي يكون فيها خاقان فهرب خاقان منه.
وفيها توفي حبيب بن أبي ثابت وعبد الرحمن بن سعيد بن يربوع المخزومي وقيس بن سعد المكي وسليمان بن موسى الأشدق وأياس بن سلمة بن الأكوع.
215

120
ثم دخلت سنة عشرين ومائة
ذكر وفاة أسد بن عبد الله
في هذه السنة في ربيع الأول توفي أسد بن عبد الله القسري بمدينة بلخ وكان سبب موته أنه كان به دبيلة [في جوفة] فأصابه مرض قم أفاق منه فخرج يوما فأتي بكمثرى أول ما جاء فأطعم الناس منه واحدة واحدة وأخذ كمثراة فرمى بها إلى خراسان دهقان هراة فانقطعت الدبيلة فهلك واستخلف جعفر بن حنظلة البهراني فعمل أربعة أشهر ثم جاء عهد نصر بن سيار بالعمل في رجب.
وكان هذا خراسان دهقان هراة خصيصا بأسد فقدم عليه في المهرجان ومعه من الهدايا والتحف ما لم يحمل غيره مثله وكانت قيمة الهدايا ألف ألف وقال لأسد إنا معشر العجم أكلنا الدنيا أربعمائة سنة بالحلم والعقل والوقار وكان الرجال فينا ثلاثة ميمون النقيبة أينما توجه فتح الله عليه والذي يليه رجل تمت مروءته في بيت فإن كذلك رحب وجيا ورجل رحب صدره وبسط يده فإذا كان كذلك قدم وقود وقد جعل الله صفات هؤلاء فيك فما تعلم [أحدا] هو أتم كتخدانية منك، إنك عزيز ضابط أهل بيتك
216

وحشمك ومواليك فليس منهم من يستطيع أن يعتدي على صغير ولا كبير ثم بنيت الإيوانات في المفاوز من أحسن ما عمل ومن يمن نقيبتك أنك لقيت خاقان وهو في مائة ألف ومعه الحرث بن سريج فهزمته وقتلته وقتلت أصحابه وأبحت عسكره وأما رحب صدرك وبسط يدك فإنا لا ندري أي المالين أحب إليك أمال قدم عليك أم مال خرج من عندك بل أنت بما خرج أقر عينا فضحك أسد وقال أنت خير دهاقيننا وفرق جميع الهدية بين أصحابه ولما مات أسد رثاه ابن العرس العبدي فقال:
(نعى أسد بن عبد الله ناع * فريع القلب للملك المطاع)
(ببلخ وافق المقدار يسرى * وما لقضاء ربك من دفاع)
(فجودي عين بالعبرات سحا * ألم يحزنك تفريق الجماع)
في أبيات غيرها ولما مات أسد كتب مسلمة بن هشام بن عبد الملك وهو أبو شاكر إلى خالد القسري:
(أراح من خالد فأهلكه * رب أراح العباد من أسد)
(أما أبوه فكان مؤتشبا * عبدا لئيما لأعبد فقد)
(يرى الزنا والصليب والخمر * والخنزير حلا والغي كالرشد)
(وأمه همها وبغيتها * هم الإماء العواهر الشرد)
(كافرة بالنبي مؤمنة * بقسها والصليب والعمد)
217

يعني المعمودية فلما قرأ خالد الكتاب قال يا عباد الله من رأى كهذه تعزية رجل من أخيه وكان ما بين خالد وأبي شاكر مباعدة وسببها أن هشاما يرشح ابنه أبا شاكر للخلافة فقال الكميت:
(إن الخلافة كائن أوتادها * بعد الوليد إلى ابن أم حكيم)
يعني أبا شاكر وأمه أم حكيم فبلغ الشعر خالدا فقال أنا كافر بكل خليفة يكنى أبا شاكر فسمعها أبو شاكر فحقدها عليه.
ذكر شيعة بني العباس بخراسان
وفي هذه السنة وجهت شيعة بني العباس بخراسان إلى محمد بن علي بن عبد الله بن العباس سليمان بن كثير ليعلمه أمرهم وما هم عليه.
وكان سبب ذلك أن محمدا ترك مكاتبتهم ومراسلتهم بطاعتهم التي كانت لخداش الذي تقدم ذكره وقبولهم منه ما روى عنه من الكذب فلما أبطأت كتبه ورسله عليهم أرسلوا سليمان ليعلم الخبر فقدم عليه فعنفه محمد في ذلك ثم صرف سليمان إلى خراسان ومعه كتاب مختوم ففضوه فلم ير فيه إلا بسم الله الرحمن الرحيم فعظم ذلك عليهم وعلموا مخالفة خداش لأمره ثم وجه محمد بن علي إليهم بكير بن ماهان بعد عود سليمان من عنده وكتب معه إليهم يعلمهم كذب خداش فلم يصدقوه واستخفوا به فانصرف بكير
إلى محمد فبعث معه بعصى مصببة بعضها بحديد وبعضها بنحاس
218

فجمع بكير النقباء والشيعة ودفع إلى كل واحد منهم عصا فعلموا أنهم مخالفون لسيرته فتابوا ورجعوا.
ذكر عزل خالد بن عبد الله القسري وولاية يوسف بن عمر الثقفي
وفي هذه السنة عزل هشام بن عبد الملك خالدا عن أعماله جميعها وقد اختلفوا في ذلك وسببه.
قيل: إن فروخ أبا المثنى كان على ضياع هشام بنهر الرمان فثقل مكانه على خالد فقال خالد لحيان النبطي اخرج إلى هشام وزد على فروخ ففعل حيان ذلك وتولاها فصار حيان أثقل على خالد من فروخ فجعل يؤذيه فيقول حيان لا تؤذني وأنا صنيعتك فأبى إلا أذاه فلما قدم عليه بثق البثوق على الضياع ثم خرج إلى هشام فقال له ان خالدا بثق البثوق على ضياعك فوجه هشام من ينظر إليها فقال حيان لخادم من خدم هشام إن تكلمت بكلمة أقولها لك حيث يسمع هشام فلك ألف لخادم من خدم هشام إن تكلمت بكلمة أقولها لك حيث يسمع هشام فلك ألف دينار قال فعجلها [وأقول ما شئت]، فأعطاه ألفا وقال له: تبكي صبيا من صبيان هشام فإذا بكى فقل له أبكيت والله لكأنك ابن خالد القسري
219

الذي غلته ثلاثة عشر ألف ألف ففعل الخادم فسمعها هشام فسأل حيان عن غلة خالد فقال ثلاثة عشر ألف ألف فوقرت في نفس هشام.
وقيل كانت غلته عشرين ألفا وإنه حفر بالعراق الأنهار منها نهر خالد وباجرى وتارمانا والمبارك والجامع وكورة سابور والصلح وكان كثيرا ما يقول إنني مظلوم ما تحت قدمي شيء إلا هو لي يعني ان عمر جعل لبجيلة ربع السواد.
وأشار عليه العريان بن الهيثم وبلال أبي بردة بعرض املاكه على هشام ليأخذ منها ما أراد ويضمنان له الرضا فإنهما قد بلغهما تغير هشام عليه فلم يفعل ولم يجبهما إلى شيء وقيل لهشام ان خالدا قال لولده ما أنت بدون مسلمة بن هشام!
ودخل رجل من آل عمرو بن سعيد بن العاص على خالد في مجلسه فأغلظ له في القول فكتب إلى هشام يشكو خالدا فكتب هشام إلى خالد يذمه ويلومه ويوبخه ويأمره أن يمشي راجلا إلى بابه ويترضاه فقد جعل عزله وولايته إليه وكان يذكر هشاما فيقول ابن الحمقى وكان خالد يخطب فيقول زعمتم أني أغلى أسعاركم فعلى من يغليها لعنة الله!
وكان هشام كتب إليه أن لا تبيعن من الغلات شيئا حتى تباع غلات أمير المؤمنين فبلغت كيلها دراهم وكان يقول لابنه كيف أنت إذا احتاج إليك أمير المؤمنين؟
220

فبلغ هذا جميعه أمير المؤمنين هشاما فتنكر له وبلغه أيضا أنه يستقل ولاية العراق فكتب إليه هشام يا ابن أم خالد بلغني أنك تقول ما ولاية العراق لي بشرف يا ابن اللخناء كيف لا تكون امرة العراق لك شرفا فأين أنت من بجيلة القليلة الذليلة أما والله إني لأظن أن أول ما يأتيك صغير من قريش يشد يديك إلى عنقك.
ولم يزل يبلغه عنه ما يكره فعزم على عزله فكتم ذلك وكتب إلى يوسف بن عمر وهو باليمن يأمره أن يقدم في ثلاثين من أصحابه إلى العراق فقد ولاه ذلك فسار يوسف إلى الكوفة فعرس قريبا منها وقد ختن طارق خليفة خالد بالكوفة ولده فأهدى إليه ألف وصيف ووصيفة سوى الأموال والثياب فمر بيوسف بعض أهل العراق فسألوه ما أنتم وأين تريدون قالوا: بعض المواضع فأتوا طارقا فأخبروه خبرهم وأمروه بقتلهم وقالوا: إنهم خوارج فسار يوسف إلى دور ثقيف فقيل لهم: ما أنتم فكتموا حالهم وأمر يوسف فجمع إليه من هناك من مضر فلما اجتمعوا دخل المسجد مع الفجر وأمر المؤذن وأقام الصلاة فصلى وأرسل إلى طارق وخالد فأخذهما وان القدور لتغلي.
وقيل: لما أراد هشام أن يولي يوسف بن عمر العراق كتم ذلك فقدم جندب مولى يوسف بكتاب يوسف إلى هاشم فقرأه ثم قال لسالم بن عنبسة وهو على الديوان أن أجبه عن لسانك وأمني بالكتاب وكتب هشام بخطه كتابا صغيرا إلى يوسف يأمره بالمسير إلى العراق فكتب سالم الكتاب وأتى به هشاما فجعل كتابه في وسطه وختمه ثم دعا رسول يوسف فأمر به فضرب ومزقت ثيابه ودفع الكتاب إليه فسار فارتاب بشير بن أبي طلحة، وكان
221

خليفة سالم فقال هذه حيلة وقد ولي يوسف العراق فكتب إلى عياض وهو نائب سالم بالعراق ان أهلك قد بعثوا إليك بالثوب اليماني فإذا أتاك فالبسه واحمد الله تعالى وأعلم ذلك طارقا فأعلم عياض طارق بن أبي زياد بالكتاب له.
ثم ندم بشير على كتابه فكتب إلى عياض أن أهلك قد بدا لهم في إرسال الثوب فأتى عياض بالكتاب الثاني إلى طارق فقال طارق الخبر في الكتاب الأول ولكن بشير ندم وخاف أن يظهر الخبر.
وركب طارق من الكوفة إلى خالد وهو بواسط فرآه داود البريدي وكان على حجابة خالد وديوانه فاعلم خالدا فأذن له فلما رآه قال ما أقدمك بغير إن قال أمر كنت أخطأت فيه كنت قد كتبت إلى الأمير أعزيه بأخيه أسد وانما كان يجب أن آتيه ماشيا فرق خالد ودمعت عيناه وقال ارجع إلى عملك فأخبره الخبر لما غاب داود قال فما الرأي قال تركب إلى أمير المؤمنين فتعتذر إليه مما بلغه عنك قال لا أفعل ذلك بغير إذن قال فترسلني إليه حتى آتيك بإذنه قال ولا هذا قال فاذهب فأضمن لأمير المؤمنين جميع ما انكسر في هذه السنين وآتيك بعهده قال وكم مبلغه قال مائة ألف ألف قال ومن أين أجدها والله ما أجد عشرة آلاف الف درهم قال أتحمل أنا وفلان وفلان قال إني إذا اللئيم إن كنت أعطيتهم شيئا وأعود فيه فقال طارق إنما نقيك ونقي أنفسنا بأموالنا ونستأنف الدنيا وتبقى النعمة عليك وعلينا خير من أن يجيء من يطالبنا بالأموال وهي عند أهل الكوفة فيتربصون فنقتل ويأكلون تلك
222

الأموال. فأبى خالد فودعه طارق وبكى وقال هذا آخر ما نلتقي في الدنيا ومضى إلى الكوفة وخرج خالد إلى الجمة.
وقدم رسول يوسف عليه اليمن فقال أمير المؤمنين ساخط وقد ضربني ولم يكتب جواب كتابك وهذا كتاب سالم صاحب الديوان.
فقرأه فلما انتهى إلى أخره قرأ كتاب هشام بخطه وولاية العراق يأمره أن يأخذ ابن النصرانية يعني خالدا وعماله ويعذبهم حتى يشتفي فأخذ دليلا وسار من يومه واستخلف على اليمن ابنه الصلت فقدم الكوفة في جمادى الآخر سنة عشرين ومائة فنزل النجف وأرسل مولاه كيسان وقال أنطلق فأتني بخالد فاحمله على اكاف وان لم يقبله فأت به سحبا.
فأتى كيسان الحيرة فأخذ معه عبد المسيح سيد أهلها إلى طارق فقال له إن يوسف قد قدم على العراق وهو يستدعيك فقال طارق لكيسان إن أراد الأمير المال أعطيته ما سأل واقبلوا به إلى يوسف بن عمر فتوافوا بالحيرة فضربه ضربا مبرحا يقال خمسمائة سوط ودخل الكوفة وأرسل عطاء بن مقدم إلى خالد بالجمة فأتى الرسول حاجبه وقال استأذن [لي] على أبي الهيثم فدخل على خالد متغير اللون فقال خالد ما لك قال خير قال ما عندك خير! فقال عطاء [قال]: استأذن لي على أبي الهيثم فقال ائذن له فدخل عليه فقال ويل أمها سخطة ثم أخذه فحبسه وصالحه عنه أبان بن الوليد وأصحابه على تسعة آلاف آلف فقيل ليوسف لو لم تفعل
223

لأخذت منه مائة ألف ألف فندم وقال قد رهنت لساني معه ولا آمن ولا أرجع.
وأخبر أصحاب خالد خالدا فقال قد أخطأتم ولا آمن أن يأخذها ثم يعود ارجعوا فرجعوا فأخبروه أن خالدا لم يرض فقال قد رجعتم قالوا: نعم قال والله لا أرضى بمثلها ولا مثليها فأخذ أكثر من ذلك وقيل أخذ مائة ألف فأرسل يوسف إلى بلال بن أبي بردة فقبضه وكان قد اتخذ بلال بالكوفة دارا لم ينزلها فأحضره يوسف مقيدا فأنزله الدار ثم جعلت سجنا وكان خالد يصل الهاشميين ويبرهم فأتاه محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان ليستميحه فلم ير منه ما يحب فقال أما الصلة فللهاشميين وليس لنا منه إلا أنه يلعن عليا فبلغت خالدا فقال إن أحب فلنا عثمان بشيء.
وكان خالد مع هذا يبالغ في سب علي فقيل كان يفعل ذلك نفيا للتهمة وتقربا إلى القوم.
وكانت ولاية خالد العراق في شوال سنة خمس ومائة وعزل في جمادى الأولى سنة عشرين ومائة ولما ولي يوسف العراق كان الإسلام ذليلا والحكم فيه إلى أهل الذمة فقال يحيى بن نوفل فيه:
(أتانا وأهل الشرك أهل زكاتنا * وحكامنا فيما نسر ونجهر)
(فلما أتانا يوسف الخير أشرقت * له الأرض حتى كل واد منور)
(وحتى رأينا العدل في الناس ظاهرا * وما كان من قبل العقيلي يظهر)
في أبيات ثم قال بعد ذلك:
224

(أرانا والخليفة إذ رمانا * مع الاخلاص بالرجل الجديد)
(كأهل النار حين دعوا أغيثوا * جميعا بالحميم وبالصديد)
وكان في يوسف أشياء متباينة متناقضة كان طويل الصلاة ملازما للمسجد ضابطا لحشمه وأهله عن الناس لين الكلام متواضعا حسن الملكة كثير التضرع والدعاء فكان يصلي ولا يكلم أحدا حتى يصلي الضحى يقرأ القرآن ويتضرع وكان بصيرا بالشعر والأدب وكان شديد العقوبة في ضرب الأبشار فكان يأخذ الثوب الجديد فيمر ظفره عليه فإن تعلق به طاقه ضرب صاحبه وربما قطع يده وكان أحمق أتي يوما بثوب فقال لكاتبه ما تقول في هذا الثوب فقال كان ينبغي أن تكون بيوته أصغر مما هي فقال للحائك صدق يا ابن اللخناء فقال الحائك نحن أعلم بهذا فقال لكاتبه صدق يا ابن اللخناء فقال الكاتب هذا يعمل في السنة ثوبا أو ثوبين وأنا يمر على يدي في كل سنة مائة ثوب مثل هذا فقال للحائك صدق يا ابن اللخناء فلم يزل يكذب هذا مرة وهذا مرة حتى عد أبيات الثوب فوجدها تنقص بيتا من أحد جانبي الثوب فضرب الحائك مائة سوط.
وقيل إن يوسف أراد السفر فدعا جواريه فقال لإحداهن تخرجين معي قالت نعم قال يا خبيثة كل هذا من حب النكاح يا خادم اضرب رأسها وقال لأخرى ما تقولين فقالت أقيم على ولدي فقال يا خبيثة أكل هذا زهادة في اضرب رأسها وقال لثالثة ما تقولين قالت ما أدري ما أقول إن قلت ما قالت إحداهما لم آمن عقوبتك فقال يا لخناء أو تناقضين وتحتجين اضرب رأسها فضرب الجميع.
وكان قصيرا عظيم اللحية وكان يحضر الثوب الطويل ليفصله ليلبسه،
225

فإن قال الخياط انه يفضل منه ضربه فإن قال له الخياط ضربه فإن قال له الخياط لا يكفينا إلا بعد التصرف في التفصيل سره فكانوا يفصلون له ثيابا طوالا ويأخذون ما ينبغي من الثوب يوهمونه أن الثوب لم يكفه فيرضى بذلك وله في هذا الباب أشياء نوادر منها أنه قال يوما لكاتب له ما حبسك قال اشتكيت ضرسي فدعا بحجام يقلعه ومعه ضرس آخر.
ذكر ولاية نصر بن سيار الكناني خراسان
لما مات أسد بن عبد الله استشار هشام بن عبد الملك عبد الكريم بن سليط الحنفي وكان عالما فيمن يوليه خراسان فقال عبد الكريم يا أمير المؤمنين أما رجل خراسان حزما وندة فالكرماني فاعرض عنه وقال ما اسمه قال جديع بن علي قال لا حاجة لي فيه وتطير قال فالمسن المجرب يحيى بن نعيم بن هبيرة الشيباني قال ربيعة لا تسد بها الثغور قال عبد الكريم فقلت في نفسي كره ربيعة واليمن فارمه بمضر فقلت عقيل بن معقل الليثي إن غفرت هنته قال ما هي قلت ليس بالعفيف قال لا حاجة لي فيه قلت منصور بن أبي الخرقاء السلمي إن غفرت نكره فإنه مشؤوم قال غيره قلت فالمجشر بن مزاحم السلمي عاقل شجاع له رأي مع كذب فيه قال لا خير في الكذب قلت يحيى بن الحضين.
226

قال: ألم أخبرك أن ربيعة لا تسد بها الثغور؟ قال: فقلت: نصر بن سيار. قال: هو لها قلت إن غفرت واحدة فإنه عفيف مجرب عاقل قال ما هي قلت عشيرته بها قليلة قال لا أبالك! [أتريد عشيرة] أكثر مني؟ أنا عشيرته فكتب عهده وبعثه مع عبد الكريم.
وقد قيل عرض عليه عثمان بن الشخير وقيل له: إنه صاحب شراب وقيل له عن يحيى بن الحضين إنه كثير التيه وقيل له عن قطن بن قتيبة إنه مأثور فلم يولهم فاستعمل نصرا.
وكان جعفر بن حنظلة الذي استخلفه أسد على خراسان عند موته قد عرض على نصر أن يوليه بخارى فاستشار البختري بن مجاهد مولى بني شيبان فقال له لا تقبلها لأنك شيخ مضر بخراسان وكأنك بعهدك قد جاء على خراسان كلها فلما أتاه عهده بعث إلى البختري ليأتيه فقال البختري لأصحابه قد ولي نصر خراسان فلما أتاه سلم عليه بالإمرة فقال له من أين علمت قال كنت تأتيني فلما بعثت إلي علمت أنك قد وليت.
وأعطى نصر عبد الكريم لما أتاه بعهده عشرة آلاف درهم واستعمل على بلخ مسلم بن عبد الرحمن بن مسلم واستعمل على مرو الروذ وساج بن بكير بن وساج وعلى هراة الحرث بن عبد الله بن الحشرج وعلى نيسابور زياد بن عبد الرحمن القشيري وعلى خوارزم أبا حفص بن علي ختنه وعلى الصغد قطن بن قتيبة قال رجل من اليمانية ما رأيت عصبية مثل هذا قال بلى التي كانت قبلها فلم يستعمل أربع سنين إلا مضريا وعمرت خراسان عمارة لم تعمر قبلها وأحسن الولاية والجباية فقال سوار بن الأشعر:
227

(أضحت خراسان بعد الخوف آمنة * من ظلم كل غشوم الحكم جبار)
(لما أتى يوسفا أخبار ما لقيت * اختار نصرا لها نصر بن سيار)
وأتى نصرا عهده في رجب سنة عشرين ومائة.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة غزا سليمان بن هشام بن عبد الملك الصائفة وافتتح سندرة وفيها غزا إسحاق بن سلم العقيلي تومانشاه وافتتح قلاعها وخرب أرضها.
وحج بالناس هذه السنة محمد بن هشام بن إسماعيل المخزومي وقيل حج بهم سليمان بن هشام بن عبد الملك وقيل أخوه يزيد بن هشام وكان العامل على المدينة ومكة والطائف محمد بن هشام المخزومي وعلى العراق والمشرق يوسف بن عمر وعلى خراسان نصر بن سيار وقد أمره هشام أن يكاتب يوسف بن عمر وقيل كان عليها جعفر بن حنظلة وعلى البصرة كثير بن عبد الله السلمي استعمله يوسف وعلى قضائها عامر بن عبيدة وعلى أرمينية وأذربيجان مروان بن محمد وعلى قضاء الكوفة ابن شبرمة.
وفيها مات عاصم بن عمر بن قتادة في أصح الأقوال. وفيها مات مسلمة بن عبد الملك بن مروان وقيل سنة إحدى وعشرين بالشام وفيها مات قيس بن مسلم ومحمد بن إبراهيم بن الحرث التميمي وحماد بن سليمان الفقيه وواقد بن عمرو بن سعد بن معاذ وعلي بن مدرك النخعي الكوفي والقاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود الكوفي.
228

121
ثم دخلت سنة إحدى وعشرين ومائة
في هذه السنة غزا مسلمة بن هشام الروم فافتتح بها مطامير.
ذكر ظهور زيد بن علي بن الحسين
قيل إن زيد بن علي بن الحسين قتل هذه السنة وقيل سنة اثنتين وعشرين ومائة ونحن نذكر الآن سبب خلافه على هشام وبيعته ونذكر قتله سنة اثنتين وعشرين.
قد اختلفوا في سبب خلافه فقيل إن زيدا وداود بن علي بن عبد الله بن عباس ومحمد بن عمر بن علي بن أبي طالب قدموا على خالد بن عبد الله القسري بالعراق فأجازهم ورجعوا إلى المدينة فلما ولي يوسف بن عمر كتب إلى هشام بذلك وذكر له أن خالدا ابتاع من زيد أرضا بالمدينة بعشرة آلاف دينار ثم رد الأرض عليه فكتب هشام إلى عامل المدينة أن يسيرهم إليه ففعل فسألهم هشام عن ذلك فأقروا بالجائزة وأنكروا ما سوى ذلك وحلفوا فصدقهم وأمرهم بالمسير إلى العراق ليقابلوا خالدا فساروا على كره وقابلوا خالدا فصدقهم فعادوا نحو المدينة فلما نزلوا القادسية راسل أهل الكوفة زيدا فعاد إليهم.
وقيل: بل أدعى خالد القسري أنه أودع زيدا وداود بن علي ونفرا
229

من قريش مالا، فكتب يوسف بذلك إلى هشام فأحضرهم هشام من المدينة وسيرهم إلى يوسف ليجمع بينهم وبين خالد فقدموا عليه فقال يوسف لزيد إن خالدا زعم أنه أودعك مالا قال كيف يودعني وهو يشتم آبائي على منبره فأرسل إلى خالد فأحضره في عباءة فقال هذا زيد قد أنكر أنك قد أودعته شيئا فنظر إليه خالد إليه وإلى داود وقال ليوسف أتريد أن تجمع مع إثمك في إثما في هذا كيف أودعه وأنا أشتمه وأشتم آباءه على المنبر فقالوا: لخالد ما دعاك إلى ما صنعت قال شدد علي العذاب فادعيت ذلك وأملت أن يأتي الله بفرج قبل قدومكم فرجعوا واقام زيد وداود بالكوفة.
قيل إن يزيد بن خالد القسري هو الذي ادعى المال وديعة عند زيد فلما أمرهم هشام بالمسير إلى العراق إلى يوسف استقالوه خوفا من شر يوسف وظلمه فقال أنا أكتب إليه بالكف عنكم وألزمهم بذلك فساروا على كره.
وجمع يوسف بينهم وبين يزيد فقال يزيد: [ما] لي عندهم قليل ولا كثير قال يوسف أبي تهزأ أم بأمير المؤمنين فعذبه يومئذ عذابا كاد يهلكه ثم أمر بالفراشين فضربوا
وترك زيدا ثم استحلفهم وأطلقهم فلحقوا بالمدينة وأقام زيد بالكوفة وكان زيد قد قال لهشام لما أمره بالمسير إلى يوسف ما آمن إن بعثتني إليه أن لا نجتمع أنا وأنت حيين أبدا قال لا بد من المسير إليه فساروا إليه.
وقيل كان السبب في ذلك أن زيدا كان يخاصم ابن عمه جعفر بن الحسن بن الحسن بن علي في [ولاية] وقوف علي، [كان] زيد يخاصم عن بني الحسين وجعفر يخاصم عن بني الحسن فكانا يتبالغان [بين يدي الوالي إلى] كل غاية ويقومان فلا يعيدان مما كان بينهما حرفا.
230

فلما مات جعفر نازعه عبد الله بن الحسن بن الحسن فتنازعا يوما بين يدي خالد بن عبد الملك بن الحرث بالمدينة فأغلظ عبد الله لزيد وقال يا ابن السندية فضحك زيد وقال قد كان إسماعيل لأمه ومع ذلك فقد صبرت بعد وفاة سيدها إذ لم يصبر غيرها يعني فاطمة ابنة الحسين أم عبد الله فإنها تزوجت بعد أبيه الحسن بن الحسن ثم ندم زيد واستحيا من فاطمة وهي عمته فلم يدخل عليها زمانا فأرسلت إليه يا ابن أخي إني لأعلم أن أمك عندك كأم عبد الله عنده وقالت لعبد الله بئسما قلت لأم زيد أما والله لنعم دخيلة القوم كانت قال فذكر أن خالدا قال لهما اغدوا علينا غدا فلست لعبد الملك إن لم أفصل بينكما فباتت المدينة تغلي كالمرجل يقول قائل قال زيد كذا ويقول قائل قال عبد الله كذا.
فلما كان الغد جلس خالد في المسجد واجتمع الناس فمن بين شامت ومهموم فدعا بهما خالد وهو يحب أن يتشامتا فذهب عبد الله يتكلم فقال زيد لا تعجل يا أبا محمد أعتق زيد ما يملك ان خاصمك إلى خالد أبد ثم أقبل على خالد فقال أجمعت ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمر ما كان يجمعهم عليه أبو بكر ولا عمر فقال خالد ما لهذا السفيه أحد فتكلم رجل من الأنصار من آل عمرو بن حزم فقال يا ابن أبي تراب وابن حسين السفيه أما ترى للوالي عليك حقا ولا طاعة فقال زيد اسكت أيها القحطاني فإنا لا نجيب مثلك قال ولم ترغب عني فوالله إني لخير منك وأبي خير من أبيك وأمي خير من أمك فتضاحك زيد وقال يا معشر قريش هذا الدين قد ذهب فذهب الأحساب فوالله ليذهب دين القوم وما تذهب أحسابهم فتكلم عبد الله بن واقد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب
231

فقال: كذبت والله أيها القحطاني فوالله لهو خير منك نفسا وأما وأبا ومحتدا وتناوله بكلام كثير وأخذ كفا من حصباء وضرب بها الأرض ثم قال إنه والله مالنا على هذا من صبر.
وشخص زيد إلى هشام بن عبد الملك، فجعل هشام لا يأذن له فيرفع إليه القصص فكلما دفع قصة يكتب هشام في أسفلها ارجع إلى منزلك فيقول زيد والله لا أرجع إلى خالد أبدا ثم أذن له يوما بعد طول حبس ورقي عليه طويلة وأمر خادما أن يتبعه بحيث لا يراه زيد ويسمع ما يقول فصعد زيد وكان بدينا فوق بعض الدرجة فسمعه يقول والله لا يحب الدنيا أحد إلا ذل ثم صعد إلى هشام فحلف له على شيء فقال لا أصدقك فقال يا أمير المؤمنين إن الله لا يرفع أحدا عن أن يرضى بالله ولم يضع أحدا عن أن لا يرضى بذلك منه فقال هشام لقد بلغني يا زيد أنك تذكر الخلافة وتتمناها ولست هنالك وأنت ابن أمة قال زيد إن لك جوابا قال فتكلم قال إنه ليس أحد أولى بالله ولا أرفع درجة عنده من نبي ابتعثه وقد كان إسماعيل ابن أمة وأخوه ابن صريحة فاختاره الله عليه وأخرج منه خير البشر وما على أحد من ذلك إذ كان جدة رسول الله وأبوه علي بن أبي طالب ما كانت أمه قال له هشام اخرج قال أخرج ثم لا أكون إلا بحيث تكره فقال له سالم يا أبا الحسين لا تظهرن هذا منك.
فخرج من عنده وسار إلى الكوفة فقال له محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب: أذكرك الله يا زيد لما لحقت بأهلك ولا تأت أهل الكوفة،
232

فإنهم لا يفون لك فلم يقبل فقال له خرج بنا أسرى على غير ذنب من الحجاز إلى الشام ثم إلى الجزيرة ثم إلى العراق إلى قيس ثقيف يلعب بنا وقال:
(بكرت تخوفني المنون كأنني * أصبحت عن عرض الحياة بمعزل)
(فأجبتها إن المنية منهل * لا بد أن أسقى بكأس المنهل)
(ان المنية لو تمثل مثلت * مثلي إذا نزلوا بضيق المنزل)
(فاقني حياءك لا أبالك واعلمي * أني امرؤ سأموت إن لم أقتل)
أستودعك الله وإني أعطي عهدا إن دخلت يدي في طاعة هؤلاء ما عشت وفارقه وأقبل إلى الكوفة فأقام بها مستخفيا يتنقل في المنازل وأقبلت الشيعة تختلف إليه تبايعه فبايعه جماعة منهم سلمة بن كهيل ونصر بن خزيمة العبسي ومعاوية بن إسحاق بن زيد بن حارثة الأنصاري وناس من وجوه أهل الكوفة وكانت بيعته التي يبايع عليها الناس إنا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه وجهاد الظالمين والدفع عن المستضعفين وإعطاء المحرومين وقسم هذا الفيء بين أهله بالسواء ورد المظالم ونصر أهل البيت أتبايعون على ذلك فإذا قالوا: نعم وضع يده على أيديهم ويقول عليك عهد الله وميثاقه وذمته وذمة رسوله لتفين ببيعي ولتقاتلن عدوي ولتنصحن لي في السر والعلانية فإذا قال ننعم مسح يده على يده ثم قال اللهم اشهد فبايعه خمسة عشر ألفا وقيل أربعون ألفا فأمر أصحابه بالاستعداد،
233

فأقبل من يريد أن يفي له ويخرج معه ويستعد ويتهيأ فشاع أمره في الناس.
هذا على قول من زعم أنه أتى الكوفة من الشام واختفى بها يبايع الناس، وأما على قول من زعم أنه أتى إلى يوسف بن عمر لموافقة خالد بن عبد الله القسري أو ابنه يزيد بن خالد فإن زيدا أقام بالكوفة ظاهرا ومعه داود بن علي بن عبد الله بن عباس وأقبلت الشيعة تختلف إلى زيد وتأمره بالخروج ويقولون إنا لنرجو أن تكون أنت المنصور وأن هذا الزمان هو الذي تهلك فيه بنو أمية فأقام بالكوفة وجعل يوسف بن عمر يسأل عنه فيقال هو ههنا ويبعث إليه ليسير فيقول نعم ويعتل بالوجع فمكث ما شاء الله.
ثم أرسل إليه يوسف ليسير فاحتج بأنه يبتاع أشياء يريدها ثم أرسل إليه يوسف بالمسير عن الكوفة فاحتج بأنه يحاكم بعض آل طلحة بن عبيد الله بملك بينهما بالمدينة فأرسل إليه ليوكل وكيلا ويرحل عنها فلما رأى جد يوسف في أمره سار حتى أتى القادسية وقيل الثعلبية فتبعه أهل الكوفة وقالوا: له نحن أربعون ألفا لم يتخلف عنك أحد نضرب
عنك بأسيافنا وليس ههنا من أهل الشام إلا عدة يسيرة بعض قبائلنا يكفيكهم بإذن الله تعالى وحلفوا له بالأيمان المغلظة فجعل يقول إني أخاف أن تخذلوني وتسلموني كفعلكم بأبي وجدي فيحلفون له فقال له داود بن علي يا ابن عم إن هؤلاء يغرونك من نفسك أليس قد خذلوا من كان أعز عليهم منك جدك علي بن أبي طالب حتى قتل والحسن من بعده بايعوه ثم وثبوا عليه فانتزعوا رداءه وجرحوه أو ليس قد أخرجوا جدك الحسين وحلفوا له بأوكد الايمان وخذلوه وأسلموه ولم يرضوا بذلك حتى قتلوه فلا ترجع معهم فقالوا: إن هذا لا يريد أن تظفر أنت ويزعم أنه وأهل بيته أولى بهذا الأمر منكم قال زيد لداود إن عليا [كان] يقاتله معاوية بداهية ونكرائه [بأهل الشام]، وإن الحسين
234

قاتله يزيد والأمر مقبل عليهم فقال داود إني خائف إن رجعت معهم ان لا يكون أحد أشد عليك منهم وأنت أعلم.
ومضى داود إلى المدينة، رجع زيد إلى الكوفة، فلما رجع زيد أتاه سلمة بن كهيل فذكر له قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحقه فأحسن ثم قال له ننشدك الله كم بايعوك قال أربعون ألفا قال فكم بايع جدك قال ثمانون ألفا قال فكم حصل معه قال ثلاثمائة قال نشدتك الله أنت خير أم جدك قال جدي قال فهذا القرن خير أم ذلك القرن قال ذلك القرن قال أفتطمع أن يفي لك هؤلاء وقد غدر أولئك بجدك قال قد بايعوني ووجبت البيعة في عنقي وأعناقهم قال أفتأذن لي أن أخرج من هذا البلد فلا آمن أن يحدث حدث فلا أملك نفسي فأذن له فخرج إلى اليمامة وقد تقدم ذكر مبايعة سلمة.
وكتب عبد الله بن الحسن بن الحسن إلى زيد أما بعد فإن أهل الكوفة نفخ في العلانية خور السريرة هرج في الرخاء جزع في اللقاء تقدمهم ألسنتهم ولا تشايعهم قلوبهم ولقد تواترت إلي كتبهم بدعوتهم فصممت عن ندائهم وألبست قلبي غشاء عن ذكرهم يأسا منهم واطراحا لهم ومالهم مثل إلا ما قال علي بن أبي طالب إن أهملتم خضتم وإن حوربتم خرتم وإن اجتمع الناس على إمام طعنتم وإن أجبتم إلى مشاقة نكصتم فلم يصغ زيد إلى شيء من ذلك فأقام على حاله يبايع الناس ويتجهز للخروج وتزوج بالكوفة ابنة يعقوب بن عبد الله السلمي وتزوج أيضا ابنة عبد الله بن أبي العنبسي الأزدي.
وكان سبب تزوجه إياها أن أمها أم عمرو بنت الصلت كانت تتشيع فأتت زيدا تسلم عليه وكانت جميلة حسناء قد دخلت السن ولم يظهر
235

عليها فخطبها زيد إلى نفسه فاعتذرت بالسن وقالت له لي ابنة هي أجمل مني وأبيض وأحسن دلا وشكلا فضحك زيد ثم تزوجها وكان ينتقل بالكوفة تارة عندها وتارة عند زوجته الأخرى وتارة في بني عبس وتارة في بني هند وتارة في بني تغلب وغيرهم إلى أن ظهر.
ذكر غزوات نصر بن سيار ما وراء النهر
وفي هذه السنة غزا نصر بن سيار ما وراء النهر مرتين إحداهما من نحو الباب الجديد فسار من بلخ من تلك الناحية ثم رجع إلى مرو فخطب الناس وأخبرهم أنه قد أقام منصور بن عمر بن أبي الخرقاء على كشف المظالم وأنه قد وضع الجزية عمن قد أسلم وجعلها على من كان يخفف عنه من المشركين فلم تمض جمعة حتى أتاه ثلاثون ألف مسلم كانوا يؤدون الجزية عن رؤوسهم وثمانون ألفا من المشركين كانت قد ألقيت عنهم فحول ما كان على المسلمين إليهم ووضعه عن المسلمين ثم ضيف الخراج ووضعه مواضعه ثم غزا الثانية إلى ورغسر وسمرقند ثم رجع ثم غزا الثالثة إلى الشاش من مرو فحال بينه وبين عبور نهر الشاش كورصول في خمسة عشر ألفا وكان معهم الحرث بن سريج وعبر كورصول في أربعين رجلا فبيت أهل العسكر في ليلة مظلمة ومع نصر بخارى خذاه في أهل بخارى ومعه أهل سمرقند
236

وكش ونسف، وهم عشرون ألفا، فنادى نصر: أن لا يخرجن أحد واثبتوا على مواضعكم فخرج عاصم بن عمير وهو على جند سمرقند فمرت به خيل الترك فحمل على رجل في آخرهم فأسره فإذا هو ملك من ملوكهم صاحب أربعة آلاف قبة فأتى به إلى نصر فقال له نصر من أنت قال كورصول فقال نصر الحمد لله الذي أمكن منك يا عدو الله قال ما ترجوا من قتل شيخ وأنا أعطيك أربعة آلاف بعير من إبل الترك وألف برذون تقوي به جندك وتطلق سبيلي فاستشار نصر أصحابه فأشاروا باطلاقه فسأله عن عمره قال لا أدري قال كم غزوت قال اثنتين وسبعين غزوة قال أشهدت يوم العطش قال نعم قال لو أعطيتني ما طلعت عليه الشمس ما أفلت من يدي بعدما ذكرت من مشاهدك وقال لعاصم بن عمير السعدي قم إلى سلبه فخذه فقال من أسرني قال نصر وهو يضحك أسرك يزيد بن قزان الحنظلي وأشار إليه قال هذا لا يستطيع أن يغسل استه أو لا يستطيع أن يتم له بوله فكيف يأسرني أخبرني من أسرني قال أسرك عاصم بن عمير قال لست أجد ألم القتل إذا كان أسرني فارس من فرسان العرب.
فقتله وصلبه على شاطئ النهر.
وعاصم بن عمير هو الهزارمرد قتل بنهاوند أيام قحطبة.
فلما قتل كورصول أحرقت الترك أبنيته وقطعوا آذانهم وقطعوا شعورهم وأذناب خيلهم فما أراد نصر الرجوع أحرقه لئلا يحملوا عظامه فكان ذلك أشد عليهم من قتله وارتفع إلى فرغانة فسبى بها ألف رأس.
وكتب يوسف بن عمر إلى نصر سر إلى هذا الغارز ذينه في الشاش، يعني
237

الحرث بن سريج فإن أظفرك الله به وبأهل الشاش فخرب بلادهم واسب ذراريهم وإياك ورطة المسلمين فقرأ الكتاب على الناس واستشارهم فقال يحيى بن الحصين انظر أمن أمير المؤمنين أو من الأمير فقال نصر يا يحيى تكلمت بكلمة أيام عاصم بلغت الخليفة فحظيت بها وبلغت الدرجة الرفيعة فقلت أقول مثلها سر يا يحيى فقد وليتك مقدمتي فلام الناس يحيى فسار إلى الشاش فأتاهم الحرث فنصب عليهم عرادتين وأغار الأخرم وهو فارس الترك على المسلمين فقتلوه وألقوا رأسه إلى الترك فصاحوا وانهزموا.
وسار نصر إلى الشاش فتلقاه ملكها بالصلح والهدية الرهن واشترط عليه نصر اخراج الحرث بن سريج عن بلده فأخرجه إلى فاراب واستعمل على الشاش نيزك بن صالح
مولى عمرو بن العاص ثم سار حتى نزل قباء من أرض فرغانة وكانوا أحسوا بمجيئه فأحرقوا الحشيش وقطعوا الميرة، فوجه نصر إلى ولي [عهد] صاحب فرغانة فحاصره في حصن وغفلوا عنه فخرج وغنم دواب المسلمين فوجه إليهم نصر رجالا من تميم ومعهم محمد بن المثنى وكان المسلمون ودوابهم كمنوا لهم فخرجوا واستاقوا بعضها وخرج عليهم المسلمون فهزموهم وقتلوا الدهقان وأسروا منهم وأسروا ابن الدهقان فقتله نصر وأرسل نصر سليمان بن صول بكتاب والصلح إلى صاحب فرغانة فأمر به فادخل الخزائن ليراها ثم رجع إليه فقال كيف رأيت الطريق فيما بيننا وبينكم قال سهلا كثير الماء والمرعى فكره ذلك وقال: ما
238

أعلمك؟ فقال: سليمان قد غزوت غرشتان وغور والختل وطبرستان فكيف لا أعلم؟ قال: فكيف رأيت ما أعددنا؟ قال: عدة حسنة ولكن ما علمت أن [صاحب] الحصار لا يسلم من خصال، لا يأمن أقرب الناس إليه وأوثقهم في نفسه أو [أن يثب به بطلب مرتبته ويتقرب بذلك] يفنى ما جمع فيسلم برمته أو يصيبه داء فيموت فكره ما قال له وأمره فأحضر كتاب الصلح فأجاب إليه وسير أمه معه وكانت صاحبة أمره فقدمت على نصر فأذن لها وجعل يكلمها وكان مما قالت له كل ملك لا يكون عنده ستة أشياء فليس بملك وزير يبث إليه ما في نفسه ويشاوره ويثق بنصيحته وطباخ إذا لم يشته الطعام اتخذ له ما يشتهي وزوجة إذا دخل عليها مغتما فنظر إلى وجهها زال غمه وحصن إذا فرغ أتاه فأنجاه تعني البرذون وسيف إذا قاتل لا يخشى خيانته وذخيرة إذا حملها عاش بها أين كان من الأرض.
ثم دخل تميم بن نصر في جماعة فقالت من هذا قالوا: هذا فتى خراسان تميم بن نصر قال ماله نبل الكبير ولا حلاوة الصغير ثم دخل الحجاج بن قتيبة فقالت من هذا فقالوا: الحجاج بن قتيبة فأحبته وسألت عنه وقالت يا معشر العرب ما لكم وفاء ولا يصلح بعضكم بعضا قتيبة الذي ذلل لكم ما أرى وهذا ابنه تقعده دونك فحقه أن تجلس أنت هذا المجلس وتجلس أنت مجلسه.
239

ذكر غزو مروان بن محمد بن مروان
وفي سنة إحدى وعشرين غزا مروان بن محمد بن مروان بأرمينية وهو واليها فأتى قلعة بيت السرير فقتل وسبى ثم أتى قلعة ثانية فقتل وسبى ودخل غوميك وهو حصن فيه بنت الملك وسريره فهرب الملك منه حتى أتى حصنا يقال له خيزج فيه السرير الذهب فسار إليه مروان ونازله صيفيته وشتويته فصالح الملك على ألف رأس كل سنة ومائة ألف مدى وسار مروان فدخل أرض أزر وبطران فصالحه ملكها ثم سار في أرض تومان فصالحه وسار حتى أتى حمزين فأخرب بلاده وحصر حصنا له شهرا فصالحه ثم أتى مروان أرض مسدارة فافتتحها على صلح ثم نزل مروان كيران فصالحه طبرسران وفيلان وكل هذه الولايات على شاطئ البحر من أرمينية إلى طبرستان.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة غزا مسلمة بن هشام الروم فافتتح بها مطامير. وحج بالناس هذه السنة محمد بن هشام بن إسماعيل المخزومي، وهو كان عامل المدينة ومكة
240

والطائف وعلى العراق يوسف بن عمر وعلى خراسان نصر بن سيار وعلى أرمينية وأذربيجان مروان بن محمد وعلى قضاء البصرة عامر بن عبيدة وعلى قضاء الكوفة ابن شبرمة. وفيها فرغ الوليد بن بكير عامل الموصل من حفر النهر الذي أدخله البلد وكان مبلغ النفقة عليه ثمانية آلاف ألف درهم وجعل عليه ثمانية أحجار تطحن ووقف هشام هذه الأرحاء على عمل النهر.
وفيها مات سلمة بن سهيل وقيل سنة اثنتين وعشرين وفيها مات عامر بن عبد الله بن الزبير وقيل سنة اثنتين وعشرين وقيل سنة أربع وعشرين بالشام وفيها مات محمد بن يحيى بن حبان وهو ابن أربع وسبعين سنة بالمدينة؛ (حبان بفتح الحاء وبالباء الموحدة). وقتل يعقوب بن عبد الله بن الأشج شهيدا بأرض الروم.
241

122
ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين ومائة
ذكر مقتل زيد
ابن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب
في هذه السنة قتل زيد بن علي بن الحسين قد ذكر سبب مقامه بالكوفة وبيعته بها.
فلما أمر أصحابه بالاستعداد للخروج وأخذ من كان بريد الوفاء له بالبيعة يتجهز انطلق سليمان بن سرقة البارقي إلى يوسف بن عمر فأخبره فبعث يوسف في طلب زيد فلم يوجد وخاف زيد أن يؤخذ فيتعجل قبل الأجل الذي جعله بينه وبين أهل الكوفة وعلى الكوفة يومئذ الحكم بن الصلت وعلى شرطته عمرو بن عبد الرحمن بن القارة ومعه عبيد الله بن العباس الكندي في ناس من أهل الشام ويوسف بن عمر بالحيرة قال فلما رأى أصحاب زيد بن علي من يوسف بن عمر أنه قد بلغه أمره وأنه يبحث عن أمره اجتمع إليه جماعة من رؤوسهم وقالوا: رحمك الله ما قولك في أبي بكر وعمر قال زيد رحمهما الله وغفر لهما ما سمعت أحدا من أهل بيتي يقول فيهما إلا خيرا وإن أشد ما أقول فيما ذكرتم أنا كنا أحق بسلطان ما ذكرتم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن الناس أجمعين فدفعونا عنه ولم يبلغ
242

ذلك عندنا بهم كفرا، وقد ولوا فعدلوا في الناس وعملوا بالكتاب والسنة قالوا: فلم يظلمك هؤلاء إذا كان أولئك لم يظلموك فمل تدعو إلى قتالهم فقال إن هؤلاء ليسوا كأولئك هؤلاء ظالمون لي ولكم ولأنفسهم وإنما ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه والى السنن أن تحيا وإلى البدع أن تطفأ فإن أجبتمونا سعدتم وإن أبيتم فلست عليكم بوكيل ففارقوه ونكثوا ببيعته وقالوا: سبق الإمام يعنون محمدا الباقر وكان قد مات وقالوا: جعفر ابنه إمامنا بعد أبيه فسماهم زيد الرافضة وهم يزعمون ان المغيرة سماهم الرافضة حيث فارقوه.
وكان طائفة أتت جعفر بن محمد الصادق قبل خروج زيد فأخبروه ببيعة زيد فقال بايعوه فهو والله أفضلنا وسيدنا فعادوا وكتموا ذلك وكان زيد واعد أصحابه أول ليلة من صفر وبلغ ذلك يوسف بن عمر فبعث إلى الحكم يأمره أن يجمع أهل الكوفة في المسجد الأعظم يحصرهم فيه فجمعهم فيه وطلبوا زيدا في دار معاوية بن إسحاق بن زيد بن حارثة الأنصاري فخرج منها ليلا ورفعوا الهرادي فيها النيران ونادوا يا منصور حتى طلع الفجر فلما أصبحوا بعث زيد القاسم التبعي ثم الحضرمي وآخر من أصحابه يناديان شعارهم فلما كانا بصحراء عبد القيس لقيهما جعفر بن العباس الكندي فحملا عليه وعلى أصحابه فقتل الذي كان مع القاسم التبعي وارتث القاسم وأتي به الحكم فضرب عنقه فكانا أول من قتل من أصحاب زيد وأغلق الحكم دروب السوق وأبواب المسجد على الناس.
وبعث الحكم إلى يوسف بالحيرة فأخبره الخبر فأرسل جعفر بن العباس ليأتيه بالخبر فسار بن خمسين فارسا حتى بلغ جبانة سالم فسأل ثم رجع إلى
243

يوسف فأخبره، فسار يوسف إلى تل قريب من الحيرة فنزل عليه ومعه أشراف الناس فبعث الريان بن سلمة الأراني في ألفين ومعه ثلاثمائة من القيقانية رجالة معهم النشاب.
وأصبح زيد فكان جميع من وافاه تلك الليلة مائتي رجل وثمانية عشر رجلا فقال زيد سبحان الله أين الناس فقيل إنهم في المسجد الأعظم محصورون فقال والله ما هذا بعذر لمن بايعنا! وسمع نصر بن خزيمة العبسي النداء فأقبل إليه فلقي عمرو بن عبد الرحمن صاحب شرطة الحكم في خيله من جهينة في الطريق فحمل عليه نصر وأصحابه فقتل عمرو وانهزم من كان معه وأقبل زيد على جبانة سالم حتى انتهى إلى جبانة الصائدين وبها خمسمائة من أهل الشام فحمل عليهم زيد فيمن معه وهزمهم فانتهى زيد إلى دار أنس بن عمرو الأزدي وكان فيمن بايعه وهو في الدار فنودي فلم يجبهم وناداه زيد فلم يخرج إليه فقال زيد ما أخلفكم قد فعلتموها الله حسيبكم ثم انتهى زيد إلى الكناسة فحمل على من بها من أهل الشام فهزمهم ثم سار زيد ويوسف ينظر إليه في مائتي رجل فلو قصده لقتله والريان يتبع أثر زيد بن علي بالكوفة في أهل الشام فأخذ زيد على مصلى خالد حتى دخل الكوفة وسار بعض أصحابه نحو جبانة مخنف بن سليم فلقوا أهل الشام فقاتلوهم فأسر أهل الشام منهم رجلا فأمر به يوسف بن عمر فقتل.
فلما رأى زيد خذلان الناس إياه قال يا نصر بن خزيمة أنا أخاف أن يكونوا قد فعلوها حسينية: قال أما أنا والله لأقاتلن معك حتى أموت وإن الناس في المسجد فامض بنا نحوهم فلقيهم عبيد الله بن العباس الكندي عند
244

دار عمر بن سعد فاقتتلوا فانهزم عبيد الله وأصحابه وجاء زيد حتى انتهى إلى باب المسجد فجعل أصحابه يدخلون راياتهم من فوق الأبواب ويقولون يا أهل المسجد اخرجوا من الذل إلى العز اخرجوا إلى الدين والدنيا فإنكم لستم في دين ولا دنيا فرماهم أهل الشام بالحجارة من فوق المسجد.
وانصرف الريان عند المساء إلى الحيرة وانصرف زيد فيمن معه وخرج إليه ناس من أهل الكوفة فنزل دار الرزق فأتاه الريان بن سلمة فقاتله عند دار الرزق وجرح أهل الشام ومعه ناس كثير ورجع أهل الشام مساء يوم الأربعاء أسوأ شيء ظنا.
فلما كان الغد أرسل يوسف بن عمر العباس بن سعيد المزني في أهل الشام فانتهى إلى زيد في دار الرزق فلقيه زيد وعلى مجنبته نصر بن خزيمة ومعاوية بن إسحاق بن زيد بن ثابت فاقتتلوا قتالا شديدا وحمل نائل بن فروة العبسي من أهل الشام على نصر بن خزيمة بالسيف فقطع فخذه وضربه نصر فقتله ولم يلبث نصر أن مات واشتد قتالهم فانهزم أصحاب العباس وقتل منهم نحو من سبعين رجلا.
فلما كان العشاء عبأهم يوسف بن عمر ثم سرحهم فالتقوا هم وأصحاب زيد فحمل عليهم زيد في أصحابه فكشفهم وتبعهم حتى أخرجهم إلى السبخة ثم حمل عليهم بالسبخة حتى أخرجهم إلى بني سليم وجعلت خيلهم لا تثبت لخيله فبعث العباس إلى يوسف يعلمه ذلك وقال له ابعث إلي الناشبية فبعثهم إليه فجعلوا يرمون أصحاب زيد فقاتل معاوية بن إسحاق الأنصاري بين يدي زيد قتالا شديدا فقتل وثبت زيد بن علي ومن معه إلى الليل فرمي لسهم فأصاب جانب جبهته اليسرى
245

فثبت في دماغه، ورجع أصحابه ولا يظن أهل الشام انهم رجعوا إلا للمساء والليل، ونزل زيد في دار من دور أرحب وأحضر أصحابه طبيبا فانتزع النصل فضج زيد فلما نزع النصل مات زيد فقال أصحابه أين ندفنه قال بعضهم نطرحه في الماء وقال بعضهم بل نحتز رأسه ونلقيه في القتلى فقال ابنه يحيى والله لا تأكل لحم أبي الكلاب وقال بعضهم ندفنه في الحفرة التي يؤخذ منها الطين ونجعل عليه الماء ففعلوا فلما دفنوه أجروا عليه الماء وقيل دفن بنهر يعقوب سكر أصحابه الماء ودفنوه وأجروا الماء وكان معهم مولى لزيد سندي وقيل رآهم فسار فدل عليه وتفرق الناس عنه وسار ابنه يحيى نحو كربلاء فنزل بنينوى على سابق مولى بشر بن عبد الملك بن بشر.
ثم ان يوسف بن عمر تتبع الجرحى في الدور فدله السندي مولى زيد يوم الجمعة على زيد فاستخرجه من قبره وقطع رأسه وسير إلى يوسف بن عمر وهو بالحيرة سيره الحكم بن الصلت فأمر يوسف أن يصلب زيد بالكناسة هو ونصر بن خزيمة ومعاوية بن إسحاق وزياد النهدي وأمر بحراستهم وبعث الرأس إلى هشام فصلب على باب مدينة دمشق ثم أرسل إلى المدينة وبقي البدن مصلوبا إلى أن مات هشام وولي الوليد فأمر بإنزاله وإحراقه. وقيل كان خراش بن حوشب بن يزيد الشيباني على شرطة زيد وهو الذي نبش زيدا وصلبه فقال السيد الحموي:
(بات ليلا مسهدا * ساهر العين مقصدا)
(ولقد قلت قولة * وأطلت التبلدا)
(لعن الله حوشبا * وخراشا ومزيدا)
246

(ويزيدا فإنه * كان أعتى وأعتدا)
(ألف ألف وألف أل‍ * ‍ف من اللعن سرمدا)
(إنهم حاربوا الإل‍ * ‍ه وآذوا محمدا)
(شركوا في دم المطه‍ * ‍‍ر وزيد تعبدا)
(ثم عالوه فوق جذ * ع صريعا مجردا)
(يا خراش بن حوشب * أنت أشقى الورى غدا)
وقيل في أمر يحيى بن زيد غير ما تقدم وذلك أن أباه زيدا لما قتل قال له رجل من بني أسد إن أهل خراسان لكم شيعة والرأي أن تخرج إليها قال وكيف لي بذلك قال تتوارى حتى يسكن [عنك] الطلب ثم تخرج فواراه عنده [ليلة]، ثم خاف فأتى به عبد الملك بن بشر بن مروان فقال له ان قرابة زيد بك قريبة وحقه عليك واجب قال أجل ولقد كان العفو عنه أقرب للتقوى قال فقد قتل وهذا ابنه غلام حدث لا ذنب له فإن علم يوسف به قتله أفتجيره قال نعم فأتاه به فأقام عنده فلما سكن الطلب سار في نفر من الزيدية إلى خراسان فغضب يوسف بن عمر بعد قتل زيد فقال يا أهل العراق إن يحيى بن زيد ينتقل في حجال نسائكم كما كان يفعل أبوه والله لو بدا لي لعرقت خصييه كما عرقت خصي أبيه وتهددهم وذمهم وترك.
247

ذكر قتل البطال
في هذه السنة قتل البطال واسمه عبد الله أبو الحسين الأنطاكي في جماعة من المسلمين ببلاد الروم وقيل سنة ثلاث وعشرين ومائة وكان كثير الغزاة إلى الروم والإغارة على بلادهم وله عندهم ذكر عظيم وخوف شديد.
حكي أنه دخل بلادهم في بعض غزاته هو وأصحابه فدخل قرية لهم ليلا وامرأة تقول لصغير لها يبكي تسكت وإلا سلمتك إلى البطال ثم رفعته بيدها وقالت خذه يا بطال! فتناوله من يدها.
وسيره عبد الملك مع ابنه مسلمة إلى بلاد الروم وأمره على رؤساء أهل الجزيرة والشام وأمر ابنه أن يجعله على مقدمته وطلائعه وأمره فليعس بالليل العسكر وقال إنه ثقة شجاع مقدام فجعله مسلمة على عشرة آلاف فارس فكان بينه وبين الروم وكان العلاقة والسابلة يسيرون آمنين وسار مرة مع عسكر للمسلمين فلما صار بأطراف الروم سار وحده فدخل بلادهم فرأى مبقلة فنزل فأكل من ذلك البقل فجاءت جوفه وكثر إسهاله فخاف أن يضعف عن الركوب فركب وصار تجيء جوفه في سرجه ولا يجسر ينزل لئلا يضعف عن الركوب فاستولى عليه الضعف فاعتنق فرسه وسار عليه ولا يعلم أين هو ففتح عينيه فإذا هو في دير فيه نساء فاجتمعن عليه وأنزلته إحداهن عن فرسه وغسلته وسقته دواء فانقطع عنه ما به من القيام وأقام في الدير ثلاثة أيام ثم أن بطريقا حضر الدير فخطب تلك المرأة وبلغه خبر البطال وكانت المرأة قد جعلته في بيت مختفيا فمنعته منه ثم سار البطريق عن الدير ومعه أصحابه فركب البطال وتبعه فقتله وانهزم أصحاب البطريق وعاد إلى الدير وألقى الرأس إلى النساء وأخذهن وساقهن إلى العسكر فنفله أمير العسكر بتلك المرأة فهي أم أولاد البطال.
248

ذكر عدة حوادث
قال وفي هذه السنة قتل كلثوم بن عياض القشيري الذي كان هشام بعثه في أهل الشام إلى إفريقية حيث وقعت الفتنة بالبربر وفيها ولد الفضل بن صالح ومحمد بن إبراهيم بن محمد بن علي وفيها وجه يوسف بن عمر بن شبرمة على سجستان فاستقضى محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى.
وحج بالناس هذه السنة محمد بن هشام المخزومي وكان عمال الأمصار من تقدم ذكرهم قيل وكان على الموصل أبو قحافة ابن أخي الوليد بن تليد العبسي.
وفيها مات إياس بن معاوية بن قرة قاضي البصرة وهو الموصوف بالذكاء وزيد بن الحرث اليامي ومحمد بن المنكدر بن عبد الله أبو بكر التيمي تيم قريش وقيل مات سنة ثلاثين وقيل إحدى وثلاثين وكنيته أبو بكر ويزيد بن عبد الله بن قسط ويعقوب بن عبد الله بن الأشج.
249

123
ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين ومائة
ذكر صلح نصر بن سيار مع الصغد
في هذه السنة صالح نصر بن سيار الصغد.
وسبب ذلك أن خاقان لما قتل في ولاية أسد تفرقت الترك في غارة بعضها على بعض فطمع أهل الصغد في الرجعة إليها وانحاز قوم منهم إلى الشاش فلما ولي نصر بن سيار أرسل إليهم يدعوهم إلى الرجوع إلى بلادهم وأعطاهم ما أرادوا وكانوا ينالون شروطا أنكرها أمراء خراسان منها أن لا يعاقب من كان مسلما فارتد عن الاسلام ولا يعدى عليهم في دين لاحد من الناس ولا يؤخذ أسراء المسلمين من أيديهم إلا بقضية قاض وشهادة عدول فعاب الناس ذلك على نصر بن سيار وقالوا: له فيه فقال لو عاينتم شوكتهم في المسلمين مثل ما عانيت ما أنكرتم ذلك وأرسل رسولا إلى هشام بن عبد الملك في ذلك، فأجابه إليه.
ذكر وفاة عقبة بن الحجاج ودخول بلج الأندلس
في هذه السنة توفي عقبة بن الحجاج السلولي أمير الأندلس فقيل بل ثار به أهل الأندلس فخلعوه وولوا بعده عبد الملك بن قطن، وهي ولايته
250

الثانية، وكانت ولايته في صفر منه هذه السنة وكانت البربر قد فعلت بإفريقية ما ذكرناه سنة سبع عشرة ومائة وقد حصروا بلج بن بشر العبسي حتى ضاق عليه وعلى
من معه الامر واشتد الحصر وهم صابرون إلى هذه السنة فأرسل إلى عبد الملك بن قطن يطلب منه أن يرسل إليه مراكب يجوز فيها هو ومن معه إلى الأندلس وذكر ما أنزل عليه من الشدة وأنهم أكلوا دوابهم فامتنع عبد الملك من إدخالهم الأندلس ووعدهم بإرسال المدد إليهم فلم يفعل.
فاتفق ان البربر قويت بالأندلس فاضطر عبد الملك إلى ادخال بلج ومن معه، وقيل إن عبد الملك استشار أصحابه في جواز بلج فخوفوه من ذلك فقال أخاف أمير المؤمنين أن يقول أهلكت جندي فأجازهم وشرط عليهم أن يقيموا سنة ويرجعوا إلى إفريقية فأجابوه إلى ذلك وأخذ رهائنهم وأجازهم.
فلما وصلوا إليه رأى هو والمسلمون ما بهم من سوء الحال والفقر والعرى لشدة الحصار عليهم فكسوهم وأحسنوا إليهم وقصدوا جمعا من البربر بشدونة فقاتلوهم فظفروا بالبربر فأهلكوهم وغنموا ما لهم ودوابهم وسلاحهم فصلحت أحوال أصحاب بلج وصار لهم دواب يركبونها.
ورجع عبد الملك بن قطن إلى قرطبة وقال لبلج ومن معه ليخرجوا من الأندلس فأجابوه إلى ذلك فطلبوا منه مراكب يسيرون فيها من غير الجزيرة الخضراء لئلا يلقوا البربر الذين حصروهم فامتنع عبد الملك وقال ليس لي مراكب إلا في الجزيرة فقالوا: إننا لا نرجع نتعرض إلى البربر ولا نقصد الجهة التي هم فيها لأننا نخاف أن يقتلونا في بلادهم فألح عليهم في العود،
251

فلما رأوا ذلك ثاروا به وقاتلوه فظفروا به وأخرجوه من القصر وذلك أوائل ذي القعدة من هذه السنة.
فلما ظفر بلج بعبد الملك أشار عليه أصحابه بقتل عبد الملك فأخرجه من داره وكأنه فرخ لكبر سنه فقتله وصلبه وولي الأندلس وكان عمر عبد الملك تسعين سنة وهرب ابناه قطن وأمية فلحق أحدهما بماردة والآخر بسرقسطة وكان هربهما قبل قتل أبيهما فلما قتل فعلا ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة أوفد يوسف بن عمر الحكم بن الصلت إلى هشام يطلب إليه أن يستعمله على خراسان ويذكر أنه خبير بها وأنه عمل بها الأعمال الكثيرة ويقع في نصر بن سيار فتوجه هشام إلى دار الضيافة فاحضر مقاتل بن علي السعدي وقد قدم من خراسان ومعه مائة وخمسون من الترك فسأله عن الحكم وما ولي بخراسان فقال ولي قرية يقال لها الفارياب سبعون ألفا خراجها فأسره الحرث بن سريج فعرك أذنه وأطلقه وقال أنت أهون من أن أقتلك فلم يعزل هشام نصر بن سيار عن خراسان.
وفي هذه السنة غزا نصر بن سيار فرغانة غزوته الشاتية فأوفد وفدا إلى العراق عليهم معن بن أحمر النميري ثم إلى هشام فاجتاز بيوسف بن عمر وقال له يا ابن أحمر أيغلبكم الأقطع على سلطانكم يا معشر قيس! قال: قد
252

كان ذاك فأمره أن يعيبه عند هشام فقال كيف أعيبه مع بلائه وآثاره الجميلة عندي وعند قومي؟ فلم يزل به. قال فبم أعيبه؟ أعيب تجربته أم طاعته أم يمن نقيبته أو سياسته؟ قال عبه بالكبر.
فلما دخل على هشام ذكر جند خراسان ونجدتهم وطاعتهم فقال إلا أنهم ليس لهم قائد قال ويحك فما فعل الكناني يعني نصرا قال له بأس ورأي إلا أنه لا يعرف الرجل ولا يسمع صوته حتى يدني منه وما يكاد يفهم منه من الضعف لأجل كبره فقال شبيل بن عبد الرحمن المازني كذب والله إنه ليس بالشيخ يخشى خرفه ولا الشاب يخشى سفهه [بل هو] المجرب وقد ولي عامة ثغور خراسان وحروبها قبل ولايته فعلم هشام أن قول معن بوضع يوسف، فلم يلتفت إلى قوله.
فرجع معن إلى يوسف فسأله أن يحول ابنه من خراسان ففعل فأرسل أحضر أهله وكان نصر لما قدم خراسان قد آثر فغزا وأعلى منزلته وشفعه في حوائجه فلما فعل هذا أجفى القيسية فحضروا عنده واعتذروا إليه.
وحج بالناس هذه السنة يزيد بن هشام بن عبد الملك وكان العمال في الأمصار هم العمال في السنة التي قبلها.
وفيها مات محمد بن واسع الأزدي البصري وقيل سنة سبع وعشرين وفيها توفي جعفر بن إياس وفيها مات ثابت البناني وقيل سنة سبع وعشرين وله ست وثمانون سنة وفيها توفي سعيد بن أبي سعيد المقبري واسم أبي سعيد كيسان وقيل مات سنة خمس وعشرين وقيل ست وعشرين ومالك بن دينار الزاهد.
253

124
ثم دخلت سنة أربع وعشرين ومائة
ذكر ابتداء أمر أبي مسلم الخراساني
قد اختلف الناس في أبي مسلم فقيل كان حرا واسمه إبراهيم بن عثمان بن بشار بن سدوس بن جودزده من ولد بزرجمهر ويكنى [أبا] إسحاق، ولد بأصبهان ونشأ بالكوفة وكان أبوه أوصى إلى عيسى بن موسى السراج فحمله إلى الكوفة وهو ابن سبع سنين فلما اتصل بإبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس الامام قال له غير اسمك فإنه لا يتم لنا الأمر إلا بتغيير اسمك على ما وجدته في الكتب فسمى نفسه عبد الرحمن بن مسلم ويكنى أبا مسلم فمضى لشأنه وله ذؤابة وهو على حمار بإكاف وله تسع عشرة سنة وزوجه إبراهيم الإمام ابنة عمران بن إسماعيل الطائي المعروف بأبي النجم وهي بخراسان مع أبيها فبنى بها أبو مسلم بخراسان وزوج أبو مسلم ابنته فاطمة من محرز بن إبراهيم وابنته الأخرى أسماء من فهم بن محرز فأعقبت أسماء ولم تعقب فاطمة وفاطمة هي التي تذكرها الخرمية.
ثم إن سليمان بن كثير ومالك بن الهيثم ولاهز بن قريظ وقحطبة بن شبيب
254

توجهوا من خراسان يريدون مكة سنة أربع وعشرين ومائة فلما دخلوا الكوفة أتوا عاصم بن يونس العجلي وهو في الحبس قد اتهم بالدعاء إلى ولد العباس ومعه عيسى وإدريس ابنا معقل العجليان وهذا إدريس هو جد أبي دلف العجلي وكان حبسهما يوسف بن عمر مع من حبس من عمال خالد القسري ومعهما أبو مسلم يخدمهما قد اتصل
بهما فرأوا فيه العلامات فقالوا: لمن هذا الفتى فقالا: غلام معنا من السراجين يخدمنا وكان أبو مسلم يسمع عيسى وإدريس يتكلمان في هذا الرأي فإذا سمعهما بكى فلما رأوا ذلك منه دعوه إلى رأيهم فأجاب وقيل إنه من أهل ضياع بني معقل العجلية بأصبهان أو غيرها من الجبل وكان اسمه إبراهيم ويلقب حيكان وإنما سماه عبد الرحمن وكناه أبا مسلم إبراهيم الامام وكان مع أبي موسى السراج صاحبه يخرز الأعنة ويعمل السروج وله [معرفة] بصناعة الادم والسروج فكان يحملها إلى أصبهان والجبال والجزيرة والموصل ونصيبين وآمد وغيرها يتجر فيها.
وكان عاصم بن يونس العجلي وإدريس وعيسى ابنا معقل محبوسين فكان أبو مسلم يخدمهم في الحبس بتلك العلامة فقدم سليمان بن كثير ولاهز وقحطبة الكوفة فدخلوا على عاصم فرأوا أبا مسلم عنده فأعجبهم فأخذوه وكتب أبو موسى السراج معه كتابا إلى إبراهيم الامام فلقوه بمكة فأخذ أبا مسلم فكان يخدمه.
ثم إن هؤلاء النقباء قدموا على إبراهيم الإمام مرة أخرى يطلبون رجلا
255

يتوجه معهم إلى خراسان. فكان هذا نسب أبي مسلم على قول من يزعم أنه حر فلما تمكن وقوي أمره ادعى أنه ولد سليط بن عبد الله بن عباس وكان من حديث سليط بن عبد الله بن عباس أنه كانت له جارية مولدة صفراء تخدمه فواقعها مرة ولم يطلب ولدها ثم تركها دهرا فاغتنمت ذلك فاستنكحت عبدا من عبيد المدينة فوقع عليها فحبلت وولدت غلاما فحدها عبد الله بن عباس واستعبد ولدها وسماه سليطا فنشأ جلدا ظريفا يخدم ابن عباس وكان له من الوليد بن عبد الملك منزلة فادعى أنه ولد عبد الله بن عباس ووضعه على أمر الوليد لما كان في نفسه من علي بن عبد بن عباس وأمره بمخاصمة علي فخاصمه واحتال في شهود على إقرار عبد الله بن عباس بأنه ابنه فشهدوا بذلك عند قاضي دمشق فتحامل القاضي اتباعا لرأي الوليد فأثبت نسبه.
ثم إن سليطا خاصم علي بن عبد الله في الميراث حتى لقي منه علي اذى شديدا وكان معه علي رجل من ولد أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم منقطعا إليه يقال له عمر الدن فقال لعلي يوما لأقتلن هذا الكلب وأريحك منه فنهاه علي عن ذلك وتهدده بالقطيعة ورفق على سليط حتى كف عنه.
ثم إن سليطا دخل مع علي بستانا له بظاهر دمشق فنام علي فجرى بين عمر الدن وسليط كلام فقتله عمر ودفنه في البستان وأعانه عليه مولى لعلي وهربا، وكان لسليط صاحب قد عرف دخوله البستان ففقده فأتى أم سليط فأخبرها وفقد علي أيضا عمر الدن ومولاه فسأل عنهما وعن سليط فلم يخبره أحد، وغدت أم سليط إلى باب الوليد فاستغاثت على علي، فأتى
256

الوليد من ذلك ما أحب فأحضر عليا وسأله عن سليط فخلف أنه لم يعرف خبره وأنه لم يأمر فيه بأمر فأمره بإحضار عمر الدن فحلف بالله أنه لم يعرف موضعه فأمر الوليد بإرسال الماء في أرض البستان فلما انتهى إلى موضع الحفرة التي فيها سليط انخسفت وأخرج منها سليط فأمر الوليد بعلي فضرب وأقيم في الشمس وألبس جبة صوف ليخبره خبر سليط ويجله على عمر الدن فلم يكن عنده علم ثم شفع فيه عباس بن زياد فأخرج إلى الحميمة وقيل إلى الحجر فأقام به حتى هلك الوليد وولي سليمان فرده إلى دمشق.
وكان هذا مما عده المنصور على أبي مسلم حين قتله وقال له زعمت انك ابن سليط ولم ترض حتى نسبت إلى عبد الله غير ولده لقد ارتقيت مرتقى صعبا وكان سبب موجدة الوليد على علي بن عبد الله أن أباه عبد الملك بن مروان طلق امرأته أم ابنها ابنة عبد الله بن جعفر فتزوجها علي فتغير له عبد الملك وأطلق لسانه فيه وقال إنما صلاته رياء وسمع الوليد ذلك من أبيه فبقي في نفسه.
وقيل: إن أبا مسلم كان عبدا، وكان سبب انتقاله إلى بني العباس أن بكير بن ماهان كان كاتبا لبعض عمال السند فقدم الكوفة فاجتمع هو وشيعة بني العباس فغمز بهم فأخذوا فحبس بكير وخلي عن الباقين وكان في الحبس يونس أبو عاصم وعيسى بن معقل العجلي ومعه أبو مسلم يخدمه فدعاهم بكير إلى رأيه فأجابوه فقال لعيسى بن معقل ما هذا الغلام منك؟
257

قال: مملوك. قال: أتبيعه؟ قال هو لك قال أحب أن تأخذ ثمنه قال هو لك بما شئت فأعطاه أربعمائة درهم ثم خرجوا من السجن فبعث به بكير إلى إبراهيم الإمام فدفعه إبراهيم إلى [أبي] موسى السراج، فسمع منه وحفظ ثم سار مترددا إلى خراسان.
وقيل: انه كان لبعض أهل هراة أو بوشنج فقدم مولاه على إبراهيم الامام وأبو مسلم معه فأعجبه عقله فابتاعه منه وأعتقه ومكث عنده عدة سنين وكان يتردد بكتب إلى خراسان على حمار له ثم وجهه أميرا على شيعتهم بخراسان وكتب إلى من بها منهم بالسمع والطاعة وكتب إلى أبي سلمة الخلال داعيتهم ووزيرهم بالكوفة يعلمه أنه قد أرسل أبا مسلم ويأمره بانفاذه إلى خراسان فسار إليها فنزل على سليمان بن كثير وكان من أمره ما نذكره سنة سبع وعشرين ومائة ان شاء الله تعالى.
وقد كان أبو مسلم رأى رؤيا قبل ذلك استدل بها على ملك خراسان فظهر أمرها فلما ورد نيسابور نزل بوناباذ وكانت عامرة فتحدث صاحب الخان الذي نزل أبو مسلم بذلك وقال إن هذا يزعم أنه يلي خراسان فخرج أبو مسلم لبعض حاجته فعمد بعض المجان فقطع ذنب حماره فلما عاد قال لصاحب الخان من فعل هذا بحماري قال لا أدري قال ما اسم هذه المحلة قال بوناباذ قال إن لم أصيرها كنداباذ فلست بأبي مسلم فلما ولي خراسان أخربها.
258

ذكر الحرب بين بلج وابني عبد الملك
ووفاة بلج وولاية ثعلبة بن سلامة الأندلس
في هذه السنة كان بالأندلس حرب شديدة بين بلج وأمية وقطن ابني عبد الملك بن قطن وكان سببها انهما لما هربا من قرطبة كما ذكرناه فلما قتل أبوهما استنجدا بأهل البلاد والبربر فاجتمع معهما جمع كثير قيل كانوا مائة الف مقاتل فسمع بهم بلح والذين معه فسار إليهم والتقوا واقتتلوا قتالا شديدا وجرح بلج جراحات ثم ظفر بابني عبد الملك
والبربر ومن معهم وقتل منهم فأكثر وعاد إلى قرطبة مظفرا منصورا فبقي سبعة أيام ومات من الجراحات التي فيه وكانت وفاته في شوال من هذه السنة وكانت ولايته أحد عشر شهرا.
فلما مات قدم أصحابه عليهم ثعلبة بن سلامه العجلي لأن هشام بن عبد الملك عهد إليهم إن حدث ببلج وكلثوم حدث فالأمير ثعلبة فقام بالأمر وثارت في أيامه البربر بناحية ماردة فغزاهم فقتل فأكثر وأسر منهم ألف رجل وأتى بهم إلى قرطبة.
ذكر عدة حوادث
وفيها غزا سليمان بن هشام الصائفة، فلقي أليون ملك الروم فغنم. وفيها مات محمد بن علي بن عبد الله بن عباس في قول بعضهم، ووصى إلى ابنه
259

إبراهيم بالقيام بأمر الدعوة إليهم.
وحج بالناس هذه السنة محمد بن هشام بن إسماعيل.
وفيها مات محمد بن مسلم بن شهاب الزهري وكان مولده سنة ثمان وخمسين وقيل سنة خمسين.
260

125
ثم دخلت سنة خمس وعشرين ومائة
ذكر وفاة هشام بن عبد الملك
وفيها مات هشام بن عبد الملك بالرصافة لست خلون من شهر ربيع الآخر وكانت خلافته تسع عشرة سنة وتسعة أشهر وأحدا وعشرين يوما وقيل وثمانية أشهر ونصفا وكان مرضه الذبحة وعمره خمس وخمسون سنة وقيل ست وخمسون سنة فما مات طلبوا قمقما من بعض الخزان يسخن فيه الماء لغسله فما أعطاهم عياض كاتب الوليد على ما نذكره فاستعاروا قمقما وصلى عليه ابنه مسلمة ودفن بالرصافة.
ذكر بعض سيرته
قال عقال بن شبة دخلت على هشام وعليه قباء فنك أخضر فوجهني إلى خراسان وجعل يوصيني وأنا أنظر إلى القباء ففطن فقال ما لك فقلت رأيت عليك قبل أن تلي الخلافة قباء مثل هذا فجعلت أتأمل أهو هذا أم غيره فقال هو والله ذاك وأما ما ترون من جمعي المال وصونه فهو لكم قال وكان محشوا عقلا وقيل ضرب رجل نصراني غلاما لمحمد بن هشام فشجه فذهب خصي لمحمد فضرب النصراني وبلغ هشاما الخبر وطلب الخصي
261

فعاذ بمحمد فقال له محمد ألم آمرك فقال الخصي بلى والله قد أمرتني فضرب هشام الخصي وشتم ابنه.
قال عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس جمعت دواوين بني أمية فلم أر ديوانا أصح ولا أصلح للعامة والسلطان من ديوان هشام. وقيل: أتي هشام برجل عنده قيان وخمر وبربط فقال اكسروا الطنبور على رأسه فبكى الشيخ لما ضربه فقال عليك بالصبر فقال أتراني أبكي للضرب إنما أبكي لاحتقاره البربط إذ سماه طنبورا قال وأغلظ رجل لهشام فقال له ليس لك أن تغلظ لإمامك قيل وتفقد هشام بعض ولده فلم يحضر الجمعة فقال ما منعك من الصلاة؟ قال: نفقت دابتي. قال: أفعجزت عن المشي فمنعه الدابة سنة قيل وكتب إليه بعض عماله قد بعثت إلى أمير المؤمنين بسلة دراقن وكتب إلى عامل له قد بعث بكماة قد وصلت الكماة وهي أربعون وقد نعم بعضها من حشوها فإذا بعثت شيئا فأجد حشوها في الطرق بالرمل حتى لا تضطرب ولا يصيب بعضها بعضا وقيل له: أتطمع في الخلافة وأنت بخيل جبان قال ولم لا أطمع فيها وأنا حليم عفيف قيل وكان هشام ينزل الرصافة وهي من أعمال قنسرين وكان الخلفاء قبله وأبناء الخلفاء يبتدرون هربا من الطاعون فينزلون البرية فما أراد هشام
262

أن ينزل الرصافة قيل له: لا تخرج فإن الخلفاء لا يطعنون ولم ير خليفة طعن قال أتريدون أن تجربوا في؟ فنزلها، وهي مدينة رومية.
قيل إن الجعد بن درهم أظهر مقالته بخلق القرآن أيام هشام بن عبد الملك فأخذه هشام وأرسله إلى خالد القسري وهو أمير العراق وأمره بقتله فحبسه خالد ولم يقتله فبلغ الخبر هشاما فكتب إلى خالد يلومه ويعزم عليه أن يقتله فأخرجه خالد من الحبس في وثاقه فلما صلى العيد يوم الأضحى قال في آخر خطبته انصرفوا وضحوا يقبل الله منكم فإني أريد أن أضحي اليوم بالجعد بن درهم فإنه يقول ما كلم الله موسى ولا اتخذ إبراهيم خليلا تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا ثم نزل وذبحه.
قيل: إن غيلان بن يونس وقيل ابن مسلم أبا مروان أظهر القول بالقدر في أيام عمر بن عبد العزيز فأحضره عمر واستتابه فتاب ثم عاد إلى الكلام فيه أيام هشام فأحضره من ناصرة ثم أمر به فقطعت يداه ورجلاه ثم أمر به فصلب.
قيل: وجاء محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب إلى هشام فقال ليس لك عندي صلة ثم قال إياك إن يغرك أحد فيقول لم يعرفك أمير المؤمنين إني قد عرفتك أنت محمد بن زيد فلا تقيمن وتنفق ما معك فليس لك عندي صلة الحق بأهلك.
قال مجمع بن يعقوب الأنصاري شتم هشام رجلا من الاشراف فوبخه الرجل وقال أما تستحي أن تشتمني وأنت خليفة الله في الأرض؟ فاستحيا منه وقال: اقتص مني. قال: إذا أنا سفيه مثلك. قال: فخذ مني
263

عوضا من المال. قال: ما كنت لأفعل. قال: فهبها. لله. قال: هي لله ثم لك فنكس هشام رأسه واستحيا وقال: والله لا أعود إلى مثلها أبدا.
ذكر بيعة الوليد بن يزيد بن عبد الملك
قيل: وكانت بيعته لست مضين من شهر ربيع الآخر من السنة وقد تقدم عقد أبيه ولاية العهد له بعد أخيه هشام بن عبد الملك وكان الوليد حين جعل ولي عهد بعد هشام [
ابن] إحدى عشرة سنة ثم عاش من بعد ذلك فبلغ الوليد خمس عشرة [سنة]، فكان يزيد يقول الله بيني وبين من جعل هشاما بيني وبينك فلما ولي هشام أكرم الوليد بن يزيد حتى ظهر من الوليد مجون وشرب الشراب وكان يحمله على ذلك عبد الصمد بن عبد الأعلى مؤدبه واتخذ له ندماء فأراد هشام أن يقطعهم عنه فولاه الحج سنة ست عشرة ومائة فحمل معه كلابا في صناديق وعمل قبة على قدر الكعبة ليضعها على الكعبة وحمل معه الخمر وأراد أن ينصب القبة على الكعبة ويشرب فيها الخمر فخوفه أصحابه وقالوا: لا نأمن من الناس عليك وعلينا معك فلم يفعل.
وظهر للناس منه تهاون بالدين واستخفاف فطمع هشام في البيعة لابنه مسلمة وخلع الوليد وأراد الوليد على ذلك فأبى فقال له اجعله فأبى فتنكر له هشام وأضر به وعمل سرا في البيعة لابنه مسلمة فأجابه قوم وكان ممن أجابه خالاه محمد وإبراهيم ابنا هشام بن إسماعيل وبنو القعقاع بن خليد العبسي وغيرهم من خاصته فأفرط الوليد في الشراب وطلب اللذات فقال له هشام: [ويحك] يا وليد، والله ما أدري
264

أعلى الإسلام أنت أم لا! ما تدع شيئا من المنكر إلا أتيته غير متحاش ولا مستتر به فكتب إليه الوليد:
(يا أيها السائل عن ديننا * نحن على دين أبي شاكر)
(نشربها صرفا وممزوجة * بالسخن أحيانا وبالفاتر)
فغضب هشام على ابنه مسلمة وكان يكنى أبا شاكر وقال له يعيرني الوليد بك وأنا أرشحك للخلافة! فألزمه الأدب وأحضره الجماعة وولاه الموسم سنة تسع عشرة ومائة، فأظهر النسك واللين، ثم انه قسم بمكة والمدينة أموالا، فقال مولى لأهل المدينة:
(يا أيها السائل عن ديننا * نحن على دين أبي شاكر)
(الواهب الجرد بأرسانها * ليس بزنديق ولا كافر)
يعرض بالوليد.
وكان هشام يعيب الوليد وينتقصه ويقصر به، فخرج الوليد ومعه ناس من خاصته ومواليه فنزل بالأزرق على ماء له بالأردن وخلف كاتبه عياض بن مسلم عند هشام ليكاتبه بما عندهم وقطع هشام عن الوليد ما كان يجري عليه وكاتبه الوليد فلم يجبه إلى رده وأمره باخراج عبد الصمد من عنده فأخرجه وسأله أن يأذن لابن سهيل في الخروج إليه فضرب هشام ابن سهيل وسيره وأخذ عياض بن مسلم كاتب الوليد فضربه وحبسه فقال الوليد من يثق بالناس ومن يصنع المعروف! هذا الأحول المشؤوم قدمه أبي على أهل بيته وميزه ولي عهده ثم يصنع بي ما ترون؟ لا يعلم
265

أن لي في أحد هوى إلا عبث به! وكتب إلى هشام في ذلك يعاتبه ويسأله أن يرد عليه كاتبه. فلم يرده، فكتب إليه الوليد:
(رأيتك تبني دائما في قطيعتي * ولو كنت ذا حزم لهدمت ما تبني)
(تثير على الباقين مجنى ضغينة * فويل لهم إن مت من شر ما تجني)
(كأني بهم والليت أفضل قولهم * ألا ليتنا والليت إذ ذاك لا يغني)
(كفرت يدا من منعم لو شكرتها * جزاك بها الرحمن ذو الفضل والمن)
فلم يزل الوليد مقيما في تلك البرية حتى مات هشام فلما كان صبيحة اليوم الذي جاءته فيه الخلافة قال لأبي الزبير المنذر بن أبي عمرو ما بت على ليلة منذ عقلت عقلي أطول من هذه الليلة عرضت لي هموم وحدثت نفسي فيها بأمور [من] أمر هذا الرجل، يعني هشاما قد أولع بي فاركب بنا نتنفس فركبا وسارا ميلين ووقف على كثيب فنظر إلى رهج فقال هؤلاء رسل هشام فسأل الله من خيرهم فبينما هما كذلك إذ بدا رجلان على البريد أحدهما مولى لأبي محمد السفياني [والآخر جردبة]، فلما قربا نزلا يعدوان حتى دنوا منه فسلما عليه بالخلافة فوجم ثم قال أمات هشام؟ قالا: نعم والكتاب معنا من سالم بن عبد الرحمن صاحب ديوان الرسائل فقرأه وسأل مولى أبي محمد السفياني عن كاتبه عياض فقال لم يزل محبوسا حتى نزل بهشام الموت فأرسل إلى الخزان وقال احتفظوا ما في أيديكم فأفاق هشام فطلب شيئا فمنعوه فقال إنا لله كنا خزانا للوليد ومات من ساعته وخرج
266

عياض من السجن فختم أبواب الخزائن وأنزل هشاما من فرشه وما وجدوا له قمقما يسخن له فيه الماء حتى استعاروه ولا وجدوا كفنا من الخزائن فكفنه غالب مولاه؛ فقال:
(هلك الأحول المش * وم وقد أرسل المطر)
(وملكنا من بعد ذا * ك فقد أورق الشجر)
(فاشكر لله انه * زائد كل من شكر)
وقيل إن هذا الشعر لغير الوليد.
فلما سمع الوليد موته كتب إلى العباس [بن الوليد] بن عبد الملك بن مروان أن يأتي الرصافة فيحمي ما فيها من أموال هشام وولده و [يأخذ] عماله وحشمه إلا مسلمة بن هشام فإنه كلم أباه في الرفق بالوليد فقدم العباس الرصافة ففعل ما كتب به الوليد إليه وكتب به إلى الوليد فقال الوليد:
(ليت هشاما كان حيا يرى * محلبه الأوفر قد اترعا)
[ويروى]:
267

(ليت هشاما عاش حتى يرى * مكياله الأوفر قد طبعا)
(كلناه بالصاع الذي كاله * وما ظلمناه به أصبعا)
(وما ألفنا ذاك عن بدعة * أحله الفرقان لي أجمعا)
وضيق على أهل الشام وأصحابه فجاء خادم لهشام فوقف عند قبره وبكى وقال: يا أمير المؤمنين لو رأيت ما يصنع بنا الوليد فقال بعض من هناك لو رأيت ما صنع بهشام لعلمت أنك في نعمة لا تقوم بشكرها إن هشاما في شغل مما هو فيه عنكم.
واستعمل الوليد العمال وكتب إلى الآفاق بأخذ البيعة فجاءته بيعتهم وكتب إليه مروان بن محمد ببيعته واستأذنه في القدوم عليه فلما ولي الوليد أجرى على زمني أهل الشام وعميهم وكساهم وأمر لكل انسان منهم بخادم وأخرج لعيالات الناس الطيب والكسوة وزادهم وزاد الناس في العطاء عشرات ثم زاد أهل الشام بعد العشرات عشرة عشرة وزاد الوفود ولم يسأل في شيء إلا وقال:
(ضمنت لكم إن لم يعقني عائق * بأن سماء الضر عنكم ستقلع)
(سيوشك إلحاق معا وزيادة * وأعطية مني عليكم تبرع)
(محرمكم ديوانكم وعطاؤكم * به تكتب الكتاب شهرا وتطبع)
قال حلم الوادي المغني كنا مع الوليد وأتاه خبر موت هشام وهنئ
268

بولاية الخلافة، وأتاه القضيب والخاتم، ثم قال: فأمسكنا ساعة ونظرنا إليه بعين الخلافة، فقال غنوني:
(طاب يومي ولذ شرب السلافه * وأتانا نعي من بالرصافة)
(وأتانا البريد ينعى هشاما * وأتانا بخاتم للخلافة)
(فاصطحبنا من خمر عانة صرفا * ولهونا بقينة عرافه)
وحلف أن لا يبرح من موضعه حتى يغني في هذا الشعر وشرب عليه ففعلنا ذلك ولم نزل نغني إلى الليل.
ثم ان الوليد هذه السنة عقد لابنيه الحكم وعثمان البيعة من بعده وجعلهما وليي عهده أحدهما بعد الآخر وجعل الحكم مقدما وكتب بذلك إلى الأمصار العراق وخراسان.
ذكر ولاية نصر بن سيار خراسان للوليد
في هذه السنة ولى الوليد نصر بن سيار خراسان كلها وأفرده بها ثم وفد يوسف بن عمر على الوليد فاشترى منه نصرا وعماله فرد إليه الوليد ولاية خراسان، وكتب يوسف إلى نصر يأمره بالقدوم ويحمل معه ما قدر عليه من الهدايا والأموال، وأن يقدم معه بعياله أجمعين، وكتب الوليد إلى نصر يأمره أن يتخذ له برابط وطنابير وأباريق ذهب وفضة، وأن يجمع له كل
269

صناجة بخراسان وكل بازي وبرذون فاره ثم يسير بكل ذلك بنفسه في وجوه أهل خراسان.
وكان المنجمون قد أخبروا نصرا بفتنة تكون وألح يوسف على نصر بالقدوم وأرسل إليه رسولا في ذلك وأمره أن يستحثه أو ينادي في الناس أنه قد خلع فأرضى نصر الرسول وأجازه فلم يمض لذلك إلا يسير حتى وقعت الفتنة فتحول إلى قصره بماجان واستخلف عصمة بن عبد الله الأسدي على خراسان وموسى بن ورقاء بالشاش وحسان من أهل الصغانيان بسمرقند ومقاتل بن علي السعدي بآمل وأمرهم إذا بلغهم خروجه من مرو أن يستجلبوا الترك ليعبروا على ما وراء النهر ليرجع إليهم وسار إلى العراق.
فبينا هو يسير إلى العراق طرقه مولى لبني ليث وأعلمه بقتل الوليد فلما أصبح أذن للناس وأحضر رسل الوليد وقال لهم قد كان من مسيري ما علمتم وبعثي بالهدايا ما رأيتم وكان قد قدم الهدايا فبلغت بيهق وطرقني فلان ليلا فأخبرني أن الوليد قد قتل ووقعت الفتنة بالشام وقدم منصور بن جمهور العراق وهرب يوسف بن عمر ونحن بالبلاد التي قد علمتم حالها وكثرة عدونا فقال سالم بن أحوز أيها الأمير انه بعض مكايد قريش أرادوا تهجين طاعتك فسر ولا تمتحنا فقال يا سالم أنت رجل لك علم بالحرب وحسن طاعة لبني أمية فأما مثل هذه الأمور فرأيك فيها رأي أمية ورجع الناس.
270

ذكر قتل يحيى بن زيد بن علي بن الحسين
في هذه السنة قتل يحيى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب بخراسان.
وسبب قتله أنه سار بعد قتل أبيه إلى خراسان كما سبق ذكره فأتى بلخ فأقام بها عند الحريش بن عمرو بن داود حتى هلك هشام وولي الوليد بن يزيد فكتب يوسف بن عمر إلى نصر بمسير يحيى بن زيد وبمنزله عند الحريش وقال له خذه أشد الأخذ فأخذ نصر الحريش فطالبه بيحيى فقال لا علم لي به فأمر به فجلد ستمائة سوط فقال الحريش والله لو أنه تحت قدمي ما رفعتهما عنه فلما رأى ذلك قريش بن الحريش قال لا تقتل أبي وأنا أدلك على يحيى فدله عليه فأخذه نصر وكتب إلى الوليد يخبره فكتب الوليد يأمره أن يؤمنه ويخلي سبيله وسبيل أصحابه فأطلقه نصر وأمره أن يلحق بالوليد وأمر له بألفي درهم فسار إلى سرخس فأقام بها فكتب نصر إلى عبد الله بن قيس بن عباد يأمره أن يسيره عنها فسيره عنها فسار حتى انتهى إلى بيهق وخاف أن يغتاله يوسف بن عمر فعاد إلى نيسابور وبها عمرو بن زرارة وكان مع يحيى سبعون رجلا فرأى
يحيى تجارا فأخذ هو وأصحابه دوابهم وقالوا: علينا أثمانها فكتب عمرو بن زرارة إلى نصر يخبره فكتب نصر يأمره بمحاربته فقاتله عمرو وهو في عشرة آلاف ويحيى في سبعين رجلا فهزمهم يحيى وقتل عمرا وأصاب دواب كثيرة وسار حتى مر بهراة فلم يعرض لمن بها وسار عنها.
وسرح نصر بن سيار سالم بن أحوز في طلب يحيى فلحقه بالجوزجان فقاتله قتالا شديدا فرمي يحيى بسهم فأصاب جبهته رماه رجل من عنزة
271

يقال له عيسى فقتل أصحاب يحيى عن آخرهم وأخذوا رأس يحيى وسلبوه قميصه.
فلما بلغ الوليد قتل يحيى كتب إلى يوسف بن عمر خذ عجيل أهل العراق فأنزله من جذعه يعني زيدا وأحرقه بالنار ثم أنسفه بأليم نسفا فأمر يوسف به فأحرق ثم رضه وحمله في سفينة ثم ذراه في الفرات وأما يحيى فإنه لما قتل صلب بالجوزجان فلم يزل مصلوبا حتى ظهر أبو مسلم الخراساني واستولى على خراسان فأنزله وصلى عليه ودفنه وأمر بالنياحة عليه في خراسان وأخذ أبو مسلم ديوان بني أمية وعرف منه أسماء من حضر قتل فمن كان حيا قتله ومن كان ميتا خلفه في أهله بسوء وكانت أم يحيى ريطة بنت أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية.
(عباد بضم العين وفتح الباء الموحدة المخففة).
ذكر ولاية حنظلة إفريقية وأبي الخطار الأندلس
في هذه السنة قدم أبو الخطار حسام بن ضرار الكلبي الأندلس أميرا في رجب وكان أبو الخطار لما تبايع ولاة الأندلس من قيس قد قال شعرا وعرض فيه بيوم مرج راهط وما كان من بلاء كلب فيه مع مروان بن الحكم وقيام القيسيين مع الضحاك بن قيس الفهري على مروان ومن الشعر:
(أقادت بنو مروان قيسا دماءنا * وفي الله ان لم يعدلوا حكم عدل)
272

(كأنكم لم تشهدوا مرج راهط * ولم تعلموا من كان ثم له الفضل)
(وقيناكم حر القنا بنحورنا * وليس لكم خيل تعد ولا رجل)
فلما بلغ شعره هشام بن عبد الملك سأل عنه فأعلم أنه رجل من كلب وكان هشام قد استعمل على إفريقية حنظلة بن صفوان الكلبي سنة أربع وعشرين ومائة فكتب إليه هشام أن يولي أبا الخطار الأندلس فولاه وسيره إليها فدخل قرطبة يوم جمعة فرأى ثعلبة بن سلامة أميرها قد أحضر الأسارى الألف من البربر الذين تقدم ذكر أسرهم ليقتلهم فلما دخل أبو الخطار دفع الأسرى إليه فكانت ولايته سببا لحياتهم وكان أهل الشام الذين بالأندلس قد أرادوا الخروج مع ثعلبة بن سلامة إلى الشام فلم يزل أبو الخطار يحسن إليهم ويستميلهم حتى أقاموا فانزل كل قوم على شبه منازلهم بالشام فلما رأوا بلدا يشبه بلدانهم أقاموا وقيل إنه إنما فرقهم في البلاد لأن قرطبة ضاقت عليهم ففرقهم وقد ذكرنا بعض أخباره سنة تسع وثلاثين ومائة.
ذكر عدة حوادث
قيل وفي هذه السنة وجه الوليد بن يزيد خاله يوسف بن محمد بن يوسف الثقفي واليا على المدينة ومكة والطائف ودفع إليه محمدا وإبراهيم ابني هشام بن إسماعيل المخزومي موثوقين في عباءتين فقدم بهما المدينة في شعبان فأقامهما للناس ثم حملا إلى الشام فأحضرا عند الوليد، فأمر
273

بجلدهما. فقال محمد أسألك بالقرابة قال وأي قرابة بيننا قال فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم بضرب بسوط إلا في حد قال ففي حد أضربك وقود أنت أول من فعل بالعرجي وهو ابن عمي وابن أمير المؤمنين عثمان وكان محمد قد أخذه وقيده وأقامه للناس وجلده وسجنه إلى أن مات بعد تسع سنين لهجاء العرجي إياه ثم أمر به الوليد فجلد هو وأخوه إبراهيم ثم أوثقهما حديدا وأمر أن يبعث بهما إلى يوسف بن عمر وهو على العراق فلما قدم بهما عليه عذبهما حتى ماتا.
وفي هذه السنة عزل الوليد سعد بن إبراهيم عن قضاء المدينة وولاه يحيى بن سعيد الأنصاري وفيها خرجت الروم إلى زبطرة وهو حصن قديم كان افتتحه حبيب بن سلمة الفهري فأخربته الروم الآن فبني بناء غير محكم فعاد الروم وأخربوه أيام مروان بن محمد الحمار ثم بناه الرشيد وشحنه بالرجال فلما كانت خلافة المأمون طرقه الروم فشعثوه فأمر المأمون بمرمته وتحصينه ثم قصده الروم أيام المعتصم على ما نذكره ان شاء الله تعالى فإنما سقت خبره ههنا لأني لم أعلم تواريخ حوادثه.
وفيها غزا الوليد أخاه الغمر بن يزيد وأمر على جيوش البحر الأسود بن بلال المحاذي وسيره إلى قبرص ليخير أهلها بين المسير إلى الشام أو إلى الروم فاختارت طائفة جوار المسلمين فسيرهم إلى الشام واختار آخرون الروم فسيرهم إليهم.
وفيها قدم سليمان بن كثير ومالك بن الهيثم ولاهز بن قريظ وقحطبة بن شبيب مكة فلقوا في قول بعض أهل السير محمد بن علي بن عبد الله بن عباس فأخبره بقصة أبي مسلم وما رأوا منه فقال أحر هو أم عبد قالوا: أما عيسى فيزعم أنه عبد وأما هو فيزعم أنه حر قال فاشتروه وأعتقوه وأعطوا محمد بن علي مائتي ألف درهم وكسوة بثلاثين ألف درهم.
274

فقال لهم: ما أظنكم تلقوني بعد عامي هذا فإن حدث بي حدث فصاحبكم ابني إبراهيم فإني أثق به وأوصيكم به خيرا فرجعوا من عنده.
وقال بعضهم في هذه السنة توفي محمد بن علي بن [عبد الله بن] عباس في شهر ذي القعدة وهو ابن ثلاث وسبعين سنة وكان بين موته وموت أبيه سبع سنين.
وحج بالناس هذه السنة يوسف بن محمد بن يوسف وفيها غزا النعمان بن يزيد بن عبد الملك الصائفة.
وفي هذه السنة مات أبو حازم الأعرج وقيل سنة أربعين وقيل سنة أربع وأربعين ومائة.
وفي آخر أيام هشام بن عبد الملك توفي سماك بن حرب. وفي هذه السنة توفي القاسم بن أبي بزة واسم أبي بزة يسار وهو من المشهورين بالقراءة وأشعث بن أبي
الشعثاء سليم بن أسود المحاربي وسيد بن أبي أنيسة الحزري مولى بني كلاب وقيل مولى يزيد بن الخطاب وقيل مولى غني وكان عمره ستا وأربعين سنة وكان فقيها عابدا وكان له أخ اسمه يحيى كان ضعيفا في الحديث.
وفي أيام هشام مات العرجي الشاعر في حبس محمد بن هشام المخزومي، عامل هشام بن عبد الملك على المدينة ومكة وكان سبب حبسه أنه هجاه فتتبعه حتى بلغه أنه أخذ مولى له فضربه وقتله وأمر عبيدة أن يطأوا امرأة المولى المقتول فأخذه محمد فضربه وأقامه للناس وحبسه تسع سنين فمات في السجن.
(العرجي بفتح العين المهملة وسكون الراء وآخره جيم).
وكان عمال الأمصار من تقدم ذكرهم.
275

126
ثم دخلت سنة ست وعشرين ومائة
ذكر قتل خالد بن عبد الله القسري
في هذه السنة قتل خالد بن عبد الله وقد تقدم ذكر عزله عن العراق وخراسان وكان عمله خمس عشرة سنة فيما قيل ولما عزله هشام قدم عليه يوسف بن عمر واسط فحبسه بها ثم سار يوسف إلى الحيرة وأخذ خالدا فحبسه بها تمام ثمانية عشر شهرا مع أخيه إسماعيل وابنه يزيد بن خالد وابن أخيه المنذر بن أسد استأذن يوسف هشاما في تعذيبه فأذن له مرة واحدة وأقسم لئن هلك ليقتلنه فعذبه يوسف ثم رده إلى حبسه وقيل بل عذبه عذابا كثيرا وكتب هشام إلى يوسف يأمره بإطلاقه في شوال سنة إحدى وعشرين فأطلقه فسار فأتى القرية التي بإزاء الرصافة فأقام بها إلى صفر سنة اثنتين وعشرين وخرج زيد فقتل فكتب يوسف بن عمر إن بني هاشم قد هلكوا جوعا فكانت همة أحدهم قوت عياله فلما ولي خالد العراق أعطاهم الأموال فتاقت أنفسهم إلى الخلافة وما خرج زيد إلا عن رأي خالد.
فقال هشام: كذب يوسف! وضرب رسوله وقال لسنا نتهم خالدا في طاعة.
وسمع خالد فسار حتى نزل دمشق وسار إلى الصائفة وكان على دمشق يومئذ كلثوم بن عياض القشيري وكان يبغض خالدا، فظهر في دور
276

دمشق حريق كل ليلة يفعله رجل من أهل العراق يقال له ابن العمرس فإذا وقع الحريق يسرقون وكان أولاد خالد وإخوته بالساحل لحدث كان من الروم فكتب كلثوم إلى هشام يخبره أن موالي خالد يريدون الوثوب على بيت المال وأنهم يحرقون البلد لك ليلة لهذا الفعل.
فكتب إليه هشام يأمره أن يحبس آل خالد الصغير منهم والكبير وهو إليهم فأنفذوا وأحضر أولاد خالد واخوته من الساحل في الجوامع ومعهم ومواليهم وحبس البنات خالد والنساء والصبيان ثم ظهر علي ابن العمرس ومن كان معه فكتب الوليد بن عبد الرحمن عامل الخراج إلى هشام يخبره بأخذ ابن العمرس وأصحابه بأسمائهم وقبائلهم ولم يذكر فيهم أحدا من موالي خالد فكتب هشام إلى كلثوم يشتمه ويأمره باطلاق آل خالد فأطلقهم وترك الموالي رجاء أن يشفع فيهم خالد إذا قدم من الصائفة.
ثم قدم خالد فنزل منزله في دمشق فأذن للناس فقام بناته يحتجبن فقال لا تحتجبن فإن هشاما كان كل يوم يسوقكن إلى الحبس فدخل الناس فقام أولاده يسترون النساء فقال خالد خرجت غازيا سامعا مطيعا فخلفت في عقبي وأخذ حرمي وأهل بيتي فحبسوا مع أهل الجرائم كما يفعل بالمشركين فما منع عصابة منكم أن تقولوا علام حبس حرم هذا السامع المطيع أخفتم أن تقتلوا جميعا أخافكم الله ثم قال مالي ولهشام ليكفن عني أو لأدعون إلى عراقي الهوى شامي الدار حجازي الأصل يعني محمد بن علي بن عبد الله بن عباس وقد أذنت لكم أن تبلغوا هشاما فلما بلغه قال قد خرف أبو الهيثم.
277

وتتابعت كتب يوسف بن عمر إلى هشام يطلب منه يزيد بن خالد بن عبد الله فأرسل هشام إلى كلثوم يأمره بإنقاذ يزيد بن خالد بن عبد الله إلى يوسف بن عمر فطلبه فهرب فاستدعى خالدا فحضر عنده فحبسه فسمع هشام فكتب إلى كلثوم يلومه ويأمره بتخليه فأطلقه.
وكان هشام إذا أراد أمرا الأبرش الكلبي فكتب به إلى خالد فكتب إليه الأبرش أنه بلغ أمير المؤمنين أن رجلا قال لك يا خالد إني لأحبك لعشر خصال إن الله كريم وأنت كريم والله جواد وأنت جواد والله رحيم وأنت رحيم حتى عد عشرا وأمير المؤمنين يقسم بالله لئن تحقق ذلك عند ليقتلنك.
فكتب إليه خالد أن ذلك المجلس كان أكثر أهلا من أن يجوز لأحد من أهل البغي والفجور أن يحرف ما كان فيه إنما قال لي يا خالد إني لأحبك لعشر خصال إن الله كريم يحب كل كريم والله يحبك فأنا أحبك حتى عد عشر خصال ولكن أعظم من ذلك قيام ابن شقي الحميري إلى أمير المؤمنين وقوله يا أمير المؤمنين خليفتك في أهلك أكرم عليك أم رسولك في حاجتك فقال بل خليفتي في أهلي فقال ابن شقي فأنت خليفة الله ومحمد رسوله وضلال رجل من بجيلة يعني نفسه أهون على العامة من ضلال أمير المؤمنين فلما قرأ هشام كتابه قال خرف أبو الهيثم!
فأقام خالد بدمشق حتى هلك هشام وقام الوليد فكتب إليه الوليد ما حال الخمسين ألف ألف التي تعلم فاقدم على أمير المؤمنين فقدم عليه فأرسل إليه الوليد وهو واقف بباب السرادق فقال يقول أمير المؤمنين أين ابنك يزيد فقال كان هرب من هشام وكنا نراه عند أمير المؤمنين حتى استخلفه الله فلما لم نره ظنناه ببلاد قومه من السراة. ورجع الرسول وقال: لا ولكنك خلفته طالبا للفتنة فقال قد علم أمير المؤمنين أنا أهل بيت طاعة.
278

فرجع الرسول فقال يقول لك أمير المؤمنين لتأتين به أو لأزهقن نفسك فرفع خالد صوته وقال قل له هذا أردت والله لو كان تحت قدمي ما رفعتهما عنه فأمر الوليد بضربه فضرب فلم يتكلم فحبسه حتى قدم يوسف بن عمر من العراق بالأموال فاشتراه من الوليد بخمسين ألف ألف فأرسل الوليد إلى خالد أن يوسف يشتريك بخمسين ألف ألف فإن كنت تضمنها وإلا دفعتك إليه فقال خالد ما عهدت العرب تباع والله لو سألتني أن أضمن عودا ما ضمنته فدفعه إلى يوسف فنزع ثيابه وألبسه عباءة وحمله في محمل
بغير وطاء وعذبه عذابا شديدا وهو لا يكلمه كلمة ثم حمله إلى الكوفة فعذبه ثم وضع المضرسة على صدره فقتله من الليل ودفنه من وقته بالحيرة في عباءته التي كان فيها وذلك في المحرم سنة ست وعشرين وقيل بل أمر يوسف فوضع على رجليه عود وقام عليه الرجال حتى تكسرت قدماه وما تكلم ولا عبس.
وكانت أم خالد نصرانية رومية ابتنى بها أبوه في بعض أعيادهم فأولدها خالدا وأسدا ولم تسلم وبنى لها خالد بيعة فذمه الناس والشعراء فمن ذلك قول الفرزدق:
(ألا قطع الرحمن ظهر مطية * أتتنا تهادى من دمشق بخالد)
(فكيف يؤم الناس من كانت أمه * تدين بأن الله ليس بواحد)
(بنى بيعة فيها النصارى لأمه * ويهدم من كفر منار المساجد)
وكان خالد قد أمر بهدم منار المساجد لأنه بلغه أن شاعرا قال:
(ليتني في المؤذنين حياتي * انهم يبصرون من في السطوح)
(فيشيرون أو تشير إليهم * بالهوى كل ذات دل مليح)
279

فلما سمع هذا الشعر أمر بهدمها، ولما بلغه أن الناس يذمونه لبنائه البيعة لأمه قام يعتذر إليهم فقال: لعن الله دينهم إن كان شرا من دينكم وكان يقول إن خليفة الرجل في أهله أفضل من رسوله في حاجته يعني أن الخليفة هشاما أفضل من رسول الله صلى الله عليه وسلم نبرأ إلى الله من هذه المقالة.
ذكر قتل الوليد بن يزيد بن عبد الملك
في هذه السنة قتل الوليد بن يزيد بن عبد الملك الذي يقال له الناقص في جمادى الآخرة.
وكان سبب قتله ما تقدم ذكره من خلاعته ومجانته فلما ولي الخلافة لم يزد من الذي كان فيه من اللهو واللذة والركوب للصيد وشرب النبيذ ومنادمة الفساق إلا تماديا فثقل ذلك على رعيته وجنده وكرهوا أمره وكان أعظمه ما جنى على نفسه افساده بني عميه هشام والوليد فإنه أخذ سلميان بن هشام فضربه مائة سوط وحلق رأسه ولحيته وغربه إلى عمان من أرض الشام فحبسه بها فلم يزل محبوسا حتى قتل الوليد وأخذ جارية كانت لآل الوليد فكلمه عثمان بن الوليد في ردها فقال لا أردها فقال إذن تكثر الصواهل حول عسكرك وحبس الأفقم يزيد بن هشام وفرق بين روح بن الوليد وبين امرأته وحبس عدة من ولد الوليد فرماه بنو هشام وبنو الوليد بالكفر وغشيان أمهات أولاد أبيه وقالوا: قد اتخذ مائة جامعة لبني أمية.
وكان أشدهم فيه يزيد بن الوليد وكان الناس إلى قوله أميل لأنه كان
280

يظهر النسك ويتواضع وكان قد نهاه سعيد بن بيهس به صهيب عن البيعة لابنيه الحكم وعثمان لصغرهما فحبسه حتى مات في الحبس.
وأراد خالد بن عبد الله القسري على البيعة لابنيه فأبى فغضب عليه فقيل له: لا تخالف أمير المؤمنين فقال كيف أبايع من لا أصلي خلفه ولا أقبل شهادته قالوا: فتقبل شهادة الوليد مع فسقة قال أمير المؤمنين غائب عني وإنما هي أخبار الناس ففسدت اليمانية عليه وفسدت عليه قضاعة وهم اليمن أكثر جند أهل الشام فأتى حريث وشبيب بن أبي مالك الغساني ومنصور بن جبور الكلبي وابن عمه حيال بن عمرو ويعقوب بن عبد الرحمن وحميد بن منصور اللخمي والأصبغ بن ذؤالة والطفيل بن حارثة والسري زياد إلى خالد بن عبد الله القسري فدعوه إلى أمرهم فلم يجبهم.
وأراد الوليد الحج فخاف خالد أن يقتلوه في الطريق فنهاه عن الحج فقال ولم فأخبره فحبسه وأمر أن يطالب بأموال العراق ثم استقدم يوسف بن عمر من العراق وطلب منه أن يحضر معه الأموال وأراد عزله وتولية عبد الملك بن محمد بن الحجاج بن يوسف فقدم يوسف بأموال لم يحمل من العراق مثلها فلقيه حسان النبطي فأخبره أن الوليد يريد أن يولي عبد لملك بن محمد وأشار عليه أن يحمل الرشاء إلى وزرائه ففرق فيهم خمسمائة ألف وقال له حسان اكتب على لسان خليفتك بالعراق كتابا إني كتبت إليك ولا أملك إلا القصر وادخل على الوليد والكتاب معك مختوما واشتر منه خالدا ففعل فأمره الوليد بالعود إلى العراق واشترى منه خالدا القسري بخمسين ألف ألف فدفعه إليه فأخذه معه في محمل بغير وطاء إلى
281

العراق. فقال بعض أهل اليمن شعرا على لسان الوليد يحرض على اليمانية، وقيل: إنها للوليد يوبخ اليمن على ترك نصر خالد:
(ألم تهتج فتذكر الوصالا * وحبلا كان متصلا فزالا)
(بلى فالدمع منك إلى انسجام * كماء المزن ينسجل انسجالا)
(فدع عنك ادكارك آل سعدى * فنحن الأكثرون حصى ومالا)
(ونحن المالكون الناس قسرا * نسومهم المذلة والنكالا)
(وطئنا الأشعري بعز قيس * فيا لك وطأة لن تستقالا:)
(وهذا خالد فينا أسير * ألا منعوه إن كانوا رجالا)
(عظيمهم وسيدهم قديما * جعلنا المخزيات له ظلالا)
(فلو كانت قبائل ذات عز * لما ذهبت صنائعه ضلالا)
(ولا تركوه مسلوبا أسيرا * يعالج من سلاسلنا الثقالا:)
(وكندة والسكون فما استقاموا * ولا برحب خيولهم الرحالا)
(بها سمنا البرية كل خسف * وهدمنا السهولة والجبالا)
(ولكن الوقائع ضعضعتهم * وجدتهم وردتهم شلالا)
(فما زالوا لنا بلدا عبيدا * نسومهم المذلة والسفالا)
282

(فأصبحت الغداة علي تاج * لملك الناس ما يبغي انتقالا)
فعظم ذلك عليهم وسعوا في قتله وازدادوا حنقا وقال حمزة بن بيض في الوليد:
(وصلت سماء الضر بالضر بعدما * زعمت سماء الضر عنا ستقلع)
(فليت هشاما كان حيا يسومنا * وكنا كما كنا نرجي ونطمع)
وقال أيضا:
(يا وليد الخنى تركت الطريقا * واضحا وارتكبت فجا عميقا)
(وتماديت واعتديت وأسرف‍ * ‍ت وأغويت وانبعثت فسوقا)
(أبدا هات ثم هات وهاتي * ثم هاتي حتى تخر صعيقا)
(أنت سكران ما تفيق فما تر * تق فتقا وقد فتقت فتوقا)
فأتت اليمانية يزيد بن الوليد بن عبد الملك فأرادوه على البيعة فشاور عمر بن يزيد الحكمي فقال له: لا يبايعك الناس على هذا وشاور أخاك العباس فإن بايعك لم يخالفك أحد وإن أبى كان الناس له أطوع فإن أبيت إلا المضي على رأيك فأظهر أن أخاك العباس قد بايعك وكان الشام وبيئا فخرجوا إلى البوادي وكان العباس بالقسطل ويزيد بالبادية أيضا بينهما أميال يسيرة فأتى يزيد أخاه العباس فاستشاره فنهاه عن ذلك فرجع وبايع الناس سرا وبث دعاته فدعوا الناس ثم عاود أخاه العباس فاستشاره ودعاه إلى نفسه فزجره وقال إن عبد لمثل هذا لأشدنك وثاقا وأحملنك إلى أمير المؤمنين فخرج من عنده فقال العباس إني لأظنه أشأم مولود في بني مروان.
283

وبلغ الخبر مروان بن محمد بأرمينية فكتب إلى سعيد بن عبد الملك بن مروان يأمره أن ينهى الناس ويكفهم ويحذرهم الفتنة ويخوفهم خروج الأمر عنهم فأعظم سعيد ذلك وبعث الكتاب إلى العباس بن الوليد فاستدعى العباس يزيد وتهدده فكتمه يزيد أمره فصدقه وقال العباس لأخيه بشر بن الوليد إني أظن الله قد أذن في هلاككم يا بني مروان ثم تمثل:
(إني أعيذكم بالله من فتن * مثل الجبال تسامى ثم تندفع)
(إن البرية قد ملت سياستكم * فاستمسكوا بعمود الدين وارتدعوا)
(لا تلحمن ذئاب الناس أنفسكم * إن الذئاب إذا ما ألحمت رتعوا)
(لا تبقرن بأيديكم بطونكم * فثم لا حسرة تغني ولا جزع)
فلما اجتمع ليزيد أمره وهو متبد أقبل إلى دمشق وبينه وبين دمشق أربع ليال متنكرا في سبعة نفر على حمير فنزلوا بجرود على مرحلة من دمشق ثم سار فدخل دمشق وقد بايع له أكثر أهلها سرا وبايع أهل المزة وكان على دمشق عبد الملك محمد بن الحجاج فخاف الوباء فخرج منها فنزل قطنا واستخلف ابنه على دمشق وعلى شرطته أبو العاج كثير بن عبد الله السلمي فأجمع يزيد على الظهور فقيل للعامل إن يزيد خارج فلم يصدق.
وراسل يزيد أصحابه بعد المغرب ليلة الجمعة فكمنوا عند باب الفراديس حتى أذن العشاء فدخلوا فصلوا وللمسجد حرس قد وكلوا بإخراج الناس
284

منه بالليل فلما صلى الناس أخرجهم الحرس وتباطأ أصحاب يزيد حتى لم يبق في المسجد غير الحرس وأصحاب يزيد فأخذوا الحرس ومضى يزيد بن عنبسة إلى يزيد بن الوليد فأعلمه وأخذ بيده فقال قم يا أمير المؤمنين وأبشر بنصر الله وعونه فقام وأقبل في اثني عشر رجلا فلما كان عند سوق الحمر لقوا أربعين رجلا من أصحابهم ولقيهم زهاء مائتي رجل فمضوا إلى المسجد فدخلوه وأخذوا باب المقصورة فضربوه فقالوا: رسل الوليد ففتح لهم الباب خادم فأخذوه ودخلوا فأخذوا أبا العاج وهو سكران وأخذوا خزائن بيت المال وأرسل إلى كل من كان يحذره فأخذ، وقبض [على] محمد بن عبيدة وهو على بعلبك وأرسل [بني عذر] إلى محمد بن عبد الملك بن محمد بن الحجاج فأخذوه.
وكان بالمسجد سلاح كثير فأخذوه، فلما أصبحوا جاء أهل المزة وتتابع الناس وجاءت السكاسك وأقبل أهل داريا ويعقوب بن محمد بن هانئ العبسي وأقبل عيسى بن شبيب التغلبي في أهل دومة وحرستا وأقبل حميد بن حبيب النخعي في أهل دير مران والأرزة وسطرا وأقبل أهل جرش وأهل الحديثة ودير زكا وأقبل ربعي بن هاشم الحارثي في الجماعة من بني عزة وسلامان وأقبلت جهينة ومن والاهم. ثم وجه يزيد بن الوليد بن عبد الملك عبد الرحمن بن مصادف في مائتي فارس ليأخذوا عبد الملك بن محمد بن الحجاج بن يوسف من قصره فأخذوه بأمان وأصاب عبد الرحمن خرجين في كل واحد منهما ثلاثون ألف دينار، فقيل له: خذ أحد هذين
285

الخرجين. فقال: لا تتحدث العرب عني أني أول من خان في هذا الأمر.
ثم جهز يزيد جيشا وسيرهم إلى الوليد بن يزيد بن عبد الملك وجعل عليهم عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك.
وكان يزيد لما ظهر بدمشق سار مولى للوليد إليه فأعلمه الخبر وهو بالأغدف من عمان فضربه الوليد وحبسه وسير أبا محمد عبد الله بن يزيد بن معاوية إلى دمشق فسار بعض الطريق فأقام فأرسل إليه يزيد بن الوليد عبد الرحمن بن مصادف فسأله أبو محمد ثم بايع ليزيد بن الوليد.
ولما أتى الخبر إلى الوليد قال له يزيد بن خالد بن يزيد بن معاوية سر حتى تنزل حمص فإنها حصينة ووجه الخيول إلى يزيد فيقتل أو يؤسر فقال عبد الله بن عنبسة بن سعيد بن العاص ما ينبغي للخليفة ان يدع عسكره ونساءه قبل أن يقاتل والله يؤيد أمير المؤمنين وينصره فقال يزيد بن خالد وما نخاف على حرمه وإنما أتاه عبد العزيز وهو ابن عمهن.
فأخذ بقول ابن عنبسة وسار حتى أتى البخراء قصر النعمان بن بشير وسار معه من ولد الضحاك بن قيس أربعون رجلا فقالوا: له ليس لنا سلاح فلو أمرت لنا بسلاح فما أعطاهم شيئا ونازله عبد العزيز، وكتب العباس بن الوليد بن عبد الملك إلى الوليد إني آتيك فقال الوليد أخرجوا سريرا فأخرجوه فجلس عليه وانتظر العباس فقاتلهم عبد العزيز ومعه منصور بن جمهور فبعث إليهم عبد العزيز زياد بن حصين الكلبي يدعوهم إلى كتاب الله وسنة نبيه فقتله أصحاب الوليد واقتتلوا قتالا شديدا وكان الوليد قد أخرج لواء مروان بن الحكم الذي كان عقده بالجابية.
وبلغ عبد العزيز مسير العباس إلى الوليد فأرسل منصور بن جمهور إلى
286

طريقه فأخذه قهرا وأتى به عبد العزيز فقال له: بايع لأخيك يزيد فبايع ووقف ونصبوا راية وقالوا: هذه راية العباس قد بايع لأمير المؤمنين يزيد فقال العباس انا لله خدعة من خدع الشيطان هلك بنو مروان فتفرق الناس عن الوليد وأتوا العباس وعبد العزيز وأرسل الوليد إلى عبد العزيز يبذل له خمسين ألف دينار وولاية حمص ما بقي ويؤمنه من كل حدث على أن ينصرف عن قتاله فأبى ولم يجبه فظاهر الوليد بين درعين وأتوه بفرسيه السندي والراية فقاتلهم قتالا شديدا فناداهم رجل اقتلوا عدو الله قتلة قوم لوط ارجموه بالحجارة فلما سمع ذلك دخل القصر وأغلق عليه الباب وقال:
(دعوا لي سلمى والطلاء وقينة * وكأسا ألا حسبي بذلك مالا)
(إذا ما صفا عيشي برملة عالج * وعانقت سلمى ما أريد بدالا)
(خذوا ملككم لا ثبت الله ملككم * ثباتا يساوي ما حييت عقالا:)
(وخلوا عناني قبل عير وما جرى * ولا تحسدوني أن أموت هزالا)
فلما دخل القصر وأغلق الباب أحاط به عبد العزيز فدنا الوليد من الباب وقال أما فيكم رجل شريف له حسب وحياء أكلمه قال يزيد بن عنبسة السكسكي كلمني قال يا أخا السكاسك ألم أزد في أعطياتكم ألم أرفع المؤن عنكم ألم أعط فقراءكم ألم أخدم زمناكم فقال إنا ما ننقم عليك في أنفسنا إنما ننقم عليك في انتهاك ما حرم الله وشرب الخمر ونكاح أمهات أولاد أبيك واستخفافك بأمر الله قال حسبك يا أخا السكاسك فلعمري لقد أكثرت وأغرقت وإن فيما أحل الله سعة عما ذكرت. ورجع
287

إلى الدار وجلس واخذ مصحفا فنشره يقرأ فيه وقال يوم كيوم عثمان.
فصعدوا على الحائط وكان أول من علاه يزيد بن عنبسة فنزل غليه فأخذه بيده وهو يريد أن يحبسه ويؤامره فيه فنزل من الحائط عشرة منهم منصور بن جمهور وعبد السلام اللخمي فضربه عبد السلام على رأسه وضربه السندي بن زياد بن أبي كبشة في وجهه واحتزوا رأسه وسيروه إلى يزيد.
فأتاه الرأس وهو يتغدى بالمسجد وحكى له يزيد بن عنبسة ما قاله للوليد قال آخر كلامه الله لا يرتق فتقكم ولا يلم شعثكم ولا يجمع كلمتكم فأمر يزيد بنصب رأسه فقال له يزيد بن فروة مولى بني مرة إنما تنصب رؤوس الخوارج وهذا ابن عمك وخليفة ولا آمن إن نصبته أن ترق له قلوب الناس ويغضب له أهل بيته فلم يسمع منه ونصبه على رمح فطاف به بدمشق ثم أمر به أن يدفع إلى أخيه سليمان بن يزيد فلما نظر إليه سليمان قال بعدا له اشهد أنه كان شروبا للخمر ماجنا فاسقا ولقد أرادني في نفسي الفاسق وكان سليمان ممن سعى في أمره.
وكان مع الوليد مالك بن أبي السمح المغني وعمرو الوادي المغني أيضا فلما تفرق عن الوليد أصحابه وحصر قال مالك لعمرو اذهب بنا فقال عمرو ليس هذا من الوفاء نحن لا يعرض لنا لأنا لسنا ممن يقاتل فقال مالك والله لئن ظفروا بك وبي لا يقتل أحد قبلي وقبلك فيوضع رأسه بين رأسينا ويقال للناس انظروا من كان معه في هذا الحال فلا يعيبونه بشيء أشد من هذا فهربا.
وكان قتله لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة ست وعشرين وكانت
288

مدة خلافته سنة وثلاثة أشهر وقيل سنة وشهرين واثنتين وعشرين يوما وكان عمره اثنتين وأربعين سنة وقيل قتل وهو ابن ثمان وثلاثين سنة وقيل إحدى وأربعين سنة وقيل ست وأربعين سنة.
ذكر نسب الوليد وبعض سيرته
هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف الأموي يكنى أبا العباس وأمه أم الحجاج بنت محمد بن يوسف الثقفي وهي بنت أخي الحجاج بن يوسف وأم أبيه عاتكة بنت يزيد بن معاوية بن أبي سفيان وأمها أم كلثوم بنت عبد الله بن عامر بن كريز وأم عامر بن كريز أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب فلذلك يقول الوليد:
(نبي الهدى خالي ومن يك خاله * نبي الهدى يقهر به من يفاخره)
وكان من فتيان بني أمية وظرفائهم وشجعانهم واجوادهم وأشدائهم منهمكا في اللهو والشرب وسماع الغناء فظهر ذلك من أمره فقتل ومن جيد شعره ما قاله لما بلغه أن هشاما يريد خلعه:
(كفرت يدا من منعم لو شكرتها * جزاك بها الرحمن ذو الفضل والمن)
وقد تقدمت الأبيات الأربعة وأشعاره حسنة في الغزل والعتاب ووصف الخمر وغير ذلك وقد أخذ الشعراء معانيه في وصف الخمر فسرقوها وأدخلوها في أشعارهم وخاصة أبو نواس فإنه أكثرهم أخذا لها.
قال الوليد المحبة للغناء تزيد في الشهوة وتهدم المروءة، وتنوب عن
289

الخمر وتفعل ما يفعل السكر فإن كنتم لا بد فاعلين فجنبوه النساء فإن الغناء رقية الزنا وإني لأقول ذلك على أنه أحب إلي من كل لذة وأشهى إلى نفسي من الماء إلى ذي الغلة ولكن الحق أحق أن يتبع قيل إن يزيد بن منبه مولى ثقيف مدح الوليد وهنأه بالخلافة فأمر أن تعد الأبيات ويعطى بكل بيت ألف ردهم فعدت فكانت خمسين بيتا فأعطي خمسين ألف درهم وهو أول خليفة عد الشعر وأعطى بكل بيت ألف درهم ومما اشتهر عنه أنه فتح المصحف فخرج: (واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد)، فألقاه ورماه بالسهام وقال:
(تهددني بجبار عنيد * فها انا ذاك جبار عنيد)
(إذا [ما] جئت ربك يوم حشر * فقل [يا] رب مزقني الوليد)
فلم يلبث بعد ذلك الا يسيرا حتى قتل.
ومن حسن الكلام ما قاله الوليد لما مات مسلمة بن عبد الملك فإن هشاما قعد للعزاء فأتاه الوليد وهو نشوان يجر مطرق خز عليه فوقف على هشام فقال يا أمير المؤمنين إن عقبي من بقي لحوق من مضى وقد أقفر بعد مسلمة الصيد لمن رمى واختل الثغر فهوى وعلى أثر من سلف يمضي من خلف فتزودوا فإن خير الزاد التقوى فأعرض هشاما ولم يحر جوابا وسكت القوم فلم ينطقوا.
وقد نزه قوم الوليد مما قيل فيه وأنكروه ونفوه عنه وقالوا: إنه قيل عنه
290

والصق به وليس بصحيح قال المدائني دخل ابن للغمر بن يزيد أخي الوليد على الرشيد فقال له ممن أنت فقال من قريش قال من أيها فأمسك فقال قل وأنت آمن ولو أنك مروان فقال أنا ابن الغمر بن يزيد فقال رحم الله عمك الوليد ولعن يزيد الناقص فإنه قتل خليفة مجمعا عليه! ارفع حوائجك. فرفعها فقضاها.
وقال شبيب بن شبة: كنا جلوسا عند المهدي فذكروا الوليد فقال المهدي كان زنديقا فقام أبو علاثة الفقيه فقال يا أمير المؤمنين إن الله عز وجل أعدل من أن يولي خلافة النبوة وأمر الأمة زنديقا لقد أخبرني من كان يشهد في ملاعبه وشربه عنه بمروءة في طهارته وصلاته فكان إذا حضرت الصلاة يطرح الثياب التي عليه المطايب المصبغة ثم يتوضأ فيحسن الوضوء ويؤتى بثياب نظاف بيض فيلبسها ويصلي فيها فإذا فرغ عاد إلى تلك الثياب فلبسها واشتغل بشربه ولهوه فهذا فعال من لا يؤمن بالله فقال المهدي بارك الله عليك يا أبا علاثة!
ذكر بيعة يزيد بن الوليد الناقص
في هذه السنة بويع يزيد بن الوليد الذي يقال له الناقص وإنما سمي الناقص لأنه نقص الزيادة التي كان الوليد زادها في عطيات الناس وهي عشرة عشرة ورد العطاء إلى ما كان أيام هشام وقيل أول من سماه بهذا الاسم مروان بن محمد.
ولما قتل الوليد خطب يزيد الناس فذمه وذكر إلحاده وأنه قتله لفعله
291

الخبيث وقال: أيها الناس إن لكم علي أن لا أضع حجرا على حجر ولا لبنة ولا أكتري نهرا ولا أكثر مالا ولا أعطيه زوجة وولدا ولا أنقل مالا عن بلد حتى أسد ثغره وخصاصة أهله بما يغنيهم فما فضل نقلته إلى البلد الذي يليه ولا أجمركم في ثغوركم فأفتنكم ولا أغلق بابي دونكم وأحمل على أهل جزيتكم ولكن أعطياتكم كل سنة وأرزاقكم في كل شهر حتى يكون أقصاكم كأدناكم فإن وفيت لكم بما قلت فعليكم السمع والطاعة وحسن الوزارة وإن لم أف فلكم أن تخلعوني إلا أن أتوب وإن علمتم أحدا ممن يعرف بالصلاح يعطيكم من نفسه مثل ما أعطيكم وأردتم أن تبايعوه فأنا أول من يبايعه أيها الناس لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
ذكر اضطراب أمر بني أمية
في هذه السنة اضطرب أمر بني أمية وهاجت الفتنة فكان من ذلك وثوب سليمان بن هشام بن عبد الملك بعد قتل الوليد بعمان وكان حبسه الوليد بها فخرج من الحبس وأخذ ما كان بها من الأموال وأقبل إلى دمشق وجعل يلعن الوليد ويعيبه بالكفر.
ذكر خلاف أهل حمص
لما قتل الوليد أغلق أهل حمص أبوابها وأقاموا النوائح والبواكي عليه وقيل لهم: إن العباس بن الوليد بن عبد الملك أعان عبد العزيز على قتله فهدموا داره ونهبوها وسلبوا حرمه وطلبوه فسار إلى أخيه يزيد، فكاتبوا
292

الأجناد ودعوهم إلى الطلب بدم الوليد، فأجابوهم واتفقوا أن لا يطيعوا يزيد، وأمروا عليهم معاوية بن يزيد بن الحصين بن نمير ووافقهم مروان بن عبد الله بن عبد الملك على ذلك.
فراسلهم يزيد فلم يسمعوا وجرحوا رسله فسير إليهم أخاه مسرورا في جمع كثير فنزلوا حوارين ثم قدم على يزيد سليمان بن هشام فرد عليه يزيد ما كان الوليد أخذه من أموالهم وسيره إلى أخيه مسرور ومن معه وأمرهم بالسمع والطاعة له.
وكان أهل حمص يريدون المسير إلى دمشق فقال لهم مروان بن عبد الملك أرى أن تسيروا إلى هذا الجيش فتقاتلوهم فإن ظفرتم بهم كان ما بعدهم أهون عليكم ولست أرى المسير إلى دمشق وترك هؤلاء خلفكم فقال السمط بن ثابت إنما يريد خلافكم وهو مائل ليزيد والقدرية فقتلوه وقتلوا ابنه وولوا أبا محمد السفياني وتركوا عسكر سليمان ذات اليسار وساروا إلى دمشق.
فخرج سليمان مجدا فلحقهم بالسليمانية مزرعة كانت لسليمان بن عبد الملك خلف عذراء وأرسل يزيد بن الوليد عبد العزيز بن الحجاج في ثلاثة آلاف إلى ثنية العقاب وأرسل هشام بن مصاد في ألف وخمسمائة إلى عقبة السلامية وأمرهم أن يمد بعضهم بعضا ولحقهم سليمان ومن معه على تعب فاقتتلوا قتالا شديد فانهزمت ميمنة سليمان وميسرته وثبت هو في القلب ثم حمل أصحابه على أهل حمص حتى ردوهم إلى موضعهم وحمل بعضهم [على] بعض مرارا.
293

فبيناهم كذلك إذ أقبل عبد العزيز بن الحجاج من ثنية العقاب فحمل على أهل حمص حتى دخل عسكرهم وقتل فيه من عرض له فانهزموا ونادى يزيد بن خالد بن عبد الله القسري الله الله في قومك فكف الناس ودعاهم سليمان بن هشام إلى بيعة يزيد بن الوليد وأخذ أبو محمد السفياني أسيرا ويزيد بن خالد بن معاوية أيضا فأتى بهما سليمان فسيرهما إلى يزيد فحبسهما واجتمع أمر أهل دمشق ليزيد بن الوليد وبايعه أهل حمص فأعطاهم يزيد العطاء وأجاز الاشراف واستعمل عليهم يزيد بن الوليد معاوية بن يزيد بن الحصين.
ذكر خلاف أهل فلسطين
وفي هذه السنة وثب أهل فلسطين على عاملهم سعيد بن عبد الملك فطردوه وكان قد استعمله عليهم الوليد وأحضروا يزيد بن سليمان بن عبد الملك فجعلوه عليهم وقالوا: له ان أمير المؤمنين قد قتل فتول أمرنا فوليهم ودعا الناس إلى قتال يزيد فأجابوه.
وكان ولد سليمان ينزلون فلسطين وبلغ أهل الأردن أمر أهل فلسطين فولوا عليهم محمد بن عبد الملك واجتمعوا معهم على قتال يزيد بن الوليد وكان أمر أهل فلسطين إلى سعيد بن روح وضبعان بن روح.
وبلغ خبرهم يزيد بن الوليد فسير إليهم سليمان بن هشام بن عبد الملك في أهل دمشق وأهل حمص الذين كانوا مع السفياني وكانت عدتهم أربعة وثمانين ألفا وأرسل يزيد بن الوليد إلى سعيد وضبعان ابني روح فوعدهما
294

وبذل لهما الولاية والمال فرحلا في أهل فلسطين وبقي أهل الأردن فأرسل سليمان خمسة آلاف فنهبوا القرى وساروا إلى طبرية فقال أهل طبرية ما نقيم والجنود تجوس منازلنا وتحكم في أهالينا فانتهبوا يزيد بن سليمان ومحمد بن عبد الملك وأخذوا دوابهما وسلاحهما ولحقوا بمنازلهم فلما تفرق أهل فلسطين والأردن سار سليمان حتى أتى الصنبرة وأتاه أهل الأردن فبايعوا يزيد بن الوليد وسار إلى طبرية فصلى بهم الجمعة وبايع من بها وسار إلى الرملة فأخذ البيعة على من بها واستعمل ضبعان بن روح على فلسطين وإبراهيم بن الوليد بن عبد الملك على الأردن.
ذكر عزل يوسف بن عمر عن العراق
ولما قتل الوليد استعمل بزيد على العراق منصور بن جمهور وكان قد ندب قبله إلى ولاية العراق عبد العزيز بن هارون بن عبد الله بن دحية بن خليفة الكلبي فقال لو كان معي جند لقبلت فتركه واستعمل منصورا ولم يكن منصور من أهل الدين وإنما صار مع يزيد لرأيه في الغيلانية وحمية لقتل يوسف خالدا القسري فشهد لذلك قتل الوليد وقال له لما ولاه العراق اتق الله واعلم أني إنما قتلت الوليد لفسقه ولما أظهر من الجور فلا تركب مثل ما قتلناه عليه.
ولما بلغ يوسف بن عمر قتل الوليد عمد إلى من بحضرته من اليمانية فسجنهم ثم جعل يخلو بالرجل بعد الرجل من المضرية فيقول ما عندك إن اضطرب الحبل فيقول المضري أنا رجل من أهل الشام أبايع من بايعوا وأفعل ما فعلوا فلم ير عندهم ما يحب فأطلق اليمانية.
295

وأقبل منصور فلما كان بعين التمر كتب إلى من بالحيرة من قواد أهل الشام يخبرهم بقتل الوليد وتأميره على العراق ويأمرهم بأخذ يوسف وعماله وبعث الكتب كلها إلى سليمان بن سليم بن كيسان ليفرقها على القواد فحبس الكتب وحمل كتابه فأقرأه يوسف بن عمر فتحير في أمره وقال لسليمان: ما الرأي؟ قال: ليس لك امام تقاتل معه ولا يقاتل أهل الشام معك ولا آمن عليك منصورا وما الرأي إلا أن تلحق بشامك قال فكيف الحيلة قال تظهر الطاعة ليزيد وتدعو له في خطبتك فإذا قرب منصور تستخفي عندي وتدعه والعمل ثم مضى سليمان إلى عمرو بن محمد بن سعيد بن العاص فأخبره بأمره وسأله أن يواري يوسف بن عمر عنده ففعل فانتقل يوسف إليه قال فلم ير رجل كان [له] مثل عتوه خاف خوفه.
وقدم منصور الكوفة فخطبهم وذم الوليد ويوسف وقامت الخطباء فذموهما معه فأتى عمرو بن محمد إلى يوسف فأخبره لا يذكر رجلا ممن ذكره بسوء الا قال لله علي أن أضربه كذا وكذا سوطا فجعل عمرو يتعجب من طمعه في الولاية وتهدده الناس.
وسار يوسف من الكوفة سرا إلى الشام فنزل البلقاء فلما بلغ خبره يزيد بن الوليد وجه إليه خمسين فارسا فعرض رجل من بني نمير ليوسف فقال يا ابن عمر أنت والله مقتول فأطعني وامتنع قال لا قال فدعني أقتلك أنا ولا تقتلك هذه اليمانية فتغيظنا بقتلك قال ما لي فما عرضت جنان قال فأنت أعلم.
فطلبه المسيرون لأخذه فلم يروه فهددوا ابنا له فقال انه انطلق إلى مزرعة له فساروا في طلبه فلما أحس بهم هرب وترك نعليه، ففتشوا
296

عليه فوجدوه بين نسوة قد ألقين عليه قطيفة خز وجلسن على حواشيها حاسرات فجروا برجله وأخذوه وأقبلوا به إلى يزيد فوثب عليه بعض الحرس فأخذ بلحيته ونتف بعضها وكان من أعظم الناس لحية وأصغرهم قامة فلما أدخل على يزيد قبض على لحية نفسه وهي إلى سرته فجعل يقول يا أمير المؤمنين نتفت والله لحيتي فما أبقي فيها شعرة فأمر به فحبس بالخضراء فأتاه انسان فقال له أما تخاف أن يطلع عليك بعض من قد وترت فيلقي عليك حجرا فيقتلك فقال ما فطنت لهذا فأرسل إلى يزيد يطلب منه أن يحول إلى حبس غير الخضراء وإن كان أضيق منه فعجب من حمقه فنقله وحبسه مع ابني الوليد فبقي في الحبس ولاية يزيد وشهرين وعشرة أيام من ولاية إبراهيم فلما قرب مروان من دمشق ولى قتلهم يزيد بن خالد القسري مولى لأبيه خالد يقال له أبو الأسد.
ودخل منصور بن جمهور لأيام خلت من رجب فأخذ بيوت الأموال وأخرج العطاء والأرزاق وأطلق من كان في السجون من العمال وأهل الخراج وبايع ليزيد بالعراق وأقام بقية رجب وشعبان ورمضان وانصرف لأيام بقين منه.
ذكر امتناع نصر بن سيار على منصور
وفي هذه السنة امتنع نصر ين سيار بخراسان من تسليم عمله لعامل منصور بن جمهور وكان يزيد ولاها منصورا مع العراق وقد ذكرنا فيما تقدم ما كان من كتاب يوسف بن عمر إلى نصر بالمسير اليه ومسير نصر وتباطئه وما
297

معه من الهدايا فأتاه قتل الوليد فرجع نصر ورد تلك الهدايا وأعتق الرقيق وقسم حسان الجواري في ولده وخاصته وقسم تلك الآنية في عوام الناس ووجه العمال وأمرهم بحسن السيرة واستعمل منصور أخاه منصورا على الري وخراسان فلم يمكنه نصر من ذلك وحفظ نفسه والبلاد منه ومن أخيه.
ذكر الحرب بين أهل اليمامة وعاملهم
لما قتل الوليد بن يزيد كان على اليمامة علي بن المهاجر استعمله عليها يوسف بن عمر فقال له المهير بن سلمى بن هلال أحد بني الدؤل بن حنيفة اترك لنا بلادنا فأبى فجمع له المهير وسار إليه وهو في قصره بقاع هجر فالتقوا بالقاع فانهزم علي حتى دخل قصره ثم هرب إلى المدينة وقتل المهير ناسا من أصحابه وكان يحيى بن أبي حفص نهى ابن المهاجر عن القتال فعصاه، فقال:
(بذلت نصيحتي لبني كلاب * فلم تقبل مشاورتي ونصحي)
(فدى لبني حنيفة من سواهم * فإنهم فوارس كل فتح)
وقال شقيق بن عمرو السدوسي:
(إذا أنت سلمت المهير ورهطه * أمنت من الأعداء والخوف والذعر)
(فتى راح يوم القاع روحة ماجد * أراد بها حسن السماع مع الأجر)
وهذا يوم القاع.
298

وتأمر المهير على اليمامة، ثم إنه مات واستخلف على اليمامة عبد الله بن النعمان أحد بني قيس بن ثعلبة بن الدؤل فاستعمل عبد الله بن النعمان المندلث بن إدريس الحنفي على الفلج وهي قرية من قرى بني عامر بن صعصعة وقيل هي لبني تميم فجمع له بنو كعب بن ربيعة بن عامر ومعهم بنو عقيل وأبو الفلج المندلث وقاتلهم فقتل المندلث وأكثر أصحابه ولم يقتل من أصحاب بني عامر كثير وقتل يومئذ يزيد بن الطثرية وهي أمه نسبت إلى طثر بن عمرو بن وائل وهو يزيد بن المنتشر فرثاه أخوه ثور بن الطثرية:
(أرى الأثل من نحو العقيق مجاوري * مقيما وقد غالت يزيد غوائله)
(وقد كان يحمي المحجرين بسيفه * ويبلغ أقصى حجرة الحي نائلة)
وهو يوم الفلج الأول.
فلما بلغ عبد الله بن النعمان قتل المندلث جمع ألفا من حنيفة وغيرها وغزا الفلج فلما تصاف الناس انهزم أبو لطيفة بن مسلم العقيلي فقال الراجز:
(فر أبو لطيفة المنافق * والجفونيان وفر طارق)
(لما أحاطت بهم البوارق)
طارق بن عبد الله القشيري والجفونيان من بني قشير.
وتخللت بنو جعدة البراذع وولوا فقتل أكثرهم وقطعت يد زياد بن حيان الجعدي فقال:
(أنشد كفا ذهبت وساعدا * أنشدها ولا أراني واجدا)
ثم قتل وقال بعض الربعيين:
299

(سمونا لكعب بالصفائح والقنا * وبالخيل شعثا تنحني في الشكائم)
(فما غاب قرن الشمس حتى رأيتنا * نسوق بني كعب كسوق البهائم)
(بضرب يزيل الهام عن سكناته * وطعن كأفواه المزاد الثواجم)
وهذا اليوم هو يوم الفلج الثاني.
ثم إن بني عقيل وقشيرا وجعدة ونميرا تجمعوا وعليهم أبو سهلة النميري فقتلوا من لقوا من بني حنيفة بمعدن الصخراء وسلبوا نساءهم وكفت بنو نمير عن النساء ثم إن عمر بن الوازع الحنفي لما رأى ما فعل عبد الله بن النعمان يوم الفلج الثاني قال لست بدون عبد الله وغيره ممن يغير وهذه فترة يؤمن فيها عقوبة السلطان فجمع خيله وأتى الشريف وبث خيله فأغارت وغار هو فملئت يداه من الغنائم وأقبل ومن معه حتى أتى النشاش وأقبلت بنو عامر وقد حشدت فلم يشعر عمر بن الوازع إلا برعاء الإبل فجمع النساء في فسطاط وجعل عليهن حرسا ولقي القوم فقاتلهم فانهزم هو ومن معه وهرب عمر الوازع فلحق باليمامة وتساقط من بني حنيفة خلق كثير في القلب من العطش وشدة الحر ورجعت بنو عامر بالأسرى والنساء؛ وقال القحيف:
(وبالنشاش يوم طار فيه * لنا ذكر وعد لنا فعال)
وقال أيضا:
(فداء خالتي لبني عقيل * وكعب حين تزدحم الجدود)
(هم تركوا على النشاش صرعى * بضرب ثم أهونه شديد)
300

وكفت قيس يوم النشاش عن السلب فجاءت عكل فسلبتهم وهذا يوم النشاش ولم يكن لحنيفة بعده جمع غير أن عبيد الله بن مسلم الحنفي جمع جمعا وأغار على ماء لقشير يقال له حلبان فقال الشاعر:
(لقد لاقت قشير يوم لاقت * عبيد الله إحدى المنكرات)
(لقد لاقت على حلبان ليثا * هزبرا لا ينام عن الترات)
وأغار على عكل فقتل منهم عشرين ألفا.
ثم قدم الثنى بن يزيد بن عمر بن هبيرة الفزاري واليا على اليمامة من قيل أبيه يزيد بن عمر بن هبيرة حين ولي العراق لمروان الحمار فوردها وهم سلم فلم يكن حرب وشهدت بنو عامر على بني حنيفة فتعصب لهم المثنى لأنه قيسي أيضا فضرب عدة من بني حنيفة وحلقهم فقال بعضهم:
(فإن تضربونا بالسياط فإننا * ضربناكم بالمرهفات الصوارم)
(وان تحلقوا من الرؤوس فإننا * قطعنا رؤوسا منكم بالغلاصم)
ثم سكنت البلاد ولم يزل عبيد الله بن مسلم الحنفي مستخفيا حتى قدم السري بن عبد الله الهاشمي واليا على اليمامة لبني العباس فدل عليه فقتله فقال نوح بن جرير الخطفى:
(فلولا السري الهاشمي وسيفه * أعاد عبيد الله شرا على عكل)
301

ذكر عزل منصور عن العراق
وولاية عبد الله بن عمر بن عبد العزيز
في هذه السنة عزل يزيد بن الوليد بن عبد الملك منصور بن جمهور عن العراق واستعمل عليه بعده عبد الله بن عمر بن عبد العزيز وقال له لما ولاه سر إلى العراق فإن أهله يميلون إلى أبيك فقدم إلى العراق وقدم بين يديه رسلا إلى من بالعراق من قواد الشام وخاف أن لا يسلم إليه منصور العمل فانقاد له أهل الشام وسلم إليه منصور العمل وانصرف إلى الشام ففرق عبد الله العمال وأعطى الناس أرزاقهم وأعطياتهم فنازعه قواد أهل الشام وقالوا: تقسم على هؤلاء فيئنا وهن عدونا فقال لأهل العراق إني أريد أن أرد فيئكم عليكم وعلمت أنكم أحق به فنازعني هؤلاء فاجتمع أهل الكوفة بالجبانة فأرسل إليهم أهل الشام يعتذرون وثار غوغاء الناس من الفريقين فأصيب منهم رهط لم يعرفوا واستعمل عبد الله بن عمر على شرطته عمر بن الغضبان القبعثري وعلى خراج السواد والمحاسبات أيضا.
ذكر الاختلاف بين أهل خراسان
وفي هذه السنة وقع الاختلاف بخراسان بين النزارية واليمانية وأظهر الكرماني الخلاف لنصر بن سيار.
وكان السبب في ذلك أن نصرا رأى الفتنة قد ثارت فرفع حاصل بيت المال وأعطى الناس بعض أعطياتهم ورقا وذهبا من الآنية التي كان اتخذها للوليد، فطلب
302

الناس منه العطاء وهو يخطب، فقال نصر: إياكم والمعصية! وعليكم بالطاعة والجماعة فوثب أهل السوق إلى أسواقهم فغضب نصر وقال مالكم عندي عطاء ثم قال كأني بكم وقد نبع من تحت أرجلكم شر لا يطاق وكأني بكم مطرحين في الأسواق كالجزر المنحورة إنه لم تطل ولاية رجل إلا ملوها وأنتم يا أهل خراسان مسلحة في نحور العدو فإياكم ان يختلف فيكم سفيان إنكم تريشون أمرا بريدون به الفتنة ولا أبقى الله الفتنة ولا أبقى الله عليكم لقد نشرتكم وطويتم [وطويتكم ونشرتكم] فما عندي منكم عشرة وإني وإياكم كما قيل:
(استمسكوا أصحابنا بحدو بكم * فقد عرفنا خيركم وشركم)
فاتقوا الله فوالله لئن اختلف فيكم سفيان ليتمنين أحدكم أنه ينخلع من ماله وولده يا أهل خراسان إنكم قد غمطتم الجماعة وركنتم إلى الفرقة ثم تمثل بقول النابغة الذبياني:
(فإن يغلب شقاؤكم عليكم * فإني في صلاحكم سعيت)
وقدم على نصر عهده على خراسان من عبد الله بن عمر بن عبد العزيز فقال الكرماني لأصحابه الناس في فتنة فانظروا لأموركم رجلا.
وإنما سمي الكرماني لأنه ولد بكرمان واسمه جديع بن علي الأزدي المعني فقالوا: له أنت لنا.
303

وقالت المضرية لنصر إن الكرماني يفسد عليك الأمور فأرسل غليه فاقتله أو احبسه فقال لا ولكن لي أولاد ذكور وإناث فأزوج بني من بناته وبناتي من بنيه قالوا: لا قال فابعث إليه بمائة ألف درهم وهو بخيل ولا يعطي أصحابه شيئا منها فيتفرقون عنه قالوا: لا هذه قوة له ولم يزالوا به حتى قالوا: له ان الكرماني لو لم يقدر على السلطان والملك إلا بالنصرانية واليهودية لتنصر وتهود.
وكان نصر والكرماني متصافين وكان الكرماني قد أحسن إلى نصر في ولاية أسد بن عبد الله فلما ولي نصر عزل الكرماني عن الرياسة وولاها غيره فتباعد ما بينهما.
فلما أكثروا على نصر في أمر الكرماني عزم على حبسه فأرسل صاحب حرسه ليأتيه به فأرادت الأزد أن تخلصه من يده فمنعهم من ذلك وسار مع صاحب الحرس إلى نصر وهو يضحك فلما دخل عليه قال له نصر يا كرماني ألم يأتني كتاب يوسف بن عمر بقتلك فراجعته وقلت شيخ خراسان وفارسها فحقنت دمك قال بلى قال ألم أغرم عنك ما كان لزمك من الغرم وقسمته في أعطيات الناس قال بلى قال ألم أرئس ابنك عليا على كره من قومك قال بلى قال فبدلت ذلك اجماعا على الفتنة قال الكرماني لم يقل الأمير شيئا إلا وقد كان أكثر منه وأنا لذلك شاكر، وقد
304

كان مني أيام أسد ما قد علمت فليتأن الأمير فلست أحب الفتنة فقال سالم بن أحوز اضرب عنقه أيها الأمير فقال عصمة بن عبد الله الأسدي للكرماني إنك تريد الفتنة وما لا تناله فقال المقدام وقدامة ابنا عبد الرحمن بن نعيم العامري لجلساء فرعون خير منكم إذ (قالوا: أرجه وأخاه)، والله لا يقتل الكرماني بقولكما فأمر بضربه وحبس في القهندز لثلاث بقين من شهر رمضان سنة ست وعشرين ومائة.
فتكلمت الأزد فقال نصر: إني حلفت أن أحبسه ولا يناله مني سوء فإن خشيتم عليه فاختاروا رجلا يكون معه فاختاروا يزيد النحوي فكان معه.
فجاء رجل من أهل نسف فقال لآل الكرماني ما تجعلون لي ان أخرجته قالوا: كل ما سألت فأتى مجرى الماء في القهندز فوسعه وقال لولد الكرماني اكتبوا إلى أبيكم يستعد الليلة للخروج فكتبوا إليه وادخلوا الكتاب في الطعام فتعشى الكرماني ويزيد النحوي وخضر بن حكيم وخرجا من عنده ودخل الكرماني السرب فانطوت على بطنه حية فلم تضره وخرج من السرب وركب فرسه البشير والقيد في رجله فأتوا به عبد الملك بن حرملة فأطلق عنه.
وقيل: بل خلص الكرماني مولى له رأى خرقا في القهندز فوسعه وأخرجه فلم يصل الصبح حتى اجتمع معه زهاء ألف ولم يرتفع النهار حتى بلغوا ثلاثة آلاف وكانت الأزد قد بايعوا عبد الملك بن حرملة على كتاب الله وسنة رسوله فلما خرج الكرماني قدمه عبد الملك.
305

فلما هرب الكرماني عسكر نصر بباب مرو الروذ وخطب الناس فنال من الكرماني فقال ولد بكرمان فكان كرمانيا ثم سقط إلى هراة فصار هرويا، والساقط بين الفراشين لا أصل ثابت ولا فرع نابت ثم ذكر الأزد فقال: إن يستوثقوا فهم أذل قوم وان تابوا فهم كما قال الأخطل:
(ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت * فدل عليها صوتها حية البحر)
ثم ندم على فرط منه فقال اذكروا الله فإنه خير لا شر فيه ثم اجتمع إلى نصر بشر كثير فوجه سالم بن أحوز في المجففة إلى الكرماني فسفر الناس بين نصر والكرماني وسألوا نصرا أن يؤمنه ولا يحبسه وجاء الكرماني فوضع يده في يد نصر فأمره بلزوم بيته.
ثم بلغ الكرماني عن نصر شيء فخرج إلى قرية له فخرج نصر فعسكر بباب مرو فكلموه فيه فأمنه وكان رأي نصر إخراجه من خراسان فقال له سالم بن أحوز إن أخرجته ووهنت بأسه قال الناس إنما أخرجه لأنه هابه فقال نصر إن الذي أتخوفه منه إذا خرج أيسر مما أتخوفه منه وهو مقيم والرجل إذا نفي عن بلده صغر أمره فأبوا عليه فأمنه وأعطى أصحابه عشرة عشرة وأتى الكرماني نصرا فآمنه.
فلما عزل ابن جمهور عن العراق وولي عبد الله بن عمبر بن عبد العزيز في شوال سنة ست وعشرين خطب نصر وذكر ابن جمهور وقال قد علمت أنه لم يكن من عمال العراق وقد عزله الله واستعمل الطيب ابن الطيب.
306

فغضب الكرماني لابن جمهور وعاد في جمع الرجال واتخاذ السلاح، فكان يحضر الجمعة في ألف وخمسمائة وأكثر وأقل فيصلي خارج المقصورة ثم يدخل فيسلم على نصر ولا يجلس ثم ترك اتيان نصر وأظهر الخلاف فأرسل اليه نصر مع سالم بن أحوز يقول له إني والله ما أردت بحبسك سوءا ولكن خفت فسادا من الناس فأتني فقال لولا انك في منزلي لقتلتك ارجع إلى ابن الأقطع وأبلغه ما شئت من خير أو شر فرجع إلى نصر فأخبره فلم يزل يرسل إليه مرة بعد أخرى فكان آخر ما قاله له الكرماني إني لا آمن أن يحملك قوم على غير ما تريد فتركب منا ما لا بقية بعده فإن شئت خرجت عنك لا من هيبة لك ولكن أكره أن أشأم أهل هذه البلدة وأسفك الدماء فيها فتهيأ للخروج إلى جرجان.
(المعنى بفتح الميم وسكون العين المهملة وبعدها نون نسبة إلى قبيلة من الأزد).
ذكر خبر الحرث بن سريج وأمانه
وفي هذه السنة أومن الحرث بن سريج وهو ببلاد الترك وكان مقامه عندهم اثنتي عشرة سنة وأمر بالعود إلى خراسان.
وكان السبب في ذلك أن الفتنة لما وقعت بخراسان بين نصر والكرماني خاف نصر قدوم الحرث عليه في أصحابه والترك فيكون أشد عليه من الكرماني
307

وغيره، وطمع أن يناصحه فأرسل إليه مقاتل بن حيان النبطي وغيره ليردوه من بلاد الترك وسار خالد بن زياد الترمذي وخالد بن عمرو مولى بني عامر إلى يزيد بن
الوليد فأخذا للحرث منه أمانا فكتب له أمانه وأمر نصر أن يرد عليه ما أخذ له وأمر عبد الله بن عمر بن عبد العزيز عامل الكوفة بذلك أيضا فأخذا الأمان وسار إلى الكوفة ثم إلى خراسان فأرسل نصر إليه فلقيه الرسول وقد رجع مع مقاتل بن حيان وأصحابه فوصل إلى نصر وقال بمرو الروذ ورد نصر عليه ما أخذ له وكان عوده سنة سبع وعشرين ومائة.
ذكر شيعة بني العباس
في هذه السنة وجه إبراهيم بن محمد الامام أبا هاشم بكير بن ماهان إلى خراسان وبعث معه بالسيرة والوصية فقدم مرو وجمع النقباء والدعاة فنعى إليهم محمد بن علي ودعاهم إلى ابنه إبراهيم ودفع إليهم كتابه فقبلوه ودفعوا إليه ما اجتمع عندهم من نفقات الشيعة فقدم بها بكير على إبراهيم.
ذكر بيعة إبراهيم بن الوليد بالعهد
وفي هذه السنة أمر يزيد بن الوليد بالبيعة لأخيه إبراهيم ومن بعده لعبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك وكان السبب في ذلك أن يزيد مرض سنة ست وعشرين ومائة فقيل له ليبايع لهما ولم تزل القدرية بيزيد حتى أمر بالبيعة لهما.
308

ذكر مخالفة مروان بن محمد
وفي هذه السنة أظهر مروان بن محمد الخلاف ليزيد بن الوليد.
وكان السبب في ذلك أن الوليد لما قتل كان عبد الملك بن مروان بن محمد مع الغمر بن يزيد أخي الوليد بحران بعد انصرافه من الصائفة وكان على الجزيرة عبدة بن الرياح الغساني عاملا للوليد فلما قتل الوليد سار عبدة عنها إلى الشام فوثب عبد الملك بن مروان بن محمد على حران والجزيرة فضبطهما وكتب إلى أبيه بأرمينية يعلمه بذلك ويشير عليه بتعجيل السير فتهيأ مروان للمسير وأنفذ إلى الثغور من يضبطها ويحفظها وأظهر أنه يطلب بدم الوليد وسار ومعه الجنود ومعه ثابت بن نعيم الجذامي من أهل فلسطين.
وسبب صحبته له أن هشاما كان قد حبسه، وسبب حبسه أن هشاما أرسله إلى إفريقية لما قتلوا عامله كلثوم بن عياض فأفسد الجند فحبسه هشام وقدم مروان على هشام في بعض وفداته فشفع فيه فأطلقه فاستصحبه معه.
فلما سار مروان مسيرة هذا أمر ثابت بن نعيم من مع مروان من أهل الشام بالانضمام إليه ومفارقة مروان ليعودوا إلى الشام فأجابوه إلى ذلك فاجتمع معه ضعف من مع مروان وباتوا يتحارسون فلما أصبحوا اصطفوا للقتال فأمر مروان منادين ينادون بين الصفين يا أهل الشام ما دعاكم إلى هذا ألم أحسن فيكم السيرة فأجابوه بأنا كنا نطيعك بطاعة الخليفة وقد قتل وبايع أهل الشام يزيد فرضينا بولاية ثابت ليسير بنا إلى أجنادنا فنادوهم كذبتم فإنكم لا تريدون ما قلتم وإنما تريدون أن تغصبوا من مررتم به من أهل الذمة أموالهم وما بيني وبينكم إلا السيف حتى تنقادوا
309

إلي فأسير بكم إلى الغزاة ثم أترككم تلحقون بأجنادكم فانقادوا له فأخذ ثابت بن نعيم وأولاده وحبسهم وضبط الجند حتى بلغ حران وسيرهم إلى الشام ودعا أهل الجزيرة إلى العرض فعرض نيفا وعشرين ألفا وتجهز للمسير إلى يزيد وكاتبه ليبايع له ويوليه ما كان عبد الملك بن مروان ولى أباه محمد بن مروان من الجزيرة وأرمينية والموصل وأذربيجان فبايع له مروان وأعطاه يزيد ولاية ما ذكر له.
ذكر وفاة يزيد بن الوليد بن عبد الملك
وفي هذه السنة توفي يزيد بن الوليد لعشر بقين من ذي الحجة وكان خلافته ستة أشهر وليلتين وقيل كانت ستة أشهر واثني عشر يوما وقيل خمسة أشهر واثني عشر يوما وكان موته بدمشق وكان عمره ستا وأربعين سنة وقيل سبعا وثلاثين سنة وكانت أمه أم ولد اسمها شاه فرند بنت فيروز بن يزدجرد بن شهريار بن كسرى وهو القائل:
(أنا ابن كسرى وأبي مروان * وقيصر جدي وجدي خاقان)
إنما جعل قيصر وخاقان جديه لأن أم فيروز بن يزدجرد ابنة مسرى شيرويه بن كسرى وأمها ابنة قيصر وأم شيرويه ابنة خاقان ملك الترك وكان آخر ما تكلم به وا حسرتاه وا أسفاه ونقش خاتمه العظمة لله وهو أول من خرج بالسلاح يوم العيد خرج بين صفين عليهم السلاح 0 قيل إنه كان قدريا وكان أسمر طويلا صغير الرأس جميلا.
310

ذكر خلافة إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك
فلما مات يزيد بن الوليد قام بالأمر بعده أخوه إبراهيم غير أنه لم يتم له الأمر فكان يسلم عليه تارة بالخلافة وتارة بالامارة وتارة لا يسلم عليه بواحدة منهما فمكث أربعة أشهر وقيل سبعين يوما ثم سار إليه مروان بن محمد فخلعه على ما نذكره ثم لم يزل حيا حتى أصيب سنة اثنتين [وثلاثين ومائة]، وكنيته أبو إسحاق وأمه أم ولد.
ذكر استيلاء عبد الرحمن بن حبيب على إفريقية
كان عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع قد انهزم لما قتل أبوه وكلثوم بن عياض سنة اثنتين وعشرين ومائة وسار إلى الأندلس وقد ذكرناه وأراد أن يتغلب عليها فلم يمكنه ذلك فلما ولي حنظلة بن صفوان إفريقية على ما ذكرناه وجه أبا الخطار إلى الأندلس أميرا فأيس حينئذ عبد الرحمن مما كان يرجوه فعاد إلى إفريقية وهو خائف من أبي الخطار وخرج بتونس من إفريقية في جمادى الأولى سنة ست وعشرين وقد ولي الوليد بن يزيد بن عبد الملك الخلافة بالشام فدعا الناس إلى نفسه فأجابوه فسار بهم إلى القيروان فأراد من بها قتاله فمنعهم حنظلة وكان لا يرى القتال إلا لكافر أو خارجي وأرسل إليه حنظلة رسالة مع جماعة من أعيان القيروان رؤساء القبائل
يدعوه إلى مراجعة الطاعة فقبضهم وأخذهم معه إلى القيروان وقال إن رمى أحد من أهل القيروان بحجر قتلت من عندي أجمعين فلم يقاتله أحد فخرج حنظلة إلى الشام واستولى عبد الرحمن على القيروان سنة
311

سبع وعشرين ومائة وسائر إفريقية.
ولما خرج حنظلة إلى الشام دعا على أهل إفريقية وعبد الرحمن فاستجيب له فيهم فوقع الوباء والطاعون سبع سنين لم يفارقهم إلا في أوقات متفرقة وثار بعبد الرحمن جماعة من العرب والبربر ثم قتل بعد ذلك.
فممن خرج عليه عروة بن الوليد الصدفي واستولى على تونس وقام أبو عطاف عمران بن عطاف الأزدي فنزل بطيفاس وثارت البربر بالجبال وخرج عليه ثابت الصنهاجي بباجة فأخذها.
فأحضر عبد الرحمن أخاه الياس وجعل معه ستمائة فارس وقال له سر حتى تجتاز بعسكر أبي عطاف الأزدي فإذا رآك عسكره فارقهم وسر عنهم كأنك تريد تونس إلى قتال عروة بن الوليد بها فإذا أتيت موضع كذا فقف فيه حتى يأتيك فلان بكتابي فافعل بما فيه.
فسار إلياس ودعا عبد الرحمن إنسانا وهو الرجل الذي قال لأخيه الياس عنه وأعطاه كتابا وقال له امض حتى تدخل عسكر أبي عطاف فإذا أشرف عليهم الياس ورأيتهم يدعون السلاح والخيل فإذا فارقهم الياس ووضعوا السلاح عنهم وأمنوا فسر اليه وأوصل كتابي اليه فمضى الرجل ودخل عسكر أبي عطاف وقاربهم الياس فتحركوا للركوب ثم فارقهم الياس نحو تونس فسكنوا وقالوا: قد دخل بين فكي أسد نحن من ههنا وأهل تونس من هناك وأمنوا وصمموا العزم على المسير خلفه فلما أمنوا سار ذلك الرجل إلى الياس فأوصل إليه كتاب أخيه عبد الرحمن فإذا فيه ان القوم قد أمنوك فسر إليهم وهم في غفلتهم فعاد الياس إليهم وهم غارون فلم يلحقوا يلبسون سلاحهم حتى دهمهم فقتلهم وقتل أبا عطاف أميرهم سنة ثلاثين ومائة،
312

وأرسل إلى أخيه عبد الرحمن يبشره بذلك فكتب إليه عبد الرحمن يأمره بالمسير إلى أهل تونس ويقول إنهم إذا رأوك ظنوك أبا عطاف فأمنوك فظفرت بهم.
فسار إليهم فكان كما قال عبد الرحمن ووصل إليها وصاحبها عروة بن الوليد في الحمام فلم يلحق يلبس ثيابه حتى غشيه الياس فالتحف بمنشفة ينشف بها بدنه وركب فرسه عريانا وهرب فصاح به الياس يا فارس العرب فعاد إليه فضربه الياس واحتضنه عروة فسقطا إلى الأرض وكاد عروة يظهر على الياس فأتاه مولى لإلياس فقتله واحتز رأسه وسيره إلى عبد الرحمن.
وأقام الياس بتونس وخرج عليه رجلان بطرابلس اسمهما عبد الجبار والحرث وقتلا من أهل البلد جماعة كثيرة فسار عليهم عبد الرحمن سنة إحدى وثلاثين ومائة وقاتلهما فقتلا وكانا يدينان بمذهب الأباضية من الخوارج.
وجند عبد الرحمن في قتال البربر وعمر عبد الرحمن سور طرابلس سنة اثنتين وثلاثين ومائة ثم انه عاد إلى القيروان وغزا تلمسان وبها جمع كثير من البربر فظفر بهم وذلك سنة خمس وثلاثين وسير جيشا إلى صقلية فظفروا وغنموا غنيمة كثيرة وبعث جيشا آخر إلى سردانية فغنموا وقتلوا في الروم ودوخ المغرب جميعه ولم ينهزم له عسكر.
وقتل مروان بن محمد وزالت دولة بني أمية وعبد الرحمن بإفريقية فخطب للخلفاء العباسيين وأطاع السفاح ثم قدم عليه جماعة من بني أمية فتزوج هو وإخوته منهم وكان فيمن قدم عليه منهم العاص وعبد المؤمن ابنا الوليد بن يزيد بن عبد الملك وكانت ابنة عمهما تحت الياس أخي عبد الرحمن فبلغ عبد الرحمن عنهما السعي في الفساد عليه فقتلهما فقالت ابنة عمهما لزوجها الياس إن أخاك قد قتل اختانك ولم يراقبك فيهم وتهاون بك، وأنت
313

سيفه الذي يضرب به وكلما فتحت له فتحا كتب إلى الخلفاء أن ابني حبيبا فتحه وقد جعل له العهد بعده وعزلك عنه ولم تزل تغريه به فتحرك لقولها وأعمل الحيلة على أخيه.
ثم ان السفاح توفي وولي الخلافة بعده المنصور فأقر عبد الرحمن على إفريقية وأرسل إليه خلعة سوداء أول خلافته فلبسها وهي أول سواد دخل إفريقية فأرسل إليه عبد الرحمن هدية وكتب يقول ان إفريقية اليوم اسلامية وقد انقطع السبي منها والمال فلا تطلب مني مالا فغضب المنصور وأرسل إليه يتهدده فخلع المنصور بإفريقية ومزق خلعته وهو على المنبر وكان خلع المنصور مما أعان أخاه الياس عليه فاتفق جماعة من وجوه القيروان معه على أن يقتلوا عبد الرحمن ويولوه ويعيدوا الدعاء للمنصور فبلغ عبد الرحمن فأمر أخاه الياس بالمسير إلى تونس فتجهز ودخل إليه يودعه ومعه أخوه عبد الوارث فلما دخلا على عبد الرحمن قتلاه وكان قتله في ذي الحجة سنة سبع وثلاثين ومائة وكانت إمارته على إفريقية عشر سنين وسبعة أشهر.
ولما قتل ضبط الياس أبواب الدار ليأخذ ابنه حبيبا فلم يظفر به وهرب حبيب إلى تونس واجتمع بعمه عمران بن حبيب وأخبره بقتل أبيه وسار الياس إليهما واقتتلوا قتالا يسيرا ثم اصطلحوا على أن يكون لحبيب فقصة وقسطيلة ونفزة ويكون لعمران تونس وصطفورة والجزيرة ويكون سائر إفريقية لإلياس وكان هذا الصلح سنة ثمان وثلاثين ومائة فلما اصطلحوا سار حبيب بن عبد الرحمن إلى عمله ومضى الياس مع أخيه عمران إلى تونس فغدر بعمران أخيه وقتله وأخذ تونس وقتل بها جماعة من أشراف العرب وعاد إلى القيروان فلما استقر بها بعث بطاعته إلى المنصور مع وفد،
314

منهم عبد الرحمن بن زياد بن أنعم قاضي إفريقية.
ثم سار حبيب إلى تونس فملكها فسار إليه إلياس واقتتلوا قتالا ضعيفا فلما جنهم الليل ترك حبيب خيامه وسار جريدة إلى القيروان فدخلها وأخرج من في السجن وكثر
جمعه.
ورجع الياس في طلبه ففارقه أكثر أصحابه وقصدوا حبيبا فعظم جيشه وخرج إليه فالتقيا فغدر أصحاب الياس وبرز حبيب بين الصفين فقال له لم نقتل صنائعنا وموالينا ولكن ابرز أنت إلي فأينا قتل صاحبه استراح منه فتوقف الياس ثم برز إليه فاقتتلا قتالا شديدا فكسر فيه رمحاهما ثم سيفاهما ثم ان حبيبا عطف عليه فقتله ودخل القيروان وكان ذلك سنة ثمان وثلاثين ومائة.
وهرب إخوة الياس إلى بطن من البربر يقال لهم ورفجومة فاعتصموا بهم فسار إليهم حبيب فقاتلهم فهزموه فسار إلى قابس وقوي أمر ورفجومة حينئذ وأقبلت البربر إليهم والخوارج وكان مقدم ورفجومة رجلا اسمه عاصم بن جميل وكان قد ادعى النبوة والكهانة فبدل الدين وزاد الصلاة وأسقط ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من الأذان فجهز عاصم من عنده من العرب على قصد القيروان وأتاه رسل جماعة من أهل القيروان يدعونه إليهم وأخذوا عليه العهود والمواثيق بالحماية والصيانة والدعاء للمنصور فسار إليهم عاصم في البربر والعرب فلما قاربوا القيروان خرج من بها لقتالهم فاقتتلوا وانهزم أهل القيروان ودخل عاصم ومن معه القيروان فاستحلت ورفجومة المحرمات وسبوا النساء والصبيان وربطوا دوابهم في الجامع وأفسدوا فيه.
315

ثم سار عاصم يطلب حبيبا وهو بقابس فأدركه واقتتلوا وانهزم حبيب إلى جبل أوراس فاحتمى به وقام بنصره من به ولحق به عاصم فالقوا واقتتلوا فانهزم عاصم وقتل هو وأكثر أصحابه وسار حبيب إلى القيروان فخرج إليه عبد الملك بن أبي الجعد وقد قام بأمر ورفجومة بعد قتل عاصم فاقتتل هو وحبيب فانهزم حبيب وقتل هو وجماعة من أصحابه في المحرم سنة أربعين ومائة.
وكانت امارة عبد الرحمن بن حبيب على إفريقية عشر سنين وأشهرا وإمارة أخيه الياس سنة وستة أشهر وأمارة ابنه حبيب ثلاث سنين.
ذكر اخراج ورفجومة من القيروان
ولما قتل حبيب بن عبد الرحمن عاد عبد الملك بن أبي الجعد إلى القيروان وفعل ما كان يفعله عاصم من الفساد والظلم وقلة الدين وغير ذلك ففارق القيروان أهلها.
فاتفق أن رجلا من الأباضية دخل القيروان لحاجة له فرأى ناسا من الورفجوميين قد أخذوا امرأة قهرا والناس ينظرون فادخلوها الجامع فترك الأباضي حاجته وقصد أبا الخطاب عبد الأعلى بن السمح المعافري فاعلمه ذلك فخرج أبو الخطاب وهو يقول بيتك اللهم بيتك فاجتمع إليه أصحابه من كل مكان وقصدوا طرابلس الغرب واجتمع اليه الناس من الأباضية والخوارج وغيرهم وسير إليهم عبد الملك مقدم ورفجومة جيشا فهزموه وساروا إلى القيروان فخرجت إليهم ورفجومة واقتتلوا واشتد
316

القتال فانهزم أهل القيروان الذين مع ورفجومة وخذلوهم فتبعهم ورفجومة في الهزيمة وكثر القتل فيهم وقتل عبد الملك الورفجومي وتبعهم أبو الخطاب يقتلهم حتى أسرف فيهم وعاد إلى طرابلس واستخلف على القيروان عبد الرحمن بن رستم الفارسي.
وكان قتل ورفجومة في صفر سنة إحدى وأربعين.
ثم ان جماعة كثيرة من المسودة سيرهم محمد بن الأشعث الخزاعي أمير مصر للمنصور إلى طرابلس لقتال أبي الخطاب وعليهم أبو الأحوص عمر بن الأحوص العجلي فخرج إليهم أبو الخطاب وقاتلهم وهزمهم سنة اثنتين وأربعين فعادوا إلى مصر واستولى أبو الخطاب على سائر إفريقية فسير إليه المنصور محمد بن الأشعث الخزاعي أميرا على إفريقية فسار من مصر سنة ثلاث وأربعين فوصل إليها في خمسين ألفا ووجه معه الأغلب بن سالم التميمي وبلغ أبا الخطاب مسيره فجمع أصحابه من كل ناحية فكثر جمعه وخافه ابن الأشعث لكثرة جموعه.
فتنازعت زناتة وهوارة بسبب قتيل من زناتة فاتهمت زناتة أبا الخطاب بالميل إليهم ففارقه جماعة منهم فقوي جنان ابن الأشعث وسار سيرا رويدا ثم أظهر أن المنصور قد أمره بالعود وعاد إلى ورائه ثلاثة أيام سيرا بطيئا فوصلت عيون أبي الخطاب وأخبرته بعوده فتفرق عنه كثير من أصحابه وأمن الباقون فقاد ابن الأشعث وشجعان عسكره مجدا فصبح أبا الخطاب وهو غير متأهب للحرب فوضعوا السيوف في الخوارج واشتد القتال فقتل أبو الخطاب وعامة أصحابه في صفر سنة أربع وأربعين ومائة.
وظن ابن الأشعث أن مادة الخوارج قد انقطعت وإذا [هم] قد أطل عليهم أبو هريرة الزناتي في ستة عشر ألفا، فلقيهم ابن الأشعث وقتلهم جميعا سنة أربع وأربعين وكتب إلى المنصور بظفره، ورتب الولاة في الأعمال كلها،
317

وبنى سور القيروان فيها، وتم سنة ست وأربعين وضبط إفريقية وأمعن في طلب كل من خالفه من البربر وغيرهم فسير جيشا إلى زويلة ووران فافتتح وران وقتل من بها من الأباضية وافتتح زويلة وقتل مقدمهم عبد الله بن سان الأباضي واجلى الباقين فلما رأى البربر وغيرهم من أهل العبث والخلاف على الأمراء ذلك خافوه خوفا شديدا وأذعنوا له بالطاعة فثار عليه رجل من جنده يقال له هاشم بن الشاحج بقمونية وتبعه كثير من الجند فسير إليه ابن الأشعث قائدا في عسكر فقتله هاشم وانهزم أصحابه وجعل المصرية من قواد ابن الأشعث يأمرون أصحابهم باللحاق بهاشم كراهية لابن الأشعث لأنه تعصب عليهم فبعث إليه ابن الأشعث جيشا آخر فاقتتلوا وانهزم هاشم ولحق بتاهرت وجمع طغام البربر فبلغت عدة عسكره عشرين ألفا فسار بهم إلى تهوذة فسير إليه ابن الأشعث جيشا فانهزم هاشم وقتلوا كثيرا من أصحابه البربر وغيرهم فسار إلى ناحية طرابلس.
وقدم رسول من المنصور إلى هاشم يلومه على مفارقة الطاعة فقال ما خالفت ولكني دعوت للمهدي بعد أمير المؤمنين وأنكر ابن الأشعث ذلك وأراد قتلي فقال له الرسول فإن كنت على الطاعة فمد عنقك فضربه بالسيف فقتله سنة سبع وأربعين في صفر وبذل الأمان لأصحاب هاشم جميعهم فعادوا.
وتبعهم ابن الأشعث بعد ذلك فقتلهم فغضب المضرية واجتمعت على عداوته وخلافه واجتمع رأيهم على إخراجه فلما رأى ذلك سار عنهم ولقيته رسل المنصور بالبر
والإكرام فقدم عليه واستعمل المصرية على إفريقية
318

بعده عيسى بن موسى الخراساني.
وكان [بعد] مسير ابن الأشعث تأمير الخراساني ثلاثة أشهر واستعمل المنصور الأغلب التميمي على ما نذكره في ربيع الأول سنة ثمان وأربعين ومائة.
وإنما أوردنا هذه الحوادث متتابعة لتعلق بعضها ببعض على ما شرطناه وقد ذكرنا كل حادثة في أي سنة كانت فحصل الغرضان.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة عزل يزيد بن الوليد يوسف بن محمد بن يوسف عن المدينة واستعمل عبد العزيز بن عمرو بن عثمان فقدمها في ذي القعدة من السنة وحج بالناس عبد العزيز بن عبد بن عبد العزيز وقيل عمر بن عبد الله بن عبد الملك.
وكان العامل على العراق عبد الله بن عمر بن عبد العزيز وعلى قضاء الكوفة ابن أبي ليلى وعلى البصرة المسور ابن عمل بن عباد وعلى قضائها عامر بن عبيدة وعلى خراسان نصر بن سيار الكناني.
وفيها كاتب مروان بن محمد بن مروان بن الحكم أمير الجزيرة العمر بن يزيد بن عبد الملك يحثه على الطلب بدم أخيه الوليد ويعده المساعدة له وإنجاده على ذلك.
وفيها مات سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، وقيل: سنة
319

سبع وعشرين. وسعيد بن أبي سعيد المقبري ومالك بن دينار الزاهد وقيل مات سنة سبع وعشرين وقيل سنة ثلاثين.
وفيها توفي الكميت بن زيد الشاعر الأسدي وكان مولده سنة ستين. وفيها توفي عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وقيل سنة إحدى وثلاثين وفي إمارة يوسف بن عمر على العراق توفي أبو جمرة الضبعي صاحب ابن عباس.
(جمرة بالجيم والراء المهملة).
320

127
ثم دخلت سنة سبع وعشرين ومائة
ذكر مسير مروان إلى الشام وخلع إبراهيم
وفي هذه السنة سار مروان إلى الشام لمحاربة إبراهيم بن الوليد.
وكان السبب في ذلك ما قد ذكرنا بعضه من مسير مروان بعد مقتل الوليد وإنكاره قتله وغلبته على الجزيرة في مبايعته ليزيد بن الوليد وما ولاه يزيد عن عمل أبيه.
فلما مات يزيد بن الوليد سار مروان في جنود الجزيرة وخلف ابنه عبد الملك في جمع عظيم بالرقة فلما انتهى مروان إلى قنسرين لقي بها يشر بن الوليد وكان ولاه أخوه يزيد قنسرين ومعه أخوه مسرور بن الوليد فتصافوا ودعاهم مروان إلى بيعته فمال إليه يزيد بن عمر بن هبيرة في القيسية وأسلموا بشرا وأخاه مسرورا فأخذهما مروان فحبسهما وسار ومعه أهل قنسرين متوجها إلى حمص.
وكان أهل حمص قد امتنعوا [حين مات يزيد] من بيعة إبراهيم وعبد العزيز فوجه إليهم إبراهيم عبد العزيز وجند أهل دمشق فحاصرهم في مدينتهم وأسرع مروان السير فلما دما من حمص رحل عبد العزيز عنها وأخرج أهلها إلى مروان فبايعوه وساروا معه ووجه إبراهيم بن الوليد الجنود من دمشق مع سليمان ابن هاشم فنزل عين الجر في مائة وعشرين
321

ألفا. ونزلها مروان في ثمانين ألفا فدعاهم مروان إلى الكف عن قتاله وإطلاق ابني الوليد الحكم وعثمان من السجن وضمن لهم أنه لا يطلب أحدا من قتلة الوليد فلم يجيبوه وجدوا في قتاله فاقتتلوا ما بين ارتفاع النهار إلى العصر وكثر القتل بينهم.
وكان مروان ذا رأي ومكيدة فأرسل ثلاثة آلاف فارس فساروا خلف عسكره وقطعوا نهرا كان هناك وقصدوا عسكر إبراهيم ليغيروا فيه فلم يشعر سليمان ومن معه وهم مشغولون بالقتال إلا بالخيل والبارقة والتكبير في عسكرهم من خلفهم فلما رأوا ذلك انهزموا ووضع أهل حمص السلاح فيهم لحنقهم عليهم فقتلوا منهم سبعة عشر ألفا وكف أهل الجزيرة وأهل قنسرين عن قتلهم وأتوا مروان من سرائهم بمثل قتلى وأكثر فأخذ مروان عليهم البيعة لولد الوليد وخلا عنهم ولم يقتل منهم إلا رجلين يزيد بن عقار والوليد بن مصاد الكلبيين وكانا ممن ولي قتل الوليد فحبسهما حتى هلكا في حبسه وهرب يزيد بن خالد بن عبد القسري فيمن هرب مع سليمان إلى دمشق واجتمعوا مه إبراهيم وعبد العزيز بن الحجاج فقال بعضهم لبعض أن بقي ولدا الوليد حتى يخرجهما مروان ويصير الأمر إليهما لم يستبقيا أحدا من قتله وقتلة أبيهما والرأي قتلهما فرأى ذلك يزيد بن خالد فأمر أبا الأسد مولى خالد بقتلهما فأخرج يوسف بن عمر فضرب رقبته وأرادوا قتل أبي محمد السفياني فدخل بيتا من بيوت السجن وأغلقه وألقى خلفه الفرش والوسائد واعتمد على الباب فلم يقدروا على فتحه فأرادوا إحراقه فلم يؤتوا بنار حتى قيل قد دخلت خيل مروان المدينة فهربوا وهرب إبراهيم واختفى وانتهب سليمان ما في بيت المال وقسمه في أصحابه وخرجا من المدينة.
322

ذكر بيعة مروان بن محمد بن مروان
وفي هذه السنة بويع بدمشق لمروان بالخلافة.
وكان سب ذلك أنه لما دخل دمشق وهرب إبراهيم بن الوليد وسليمان ثار من بدمشق من موالي الوليد إلى دار عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك فقتلوه ونبشوا قتل يزيد
بن الوليد وصلبوه على باب الجابية وأتي مروان بغلامين الحكم وعثمان ابني الوليد مقتولين بيوسف بن عمر فدفنهم وأتي بأبي محمد السفياني في قيوده فسلم عليه بالخلافة ومروان يسلم عليه يومئذ بالإمرة فقال مروان مه فقال انهما جعلاها لك بعهدهما وأنشده شعرا قال الحكم في السجن وكانا قد بلغا وولدا لأحدهما وهو الحكم فقال الحكم:
(إلا من مبلغي مروان عني * وعمي الغمر طال به حنينا)
(بأني قد ظلمت وصار قومي * على قتل الوليد مشايعينا)
(أيذهب كلهم بدمي ومالي * فلا غثا أصبت ولا سمينا)
(ومروان بأرض بني نزار * كليث الغاب مفترس عرينا)
(أتنكث بيعتي من أجل أمي * فقد بايعتم قبلي هجينا)
(فإن أهلك وولي عهدي * فمروان أمير المؤمنينا)
ثم قال ابسط يديك أبايعك وسمعه من مع مروان وكان أول من بايعه معاوية بن يزيد بن حصين بن نمير ورؤوس أهل حمص والناس بعده.
323

فلما استقر له الأمر رجع إلى منزله بحران وطلب منه الأمان لإبراهيم بن الوليد وسليمان بن هاشم فأمنهما فقدما عليه وكان سليمان بتدمر بمن معه من اخوته وأهل بيته ومواليه الذكوانية فبايعوا مروان بن محمد.
ذكر ظهور عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر
وفي هذه السنة ظهر عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب بالكوفة ودعا إلى نفسه.
وكان سبب ذلك أنه قدم على عبد الله بن عمر بن عبد العزيز والي الكوفة فأكرمه وأجازه وأجرى عليه وعلى إخوته كل يوم ثلاثمائة درهم فكانوا كذلك حتى هلك يزيد بن وليد وبايع الناس أخاه إبراهيم بن وليد وبعده عبد العزيز بن حجاج بن عبد الملك فلما بلغ خبر بيعتهما عبد الله بن عمر بالكوفة بايع الناس وزاد في العطاء وكتب في بيعتهما إلى الآفاق فجاءته البيعة ثم بلغه امتناع مروان بن محمد من البيعة مسيره إليهما إلى الشام فحبس عبد الله بن معاوية عنده وزاده فيما كان يجري عليه وأعده لمروان بن محمد أن هو ظفر بإبراهيم بن الوليد ليبايع له ويقاتل به مروان فماج الناس.
وورد مروان الشام وظفر بإبراهيم فانهزم إسماعيل بن عبد الله القسري إلى الكوفة مسرعا وافتعل كتابا على لسان إبراهيم بإمرة الكوفة وجمع اليمانية وأعلمهم ذلك فأجابوه وامتنع عبد الله بن عمر عليه وقاتله.
فلما رأى الأمر كذلك خاف أن يظهر أمره فيفتضح ويقتل فقال لأصحابه إني أكره سفك الدماء فكفوا أيديكم فكفوا فظهر أمر إبراهيم وهربه،
324

ووقعت العصبية بين الناس وكان سببها أن عبد الله بن عمر كان أعطى مضر وربيعة عطايا كثيرة ولم يعط جعفر [بن نافع] بن قعقاع بن سور الذهلي وعثمان بن الخيبري من تيم اللات بن ثعلبة شيئا وهما من ربيعة فكانا مغضبين وغضب لهما تمامة بن حوشب بن رويم الشيباني وخرجوا من عند عبد الله بن عمر وهو بالحيرة إلى الكوفة فنادوا يا آل ربيعة فاجتمعت ربيعة وتنمروا.
وبلغ الخبر عبد الله بن عمر فأرسل إليهم أخاه عاصما فأتاهم وهم بدير هند فألقى نفسه بينهم وقال هذه يدي لكم فاحكموا فاستحيوا ورجعوا وعظموا عاصما وشكروه فلما كان المساء أرسل عبد الله بن عمر إلى عمر بن الغضبان بن القبعثري بمائة ألف فقسمها في قومه بني همام بن مرة بن ذهل الشيباني وإلى ثمامة بن حوشب بمائة ألف قسمها في قومه وأرسل إلى جعفر بن نافع بمال وإلى عثمان بن الخيبري بمال.
فلما رأت الشيعة ضعف عبد الله بن عمر طمعوا فيه ودعوا إلى عبد الله بن معاوية واجتمعوا في المسجد وثاروا وأتوا عبد الله بن معاوية وأخرجوه من داره وأدخلوه القصر ومنعوا عاصم بن عمر عن القصر فلحق بأخيه بالحيرة وجاء ابن معاوية الكوفيون فبايعوه فيهم عمر بن الغضبان ومنصور بن جمهور وإسماعيل بن عبد الله القسري أخو خالد وأقام أياما يبايعه الناس وأتته البيعة من المدائن وفم النيل واجتمع إليه الناس فخرج إلى عبد الله بن عمر بالحيرة فقيل لابن عمر قد أقبل ابن معاوية في الخلق فأطرق مليا وأتاه رئيس خبازيه فأعلمه بإدراك الطعام فأمره بإحضار فأحضره فأكل هو ومن معه وهو غير مكترث والناس يتوقعون أن يهجم
325

عليهم ابن معاوية وفرغ من طعامه وأخرج المال ففرق في قواده ثم دعا مولى له كان يتبرك به ويتفاءل باسمه كان اسمه إما ميمونا وإما رباحا أو فتحا أو اسما يتبرك به فأعطاه اللواء وقال له امض به إلى موضع كذا فاركزه وادع أصحابك وأقم حتى آتيك ففعل.
وخرج عبد الله فإذا الأرض بيضاء من أصحاب ابن معاوية فأمر ابن عمر مناديا فنادى من جاء برأس فله خمسمائة فأتي برؤوس كثيرة وهو يعطي ما ضمن.
وبرز رجل من أهل الشام فبرز إليه القاسم بن عبد الغفار العجلي فسأله الشامي فعرفه فقال قد ظننت أنه لا يخرج إلى رجل من بكر بن وائل والله ما أريد قتالك ولكن أحببت أن القي إليك حديثا أخبرك أنه ليس معكم رجل من أهل اليمن لا إسماعيل ولا منصور ولا غيرهما إلا وقد كاتب ابن عمر وكاتبته مضر وما أرى لكم يا ربيعة كتابا ولا رسولا وأنا رجل من قيس فان أردتم الكتاب أبلغته ونحن غدا بإزائكم فإنهم اليوم لا يقاتلونكم فبلغ الخبر ابن معاوية فأخبر به عمر بن الغضبان فأشار عليه أن يستوثق من إسماعيل ومنصور وغيرهما فلم يفعل.
وأصبح الناس من الغد غادين على القتال فحمل عمر بن الغضبان على ميمنة ابن عمر فانكشفوا ومضى إسماعيل ومنصور من فورهما إلى الحيرة فانهزم أصحاب ابن معاوية إلى الكوفة وابن معاوية معهم فدخلوا القصر وبقي من بالمسيرة من ربيعة ومضر ومن بإزائهم من أصحاب ابن عمر فقال لعمر بن الغضبان ما كنا نأمن عليكم ما
صنع الناس بكم فانصرفوا فقال ابن الغضبان لا أبرح حتى أقتل فأخذ أصحابه بعنان دابته فأدخلوه الكوفة فلما أمسوا قال لهم ابن معاوية يا معشر ربيعة قد رأيتم ما صنع الناس بنا وقد علقنا دماءنا في أعناقكم فإن قاتلتم قاتلنا معكم وإن كنتم
326

ترون الناس يخذلوننا وإياكم فخذوا لنا ولكم أمانا فقال له عمر بن الغضبان ما نقاتل معكم وما نأخذ لكم أمانا كما نأخذ لأنفسنا فأقاموا في القصر والزيدية على أفواه السكك يقاتلون أصحاب ابن عمر أياما.
ثم أن ربيعة أخذت أمانا لابن معاوية ولأنفسهم وللزيدية ليذهبوا حيث شاؤوا وسار ابن معاوية من الكوفة فنزل المدائن فأتاه قوم من أهل الكوفة فخرج بهم فغلب على حلوان والجبال وهمذان وأصبهان والري وخرج إليه عبيد أهل الكوفة وكان شاعرا مجيدا فمن قوله:
(ولا تركبن الصنيع الذي * تلوم أخاك على مثله)
(ولا يعجبنك قول امرئ * يخالف ما قال في فعله)
ذكر رجوع الحرث بن سريج إلى مرو
وفي هذه السنة رجع الحرث إلى مرو وكان مقيما عند المشركين مدة وقد تقدم سبب عوده وكان قدومه مرو في جمادى الآخرة سنة سبع وعشرين فلقيه الناس بكشمهين فلما لقيهم قال ما قرت عيني منذ خرجت إلى يومي هذا وما قرة عين إلا أن يطاع الله ولقيه صر وأنزله وأجرى عليه كل يوم خمسين درهما فكان يقتصر على لون واحد وطلق نصر أهله
327

وأولاده، وعرض عليه نصر أن يوليه ويعطيه مائة ألف دينار فلم يقبل وأرسل إلى نصر أني لست من الدنيا واللذات في شيء إنما أسألك كتاب الله والعمل بالسنة وأن تستعمل أهل الخير فإن فعلت ساعدتك على عدوك.
وأرسل الحرث إلى الكرماني أن أعطاني نصر العمل بالكتاب وما سألته عضدته وقمت بأمر الله وان لم يفعل أعنتك أن ضمنت لي القيام بالعدل والسنة ودعا بني تميم إلى نفسه فأجابه منهم ومن غيرهم جمع كثير واجتمع ثلاثة آلاف وقال لنصر إنما خرجت من هذه البلدة منذ ثلاثة عشر سنة إنكارا للجور وأنت تريدني عليه.
ذكر انتفاض أهل حمص
وفي هده السنة انتفض أهل حمص على مروان.
وكان سبب دلك أن مروان لما عاد إلى حران بعد فراغه من أهل الشام أقام ثلاثة اشهر فانتفض عليه أهل حمص وكان الذي دعاهم إلى دلك ثابت بن نعيم وراسلهم وأرسل أهل حمص إلى من بتدمر من كلب فأتاهم الأصبغ بن ذؤالة الكلبي وأولاده ومعاوية السكسكي وكان فارس أهل الشام وغيرهما في نحو من ألف من فرسانهم فدخلوا ليلة الفطر فجد مروان في السير إليه ومعه إبراهيم المخلوع وسليمان بن هشام وكان قد أمنهما وكان يكرمهما فبلغهما بعد الفطر بيومين وقد سد أهلها أبوابها فأحدق بالمدينة ووقف بإزاء باب من أبوابها فنادى مناديه الدين عند الباب ما دعاكم إلى النكث؟
328

قالوا: أنا على طاعتك لم ننكث قال ففتحوا لباب ففتحوا الباب فدخله عمر بن الوضاح في الوضاحية وهم نحو من ثلاثة آلاف فقاتلهم من في البلد فكثرتهم خيل مروان فخرج من بها من باب تدمر فقاتلهم من عليه من أصحاب مروان فقتل عامة من خرج منه وأفلته الأصبغ بن ذؤالة وابنه فرافصه وقتل مروان جماعة من أسراهم وصلب خمسمائة من القتلى حول المدينة وهدم من سورها نحو غلوة.
وقيل أن فتح حمص وهدم سورها كان في سنة ثمان وعشرين.
ذكر خلاف أهل الغوطة
في هذه السنة خالف أهل الغوطة وولوا عليهم يزيد بن خالد القسري وحصروا دمشق وأميرها زامل بن عمرو فوجه إليهم مروان من حمص أبا الورد بن الكوثر بن زفر بن الحرث وعمر بن الوضاح في عشرة آلاف فلما دنوا من المدينة حملوا عليهم وخرج عليهم من بالمدينة فانهزموا واستباح أهل مروان عسكرهم وأحرقوا المزة وقرى من اليمانية واخذ يزيد بن خالد فقتل وبعث زامل برأسه إلى مروان بحمص.
وممن قتل في هده الحرب عمر بن هانئ العبسي مع يزيد وكان عابدا كثير المجاهدة.
329

ذكر خلاف أهل فلسطين
وفيها خرج ثابت بن نعيم بعد أهل مصر والغوطة وكان خروجه في أهل فلسطين وانتفض على مروان أيضا واتى طبرية فحاصرها وعليها الوليد بن معاوية بن مروان بن الحكم ابن أخي عبد الملك فقاتله أهلها أياما.
فكتب مروان بن محمد إلى أبي الورد يأمره بالمسير إليهم فسار إليهم فلما قرب منه خرج أهل طبريا على ثابت فهزموه واستباحوا عسكره وانصرف إلى فلسطين منهزما وتبعه أبو الورد فالتقوا واقتتلوا فهزمه أبو الورد ثانية وتفرق أصحابه واسر ثلاثة من أولاده وبعث بهم إلى مروان وتغيب ثابت وولده رفاعة.
واستعمل مروان على فلسطين الرماحس بن عبد العزي الكناني فظفر بثابت وبعثه إلى مروان موثقا بعد شهرين فأمر به وبأولاده الثلاثة فقطعت أيديهم وأرجلهم وحملوا إلى دمشق فالقوا على باب المسجد ثم صلبهم على أبواب دمشق.
وكان مروان بدير أيوب فبايع لابنيه عبيد الله وعبد الله وزوجهما ابنتي هاشم بن عبد الملك وجمع لذلك بني أمية واستقام له الشام ما خلا تدمر فسار إليها فنزل القسطل
وبينه وبين تدمر أياما وكانوا قد غوروا المياه فاستعمل المزاد والقرب والإبل وكلمه الأبرش بن وليد وسليمان
330

ابن هشام وغيرهما وسألوه أن يرسل إليهم فأذن لهم في ذلك وسار الأبرش وخوفهم وحذرهم فأجابوا إلى الطاعة وهرب نفر منهم إلى البر ممن لم يثق بمروان ورجع الأبرش إبراهيم إلى مروان ومعه من أطاع بعد أن هدم سورها.
وكان مروان قد سير يزيد بن عمر بن هبيرة بين يديه إلى العراق لقتال الضحاك الخارجي وضرب على أهل الشام بعثا وأمرهم باللحاق بيزيد وسار مروان إلى الرصافة فاستأذنه سليمان بن هشام ليقيم أياما ليقوى من معه ويستريح ظهره فأذن له وتقدم مروان إلى قرقيسيا أبوها ابن هبيرة ليقدمه إلى الضحاك فرجع عشرة آلاف ممن كان مروان قد أخذه من أهل الشام لقتال الضحاك فأقاموا بالرصافة ودعوا سليمان إلى خلع مروان فأجابهم.
ذكر خلع سليمان بن هشام بن عبد الملك مروان بن محمد
وفي هذه السنة خلع سليمان بن هاشم بن عبد الملك مروان بن محمد وحاربه.
وكان السبب في ذلك ما ذكرنا من قدوم الجنود عليه وتحسينهم له خلع مروان وقالوا: له أنت أوضأ عند الناس من مروان وأولى بالخلافة فأجابهم إلى ذلك وسار بأخوته ومواليه معهم فعسكر بقنسرين وكان أهل الشام فأتوه من كل وجه وبلغ الخبر مروان فرجع إليه من قرقيسيا وكتب إلى ابن هبيرة يأمره بالمقام واجتاز مروان في رجوعه بحصن الكامل وفيه جماعة من موالي سليمان وأولاد هشام فتحصنوا منه فأرسل إليهم إني أحذركم أن تعرضوا لأحد ممن يتبعني من جندي بأذى فإن فعلتم فلا أمان لكم عندي.
331

فأرسلوا إليه: أنا نستكف ومضى مروان فجعلوا يغيرون على من يتبعه من أخريات الناس وبلغه ذلك فتغيظ عليهم.
واجتمع إلى سليمان نحو من سبعين ألفا من أهل الشام والذكوانية وغيرهم وعسكر بقرية خساف من أرض قنسرين واتاه مروان فواقعه عند وصوله فاشتد بينهم القتال وانهزم سليمان ومن معه واتبعتهم خيل مروان تقتل وتأسر واستباحوا عسكرهم ووقف مروان موقفا ووقف ابناه موقفين ووقف كوثر صاحب شرطته موقفا وأمرهم أن لا يؤتوا بأسير إلا قتلوه إلا عبدا مملوكا فأحصي من قتلاهم يومئذ [ما] ينوف على ثلاثين ألف قتيل وقتل إبراهيم بن سليمان وأكثر ولده وخالد بن هشام المخزومي خال هشام بن عبد الملك وادعى كثير من الأسراء للجند انهم عبيد فكف عن قتلهم وأمر ببيعهم فيمن يزيد مع من أصيب من عسكرهم.
ومضى سليمان حتى انتهى إلى حمص وانضم إليه من أفلت ممن كان معه فعسكر بها وبنى ما كان مروان أمر بهدمه من حيطانها وسار مروان إلى حصن الكامل حنقا على من فيه فحصرهم وأنزلهم على حكمه فمثل بهم وأخذهم أهل الرقة فداووا جراحاتهم فهلك بعضهم وبقي أكثرهم وكانت عدتهم نحوا من ثلاثمائة ثم سار إلى سليمان ومن معه فقال بعضهم لبعض حتى متى ننهزم من مروان فتبايع سبعمائة من فرسانهم على الموت وساروا بأجمعهم مجمعين على أن يبيتوه أن أصابوا منه غرة وبلغه خبرهم فتحرز منهم وزحف إليهم في الخنادق على احتراس وتعبية فلم يمكنهم أن يبيتوه فكمنوا في زيتون على طريقه فخرجوا عليه وهو مسير على تعبية فوضعوا السلاح فيمن
332

معه وانتدب لهم ونادى خيوله فرجعت إليه فقاتلوه من لدن ارتفاع النهار إلى بعد العصر وانهزم أصحاب سليمان وقتل منهم نحو من ستة آلاف.
فلما بلغ سليمان هزيمتهم خلف أخاه سعيدا بحمص ومضى هو إلى تدمر فأقام بها ونزل مروان على حمص فحصر أهلها عشرة اشهر ونصب عليهم نيفا وثمانين منجنيقا يرمي بها الليل والنهار وهم يخرجون إليه كل يوم فيقاتلونه وربما بيتوا نواحي عسكره فلما تتابع عليهم البلاء طلبوا الأمان على أن يمكنوه من سعيد بن هشام وابنيه عثمان ومروان ومن رجل كان يسمى السكسكي كان يغير على عسكره ومن رجل حبشي كان يشتم مروان وكان يشد في ذكره ذكر حمار ثم يقول يا بني سليم يا أولاد كذا وكذا هذا لواؤكم فأجابهم إلى ذلك فاستوثق من سعيد وابنيه وقتل السكسكي وسلم الحبشي إلى بني سليم فقطعوا ذكره وانفه ومثلوا به فلما فرغ من حمص سار نحو الضحاك الخارجي.
وقيل أن سليمان بن هشام لما انهزم من وقعة خساف اقبل هاربا حتى صار إلى عبد الله بن عمر بن عبد العزيز بالعراق فخرج معه إلى الضحاك فبايعه وحرض على مروان فقال بعض شعرائهم:
(ألم تر أن الله أظهر دينه * وصلت قريش خلف بكر بن وائل)
فلما رأى النضر بن سعيد الحرشي وكان قد ولي العراق على ما نذكره أن شاء الله ذلك علم أنه لا طاقة له لعبد الله بن عمر فسار إلى مروان،
333

فلما كان بالقادسية خرج إليه ابن ملجان خليفة الضحاك بالكوفة فقاتله فقتله النضر واستعمل الضحاك على الكوفة المثنى بن عمران العائذي.
ثم سار الضحاك في ذي القعدة إلى الموصل واقبل ابن هبيرة حتى نزل بعين التمر فسار إليه المثنى بن عمران فاقتتلوا أياما فقتل المثنى وعدة من قواد الضحاك وانهزمت الخوارج ومعهم منصور بن جمهور وأتوا الكوفة فجمعوا من بها منهم وساروا نحو ابن هبيرة فلقوه فقاتلهم أياما وانهزمت الخوارج واتى ابن هبيرة إلى الكوفة وسار إلى واسط ولما بلغ الضحاك ما لقي أصحابه أرسل عبيدة بن سوار التغلبي إليهم فنزل الصراة وبلغ ذلك ابن هبيرة فرجع إليهم فالتقوا بالصراة وسيرد خبر خروج الضحاك بعدها أن شاء الله تعالى.
(الحرشي بفتح الحاء المهملة وبالشين المعجمة).
ذكر خروج الضحاك محكما
وفي هذه السنة خرج الضحاك بن قيس الشيباني محكما ودخل الكوفة وكان سبب ذلك أن الوليد حين قتل خرج بالجزيرة حروري يقال له سعيد بن بهدل الشيباني في مائتين من أهل الجزيرة فيهم الضحاك فاغتنم قتل الوليد واشتغال مروان بالشام فخرج بأرض كفرتوثا وخرج بسطام البيهسي وهو مفارق لرأيه في مثل عدتهم من ربيعة فسار كل واحد منهما إلى صاحبه فلما تقاربا أرسل سعيد بن بهدل الخيبري وهو أحد قواده في مائة وخمسين فارسا فأتاهم وهم غارون فقتلوا فيهم وقتلوا بسطاما وجميع من معه إلا
334

أربعة عشر رجلا ثم مضى سعيد بن بهدل إلى العراق لما بلغه أن الاختلاف بها فمات سعيد بن بهدل في الطريق واستخلف الضحاك بن قيس من بعده فبايعه الشراة فأتى أرض الموصل ثم شهرزور واجتمعت إليه الصفرية حتى صار في أربعة آلاف.
وهلك يزيد بن الوليد وعامله على العراق عبد الله بن عمر بن عبد العزيز ومروان بالحيرة فكتب مروان إلى النضر بن سعيد الحرشي وهو أحد قواد ابن عمر بولاية العراق فلم يسلم ابن عمر إليه العمل فشخص النضر إلى الكوفة وبقي ابن عمر بالحيرة فتحاربا أربعة اشهر وأمد مروان النضر بابن الغزيل واجتمعت المضرية مع النضر عصبية لمروان حيث طلب بدم الوليد وكانت أم الوليد قيسية من مضر وكان أهل اليمن مع ابن عمر عصبية له حيث كانوا مع يزيد في قتل الوليد حين اسلم خالد القسري إلى يوسف فقتله.
فلما سمع الضحاك باختلافهم اقبل نحوهم وقصد العراق سنة سبع وعشرين فأرسل ابن عمر إلى النضر أن هذا لا يريد غيري وغيرك فهلم نجتمع عليه فتعاقدا عليه واجتمعا بالكوفة وكان كل منهما يصلي بأصحابه وأقبل الضحاك فنزل بالنخيلة في رجب واستراح ثم تعبوا للقتال يوم الخميس من غد يوم نزوله فاقتتلوا قتالا شديدا فكشفوا ابن عمر وقتلوا أخاه عاصما وجعفر بن العباس الكندي أخا عبيد الله ودخل ابن عمر خندقه وبقي الخوارج عليهم إلى الليل ثم انصرفوا ثم اقتتلوا يوم الجمعة فانهزم أصحاب ابن عمر فدخلوا خنادقهم فلما أصبحوا يوم السبت تسلل أصحابه نحو واسط ورأوا قوما لم يروا أشد باسا منهم.
335

وكان ممن لحق بواسط النضر بن سعيد الحرشي وإسماعيل بن عبد الله القسري أخو خالد ومنصور بن جمهور والأصبغ بن ذؤالة وغيرهم من الوجوه وبقي ابن عمر فيمن عنده من أصحابه لم يبرح فقال له أصحابه قد هرب الناس فعلام تقيم فبقي يومين لا يرى إلا هاربا فرحل عند ذلك إلى واسط واستولى الضحاك على الكوفة ودخلها ولم يأمنه عبيد الله بن العباس الكندي على نفسه فصار مع الضحاك وبايعه وصار في عسكره فقال أبو عطاء السندي له، شعر:
(فقل لعبيد الله لو كان جعفر * هو الحي لم يجنح وأنت قتيل)
(ولم يتبع المراق والثار فيهم * وفي كفه عضب الذباب صقيل)
(إلى معشر ردوا أخاك واكفروا * أباك فماذا بعد ذاك تقول)
فلما بلغ عبيد الله هذا البيت من قول أبي عطاء قال أقول أعضك [الله] ببظر أمك:
(فلا وصلتك الرحم من ذي قرابة * وطالب وتر والذليل ذليل)
(تركت أخا شيبان يسلب بزه * ونجاك خوار العنان مطول)
ووصل ابن عمر إلى واسط فنزل بدار الحجاج بن يوسف وعادت الحرب بين عبد الله والنضر إلى ما كانت عليه قبل قدوم الضحاك إلى النضر يطلب أن يسلم إليه ابن عمر ولاية العراق بعهد مروان له وابن عمر يمتنع وسار
336

الضحاك من الكوفة إلى واسط واستخلف ملجان الشيباني ونزل الضحاك باب المضمار.
فلما رأى ذلك ابن عمر والنضر تركا الحرب بينهما واتفقا على قتال الضحاك فلم يزالوا على ذلك شعبان وشهر رمضان وشوال والقتال بينهم متواصل.
ثم أن منصور بن جمهور قال لابن عمر ما رأيت في الناس مثل هؤلاء فلم تحاربهم وتشغلهم عن مروان أعطهم الرضا واجعلهم بينك وبين مروان فإنهم يرجعون عنا إليه ويوسعونه شرا فان ظفروا به كان ما أردت وكنت عندهم آمنا وإن ظفر بهم وأردت خلافه وقتاله قتلته وأنت مستريح فقال ابن عمر لا تعجل حتى ننظر فلحق بهم منصور وناداهم إني أريد أن أسلم واسمع كلام الله وهي حجتهم فدخل إليهم.
وبايعهم ثم أن عبد الله بن عمر بن عبد العزيز خرج إليهم في شوال فصالحهم وبايع الضحاك ومعه سليمان بن هشام بن عبد الملك
ذكر خلع أبي الخطار أمير الأندلس وإمارة ثوابة
وفي هذه السنة خلع أهل الأندلس أبا الخطار الحسام بن ضرار أميرهم وسبب ذلك أنه لما قدم الأندلس أميرا اظهر العصبية لليمانية على المضرية فاتفق في بعض الأيام أنه اختصم رجل من كنانة ورجل من غسان فاستعان الكناني بالصميل بن حاتم بن ذي الجوشن الضبابي فكلم فيه أبا الخطار،
337

فاستغلظ له أبو الخطار فأجابه الصميل فأمر به فأقيم وضرب قفاه فمالت عمامته فلما خرج قيل له: نرى عمامتك مالت فقال أن كان لي قوم فسيقيمونها.
وكان الصميل من أشراف مضر فلما دخل الأندلس مع بلج شرف فيها بنفسه وأوليته فلما جرى له ما ذكرناه جمع قومه وأعلمهم فقالوا: له نحن تبع لك فقال أريد أن أخرج أبا الخطار من الأندلس فقال له بعض أصحابه افعل واستعن بمن شئت ولا تستعن بابي عطاء القيسي وكان من أشراف قيس وكان يناظر الصميل في الرياسة ويحسده. وقال له غيره الرأي انك تأتي أبا عطاء وتشد أمرك به فإنه تحركه الحمية وينصرك وان تركته مال إلى أبي الخطار وأعانه عليك ليبلغ فيك ما يريد والرأي أيضا أن تستعين عليه بأهل اليمن فضلا عن معد.
ففعل ذلك وسار من ليلته إلى أبي عطاء وكان يسكن مدينة إستجة فعظمه أبو عطاء وسأله عن سبب قدومه فأعلمه فلم يكلمه حتى قام فركب فرسه ولبس سلاحه قال له
انهض الآن حيث شئت فأنا معك وأمر أهله وأصحابه باتباعه فساروا إلى مرو وبها ثوابة بن سلمة الحداني وكان مطاعا في قومه وكان أبو الخطار قد استعمله على إشبيلية وغيرها ثم عزله ففسد عليه فدعاه الصميل إلى نصره ووعده انهم إذا اخرجوا أبا الخطار صار أميرا فأجاب إلى نصره ودعا قومه فأجابوه فساروا إلى شدونة وسار إليهم أبو الخطار من قرطبة واستخلف بها إنسانا فالتقوا واقتتلوا في رجب من هذه السنة وصبر الفريقان ثم وقعت الهزيمة على أبي الخطار وقتل أصحابه أشد قتال واسر أبو الخطار وكان بقرطبة أمية بن عبد الملك بن قطن فأخرج منها خليفة أبي الخطار وانتهب ما وجد لهما فيها.
338

ولما انهزم أبو الخطار سار ثوابة بن سلمة والصميل إلى قرطبة فملكاها واستقر ثوابة في الامارة فثار به عبد الرحمن بن حسان الكلبي وأخرج أبا الخطار من السجن فاستجاش اليمانية فاجتمع له خلق كثير واقبل لهم إلى قرطبة وخرج إليه ثوابة فيمن معه من اليمانية والمضرية مع الصميل فلما تقاتل الطائفتان نادى رجل من مضر يا معشر اليمانية ما بالكم تتعرضون للحرب على أبي الخطار وقد جعلنا الأمير منكم يعني ثوابة فإنه من اليمن ولو أن الأمير منا لقد كنتم تعتذرون في قتالكم لنا وما نقول هذا إلا تحرجا من الدماء ورغبة في العافية للعامة فلما سمع الناس كلامه قالوا: صدق الله والأمير منا فما بالنا نقاتل قومنا فتركوا القتال وافترق الناس فهرب أبو الخطار فلحق بباجة ورجع ثوابة إلى قرطبة فسمي ذلك العسكر عسكر العافية.
ذكر شيعة بني العباس
في هذه السنة توجه سليمان بن كثير ولاهز بن قريظ وقحطبة إلى مكة فلقوا إبراهيم بن محمد الإمام بها وأوصلوا إلى مولى له عشرين ألف دينار ومائتي ألف درهم ومسكا ومتاعا كثيرا وكان معهم أبو مسلم فقال سليمان لإبراهيم هذا مولاك.
وفيها كتب بكير بن ماهان إلى إبراهيم الإمام أنه في الموت وانه قد استخلف أبا سلمة حفص بن سليمان وهو رضا للأمر فكتب إبراهيم لأبي سلمة يأمره بالقيام بأمر أصحابه وكتب أهل خراسان يخبرهم أنه قد
339

أسند أمرهم إليه ومضى أبو سلمة إلى خراسان فصدقوه وقبلوا أمره ودفعوا إليه ما اجتمع عندهم من نفقات الشيعة وخمس أموالهم.
ذكر عدة حوادث
وحج بالناس هذه السنة عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز وهو عامل مروان على مكة والمدينة والطائف وكان العامل على العراق النضر بن الحرشي وكان من أمره وأمر ابن عمر والضحاك الخارجي ما ذكرنا وكان بخراسان نصر بن سيار وبها من ينازعه فيها الكرماني والحرث بن سريج.
وفيها مات سويد بن غفلة وقيل سنة إحدى وثلاثين وقيل سنة اثنتين وثلاثين وعمره مائة وعشرون سنة وعبد الكريم بن مالك الجزري وقيل غير ذلك، وفيها مات أبو حصين عثمان بن حصين الأسدي الكوفي؛
(حصين بفتح الحاء وكسر الصاد).
وفيها مات أبو إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي الهمداني وقيل سنة ثمان وعشرين وعمره مائة سنة؛ (السبيعي بفتح السين وكسر الباء).
وفيها توفي عبد الله بن دينار وقيل سنة ست وثلاثين وفيها مات محمد بن واسع الأزدي البصري وكنيته أبو بكر وداود بن أبي هند واسم أبي هند دينار مولى بني قشير أبو محمد وفيها توفي أبو بحر عبد الله بن إسحاق
340

مولى الخضر وكان إماما في النحو واللغة تعلم ذلك من يحيى بن النعمان وكان يعيب الفرزدق في شعره وينسبه إلى للحن فهجاه الفرزدق يقول:
(فلو كان عبد الله مولى هجوته * ولكن عبد الله مولى مواليا)
فقال له أبو عبد الله لقد لحنت أيضا في قولك مواليا ينبغي أن تقول مولى موال.
341

128
ثم دخلت سنة ثمان وعشرين ومائة
ذكر قتل الحرث بن سريج وغلبة الكرماني على مرو
قد تقدم ذكر أمان يزيد بن الوليد للحرث بن سريج وعوده من بلاد المشركين إلى بلاد الإسلام وما كان بينه وبين نصر من الاختلاف.
فلما ولي ابن هبيرة العراق كتب إلى نصر بعهده على خراسان فبايع لمروان بن محمد فقال الحرث إنما أمنني يزيد ولم يؤمني مروان ولا يجيز مروان أمان يزيد فلا آمنه فخالف نصرا فأرسل إليه نصر يدعوه إلى الجماعة وينهاه عن الفرقة وأطماع العدو فلم يجبه إلى ما أراد وخرج فعسكر وأرسل إلى نصر اجعل الأمر شورى فأبى نصر وأم الحرث جهم بن صفوان راس الجهمية وهو مولى راسب أن يقرا سيرته وما يدعو إليه على الناس فلما سمعوا ذلك كثروا وكثر جمعه، وأرسل الحرث إلى نصر ليعزل سالم بن أحوز عن شرطته ويغير عماله ويقر الأمر بينهما أن يختاروا رجالا يسمون لهم قوما يعملون بكتاب الله فاختار نصر مقاتل بن سليمان ومقاتل بن حيان واختار الحرث المغيرة بن شعبة الجهضمي ومعاذ بن جبلة وأمر نصر كاتبه أن يكتب ما يرضي هؤلاء الأربعة من السنن وما يختارونه من العمال فيوليهم ثغر سمرقند وطخارستان وكان الحرث يظهر أنه صاحب
342

الراية السود فأرسل إليه نصر أن كنت تزعم أنكم تهدمون سور دمشق وتزيلون ملك بني أمية فخذ مني خمسمائة راس ومائتي بعير واحمل من الأموال ما شئت وآلة الحرب وسر فلعمري لئن كنت صاحب ما ذكرت أني لفي يدك وإن كنت لست ذلك فقد أهلكت عشيرتك.
فقال الحرث قد علمت أن هذا حق ولكن لا يبايعني عليه من صحبني فقال نصر فقد ظهر انهم ليسوا على رأيك فاذكر الله في عشرين ألفا من ربيعة واليمن يهلكون فيما بينكم وعرض عليه نصر أن يوليه ما وراء النهر ويعطيه ثلاثمائة ألف فلم يقبل.
فقال له نصر فابدأ بالكرماني فإنه قتلته فأنا في طاعتك فلم يقبل ثم تراضيا بان حكما جهم بن صفوان ومقاتل بن حيان فحكما بأن يعتزل نصر وأن يكون الأمر شورى فلم يقبل نصر فخالفه الحرث واتهم نصر قوما من أصحابه أنهم كاتبوا الحرث فاعتذروا إليه فقبل عذرهم.
وقد عليه جمع من أهل خراسان حين سمعوا بالفتنة منهم عاصم بن عمير الصريمي وأبو الذيال الناجي ومسلم بن عبد الرحمن وغيرهم وأمر الحرث أن تقرأ سيرته في الأسواق والمساجد وعلى باب نصر فقرئت فأتاه خلق كثير وقرأها رحل على باب نصر فضربه غلمان نصر فنابذهم الحرث وتجهزوا للحرب ودل رجل من أهل مرو الحرث على نقب في سورها فمضى الحرث إليه فنقبه ودخل المدينة من ناحية باب بالين فقاتلهم جهم بن مسعود الناجي فقتل جهم وانتهبوا منزل سالم بن أحوز وقتلوا من كان يحرس باب بالين وذلك يوم الاثنين لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة وعدل الحرث في سكة السعد فرأى أعين مولى حيان فقاتله فقتل أعين.
343

وركب سالم حين أصبح وأمر مناديا فنادى من جاء برأس فله ثلاثمائة فلم تطلع الشمس حتى انهزم الحرث وقاتلهم الليل كله وأتى سالم عسكر الحرث فقتل كاتبه واسمه يزيد بن داود وقتل الرجل الذي دل الحرث على النقب.
وأرسل نصر إلى الكرماني فأتاه على عهد وعنده جماعة فوقع بين سالم بن أحوز ومقدام بن نعيم كلام فأغلظ كل واحد منهما لصحابه فأعان كل واحد منهما نفر من الحاضرين فخاف الكرماني أن يكون مكرا من نصر فقام وتعلقوا به فلم يجلس وركب فرسه ورجع وقال أراد نصر الغدر بي.
وأسر يومئذ جهم بن صفوان وكان مع الكرماني فقتل وأرسل الحرث ابنه حاتما إلى الكرماني فقال له محمد بن المثنى هما عدواك دعهما يضطربان فلما كان الغد ركب الكرماني إلى باب مديان يزيد فقاتل أصحاب نصر واقبل الكرماني إلى باب حرب بن عامر ووجه أصحابه إلى نصر يوم الأربعاء فتراموا ثم تحاجزوا ولم يكن بينهم يوم الخميس قتال والتقوا يوم الجمعة فانهزم الأزد حتى وصلوا إلى الكرماني فأخذ اللواء بيده فقاتل به وانهزم أصحاب نصر وأخذوا لهم ثمانين فرسا وصرع تميم بن نصر وأخذوا له برذونين وسقط سالم بن أحوز فحمل إلى عسكر نصر فلما كان بعض الليل خرج نصر بن مرو وقيل عصمة بن عبد الله الأسدي فكان يحمي أصحاب نصر واقتتلوا ثلاثة أيام فانهزم أصحاب الكرماني في آخر يوم وهم الأزد وربيعة فنادى الخليل بن غزوان يا معشر ربيعة واليمن قد دخل الحرث السوق وقتل ابن الأقطع يعني نصر بن سيار فقطع في أعضاد المضرية وهم أصحاب نصر فانهزموا وترجل تميم بن نصر فقاتل.
فلما هزمت اليمانية مضر أرسل الحرث إلى نصران اليمانية يعيرونني بانهزامكم وأنا كاف فاجعل حماة أصحابك بإزاء الكرماني فأخذ عليه نصر
344

العهود بذلك. وقدم على نصر عبد الملك بن سعد العودي وأبو جعفر عيسى بن حرز من مكة فقال نصر لعبد الحكم العوذي وهم بطن من الأزد أما ترى ما فعل سفهاء قومك فقال بل سفهاء قومك طالت ولايتها بولايتك [وصبرت لولاية لقومك] دون ربيعة واليمن فنظروا، في ربيعة واليمن علماء وسفهاء فغلب السفهاء العلماء فقال أبو جعفر عيسى لنصر أيها الأمير حسبك من الولاية وهذه الأمور فإنه قد أظلك أمر عظيم سيقوم رجل مجهول النسب يظهر السواد ويدعو إلى دولة تكون فيغلب على الأمر وأنتم تنظرون فقال نصر ما أشبه أن يكون كما تقول لقلة الوفاء وسوء ذات البين فقال أن الحرث مقتول مصلوب وما الكرماني من ذلك ببعيد.
فلما خرج نصر بن مرو غلب الكرماني وخطب الناس فأمنهم وهدم الدور ونهب الأموال فأنكر الحرث عليه ذلك فهم الكرماني به ثم تركه.
واعتزل بشر بن جرموز الضبي في خمسة آلاف وقال للحرث إنما قتلت معك طلب العدل فأما إذا أنت مع الكرماني فما تقاتل إلا ليقال غلب الحرث وهؤلاء يقاتلون عصبية فلست مقاتلا معك فنحن الفئة العادلة لا نقاتل إلا من يقاتلنا.
واتى الحرث مسجد عياض وأرسل إلى الكرماني يدعوه إلى أن يكون الأمر شورى فأبى الكرماني فانتقل الحرث عنه وأقاموا أياما.
ثم أن الحرث أتى السور فثلم فيه ثلمة ودخل البلد واتى الكرماني فاقتتلوا
345

فاشتد القتال بينهم فانهزم الحرث وقتلوا ما بين الثلمة وعسكرهم والحرث على بغل فنزل عنه وركب فرسا وبقي في مائة فقتل عند شجرة زيتون أو غبيراء وقتل أخوه سوادة وغيرهما.
وقيل كان سبب قتله أن الكرماني خرج إلى بشر بن جرموز الذي ذكرنا اعتزاله ومعه الحرث بن سريج فأقام الكرماني أياما بينه وبين عسكر بشر فرسخان ثم قرب منه ليقاتله فندم الحرث على اتباع الكرماني وقال لا تعجل إلى قتالهم فأنا أردهم عليك فخرج في عشرة فوارس فأتى عسكر بشر فأقام معهم وخرج المضرية أصحاب الحرث من عسكر الكرماني إليه فلم يبق مع الكرماني مضري غير سلمة بن أبي عبد الله فإنه قال لم أر الحرث إلا غادرا وغير المهلب بن اياس فإنه قال لم أر الحرث قط إلا في خيل تطرد فقاتلهم الكرماني مرارا يقتتلون ثم يرجعون إلى خنادقهم مرة لهؤلاء ومرة لهؤلاء.
ثم أن الحرث ارتحل بعد أيام فنقب سور مرو ودخلها وتبعه الكرماني فدخلها أيضا فقالت المضرية للحرث تركنا الخنادق فهو يومنا وقد فررت غر مرة فترجل فقال أنا لكم فارسا خير مني لكم راجلا فقالوا: لا نرضى إلا أن تترجل وترجل فاقتتلوا هم والكرماني فقتل الحرث وأخوه وبشر بن جرموز وعدة من فرسان تميم وانهزم الباقون وصلب الحرث وصفت مرو لليمن فهدموا دور المضرية فقال نصر بن سيار للحرث حين قتل، شعر:
(يا مدخل الذل على قومه * بعدا وسحقا لك من هالم)
(شؤمك أردى مضرا كلها * وحز من قومك بالحارك)
346

(ما كانت الأزد وأشياعها * تطمع في عمرو ولا مالك)
(ولا بنو سعد إذا ألجموا * كل طمر لونه حالك)
عمرو ومالك وسعد بطون من تميم وقيل بل قال هذه الأبيات نصر لعثمان بن صدقة وقالت أم كثير الضبية، شعر:
(لا بارك الله في أنثى وعذبها * تزوجت مضريا آخر الدهر)
(أبلغ رجال تميم قول موجعة * أحللتموها بدار الذل والفقر)
(أن أنتم لم تكروا بعد جولتكم * حتى تعدوا رجال الأزد في الظهر)
(إني استحيت لكم من بعد طاعتكم * هذا المزوني يجبيكم على قهر)
ذكر شيعة بني العباس
وفي هذه السنة وجه إبراهيم الإمام أبا مسلم الخراساني واسمه عبد الرحمن بن مسلم إلى خراسان وعمره تسع عشرة سنة وكتب إلى أصحابه أني قد أمرته بأمري فاسمعوا له وأطيعوا فإني قد أمرته على خراسان وما غلب عليه بعد ذلك فأتاهم فلم يقبلوا قوله وخرجوا من قابل فالتقوا بمكة عند إبراهيم.
347

فاعلمه أبو مسلم انهم لم ينفذوا كتابه وأمره فقال إبراهيم قد عرضت هذا الأمر على غير واحد وأبوه علي.
وكان قد عرضه على سليمان بن كثير فقال لا ألي على اثنين أبدا ثم عرضه على إبراهيم بن سلمة فأبى فأعلمهم أنه قد جمع رأيه على أبي مسلم وأمرهم بالسمع والطاعة له ثم قال له انك رجل منا أهل بيتا حفظ وصيتي انظر هذا الحي من اليمن فالزمهم واسكن بين أظهرهم فان الله لا يتم هذا الأمر إلا بهم واتهم ربيعة في ارمهم وأما مضر فإنهم العدو القريب الدار واقتل من شككت فيه وان استطعت أن لا تدع تخالف هذا الشيخ يعني سليمان بن كثير ولا تعص وإذا أشكل عليك أمر فاكتف به مني.
وسيرد من خبر أبي مسلم غير هذا أن شاء الله تعالى.
ذكر قتل الضحاك الخارجي
قد ذكرنا محاصرة الضحاك بن قيس الخارجي عبد الله بن عمر بن عبد العزيز بواسط فلما طال عليه الحصار أشير عليه بان يدفعه عن نفسه إلى مروان فأرسل ابن عمر إليه أن مقامكم علي ليس يسيء هذا مروان فسيروا إليه فان قتلته فأنا معك فصالحه وخرج إليه وصلى خلفه فانصرف إلى الكوفة،
348

وأقام ابن عمر بواسط وكاتب أهل الموصل الضحاك ليقدم عليهم ليمكنوه منها فسار في جماعة من جنوده بعد عشرين شهرا حتى انتهى إليها وعليها يومئذ لمروان رجل من بني شيبان يقال له القطران بن أكمة ففتح أهل الموصل البلد فدخله الضحاك وقاتلهم القطران ومن معه من أهله وهم عدة يسيرة حتى قتلوا واستولى الضحاك على الموصل وكورها.
وبلغ مروان خبره وهو محاصر حمص مشتغل بقتال أهلها فكتب إلى ابنه عبد الله وهو خليفته بالجزيرة يأمره أن يسير إلى نصيبين فيمن معه الضحاك عن توسط الجزيرة فسار إليها في سبعة آلاف أو ثمانية آلاف وسار الضحاك إلى نصيبين فحصر عبد الله فيها وكان مع الضحاك ما يزيد على مائة ألف ووجه قائدين من قواده إلى الرقة في أربعة آلاف أو خمسة آلاف فقاتله من بها فوجه إليهم مروان من رحلهم عنها.
ثم أن مروان سار إلى الضحاك فالتقوا بنواحي كفرتوثا من أعمال ماردين فقاتله يومه اجمع فلما كان عند المساء ترجل الضحاك ومعه من ذوي الثبات وأرباب البصائر نحو من ستة آلاف ولم يعلم أكثر أهل عسكره لما كان فأحدقت بهم خيول مروان وألحوا عليهم في القتال حتى قتلوهم عند العتمة وانصرف من بقي من أصحاب الضحاك عند العتمة إلى عسكرهم ولم يعلموا بقتل الضحاك ولم يعلم به مروان أيضا وجاء بعض من عاينه إلى أصحابه فأخبرهم فبكوا وناحوا عليه وخرج قائد من قواده إلى مروان فأخبره فأرسل معه النيران والشمع فطافوا عليه فوجدوه قتيلا وفي وجهه وفي رأسه أكثر من عشرين ضربة فكبروا فعرف عسكر الضحاك انهم قد علموا بقتله وبعث مروان رأسه إلى مدائن الجزيرة فطيف به فيها.
وقيل أن الضحاك والخيبري إنما قتلا سنة تسع وعشرين.
349

ذكر قتل الخيبري وولاية شيبان
ولما قتل الضحاك أصبح أهل عسكره فبايعوا الخيبري وأقاموا يومئذ وغادوه القتال من بعد الغد وصافوا مروان وصافهم وكان سليمان بن هشام بن عبد الملك مع الخيبري وكان قبله مع الضحاك وقد ذكرنا سبب قدومه.
وقيل: بل قدم على الضحاك وهو بنصيبين في أكثر من ثلاثة آلاف من أهل بيته ومواليه تزوج أخت شيبان الحروري الذي بويع بعد قتل الخيبري فحمل الخيبري على مروان في نحو من أربعمائة فارس من الشراة فهزم مروان وهو في القلب وخرج مروان من العسكر منهزما ودخل الخيبري ومن معه عسكره ينادون بشعارهم ويقتلون من أدركوا حتى انتهوا إلى خيمة مروان نفسه فقطعوا أطنابها وجلس الخيبري على فرشه وميمنة مروان وعليها ابنة عبد الله ثابتة وميسرته ثابتة وعليه إسحاق بن مسلم العقيلي فلما رأى أهل العسكر قلة من مع الخيبري ثار إليه عبيدهم بعمد الخيم فقتلوا الخيبري وأصحابه جميعا ف خيمة مروان وحولها.
وبلغ مروان الخبر وقد جاز العسكر بخمسة أميال أو ستة منهزمات فانصرف إلى عسكره ورد خيوله عن مواقعها وبات ليلته في عسكره وانصرف أهل عسكر الخيبري فولوا عليهم شيبان وبايعوه فقاتلهم مروان بعد ذلك بالكراديس وأبطل الصف منذ يومئذ.
350

ذكر خلع أبي حمزة الخارجي مع طالب الحق
كان اسم أبي حمزة الخارجي المختار بن عوف الأزدي السلمي البصري وكان أول أمره أنه كان من الخوارج الأباضية يوافي كل سنة مكة يدعو الناس إلى خلاف مروان بن محمد فلم يزل كذلك حتى وافى عبد الله بن يحيى المعروف بطالب الحق في آخر سنة ثمان وعشرين فقال له يا رجل اسمع كلاما حسنا واراك تدعو إلى حق فانطلق معي فإني رجل مطاع في قومي.
فخرج حتى ورد حضرموت فبايعه أبو حمزة على الخلافة ودعا إلى خلاف مروان وآل مروان وكان أبو حمزة فجلده أربعين سوطا فلما ملك أبو حمزة المدينة وافتتحها تغيب كثير حتى كان من أمرهما ما كان.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة سير مروان يزيد بن هبيرة إلى العراق لقتال من به الخوارج في قول.
وحج بالناس في هذه السنة عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز وهو عامل مكة والمدينة.
وكان بالعراق عمال الضحاك الخارجي وعبد الله بن عمر بن عبد العزيز وعلى قضاء البصرة ثمامة بن عبد الله بن انس وبخراسان مصر بن سيار والفتنة بها قائمة.
351

وفيها مات عاصم بن أبي النجود صاحب القراءات ويعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس الثقفي المدني وفيها توفي جابر بن يزيد الجعفي وكان من غلاة الشيعة يقول بالرجعة. وفيها مات محمد بن مسلم بن تدروس أبو الزبير المكي وجامع بن شداد وأبو قبيل المعافري واسمه حيي بن هانئ المضري؛ (قبيل بفتح القاف وكسر الباء الموحدة).
وسعيد بن مسروق الثوري والد سفيان وكان ثقة في الحديث.
352

129
ثم دخلت سنة تسع وعشرين ومائة
ذكر شيبان الحروري إلى أن قتل
وهو شيبان بن عبد العزيز أبو الدلف اليشكري.
وكان سبب هلاكه أن الخوارج لما بايعوه بعد قتل الخيبري أقام يقاتل مروان وتفرق عن شيبان كثير من أصحاب الطمع فبقي في نحو أربعين ألفا فأشار عليهم سليمان بن هشام أن ينصرفوا إلى الموصل فيجعلوها ظهرهم فارتحلوا وتبعهم مروان حتى انتهوا إلى الموصل فعسكروا شرقي دجلة وعقدوا جسورا عليها من عسكرهم إلى المدينة فكانت ميرتهم ومرافقتهم منها وخندق مروان بإزائهم وكان الخوارج قد نزلوا بالكار ومروان بخصة وكان أهل الموصل يقاتلون مع الخوارج فأقام مروان ستة اشهر يقاتلهم وقيل تسعة اشهر.
واتي مروان بابن أخ لسليمان بن هشام يقال له أمية بن معاوية بن هشام وكان مع عمه سليمان في عسكر شيبان أسيرا فقطع يديه وضرب عنقه وعمه ينظر إليه.
353

وكتب مروان إلى يزيد بن عمر بن هبيرة يأمره بالمسير من قرقيسيا بجميع من معه إلى العراق وعلى الكوفة المثنى بن عمران العائذي عائذة قريش وهو خليفة للخوارج بالعراق فلقي ابن هبيرة بعين التمر فاقتتلوا قتالا شديدا وانصرفت الخوارج ثم اجتمعوا بالكوفة بالنخيلة فهزمهم ابن هبيرة ثم اجتمعوا بالبصرة فأرسل شيبان إليهم عبيدة بن سوار في خيل عظيمة فالتقوا بالبصرة فانهزمت الخوارج وقتل عبيدة واستباح ابن هبيرة عسكرهم فلم يكن لهم همة بالعراق واستولى ابن هبيرة على العراق.
وكان منصور بن جمهور مع الخوارج فانهزم وغلب على الماهين وعلى الجبل اجمع وسار ابن هبيرة إلى واسط فاخذ ابن عمر فحبسه ووجه نباتة بن حنظلة إلى سليمان بن حبيب وهو على كور الأهواز فسمع سليمان الخبر فأرسل إلى نباتة داود بن حاتم فالتقوا بالمرتان على شاطئ دجيل فانهزم الناس وقتل داود بن حاتم.
وكتب مروان إلى ابن هبيرة لما استولى على العراق يأمره بإرسال عامر بن ضبارة المري إليه فسيره في سبعة آلاف أو ثمانية آلاف فبلغ شيبان خبره فأرسل الجون بن كلاب الخارجي في جمع فلقوا عامرا بالسن فهزموه ومن معه فدخل السن وتحصن فيه وجعل مروان يمده بالجنود على طريق البر حتى ينتهوا إلى السن فكثر جمع عامر.
وكان منصور بن جمهور يمد شيبان من الجبل بالأموال فلما كثر من مع عامر نهض إلى الجون والخوارج فقاتلهم فهزمهم وقتل الجون وسار ابن ضبارة مصعدا إلى الموصل.
354

فلما انتهى خبر قتل الجون إلى شيبان ومسير عامر نحوه كره أن يقيم بين العسكرين فارتحل بمن معه من الخوارج وقدم عامر على مروان بالموصل فسيره في جمع كثير في اثر شيبان فان أقام أقام وان سار سار وان لا يبدأه بقتال فان قاتله شيبان قاتله وان أمسك أمسك عنه وان ارتحل اتبعه فكان على ذلك حتى مر على الجبل وخرج على بيضاء فارس بها عبد الله بن معاوية بن حبيب بن جعفر في جموع كثيرة فلم يتهيأ الأمر بينهما فسار حتى نزل جيرفت من كرمان وأقبل عامر بن ضبارة حتى نزل بإزاء ابن معاوية أياما ثم ناهضه وقاتله فانهزم ابن معاوية فلحق بهراة وسار ابن ضبارة بمن معه فلقي شيبان بجيرفت فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزمت الخوارج واستبيح عسكرهم ومضى شيبان إلى سجستان فهلك بها وذلك في سنة ثلاثين ومائة.
وقيل بل كان قتال مروان وشيبان على الموصل مقدار شهر ثم انهزم شيبان حتى لحق بفارس وعامر ابن ضبارة يتبعه وسار شيبان إلى جزيرة ابن كاوان ثم خرج منها إلى
عمان فقتله جلندي بن مسعود بن جيفر بن جلندي الأزدي سنة أربع وثلاثين ومائة ونذكره هناك أن شاء الله تعالى وركب سليمان ومن معه من أهله ومواليه السفن إلى السند ولما ولي السفاح الخلافة حضر عنده سليمان فأكرمه وأعطاه يده فقبلها فلما رأى ذلك سديف مولى السفاح اقبل عليه وقال:
(لا يغرنك ما ترى من رجال * أن تحت الضلوع داء دويا)
(فضع السيف وارفع السوط حتى * لا ترى فوق ظهرها أمويا)
فأقبل عليه سليمان وقال قتلتني أيها الشيخ وقام السفاح فدخل،
355

فاخذ سليمان فقتل.
وانصرف مروان بعد مسير شيبان عن الموصل إلى منزله بحران فأقام بها حتى سار إلى الزاب.
ذكر إظهار الدعوة العباسية بخراسان
وفي هذه السنة شخص أبو مسلم الخراساني من خراسان إلى إبراهيم الإمام وكان يختلف منه إلى خراسان ويعود إليه.
فلما كانت هذه السنة كتب إبراهيم إلى أبي مسلم يستدعيه ليسأله عن أخبار الناس فسار نحوه في النصف من جمادى الآخرة مع سبعين نفسا من النقباء فلما صاروا بالدندانقان من أرض خراسان عرض له كامل [أو أبو كامل]، فسأله عن مقصده فقال الحج ثم خلا به أبو مسلم فدعاه فأجابه ثم سار أبو مسلم إلى نسا وعاملها سليمان بن قيس السلمي لنصر بن سيار فلما قرب منها أرسل الفضل بن سليمان الطوسي إلى أسيد بن عبد الله الخزاعي ليعلمه قدومه فدخل قرية من قرى نسا فلقي رجلا من الشيعة فسأله عن أسيد فانتهره وقال له أنه كان في هذه القرية شرا سعى إلى العامل برجلين قيل انهما داعيان فأخذهما واخذ الأحجم بن عبد الله وغيلان بن فضالة وغالب بن سعيد ومهاجر بن عثمان فانصرف الفضل إلى أبي مسلم واخبره فتنكب الطريق وأرسل طرخان الحمال يستدعي أسيدا ومن قدر عليه من الشيعة فدعا له أسيدا فاتاه فسأله عن الأخبار فقال: قدم
356

الأزهر بن شعيب وعبد الملك بن سعد بكتب الإمام إليك فخلفا الكتب عندي وخرجا فأخذا فلا أدري من سعى بهما قال فأين الكتب فاتاه بها.
ثم سار حتى أتى قومس وعليها بيهس بن بديل العجلي فأتاهم بيهس فقال أين تريدون قالوا: الحج واتاه وهو بقومس كتاب إبراهيم الإمام إليه وإلى سليمان بن كثير يقول لأبي مسلم فيه أني قد بعثت إليك براية النصر فارجع من حيث لقيك كتابي ووجه إلى قحطبة بما معك يوافيني به في الموسم.
فانصرف أبو مسلم إلى خراسان ووجه قحطبة إلى الإمام بما معه من الأموال والعروض فلما كانوا بنيسابور عرض لهم صاحب المسلحة فسألهم عن حالهم، فقالوا: أردنا الحج فبلغنا عن الطريق شيء خفناه فأمر المفضل بن السرقي السلمي بإزعاجهم فخلا به أبو مسلم وعرض عليه أمرهم فأجابه وأقام عندهم حتى ارتحلوا على مهل.
فقدم أبو مسلم مرو فدفع كتاب الأمم إلى سليمان بن كثير يأمره فيه بإظهار الدعوة فنصبوا أبا مسلم وقالوا: رجل من أهل البيت ودعوا إلى طاعة بني العباس وأرسلوا إلى من قرب منهم وبعد ممن أجابهم فأمروه بإظهار أمرهم والدعاء إليهم.
فنزل أبو مسلم قرية من قرى مرو يقال لها فنين على أبي الحكم عيسى بن أعين النقيب ووجه منها أبا داود النقيب ومعه عمرو بن أعين إلى طخارستان فما دون بلخ فأمرهما بإظهار الدعوة في شهر رمضان وكان نزوله في هذه القرية في شعبان ووجه نصر بن صبيح التميمي وشريك بن غضي التميمي
357

إلى مرو الروذ بإظهار الدعوة في رمضان. ووجه أبا عاصم عبد الرحمن بن سليم إلى الطالقان ووجهه الجهم بن عطية إلى العلاء بن حريث بخوارزم بإظهار الدعوة في رمضان لخمس بقين منه فان أعجلهم عدوهم دون الوقت بالأذى والمكروه فقد حل لهم أن يدفعوا عن أنفسهم ويجردوا السيوف ويجاهدوا أعداء الله ومن شغله منهم عدوهم عن الوقت فلا حرج عليهم أن يظهروا بعد الوقت.
ثم تحول أبو مسلم من عند أبي الحكم فنزل قرية سفيذنج فنزل على سليمان بن كثير الخزاعي لليلتين خلتا من رمضان والكرماني وشيبان يقاتلان نصر بن سيار فبث أبو مسلم دعاته في الناس واظهر أمره فاتاه في ليلة واحدة أهل ستين قرية فلما كان ليلة الخميس لخمس بقين من رمضان من السنة عقد اللواء الذي بعث به الإمام الذي يدعى الظل على رمح طوله أربعة عشر ذراعا وعقد الراية التي بعث بها اله وهي التي تدعى السحاب على رمح طوله ثلاث عشرة ذراعا وهو يتلو: (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وان الله على نصرهم لقدير) ولبسوا السواد هو وسليمان بن كثير واخوة سليمان ومواليه ومن كان أجاب الدعوة من أهل سفيذنج وأوقدوا النيران لليلتهم لشيعتهم من سكان ربع خرقان وكانت علامتهم فتجمعوا إليه حين أصبحوا معدين وتأول الظل والسحاب أن السحاب يطبق الأرض وان الأرض كما لا تخلو من الظل كذلك لا تخلو من خليفة عباسي إلى آخر الدهر.
وقدم على أبي مسلم الدعاة بمن أجاب الدعوة فكان أول من قدم عليه أهل
358

التقادم مع أبي الوضاح في تسعمائة راجل وأربعة فرسان ومن أهل هرمز فرآه جماعة وقدم أهل التقادم مع أبي القاسم محرز بن إبراهيم الجوباني في ألف وثلاثمائة راجل وستة عشر فارسا فيهم من الدعاة أبو العباس المرزوي فجعل أهل التقادم يكبرون من ناحيتهم ويجيبهم أهل التقادم بالتكبير فدخلوا عسكر أبي مسلم بسفيذنج بعد ظهوره بيومين وحصن أبو مسلم حصن سفيذنج ورمه وسد دروبها.
فلما حضر عيد الفطر أمر أبو مسلم سليمان بن كثير أن يصلي به وبالشيعة ونصب له منبرا بالعسكر وأمره أن يبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة وكان بنو أمية يبدأون بالخطبة قبل الصلاة وبالأذان والإقامة وأمر أبو مسلم أيضا سليمان بن كثير بست تكبيرات تباعا ثم يقرا ويركع بالسبعة ويكبر في الركعة الثانية خمس تكبيرات تباعا
ثم يقرا ويركع بالسادسة ويفتح الخطبة بالتكبير ثم يختمها بالقرآن.
وكان بنو أمية يكبرون في الأولى أربع تكبيرات يوم العيد وفي الثانية ثلاث تكبيرات.
فلما قضى سليمان الصلاة انصرف أبو مسلم والشيعة إلى طعام قد أعده لهم فأكلوا مستبشرين.
وكان أبو مسلم وهو في الخندق إذا كتب إلى نصر بن سيار كتابا يكتب للأمير نصر فلما قوي أبو مسلم بمن اجتمع إليه يبدأ بنفسه فكتب إلى نصر أما بعد فان الله تباركت أسماؤه عير أقواما في القرآن فقال: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى
359

الأمم، فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا استكبارا في الأرض ومكر السيء ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا) فتعاظم نصر الكتاب وكسر له إحدى عينيه وقال هذا كتاب ما له جواب.
وكان من الأحداث وأبو مسلم بسيفذنج أن نصرا وجه مولى له يقال له يزيد في خيل عظيمة لمحاربة أبي مسلم بعد ثمانية عشر شهرا من ظهوره فوجه إليه أبو مسلم مالك بن الهيثم الخزاعي ومعه مصعب بن قيس فالتقوا بقرية ألين فدعاهم مالك إلى الرضا من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستكبروا عن ذلك فقاتلهم مالك وهو في نحو مائتين من أول النهار إلى العصر؛ وقدم على أبي مسلم صالح بن سليمان الضبي وإبراهيم بن زيد وزياد بن عيسى فسيرهم إلى مالك فقوي بهم وكان قدومهم إليه مع العصر فقال مولى نصر أن تركنا هؤلاء الليلة أتتهم إمدادهم فاحملوا على القوم فحملوا عليهم واشتد القتال فحمل عبد الله الطائي على مولى نصر فأسره وانهزم أصحابه فأرسل الطائي بأسيره إلى أبي مسلم ومعه رؤوس القتلى فنصب الرؤوس وأحسن إلى يزيد مولى نصر وعالجه حتى اندمل جراحه وقال له أن شئت أن تقيم معنا فقد أرشدك الله وان كرهت فارجع إلى مولاك سالما وأعطنا عهد الله انك لا تحاربنا ولا تكذب علينا وان تقول فينا ما رأيت فرجع إلى مولاه وقال أبو مسلم أن هذا سيرد عنكم أهل الورع والصلاح فما نحن عندهم على الإسلام وكذلك كان عندهم يرجفون عليهم بعبادة الأوثان واستحلال الدماء والأموال والفروج.
فلما قدم يزيد على نصر قال لا مرحبا فوالله ما استبقاك القوم إلا ليتخذوك حجة علينا فقال يزيد هو والله ما ظننت وقد استحلفوني أن
360

لا أكذب عليهم وأنا أقول انهم والله يصلون الصلاة لمواقيتها بأذان وإقامة ويتلون القرآن ويذكرون الله كثيرا ويدعون إلى ولاية رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أحسب أمرهم إلا سيعلو ولولا انك مولاي لا رجعت إليك ولأقمت معهم فهذه أول حرب كانت بينهم.
وفي هذه السنة غلب خازم بن خزيمة على مرو الروذ وقتل عامل نصر بن سيار.
وكان سبب ذلك أنه لما أراد الخروج بمرو الروذ وهو من شيعة بني العباس منعه بنو نعيم فقال إنما أنا رجل منكم أريد أن أغلب على مرو فان ظفرت فهي لكم وان قتلت فقد كفيتم أمري فكفوا عنه فعسكر بقرية يقال لها كنج رستاق وقدم عليه من عندي أبي مسلم النضر بن صبيح وبسام بن إبراهيم فلما أمسى خازم بيت أهل مرو الروذ فقتل بشر بن جعفر السعدي عامل نصر بن سيار عليها في أول ذي القعدة وبعث بالفتح إلى أبي مسلم مع ابنه خزيمة بن خازم.
* * *
وقد قيل في أمر أبي مسلم غير ما ذكرنا، والذي قيل أن إبراهيم الإمام زوج أبا مسلم لما توجه إلى خراسان ابنة أبي النجم وساق عنه صداقها وكتب إلى النقباء بالسمع والطاعة وكان أبو مسلم من أهل خطرنية من سواد الكوفة وكان قهرمانا لإدريس بن معقل العجلي فصار أمره ومنتهى ولائه لمحمد بن علي ثم لابنه إبراهيم بن محمد ثم لائمة من ولد محمد فقدم
361

خراسان وهو حدث السن فلم يقبله سليمان بن كثير وخاف أن لا يقوى على أمرهم فرده.
وكان أبو داود خالد بن إبراهيم غائبا خلف نهر بلخ فلما رجع إلى مرو اقرأوه كتاب الإمام إبراهيم فسال عن أبي مسلم فأخبروه أن سليمان بن كثير رده فجمع النقباء وقال لهم أتاكم كتاب الإمام فيمن بعثه إليكم فرددتموه فما حجتكم في رده فقال سليمان حداثة سنة وتخوفا أن لا يقدر على هذا الأمر فخفنا على من دعونا وعلى أنفسنا فقال أبو داود هل فيكم أحد ينكر أن الله تعالى بعث محمدا واصطفاه وبعثه إلى جميع خلقه قالوا: لا. قال أفتشكون أن الله انزل عليه كتابه فيه حلاله وحرامه وشرائعه وأنباؤه واخبر بما كان قبله وبما يكون بعده قالوا: لا. قال أفتشكون أن الله قبضه إليه بعد أن أدى ما عليه من رسالة ربه قالوا: لا. قال أفتظنون أن العلم الذي انزل إليه رفع معه أو خلفه قالوا: بل خلفه قال أفتظنونه خلفه عند غير عترته وأهل بيته الأقرب فالأقرب قالوا: لا. قال أفتشكون أن أهل هذا البيت معدن العلم وأصحاب ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي علمه الله قالوا: اللهم لا قال فأراكم قد شككتم في أمركم ورددتم عليهم علمهم ولو لم يعلموا أن هذا الرجل الذي ينبغي له أن يقوم بأمرهم لم يبعثوه إليكم وهو لا يتهم في نصرتهم وموالاتهم والقيام بحقهم.
فبعثوا إلى أبي مسلم فردوه من قومس بقول أبي داود وولوه أمرهم وأطاعوه فلم يزل في نفس أبي مسلم على سليمان بن كثير ولم يزل يعرفها لأبي داود.
وبث الدعاة في أقطار خراسان فدخل الناس أفواجا وكثروا وفشت الدعاة بخراسان كلها وكتب إلى إبراهيم الإمام أن يوافيه في موسم سنة تسع
362

وعشرين ليأمره بأمره في إظهار دعوته وان يقدم معه قحطبة بن شبيب ويحمل إليه ما اجتمع عنده من الأموال ففعل ذلك وسار في جماعة من النقباء والشيعة فلقيه كتاب الإمام يأمره بالرجوع إلى خراسان وإظهار الدعوة بها وذكر قريبا مما تقدم من تسيير المال مع قحطبة وان قحطبة سار فنزل بنواحي جرجان فاستدعى خالد بن برمك وأباعون فقدما عليه ومعهما ما اجتمع عندهما من مال الشيعة فاخذ منها وسار نحو إبراهيم الإمام.
ذكر قتل الكرماني
قد ذكرنا مقتل الحرث بن سريج وان الكرماني قتله ولما قتله خلصت له مرو وتنحى نصر عنها فأرسل نصر إليه سالم بن أحوز في رابطته وفرسانه فوجد يحيى بن نعيم الشيباني واقفا في ألف رجل من ربيعة ومحمد بن المثنى في سبعمائة من فرسان الأزد وابن الحسن بن الشيخ في ألف من فتيانهم والجرمي السعدي في ألف من أبناء اليمن فقال سالم لمحمد بن المثنى يا محمد قل لهذا الملاح ليخرج إلينا يعني الكرماني فقال محمد يا ابن الفاعلة لأبي علي تقول هذا واقتتلوا قتالا شديدا فانهزم سالم بن أحوز وقتل من أصحابه زيادة على مائة ومن أصحاب الكرماني زيادة على عشرين.
فلما قدم أصحاب نصر عليه منهزمين قال له عصمة بن عبد الله الأسدي يا نصر شامت العرب! فأما إذ فعلت فشمر عن ساق. فوجه عصمة في جمع فوقف موقف سالم فنادى: يا محمد بن المثنى! لتعلمن أن السمك لا يأكل اللخم؛ واللخم دابة من دواب الماء تشبه السبع يأكل السمك فقال له محمد يا ابن الفاعلة قف لنا إذا! وأمر محمد السعدي فخرج إليه في أهل
363

اليمن فاقتتلوا قتالا شديدا وانهزم عصمة حتى أتى نصرا وقد قتل من أصحابه أربعمائة.
ثم أرسل نصر بن مالك بن عمرو التميمي في أصحابه فنادى يا ابن المثنى ابرز إلي فبرز إليه فضربه مالك على حبل عاتقه فلم يصنع شيئا وضربه محمد بعمود فشدخ رأسه والتحم القتال فاقتتلوا قتالا شديدا وانهزم أصحاب نصر وقد قتل منهم سبعمائة ومن أصحاب الكرماني ثلاثمائة ولم يزل الشر بينهم حتى خرجوا إلى الخندقين فاقتتلوا قتالا شديدا.
فلما استيقن أبو مسلم أن كلا الفرقين قد أثخن صاحبه وانه لا مدد لهم جعل يكتب إلى شيبان ثم يقول للرسول اجعل طريقك على مضر فإنهم سيأخذون كتبك فكانوا يأخذونها فيقرأون فيها أني رأيت اليمن لا وفاء لهم ولا خير فيهم فلا تثقن بهم ولا تظهر إليهم فإني أرجو أن يريك الله في اليمانية ما تحب ولئن بقيت لا ادعه لها شعرا ولا ظفرا ويرسل رسولا آخر بكتاب فيه ذكر مضر بمثل ذلك وبأمر الرسول أن يجعل طريقه على اليمانية حتى صار هوى الفريقين معه ثم جعل يكتب إلى نصر بن سيار وإلى الكرماني أن الإمام أوصاني بكم ولست أعدو رأيه فيكم وكتب إلى الكور بإظهار الأمر فكان أول من سود أسد بن عبد الله الخزاعي بنسا ومقاتل بن حكيم وابن غزوان ونادوا يا محمد يا منصور وسود أهل أبيورد وأهل مرو الروذ وقرى مرو.
364

واقبل أبو مسلم حتى نزل بين خندق الكرماني وخندق نصر وهابه الفريقان وبعث إلى الكرماني أني معك فقبل ذلك الكرماني فانضم أبو مسلم إليه فاشتد ذلك على نصر بن سيار فأرسل الكرماني ويحك لا تغتر فوالله إني لخائف عليك وعلى أصحابك منه فادخل مرو نكتب كتابا بيننا بالصلح وهو يريد أن يفرق بينه وبين أبي مسلم فدخل الكرماني منزله وأقام أبو مسلم في العسكر وخرج الكرماني حتى وقف في الرحبة في مائة فارس وعليه قرطق وأرسل إلى نصر أخرج لنكتب بيننا ذلك الكتاب فابصر نصر منه غرة فوجه إليه ابن الحرث ابن سريج في نحو من ثلاثمائة فارس في الرحبة فالتقوا بها طويلا ثم أن الكرماني طعن في خاصرته فخر عن دابته وحماه أصحابه حتى جاءهم ما لا قبل لهم به فقتل نصر بن سيار الكرماني وصلبه وصلب معه سمكة.
واقبل ابنه علي وقد جمع جمعا كثيرا فصار إلى أبي مسلم واستصحبه معه فقاتلوا نصر بن سيار حتى أخرجوه من دار الإمارة فمال إلى بعض دور مرو واقبل أبو مسلم حتى دخل مرو واتاه علي ابن الكرماني واعلمه أنه معه وسلم عليه بالإمرة وقال له مرني بأمرك فإني مساعدك على ما تريد فقال أقم على ما أنت عليه حتى آمرك بأمري ولما نزل أبو مسلم بين خندق الكرماني ونصر ورأى نصر قوته كتب إلى مروان بن محمد يعلمه حال أبي مسلم وخروجه وكثرة من معه فإنه يدعو إلى إبراهيم بن محمد وكتب بأبيات شعر:
(أرى بين الرماد وميض نار * وأخشى أن يكون له ضرام)
(فإن النار بالعودين تذكى * وإن الحرب مبدؤها كلام)
365

(فقلت من التعجب ليت شعري * أأيقاظ أمية أم نيام)
فكتب إليه مروان أن الشاهد يرى ما لا يرى الغائب واحسم الثؤلول قبلك فقال نصر أما صاحبكم فقد أعلمكم أنه لا نصر عنده فكتب إلى يزيد [بن عمر] بن هبيرة يستمده وكتب له بأبيات، شعر:
(أبلغ يزيد وخير القول أصدقه * وقد تيقنت أن لا خير في الكذب)
(أن خراسان أرض قد رأيت بها * بيضا لون أفرخ قد حدثت بالعجب)
(فراخ عامين إلا أنها كبرت * لما يطرن وقد سربلن بالزغب)
(إلا تدارك بخيل الله معلمة * ألهبن نيران حرب أيما لهب)
فقال يزيد لا تكثر فليس عندي رجل.
فلما قرا مروان كاتب نصر تصادف وصول كتابه وصول رسول لأبي مسلم إلى إبراهيم وقد عاد من عند إبراهيم ومعه جواب أبي مسلم يلعنه إبراهيم ويسبه حيث لم ينتهز الفرصة من نصر والكرماني إذ أمكناه ويأمره أن لا يدع بخراسان متكلما بالعربية إلا قتله فلما قرا الكتاب كتب إلى عامله بالبلقاء ليسير إلى الحميمة وليأخذ إبراهيم بن محمد فيشده وثاقا ويبعث به إليه ففل ذلك فأخذه مروان وحبسه.
ذكر تعاقد أهل خراسان على أبي مسلم
وفي هذه السنة تعاقدت عامة قبائل العرب بخراسان على قتال أبي مسلم وفيها تحول أبو مسلم من معسكره بسفيذنج إلى الماخوان.
366

وكان سبب ذلك أن أبا مسلم لما ظهر أمره سارع إليه الناس وجهل أهل مرو يأتونه ولا يعرض لهم نصر ولا يمنعهم وكان الكرماني وشيبان لا يكرهان أمر أبي مسلم لأنه دعا إلى خلع مروان وأبو مسلم في خباء ليس له حرس ولا حجاب وعظم أمره عند الناس وقالوا: ظهر رجل من بني هاشم له حلم ووقار وسكينة فانطلق فتية من أهل مرو نساك يطلبون الفقه إلى أبي مسلم فسألوه عن نسبه فقال خبري خير لكم من نسبي وسألوه أشياء من الفقه فقال أمركم بالمعروف ونهيكم عن المنكر خير لكم من هذا ونحن إلى عونكم أحوج منا إلى مسألتكم فاعفونا فقالوا: ما نعرف لك نسبا ولا نظنك تبقى إلا قليلا حتى تقتل وما بينك وبين ذلك إلا أن يتفرغ أحد هذين الأميرين فقال أبو مسلم أنا اقتلهما أن شاء الله فأتوا نصرا فأخبروه فقال جزاكم الله خيرا مثلكم من يفتقد هذا ويعرفه وأتوا شيبان فاعلموه فأرسل إليه نصر أنا قد أشجى بعضنا بعضا فاكفف عني حتى أقاتله وان شئت فجامعني إلى حربه حتى اقتله أو أنفيه ثم نعود إلى أمرنا الذي نحن عليه فهم شيبان أن يفعل ذلك فأتى الخبر أبا مسلم فكتب إلى علي بن الكرماني انك موتور قتل أبوك ونحن نعلم انك لست على رأي شيبان وإنما نقاتل لثأرك فامتنع شيبان من صلح نصر فدخل على شيبان فثناه عن رأيه فأرسل نصر إلى شيبان انك لمغرور والله ليتفاقمن هذا الأمر حتى يستصغر في جنبه كل كبير وقال شعرا يخاطب بن ربيعة واليمن ويحثهم على الاتفاق معه على حرب أبي مسلم:
(أبلغ ربيعة في مرو في يمن * أن اغضبوا قبل أن لا نفع الغضب)
367

(ما بالكم تنشبون الحرب بينكم * كان أهل الحجى عن رأيكم غيب)
(وتتركون عدوا قد أحاط بكم * ممن تأشب لا دين ولا حسب)
(لا عرب مثلكم في الناس نعرفهم * ولا صريح موال أن هم نسبوا)
(من كان يسألني عن أصل دينهم * فإن دينهم أن تهلك العرب)
(قوم يقولون قولا ما سمعت به * عن النبي ولا جاءت به الكتب)
فبيناهم كذلك إذ بعث أبو مسلم النضر بن نعيم الضبي إلى هراة وعليها عيسى بن عقيل بن معقل الليثي فطرده فقدم على نصر منهزما وغلب النصر على هراة.
فقال يحيى بن نعيم بن هبيرة الشيباني لابن الكرماني وشيبان اختاروا أما أنكم تهلكون أنتم قبل مضر أو مضر قبلكم قالوا: وكيف ذلك قال أن هذا الرجل إنما ظهر أمره منذ شهر وقد صار في عسكره مثل عسكركم قالوا: ما الرأي قال صالحوا نصرا فإنكم أن صالحتموه قاتلوا نصرا وتركوكم لأن الأمر في مضر وان لم تصالحوا نصرا صالحوه وقاتلوكم فقدموا مضر قبلكم ولو ساعة من نهار فتقر أعينكم بقتلهم.
فأرسل شيبان إلى نصر يدعوه إلى الموادعة فأجابه وأرسل سالم بن أحوز بكتاب الموادعة فأتى شيبان وعنده ابن الكرماني ويحيى بن نعيم فقال سالم لابن الكرماني يا أعور ما أخلقك أن تكون الأعور الذي يكون هلاك مضر على يده! ثم توادعوا سنة وكتبوا كتابا.
فبلغ ذلك أبا مسلم فكتب إلى شيبان: إنا نوادعك أشهرا فوادعنا ثلاثة أشهر. فقال ابن الكرماني: إني ما صالحت نصرا إنما صالحه شيبان، وأنا
368

لذلك كاره وإنما موتور بقتله أبي ولا ادع قتاله فعاود القتال ولم يعنه شيبان وقال لا يحل الغدر.
فأرسل ابن الكرماني إلى أبي مسلم يستنصره فاقبل حتى نزل الماخوان وكان مقامه بسفيذنج وأربعين يوما ولما نزل الماخوان حفر بها خندقا وجعل للخنق بابين فعسكر به واستعمل على الشرط أبا نصر مالكين الهيثم وعلى الحرس أبا إسحاق خالد بن عثمان وعلى ديوان الجند كامل بن مظفر أبا صالح وعلى الرسائل اسلم بن صبيح وعلى القضاء القايم بن مجاشع النقيب وكان القاسم يصلي بابي مسلم فيقص القصص بعد العصر فيذكر فضل بني هاشم ومعايب بني أمية.
ولما نزل أبو مسلم الماخوان أرسل إلى الكرماني أني معك على نصر فقال ابن الكرماني أني أحب أن يلقاني أبو مسلم فاتاه أبو مسلم فأقام عنده يومين ثم رجع إلى الماخوان وذلك لخمس خلون من المحرم سنة ثلاثين ومائة.
وكان أول عامل استعمله أبو مسلم على شيء من العمل داود بن كرار فرد أبو مسلم العبيد عنه واحتفر لهم خندقا في قرية شوال وولي الخندق داود بن كرار، فلما اجتمعت للعبيد جماعة وجههم إلى موسى بن كعب بأبيورد.
وأمر أبو مسلم كامل بن مظفر أن يعرض الجند ويكتب أسماؤهم وأسماء آبائهم ونسبتهم إلى القرى ويجعل ذلك في دفتر فبلغت عدتهم سبعة آلاف رجل.
ثم أن القبائل من مضر وربيعة واليمن توادعوا على وضع الحرب وأن
369

تجتمع كلمتهم على [محاربة] أبي مسلم. وبلغ أبا مسلم الخبر فعظم عليه وناظر فإذا الماخوان سافلة الماء فتخوف أن يقطع نصر عنه الماء فتحول إلى آلين وكان مقامه بالماخوان أربعة اشهر فنزل آلين وخندق بها.
وعسكر نصر بن سيار على نهر عياض وجعل عاصم بن عمرو ببلاش جرد وأبا الذيال بطوسان فانزل أبو الذيال جنده على أهلها وكان عامة أهلها مع أبي مسلم في الخندق فآذوا أهل طوسان وعسفوهم وسير إليهم أبو مسلم جندا فلقوا أبا الذيال فهزموه وأسروا من أصحابه نحوا ممن ثلاثين رجلا فكساهم أبو مسلم وداوى جراحهم وأطلقهم.
ولما استقر بابي مسلم معسكره باللين أمر محرز بن إبراهيم أن يسير في جماعة ويخندق بجيرنج ويجتمع عنده جمع من الشيعة ليقطع مادة نصر من مرو الروذ وبلخ وطخارستان ففعل ذلك واجتمع عنده نحو من ألف رجل فقطع المادة عن نصر.
ذكر غلبة عبد الله بن معاوية على فارس وقتله
وفي هذه السنة غلب عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر على فارس وكورها وقد تقدم ذكر ظهوره بالكوفة وانهزامه وخروجه من الكوفة نحو المدائن.
فلما وصل إليها أتاه أناس من أهل الكوفة وغيرها فسار إلى الجبال وغلب عليها وعلى حلوان وقومس وأصبهان والري وخرج إليه عبيد أهل الكوفة وأقام بأصبهان.
وكان من محارب بن موسى مولى بني يشكر عظيم القدر بفارس فجاء
370

إلى دار الإمارة بإصطخر فطرد عامل عنها وبايع الناس لعبد الله بن معاوية، وخرج محارب إلى كرمان فأغار عليها وانضم إلى محارب قواد من أهل الشام فسار إلى مسلم بن المسيب وهو عامل ابن عمر بشيراز فقتله في سنة ثمان وعشرين ثم خرج محارب إلى أصبهان إلى عبد الله بن معاوية فحوله إلى إصطخر فأقام بها واتاه الناس بنو هاشم وغيرهم وجبى المال وبعث العمال وكان معه منصور بن جمهور وسليمان بن هشام بن عبد الملك واتاه شيبان بن الحلس بن عبد العزيز الخارجي على ما تقدم واتاه أبو جعفر المنصور واتاه عبد الله وعيسى أولاد علي بن عبد الله بن عباس.
ولما قدم ابن هبيرة على العراق أرسل نباتة بن حنظلة الكلابي إلى عبد الله بن معاوية وبلغ سليمان بن حبيب أن ابن هبيرة استعمل نباتة على الأهواز فسرح داود بن حاتم فأقام بكرخ دينار يمنع نباتة من الأهواز فقاتله فقت داود وهرب سليمان من الأهواز إلى سابور وفيها الأكراد قد غلبوا عليها فقاتلهم سليمان وطردهم عن سابور وكتب إلى ابن معاوية بالبيعة.
ثم أن محارب بن موسى اليشكري نافر ابن معاوية وفارقه وجمع جمعا فأتى سابور فقاتله يزيد بن معاوية أخو عبد الله فانهزم محارب واتى كرمان فأقام بها حتى قدم محمد بن الأشعث فصار معه ثم نافره فقتله ابن الأشعث وأربعة وعشرين ابنا له ولم يزل عبد الله بن معاوية بإصطخر حتى أتاه ابن ضبارة مع داود بن يزيد بن عمر بن هبيرة وسير ابن هبيرة أيضا معن بن زائدة من وجه آخر فقاتلهم معن عند مرو شاذان ومعن يقول:
(ليس أمير القوم بالخل الخدع * فر من الموت وفي الموت وقع)
371

وأنهزم ابن معاوية فكف معن عنهم وقتل في المعركة رجل من آل أبي لهب وكان يقال يقتل رجل من بني هاشم بمرو الشاذان وأسروا أسرى كثيرة فقتل ابن ضبارة منهم عدة كثيرة وهرب منصور بن جمهور إلى السند وعبد الرحمن ين يزيد إلى عمان وعمرو بن سهل بن عبد العزيز بن مروان إلى مصر وبعث ببقية الأسرى إلى ابن هبيرة فأطلقهم ومضى ابن معاوية إلى خراسان فسار معن بن زائدة يطلب منصور ابن جمهور فلم يدركه، فرجع.
وكان مع ابن معاوية من الخوارج وغيرهم خلق كثير فاسر منهم أربعون ألفا فهم عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس فسبه ابن ضبارة وقال له ما جاء بك إلى ابن معاوية وقد عرفت خلافه لأمير المؤمنين فقال كان علي دين فأتيته فشفع فيه حرب بن قطن الهلالي وقال هو ابن أختنا فوهبه له.
فعاب عبد الله بن علي عبد الله بن معاوية ورمى أصحابه باللواط فسيره ابن ضبارة إلى ابن هبيرة ليخبره أخبار ابن معاوية وسار في طلب عبد الله بن معاوية إلى شيراز فحصره فخرج عبد الله ابن معاوية منها هاربا ومعه أخواه الحسن ويزيد ابنا معاوية وجماعة من أصحابه وملك المفازة على كرمان وقصد خراسان طمعا في أبي مسلم لأنه يدعو إلى الرضا من آل محمد وقد استولى على خراسان فوصل إلى نواحي هراة وعليها أبو نصر مالك بن الهيثم الخزاعي فأرسل إلى ابن معاوية يسأله عن قدومه فقال بلغني أنكم تدعون إلى الرضا من آل محمد فأتيتكم فأرسل إليه مالك انتسب نعرفك فانتسب
372

له فقال أما عبد الله وجعفر فمن أسماء آل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما معاوية فلا نعرفه في أسمائهم فقال أن جدي كان عند معاوية لما ولد له أبي فطلب إليه أن يسمي ابنه باسمه ففعل فأرسل إليه معاوية بمائة ألف درهم فأرسل إليه مالك لقد اشتريتم الاسم الخبيث بالثمن اليسير ولا نرى لك حقا فيما تدعو إليه ثم أرسل إلى أبي مسلم يعرفه خبره فأمره بالقبض عليه وعلى من معه فقبض عليهم وحبسهم ثم ورد عليه كتاب أبي مسلم يسامره بإطلاق الحسن ويزيد بن معاوية وقتل عبد الله بن معاوية فأمر من وضع فراشا على وجهه فمات وأخرج فصلي عليه ودفن وقبره بهراة معروف يزار رحمه الله.
ذكر أبي حمزة الخارجي وطالب الحق
وفي هذه السنة قدم أبو حمزة بلج بن عقبة الأزدي الخارجي من الحج من قبل عبد الله بن يحيى الحضرمي طالب الحق محكما للخلاف على مروان بن محمد فبينما الناس بعرفة ما شعروا إلا وقد طلعت عليهم أعلام وعمائم سود على رؤوس الرماح وهم سبعمائة ففزع الناس حتى رأوهم وسألوهم عن حالهم فأخبروهم بخلافهم مروان وآل مروان فأرسلهم عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك وهو يومئذ على مكة والمدينة وطلب منهم الهدنة فقالوا: نحن بحجنا أضن وعليه أشح فصالحهم على انهم جميعا آمنون بعضهم من بعض حتى ينفر الناس النفر الأخير فوقفوا بعرفة على حدة.
فدفع بالناس عبد الواحد فنزل بمنى في منزل السلطان ونزل أبو حمزة
373

بقرن الثعالب فأرسل عبد الواحد إلى أبي حمزة الخارجي عبد الله بن الحسن ابن الحسن بن علي ومحمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان وعبد الرحمن بن القاسم بن ومحمد بن أبي بكر وعبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب وربيعة بن أبي عبد الرحمن في رجال أمثالهم فدخلوا على أبي حمزة وعليه إزار قطن غليظ فتقدمهم إليه عبد الله بن الحسن ومحمد بن عبد الله فنسبهما فانتسبا له فعبس في وجوههما واظهر الكراهة لهما ثم سال عبد الرحمن بن القاسم وعبيد الله بن عمر فانتسبا له فهش إليهما وتبسم في وجوههما وقال والله ما خرجنا إلا لنسير بسيرة أبويكما فقال له عبد الله بن الحسن والله ما خرجنا لتفضل بين آبائنا ولكن بعثنا إليك الأمير برسالة وهذا ربيعة يخبركها.
فلما ذكر له ربيعة نقض العهد قال أبو حمزة معاذ الله أن ننقض العهد أو نخيس به لا والله لا افعل ولو قطعت رقبتي هذه ولكن تنقضي الهدنة بيننا وبينكم فرجعوا إلى عبد الواحد فأبلغوه فلما كان النفر الأول نفر عبد الواحد فيه وخلى مكة فدخلها أبو حمزة بغير قتال فقال بعضهم في عبد الواحد:
(زار الحجيج عصابة قد خالفوا * دين الإله ففر عبد الواحد)
(ترك الحلائل والإمارة هاربا * ومضى يخبط كالبعير الشارد)
ثم مضى عبد الواحد حتى دخل المدينة فضرب على أهلها البعث وزادهم
374

في العطاء عشر واستعمل عليهم عبد العزيز بن عبد الله بن عمرو بن عثمان فخرجوا فلما كانوا بالحرة تلقتهم جزر منحورة فمضوا
ذكر ولاية يوسف بن عبد الرحمن الفهري بالأندلس
وفي هذه السنة توفي ثوابة بن سلمة أمير الأندلس وكانت ولايته سنتين وشهورا فلما توفي اختلف الناس فالمضرية أرادت أن يكون الأمير منهم واليمانية أرادت كذلك أن يكون الأمير منهم فبقوا بغير أمير فخاف الصميل الفتنة فأشار بان يكون الوالي من قريش فرضوا كلهم بذلك فاختار لهم يوسف بن عبد الرحمن الفهري وكان يومئذ بالبيرة فكتبوا إليه بما اجتمع عليه الناس من تأميره فامتنع فقالوا: له أن لم تفعل وقعت الفتنة ويكون إثم ذلك عليك فأجاب حينئذ وسار قرطبة فدخلها وأطاعه الناس.
فلما انتهى إلى أبي الخطار موت ثوابة وولاية يوسف قال إنما أراد الصميل أن يصير الأمر إلى مضر وسعى في الناس حتى ثارت الفتنة بين اليمن ومضر.
فلما رأى يوسف ذلك فارق قصر الإمارة بقرطبة وعاد إلى منزله وسار أبو الخطار إلى شقندة فاجتمعت إليه اليمانية واجتمعت المضرية إلى الصميل وتزاحفوا واقتتلوا أياما كثيرة قتالا لم يكن بالأندلس أعظم منه ثم أجلت الحرب عن هزيمة اليمانية ومضى أبو الخطار منهزما فاستتر في رحى كانت للصميل فدل عليه فأخذه الصميل وقتله ورجع يوسف
375

ابن عبد الرحمن إلى القصر وازداد الصميل شرفا وكان اسم الإمارة ليوسف والحكم إلى الصميل.
ثم خرج على يوسف بن عبد الرحمن بن علقمة اللخمي بمدينة أربونة فلم يلبث إلا قليلا حتى قتل وحمل رأسه إلى يوسف.
وخرج عليه عذرة المعروف بالذمي فإنما قيل له ذلك لأنه استعان بأهل الذمة فوجه إليه يوسف عامر بن عمرو وهو الذي تنتسب إليه مقبرة عامر من أيوب قرطبة فلم يظفر به وعاد مفلولا فسار إليه يوسف بن عبد الرحمن فقاتله فقتله واستباح عسكره.
وقد وردت هذه الحادثة من جهة أخرى وفيها بعض الخلاف وسنذكرها سنة تسع وثلاثين ومائة عند دخول عبد الرحمن الأموي الأندلس.
ذكر عدة حوادث
وحج بالناس عبد الواحد وهو كان العامل على مكة والمدينة والطائف وكان على العراق يزيد [بن عمر] بن هبيرة وعلى قضاء الكوفة الحجاج بن عاصم المحاربي وعلى قضاء البصرة عباد بن منصور، وكان على خراسان نصر بن سيار والفتنة بها.
وفيها مات سالم أبو نصر. وفيها مات يحيى بن معمر العدوي بخراسان وكان قد تعلم النحو من أبي الأسود الدؤلي وكان من فصحاء التابعين. وفيها مات أبو الزناد عبد الله بن ذكوان. وفيها مات وهب بن كيسان. ويحيى بن
376

أبي كثير اليمامي أبو نصر وسعيد بن أبي صالح وأبو إسحاق الشيباني والحرث بن عبد الرحمن ورقبة بن مصقلة الكوفي ومنصور بن زاذان مولى عبد الرحمن بن أبي عقيل الثقفي وشهد جنازته المسلمون واليهود والنصارى والمجوس لاتفاقهم على صلاحه وقيل مات سنة إحدى وثلاثين.
377

130
ثم دخلت سنة ثلاثين ومائة
ذكر دخول أبي مسلم مرو والبيعة بها
وفي هذه السنة دخل أبو مسلم مدينة مرو في ربيع الآخر وقيل في جمادى الأولى.
وكان السبب في ذلك في اتفاق ابن الكرماني معه أن ابن الكرماني ومن معه وسائر القبائل بخراسان لما عاقدوا نصرا على أبي مسلم عظم عليه وجمع أصحابه لحربهم فكان سليمان بن كثير بإزاء ابن الكرماني فقال له سليمان أن أبا مسلم يقول لك أما تأنف من مصالحة نصر وقد قتل بالأمس أباك وصلبه وما كنت أحسبك تجامع نصرا في مسجد تصليان فيه فاحفظه هذا الكلام فرجع عن رأيه وانتقض صلح العرب.
فلما انتقض صلحهم بعث نصر إلى أب مسلم يلتمس منه أن يدخل مع مضر وبعث أصحاب ابن الكرماني وهم ربيعة واليمن إلى أبي مسلم بمثل ذلك فراسلوه بذلك أياما فأمرهم أبو مسلم أن يقدم عليه وفد الفريقين حتى يختار أحدهما ففعلوا وأمر أبو مسلم الشيعة أن يختاروا ربيعة واليمن فان الشيطان في مضر وهم أصحاب مروان وعماله وقتلة يحيى ابن زيد.
فقدم الوفدان فجلس أبو مسلم وأجلسهم وجمع عنده من الشيعة سبعين رجلا فقال لهم ليختاروا أحد الفريقين فقام سليمان كثير من الشيعة
378

فتكلم وكان خطيبا مفوها فاختار ابن الكرماني وأصحابه ثم قام أبو منصور طلحة بن زريق النقيب فاختارهم أيضا ثم قام مرثد بن شقيق السلمي فقال أن مضر قتله آل النبي صلى الله عليه وسلم وأعوان بني أمية وشيعة مروان الجعدي وعماله ودماؤنا في أعناقهم وأموالنا في أيديهم ونصر بن سيار عامل مروان يتعد أموره ويدعو له على منبره
ويسميه أمير المؤمنين ونحن نبرأ إلى الله عز وجل من أن يكون نصر على هدى وقد اخترنا علي بن الكرماني وأصحابه. فقال السبعون: القول ما قال مرثد بن شقيق فنهض وفد نصر عليهم الكآبة والذلة، ورجع وفد ابن الكرماني منصورين ورجع أبو مسلم من آلين إلى الماخوان وأمر أبو مسلم الشيعة أن يبنوا المساكن فقد أغناهم الله من اجتماع كلمة العرب عليهم.
ثم أرسل إلى أبي مسلم علي بن الكرماني ليدخل مدينة مرو من ناحيته وليدخل هو وعشيرته من الناحية الأخرى فأرسل إليه أبو مسلم أني لست آمن أن تجتمع يدك ويد نصر على محاربتي ولكن ادخل أنت فأنشب الحرب مع أصحاب نصر.
فدخل ابن الكرماني فأنشب الحرب وبعث أبو مسلم شبل بن طهمان النقيب في خيل فدخلوها ونزل شبل بقصر بخار أخذاه وبعث إلى أبي مسلم ليدخل إليهم فسار من الماخوان وعلى مقدمته أسيد بن عبد الله الخزاعي وعلى ميمنته مالك بن الهيثم الخزاعي وعلى ميسرته القاسم بن مجاشع التميمي فدخل مرو والفريقان يقتتلان فأمرهما بالكف وهو يتلو من كتاب الله عز وجل: (ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد
379

فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه) الآية. ومضى أبو مسلم إلى قصر الإمارة وأرسل إلى الفريقين أن كفوا ولينصرف كل فريق إلى عسكره ففعلوا وصفت مرو لأبي مسلم فأمر بأخذ البيعة من الجند وكان الذي يأخذها أبو منصور طلحة بن رزيق وكان أحد النقباء عالما بحجج الهاشمية ومعايب الأموية وكان النقباء اثني عشر رجلا اختارهم محمد بن علي من السبعين الذين كانوا استجابوا له حين بعث رسوله إلى خراسان سنة ثلاث ومائة أو أربع ومائة ووصف له من العدل صفة.
وكان منهم من خزاعة سليمان بن كثير ومالك بن الهيثم وزياد بن صالح وطلحة بن زريق وعمرو بن أعين ومن طيء قحطبة بن شبيب بن خالد بن معدان ومن تميم موسى بن كعب أبو عيينة ولاهز بن قريظ والقاسم بن مجاشع واسلم بن سلام ومن بكر بن وائل أبو داود بن إبراهيم الشيباني وأبو علي الهروي ويقال شبل بن طهمان مكان عمرو بن أعين وعيسى بن كعب وأبو النجم إسماعيل ابن عمران مكان أبي علي الهروي وهو ختن أبي مسلم ولم يكن في النقباء أحد والده حي غير أبي منصور طلحة بن زريق بن سعد وهو أبو زينب الخزاعي وكان قد شهد حرب ابن الأشعث وصحب المهلب وغزا معه وكان أبو مسلم يشاوره في الأمور ويسأله عنها وعما شهد من الحروب.
وكانت البيعة أبايعكم [على] كتاب الله وسنة رسوله محمد والطاعة للرضا من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليكم بذلك عهد الله وميثاقه والطلاق والعتاق والمشي إلى بيت الله الحرام وعلى أن لا تسألوا رزقا ولا طعما حتى يبتدئكم به ولاتكم.
(رزيق بتقديم الراء على الزاي).
380

ذكر هرب نصر بن سيار من مرو
ثم أرسل أبو مسلم لاهز بن قريظ في جماعة إلى نصر بن سيار يدعوه إلى كتاب الله عز وجل والرضا من آل محمد فلما رأى ما جاءه من اليمانية والربيعية والعجم وانه لا طاقة له بهم اظهر قبول ما أتاه به وانه يأتيه ويبايعه وجعل يربثهم لما هم [به] من الغدر والهرب، إلى أن أمسوا، وأمر أصحابه أن يخرجوا من ليلتهم إلى مكان يأمنون فيه فقال له سالم بن أحوز لا يتهيأ لنا الخروج الليلة ولكننا نخرج القابلة.
فلما كان الغد عبأ أبو مسلم أصحابه وكتائبه إلى بعد الظهر وأعاد إلى نصر لاهز بن قريظ وجماعة معه فدخلوا على نصر فقال ما أسرع ما عدتم فقال له لاهز لن قريظ لا بد لك من ذلك فقال نصر إذا كان لا بد من ذلك فإني أتوضأ وأخرج إليه وأرسل إلى أبي مسلم فان كان هذا رأيه وأمره أتيته وأتهيأ إلى أن يجيء رسولي فقام نصر فلما قام قرا لاهز بن قريظ: (أن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فأخرج إني لك من الناصحين) فدخل نصر منزله وأعلمهم أنه ينتظر انصراف رسوله من عند أبي مسلم فلما جنه الليل خرج من خلف حجرته ومعه تميم ابنه والحكم بن نميلة النميري وامرأته المرزبانة وانطلقوا هرابا فلما استبطأه لاهز وأصحابه دخلوا منزله فوجدوه قد هرب.
فلما بلغ ذلك أبا مسلم سار إلى معسكر نصر واخذ ثقات أصحابه وصناديدهم
381

فكتفهم وكان فيهم سالم بن أحوز صاحب شرطة نصر والبختري كاتبه وابنان له ويونس بن عبدويه ومحمد ابن قطن ومجاهد بن يحيى بن حضين وغيرهم فاستوثق منهم بالحديد وكانوا في الحبس عنده وسار أبو مسلم وابن الكرماني إلى مرو وسار نصر إلى سرخس واجتمع معه ثلاثة آلاف رجل ولما رجع أبو مسلم سال من كان أرسله إلى نصر ما الذي ارتاب به نصر حتى هرب قالوا: لا ندري قال فهل تكلم أحد منكم بشيء قالوا: تلا لاهز هذه الآية: (أن الملأ يأتمرون بك) قال هذا الذي دعاه إلى الهرب ثم قال يا لاهز تدغل في الدين ثم قتله.
واستشار أبو مسلم أبا طلحة في أصحاب نصر فقال اجعل سوطك السيف وسجنك القبر فقتلهم أبو مسلم وكان عدتهم أربعة وعشرين رجلا.
وأما نصر فإنه سار من سرخس إلى طوس فأقام بها خمسة عشر يوما وبسرخس يوما ثم سار إلى نيسابور فأقام بها ودخل ابن الكرماني مرو مع أبي مسلم وتابعه على رأي وعاقده عليه.
(يحيى بن حضين بضم الحاء المهملة وفتح الضاد المعجمة وآخره نون).
ذكر قتل شيبان الحروري
وفي هذه السنة قتل شيبان بن سلمة الحروري.
وكان سبب قتله أنه كان هو وعلي بن الكرماني مجتمعين على قتال نصر
382

لمخالفة شيبان نصرا لأنه من عمال مروان وشيبان يرى رأي الخوارج ومخالفة ابن الكرماني نصرا لأن نصرا قتل أباه الكرماني وان نصرا مضري وابن الكرماني يماني
وبين الفريقين من العصبية ما هو مشهور فلما صالح ابن الكرماني أبا مسلم على ما تقدم وفارق شيبان تنحى شيبان عن مرو إذ علم أنه لا يقوى لحربهما وقد هرب نصر إلى سرخس.
ولما استقام الأمر لأبي مسلم أرسل إلى شيبان يدعوه إلى البيعة فقال شيبان أنا أدعوك إلى بيعتي فأرسل إليه أبو مسلم أن لم تدخل في أمرنا فارتحل عن منزلك الذي أنت به فأرسل شيبان إلى ابن الكرماني يستنصره فأبى فسار شيبان إلى سرخس واجتمع إليه جمع كثير من بكر بن وائل فأرسل إليه أبو مسلم تسعة من الأزد يدعوه ويسأله أن يكف فاخذ الرسل فسجنهم فكتب أبو مسلم إلى بسام بن إبراهيم مولى بني ليث بابيورد يأمره أن يسير إلى شيبان فيقاتله فسار إليه فقاتله فانهزم شيبان واتبعه بسام حتى دخل المدينة فقتل شيبان وعدة من بكر بن وائل فقيل لأبي مسلم أن بساما ارتد ثانية وهو يقتل البريء بالسقيم فاستقدمه فقدم عليه واستخلف على عسكره رجلا فلما قتل شيبان مر رجل من بكر بن وائل برسل أبي مسلم فقتلهم.
وقيل أن أبا مسلم وجه إلى شيبان عسكرا من عنده عليهم خزيمة بن خازم وبسام بن إبراهيم.
ذكر قتل ابني الكرماني
وفي هذه السنة قتل أبو مسلم عليا وعثمان ابني الكرماني.
كان سبب ذلك أن أبا مسلم كان وجه موسى بن كعب إلى أبيورد فافتتحها
383

وكتب إلى أبي مسلم بذلك، ووجه أبا داود إلى بلخ وبها زياد بن عبد الرحمن القشيري فلما بلغه قصد أبي داود بلخ خرج في أهل بلخ وترمذ وغيرهما ومن كورطخستان إلى الجوزجان فلما دنا أبو داود منهم انصرفوا منهزمين إلى ترمذ ودخل أبو داود مدينة بلخ فكتب إليه أبو مسلم يأمره بالقدوم عليه ووجه مكانه يحيى بن نعيم أبا الميلاء على بلخ فلما قدم يحيى مدينة بلخ كاتبه زياد بن عبد الرحمن أن يرجع وتصير أيديهم واحدة فأجابه فرجع زياد ومسلم بن عبد الرحمن بن مسلم الباهلي وعيسى بن زرعة السلمي وأهل بلخ وترمذ وملوك طخارستان وما وراء النهر ودونه فنزلوا على فرسخ من بلخ وخرج إليهم يحيى بن نعيم بمن معه فصارت كلمتهم واحدة مضر وريعة واليمن ومن معهم من العجم على قتال المسودة وجعلوا الولاية عليهم لمقاتل بن حيان النبطي كراهة أن يكون من واحد من الفرق الثلاثة.
وأمر أبو مسلم أبا داود بالعود فاقبل بمن معه حتى اجتمعوا على نهر السرجنان وكان زياد وأصحابه قد وجهوا أبا سعيد القرشي مسلحة لئلا يأتيهم أصحاب أبي داود من خلفهم وكانت أعلام أبي داود سودا فلما اقتتل أبو داود وزياد وأصحابهما أمر أبو سعيد وراياته سودا ظنوه كمينا لأبي داود خلفهم فلما رأى زياد ومن معه أعلام أبي سعيد وراياته سودا ظنوه كمينا لأبي داود فانهزموا وتبعهم أبو داود فوقع عامة أصحاب زياد في نهر السرجنان وقتل عامة رجالهم المتخلفين ونزل أبو داود معسكرهم وحوى ما فيه.
ومضى زياد ويحيى ومن معهما إلى ترمذ، واستصفى أبو داود أموال من قتل ومن هرب واستقامت له بلخ.
وكتب إليه أبو مسلم يأمره بالقدوم عليه ووجه النضر بن صبيح المري
384

على بلخ وقدم أبو داود على أبي مسلم واتفقا على أن يفرقا بين علي وعثمان ابني الكرماني فبعث أبو مسلم عثمان عاملا على بلخ فلما قدمها استخلف الفرافصة بن ظهير العبسي على بلخ.
وأقبلت المضرية من ترمذ عليهم مسلم بن عبد الرحمن الباهلي فالتقوا هم وأصحاب عثمان فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزم أصحاب عثمان وغلب مسلم على بلخ وبلغ عثمان والنضر بن صبيح الخبر وهما بمرو الروذ فأقبلا نحوهم فهرب أصحاب عبد الرحمن من ليلتهم فلم يمعن النضر في طلبهم رجاء أن يفوتوا ولقيهم أصحاب عثمان فاقتتلوا قتالا شديدا ولم يكن النضر معهم فانهزم أصحاب عثمان وقتل منهم خلق كثير ورجع أبو داود من مرو إلى بلخ وسار أبو مسلم ومعه علي بن الكرماني إلى نيسابور.
واتفق رأي أبي مسلم ورأى أبي داود على أن يقتل أبو مسلم عليا ويقتل أبو داود عثمان فلما قدم أبو داود بلخ بعث عثمان عاملا على الجبل فيمن معه من أهل مرو فلما خرج من بلخ وسار أبو مسلم ومعه علي بن الكرماني إلى نيسابور.
واتفق رأي أبي مسلم ورأي أبي داود على أن يقتل أبو مسلم عليا ويقتل أبو داود عثمان فلما قدم أبو داود بلخ بعث عثمان عاملا على الجبل فيمن معه من أهل مرو فلما خرج من بلخ تبعه أبو داود فأخذه وأصحابه فحبسهم جميعا ثم ضرب أعناقهم صبرا وقتل أبو مسلم في ذلك اليوم علي بن الكرماني وقد كان أبو مسلم أمره أن يسمي له خاصته ليوليهم ويأمر لهم بجوائز وكسوات فسماهم له فقتلهم جميعا.
ذكر قدوم قحطبة من عند الإمام إبراهيم
وفي هذه السنة قدم قحطبة بن شبيب على أبي مسلم من عند إبراهيم الإمام ومعه لواؤه الذي عقد له إبراهيم فوجهه أبو مسلم في مقدمته وضم إليه الجيوش وجعل إليه العزل والاستعمال وكتب إلى الجنود بالسمع والطاعة له.
385

ذكر مسير قحطبة إلى نيسابور
لما قتل شيبان الخارجي وابنا الكرماني على ما تقدم وهرب نصر بن سيار من مرو وغلب أبو مسلم على خراسان بعث العمال على البلاد فاستعمل سباع بن النعمان الأزدي على سمرقند وأبا داود خالد بن إبراهيم على طخارستان ومحمد بن الأشعث على الطبسين وجعل مالك بن الهيثم على شرطه ووجه قحطبة إلى طوس ومعه عدة من القواد منهم أبو عون عبد الملك بن يزيد وخالد بن برمك وعثمان بن نهيك وخازم بن خزيمة وغيرهم فلقي قحطبة بن بطوس فهزمهم وكان من مات منهم في الزحام أكثر
ممن قتل فبلغ عدة القتلى بضعة عشرة ألفا.
ووجه أبو مسلم القاسم بن مجاشع إلى نيسابور على طريق المحجة وكتب إلى قحطبة يأمره بقتال تميم بن نصر بن سيار والنابئ بن سويد ومن لجا إليهما من أهل خراسان وكان أصحاب شيبان بن سلمة الخارجي قد لحقوا بنصر ووجه أبو مسلم علي بن معقل في عشرة آلاف رجل إلى تميم بن نصر وأمره أن يكون مع قحطبة وسار قحطبة إلى السوذقان وهو معسكر تميم بن نصر والنابئ وقد عبأ أصحابه وزحف إليهم فدعاهم إلى كتاب الله عز وجل وسنة نبيه وإلى الرضا من آل محمد فلم يجيبوه فقاتلهم قتالا شديدا فقتل تميم بن نصر في المعركة وقتل من أصحابه مقتلة عظيمة واستبيح عسكرهم وكان عدة من معه ثلاثين ألفا،
386

وهرب النابئ بن سويد فتحصن بالمدينة فحصره قحطبة ونقبوا سورها ودخلوا المدينة فقتلوا النابئ ومن كان معه وبلغ الخبر نصر بن سيار بنيسابور بقتل ابنه.
ولما استولى قحطبة على عسكرهم سير إلى خالد بن برمك ما قبض منه وسار هو إلى نيسابور وبلغ ذلك نصر بن سيار فهرب منها فيمن معه فنزل قومس وتفرق عنه أصحابه فسار إلى نباتة بن حنظلة بجرجان وقدم قحطبة نيسابور بجنوده فأقام بها رمضان وشوال.
ذكر قتل نباتة بن حنظلة
وفي هذه السنة قتل نباتة بن حنظلة عامل يزيد بن هبيرة على جرجان وكان يزيد ابن هبيرة بعثه إلى نصر فاتى فارس وأصبهان ثم سار إلى الري ومضى إلى جرجان وكان نصر بقومس على ما تقدم فقيل له: أن قوم لا تحملنا فسار إلى جرجان فنزلها مع نباتة وخندقوا عليهم.
واقبل قحطبة إلى جرجان في ذي القعدة فقال قحطبة يا أهل خراسان أتدرون إلى من تسيرون ومن تقاتلون إنما تقاتلون بقية قوم حرقوا بيت الله تعالى وكان الحسن بن قحطبة على مقدمة أبيه فوجه جمعا إلى مسلحة نباتة وعليها رجل يقال له ذؤيب فبيتوهم فقتلوا ذؤيبا وسبعين رجلا من أصحابه فرجعوا إلى الحسن.
وقدم قحطبة فنزل بإزاء نباتة وأهل الشام في عدة لم ير الناس مثلها فلما رآهم أهل خراسان هابوهم حتى تكلموا بذلك وأظهروه فبلغ قحطبة قولهم فقام فيهم فقال يا أهل خراسان هذه البلاد كانت لآبائكم الأولين وكانوا ينصرون
387

على عدوهم لعدلهم وحسن سيرتهم حتى بدلوا وظلموا فسخط الله عز وجل عليهم فانتزع سلطانهم وسلط عليهم إذ ل أمة كانت في الأرض عندهم فغلبوهم على بلادهم وكانوا بذلك يحكمون بالعدل ويوفون بالعهد وينصرون المظلوم ثم بدلوا وغيروا وجاروا في الحكم وأخافوا أهل البر والتقوى من عترة رسول الله فسلطكم عليهم لينتقم منهم بكم لتكونوا أشد عقوبة لأنكم طلبتموهم بالثار وقد عهد إلى إلمام إنكم تلقونهم في مثل هذه العدة فينصركم الله عز وجل عليهم فتهزموهم وتقتلونهم فالتقوا في مستهل ذي الحجة سنة ثلاثين يوم الجمعة فقال لهم قحطبة قبل القتال أن الإمام أخبرنا إنكم تنصرون على عدوكم هذا اليوم من هذا الشهر وكان على ميمنته ابنه الحسن فاقتتلوا قتالا شديدا فقتل نباتة وانهزم أهل الشام فقتل منهم عشرة آلاف وبعث إلى أبي مسلم برأس نباتة.
ذكر وقعة أبي حمزة الخارجي بقديد
في هذه السنة لسبع بقين من صفر كانت الوقعة بقديد بين أهل المدينة وأبي حمزة الخارجي.
قد ذكرنا أن عبد الواحد بن سليمان ضرب البعث على أهل المدينة واستعمل عليهم عبد العزيز بن عبد الله فخرجوا فلما كانوا بالحرة لقيتهم جزر منحورة فتقدموا فلما كانوا بالعقيق تعلق لواؤهم بسمرة فانكسر الرمح فتشاءم الناس بالخروج واتاهم رسل أبي حمزة يقولون أننا والله ما لنا بقتالكم حاجة دعونا نمضي إلى عدونا فأبى أهل المدينة ولم يجيبوه إلى ذلك وساروا حتى نزلوا قديدا وكانوا مترفين ليسوا بأصحاب حرب، فلم يشعروا إلا
388

وقد خرج عليهم أصحاب أبي حمزة من الفضاض فقتلوهم وكانت المقتلة بقريش وفيهم كانت الشوكة فأصيب منهم عدد كثير وقدم المنهزمون المدينة فكانت المرأة تقيم النوائح على حميمها ومعها النساء فما تبرح النساء حتى تأتيهم الأخبار عن رجالهن فيخرجن امرأة امرأة كل واحدة منهن تذهب لقتل رجلها فلا تبقى عندها امرأة لكثرة من قتل.
وقيل أن خزاعة دلت أبا حمزة على أصحاب قديد وقيل كان عدة القتلى سبعمائة.
ذكر دخول أبي حمزة المدينة
وفي هذه السنة دخل أبو حمزة المدينة ثالث عشر صفر ومضى عبد الواحد منها إلى الشام وكان أبو حمزة قد اعذر إليهم وقال لهم ما لنا بقتالكم حاجة تدعونا نمضي إلى عدونا فأبى أهل المدينة فلقيهم فقتل منهم خلقا كثيرا ودخل المدينة فرقي المنبر وخطبهم وقال لهم:
يا أهل المدينة مررت زمان الأحول يعني هشام بن عبد الملك وقد أصاب ثماركم عاهة فكتبكم إليه تسألونه أن يضع عنكم خراجكم ففعل فزاد الغني غنى والفقير فقرا فقلتم له جزاك الله خيرا فلا جزاكم الله خيرا ولا جزاه خيرا واعلموا يا أهل المدينة أنا لم نخرج من ديارنا أشرا ولا بطرا ولا عبثا ولا لدولة ملك نريد أن نخوض فيه ولا لثار قديم نيل ولكنا لما رأينا مصابيح الحق قد عطلت وعنف القائل بالحق وقتل القائم بالقسط ضاقت علينا الأرض بما رحبت وسمعنا داعيا يدعو إلى طاعة الرحمن وحكم القرآن فأجبنا داعي الله: (ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في
389

الأرض)، فأقبلنا من قبائل شتى ونحن قليلون مستضعفون في الأرض فآوانا وأيدنا بنصره فأصبحنا بنعمته إخوانا ثم لقينا رجالكم [بقديد] فدعوناهم إلى طاعة الرحمن وحكم القرآن فدعونا إلى طاعة الشيطان وحكم بني مروان فشتان لعمر الله ما بين الغي والرشد ثم اقبلوا يهرعون وقد ضرب الشيطان فيهم بحرانه وغلت بدمائهم مراجله وصدق عليهم ظنه واقبل أنصار الله عز وجل عصائب وكتائب بكل مهند ذي رونق فدارت رحانا واستدارت رحاهم بضرب يرتاب به المبطلون وأنتم يا أهل المدينة أن
تنصروا مروان وآل مروان يسحتكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا (ويشف صدور قوم مؤمنين) يا أهل المدينة أو لكم خير أول وآخركم شر آخر يا أهل المدينة أخبروني عن ثمانية أسهم فرضها الله عز وجل في كتابه على القوي والضعيف فجاء تاسع ليس له فيها سهم فأخذها لنفسه مكابرا محاربا ربه يا أهل المدينة بلغني إنكم تنتقصون أصحابي قلتم شباب أحداث وأعراب حفاة ويحكم وهل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا شبابا أحداثا وأعرابا حفاة؟ [هم] والله مكتهلون في شبابهم غضة عن الشر أعينهم ثقيلة عن الباطل أقدامهم وأحسن السيرة مع أهل المدينة واستمال حتى سمعوه يقول من زنى فهو كافر ومن سرق ومن شك في كفرهما فهو كافر. وأقام أبو حمزة بالمدينة ثلاثة اشهر.
390

ذكر قتل أبي حمزة الخارجي
ثم أن أبا حمزة ودع أهل المدينة وقال لهم يا أهل المدينة أنا خارجون إلى مروان فان نظفر نعدل في إخوانكم ونحملكم على سنة نبيكم وان يكن ما تتمون ف‍ (سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون).
ثم سار نحو الشام وكان مروان قد انتخب من عسكره أربعة آلاف فارس واستعمل عليهم عبد الملك بن محمد بن عطية السعدي سعد هوازن وأمره أن يجد السير وأمره أن يقاتل الخوارج فت هو ظفر بهم يسير حتى يبلغ اليمن ويقاتل عبد الله بن يحيى طالب الحق.
فسار ابن عطية فلقي أبا حمزة بوادي القرى فقال أبو حمزة لأصحابه لا تقاتلوهم حتى تختبروهم فصاحوا بهم ما تقولون في القرآن والعمل به فقال ابن عطية نضعه في جوف الجواليق فقال فما تقولون في مال اليتيم قال ابن عطية نأكل ماله ونفجر بأمه في أشياء سألوه عنها فلما سمعوا كلامه قاتلوه حتى أمسوا وصاحوا ويحك يا ابن أن الله قد جعل الليل سكنا فاسكن فأبى وقاتلهم حتى قتلهم وانهزم أصحاب أبي حمزة من لم يقتل وأتوا المدينة فلقيهم أهل المدينة فقتلوهم وسار ابن عطية إلى المدينة فأقام شهرا وفيمن قتل مع أبي حمزة عبد العزيز القاري المدني المعروف بيشكست النحوي وكان من أهل المدينة يكتب مذهب الخوارج فلما دخل أبو حمزة المدينة انضم إليه فلما قتل الخوارج قتل معهم.
391

ذكر قتل عبد الله بن يحيى
ولما أقام ابن عطية بالمدينة شهرا سار نحو اليمن واستخلف على المدينة الوليد ابن عروة بن محمد بن عطية واستخلف على مكة رجلا من أهل الشام وقصد اليمن وبلغ عبد الله بن يحيى طالب الحق مسيره وهو بصنعاء فاقبل إليه بن معه فالتقى هو وابن عطية فاقتتلوا فقتل ابن يحيى وحمل رأسه إلى مروان بالشام ومضى ابن عطية إلى صنعاء.
ذكر قتل ابن عطية
ولما سار ابن عطية إلى صنعاء دخلها واقام بها فكتب إليه مروان يأمره أن يسرع إليه السير ليحج بالناس فسار في اثني عشر رجلا بعهد مروان على الحج ومعه أربعون ألفا وسار خلف عسكره وخيله بصنعاء ونزل الجرف فاتاه ابنا جهانة المراديان في جمع كثير وقالوا: له ولأصحابه أنتم لصوص فأخرج ابن عطية عهده على الحجج وقال هذا عهد أمير المؤمنين بالحج وأنا ابن عطية قالوا: هذا باطل فأنتم لصوص فقاتلهم ابن عطية قتالا شديدا حتى قتل.
ذكر إيقاع قحطبة بأهل جرجان
وفي هذه السنة قتل قحطبة بن شبيب من أهل جرجان ما يزيد على ثلاثين ألفا.
392

وسبب ذلك أنه بلغه عنهم بعد قتل نباتة بن حنظلة انهم يريدون الخروج عليه فلما بلغه ذلك دخل إليهم واستعرضهم منهم فقتل منهم من ذكرنا وسار نصر وكان بقومس حتى نزل خوار الري وكاتب ابن هبيرة يستمده وهو بأواسط مع ناس من وجوه أهل خراسان وعظم الأمر عليه وقال له أني قد مذبت أهل خراسان حتى ما أحد منهم يصدقني فأمدني بعشرة آلاف قبل أن تمدني بمائة ألف لا تغني شيئا فحبس ابن هبيرة رسل نصر فأرسل نصر إلى مروان أني وجهت قوما من أهل خراسان إلى ابن هبيرة ليعلموه أمر الناس قبلنا وسألته المدد فحبس رسلي ولم يمدني بأحد وإنما أنا بمنزلة من أخرج من بيته إلى حجرته ثم أخرج من حجرته إلى داره ثم من داره إلى فناء داره فان أدركه من يعينه فعسى أن يعود إلى داره وتبقى له وان أخرج إلى الطريق فلا دار له ولا فناء.
فكتب مروان إلى ابن هبيرة يأمره أن يمد نصرا وكتب إلى نصر يعلمه ذلك وجهز ابن هبيرة جيشا كثيفا وجعل عليهم ابن غطيف وسيرهم إلى نصر.
ذكر عدة حوادث
غزا الصائفة هذه السنة الوليد بن هشام فنزل العمق وبنى حصن مرعش.
وفيها وقع الطاعون بالبصرة.
وحج بالناس هذه السنة محمد بن عبد الملك بن مروان وكان هو أمير مكة والمدينة والطائف وكان بالعراق يزيد بن عمر بن هبيرة، وكان على
393

قضاء الكوفة الحجاج بن عاصم المحاربي وعلى قضاء البصرة عباد بن منصور وكان الأمير بخراسان على ما وصفت.
* * *
قلت: قد ذكر أبو جعفر ههنا أن محمد بن عبد الملك حج بالناس وكان أمير مكة والمدينة وذكر فيما تقدم أن عروة بن الوليد كان على المدينة وذكر في آخر سنة إحدى وثلاثين أن عروة أيضا كان على المدينة ومكة والطائف وانه حج بالناس تلك السنة.
* * *
وفي هذه السنة مات أبو جعفر يزيد بن القعقاع القاري مولى عبد الله بن عباس المخزومي بالمدينة وقيل سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بقديد. وفيها توفي أيوب بن أبي تميمة السختياني وقيل سنة تسع وعشرين وعمره ثلاث وستون سنة وإسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة الأنصاري وقيل سنة اثنتين وثلاثين ومائة وقيل سنة أربع وثلاثين ومائة ويكنى أبا نجيح وفيها توفي محمد بن مخرمة بن سليمان وله سبعون سنة وأبو وجرة السعدي يزيد بن عبيد وأبو الحويرث ويزيد بن أبي مالك الهمداني ويزيد بن رومان وعكرمة بن عبد الرحمن ابن الحرث بن هشام وعبد العزيز بن رفيع بضم الراء المهملة وفتح الفاء وبالعين المهملة وهو أبو عبد الله المكي الفقيه وكان قد قارب مائة سنة وكان لا يثبت معه امرأة لكثرة نكاحه وإسماعيل بن أبي حكيم كاتب عمر بن عبد العزيز ويزيد بن أبان وهو المعروف بيزيد الرشك وكان قساما بالبصرة وحفص بن سليمان بن المغبرة وكان مولده سنة ثمانين يروي قراءة عاصم عنه.
394

131
ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين ومائة
ذكر موت نصر بن سيار
وفي هذه السنة مات نصر بن سيار بساوة قرب الري.
وكان سبب مسيره إليها أن نصرا سار بعد قتل نباتة إلى خوار الري وأميرها أبو بكر العقيلي ووجه قحطبة ابنه الحسن إلى نصر في المحرم من سنة إحدى وثلاثين ومائة ثم وجه أبا كامل وأبا القاسم محرز بن إبراهيم وأبا العباس المروزي إلى الحسن ابنه فلما كانوا قريبا من الحسن انحاز أبو كامل وترك عسكره واتى نصرا فصار معه واعلمه مكان الجند الذين فارقهم.
فوجه إليهم نصر جندا فهرب جند قحطبة منهم وخلفوا شيئا من متاعهم فأخذه أصحاب نصر فبعث به نصر إلى ابن هبيرة فعرض له ابن غطيف بالري فاخذ الكتاب من رسول نصر والمتاع وبعث به إلى ابن هبيرة فغضب نصر وقال أما والله لأعدن ابن هبيرة فليعرفن أنه ليس بشيء ولا ابنه.
وكان ابن غطيف في ثلاثة آلاف قد سيره ابن هبيرة إلى نصر فأقام بالري فم يأت نصرا وسار نصر حتى نزل الري وعليها حبيب بن يزيد النهشلي فلما قدمها نصر سار ابن غطيف منها إلى همذان وفيها مالك ابن أدهم بن محرز الباهلي فعدل ابن غطيف عنها إلى أصبهان إلى عامر بن ضبارة فلما قدم نصر الري أقام بها يومين ثم مرض وكان يحمل
395

حملا، فلما بلغ ساوة مات فلما مات دخل بها أصحابه همذان.
وكانت وفاته لمضي اثنتي عشرة ليلة من شهر ربيع الأول وكان عمره خمسا وثمانين سنة وقيل أن نصرا لما سار من خوار الري متوجها نحو الري لم يدخل الري ولكنه سلك المفازة التي بين الري وهمذان فمات بها.
ذكر دخول قحطبة الري
ولما مات نصر بن سيار بعث الحسن بن قحطبة خزيمة بن خازم إلى سمنان واقبل قحطبة من جرجان وقدم أمامه زياد بن زرارة القشيري وكان قد ندم على اتباع أبي مسلم فانخزل عن قحطبة فاخذ طريق أصبهان يريد أن يأتي عامر بن ضبارة فوجه قحطبة المسيب بن زهير إلى قحطبة.
ثم سار قحطبة إلى قومس وبها ابنه الحسن وقدم خزيمة بن خازم سمنان فقدم قحطبة ابنه الحسن إلى الري.
وبلغ حبيب ابن يزيد النهشلي ومن معه من أهل الشام مسير الحسن فخرجوا عن الري ودخل الحسن في صفر فأقام حتى قدم أبوه ولما قدم قحطبة الري كتب إلى أبي مسلم يعلمه بذلك.
ولما استقر أمر بني العباس بالري هرب أكثر أهلها لميلهم إلى بني أمية لأنهم كانوا سفيانية فأمر أبو مسلم بأخذ أملاكهم وأموالهم ولما عادوا من الحج أقاموا بالكوفة سنة اثنتين وثلاثين ومائة ثم كتبوا إلى السفاح يتظلمون من أبي مسلم فأمر برد أملاكهم فأعاد أبو مسلم الجواب يعرف حالهم وأنهم
396

أشد الأعداء فلم يسمع قوله وعزم على أبي مسلم برد املاكهم، ففعل.
ولما دخل قحطبة الري وأقام بها اخذ أمره بالحزم والاحتياط والحفظ وضبط الطرق وكان لا يسلكها أحد إلا بجواز منه فأقام بالري وبلغه أن بدستبى قوما من الخوارج وصعاليك تجمعوا بها فوجه إليهم أبا عون في عسكر كثيف فنازلهم ودعاهم إلى كتاب الله وسنة رسوله وإلى الرضا من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجيبوه فقاتلهم قتالا شديدا حتى ظفر بهم فتحصن عدة منهم حتى أمنهم أبو عون فخرجوا إليه وأقام معه بعضهم وتفرق بعضهم.
وكتب أبو مسلم إلى اصبهبذ طبرستان يدعوه إلى الطاعة وأداء الخراج فأجابه إلى ذلك؛ وكتب إلى المصمغان صاحب دنباوند بمثل ذلك فأجابه إنما أنت خارجي وان أمرك سينقضي.
فغضب أبو مسلم وكتب إلى موسى بن كعب وهو بالري يأمره بالمسير إليه وقتاله إلى أن يذعن بالطاعة فسار إليه وراسله فامتنع من الطاعة وأداء الخراج فأقام موسى ولم يتمكن من المصمغان لضيق بلاده وكان المصمغان يرسل إليه كل يوم عدة كثيرة من الديلم يقاتله في عسكره واخذ عليه الطرق ومنع الميرة وكثرت في أصحاب موسى الجراح والقتل.
فلما رأى أنه لا يبلغ غرضا عاد إلى الري ولم يزل المصمغان ممتنعا إلى أيام المنصور فأغزاه جيشا كثيفا عليهم حماد بن عمرو ففتح دنباوند على يده ولما ورد كتاب قحطبة على أبي مسلم بنزوله الري ارتحل أبو مسلم فيما ذكر عن مرو فنزل نيسابور.
وأما قحطبة فإنه سير ابنه الحسن بعد نزوله الري بثلاث ليال إلى همذان فلما توجه إليها سار عنها مالك بن أدهم ومن كان بها من أهل الشام وأهل
397

خراسان إلى نهاوند فأقام بها وفارقه ناس كثير ودخل الحسن همذان وسار منها إلى نهاوند فنزل على أربعة فراسخ من المدينة فأمده قحطبة بابي الجهم بن عطية مولى بأهلة في سبعمائة وأطال حتى أطاف بالمدينة وحصرهم.
ذكر قتل عامر بن ضبارة ودخول قحطبة أصبهان
وكان سبب قتله تن عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر لما هزمه ابن ضبارة مضى هاربا نحو خراسان وسلك إليها طريق كرمان وسار عامر في أثره وبلغ ابن هبيرة مقتل نباتة بن حنظلة بجرجان فلما بلغه خبره كتب إلى ابن ضبارة وإلى ابنه داود بن يزيد ابن عمر بن هبيرة أن يسيرا إلى قحطبة وكان بكرمان فسارا في خمسين ألفا فنزلوا بأصبهان وكان يقال لعسكر ابن ضبارة عسكر العساكر.
فبعث قحطبة إليهم جماعة من القواد وعليهم جميعا مقاتل بن حكيم العكي فساروا حتى نزلوا قم.
وبلغ ابن ضبارة نزول الحسن بن قحطبة يعلمه بذلك فاقبل قحطبة من الري حتى لحق مقاتل بن حكيم العكي ثم سار فالتقوا هم وابن ضبارة وداود بن يزيد بن هبيرة وكان عسكر قحطبة عشرين ألفا فيهم خالد بن برمك وكان عسكر ابن ضبارة مائة ألف وقيل خمسين ومائة ألف فأمر قحطبة بمصحف فنصب على رمح ونادى يا أهل الشام أنا ندعوكم إلى ما في هذا المصحف فشتموه وأفحشوه في القول.
فأرسل قحطبة إلى أصحابه يأمرهم بالحملة فحمل عليهم العكي،
398

وتهايج الناس ولم يكن بينهم كثير قتال حتى انهزم أهل الشام وقتلوا قتلا ذريعا وانهزم ابن ضبارة حتى دخل عسكره وتبعه قحطبة فنزل ابن ضبرة ونادى إلي إلي فانهزم الناس عنه وانهزم داود بن هبيرة فسال عن ابن ضبارة فقيل انهزم فقال لعن الله شرنا منقلبا وقاتل حتى قتل.
وأصابوا عسكره واخذوا منه ما لا يعلم قدره من السلاح والمتاع والرقيق والخيل وما رؤي عسكر قط كان فيه من أصناف الأشياء ما في هذا العسكر كأنه مدينة وكان فيه من البرابط والطنابير والمزامير والخمر ما لا يحصى.
وأرسل قحطبة بالظفر إلى ابنه الحسن وهو بنهاوند وكانت الوقعة بنواحي أصبهان في رجب.
ذكر محاربة قحطبة أهل نهاوند ودخولها
ولما قتل ابن ضبارة كتب قحطبة بذلك إلى ابنه الحسن وهو يحاضر نهاوند فلما أتاه الكتاب كبر هو وجنده ونادوا بقتله فقال عاصم بن عمير السعدي ما نادى هؤلاء بقتله إلا وهو حق فأخرجوا إلى الحسن بن قحطبة فإنكم لا تقومون له فتذهبون حيث شئتم قبل أن يأتيه أبوه أو مدد من عنده.
فقالت الرجالة: تخرجون وأنتم فرسان على خيول وتتركوننا وقال له مالك بن أدهم الباهلي لا أبرح حتى يقدم علي قحطبة.
وأقام قحطبة على أصبهان عشرين يوما ثم سار فقدم على ابنه بنهاوند فحصرهم ثلاثة اشهر شعبان رمضان وشوال ووضع عليهم المجانيق،
399

وأرسل إلى من بنهاوند من أهل خراسان يدعوهم إليه وأعطاهم الأمان فأبوا ذلك.
ثم أرسل إلى أهل الشام بمثل ذلك فأجابوه وقبلوا أمانه وبعثوا إليه يسألونه أن يشغل عنهم أهل المدينة بالقتال ليفتحوا له الباب الذي يليهم ففعل ذلك قحطبة وقاتلهم ففتح أهل الشام الباب فخرجوا فلما رأى أهل خراسان ذلك سألوهم عن خروجهم فقالوا: أخذنا الأمان لنا ولكم فخرج رؤساء أهل خراسان فدفع قحطبة كل رجل منهم إلى قائد من قواده ثم أمر فنودي من كان بيده أسير ممن خرج إلينا فليضرب عنقه وليأتنا برأسه ففعلوا ذلك فلم يبق أحد ممن كان قد هرب من أبي مسلم إلا قتل إلا أهل الشام فإنه وفى لهم وخلى سبيلهم واخذ عليهم أن لا يمالئوا عليه عدوا ولم يقتل منهم أحدا.
وكان ممن قتل من أهل خراسان أبو كامل وحاتم بن الحرث بن سريج وابن نصر بن سيار وعاصم بن عمير وعلي بن عقيل وبيهس ولما حاصر قحطبة نهاوند أرسل ابنه الحسن إلى مرج القلعة فقدم الحسن خازم بن خزيمة إلى حلوان وعليها عبد الله بن العلاء الكندي فهرب من حلوان وخلاها.
ذكر فتح شهر زور
ثم أن قحطبة وجه أبا عون عبد الملك بن يزيد الخراساني ومالك بن طرافة الخراساني في أربعة آلاف إلى شهروز وبها عثمان بن سفيان على مقدمة عبد الله بن مروان بن محمد فنزلوا على فرسخين من شهر زور في العشرين
400

من ذي الحجة وقاتلوا عثمان بعد يوم وليلة من نزولهم فانهزم أصحاب عثمان وقتل وأقام أبو عون في بلاد الموصل.
وقيل أن عثمان لم يقتل ولكنه هرب إلى عبد الله بن مروان وغنم أبو عون عسكره وقتل من أصحابه مقتلة عظيمة وسير قحطبة العساكر إلى أبو عون فاجتمع معه ثلاثون ألفا.
ولما بلغ خبر أبو عون مروان بن محمد وهو بحران سار منها ومعه جنود أهل الشام والجزيرة والموصل وحشر معه بنو أمية أبناءهم واقبل نحو أبو عون حتى نزل الزاب الأكبر وأقام أبو عون بشهرزور بقية ذي الحجة والمحرم من سنة اثنتين وثلاثين ومائة وفرض بها خمسة آلاف.
ذكر مسير قحطبة إلى ابن هبيرة بالعراق
ولما قدم على يزيد بن عمر بن هبيرة أمير العراق ابنه داود منهزما من حلوان خرج يزيد نحو قحطبة في عدد كثير لا يحصى ومعه حوثرة بن سهيل الباهلي وكان مروان أمد به ابن هبيرة وسار ابن هبيرة حتى نزل جلولاء الوقيعة واحتفر الخندق الذي كانت العجم احتفروه أيام وقعة جلولاء وأقام واقبل قحطبة حتى نزل قرماسين ثم سار إلى حلوان إلى خانقين واتى عكبراء وعبر دجلة ومضى حتى نزل دمما دون الأنبار وارتحل ابن هبيرة بمن معه منصرفا مبادرا إلى الكوفة لقحطبة وقدم حوثرة في خمسة عشر ألفا إلى الكوفة.
وقيل أن حوثرة لم يفارق ابن هبيرة.
وأرسل قحطبة طائفة من أصحابه إلى الأنبار وغيرها وأمرهم بإحدار ما
401

فيها من السفن إلى دمما ليعبروا الفرات فحملوا إليه كل سفينة هناك فقطع قحطبة الفرات من دمما حتى صار في غريبه ثم سار يريد الكوفة حتى انتهى إلى الموضع الذي فيه ابن هبيرة وخرجت السنة.
ذكر عدة حوادث
وحج بالناس الوليد بن عروة بن محمد بن عطية السعدي وهو ابن أخي عبد الملك بن محمد الذي قتل أبا حمزة وكان هو على الحجاز ولما بلغ الوليد قتل عمه عبد الملك مضى إلى الذين قتلوه فقتل منهم مقتلة عظيمة وبقر بطون نسائهم وقتل الصبيان وحرق بالنار من قدر عليه منهم.
وكان على العراق يزيد [بن عمر] بن هبيرة وعلى قضاء الكوفة الحجاج بن عاصم المحاربي وعلى قضاء البصرة عباد بن منصور الناجي.
وفيها توفي منصور بن المعمر السلمي أبو عتاب الكوفي. وفيها قتل أبو مسلم الخراساني جبلة بن أبي داود العتكي مولاهم أخا عبد العزيز ابن داود ويكنى أبا مروان.
402

132
ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين ومائة
ذكر هلاك قحطبة وهزيمة ابن هبيرة
وفي هذه السنة هلك قحطبة بن شبيب.
وكان سبب ذلك أن قحطبة لما عبر الفرات وصار في غريبه وذلك في المحرم لثمان مضين منه وكان ابن هبيرة قد عسكر على فم الفرات من أرض الفلوجة العليا على راس ثلاثة وعشرين فرسخا من الكوفة وقد اجتمع إليه فل بن ضبارة فأمده مروان بحوثرة الباهلي فقال حوثرة وغيره لابن هبيرة أن قحطبة قد مضى يريد الكوفة فاقصد أنت خراسان ودعه ومروان فإنك تكسره وبالحرب أن يتبعك قال ما كان ليتبعني ويدع الكوفة ولكن الرأي أن أبادره إلى الكوفة فعبر دجلة من المدائن يريد الكوفة فاستعمل على مقدمته حوثرة وأمره بالمسير إلى الكوفة والفريقان يسيران على جانبي الفرات وقال قحطبة أن الإمام أخبرني أن [لي] في هذا المكان وقعة يكون النصر [فيها] لنا.
ونزل قحطبة الجبارية وقد دلوه على مخاضة فعبر منها وقاتل حوثرة ومحمد بن نباتة فانهزم أهل الشام وفقدوا قحطبة فقال أصحابه من كان عنده عهد من قحطبة فليخبرنا به. فقال مقاتل بن مالك العتكي سمعت قحطبة يقول أن حدث بي حدث فالحسن ابني أمير الناس.
فبايع الناس حمد بن قحطبة لأخيه الحسن وكان قد سيره أبوه في
403

سرية فأرسلوا إليه فأحضروه وسلموا إليه الأمر.
ولما فقدوا قحطبة بحثوا عنه فوجدوه في جدول وحرب بن سالم بن أحوز قتيلين فظنوا أن كل واحد منهما قتل صاحبه.
وقيل: أن معن بن زائدة ضرب قحطبة لما عبر الفرات على جبل عاتقه فسقط في الماء فأخرجوه فقال شدوا يدي إذا أنا مت وألقوني في الماء لئلا يعلم الناس بقتلي.
وقاتل أهل خراسان فانهزم محمد بن نباتة وأهل الشام ومات قحطبة وقال قبل موته إذا قدمتم الكوفة فوزير آل محمد أبو سلمة الخلال فسلموا هذا الأمر إليه.
وقيل: بل غرق قحطبة.
ولما انهزم ابن نباتة وحوثرة لحقوا بابن هبيرة فانهزم ابن هبيرة بهزيمتهم ولحقوا بواسط وتركوا عسكرهم وما فيه من الأموال والسلاح وغير ذلك ولما قام الحسن بن قحطبة بالأمر أمر بإحصاء ما في العسكر.
وقيل: أن حوثرة كان بالكوفة فبلغه هزيمة ابن هبيرة فسار إليه فيمن معه.
ذكر خروج محمد بن خالد بالكوفة مسودا
وفي هذه السنة خرج محمد بن خالد بن عبد الله القسري بالكوفة وسود قبل أن يدخلها الحسن بن قحطبة وأخرج عنها عامل ابن هبيرة ثم دخلها الحسن.
404

وكان من خبره أن محمدا خرج بالكوفة ليلة عاشوراء مسودا وعلى الكوفة زياد بن صالح الحارثي وعلى شرطه عبد الرحمن بن بشير العجلي وسار محمد إلى القصر فارتحل زياد ومن معه من أهل الشام ودخل محمد القصر وسمه حوثرة الخبر فسار نحو الكوفة فتفرق عن محمد عامة من معه لما بلغهم الخبر وبقي في نفر يسير من أهل الشام ومن اليمانيين من كان هرب من مروان وكان معه مواليه وأرسل أبو سلمة الخلال ولم يظهر بعد إلى محمد يأمره بالخروج من القصر تخوفا عليه من حوثرة ومن
معه.
ولم يبلغ أحدا من الفريقين هلاك قحطبة فأبى محمد أن يخرج وبلغ حوثرة تفرق أصحاب محمد عنه فتهيأ للمسير نحوه.
فبينا محمد في القصر إذ أتاه بعض طلائعه فقال له قد جاءت خيل من أهل الشام فوجه إليهم عدة من مواليه فناداهم الشاميون نحن بجيلة وفينا مليح بن خالد البجلي جئنا لندخل في طاعة الأمير فدخلوا ثم جاءت خيل أعظم من تلك فيها جهم بن الاصفح الكناني ثم جاءت خيل أعظم منها مع رجل من آل بحدل فلما رأى ذلك حوثرة من صنع أصحابه ارتحل نحو واسط بمن معه وكتب محمد بن خالد من ليلته إلى قحطبة وهو لا يعلم بهلاكه يعلمه أنه قد ظفر بالكوفة.
فقدم القاصد على الحسن بن قحطبة فلما دفع إليه كتاب محمد بن خالد قراه على الناس ثم ارتحل نحو الكوفة فأقام محمد بالكوفة يوم الجمعة ويوم السبت والأحد وصبحه الحسن يوم الاثنين.
وقد قيل أن الحسن بن قحطبة اقبل نحو الكوفة بعد هزيمة ابن هبيرة وعليها عبد الرحمن بن بشير العجلي فهرب عنها. فسود محمد بن خالد وخرج
405

في أحد عشر رجلا وبايع الناس ودخلها الحسن من الغد فلما دخلها الحسن هو وأصحابه أتوا أبا سلمة وهو في بني سلمة فاستخرجوه فعسكر بالنخيلة يومين ثم ارتحل إلى حمام أعين ووجه الحسن بن قحطبة إلى واسط لقتال ابن هبيرة وبايع الناس أبا سلمة حفص بن سليمان مولى السبيع وكان يقال له وزير آل محمد واستعمل محمد بن خالد بن عبد الله على الكوفة وكان يقال له الأمير حتى ظهر أبو العباس السفاح.
ووجه ابن قحطبة إلى المدائن في قراد وبعث المسيب بن زهير وخالد بن برمك إلى ديرقني وبعث المهلبي وشراحيل إلى عين التمر وبسام بن إبراهيم بن بسام إلى الأهواز وبها عبد الواحد عمر بن هبيرة فلما أتى بسام الأهواز خرج عنها عبد الواحد إلى البصرة بعد أن قاتله وهزمه بسام وبعث إلى البصرة سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلب عاملا عليها فقدمها وكان عليها سلم بن قتيبة الباهلي عاملا لابن هبيرة وقد بحق عبد الواحد بن هبيرة كما تقدم ذكره.
فأرسل سفيان بن معاوية إلى سلم يأمره بالتحول من دار الإمارة ويعلمه ما أتاه من رأي أبي سلمة وامتنع وجمع معه قيسا ومضر وغيرهم واتاهم قائد من قواد ابن هبيرة كان بعثه مددا لسلم في الفي رجل من كلب فأتى سلم سوق الإبل ووجه الخيول في شكك البصرة ونادى من جاء برأس فله خمسمائة ومن جاء بأسير فله ألف درهم.
ومضى معاوية بن سفيان بن معاوية في ربيعة وخاصته فلقيه خيم تميم فقتل معاوية وأتي برأسه إلى سلم فأعطى قاتله عشرة آلاف وانكسر سفيان بقتل ابنه فانهزم وقدم على سلم بعد ذلك أربعة آلاف من عند مروان فأرادوا نهب من بقي من الأزد فقاتلهم قتالا شديدا وكثرت القتلى بينهم وانهزمت
406

الأزد، ونهبت دورهم، وسبيت نساؤهم وهدموا البيوت ثلاثة أيام ولم يزل سلم بالبصرة حتى أتاه قنل ابن هبيرة فشخص عنها واجتمع من بالبصرة من ولد الحرث بن عبد المطلب إلى محمد بن جعفر فولوه أمرهم فوليهم أياما يسيرة حتى قدم البصرة أبو مالك عبد الله بن أسيد الخزاعي من قبل أبي مسلم فلما قدم أبو العباس ولاها سفيان بن معاوية.
وكان حرب سفيان وسلم بالبصرة في صفر.
* * *
وفيها عزل مروان عن المدينة الوليد بن عروة واستعمل أخاه يوسف بن عروة في شهر ربيع الأول.
انقضت الدولة العباسية.
407

ذكر ابتداء الدولة العباسية وبيعة أبي العباس
في هذه السنة بويع أبو العباس عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بالخلافة في شهر ربيع الأول وقيل في ربيع الآخر لثلاث عشر مضت منه وقيل في جمادى الأولى.
وكان بدء ذلك وأوله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعلم العباس بن عبد المطلب أن الخلافة تؤول إلى ولده فلم يزل ولده يتوقعون ذلك ويتحدثون به بينهم.
ثم أن أبا هاشم بن الحنفية خرج إلى الشام فلقي محمد بن علي بن عبد الله بن عباس فقال له: [يا ابن عم إن عندي علما أنبذه إليك فلا تطلعن عليه أحدا]، أن هذا الأمر الذي يرتجيه الناس فيكم. [قال: قد علمت] فلا يسمعنه منكم أحد.
وقد تقدم في خبر ابن الأشعث قول خالد بن يزيد بن معاوية لعبد الملك بن مروان أما إذا كان الفتق من سجستان فليس عليك منه باس انما كنا نتخوف لو كان من خراسان.
وقال محمد بن علي بن عبد الله لنا ثلاثة أوقات موت الطاغية يزيد بن معاوية ورأس المائة وفتق أفريقية فعند ذلك يدعو لنا دعاة ثم قتل أنصارنا من المشرق حتى ترد خيلهم [المغرب] ويستخرجون ما كنز الجبارون.
فلما قتل يزيد بن أبي مسلم بأفريقية ونقضت البربر بعث إلى محمد بن علي إلى خراسان داعيا وأمره أن يدعو إلى الرضا ولا يسمي أحدا وقد ذكرنا فيما
408

تقدم خبر الدعاة وخبر أبي مسلم وقبض مروان على إبراهيم بن محمد وكان مروان لما راسل المقبض عليه وصف للرسول صفة أبي العباس لأنه كان يجد في الكتب أن من هذه صفته يقتلهم ويسلبهم ملكهم وقال له ليأتيه بإبراهيم بن محمد.
فقدم الرسول فاخذ أبا العباس بالصفة فلما ظهر إبراهيم فانطلق وأمن قيل للرسول إنما أمرت بإبراهيم وهذا عبد الله فترك أبا العباس واخذ إبراهيم فانطلق به إلى مروان فلما رآه قال ليس هذه الصفة التي وصفت لك فقالوا: قد رأينا الصفة التي وصفت وإنما سميت إبراهيم فهذا إبراهيم فأمر به فحبس وأعاد الرسل في طلب أبي العباس فلم
يروه.
وكان سبب مسيره من الحميمة أن إبراهيم لما أخذه الرسول نعى نفسه إلى أهل بيته وأمرهم بالمسير إلى الكوفة مع أخيه أبي العباس عبد الله بن محمد وبالسمع له وبالطاعة وأوصى إلى أبي العباس وجعله الخليفة بعده فسار أبو العباس ومن معه من أهل بيته ومنهم أخوه أبو جعفر المنصور وعبد الوهاب ومحمد ابنا أخيه إبراهيم وأعمامه داود وعيسى وصالح وإسماعيل وعبد الله وعبد الصمد بنو علي بن عبد الله بن عباس وابن عمه داود وابن أخيه عيسى بن موسى بن محمد بن علي ويحيى بن جعفر بن تمام بن عباس حتى قدموا الكوفة في صفر وشيعتهم من أهل خراسان بظاهر الكوفة بحمام أعين فأنزلهم أبو سلمة الخلال دار الوليد بن سعد مولى بني هاشم في بني داود وكتم أمرهم نحو من أربعين ليلة من جميع القواد والشيعة.
وأراد فيما ذكر أن يحول الأمر إلى آل أبي طالب لما بلغه الخبر عن موت
409

إبراهيم الإمام فقال له أبو الجهم ما فعل الإمام قال لم يقدم [بعد]. فالح عليه فقال ليس هذا وقت خروجه لأن واسطا لم تفتح بعد.
وكان أبو سلمة إذا سئل عن الإمام يقول لا تعجلوا فلم يزل ذلك من أمره حتى دخل أبو حميد محمد ابن إبراهيم الحميري من حمام أعين يريد الكناسة فلقي خادما لإبراهيم الإمام يقال له سابق الخوارزمي فعرفه فقال له ما فعل إبراهيم الإمام فأخبره أن مروان قتله وان إبراهيم أوصى إلى أخيه أبي العباس واستخلفه من بعده وانه قدم الكوفة ومعه عامة أهل بيته فسأله أبو حميد أن ينطلق به إليهم فقال له سابق الموعد بيني وبينك غدا في هذا الموضع وكره سابق أن يدله عليهم إلا بإذنهم.
فرجع أبو حميد من الغد إلى الموضع الذي وعد فيه سابقا فلقيه فانطلق به إلى أبي العباس وأهل بيته فلما دخل عليهم سال أبو حميد من الخليفة منهم فقال داود بن علي هذا أمامكم وخليفتكم وأشار إلى أبي العباس فسلم عليه بالخلافة وقبل يديه ورجليه وقال مرنا بأمرك وعزاه بإبراهيم الإمام.
ثم رجع وصحبه إبراهيم بن سلمة رجل كان يخدم بني العباس إلى أبي الجهم فأخبره عن منزلهم وان الإمام أرسل إلى أبي سلمة رجل كان يخدم بني العباس إلى أبي الجهم فأخبره عن منزلهم وان الإمام أرسل إلى أبي سلمة يسأله مائة دينار يعطيها الجمال كراء الجمال التي حملتهم فلم يبعث بها إليهم فمشى أبو الجهم وأبو احمد وإبراهيم بن سلمة إلى موسى بن كعب وقصوا عليه القصة وبعثوا إلى الإمام بمائتي دينار مع إبراهيم بن سلمة واتفق رأي جماعة من
410

القواد على أن يلقوا الإمام؛ فمضى موسى بن كعب وأبو الجهم وعبد الحميد بن ربعي وسلمة بن محمد وإبراهيم بن سلمة وعبد الله الطائي وإسحاق بن إبراهيم وشراحيل وعبد الله بن بسام وأبو حميد محمد بن إبراهيم وسليمان بن الأسود ومحمد بن الحصين إلى الإمام أبي العباس.
وبلغ ذلك أبا سلمة فسال عنهم فقيل انهم دخلوا الكوفة في حاجة لهم واتى القوم أبا العباس فقال وأيكم عبد الله بن محمد بن الحارثية فقالوا: هذا فسلموا عليه بالخلافة وعزوه في إبراهيم ورجع موسى بن كعب وأبو الجهم وأمر أبو الجهم الباقين فتخلفوا عند الإمام فأرسل أبو سلمة إلى أبي الجهم أين كنت قال ركبت إلى أمامي فركب أبو سلمة إلى الإمام فأرسل أبو الجهم إلى أبي حميد أن أبا سلمة قد أتاكم فلا يدخلن على الإمام إلا وحده فلما انتهى إليهم ابن سلمة منعوه أن يدخل معه أحد فدخل وحده فسلم بالخلافة على أبي العباس فقال أبو حميد على رغم انفك يا ماص بظر أمه فقال له أبو العباس مه وأمر أبا سلمة بالعود إلى معسكره فعاد.
وأصبح الناس يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول فلبسوا السلاح واصطفوا لخروج أبي العباس وأتوا بالدواب فركب برذونا أبلق وركب من معه من أهل بيته فدخلوا دار الإمارة ثم خرج إلى المسجد فخطب وصلى بالناس ثم صعد المنبر حين بويع له بالخلافة فقام في أعلاه وصعد عمه داود بن علي فقام دونه فتكلم أبو العباس فقال:
الحمد لله الذي اصطفى الإسلام لنفسه وكرمه وشرفه وعظمه واختاره لنا فأيده بنا وجعلنا أهله وكهفه وحصنه والقوام به والذابين عنه والناصرين له فالزمنا كلمة التقوى وجعلنا أحق بها وأهلها وخصنا برحم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرابته وأنشأنا من آبائنا وأنبتنا من شجرته،
411

واشتقنا من نبعته، جعله من أنفسنا عزيزا عليه ما عنتنا حريصا علينا بالمؤمنين رؤوفا رحيما ووضعنا من الإسلام وأهله بالموضع الرفيع وانزل بذلك على أهل الإسلام كتابا يتلى عليهم فقال تبارك وتعالى فيما انزل من محكم كتابه: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا)؛ وقال تعالى: (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى)؛ وقال: (وأنذر عشيرتك الأقربين)؛ وقال: (وما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى) وقال: (واعلموا انما غنمتم من شيء فان لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى) فأعلمهم جل ثناؤه فضلنا وأوجب عليهم حقنا ومودتنا وأجزل من الفيء والغنيمة نصيبنا تكرمة لنا وفضلا علينا والله ذو الفضل العظيم.
وزعمت الشامية الضلال أن غيرنا أحق بالرياسة والسياسة والخلافة منا فشاهت وجوههم بم ولم أيها الناس وبنا هدى الله الناس بعد ضلالتهم وبصرهم بعد جهالتهم وأنقذهم بعد هلكتهم واظهر بنا الحق ودحض الباطل وأصلح بنا منهم ما كان فاسدا ورفع بنا الخسيسة وتمم بنا النقيصة وجمع الفرقة حتى عاد الناس بعد العداوة وأهل التعاطف والبر والمواساة في دنياهم وإخوانا على سرر متقابلين في آخرتهم فتح الله ذلك منة وبهجة لمحمد فلما قبضه الله إليه وقام بالأمر
412

من بعده أصحابه وأمرهم شورى بينهم فحرووا مواريث الأمم فعدلوا فيها ووضعوها مواضعها وأعطوها أهلها وخرجوا خماصا منها ثم وثب بنو حرب وبنو مروان فانبذوها وتداولوها فجاروا فيها واستأثروا بها وظلموا أهلها بما ملأ الله لهم حينا حتى آسفوه فلما آسفوه انتقم منهم بأيدينا ورد علينا حقنا وتدارك بنا أمتنا وولي نصرنا والقيام بأمرنا ليمن بنا على الذين استضعفوا في الأرض وختم بنا كما افتتح بنا.
وأنى لأرجو أن لا يأتيكم الجور من حيث جاءكم الخير ولا الفساد من حيث جاءكم الصلاح وما توفيقنا أهل البيت إلا بالله.
يا أهل الكوفة أنت محل محبتنا ومنزل مودتنا أنتم الذين لم تتغيروا عن ذلك ولم يثنكم عنه تحامل أهل الجور عليكم حتى أدركتم زماننا وأتاكم الله بدولتنا فأنتم أسعد الناس بنا وأكرمهم علينا وقد زدتكم غي أعطياتكم مائة درهم فاستعدوا فأنا السفاح المبيح، والثائر المبير.
وكان موعوكا فاشتد عليه الوعك فجلس على المنبر وقام عمه داود على مراقي المنبر فقال الحمد لله شكرا الذي أهلك عدونا وأصار إلينا ميراثنا من نبينا محمد.
أيها الناس الآن أقشعت حنادس الدنيا وانكشف غطاؤها وأشرقت أرضها وسماؤها وطلعت الشمس من مطلعها وبزغ القمر من مبزغه،
413

واخذ القوس باريها وعاد السهم إلى منزعه ورجع الحق إلى نصابه في أهل بيت نبيكم أهل الرأفة والرحمة بكم والعطف عليكم.
أيها الناس! أنا والله ما خرجنا في طلب هذا الأمر لنكثر لجينا ولا عقيانا ولا نحفر نهرا ولا نبني قصرا وإنما أخرجتنا الآنفة من ابتزازهم حقنا والغضب لبني عمنا وما كرهنا من أموركم فلقد كانت أموركم ترفضنا ونحن على فرشنا ويشتد علينا سوء سيرة بني أمية فيكم واستنزالهم لكم واستئثارهم بفيئكم وصدقاتكم ومغانمكم عليكم لكم ذمة الله تبارك وتعالى.
وذمة رسوله وذمة العباس رحمة الله علينا أن نحكم فيكم بما انزل الله ونعمل فيكم بكتاب الله ونسير في العامة والخاصة بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم تبا تبا لبني حرب بن أمية وبني مروان آثروا في مدتهم العاجلة على الآجلة والدار الفانية على الدار الباقية فركبوا الآثام وظلموا الأنام وانتهكوا المحارم وغشوا بالجرائم وجاروا في سيرتهم في العباد وسنتهم في البلاد ومرحوا في أعنة المعاصي وركضوا في ميدان الغي جهلا باستدراج الله وأمنا لمكر الله فأتاهم باس الله بياتا وهم نائمون فأصبحوا أحاديث ومزقوا كل ممزق فبعدا للقوم الظالمين وأدالنا الله من مروان وقد غره عليه فنادى حزبه وجمه مكايده ورمى بكتائبه فوجد أمامه ووراءه وعن يمينه وشماله من مكر الله
414

وبأسه ونقمته ما أمات باطله ومحا ضلاله وجعل دائرة السوء به وأحيا شرفنا وعزنا ورد إلينا حقنا وإرثنا.
أيها الناس أن أمير المؤمنين نصره الله نصرا عزيزا إنما عاد إلى المنبر بعد الصلاة لأنه كاره أن يخلط بكلام الجمعة غيره وإنما قطعه عن استتمام الكلام شدة الوعك فادعوا الله لأمير المؤمنين بالعافية فقد بدلكم الله مروان عدو الرحمن وخليفة الشيطان المتبع السفلة الذين أفسدوا في الأرض بعد إصلاحها بإبدال الدين وانتهاك حريم المسلمين الشباب المكتمل المتمهل المقتدي بسلفة الأبرار الأخيار الذين اصلحوا الأرض بعد فسادها بمعالم الهدى ومناهج التقوى.
فعج الناس له بالدعاء، ثم قال:
يا أهل الكوفة! أنا والله ما زلنا مظلومين مقهورين على حقنا حتى أباح الله لنا شيعتنا أهل خراسان فأحيا بهم حقنا وابلج بهم حجتنا واظهر بهم دولتنا وأراكم الله بهم ما كنتم تنتظرون فاظهر فيكم الخليفة من هاشم وبيض به وجوهكم وأدالكم على أهل الشام ونقل إليكم السلطان واعزل الإسلام ومن عليكم بإمام منحه العدالة وأعطاه حسن الإيالة فخذوا ما آتاكم الله بشكر والزموا طاعتنا ولا تخدعوا عن أنفسكم فان الأمر أمركم وان لكم أهل بيت مصرا وإنكم مصرنا إلا وانه ما صعد منبركم هذا خليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وأمير المؤمنين عبد الله بن محمد وأشار بيده إلى أبي العباس السفاح.
واعلموا أن هذا الأمر فينا ليس بخارج منا حتى نسلمه إلى عيسى بن مريم عليه السلام والحمد لله على ما أبلانا وأولانا.
415

ثم نزل أبو العباس وداود بن علي إمامه حتى دخل القصر واجلس أخاه أبا جعفر المنصور يأخذ البيعة على الناس في المسجد فلم يزل يأخذها عليهم حتى صلى بهم العصر ثم المغرب وجنهم الليل فدخل.
وقي أن داود بن علي لما تكلم قال في آخر كلامه أيها الناس أنه والله كان بينكم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم خليفة إلا علي بن أبي طالب وأمير المؤمنين الذي خلفي.
ثم نزلا. وخرج أبو العباس بعسكر بحمام أعين في عسكر أبي سلمة ونزل معه في عمرته بينها ستر وحاجب السفاح يومئذ عبد الله بن بسام واستخلف على الكوفة وأرضها عمه داود بن علي وبعث عمه عبد الله بن علي إلى أبي عون بن يزيد بشهرزور وبعث ابن أخيه عيسى بن موسى إلى الحسن بن قحطبة وهو يومئذ يحاصر ابن هبيرة بواسط وبعث يحيى بن جعفر بن تمام بن عباس إلى حميد بن قحطبة بالمدائن وبعث أبا اليقظان عثمان بن عروة بن محمد بن عمار بن ياسر إلى بسام بن إبراهيم بن بسام بالأهواز وبعث سلمة بن عمرو بن عثمان إلى مالك بن الطواف.
وأقام السفاح بالعسكر أشهرا ثم ارتحل فنزل المدينة الهاشمية بقصر الإمارة وكان تنكر لأبي سلمة قبل تحوله حتى عرف ذلك.
وقد قيل: أن داود بن علي وابنه موسى لم يكونوا بالشام عند مسير بني العباس إلى العراق إنما كانا بالعراق أو بغيره فخرجا يريدان الشام فلقيهما أبو العباس وأهل بيته يريدون الكوفة بدومة الجندل فسألهم داود عن خبرهم فقص عليه أبو العباس قصتهم وانهم يردون الكوفة ليظهروا بها ويظهروا أمرهم فقال له داود يا أبا العباس تأتي الكوفة وشيخ بني أمية مروان بن محمد بحران مطل على العراق في أهل الشام والجزيرة وشيخ العرب يزيد بن عمر بن هبيرة بالعراق في جند العرب فقال يا عمي من أحب الحياة ذل؛
416

ثم تمثل بقول الأعشى:
(فما ميتة أن متها غير عاجز * بعار إذا ما غالت النفس غولها)
فالتفت داود إلى ابنه موسى فقال صدق والله ابن عمك فارجع بنا معه نعش أعزاء ونمت كرماء فرجعوا جميعا.
فكان عيسى بن موسى يقول إذا ذكر خروجهم من الحميمة يريدون الكوفة أن نفرا أربعة عشر رجلا خرجوا من دارهم وأهلهم يطلبون ما طلبنا لعظيمة همتهم كبيرة أنفسهم شديدة قلوبهم.
ذكر هزيمة مروان بالزاب
قد ذكرنا أن قحطبة أرسل أبا عون عبد الملك بن يزيد الأزدي إلى شهرزور وانه قتل عثمان بن سفيان وأقام بناحية الموصل وان مروان بن محمد سار إليه من حران حتى بلغ الزاب وحفر وكان في عشرين ومائة ألف وسار أبو عون إلى الزاب فوجه أبو سلمة إلى أبي عون عيينة بن موسى والمنهال بن فتان وإسحاق بن طلحة كل واحد في ثلاثة آلاف.
فلما ظهر أبو العباس بعث سلمة بن محمد في ألفين وعيد الله الطائي في
417

ألف وخمسمائة إلى أبي عون ثم قال من يسير إلى مروان من أهل بيتي فقال عبد الله بن علي أنا فسيره إلى أبي عون فقدم عليه فتحول أبو عون عن سرادقة وخلاه له وما فيه.
فلما كان لليلتين خلتا من جمادى الآخرة سنة اثنتين وثلاثين ومائة سال عبد الله ابن علي عن مخاضة فدل عليها بالتراب فأمر عيينة بن موسى فعبر في خمسة آلاف فانتهى إلى عسكر مروان فقاتلهم حتى أمسوا ورجع إلى عبد الله بن علي.
وأصبح مروان فعقد الجسر وعبر عليه فنهاه وزراؤه عن ذلك فلم يقبل وسير ابنه عبد الله فنزل أسفل من عسكر عبد الله بن علي فبعث عبد الله بن علي المخارق في أربعة آلاف نحو عبد الله بن مروان فسرح إليه ابن مروان الوليد بن معاوية بن مروان بن الحكم فالتقيا فانهزم أصحاب المخارق وثبت هو فاسر هو وجماعة وسيرهم إلى مروان مع رؤوس القتلى فقال مروان ادخلوا علي رجلا من الأسرى فأتوه بالمخارق وكان نحيفا فقال أنت المخارق قال لا أنا عبد من عبيد أهل العسكر قال فتعرف المخارق؟ قال نعم قال فانظر هل تراه في هذه الرؤوس فنظر إلى رأس منها فقال هو هذا فخلى سبيله فقال رجل مع مروان حين نظر المخارق وهو لا يعرفه لعن الله أبا مسلم حين جاءنا بهؤلاء يقاتلنا بهم.
وقيل: أن المخارق لما نظر إلى الرؤوس قال ما أرى رأسه فيها ولا أراه إلا قد ذهب فخلى سبيله.
ولما بلغت الهزيمة عبد الله بن علي أرسل إلى طريق المنهزمين من يمنعهم من دخول العسكر لئلا ينكر قومهم وأشار عليه أبو عون أن يبادر مروان بالقتال قبل أن يظهر أمر المخارق فيفت ذلك في أعضاد الناس فنادى فيهم
418

بلبس السلاح والخروج إلى الحرب فركبوا واستخلف على عسكره محمد بن صول وسار نحو مروان وجعل على ميمنته أبا عون وعلى ميسرته الوليد بن معاوية وكان عسكره عشرين ألفا وقيل اثني عشر ألفا وقيل غير ذلك.
فلما التقى العسكران قال مروان لعبد العزيز ابن عمر بن عبد العزيز أن زالت اليوم الشمس ولم يقاتلونا كنا الذين ندفعها إلى المسيح عليه السلام وان قاتلونا فاقبل الزوال فأنا لله وان إليه راجعون.
وأرسل مروان إلى عبد الله يسأله الموادعة فقال عبد الله كذب ابن زريق لا تزول الشمس حتى أوطأه الخيل أن شاء الله فقال مروان لأهل الشام قفوا لا تبدؤهم بالقتال وجعل ينظر إلى الشمس فحمل الوليد بن معاوية بن مروان بن الحكم وهو ختن مروان بن محمد على ابنته فغضب وشتمه، وقاتل ابن معاوية أبا عون فانحاز أبو عون إلى عبد الله بن علي فقال لموسى بن كعب يا عبد الله مر الناس فلينزلوا فنودي في الأرض فنزل الناس وأشرعوا الرماح وجثوا على الركب فقاتلوهم وجعل أهل الشام يتأخرون كأنهم يدفعون ومشى عبد الله بن علي فدعا وهو يقول يا رب حتى متى نقتل فيك ونادى يا أهل خراسان يا لثارات إبراهيم يا محمد يا منصور واشتد بينهم القتال. فقال مروان لقضاعة انزلوا فقالوا: قل لبني سليم فلينزلوا فأرسل إلى السكاسك أن احملوا فقالوا: قل لبني عامر فليحملوا فأرسل السكون أن احملوا فقالوا: قل لغطفان فليحملوا فقال لصحاب شرطته انزل فقال والله ما كنت لاجعل نفسي غرضا قال أما والله لاسوأنك!
419

فقال: وددت والله انك قدرت على ذلك.
وكان مروان ذلك اليوم لا يدبر شيئا إلا ما كان فيه الخلل فأمر بالأموال فأخرجت وقال للناس اصبروا وقاتلوا فهذه الأموال لكم فجعل ناس من الناس يصيبون من ذلك فقيل له: أن الناس قد مالوا على هذا المال ولا نأمنهم أن يذهبوا به فأرسل إلى ابنه عبد الله أن سر في أصحابك إلى قوم عسكرك فاقتل من اخذ من المال فامنعهم.
فمال عبد الله برايته وأصحابه فقال الناس الهزيمة الهزيمة فانهزم مروان وانهزموا وقطع الجسر وكان من غرق يومئذ أكثر ممن قتل.
فكان ممن غرق يومئذ إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك بن المخلوع فاستخرجوه في الغرقى فقرا عبد الله: (وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون) وقيل بل قتله عبد الله بن علي بالشام.
وقتل في هذه الوقعة سعيد بن هشام بن عبد الملك وقيل بل قتله عبد الله بالشام.
وأقام عبد الله بن علي في عسكره سبعة أيام فقال رجل من ولد سعيد بن العاص يعير مروان:
(لج الفرار بمروان فقلت له * عاد الظلوم ظليما همه الهرب)
(أين الفرار وترك الملك إذ ذهبت * عنك الهوينا فلا دين ولا حسب)
420

(فراشة الحلم فرعون العقاب وإن * تطلب نداه فكلب دونه كلب)
وكتب يومئذ عبد الله بن علي إلى السفاح بالفتح وحوى عسكر مروان بما فيه فوجد سلاحا كثيرا وأموالا ولم يجد فيه امرأة إلا جارية كانت لعبد الله بن مروان.
فلما أتى الكتاب السفاح صلى ركعتين ثم قال: (فلما فصل طالوت بالجنود قال أن الله مبتليكم بنهر - إلى قوله - وعلمه مما يشاء) وأمر لمن شهد الوقعة بخمسمائة دينار ورفع أرزاقهم إلى ثمانين.
وكانت هزيمة مروان بالزاب يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة وكان فيمن قتل معه يحيى بن معاوية بن هشام بن عبد الملك وهو أخو عبد الرحمن صاحب الأندلس فلما تقدم إلى القتال رأى عبد الله بن علي فتى عليه أبهة الشرف يقاتل مستقتلا فناداه يا فتى لك الأمان ولو كنت مروان بن محمد فقال أن لم أكنه فلست بدونه قال فلك الأمان ولو كنت من كنت فاطرق ثم قال:
(أذل الحياة وكره الممات * وكلا أراه طعاما وبيلا)
(فان لم يكن غير إحداهما * فسير إلى الموت سيرا جميلا)
ثم قاتل حتى قتل فإذا هو مسلمة بن عبد الملك.
421

ذكر قتل إبراهيم بن محمد بن علي الإمام
قد ذكرنا سبب حبسه واختلف الناس في موته فقيل أن مروان حبسه بحران وحبس سعيد بن هشام بن عبد الملك وابنيه عثمان ومروان وعبد الله بن عمر بن عبد العزيز والعباس بن الوليد بن عبد الملك وأبا محمد السفياني هلك منهم في وباء وقع بحران العباس بن الوليد وإبراهيم بن محمد بن عل الإمام وعبد الله بن عمر.
فلما كان قبل هزيمة مروان من الزاب بجمعة خرج سعيد بن هشام وابن عمه ومن معه من المحبوسين فقتلوا صاحب السجن وخرجوا فقتلهم أهل حران ومن فها من الغوغاء وكان فيمن قتل أهل حران شراحيل بن مسلمة بن عبد الملك وعبد الملك ابن بشر التغلبي وبطريق أرمينية الرابعة واسمه كوشان وتخلف أبو محمد السفياني في الحبس فلم يخرج فيمن خرج ومعه غيره لم يستحلوا الخروج من الحبس فقدم مروان منهزما من الزاب فجاء فخلى عنهم.
وقيل: أن مروان هدم على إبراهيم بيتا فقتله.
وقد قيل: إن شراحيل بن مسلمة بن عبد الملك كان محبوسا مع إبراهيم فكانا يتزاوران فصار بينهما مودة فأتى رسول من شراحيل إلى إبراهيم يوما بلبن فقال يقول لك أخوك أني شربت من هذا اللبن فاستطبته فأحببت أن تشرب منه فشرب منه فتكسر جسده من ساعته وكان يوما يزور فيه شراحيل فأبطأ عليه فأرسل إليه شراحيل انك قد أبطأت فما حبسك فأعاد إبراهيم إني لما شربت اللبن الذي أرسلت به قد أسهلني فأتاه شراحيل فقال والله الذي لا اله إلا هو ما شربت اليوم لبنا ولا أرسلت به إليك فأنا لله وأنا
422

إليه راجعون احتيل والله عليك فبات إبراهيم ليلته وأصبح ميتا من الغد فقال إبراهيم بن هرثمة يرثيه:
(قد كنت أحسبني جلدا فضعضعني * قبر بحران فيه عصمة الدين)
(فيه الإمام وخير الناس كلهم * بين الصفائح والأحجار والطين)
(فيه الإمام الذي عمت مصيبته * وعيلت كل ذي مال ومسكين)
(فلا عفا الله عن مروان مظلمة * لكن عفا الله عمن قال آمين)
وكان إبراهيم خيرا فاضلا كريما قدم المدينة مرة ففرق في أهلها مالا جليلا وبعث إلى عبد الله بن الحسن بن الحسن بخمسمائة دينار وبعث إلى جعفر بن محمد بألف دينار فبعث إلى جماعة العلويين بمال كثير فاتاه الحسين بن زيد بن علي وهو صغير فأجلسه في حجره قال من أنت قال أنا الحسين بن زيد بن علي فبكى حتى بل رداءه وأمر وكيله بإحضار ما بقي من المال فاحضر أربعمائة دينار فسلمها إليه وقال لو كان عندنا شيء آخر لسلمته إليك وسير معه بعض مواليه إلى أمه ريطة بنت عبد الملك بن محمد ابن الحنفية يعتذر إليها.
وكان مولده سنة اثنتين وثمانين، وأمه أم ولد بربرية اسمها سلمى. وكان ينبغي أن يقدم ذكر قتله على هزيمة مروان وانما قدمنا ذلك لتتبع الحادثة بعضها بعضا.
423

ذكر قتل مروان بن محمد بن مروان بن الحكم
وفي هذه السنة قتل مروان بن محمد وكان قتله ببوصير من أعمال مصر لثلاث بقين من ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائة.
وكان مروان لما هزمه عبد الله بن علي بالزاب أتى مدينة الموصل وعليها هشام بن عمرو التغلبي وبشر بن خزيمة الأسدي فقطعا الجسر فناداهم أهل الشام هذا أمير المؤمنين مروان فقالوا: كذبتم أمير المؤمنين لا يفر وسبه أهل الموصل وقالوا: يا جعدي يا معطل الحمد لله الذي أزال سلطانكم وذهب بدولتكم الحمد لله الذي أتانا بأهل بيت نبينا فلما سمع ذلك سار إلى بلد فعبر دجلة واتى حران وبها ابن أخيه أبان بن يزيد بن محمد بن مروان عامله عليها فأقام بها نيفا وعشرين يوما.
وسار عبد الله بن علي حتى أتى الموصل فدخلها وعزل عنها هشاما واستعمل عليها محمد بن صول ثم سار في اثر مروان بن محمد فلما دنا منه عبد الله حمل مروان أهله وعياله ومضى منهزما وخلف بمدينة حران ابن أخيه أبان بن يزيد وتحته أم عثمان ابنه مروان.
وقدم عبد الله بن علي حران فلقيه أبان مسودا مبايعا له فبايعه له ودخل في طاعته فأمنه ومن كان بحران والجزيرة.
ومضى مروان إلى حمص فلقيه أهلها بالسمع والطاعة فأقام بها يومين أو ثلاثة ثم سار منها فلما رأوا قلة من معه طمعوا فيه وقالوا: مرعوبا منهزما فاتبعوه بعد ما رحل عنهم فلحقوه على أميال فلما رأى غبرة الخيل كمن لهم فلما جاوزوا الكمين صافهم مروان فيمن معه وناشدهم فأبوا إلا قتاله فقاتلهم واتاهم الكمين من خلفهم فانهزم أهل حمص
424

وقتلوا حتى انتهوا إلى قريب المدينة.
واتى مروان دمشق وعليها الوليد بن معاوية بن مروان فخلفه بها وقال قتلهم حتى يجتمع أهل الشام ومضى مروان حتى أتى فلسطين فتزل نهر أبي فطرس وقد غلب على فلسطين الحكم بن ضبعان الجذامي فأرسل مروان إلى عبد الله بن يزيد بن روح بن زنباع الجذامي فأجاره وكان بيت المال في يد الحكم.
وكان السفاح قد كتب إلى عبد الله بن علي يأمره باتباع مروان فسار حتى أتى الموصل فتلقاه من بها مسودين وفتحوا له المدينة ثم سار إلى حران فتلقاه أبان بن يزيد مسودا كما تقدم فأمنه وخدم عبد الله الدار التي حبس فيها إبراهيم ثم سار من حران إلى منبج وقد سودوا فأقام بها وبعث إليه أهل قنسرين ببيعتهم وقدم عليه أخوه عبد الصمد بن علي أرسله السفاح مددا له في أربعة آلاف فسار عد قدوم عبد الصمد بيومين إلى قنسرين وكانوا قد سودوا فأقام بيومين ثم سار إلى حمص وبايع أهلها وأقام بها أياما ثم سار إلى بعلبك فأقام بيومين ثم سار فنزل مزة دمشق وهي قرية من قرى الغوطة وقدم عليه أخوه صالح بن علي مددا فنزل مرج عذراء في ثمانية آلاف ثم تقدم عبد الله فنزل على الباب الشرقي ونزل صالح على باب الجابية ونزل أبو عون على باب كيسان ونزل بسام بن إبراهيم على باب الصغير ونزل حميد بن قحطبة على باب توما وعبد الصمد ويحيى بن صفوان والعباس بن يزيد على باب الفراديس وفي دمشق الوليد بن معاوية فحصروه ودخلوها عنوة يوم الأربعاء لخمس مضين من شهر رمضان سنة اثنتين وثلاثين ومائة.
وكان أول من صعد سور المدينة من باب شرقي عبد الله الطائي، ومن
425

ناحية باب الصغير بسام بن إبراهيم فقاتلوا بها ثلاث ساعات وقتل الوليد ابن معاوية فيمن قتل.
وأقام عبد الله بن علي في دمشق خمسة عشر يوما ثم سار يريد فلسطين فلقيه أهل الأردن وقد سودوا واتى نهر أبي فطرس وقد ذهب مروان فأقام عبد الله لفلسطين ونزل بالمدينة يحيى بن جعفر الهاشمي فاتاه كتاب السفاح يأمره بإرسال صالح بن علي في طلب مروان فار صالح من نهر أبي فطرس في ذي القعدة سنة اثنتين وثلاثين ومائة ومعه ابن فتان وعامر ابن إسماعيل فقدم صالح أبا عون وعامر ابن إسماعيل الحارثي فساروا حتى بلغوا العريش فاحرق مروان ما كان حوله من علف وطعام.
وسار صالح فنزل النيل ثم سار حتى أتى الصعيد وبلغه أن خيلا لمروان يحرقون الأعلاف فوجه إليهم فاخذوا وقدم بهم على صالح وهو بالفسطاط وسار فنزل موضعا يقال له ذات السلاسل وقدم أبو عون عامر بن إسماعيل الحارثي وشعبة بن كثير المازني في خيل أهل الموصل فلقوا خيلا لمروان فهزموهم وأسروا منهم رجالا فقتلوا بعضا واستحيوا بعضا فسألوهم عن مروان فأخبروهم بمكانه على أن يؤمنوهم وساروا فوجدوه نازلا في كنيسة في بوصير فوافوه ليلا وكان أصحاب أبي عون قليلين فقال لهم عامر بن إسماعيل أن أصبحنا ورأوا قلتنا أهلكونا ولم ينج منا أحد وكسر جفن سيفه وفعل أصحابه مثله وحملوا على أصحاب مروان فانهزموا وحمل رجل على مروان فطعنه وهو لا يعرفه وصاح صائح صرع أمير المؤمنين فابتدروه فسبق إليه رجل من أهل الكوفة كان يبيع الرمان فاحتز
426

رأسه، فأخذه عامر فبعث به إلى أبي عون، وبعثه أبو عون إلى صالح.
فلما وصل إليه أمر أن يقص لسانه فانقطع لسانه فأخذه مر فقال صالح ماذا ترينا الأيام من العجائب والعبر! هذا لسان مروان قد أخذه هر وقال شاعر:
(قد فتح الله مصر عنوة لكم * وأهلك الفاجر الجعدي إذ ظلما)
(فلاك مقولة هر يجرره * وكان ربك من ذي الكفر منتقما)
وسيره صالح إلى أبي العباس السفاح.
وكان قتله لليلتين بقيتا من ذي الحجة، ورجع صالح إلى الشام وخلف أبا عون بمصر وسلم اله السلاح والأموال والرقيق.
ولما وصل الرأس إلى السفاح كان بالكوفة فلما رآه سجد ثم رفع رأسه فقال الحمد لله الذي أظهرني عليك وأظفرني بك ولم يبق ثاري قبلك وقبل رهطك أعداء الدين! وتمثل:
(لو يشربون دمي لم يرو شاربهم * ولا دماؤهم للغيظ ترويني)
لما قتل مروان هرب ابناه عبد الله وعبيد الله إلى أرض الحبشة فلقوا من الحبشة بلاء قاتلهم الحبشة فقتل عبيد الله ونجا عبد الله في عدة ممن معه فبقي إلى خلافة المهدي فأخذه نصر بن محمد بن الأشعث عامل فلسطين فبعث به إلى المهدي.
ولما قتل مروان قصد عامر الكنيسة التي فيها حرم مروان وكان قد وكل بهن خادما وأمره أن يقتلهن بعده فأخذه عامر واخذ نساء مروان وبناته فسيرهن إلى صالح ابن علي بن عبد الله بن عباس فلما دخلن عليه تكلمت ابنة مروان الكبرى فقالت: يا عم أمير المؤمنين! حفظ الله لك من أمرك ما
427

تحب حفظه نحن بناتك وبنات أخيك وابن عمك فليسعنا من عفوكم ما وسعكم من جورنا.
قال: والله لا أستبقي منكم واحدا! ألم يقتل أبوك ابن آخي إبراهيم الإمام؟ ألم يقتل الوليد بن يزيد يحيى بن زيد وصلبه بخراسان ألم يقتل ابن زياد الدعي مسلم بن عقيل ألم يقتل يزيد بن معاوية الحسين بن علي وأهل بيته ألم يخرج إليه بحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا فوقفهن موقف السبي؟ ألم يحمل راس الحسين وقد قرع
دماغه فما الذي يحملني على الإبقاء عليكن؟! قالت: فليسعنا عفوكم فقال أما هذا فنعم وان أحببت زوجتك ابني الفضل فقالت وأي عز خير من هذا بل تلحقنا بحران فحملهن إليها فلما دخلنها ورأين منازل مروان رفعن أصواتهن بالبكاء.
قيل: كان يوما بكير بن ماهان مع أصحابه قبل أن يقتل مروان يتحدث إذ مر به عامر بن إسماعيل وهو لا يعرفه فأتى دجلة واستقى من مائها ثم رجع فدعاه بكير فقال ما اسمك يا فتى قال عامر بن إسماعيل بن الحرث قال فكن [من] بني مسلية. قال: فأنا منهم. قال: أنت والله تقتل مروان فكان هذا القول هو الذي قوى طمع عامر في قتل مروان ولما قتل مروان.
كان عمره اثنتين وستين سنة وقيل تسعا وستين سنة وكانت ولايته من حين بويع إلى أن قتل خمس سنين وعشرة اشهر وستة عشر يوما وكان يكنى أبا عبد الملك وكانت أمه أم ولد كردية كانت لإبراهيم بن الأشتر أخذها محمد بن مروان يوم قتل إبراهيم فولدت مروان
428

فلهذا قال عبد الله بن عياش المشرف للسفاح الحمد لله الذي أبدلنا بحمار الجزيرة وابن أمة النخع ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عبد المطلب.
وكان مروان يلقب بالحمار والجعدي لأنه تعلم من الجعد بن درهم مذهبه في القول بخلق القرآن والقدر وغير ذلك وقيل أن الجعد كان زنديقا وعظه ميمون بن مهران فقال لشاه قباذ أحب إلي مما تدين به فقال له قتلك الله وهو قاتلك وشهد عليه ميمون وطلبه هشام فظفر به وسيره إلى خالد القسري فقتله فكان الناس يذمون مروان بنسبته إليه.
وكان مروان ابيض أشهل شديد الشهلة ضخم الهامة كث اللحية أبيضها ربعة وكان شجاعا حازما إلا أن مدته انقضت فلم ينفعه حزمه ولا شجاعته.
(عياش بالياء تحتها نقطتان والشين المعجمة).
ذكر من قتل من بني أمية
دخل سديف على السفاح وعنده سليمان بن هشام بن عبد الملك وقد أكرمه فقال سديف:
(لا يغرنك ما ترى من رجال * أن تحت الضلوع داء دويا)
(فضع السيف وارفع السوط حتى * لا ترى فوق ظهرها أمويا)
فقال سليمان قتلتني يا شيخ ودخل السفاح واخذ سليمان فقتل.
429

ودخل شبل ابن عبد الله مولى بني هاشم على عبد الله بن علي وعنده من بني أمية نحو تسعين رجلا على الطعام فاقبل عليه شبل فقال:
(أصبح الملك ثابت الآساس * بالبهاليل من بني العباس)
(طلبوا وتر هاشم فشفوها * بعد ميل من الزمان وباس)
(لا تقيلن عبد شمس عثارا * واقطعن كل رقلة وغراس)
(ذلها أظهر التودد منها * وبها منكم كحر المواسي)
(ولقد غاظني وغاظ سوائي * قربهم من نمارق وكراسي)
(أنزلوها بحيث أنزلها الله * بدار الهوان والإتعاس)
(واذكروا مصرع الحسين وزيدا * وقتيلا بجانب المهراس)
(والقتيل الذي بحران أضحى * ثأويا بين غربة وتناسي)
فأمر بهم عبد الله فضربوا بالعمد حتى قتلوا وبسط عليهم الأنطاع فأكل الطعام عليها وهو يسمع أنين بعضهم حتى ماتوا جميعا وأمر عبد الله بن علي بنبش قبور بني أمية بدمشق فنبش قبر معاوية بن أبي سفيان فلم يجدوا فيه إلا خيطا مثل الهباء ونبش قبر يزيد بن معاوية بن أبي سفيان فوجدوا فيه حطاما كأنه الرماد ونبش قبر عبد الملك بن مروان فوجدوا جمجمته وكان لا يوجد في القبر [إلا] العضو بعد العضو غير هشام بن عبد الملك فإنه وجد صحيحا لم يبل منه إلا أرنبة انفه فضربه بالسياط وصلبه وحرقه وذراه في الريح.
وتتبع بني أمية من أولاد الخلفاء وغيرهم فأخذهم، ولم يفلت منهم إلا رضيع أو من هرب إلى الأندلس فقتلهم بنهر أبي فطرس وكان فيمن قتل محمد بن عبد الملك بن مروان والغمر بن يزيد بن عبد الملك، وعبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك وسعيد بن عبد الملك وقيل أنه مات قبل
430

ذلك، وأبو عبيدة بن الوليد بن عبد الملك وقيل إبراهيم بن يزيد المخلوع قتل معهم واستصفى كل شيء لهم من مال وغير ذلك فلما فرغ منهم قال:
(بني أمية أفنيت جمعكم * فكيف لي منكم بالأول الماضي)
(يطيب النفس أن النار تجمعكم * عوضتم [من] لظاها شر معتاض)
(منيتم لا أقال الله عثرتكم * بليث غاب إلى الأعداء نهاض)
(أن كان غيظي لفوت منكم فلقد * منيت منكم بما ربي به راض)
وقيل أن سديفا انشد هذا الشعر للسفاح ومعه كانت الحادثة، وهو الذي قتلهم.
وقتل سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس بالبصرة أيضا جماعة من بني أمية عليهم الثياب الموشية المرتفعة وامر بهم فجروا بأرجلهم فالقوا على الطريق فأكلهم الكلاب.
فلما رأى بنو أمية ذلك اشتد خوفهم وتشتت شملهم واختفى من قدر على الاختفاء وكان ممن اختفى منهم عمرو بن معاوية بن عمرو بن سفيان بن عتبة بن أبي سفيان قال وكنت لا آتي مكانا إلا عرفت فيه فضاقت علي الأرض قدمت [على] سليمان بن علي وهو لا يعرفني فقلت لفظتني البلاد إليك ودلني فضلك عليك فأما قتلتني فاسترحت وأما رددتني سالما فأمنت فقال ومن أنت فعرفته نفسي فقال مرحبا بك ما حاجتك فقلت أن الحرم اللواتي أنت أولى الناس بهن وأقربهم إليهن قد خفن لخوفنا ومن خاف خيف عليه. قال فبكى كثيرا ثم قال يحقن الله
431

دمك ويوفر مالك ويحفظ حرمك ثم كتب إلى السفاح يا أمير المؤمنين أنه قد وفد وافد من بني أمية علينا وأنا إنما قتلناهم على عقوقهم لا على أرحامهم فإننا يجمعنا وإياهم عبد مناف والرحم تبل ولا تقتل وترفع ولا توضع فان رأي أمير المؤمنين أن يهبهم لي فليفعل وان فعل فيجعل كتابا عاما إلى البلدان نشكر الله تعالى على نعمه عندنا واحسانه إلينا فأجابه إلى ما سال فكان هذا أول أمان بني أمية.
ذكر خلع حبيب بن مرة المري
وفي هذه السنة بيض حبيب بن مرة المري وخلع هو ومن معه من أهل الثنية وحوران وكان خلعهم قبل خلع أبي الورد فسار إليه عبد الله وقاتله دفعات وكان حبيب من قواد مروان وفرسانه.
وكان سبب تبييضه الحوف على نفسه وقومه فبايعته قيس وغيرهم ممن يليهم فلما بلغ عبد الله خروج أبي الورد وتبييضه دعا حبيبا إلى الصلح فصالحه وآمنه ومن معه وسار نحو أبي الورد.
ذكر خلع أبي الورد وأهل دمشق
وفيها خلع أبو الورد مجزاة بن الكوثر بن زفر بن الحرث الكلابي وكان من أصحاب مروان وقواده.
432

وكان سبب ذلك أن مروان لما انهزم قام أبو الورد بقنسرين فقدمها عبد الله بن علي فبايعه أبو الورد ودخل فيما دخل فيه جنده وكان ولد مسلمة بن عبد الملك مجاورين له ببالس والناعورة فقدم بالس قائد من قواد عبد الله بن علي فبعث بولد مسلمة ونسائهم فشكا بعضهم ذلك إلى أبي الورد فخرج من مزرعة له يقال لها خساف فقتل ذلك القائد ومن معه واظهر التبييض والخلع لعبد الله ودعا أهل قنسرين إلى ذلك فبيضوا اجمعهم والسفاح يومئذ بالحيرة وعبد الله بن علي مشتغل بحرب حبيب بن مرة المري بأرض البلقاء وحوران والبثنية على ما ذكرناه.
فلما بلغ عبد الله تبييض أهل قنسرين وخلعهم صالح حبيب بن مرة وسار نحو قنسرين للقاء أبي الورد فمر بدمشق لأهل عبد الله وأمهات أولاده وثقله فلما قدم حمص انتقض له أهل دمشق وبيضوا وقاموا مع عثمان بن عبد الأعلى بن سراقة الأزدي فلقوا أبا غانم ومن معه فهزموه وقتلوا من أصحابه مقتلة عظيمة وانتهبوا ما كان عبد الله خلف من ثقله ولم يعرضوا لأهله واجتمعوا على الخلاف وسار عبد الله وكان قد اجتمع مع أبي الورد جماعة [من] أهل قتسرين وكاتبوا من يليهم من أهل حمص وتدمر فقدم منهم ألوف عليهم أبو محمد بن عد الله بن يزيد بن معاوية ودعوا إليه وقالوا: هذا السفياني الذي كان يذكر وهم في نحو من أربعين ألفا فعسكروا بمرج الأخرم ودنا منهم عبد الله بن علي ووجه إليهم أخاه عبد الصمد بن علي في شعرة آلاف وكان أبو الورد هو المدبر لعسكر قنسرين وصاحب القتال فناهضهم القتال وكثر القتل في الفريقين وانكشف عبد الصمد ومن معه وقتل منهم ألوف ولحق بأخيه عبد الله
433

فأقبل عبد الله ومعه جماعة القواد فالتقوا ثانية بمرج الأخرم فاقتتلوا قتالا شديدا وثبت عبد الله، فانهزم أصحاب أبي الورد وثب هو في نحو من خمسمائة من قومه وصاحبه فقتلوا جميعا وهرب أبو محمد ومن معه حتى لحقوا بتدمر وأمن عبد الله أهل قنسرين وسودوا وبايعوه ودخلوا في طاعته.
ثم انصرف راجعا إلى أهل دمشق لما كان من تبييضهم [عليه] فلما دنا منهم هرب الناس ولم يكن منهم قتال وأمن عبد الله أهلها وبايعوه ولم يأخذهم بما كان منهم.
ولم يزل أبو محمد السفياني متغيبا هاربا ولحق بأرض الحجاز وبقي كذلك إلى أيام المنصور فبلغ زياد ابن عبد الله الحارثي عامل المنصور مكانه فبعث إليه خيلا فقاتلوه واخذوا ابنين له اسيرين فبعث زياد برأس أبي محمد بن عبد الله السفياني وبابنيه فأطلقهما المنصور وأمنهما.
وقيل: أن حرب عبد الله وأبي الورد كانت سلخ ذي الحجة سنة ثلاث وثلاثين ومائة.
ذكر تبييض أهل الجزيرة وخلعهم
وفي هذه السنة بيض أهل الجزيرة وخلعوا أبا العباس السفاح وساروا إلى حران وبها موسى بن كعب في ثلاثة آلاف من جند السفاح فحاصروه بها وليس على أهل الجزيرة راس يجمعهم فقدم عليهم إسحاق بن مسلم العقيلي من أرمينية وكان سار عنها حين بلغه هزيمة مروان فاجتمع عليه أهل الجزيرة وحاصر موسى بن كعب نحوا من الشهرين.
434

ووجه أبو العباس السفاح أخاه أبا جعفر فيمن كان معه من الجنود بواسط محاصرين ابن هبيرة فسار بقرقيسيا والرقة وأهلهما قد بيضوا وسار نحو حران فرحل إسحاق بن مسلم إلى الرهاء وذلك سنة ثلاث وثلاثين ومائة وخرج موسى بن كعب بن حران فلقي أبا جعفر.
ووجه إسحاق بن مسلم أخاه بكار بن مسلم إلى ربيعة بدارا وماردين ورئيس ربيعة يومئذ رجل من الحرورية يقال له بريكة فعمد إليهم أبو جعفر فلقيهم فقاتلوه قتالا شديدا وقتل برمكة في المعركة وانصرف بكار إلى أخيه إسحاق بالرهاء فخلفه إسحاق بها وسار إلى سميساط في عظم عسكره واقبل أبو جعفر إلى الرها وكان بينهم وبين بكار وقعات.
وكتب السفاح إلى عبد الله بن علي يأمره أن يسير في جنوده إلى سميساط فسار حتى نزل بإزاء إسحاق بسميساط وإسحاق في ستين ألفا وبينهم الفرات واقبل أبو جعفر من الرها وحاصر إسحاق سميساط سبعة أشهر وكان إسحاق يقول في عنقي بيعة فأنا لا أدعها حتى أعلم أن صاحبها مات أو قتل.
فأرسل إليه أبو جعفر أن مروان قد قتل فقال حتى أتيقن فلما تيقن قتله طلب الصلح والأمان فكتبوا إلى السفاح بذلك وأمرهم أن يؤمنوه ومن معه فكتبوا بينهم كتابا بذلك وخرج إسحاق إلى أبي جعفر وكان عنده من آثر صحابته واستقام أهل الجزيرة والشام وولى أبو العباس أخاه أبا جعفر الجزيرة وأرمينية وأذربيجان فلم يزل عليها حتى استخلف.
وقد قيل أن عبيد الله بن علي هو الذي أمن إسحاق بن مسلم.
435

ذكر قتل أبي سلمة الخلال وسليمان بن كثير
قد ذكرنا ما كان من أبي سلمة في أمر أبي العباس السفاح ومن كان معه من بني هاشم عند قدومهم الكوفة بحيث صار عندهم متهما وتغير السفاح عليه وهو يعسكره بحمام أعين ثم تحول عنه إلى المدينة الهاشمية فنزل قصر الإمارة بها وهو متنكر لأبي سلمة وكتب إلى أبي مسلم يعلمه رأيه فيه وما كان هم به من الغش وكتب إليه أبو مسلم أن كان أمير المؤمنين اطلع على ذلك فليقتله.
فقال داود بن علي للسفاح: لا تفعل يا أمير المؤمنين فيحتج بها أبو مسلم عليك وأهل خراسان الذين معك أصحابه وحاله فيهم حاله ولكت اكتب إلى أبي مسلم فليبعث إليه من يقتله.
فكتب إليه، فبعث أبو مسلم مرار بن انس الضبي لقتله فقدم على السفاح فاعلمه بسبب قدومه فأمر السفاح مناديا فنادى أن أمير المؤمنين قد رضي عن أبي سلمة ودعاه فكساه ثم دخل عليه بعد ذلك ليلة فلم يزل عنده حتى ذهب عامة الليل ثم انصرف إلى منزله وحده فعرض له مرار ابن انس ومن معه من أعوانه فقتلوه وقالوا: قتله الخوارج ثم أخرج من الغد فصلى عليه يحيى بن محمد بن علي ودفن بالمدينة الهاشمية عند الكوفة فقال سليمان بن المهاجر البجلي:
(أن الوزير وزير آل محمد * أودى فمن يشناك صار وزيرا)
وكان يقال لأبي سلمة: وزير آل محمد ولأبي مسلم أمير آل محمد.
فلما قتل أبو سلمة وجه السفاح أخاه أبا جعفر إلى أبي مسلم فلما قدم على أبي مسلم سايره عبيد الله بن الحسن الأعرج وسليمان بن كثير، فقال
436

سليمان بن كثير لعبيد الله: يا هذا أنا كنا نرجو أن يتم أمركم فإذا شئتم فادعونا إلى ما تريدون فظن عبيد الله أنه دسيس من أبي مسلم فأتى أبا مسلم فأخبره وخاف أن لم يعلمه أن يقتله فاحضر أبو مسلم سليمان ابن كثير وقال له أتحفظ قول الإمام لي من اتهمته فاقتله قال نعم قال فإني قد أتهمتك قال أنشدك بالله قال لا تناشدني الله فأنت منطو على غش الإمام وأمر بضرب عنقه.
ورجع أبو جعفر إلى السفاح فقال لست خليفة ولا آمرك بشيء أن تركت أبا مسلم ولم تقتله قال وكيف قال والله ما يصنع إلا ما أراد قال أبو العباس فاكتمها.
وقد قيل أن أبا جعفر إنما سار إلى أبي مسلم قبل أن يقتل أبو سلمة وكان سبب ذلك أن السفاح لما ظهر تذاكروا ما صنع أبو سلمة فقال بعض من هناك لعل ما صنع كان من رأي أبي مسلم فقال السفاح لئن كان هذا عن رأيه أنا لنعرضن بلاء إلا أن يدفعه الله عنا وأرسل أخاه أبا جعفر إلى أبي مسلم ليعلم رأيه فسار اله واعلمه ما كان من أبي سلمة فأرسل مرار بن انس فقتله.
ذكر محاصرة ابن هبيرة بواسط
قد ذكرنا ما كان من أمر يزيد بن هبيرة والجيش الذين لقوه من أهل خراسان مع قحطبة ثم مع ابنه الحسن وانهزامه إلى واسط وتحصنه بها، وكان
437

لما انهزم قد وكل بالأثقال قوما فذهبوا بها فقال له حوثرة أين تذهب وقد قتل صاحبهم؟ يعني قحطبة أتمضي إلى الكوفة ومعك جند كثير فقاتلهم حتى تقتل أو تظفر قال بل نأتي واسطا فننظر قال ما تريد على أن تمكنه من نفسك وتقتل.
وقال يحيى بن حضين: انك لو تأتي مروان بشيء أحب إليه من هذه الجنود فألزم الفرات حتى تأتيه وإياك وواسطا فتصير في حصار وليس بعد الحصر إلا القتل فأبى.
وكان يخاف مروان لأنه كان يكتب إليه بالأمر فيخالفه فخاف أن يقتله فأتى واسطا فتحصن بها وسير أبو سلمة إليه الحسن بن قحطبة فحصره وأول وقعة كانت بين يوم الأربعاء قال أهل الشام لابن هبيرة ائذن لنا في قتالهم فأذن لهم فخرجوا وخرج ابن هبيرة وعلى ميمنته ابنه داود فالتقوا وعلى ميمنة الحسن خازم بن خزيمة فحمل خازم على ابن هبيرة فانهزم هو ومن معه وغص الباب بالناس ورمي أصحابه بالعرادات ورجع أهل الشام فكر عليهم الحسن واضطرهم إلى دجلة فغرق منهم ناس كثير فتلقوهم بالسفن وتحاجزوا فمكثوا سبعة أيام ثم خرجوا إليهم فاقتتلوا وانهزم أهل الشام هزيمة قبيحة فدخلوا المدينة فمكثوا ما شاء الله لا يقاتلون إلا رميا.
وبلغ ابن هبيرة وهو في الحصار أن أبا أمية التغلبي قد سود فأخذه وحبسه فتكلم ناس من ربيعة في ذلك ومعن بن زائدة الشيباني واخذوا ثلاثة نفر
438

نفر من فزارة رهط ابن هبيرة فحبسوهم وشتموا ابن هبيرة وقالوا: لا نترك ما في أيدينا حتى يترك ابن هبيرة صاحبنا وأبى ابن هبيرة أن يطلقه فاعتزل معن وعبد الرحمن بن بشير العجلي فيمن معهما فقيل لابن هبيرة هؤلاء فرسانك قد أفسدتهم وان تماديت في ذلك كانوا أشد عليك ممن حصرك. فدعا أبا أمية فكساه وخلى سبيله، فاصطلحوا وعادوا إلى ما كانوا عليه.
وقدم أبو نصر مالك بن الهيثم من ناحية سجستان إلى الحسن فأوفد الحسن وفدا إلى السفاح بقدوم أبي نصر عليه وجعل على الوفد غيلان بن عبد الله الخزاعي وكان غيلان
واجدا على الحسن لأنه سرحه إلى روح بن حاتم مددا له فلما قدم على السفاح وقال اشهد انك أمير المؤمنين وانك حبل الله المتين وانك إمام المتقين قال حاجتك يا غيلان قال استغفرك قال غفر الله لك قال غيلان يا أمير المؤمنين من علينا برجل من أهل بيتك قال أوليس عليكم رجل من أهل بيتي الحسن ابن قحطبة قال يا أمير المؤمنين من علينا برجل من أهل بيتك ننظر إلى وجهه وتقر عيننا به فبعث أخاه أبا جعفر لقتال ابن هبيرة عند رجوعه من خراسان وكتب إلى الحسن أن العسكر عسكرك والقواد قوادك ولكن أحببت أن يكون أخي حاضرا فاسمع له واطلع وأحسن مؤازرته وكتب إلى مالك بن الهيثم بمثل ذلك وكان الحسن هو المدبر لأمر ذلك العسكر.
فلما قدم أبو جعفر المنصور على الحسن تحول الحسن عن خيمته وأنزله فيها وجعل الحسن على حرس المنصور عثمان بن نهيك.
وقاتلهم مالك بن الهيثم يوما فانهزم أهل الشام إلى خنادقهم وقد كمن لهم
439

معن وأبو يحيى الجذامي فلما جازهم أصحاب مالك خرجوا عليهم فقاتلهم حتى جاء الليل وابن هبيرة على برج الخلالين فاقتتلوا ما شاء الله من الليل وسرح ابن هبيرة إلى معن يأمره بالانصراف فانصرف فمكثوا أياما وخرج أهل واسط أيضا مع معن ومحمد بن نباتة فقاتلهم أصحاب الحسن فهزموهم إلى دجلة حتى تساقطوا فيها ورجعوا وقد قتل ولد مالك بن الهيثم فلما رآه أبوه قتيلا قال لعن الله الحياة بعدك ثم حملوا على أهل واسط فقاتلوهم حتى أدخلوهم المدينة.
وكان مالك يملأ السفن حطبا ثم يضرمها نارا لتحرق ما مرت بع فكان ابن هبيرة يجر تلك السفن بكلاليب فمكثوا كذلك أحد عشر شهرا.
فلما طال عليهم الحصار طلبوا الصلح ولم يطلبوا حتى جاءهم خبر قتل مروان أتاهم به إسماعيل بن عبد الله القسري وقال لهم علام تقتلون أنفسكم وقد قتل مروان وتجنى أصحاب ابن هبيرة عليه فقالت اليمانية لا نعين مروان وآثاره فينا آثاره وقالت النزارية لا نقاتل حتى تقاتل معنا اليمانية وكان يقاتل معه صعاليك الناس وفتيانهم.
وهم ابن هبيرة بان يدعو إلى محمد بن عبد الله بن الحسن بن علي فكتب إليه فأبطأ جوابه وكاتب السفاح اليمانية من أصحاب ابن هبيرة وأطمعهم فخرج إليه زياد بن صالح وزياد بن عبيد الله الحارثيان ووعدا ابن هبيرة أن يصلحا له ناحية ابن العباس فلم يفعلا وجرت السفراء بين أبي جعفر وابن هبيرة حتى جعل له أمانا وكتب به كتابا مكث ابن هبيرة يشاور فيه العلماء أربعين يوما حتى رضيه فأنفذه إلى أبي جعفر فأنفذه أبو جعفر إلى أخيه السفاح فأمره بإمضائه.
وكان رأي أبي جعفر الوفاء له بما أعطاه وكان السفاح لا يقطع أمرا دون أبي مسلم وكان أبو الجهم عينا لأبي مسلم على السفاح فكتب السفاح
440

إلى أبي مسلم يخبره أمر ابن هبيرة فكتب أبو مسلم إليه أن الطريق السهل إذا ألقيت فيه الحجارة فسد لا والله لا يصلح طريق فيه ابن هبيرة.
ولما تم الكتاب خرج ابن هبيرة إلى أبي جعفر في ألف وثلاثمائة من البخارية وأراد أن يدخل الحجرة على دابته فقام إليه الحاجب سلام بن سليم فقال مرحبا بك أبا خالد انزل راشدا وقد أطاف بحجرة المنصور عشرة آلاف من أهل خراسان فنزل ودعا له بوسادة ليجلس عليها وأدخل القواد ثم أذن لابن هبيرة وحده فدخل وحادثه ساعة ثم قام ثم مكث يأتيه يوما ويتركه يوما فكان يأتيه في خمسمائة فارس وثلاثمائة راجل فقيل لأبي جعفر أن ابن هبيرة ليأتي فيتضعضع له العسكر وما نقص من سلطانه شيء فأمره أبو جعفر أن لا يأتي إلا في حاشيته فكان يأتي في ثلاثين ثم صار يأتي في ثلاثة أو أربعة.
وكلم ابن هبيرة المنصور يوما فقال له ابن هبيرة يا هناه أو يا أيها المرء! ثم رجع فقال: أيها الأمير أن عهدي بكلام الناس بمثل ما خاطبتك به لقريب فسبقني لساني إلى ما لم أرده فالح السفاح على أبي جعفر يأمره بقتل ابن هبيرة وهو يراجعه حتى كتب إليه والله لتقتلنه أو ولأرسلن إليه من يخرجه من حجرتك ثم أتولى قتله.
فعزم على قتله، فبعث خازم بن خزيمة والهيثم بن شعبة بن ظهير وأمرهما بختم بيوت الأموال ثم بعث إلى وجوه مع ابن هبيرة من القيسية والمضرية فأحضرهم فاقبل محمد ابن نباتة وحوثرة بن سهيل في اثنين وعشرين رجلا فخرج سلام بن سليم فقال أين ابن نباتة وحوثرة؟
441

فدخلا وقد اجلس أبو جعفر عثمان بن نهيك وغيره في مائة في حجرة دون حجرته فنزعت سيوفهما وكتفا واستدعى رجلين رجلين يفعل بهما مثل ذلك فقال بعضهم أعطيتمونا عهد الله ثم غدرتم بنا أنا لنرجو أن يدرككم الله وجعل ابن نباتة يضرط في لحية نفسه وقال كأني كنت انظر إلى هذا.
وانطلق خازم والهيثم بن شعبة ف نحو من مائة إلى ابن هبيرة فقالوا: نريد حمل المال. فقال لحاجبه دلهم على الخزائن فأقاموا عند كل بيت نفرا واقبلوا نحوه وعنده ابنه داود وعدة من مواليه وبني له صغير في حجره فلما أقبلوا نحوه قام حاجبه في وجوههم فضربه الهيثم بن شعبة على حبل عاتقه فصرعه وقاتل ابنه داود واقبل هو إليه ونحى ابنه من حجره فقال دونكم هذا الصبي وخر ساجدا فقتل وحملت رؤوسهم إلى أبي جعفر ونادى بالأمان للناس إلا الحكم بن عبد الملك بن بشر وخالد بن سلمة المخزومي وعمر بن ذر فاستأمن زياد بن عبيد الله لابن ذر فأمنه وهرب الحكم وأمن أبو جعفر خالدا فقتله السفاح ولم يجز أمان أبي جعفر فقال أبو العطاء السندي يرثي ابن هبيرة:
(إلا أن عينا لم تجد يوم واسط * عليك بخارى دمعها لجمود)
(عشية قام النائحات وصفقت * أكف بأيدي مأتم وخدود)
(فإن تنس مهجور الفناء فربما * أقام به بعد الوفود وفود)
(فإنك لم تبعد على متعهد * بلى كل من تحت التراب بعيد)
442

ذكر قتل عما أبي سلمة بفارس
وفي هذه السنة وجه أبو مسلم الخراساني محمد بن الأشعث على فارس وأمره أن يقتل عمال أبي سلمة ففعل ذلك فوجه السفاح عمه عيسى بن علي إلى فارس وعلها محمد بن الأشعث فأراد محمد قتل عيسى فقيل له: أن هذا لا يسوغ لك فقال بلى امرني أبو مسلم أن لا يقدم أحد علي يدعي الولاية من غيره إلا ضربت عنقه ثم ترك
عيسى خوفا من عاقبة قتله واستحلف عيسى بالايمان المحرجة أن لا يعلو منبرا ولا يتقلد سيفا إلا في جهاد فلم يتول عيسى بعد ذلك ولاية ولم يتقلد سيفا إلا في غزو ثم وجه السفاح بعد ذلك إسماعيل بن علي واليا على فارس.
ذكر ولاية يحيى بن محمد الموصل وما قيل فيها
وفي هذه السنة استعمل السفاح أخاه يحيى بن محمد على الموصل عوض محمد بن صول.
وكان سبب ذلك أن أهل الموصل امتنعوا من طاعة محمد بن صول، وقالوا: يلي علينا مولى الخثعم وأخرجوه عنهم فكتب إلى السفاح بذلك واستعمل عليهم أخاه يحيى بن محمد وسيره إليها في اثني عشر ألف رجل فنزل قصر الإمارة مجانب مسجد الجامع ولم يظهر لأهل الموصل شيئا ينكرونه
443

ولم يعترضهم فيما يفعلونه ثم دعاهم فقتل منهم اثني عشر رجلا فنفر أهل البلد وحملوا السلاح فأعطاهم الأمان وأمر فنودي من دخل الجامع فهو آمن فأتاه الناس يهرعون إليه فأقام يحيى الرجال على أبواب الجامع فقتلوا الناس قتلا ذريعا أسرفوا فيه فقيل أنه قتل فيه أحد عشر ألفا ممن له خاتم وممن ليس له خاتم خلقا كثيرا.
فلما كان الليل سمع يحيى صراخ النساء اللاتي قتل رجالهن فسال عن ذلك الصوت فأخبر به فقال إذا كان الغد فاقتلوا النساء والصبيان ففعلوا ذلك وقتل منهم ثلاثة أيام وكان في عسكره قائد معه أربعة آلاف زنجي فأخذوا النساء قهرا.
فلما فرغ يحي من قتل أهل الموصل ف اليوم الثالث ركب اليوم الرابع وبين يديه الحراب والسيوف المسلولة فاعترضته امرأة وأخذت بعنان دابته فأراد أصحابه قتلها فنهاهم عن ذلك فقالت له الست من بني هاشم الست ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم أما تأنف للعربيات المسلمات أن ينكحن الزنج فأمسك عن جوابها وسير معها من يبلغها مأمنها وقد عمل كلامها فيه فلما كان الغد جمع الزنج للعطاء فاجتمعوا فأمر بهم فقتلوا عن آخرهم.
وقيل كان السبب في قتل أهل الموصل ما ظهر منهم من محبة بني أمية وكراهة بني العباس وان امرأة غسلت رأسها وألقت الخطمي من السطح فوق على راس بعض الخراسانية فظنها فعلت ذلك تعمدا فهج الدار وقتل أهلها فثار أهل البلد وقتلوه وثارت الفتنة.
وفيمن قتل معروف بن أبي معروف وكان زاهدا عابدا وقد أدرك كثيرا من الصحابة وروى عنهم.
444

ذكر عدة حوادث
وفيها وجه السفاح أخاه المنصور واليا على الجزيرة وأذربيجان وأرمينية، وفيها عزل عمه داود بن علي عن الكوفة وسوادها وولاه المدينة ومكة واليمن واليمامة وولى موضعه من عمل الكوفة ابن أخيه عيسى بن موسى بن محمد فاستقضى عيسى على الكوفة ابن أبي ليلى.
وكان العامل على البصرة هذه السنة سفيان بن معاوية المهلبي وعلى قضائها الحجاج بن أرطأة وعلى السند منصور بن جمهور وعلى فارس محمد بن الأشعث وعلى الجزيرة وأرمينية وأذربيجان أبو جعفر بن محمد بن علي وعلى الموصل يحيى بن محمد بن علي وعلى الشام عبد الله بن علي وعلى مصر أبو عون عبد الملك بن يزيد وعلى خراسان والجبال أبو مسلم وعلى ديوان الخراج خالد بن برمك.
وحج بالناس هذه السنة داود بن علي.
وفيها مات عبد الله بن أبي نجيح وإسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة الأنصاري.
وفيها قتل يحيى بن معاوية بن هشام بن عبد الملك مع مروان بن محمد بالزاب ويحيى أخو عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس.
وفيها قتل يونس بن مغيرة بن حلين بدمشق لما دخلها عبد الله بن علي وكان عمره عشرين ومائة سنة قتله رجلان من خراسان ولم يعرفاه فلما عرفاه بكيا عله وقيل بل عضته دابة من دوابه فقتلته وكان ضريرا. وفيها مات صفوان بن سليم مولى حميد بن عبد الرحمن وفيها توفي محمد بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم بالمدينة وكان قاضيها. وفيها مات همام بن منبه وعبد الله
445

ابن عوف وسعيد بن سليمان بن زيد بن ثابت الأنصاري وخبيب بن عبد الرحمن بن خبيب بن يسار الأنصاري وهو خال عبيد الله بن عمر العمري؛
(خبيب بضم الخاء المعجمة وفتح الباء الموحدة).
وعمارة بن أبي حفصة واسم أبي حفصة ثابت بن مولى العتيك بن الأزد وهو والد حرمي كنيته أبو روح؛ (حرمي بفتح الحاء والراء المهملتين).
وفيها توفي عبد الله بن طاوس بن كيسان الهمداني من عباد أهل اليمن وفقهائهم.
446

133
ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين ومائة
ذكر ملك الروم ملطية
وفي هذه السنة اقبل قسطنطين ملك الروم إلى ملطية وكمخ فنازل كمخ فأرسل أهلها إلى أهل ملطية يستنجدونهم فسار إليهم منها ثمانمائة مقاتل فقاتلهم الروم فانهزم المسلمون ونازل الروم ملطية وحصروها والجزيرة يومئذ مفتونة بما ذكرناه وعاملها موسى بن طعب بحران.
فأرسل فسطنطين إلى أهل ملطية إني لم أحصركم إلا على علم من المسلمين واختلافهم فلكم الأمان وتعودون إلى بلاد المسلمين حتى احترث ملطية فلم يجيبوه إلى ذلك فنصب المجانيق فاذعنوا وسلموا البلد على الأمان وانتقلوا إلى بلاد الإسلام وحملوا ما أمكنهم حمله وما لم يقدروا على حمله ألقوه في الآبار والمجاري.
فلما ساروا عنها أخبر بها الروم ورحلوا عنها عائدين وتفرق أهلها في بلاد الجزيرة وسار ملك الروم إلى قالقيلا فنزل مرج الخصي وأرسل كوشان الأرمني فحصرها فنقب اخوان من الأرمن من أهل المدينة ردما كان في سورها فدخل كوشان ومن معه المدينة وغلبوا عليها وقتلوا رجالها وسبوا النساء وساق القائم إلى ملك الروم.
447

ذكر عدة حوادث
في هذه السنة وجه السفاح عمه سليمان واليا على البصرة وأعمالها وكور دجلة والبحرين وعمان ومهرجانقذق واستعمل عمه إسماعيل بن علي على الأهواز.
وفيها قتل داود بن علي من ظفر به من بني أمية بمكة والمدينة ولما أراد قتلهم قال له عبد الله بن الحسن بن الحسن يا أخي إذا قتلت هؤلاء فمن تباهي بملكه أما يكفيك أن يروك غاديا ورائحا فيما يذلهم ويسوءهم فلم يقبل منه وقتلهم.
وفيها مات داود بن علي بالمدينة ف شهر ربيع الأول واستخلف حين حضرته الوفاة ابنه موسى ولما بلغت السفاح وفاته استعمل على مكة والمدينة والطائف واليمامة خاله يزيد بن عبيد الله بن عبد المدان الحارثي ووجه محمد بن يزيد بن عبيد الله بن عبد المدان على اليمن فلما قدم زياد المدينة وجه إبراهيم بن حسان السلمي وهو أبو حماد الأبرص بن المثنى إلى يزيد بن عمر بن هبيرة وهو باليمامة فقتله وقتل أصحابه.
وفيها توجه محمد بن الأشعث إلى أفريقية فقاتل أهلها قتالا شديدا حتى فتحها. وفيها خرج شريك بن شيخ المهري ببخارى على أبي مسلم ونقم عليه وقال ما على هذا اتبعنا آل محمد أن تسفك الدماء وان يعمل بغير الحق وتبعه على رأيه أكثر من ثلاثين ألفا فوجه إليه أبو مسلم زيا بن صالح الخزاعي فقاتله وقتله زياد.
وفيها توجه أبو داود خالد بن إبراهيم إلى الختل فدخلها ولم يمتنع
448

عليه جيش بن الشبل ملكها بل تحصن منه هو وأناس من الدهاقين فلما ألح عليه أبو داود خرج من الحصن هو ومن معه من دهاقينه وشاكريته حتى انتهوا إلى أرض فرغانة ثم دخلوا بلد الترك وانتهوا إلى ملك الصين واخذ أبو داود من ظفر به منهم فبعث بهم إلى أبي مسلم،
وفيها قتل عبد الرحمن بن يزيد بن المهلب بالموصل قتله سليمان الذي يقال له الأسود بأمان كتب له.
وفيها وجه صالح بن علي سعيد بن عبد الله ليغزو الصائفة وراء الدروب.
وفيها عزل يحيى بن محمد عن الموصل واستعمل مكانه إسماعيل بن علي وإنما عزل يحيى لقتله أهل الموصل وسوء أثره فيهم.
وحج بالناس هذه السنة زياد بن عبيد الحارثي وكان العمال من ذكرنا إلا الحجاز واليمن والموصل فقد ذكرنا من استعمل عليها.
وفيها تخالف إخشيد فرغانة وملك الشاش فاستمد إخشيد ملك الصين فأمده بمائة ألف مقاتل فحصروا ملك الشاش فنزل على حكم ملك الصين فلم يتعرض له ولأصحابه بما يسوءهم وبلغ الخبر أبا مسلم فوجه إلى حربهم زياد بن صالح فالتقوا على نهر طراز فظفر بهم المسلمون وقتلوا منهم زهاء خمسين ألفا وأسروا نحو عشرين ألفا وهرب الباقون إلى الصين وكانت الوقعة في ذي الحجة سنة ثلاث وثلاثين.
وفيها توفي مروان بن أبي سعيد وابن المعلى الزرقي الأنصاري وعلي بن بذيمة مولى جابر بن سمرة السوائي.
(بذيمة بفتح الباء الموحدة وكسر الذال المعجمة).
449

134
ثم دخلت سنة أربع وثلاثين ومائة
وفي هذه السنة خلع بسام بن إبراهيم بن بسام وكان من أهل خراسان وسار من عسكر السفاح هو وجماعة على رأيه إلى المدائن فوجه إليهم السفاح خازم بن خزيمة فاقتتلوا فانهزم بسام وأصحابه وقتل أكثرهم وقتل كل من لحقه منهزما ثم انصرف فمر بذات المطامير وبها أخوال السفاح من بني عبد المدان وهم خمسة وثلاثون رجلا من غيرهم ثمانية عش رجلا ومن مواليهم سبعة عشر فلم يسلم عليهم فلما جازهم شتموه وكان في قلبه عليهم [ما كان] لما بلغه [عنهم] من حال المغيرة من الفزع وانه لجأ إليهم وكان من أصحاب بسام فرجع إليهم وسألهم عن المغيرة فقالوا: مر بنا رجل مجتاز لا نعرفه فأقام في قريتنا ليلة ثم خرج عنا فقال لهم أنتم أخوال أمير المؤمنين يأتيكم عدوه ويأمن في قريتكم فهلا اجتمعتم فأخذتموه فأغلظوا له في الجواب فأمر بهم فضربت أعناقهم جميعا وهدم دورهم ونهب أموالهم ثم انصرف.
فبلغ ذلك اليمانية فاجتمعوا ودخل زياد بن عبيد الله الحارثي معهم على السفاح فقالوا: له أن خازما اجترأ عليك واستخف بحقك وقتل أخوالك
450

الذين قطعوا البلاد وأتوك معتزين بك طالبين معروفك حتى صاروا في جوارك قتلهم خازم وهدم دورهم ونهب أموالهم بلا حدث أحدثوه فهم بقتل خازم فبلغ ذلك موسى بن كعب وأبا الجهم بن عطية فدخلا على السفاح وقالا: يا أمير المؤمنين بلغنا ما كان من هؤلاء وانك هممت بقتل خازم وإنا نعيذك بالله من ذلك فان له طاعة وسابقة وهو يحتمل له ما صنع فان شيعتكم من أهل خراسان قد آثروكم على الأقارب والأولاد والإخوان وقتلوا من خالفكم وأنت أحق من تغمد إساءة مسيئهم فان كنت لا بد مجمعا على قتله فلا تتول ذلك بنفسك وابعثه لأمر أن قتل فيه كنت قد بلغت الذي تريد وإن ظفر كان ظفره لك.
وأشاروا عليه بتوجيهه إلى من بعمان من الخوارج وإلى الخوارج الذين بجزيرة أبن كاوان مع شيبان بن عبد العزيز اليشكري فأمر السفاح بتوجيهه مع سبعمائة رجل وكتب إلى سليمان بن علي وهو على البصرة بحملهم إلى جزيرة ابن كاوان وعمان فسار خازم.
ذكر أمر الخوارج وقتل شيبان بن عبد العزيز
فلما سار خازم إلى البصرة في الجند الذين معه وكان قد انتخب من أهله وعشيرته ومواليه ومن أهل مرو الروذ من يثق به فلما وصل البصرة حملهم
451

سليمان في السفن وانضم إليه بالبصرة أيضا عدة بني تميم فساروا في البحر حتى أرسوا بجزيرة بركاوان فوجه خازم فضلة بن نعيم النهشلي في خمسمائة إلى شيبان فالتقوا فاقتتلوا قتالا شديدا فركب شيبان وأصحابه السفن وساروا إلى عمان وهم صفرية فلما صاروا إلى عمان قاتلهم الجلندي وأصحابه وهم إباضية واشتد القتال منهم فقتل شيبان ومن معه وقد تقدم سنة تسع وعشرين ومائة قتل شيبان على هذا السياق.
ثم سار خازم في البحر بمن معه حتى ارسوا إلى ساحل عمان فخرجوا إلى الصحراء فلقيهم الجلندي وأصحابه واقتتلوا قتالا شديدا وكثر القتل يومئذ في أصحاب خازم وقتل منهم أخ له من أمه في تسعين رجلا ثم اقتتلوا من الغد قتالا شديدا فقتل يومئذ من الخوارج تسعمائة وأحرق منهم نحو من تسعين رجلا ثم التقوا بعد سبعة أيام من مقدم خازم على رأي أشار به بعض أصحاب خازم أشار عليه أن يأمر أصحابه فيجعلوا على أطراف أسنتهم المشاقة ويرووها بالنفط ويشعلوا فيها النيران ثم يمشوا بها حتى يضرموها في بيوت أصحاب الجلندي وكانت من خشب فلما فعل ذلك أضرمت بيوتهم بالنيران اشتغلوا بها وبمن فيها من أولادهم وأهاليهم فحمل عليهم خازم وأصحابه فوضعوا فيهم السيف فقتلوهم وقتلوا الجلندي فيمن قتل وبلغ عدة القتلى عشرة آلاف وبعث برؤوسهم إلى البصرة فأرسلها سليمان إلى السفاح وأقام خازم بعد ذلك أشهرا حتى استقدمه السفاح فقدم.
452

ذكر غزو كش
وفي هذه السنة غزا أبو داود خالد بن إبراهيم أهل كش فقتل الاخريد ملكها وهو سامع مطيع وقتل أصحابه واخذ منهم من الأواني الصينية المنقوشة المذهبة ما لم ير مثلها ومن السروج ومتاع الصين كله من الديباج والطرف شيئا كثيرا فحمله إلى أبي مسلم وهو بسمرقند وقتل عدة من دهاقينهم واستحيا طاران أخا الاخريد وملكه على كش وانصرف أبو مسلم إلى مرو بعد أن قتل في أهل الصغد وبخارى وامر ببناء سور سمرقند واستخلف زياد بن صليح عليها وعلى بخارى ورجع أبو داود إلى بلخ.
ذكر حال منصور بن جمهور
وفي هذه السنة وجه السفاح موسى بن كعب إلى السند لقتال منصور بن جمهور فسار واستخلف مكانه على شرط السفاح المسيب بن زهير وقدم موسى السند فلقي منصورا في اثني عشر ألفا فانهزم منصور ومن معه ومضى فمات عطشا في الرمال وقد قيل أصابه بطنه فمات وسمع خليفته على السند بهزيمته فرحل بعيال منصور وثقله فدخل بهم بلاد الخزر.
453

ذكر عدة حوادث
وفيها توفي محمد بن يزيد بن عبد الله.
وهو على اليمن فاستعمل السفاح مكانه علي بن الربيع بن عبد الله وفيها تحول السفاح من الحيرة إلى الأنبار في ذي الحجة.
وفيها ضرب المنار من الكوفة إلى مكة والأميال.
وحج بالناس هذه السنة عيسى بن موسى وهو على الكوفة.
وكان على قضاء الكوفة ابن أبي ليلى وعلى المدينة ومكة والطائف واليمامة زياد بن عبيد الله وعلى اليمن علي بت الربيع الحارثي وعلى البصرة وأعمالها وكور دجلة وعمان سليمان بن علي وعلى قضائها عباد بن منصور وعلى السند موسى بن كعب وعلى خراسان والجبال أبو مسلم وعلى فلسطين صالح بن علي وعلى مصر أبو عون وعلى الموصل إسماعيل بن علي وعلى أرمينية يزيد بن أسيد وعلى آذربيجان محمد بن صول وعلى ديوان الخراج خالد بن برمك وعلى الجزيرة أبو جعفر المنصور.
وكان عامله على آذربيجان وأرمينية من ذكرنا وعلى الشام عبد الله ابن علي.
وفيها توفي محمد بن إسماعيل بن سعد بن أبي وقاص وسعد بن عمر بن سليم الزرقي.
454

135
ثم دخلت سنة خمس وثلاثين ومائة
ذكر خروج زياد بن صالح
وفي هذه السنة خرج زياد بن صالح وراء النهر، فسار أبو مسلم من مرو مستعدا للقائه وبعث أبو داود خالد بن إبراهيم نصر بن راشد إلى ترمذ مخافة أن يبعث زياد بن صالح إلى الحصن والسفن فيأخذها ففعل ذلك نصر وأقام بها فخرج عليه ناس من الطالقان مع رجل يكنى أبا إسحاق فقتلوا نصرا فلما بلغ ذلك أبا داود بعث عيسى بن ماهان في تتبع قتلة نصر فتبعهم فقتلهم.
ومضى أبو مسلم مسرعا حتى انتهى إلى آمل ومعه سباع بن النعمان الأزدي وهو الذي كان قد أرسله السفاح إلى زياد بن صالح وأمره أن رأى فرصة أن يثب على أبي مسلم فيقتله.
فأخبر أبو مسلم بذلك فحبس سباعا بآمل وعبر أبو مسلم إلى بخارى فلما نزلها أتاه عدة من قواد زياد قد خلعوا زيادا فأخبروا أبا مسلم أن سباع بن النعمان هو الذي أفسد زيادا فكتب إلى عامله بآمل أن يقتله ولما اسلم زيادا قواده ولحقوا بابي مسلم لجأ إلى دهقان هناك فقتله وحمل رأسه إلى أبي مسلم.
وتأخر أبو أود عن أبي مسلم لحال أهل الطالقان فكتب إليه أبو مسلم يخبره بقتل زياد فأتى كش وأرسل عيسى بن ماهان إلى بسام وبعث جندا
455

إلى شاغر فطلبوا الصلح فأجيبوا إلى ذلك.
وأما بسام فلم يصل عيسى إلى شيء منه، وكتب عيسى إلى كامل بن مظفر صاحب أبي مسلم يعتب أبي داود وينسبه إلى العصبية فبعث أبو مسلم بالكتب إلى أبي داود وكتب إليه أن هذه كتب العلج الذي صيرته عدل نفسك فشأنك به فكتب أبو داود إلى عيسى يستدعيه فلما حضر عنده حبسه وضربه ثم أخرجه فوثب عليه الجند فقتلوه ورجع أبو مسلم إلى مرو.
ذكر غزو جزيرة صقلية
وفي هذه السنة غزا عبد الله بن حبيب جزيرة صقلية وغنم بها وسبى وظفر بها ما لم يظفره أحد قبله بعد أن غزا تلمسان واشتغل ولاة إفريقية بالفتنة مع البربر فأمن الصقلية وعمرها الروم من جميع الجهات وعمروا فيها الحصون والمعاقل وصاروا يخرجون كل عام مراكب تطوف بالجزيرة وتذب عنها وربما طارقوا تجارا من المسلمين فيأخذونهم.
ذكر عدة حوادث
حج بالناس هذه السنة سليمان بن علي وهو على البصرة وأعمالها وكان العمال من تقدم ذكرهم.
وفيها مات أبو خازم الأعرج، وقيل: سنة أربعين، وقيل سنة أربع
456

وأربعين. وفيها مات عطاء بن عبد الله مولى المطلب وقيل مولى المهلب وقيل هو عطاء بن ميسرة ويكنى أبا عثمان الخراساني وقيل سنة أربع وثلاثين وفيها مات يحيى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بفارس وكان أميرا عليها وكان قبل ذلك أميرا على الموصل وفيها توفي ثور بن زيد الدؤلي وكان ثقة وزياد بن أبي زياد مولى عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي وكان من الابطال.
(عياش بالياء المثناة من تحت وبالشين المعجمة).
457

136
ثم دخلت سنة ست وثلاثين ومائة
ذكر حج أبي جعفر وأبي مسلم
وفي هذه السنة كتب أبو مسلم إلى السفاح يستأذنه في القدوم عليه والحج وأن مذ ملك خراسان لم يفارقها إلى هذه السنة فكتب إلى السفاح يأمره بالقدوم عليه في خمسمائة من الجند فكتب أبو مسلم إليه أني قد وترت الناس ولست آمن على نفسي فكتب إليه أن أقبل في ألف فإنما أنت في سلطان أهلك ودولتك وريق مكة لا يتحمل العسكر.
فسار في ثمانية آلاف فرقهم فيما بين نيسابور والري وقدم بالأموال والخزائن فخلفها بالري وجمع أيضا أموال الجبل في ألف فأمر السفاح القواد وسائر الناس أن يتلقوه فدخل أبو مسلم على السفاح فأكرمه وأعظمه ثم استأذن السفاح في الحج فأذن له وقال لولا أبا جعفر يعني أخاه المنصور يريد الحج لاستعملتك على الموسم وأنزله قريبا منه.
وكان ما بين أبي جعفر وأبي مسلم متباعدا لأن السفاح كان بعث أبا جعفر إلى خراسان بعدما صفت الأمور له ومعه عهد أبي مسلم بخراسان وبالبيعة للسفاح وابني جعفر المنصور من بعده فبايع لهما أبو مسلم بخراسان وبالبيعة للسفاح وابني جعفر المنصور من بعده فبايع لهما أبو مسلم وأهل خراسان وكان أبو مسلم قد استخف بابي جعفر في مقدمة ذلك فلما رجع أخبر السفاح ما كان من أمر أبي مسلم فلما قدم أبو مسلم هذه المرة قال أبو جعفر للسفاح أطعني واقتل أبا مسلم فوالله أن في رأسه لغدرة فقال يا أخي قد عرفت بلاءه وما كان منه.
458

فقال أبو جعفر إنما كان بدولتنا والله لو بعثت سنورا لقام مقامه وبلغ ما بلغ فقال كيف نقتله قال [إذا] دخل عليك وحادثته ضربته أناس خلفه ضربة قتلته بها قال فكيف بأصحابه قال أبو جعفر لو قتل لتفرقوا وذلوا فأمره بقتله وخرج أبو جعفر ثم ندم السفاح على ذلك فأمر أبا جعفر بالكف عنه.
وكان أبو جعفر قبل ذلك بحران وسار منها إلى الأنبار وبها السفاح واستخلف على حران مقاتل بن حكيم العكي.
وحج أبو جعفر وأبو مسلم وكان أبو جعفر على الموسم.
* * *
وفيها مات زيد بن اسلم مولى عمر بن الخطاب.
ذكر موت السفاح
في هذه السنة مات السفاح بالأنبار لثلاث عشرة مضت من ذي الحجة وقيل لاثنتي عشرة مضت منه بالجدري وكان له يوم مات ثلاث وثلاثون سنة وقيل ست وثلاثون وقيل ثمان وعشرون سنة وكانت ولايته من لدن قتل مروان إلى أن توفي أربع سنين. ومن لدن بويع له بالخلافة إلى
459

أن مات أربع سنين وثمانية اشهر وقيل وتسعة اشهر منها ثمانية اشهر يقاتل مروان.
وكان جعدا طويلا ابيض أقنى الأنف حسن الوجه واللحية.
وأمه ريطة بنت عبيد الله بن عبد الله بن عبد المدان الحارثي وكان وزيره أبا الجهم بن عطية.
وصلى عليه عمه عيسى بن علي ودفنه بالأنبار العتيقة في قصره وخلف تسع جباب وأربعة أقمصة وخمسة سراويلات وأربعة طيالسة وثلاثة مطارف خز.
قال ابن النقاح بيتين من الشعر ووجه برجل إلى عسكر مروان ليقدم على الخيل ليلا فصبح فيها وشمس في الناس، ولا يوجد، وهما:
(يا آل مروان أن الله مهلككم * ومبدل بكم خوفا وتشريدا)
(لا عمر الله من إنشائكم أحدا * وبثكم في بلاد الخوف تطريدا)
قال: فعلت ذلك فدخلت قلوبهم مخافة.
قال جعفر بن يحيى: نظر السفاح يوما في المرآة وكان أجمل الناس وجها، فقال: اللهم إني لا أقول كما قال سليمان بن عبد الملك أنا الملك الشاب، ولكني [أقول]: اللهم عمرني طويلا في طاعتك ممتعا بالعافية فما استتم كلامه حتى سمع غلاما يقول لغلام آخر الأجل بيني وبينك شهران وخمسة أيام فتطير من كلامه وقال حسبي الله ولا قوة إلا بالله عليك توكلت وبك أستعين فما مضت الأيام حتى أخذته الحمى واتصل مرضه فمات بعد شهرين وخمسة أيام.
460

ذكر خلافة المنصور
وفي هذه السنة عقد السفاح عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس لأخيه أبي جعفر عبد الله بن محمد بالخلافة من بعده وجعله ولي عهد المسلمين ومن بعد أبي جعفر ولد أخيه عيسى بن موسى بن محمد بن علي وجعل العهد في ثوب وختمه بخاتمه وخواتيم أهل بيته ودفعه إلى عيسى بن موسى.
فلما توفي السفاح كان أبو جعفر بمكة فأخذ البيعة لأبي جعفر عيسى بن موسى وكتب إليه يعلمه وفاة السفاح والبيعة له فلقيه الرسول بمنزل صفية فقال صفت لنا إن شاء الله وكتب إلى أبي مسلم يستدعيه وكان أبو جعفر قد تقدم فاقبل أبو مسلم إليه فلما جلس والقى إليه كتابه قرأه وبكى واسترجع ونظر إلى أبي جعفر وقد جزع جزعا شديدا قال ما هذا الجزع وقد أتتك الخلافة قال أتخوف شر عمي عبد الله بن علي وشيعة علي قال لا تخفه فأنا أكفيه إن شاء الله إنما عامة جنده ومنت معه أهل خراسان وهم لا يعصونني فسرى عنه وبايع له أبو مسلم والناس واقبلا حتى قدما الكوفة.
وقيل أن أبا مسلم هو الذي كان تقدم علي بن أبي جعفر فعرف الخبر قبله فكتب إليه بسم الله الرحمن الرحيم عافاك الله ومتع بك انه أتاني أمر قطعني وبلغ مني مبلغا لم يبلغه منه شيء قط وفاة أمير المؤمنين فنسأل الله أن يعظم أجرك ويحسن الخلافة عليك ويبارك لك فيما أنت فيه انه ليس من أهلك أحد أشد تعظيما لحقك وأصفى
461

نصيحة [لك] وحرصا على ما يسرك مني ثم مكث يومين وكتب إلى أبي جعفر ببيعته وإنما أراد ترهيب أبي جعفر.
وقال ورد أبو جعفر زياد الله بن عبيد الله إلى مكة وكان عاملا عليها وعلى المدينة للسفاح وقيل كان قد عزله قبل موته عن مكة وولاها العباس بن عبد الله بن معبد بن العباس.
ولما بايع عيسى بن موسى الناس لأبي جعفر أرسل إلى عبد الله بن علي بالشام يخبره بوفاة السفاح وبيعة المنصور ويأمره بأخذ البيعة للمنصور وكان قد قدم قبل ذلك على السفاح فجعله على الصائفة وسير معه أهل الشام وخراسان فسار حتى بلغ دلوك ولم يدرك فاتاه موت السفاح فعاد بمن معه من الجيوش وقد بايع لنفسه.
ذكر الفتنة بالأندلس
وفي هذه السنة خرج في الأندلس الحباب بن رواحة بن عبد الله الزهري ودعا إلى نفسه واجتمع إليه من اليمانية فسار إلى الصميل وهو أمير قرطبة فحصره بها وضيق عليه فاستمد الصميل يوسف الفهري أمير الأندلس فلم يفعل لتوالي الغلاء والجوع على الأندلس ولان يوسف قد كره الصميل واختار هلاكه ليستريح منه.
وثار بها أيضا عامر العبدري وجمع جمعا واجتمع مع الحباب على الصميل
462

وقاما بدعوة بني العباس.
فلما اشتد الحصار على الصميل كتب إلى قومه ليستمدهم فسارعوا إلى نصرته واجتمعوا وساروا إليه فلما سمع الحباب بقربهم سار الصميل عن سرقسطة وفارقها فعاد الحباب إليها وملكها واستعمل يوسف الفهري الصميل على طليطلة.
ذكر عدة حوادث
كان على الكوفة عيسى بن موسى وعلى الشام عبد الله بن علي وعلى مصر صالح بن علي وعلى البصرة سليمان بن علي وعلى المدينة زياد الله بن عبيد الله الحارث وعلى مكة العباس بن عبد الله بن معبد.
وفيها مات ربيعة بن أبي عبد الرحمن وهو ربيعة الرأي وقيل مات سنة خمس وثلاثين ومائة وقيل سنة اثنتين وأربعين ومائة.
وفيها مات عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وفيها توفي عبد الملك بن عمير بن سويد اللخمي الفرسي وإنما قيل له الفرسي بالفاء [نسبة إلى فرس له]. وعطاء بن السائب أبو زيد الثقفي وعروة بن رويم.
وفي هذه السنة قدم أبو جعفر المنصور أمير المؤمنين من مكة فدخل الكوفة فصلى بأهلها الجمعة وخطبهم وسار إلى الأنبار فأقام بها وجمع إليه أطرافه وكان عيسى بن موسى قد أحرز بيوت الأموال والخزائن والدواوين حتى قدم عليه أبو جعفر فسلم الأمر إليه.
463

137
ثم دخلت سنة سبع وثلاثين ومائة
ذكر خروج عبد الله بن علي وهزيمته
قد ذكرنا مسير عبد الله بن علي إلى الصائفة في الجنود وموت السفاح وإرسال عيسى ابن موسى إلى عمه عبد الله بن علي يخبره بموته ويأمره بالبيعة لأبي جعفر المنصور وكان السفاح قد أمر بذلك قبل وفاته.
فلما قدم الرسول على عبد الله بذلك لحقه بدلوك وفي بأفواه الدروب فأمر مناديا فنادى الصلاة جامع فاجتمعوا عليه فقرأ عليهم الكتاب بوفاة السفاح ودعا الناس إلى نفسه وأعلمهم أن السفاح حين أراد أن يوجه الجنود إلى مروان بن محمد دعا بني أبيه فأرادهم على المسير اله فقال من أنتدب منكم فسار إليه فهو ولي عهدي فلم ينتدب [له] غيري، وعلى هذا خرجت من عنده وقتلت من قتلت وشهد له أبو غانم الطائي وخفاف المروروذي وغيرهما من القواد فبايعوه وفيهم حميد ابن قحطبة وغيرهم من أهل خراسان والشام والجزيرة إلا أن حميدا فارقه على ما نذكره.
ثم سار عبد الله حتى نزل حران وبها مقاتل العكي قد استخلفه أبو جعفر لما سار إلى مكة فتحصن منه مقاتل فحصره أربعين يوما.
وكان أبو مسلم قد عاد من الحج مع المنصور كما ذكرناه فقال للمنصور: إن شئت جمعت ثيابي في منطقتي وخدمتك وإن شئت أتيت خراسان فأمددتك بالجنود، وإن شئت سرت إلى حرب عبد الله بن علي فأمره بالمسير لحرب
464

عبد الله فسار أبو مسلم في الجنود نحو عبد الله فلم يتخلف عنه أحد وكان قد لحقه حميد بن قحطبة فسار معه وجعل على مقدمته مالك بن الهيثم الخزاعي.
فلما بلغ عبد الله وهو يحاصر حران إقبال أبي مسلم خشي أن يهجم عليه عطاء العتكي إماما فنزل إليه فيمن معه وأقام معه أياما ثم وجهه إلى عثمان بن عبد الأعلى ابن سراقة الأزدي بالرقة ومعه ابناه وكتب معه كتابا.
فلما قدموا على عثمان دفع العتكي الكتاب إليه فقتل العتكي وحبس ابنيه فلما هزم عبد الله قتلهما.
وكان عبد الله بن علي قد خشي أن لا يناصحه أهل خراسان فقتل منهم نحوا من سبعة عشر ألفا واستعمل حميد بن قحطبة على حلب وكتب معه فلما كان ببعض الطريق قال إن ذهابي بكتاب لا اعلم ما فيه لغرر فقرأه فلما رأى ما فيه لأعلم خاصته ما في هذا الكتاب وقال من أراد المسير معي منكم فليسر فاتبعه ناس كثير منهم وسار على الرصافة إلى العراق.
فأمر المنصور محمد بن صول بالمسير إلى عبد الله بن علي ليمكر به فلما أتاه قال له أني سمعت أبا العباس يقول الخليفة بعدي عمي عبد الله فقال له كذبت إنما وضعت أبو جعفر فضرب عنقه.
ومحمد بن صول هو جد إبراهيم بن العباس الكاتب الصولي.
ثم أقبل عبد الله جبن علي حتى نزل نصيبين وخندق عليه وقدم أبو مسلم فيمن معه وكان المنصور قد كتب إلى الحسن بن قحطبة وكان خليفته بأرمينية،
465

يأمره أن يوافي أبا مسلم فقدم على أبي مسلم بالموصل واقبل أبو مسلم فنزل ناحية نصيبين فاخذ طريق الشام ولم يعرض لعبد الله وكتب إليه أني لم أؤمر بقتالك ولكن أمير المؤمنين ولاني الشام فأنا أريدها فقال من كان مع عبد الله من الأهل الشام لعبد الله: كيف [نقيم] معك وهذا يأتي بلادنا فيقتل من قدر عليه من رجالنا ويسبي ذرارينا ولكن نخرج إلى بلادنا فنمنعه ونقاتله فقال لهم عبد الله انه والله ما يريد الشام وما توجه إلا لقتالكم وان أقمتم ليأتينكم فأبو إلا المسير إلى الشام وأبو مسلم قريب منهم فارتحل عبد الله نحو الشام وتحول أبو مسلم فنزل في معسكر عبد الله بن علي في موضعه وغور ما حوله من المياه وألفى فيها الجيف.
وبلغ عبد الله ذلك فقال لأصحابه ألم أقل لكم ورجع فنزل في موضع عسكر أبي مسلم الذي كان به فاقتتلوا خمسة أشهر وأهل الشام أكثر فرسانا وأكمل عدة وعلى ميمنة عبد الله بكار بن سلم العقيلي وعلى ميسرته حبيب بن سويد الأسدي وعلى الخيل عبد الصمد بن علي أخو عبد الله وعلى ميمنة أبي مسلم الحسن بن قحط به وعلى ميسرته خازم فاقتتلوا شهرا.
ثم إن أصحاب عبد الله حملوا على عسكر أبي مسلم فأزالوهم عن مواضعهم ورجعوا ثم حمل عليهم عبد الصمد بن علي في خيل مجردة فقتل منهم ثمانية عشر رجلا ورجع في أصحابه ثم تجمعوا وحملوا ثانية على أصحاب أبي مسلم فأزالوا صفهم وجالوا جولة فقيل لأبي مسلم لو حولت دابتك إلى هذا التل ليراك الناس فيرجعوا فإنهم قد انهزموا فقال إن أهل الحجى لا يعكفون دوابهم على هذه الحال وأمر مناديا فنادى يا أهل خراسان ارجعوا
466

فان العافية لما اتقى فتراجع الناس وارتجز أبو مسلم يومئذ يقول:
(من كان ينوي أهله فلا رجع * فر من الموت وفي الموت وقع)
وكان قد عمل لأبي مسلم عريش فكان يجلس عليه إذا التقى الناس فينظر إلى القتال فان رأى خللا في الجيش سده وأمر مقدم تلك الناحية بالاحتياط وبما يفعل فلا تزال رسله تختلف إليهم حتى ينصرف الناس بعضهم عن بعض.
فلما كان يوم الثلاثاء والأربعاء لسبع خلون من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين التقوا فاقتتلوا قتالا شديدا فمكر بهم أبو مسلم وأمر الحسن بن قحطبة أن يعري الميمنة [ويضم] أكثرها إلى الميسرة وليترك في الميمنة جماعة أصحابه وأشداءهم فلما رأى ذلك أهل الشام أعروا ميسرتهم وانضموا إلى ميمنتهم بإزاء ميسرة أبي مسلم وأمر أبو مسلم أهل القلب فحملوا مع من بقي في ميمنته على ميسرة أهل الشام فحملوا عليهم فحطموهم وجال القلب والميمنة وركبهم أصحاب أبي مسلم فتنهزم أصحاب عبد الله فقال عبد الله بن علي لابن سراقة الأزدي يا ابن سراقة ما ترى قال أرى أن تصبر وتقاتل حتى تموت فان الفرار قبيح بمثلك وقد عتبته على مروان قال فاني آتي العراق قال فأنا معك فانهزموا وتركوا عسكرهم فحواه أبو مسلم وكتب بذلك إلى المنصور فأرسل أبا الخصيب مولاه يحصي ما أصابوا من العسكر فغضب من ذلك أبو مسلم.
467

ومضى عبد الله وعبد الصمد ابنا علي فاما عبد الصمد فقدم الكوفة فاستأمن له عيسى بن موسى فأمنه المنصور وقيل بل أقام عبد الصمد بن علي بالرصافة حتى قدمها جمهور بن مرار العجلي في خيول أرسلها المنصور فأخذه فبعث به إلى المنصور موثقا مع أبي خصيب فأطلقه وأما عبد الله بن علي فأتى أخاه سليمان بن علي بالبصرة فأقام عنده زمانا متواريا.
ثم إن أبا مسلم أمن الناس بعد الهزيمة وأمر بالكف عنهم.
ذكر قتل أبي مسلم الخراساني
وفي هذه السنة قتل أبو مسلم الخراساني قتله المنصور وكان سبب ذلك أن أبا مسلم كتب إلى السفاح يستأذنه في الحج على ما تقدم وكتب السفاح إلى المنصور وهو على الجزيرة وأرمينية وأذربيجان ان أبا مسلم كتب إلي يستأذنني في الحج وقد أذنت له وهو يرد أن يسألني أن أوليه الموسم فاكتب إلي تستأذنني في الحج فآذن لك فإنك إن كنت بمكة لم يطمع أن يتقدمك.
فكتب المنصور إلى أخيه السفاح يستأذنه في الحج ف أذن له فقدم الأنبار فقال أبو مسلم أما وجد أبو جعفر عاما يحج فيه غير هذا وحقدها عليه وحجا معا فكان أبو مسلم يكسو الأعراب ويصلح الأبار والطريق وكان الذكر له وكان الأعراب يقولون هذا المكذوب عليه فلما قدم مكة ورأى أهل اليمن قال أي جند هؤلاء لو لقيهم رجل ظريف اللسان غزير الدمعة فلما صدر الناس عن الموسم تقدم أبو مسلم في الطريق على أبي جعفر فأتاه خبر وفاة السفاح فكتب إلى أبي جعفر يعزيه عن أخيه ولم يهنئه بالخلافة ولم يقم حتى يلحقه ولم يرجع فغضب أبو جعفر وكتب إليه كتابا غليظا، فلما
468

أتاه الكتاب كتب إليه يهنئه بالخلافة. وتقدم أبو مسلم فأتى الأنبار فدعا عيسى بن موسى إلى أن يبايع له فأتى عيسى وقدم أبو جعفر وخلع عبد الله بن علي فسير المنصور أبا مسلم إلى قتاله كما تقدم فكانا مع الحسن بن قحطبة فأرسل الحسن إلى أبي أيوب وزير المنصور إني قد رأيت بأبي مسلم أنه يأتيه كتاب أمير المؤمنين فيقرأه ثم يلقي الكتاب مكن يده إلى مالك بن الهيثم فيقرأه ويضحكان استهزاء فلما ألقيت الرسالة إلى أبي أيوب ضحك وقال نحن لأبي مسلم أشد تهمة منا لعبد الله بن علي إلا أنا نرجو واحدة نعلم أن أهل خراسان لا يحبون عبد الله وقد قتل منهم من قتل وكان قتل منهم سبعة عشر ألفا.
فلما انهزم عبد الله وجمع أبو مسلم ما غنم من عسكره بعث أبو جعفر أبا الخصيب إلى أبي مسلم ليكتب [له] ما أصاب من الأموال، فأراد أبو مسلم قتله فتكلم فيه فخلى سبيله وقال أنا أمين على الدماء خائن في الأموال وشتم المنصور فرجع أبو الخصيب إلى المنصور فأخبره فخاف أن يمضي أبو مسلم إلى خراسان فكتب إليه أني قد وليتك مصر والشام فهي خير لك من خراسان فوجه إلى مصر من أحببت وأقم بالشام فتكون بقرب أمير المؤمنين فإن أحب لقاءك أتيته من قريب.
فلما أتاه الكتاب غضب وقال يوليني الشام ومصر وخراسان لي فكتب الرسول إلى المنصور بذلك واقبل أبو مسلم من الجزيرة مجمعا على الخلاف وخرج عن وجهه يريد خراسان.
فسار المنصور من الأنبار إلى المدائن وكتب إلى أبي مسلم في المسير إليه فكتب إليه أبو مسلم وهو بالزاب: انه لم يبق لأمير المؤمنين أكرمه الله،
469

عدو إلا أمكنه الله منه وقد كنا نروي عن ملوك آل ساسان أن أخوف ما يكون الوزراء إذا سكنت الدهماء فنحن نافرون عن قربك حريصون على الوفاء لك وما وفيت حريون بالسمع والطاعة غير أنها من بعيد حيث يقارنها السلامة فإن أرضاك ذلك فأنا كأحسن عبيدك وإن أبيت إلا أن تعطي نفسك أرادتها نقضت ما أبرمت من عهدك ضنا بنفسي.
فلما وصل الكتاب إلى المنصور كتب إلى أبي مسلم قد فهمت كتابك وليست صفتك صفة أولئك الوزراء الغششة ملوكهم الذين يتمون اضطراب حبل الدولة لكثرة جرائمهم فإنما راحتهم في انتشار نظام الجماعة فلم سويت نفسك بهم فأنت في طاعتك ومناصحتك واضطلاعك بما حملت من أعباء هذا الأمر على ما أنت به وليس مع الشريطة التي أوجبت منك سمعا ولا طاعة وحمل إليك أمير المؤمنين عيسى بن موسى رسالة لتسكن إليها إن أصغيت وأسأل الله أن يحول بين الشيطان ونزغاته وبينك فإنه لم يجحد بأبا يفسد به نيتك أو كد عنده وأقرب من الباب الذي فتحه عليك.
وقيل: بل كتب إليه أبو مسلم أما بعد فإني اتخذت رجلا إماما ودليلا على ما افترض الله على خلقته وكان في محلة العلم نازلا وفي قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قريبا فاستجهلني بالقرآن فحرفه عن مواضعه طمعا في قليل قد نعاه الله إلى خلقه فكان كالذي دلى بغرور وأمرني أن أجرد السيف وأرفع الرحمة ولا أقبل المعذرة ولا أقيل العثرة ففعلت توطئة لسلطانكم حتى عرفكم الله من كان يحملكم ثم استنقذني الله بالتوبة، فإن
470

يعف عني فقد ما عرف به ونسب إليه وإن يعاقبني فيما قدمت يداي وما الله بظلام للعبيد.
وخرج أبو مسلم مراغما مشاقا، وسار المنصور من الأنبار إلى المدائن وأخذ أبو مسلم طريق حلوان فقال المنصور لعمه عيسى بن علي ومن حضر من بني هاشم اكتبوا إلى أبي مسلم فكتبوا إليه يعظمون أمره ويشكرونه ويسألونه أن يتم على ما كان منه وعليه من الطاعة ويحذرونه عاقبة البغي ويأمرونه بالرجوع إلى المنصور.
وبعث المنصور الكتاب مع أبي حميد المروروزي وقال له كلم أبا مسلم بألين ما تكلم به أحدا ومنه وأعلمه أني رافعه وصانه به ما لم يصنعه به أحد إن هو صلح وراجع ما أحب فإن أبى أن يرجع فقل له يقول لك أمير المؤمنين لست من العباس واني بريء من محمد إن مضيت مشاقا ولم تأتني إن وكلت أمرك إلى أحد سواي وإن لم أل طلبك وقتالك بنفسي ولو خضت البحر لخضته أو اقتحمت النار لاقتحمتها حتى أقتلك أو أموت قبل ذلك ولا تقولن [له] هذا الكلام حتى تيأس من رجوعه ولا تطمعن منه في خير.
فسار أبو حميد فقدم على أبي مسلم بحلوان فدفع إليه الكتاب وقال له إن الناس يبلغونك عن أمير المؤمنين ما لم يقله وخلاف ما عليه رأيه منك حسدا وبغيا يريدون إزالة النعمة وتغييرها فلا تفسد ما كان منك وكلمه وقال يا أبا مسلم انك لم تزل أمير آل محمد يعرفك بذلك الناس وما ذخر الله لك من الأجر عنده في ذلك أعظم مما أنت فيه من دنياك فلا تحبط أجرك ولا يستهوينك الشيطان.
471

فقال له أبو مسلم: متى كنت تكلمني بهذا الكلام فقال إنك دعوتنا إلى هذا الأمر والى طاعة أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم بني العباس وأمرتنا بقتال من خالف ذلك فدعوتنا من أرضين متفرقة وأسباب مختلفة فجمعنا الله على طاعتهم وألف ما بين قلوبنا [بمحبتهم] وأعزنا بنصرنا لهم ولم نلق منهم رجلا إلا بما قذف الله في قلوبنا حتى أتيناهم في بلادهم ببصائر نافذة وطاعة خالصة أفتريد حين بلغنا غاية منانا ومنتهى أملنا أن تفسد أمرنا وتفرق كلمتنا وقد قلت لنا من خالفكم فاقتلوه وإن خالفتكم فاقتلوني!
فأقبل أبو مسلم على أبي نصر بن مالك بن الهيثم فقال: أما تسمع ما يقول لي هذا ما كان بكلامه يا مالك قال لا تسمع قوله ولا يهولنك هذا منه فلعمري ما هذا كلامه ولما بعد هذا أشد منه فامض لأمرك ولا ترجع فوالله لئن أتيته ليقتلنك ولقد وقع في نفسه منك شيء لا يأمنك أبدا.
فقال: قوموا، فنهضوا، فأرسل أبو مسلم إلى نيزك فعرض عليه الكتب وما قالوا: فقال: ما أرى أن نأتيه وارى أن تأتي الري فتقيم بها [فيصير] ما بين خراسان والرأي لك وهم جندك لا يخالفك أحد فإن استقام لك استقمت له وإن أبى كنت في جندك وكانت خراسان وراءك ورأيت رأيك.
فدعا أبا حميد فقال أرجعه إلى صاحبك فليس من رأي أن آتيه قال قد عزمت على خلافه؟ قال: نعم. قال: لا تفعل! قال: لا أعود إليه أبدا. فلما يئس من رجوعه معه قال له ما أمره به أبو جعفر فوجم طويلا ثم قال قم فكسره ذلك القول ورعبه.
وكان أبو جعفر المنصور قد كتب إلى أب داود خليفة أبي مسلم بخراسان
472

حين اتهم أبا مسلم ان لك امرة خراسان ما بقيت فكتب أبي داود إلى أبي مسلم أنا لم نخرج لمعصية خلفاء الله وأهل بيت نبيه فلا تخالفن أمامك ولا ترجعن إلا بإذنه فوافاه كتابه على تلك الحال فزاده رعبا وهما فأرسل إلى أبي حميد فقال له أني كنت عازما على المضي إلى خراسان ثم رأيت أن أوجه أبا إسحاق إلى أمير المؤمنين فيأتيني برأيه فإنه ممن أثق به فوجهه فلما قدم تلقاه بنو هاشم بكل ما يحب وقال له المنصور اصرفه عن وجهه ولك ولاية خراسان واجازه.
فرجع أبو إسحاق وقال لأبي مسلم ما أنكرت شيئا رأيتهم معظمين لحقك يرون لك ما يرون لأنفسهم وأشار عليه أن يرجع إلى أمير المؤمنين فيعتذر إليه مما كان منه فاجتمع على ذلك فقال له نيزك قد أجمعت على الرجوع قال نعم وتمثل:
(ما للرجال مع القضاء محالة * ذهب القضاء بحيلة الأقوام)
قال إذا عزمت على هذا فخار الله لك احفظ عني واحدة إذا دخلت عليه فاقتله ثم بايع من شئت فإن الناس لا يخالفونك.
وكتب أبو مسلم إلى المنصور يخبره انه منصرف إليه وسار نحوه واستخلف أبا نصر على عسكره وقال له أقم حتى يأتيك كتابي فان أتاك مختوما بنصف خاتم فأنا كتبته وان أتاك بخاتم كله فلم أختمه وقدم المدائن في ثلاثة آلاف رجل وخلف الناس بحلوان.
ولما ورد كتاب أبي مسلم على المنصور قرأه وألقاه إلى أبي أيوب وزيره،
473

فقرأه وقال له المنصور والله لئن ملأت عيني لأقتلنه.
فخاف أبو أيوب من أصحاب أبي مسلم أن يقتلوا المنصور ويقتلوه معه فدعا سلمة بن سعيد بن جابر وقال له هل عندك شكر فقال نعم قال إن وليتك ولاية تصيب منها متا يصيب صاحب العراق تدخل معك أخي حاتما وأراد بإدخال أخيه معه أن يطمع ولا ينكر وتجعل له النصف قال نعم قال له إن كسكر كانت عام أول بكذا وكذا ومنها العام أضعاف ذلك جفان دفعتها إليك بما كأنت أو بالأمانة أصبت ما يضيق به ذرعا قال كيف لي بهذا المال تقال له أبو أيوب تأتي أبا مسلم فتلقاه وتكلمه أن يجعل هذا فيما يرفع من حوائجه فان أمير المؤمنين يريد أن يوليه إذا قدم ما وراء بابه ويريح نفسه قال فكيف لي أن يأذن لي أمير المؤمنين في لقائه فاستأذن له أبو أيوب في ذلك فاذن له المنصور وأمره ان يبلغ سلامه وشوقه إلى أبي مسلم فلقيه سلمة بالطريق واخبره الخبر وطابت نفسه وكان قبل ذلك كئيبا حزينا ولم يزل مسرورا حتى قدم.
فلما دنا أبو مسلم من المنصور أمر الناس بتلقيه فتلقاه بنو هاشم والناس ثم قدم فدخل على المنصور فقبل يده وأمره ان ينصرف ويروح نفسه لثلاثة ويدخل الحمام فأنصرف.
فلما كان الغد دعا المنصور عثمان بن نهيك وأربعة من الحرس، منهم: شبيب بن واج وأبو حنيفة حرب بن قيس فأمرهم بقتل ابن مسلم إذا صفق بيديه وتركهم خلف الوراق.
وأرسل إلى أبي مسلم يستدعيه وكان عنده عيسى بن موسى يتغدى،
474

فدخل على المنصور، فقال له المنصور: أخبرني عن نصلين أصبتهما مع عبد الله بن علي قال هذا أحدهما. قال: أرنيه فانضاه وناوله إياه فوضعه المنصور تحت فراشه واقبل عليه يعاتبه وقال له أخبرني عن كتابك إلى السفاح تنهاه عن الموات أردت ان تعلمنا الدين قال ظننت ان أخذه لا يحل فلما اتاني كتابه علمت انه وأهل بيته معدن العلم. قال: فأخبرني عن تقدمك إياي بطريق مكة قال كرهت اجتماعنا على الماء فيضر ذلك بالناس فتقدمتك للرفق قال فقولك لما أشار عليك بالانصراف إلي بطريق مكة وحين اتاك موت أبي العباس إلى ان نقدم فنرى رأينا ومضيت فلا أنت أقمت حتى الجقك ولا أنت رجعت إلي قال منعني من ذلك ما أخبرتك من طلب الرفق بالناس وقلت تقدم الكوفة وليس عليك من خلاف قال فجارية عبد الله أردت ان تتخذها قال لا ولكني خفت ان تضيع فحملتها في قبة ووكلت بها من يحفظها قال فمراغمتك
وخروجك إلى خراسان قال خفت أن يكون قد دخلك مني شيء فقلت آتي خراسان فاكتب إليك بعذري فأذهب ما في نفسك قال فالمال الذي جمعته بخراسان قال أنفقته بالجند تقوية لهم واستصلاحا ألست الكاتب إلي تبدأ بنفسك وتخطب عمتي آمنة ابنة علي وتزعم انك ابن سليط بن عبد الله بن عباس لقد ارتقيت لا أم لك مرتقى صعبا.
ثم قال: وما الذي دعاك إلى قتل سليمان ابن كثير مع أثره في دعوتنا وهو أحد فتياننا قبل ان يدخلك في شيء من هذا الأمر؟ قال: أراد الخلاف وعصاني فقتلته.
475

فلما طال عتاب المنصور قال لا يقال هذا لي بعد بلائي وما كان مني قال يا ابن الخبيثة والله لو كأنت أمة مكانك لأجزأت إنما عملت في دولتنا وبريحنا فلو كان ذلك إليك ما قطعت فتيلا.
فأخذ أبو مسلم بيده يقبلها ويعتذر إليه فقال له المنصور ما رأيت كاليوم والله ما زدتني الا غضبا قال أبو مسلم دع هذا فقد أصبحت ما أخاف [إلا] الله تعالى. فغضب المنصور وشتمه وصفق بيده على الأخرى فخرج عليه الحرس فضربه عثمان بن هيك فقطع حمائل سيفه فقال استبقني لعدوك يا أمير المؤمنين فقال لا أبقاني الله إذا أعدو اعدى لي منك وأخذه الحرس بسيوفهم حتى قتلوه وهو يصيح العفو فقال المنصور يا ابن اللخناء العفو والسيوف قد اعتورتك فقتلوه في شعبان لخمس بقين منه فقال المنصور:
(زعمت أن الدين لا يقتضي * فاستوف بالكيل أبا مجرم)
(سقيت كأسا وكنت تسقي بها * أمر في الحلق من العلقم)
وكان أبو مسلم قد قتل في دولته ستمائة ألف صبرا.
فلما قتل أبو مسلم دخل أبو الجهم على المنصور فرأى أبا مسلم قتيلا فقال الا أرد الناس؟ قال: بلى فمر بمتاع يحمل إلى رزاق آخر.
وخرج أبو الجهم فقال انصرفوا فان الأمير يريد القائلة عند أمير المؤمنين ورأوا المتاع ينقل فظنوه صادقا فانصرفوا وأمر لهم المنصور بالجوائز فأعطى أبا إسحاق مائة ألف.
ودخل عيسى بن موسى على المنصور بعد قتل أبي مسلم فقال يا أمير المؤمنين أين أبو مسلم فقال قد كان هاهنا [آنفا]. فقال عيسى: قد عرفت نصيحته وطاعته ورأي الامام إبراهيم كان فيه فقال يا أحمق والله ما اعلم في
476

الأرض عدوا اعدى لك منه! ها هو ذا في البساط فقال عيسى أنا لله وانا إليه راجعون وكان لعيسى فيه رأي فقال له المنصور خلع الله قلبك وهل كان لكم ملك أو سلطان أو أمر أو نهي مع أبي مسلم؟
ثم دعا المنصور بجعفر بن حنظلة فدخل عليه فقال ما تقول في أمر أبي مسلم قال يا مير المؤمنين ان كنت اخذت من رأسه شعرة فاقتل ثم اقتل فقال له المنصور وفقك الله فلما نظر إلى أبي مسلم مقتولا قال يا أمير المؤمنين عد من هذا اليوم خلافتك.
ثم دعا المنصور بابي إسحاق فلما دخل عليه قال له أنت المانع عدو الله على ما اجمع عليه وقد كان بلغه انه أشار عليه باتيان خراسان قال فكف أبو إسحاق وجعل يلتفت يمينا وشمالا خوفا من أبي مسلم فقال له المنصور تكلم بما أردت فقد قتل الله الفاسق وأمر باخراجه فلما رآه أبو إسحاق خر ساجدا لله فأطال ورفع رأسه وهو يقول الحمد لله الذي أمتني بك اليوم والله ما أمنته يوما [واحدا] وما خفته يوما واحدا، وما جئته يوما قط الا وقد أوصيت وتكفنت وتحنطت ثم رفع ثيابه الظاهرة فإذا تحتها ثياب أكفان جدد وقد تحنط.
فلما رأى أبو جعفر حاله رحمه وقال له استقبل طاعة خليفتك واحمد الله الذي أراحك من الفاسق هذا ثم قال له فرق [عني] هذه الجماعة.
ثم كتب المنصور بعد قتل أبي مسلم إلى أبي نصر مالك بن الهيثم عن لسان أبي مسلم يأمره بحمل ثقله وما خلف عنده وان يقدم وختم الكتاب بخاتم أبي
477

مسلم، فلما رأى الخاتم تاما علم ان أبا مسلم لم يكتب فقال فعلتموها وانحدر إلى همذان وهو يريد خراسان.
فكتب المنصور لأبي نصر عهده على شهرزور وكتب إلى زهير وأبو التركي وهو على همذان ان مر بك أبو نصر فاحبسه فسبق الكتاب إلى زهير وأبو نصر بهمذان فقال له زهير قد صنعت لك طعاما فلو أكرمتني بدخول منزلي فحضر عنده فأخذه زهير وحبسه.
وكتب أبو جعفر إلى زهير كتابا يأمره بقتل أبي نصر وقدم صاحب العهد على أبي نصر بعهده على شهرزور فخلى زهير سبيله لهواه فيه فخرج ثم وصل بعد يوم الكتاب إلى زهير بقتل أبي نصر فقال جاءني كتاب بعهده فخليت سبيله.
وقدم أبو نصر على المنصور فقال له أشرت على أبي مسلم بالمضي إلى خراسان قال نعم كأنت له عندي اياد فنصحت له وان اصطنعني أمير المؤمنين نصحت له وشكرت فعفا عنه.
فلما كان يوم الرواندية قام أبو نصر على باب القصر وقال أنا البواب اليوم لا يدخل أحد وانا حي فسال عنه المنصور فأخبر به فعلم ان قد نصح له وقيل ان زهيرا سير أبا نصر إلى المنصور مقيدا فمن عليه واستعمله على الموصل.
ولما قتل المنصور أبا مسلم خطب الناس فقال أيها الناس لا تخرجوا من انس الطاعة إلى وحشة المعصية ولا تمشوا في ظلمة الباطل بعد سعيكم ف ضياء الحق إن أبا مسلم أحسن مبتدئا وأساء معقبا وأخذ من الناس بنا أكثر مما
478

أعطانا، ورجح قبيح باطنه على حسن ظاهره وعلمنا من خبث سريرته وفساد نيته ما لو علمه اللائم لنا فيه لعذرنا في قتله وعنفنا في إمهالنا وما زال ينقض بيعته ويخفر
ذمته حتى أحل لنا عقوبته وأباحنا دمه فحكمنا فيه حكمه لنا في غيره [ممن شق العصا]، ولم يمنعنا الحق له من إمضاء الحق فيه وما أحسن ما قال النابغة الذبياني للنعمان:
(فمن أطاعك فانفعه بطاعته * كما أطاعك واد لله على الرشد)
(ومن عصاك فعاقبه معاقبة * تنهى الظلوم ولا تقعد على ضمد)
ثم نزل.
وكان أبو مسلم قد سمع الحديث من عكرمة وأبي الزبير المكي وثابت البناني ومحمد بن علي بن عبد الله بن عباس والسدير وروى عنه إبراهيم بن ميمون الصائغ وعبد الله بن المبارك وغيرهما.
خطب يوما فقام إليه رجل فقال ما هذا السواد الذي أرى عليك فقال حدثني أبو الزبير عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وعلى رأسه عمامة سوداء وهذه ثياب الهيبة وثياب الدولة يا غلام اضرب عنقه.
قيل لعبد الله بن المبارك: أبو مسلم كان خيرا أو الحجاج قال لا أقول ان أبا مسلم كان خيرا من أحد ولكن الحجاج كان شرا منه.
وكان أبو مسلم نازكا شجاعا ذا رأي وعقل وتدبير وحزم ومروءة، وقيل
479

له: بم نلت ما أنت فيه من القهر للأعداء فقال ارتديت الصبر وآثرت الكتمان وحالفت الأحزان والأشجان وسامحت المقادير والاحكام حتى بلغت غاية همتي وأدركت نهاية بغيتي؛ ثم قال:
(قد نلت بالحزم والكتمان ما عجزت * عنه ملوك بني ساسان إذ حشدوا)
(ما زلت أضربهم بالسيف فانتبهوا * من رقدة لم ينمها قبلهم أحد)
(طفقت أسعى عليهم في ديارهم * والقوم في ملكهم بالشام قد رقدوا)
(ومن رعى غنما في أرض مسبعة * ونام عنها تولى رعيها الأسد)
وقيل: إن أبا مسلم ورد نيسابور على حمار باكاف وليس معه آدمي فقصد في بعض الليالي دارا لفاذوسيان فدق عليه الباب ففزع أصحابه وخرجوا إليه فقال لهم قولوا للدهقان ان أبا مسلم بالباب يطلب منك ألف درهم ودابة فقالوا: للدهقان ذلك فقال الدهقان في أي زي واي عدة فأخبروه أنه وحده في أدون زي فسكت ساعة ثم دعا بألف درهم ودابة من خواص دوابه وأذن له وقال يا أبا مسلم قد أسعفناك بما طلبت وإن عرضت حاجة أخرى فنحن بين يديك فقال ما نضيع لك ما فعلته.
فلما ملك قال له بعض أقاربه إن فتحت نيسابور أخذت كل ما تريده من مال الفاذوسيان دهقانها المجوسي فقال أبو مسلم له عندنا يد فلما ملك نيسابور اتته هدايا الفاذوسيان فقيل له: لا تقبلها واطلب منه الأموال فقال له عندي يد ولم يتعرض له ولا لأحد من أصحابه وأمواله وهذا يدل على علو همة وكمال مروءة.
* * *
480

وفي هذه السنة استعمل المنصور أبا داود على خراسان وكتب إليه بعهده.
ذكر خروج سنباد بخراسان
وفي هذه السنة خرج سنباد بخراسان يطلب بدم أبي مسلم وكان مجوسيا من قرية من قرى نيسابور يقال لها أهروانه كان ظهوره غضبا لقتل أبي مسلم لأنه كان من صنائعه وكثر اتباعه وكان عامتهم من أهل الجبال وغلب على نيسابور وقومس والري وتسمى فيروز اصبهبذ فلما صار بالري أخذ خزائن أبي مسلم وكان أبو مسلم خلفها بالري حين شخص إلى أبي العباس وسبى الحرم ونهب الأموال ولم يعرض للتجار وكان يظهر انه يقصد الكعبة ويهدمها.
فوجه إليه المنصور جمهور إبراهيم بن مرار العجلي في عشرة آلاف فارس فالتقوا بين همذان والري على طرف المفازة وعزم الجمهور على مطاولته فلما التقوا قدم سنباد السبايا من النساء المسلمات على الجمال فلما رأين عسكر المسلمين قمن في المحامل ونادين وا محمداه ذهب الإسلام ووقعت الريح في أثوابهن فنفرن الإبل وعادت على عسكر سنباذ فتفرق العسكر وكان ذلك سبب الهزيمة وتبع المسلمون الإبل ووضعوا السيوف في المجوس ومن معهم فقتلوهم كيف شاؤوا وكان عدد القتلى نحوا من ستين ألفا وسبى ذراريهم ونساءهم ثم قتل سنباذ بين طبرستان وقومس.
وكان بين مخرج سنباذ وقتله سبعون ليلة وكان سبب قتله أنه قصد
481

طبرستان ملتجئا إلى صاحبها فأرسل إلى طريقه عاملا له اسمه طوس فتكبر عليه سنباذ فضرب طوس عنقه وكتب إلى المنصور بقتله وأخذ ما معه من الأموال وكتب المنصور إلى صاحب طبرستان يطلب منه الأموال فأنكرها فسير الجنود إليه فهرب إلى الديلم.
ذكر خروج ملبد بن حرملة الشيباني
وفي هذه السنة خرج ملبد بن حرملة الشيباني فحكم بناحية الجزيرة فسارت إليه روابط الجزيرة وهو في نحو ألف فارس فقاتلهم وهزمهم وقتل من قتل منهم ثم سار إليه يزيد بن حاتم المهلبي فهزمه ملبد بعد قتال شديد وأخذ جارية له كان يطؤها فوجه إليه المنصور مولاه مهلهل بن صفوان في ألفين من نخبة الجند فهزمهم ملبد واستباح عسكرهم.
ثم وجه إليه نزارا قائدا من قواد خراسان فقتله ملبد وانهزم أصحابه.
ثم وجه زياد بن مشكان في جمع كثير فلقيهم ملبد فهزمهم ثم وجه إليه صالح بن صبيح في جيش كثيف وخيل كثيرة وعدة فهزمهم ملبد ثم سار إليه حميد بن قحطبة وهو على الجزيرة يومئذ فلقيه ملبد فهزمه وتحصن منه حميد بن قحطبة وأعطاه مائة ألف درهم على أن يكف عنه.
وقيل إن خروج ملبد كان سنة ثمان وثلاثين ومائة.
482

ذكر عدة حوادث
ولم يكن للناس في هذه السنة صائفة لشغل السلطان بحرب سنباد.
وحج بالناس هذه السنة إسماعيل بن علي بن عبد الله بن عباس وهو على الموصل وكان على المدينة زياد بن عبيد الله وعلى مكة العباس بن عبد الله بن معبد ومات العباس عند انقضاء الموسم فضم إسماعيل عمله إلى زياد بن عبيد الله وأقره المنصور عليه وكان على الكوفة عيسى بن موسى وعلى البصرة وأعمالها سليمان بن علي وعلى قضائها عمر بن عامر السلمي وعلى خراسان أبو داود خالد بن إبراهيم وعلى مصر صالح بن علي وعلى الجزيرة حميد بن قحطبة وعلى الموصل إسماعيل بن علي بن عبد الله وهي على ما كأنت عليه من الاجتدال.
483

138
ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين ومائة
ذكر خلع جمهور بن مرار العجلي
وفيها خلع جمهور بن مرار المنصور بالري.
وكان سبب ذلك أن جمهور لما هزم سنباد حوى ما في عسكره وكان في خزائن أبي مسلم فلم يوجهها إلى المنصور فخاف فخلع ووجه إليه المنصور محمد بن الأشعث في جيش عظيم نحو الري ففارقها جمهور نحو صابهان ودخل محمد الري وملك جمهور أصبهان فأرسل إليه محمد عسكرا وبقي في الري فأشار على جمهور بعض أصحابه ان يسير في نخبة عسكره نحو محمد فإنه في قلة فإن ظفر لم يكن لمن بعده بقية فسار إليه مجدا.
وبلغ خبره محمدا فحذر واحتاط وأتاه عسكر من خراسان فقوي بهم فالتقوا بقصر الفيروزان بين الري وأصبهان فاقتتلوا قتالا عظيما ومع جمهور نخبة فرسان العجم فهزم جمهور وقتل من أصحابه خلق كثير وهرب جمهور فلحق باذربيجان ثم انه بعد ذلك قتل باسباذروا قتله أصحابه وحملوا رأسه إلى المنصور.
484

ذكر قتل ملبد الخارجي
قد ذكرنا خروجه في السنة قبلها وتحصن حميد منه ولما بلغ المنصور ظفر ملبد وتحصن حميد منه وجه إليه عبد العزيز بن عبد الرحمن أخا عبد الجبار وضم إليه زياد بن مشكان فأكمن له ملبد مائة فارس فلما لقيه عبد العزيز خرج عليه الكمين فهزموه وقتلوا عامة أصحابه.
فوجه [المنصور] إليه خازم بن خزيمة في نحو ثمانية ' لاف من المروروذية فسار خازم حتى نزل الموصل وبعث إلى ملبد بعض أصحابه وعبر ملبد دجلة من بلد وسار نحو خازم وسار إليه خازم وعلى مقدمته وطلائعه فصلى بن نعيم بن خازم بن عبد الله النهشلي وعلى ميمنته زهير بن محمد العامري وعلى ميسرته أبو حماد الأبرص وخازم في القلب فلم يزل يساير ملبدا وأصحابه إلى الليل وتواقعوا ليلتهم فلما كان الغد سار ملبد نحو كورة حزه وخازم وأصحابه يسايرونهم حتى غشيهم الليل وأصبحوا من الغد فسار ملبد كأنه يريد الهرب فخرج خازم في أثره وتركوا خندقهم وكان خازم قد خندق على أصحابه بالحسك فلما خرجوا منه حمل عليهم ملبد وأصحابه فلما رأى ذلك خازم القى الحسك بين يديه ويدي أصحابه فحملوا على ميمنة خازم فطووها ثم حملوا على الميسرة فطووها ثم انتهوا إلى القلب وفيه خازم فنادى خازم في أصحابه الأرض الأرض فنزلوا ونزل ملبد وأصحابه وعقروا عامة دوابهم ثم اضطربوا بالسيوف حتى تقطعت.
485

وأمر خازم فضلة بن نعيم أن إذا سطع الغبار ولم يبصر بعضنا بعضا فارجع إلى خيلك وخيل أصحابك فاركبوها ثم ارموهم بنشاب ففعل ذلك وتراجع أصحاب خازم من الميمنة والميسرة ثم رشقوا ملبدا وأصحابه بالنشاب فقتل ملبد في ثمانمئة رجل ممن ترجل وقتل منهم قبل أن يترجلوا زهاء ثلاثمائة وهرب الباقون وتبعهم فضلة فقتل منهم مائة وخمسين رجلا.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة خرج قسطنطين ملك الروم إلى بلاد الإسلام فدخل ملطية عنوة وقهرا وغلب أهلها وهدم سورها وعفا عمن فيها من المقاتلة والذرية.
وفيها غزا العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس الصائفة مع صالح بن علي وعيسى بنت علي وقيل كأنت سنة تسع وثلاثين فبنى صالح ما كان ملك الروم أخربه من سور ملطية.
وفيها بايع عبد الله بن علي للمنصور وهو مقيم بالبصرة مع أخيه سليمان بن علي. وفيها وسع المنصور المسجد الحرام.
وحج بالناس هذه السنة الفضل بن صالح ابن علي وكان على المدينة ومكة والطائف زياد بن عبيد الله الحارثي وعلى الكوفة وسوادها عيسى بن موسى وعلى البصرة سليمان بن علي وعلى قضائها سوار ابن عبد الله وعلى خراسان أبو داود وعلى مصر صالح بن علي.
486

وفيها توفي السواد بن رفاعة بن أبي مالك القرطبي وسعيد بن جهمان أبو حفص الأسلمي يروي عن سفينة حديث الخلافة ثلاثون ويونس بن عبيد البصري، وقيل توفي
سنة تسع وثلاثين ومائة.
487

139
ثم دخلت سنة تسع وثلاثين ومائة
ذكر غزو الروم والفداء معهم
في هذه السنة فرغ صالح بن علي والعباس بن محمد من عمارة ما أخربه الروم من ملطية ثم غزوا الصائفة من درب الحدث فوغلا في أرض الروم وغزا مع صالح أختاه أم عيسى ولبابة بنتا علي وكانتا نذرتا ان زوال ملك بني أمية ان تجاهدا في سبيل الله وغزا من درب ملطية جعفر بن حنظلة المهراني.
وفي هذه السنة كان الفداء بين المنصور وملك الروم فاستفدى المنصور اسرى قالي قلا وغيرهم من الروم وبناها وعمرها ورد إليها أهلها وندب إليها جندا من أهل الجزيرة وغيرهم فأقاموا بها وحموها ولم يكن بعد ذلك صائفة فيما قيل الا سنة ست وأربعين لاشتغال المنصور بابني عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي الا ان بعضهم قال ان الحسن بن قحطبة غزا الصائفة مع عبد الوهاب بن إبراهيم الامام في سنة أربعين واقبل قسطنطين ملك الروم في مائة ألف فبلغ جيحان فسمع كثرة المسلمين فأحجم عنهم ثم لم يكن بعدها صائفة إلى سنة ست وأربعين.
488

ذكر دخول عبد الرحمن بن معاوية إلى الأندلس
قد ذكرنا في سنة اثنتين وستعين فتح الأندلس وعزل موسى بن نصير عنها.
فلما عزل عنها وسار إلى الشام استخلف عليها ابنه عبد العزيز وضبطها وحمى ثغورها وافتتح في ولايته مدائن كثيرة وكان خيرا فاضلا وبقي أميرا إلى سنة سبع وتسعين وقيل ثمان وتسعين فقتل بها وقد تقدم سبب قتله.
فلما قتل بقي أل الأندلس ستة أشهر لا يجمعهم وال ثم اتفقوا على أيوب بن حبيب اللخمي وهو ابن أخت موسى بن نصير فكان يصلي بهم لصلاحه وتحول إلى قرطبة وجعلها دار إمارة في أول سنة تسع وتسعين وقيل سنة ثمان وتسعين.
ثم ان سليمان بن عبد الملك استعمل بعده الحر بن عبد الرحمن الثقفي فقدمها سنة ثمان وتسعين فأقام واليا عليها سنتين وتسعة أشهر.
فلما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة استعمل على الأندلس السمح بن مالك الخولاني وأمره ان يميز ارضها ويخرج منها ما كان عنوة ويأخذ منه الخمس ويكتب إليه بصفة الأندلس وكان رأيه إقفال أهلها منها لانقطاعهم عن المسلمين فقدمها السمح سنة مائة في شهر رمضان وفعل ما أمره عمر وقتل عند انصرافه من دار الحرب سنة اثنتين ومائة وكان قد بدا لعمر في نقل أهلها عنها ثم تركهم ودعا لأهلها.
489

ثم وليها بعد السمح عنبسة بن سحيم الكلبي سنة ثلاث ومائة وتوفي في شعبان سنة سبع ومائة عند انصرافه من غزوة الإفرنج.
ثم وليها وبعده يحيى بن سلمى الكلبي في ذي القعدة سنة سبع فبقي عليها واليا سنتين وستة أشهر. ثم دخل الأندلس حذيفة بن الأبرص الأشجعي سنة عشر ومائة فبقي واليا عليها ستة اشهر ثم عزل ثم وليها عثمان بن أبي نسعة الخثعمي فقدمها سنة عشر ومائة وعزل آخر سنة عشر ومائة أيضا وكأنت ولايته خمسة اشهر.
ثم وليها الهيثم بن عبيد الكناني فقدمها في المحرم سنة إحدى عشرة ومائة فأقام واليا عليها عشرة اشهر وأياما ثم توفي في ذي الحجة فقدم أهل الأندلس على أنفسهم محمد بن عبد الله الأشجعي وكأنت ولايته شهرين وولي بعده عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي في صفر سنة اثنتي عشرة ومائة واستشهد في أرض العدو في رمضان سنة اربع عشرة ومائة.
ثم وليها عبد الملك ابن قطن الفهري فأقام عليها سنتين وعزل ثم وليها بعده عقبة بن الحجاج السلولي دخلها سنة ست عشرة ومائة فوليها خمس سنين وثار أهل الأندلس به فخلعوه فولوا بعده عبد الملك بن قطن وهي ولايته الثانية، وقد ذكر بعض مؤرخي الأندلس انه توفي فولي أهل الأندلس عبد الملك.
ثم وليها بلج بن بشر القشيري بايعه أصحابه فهرب عبد الملك ولحق بداره وهرب ابناه قطن وأمية فلحق أحدهما بماردة والآخر بسرقسطة ثم ثارت اليمن على بلج وسألوه قتل عبد الملك بن قطن، فلما
490

خشي فسادهم أمر به فقتل وصلب وكان عمره تسعين سنة فلما بلغ ابنيه قتله حشدا من ماردة إلى أربونة فاجتمع إليهما مائة ألف وزحفوا إلى بلج ومن معه بقرطبة فخرج إليهم بلج فلقيهم فيمن معه من أهل الشام بقرب قرطبة فهزمهما ورجع إلى قرطبة فمات بعد أيام يسيرة.
وكان سبب قدوم بلج الأندلس انه كان مع عمه كلثوم بن عياض في وقعة البربر سنة ثلاث وعشرين وقد تقدم ذكرها فلما قتل عمه سار إلى الأندلس فاجازه عبد الملك بن قطن إليها وكان سبب قتله.
ثم ولى أهل الشام على الأندلس مكانه ثعلبة بن سلامة العاملي فأقام إلى ان قدم أبو الخطار واليا على الأندلس سنة خمس وعشرين ومائة فدان له أهل الأندلس واقبل إليه ثعلبة وابن أبي نسعة وابنا عبد الملك فآمنهم وأحسن إليهم واستقام أمره وكان شجاعا ذا رأي وكرم وكثر أهل الشام عنده فلم تحملهم قرطبة ففرقهم في البلاد فانزل أهل دمشق البيرة لشبهها بها وسماها دمشق وانزل أهل حمص إشبيلية وسماها حمص وانزل أهل قنسرين بجيان وسماها قتسرين وانزل أهل الأردن برية وسماها الأردن وانزل أهل فلسطين بشذونة وسماها فلسطين وانزل أهل كصر بتدمير وسماها مصر لشبهها بها، ثم تعصب اليمانية وكان ذلك سببا لتألب الصميل بن حاتم عليه مع مضر وحربه وخلعه وقامت هذه الفتنة سنة سبع وعشرين ومائة.
وكان الصميل بن حاتم بن شمر ابن ذي الجوشن قد قدم الأندلس في امداد الشام فراس بها فأراد أبو الخطار ان يضع منه فأمر به يوما وعنده الجند فشتم وأهين فخرج وعمامته مائلة فقال له بعض الحجاب: ما بال عمامتك
491

مائلة؟ فقال: إن كان لي قوم فسيقيمونها وبعث إلى قومه فشكا إليهم ما لقي فقالوا: نحن لك تبع وكتبوا إلى ثوابة بن سلامة الجذامي وهو من أهل فلسطين فوفد عليهم وأجابهم وتبعهم لخم وجذام.
فبلغ ذلك إلى أبي الخطار فسار إليهم، فقتلوه فانهزم أصحابه واسر أبو الخطار ودخل ثوابة قصر قرطبة وأبو الخطار في قيوده فولي ثوابة الأندلس سنتين ثم توفي فأراد أهل اليمن إعادة أبي الخطار وامتنعت مضر ورأسهم الصميل وافترقت الكلمة فأقامت الأندلس أربعة اشهر بغير أمير وقد تقدم ابسط من هذا سنة سبع وعشرين ومائة.
فلما بقوا بغير أمير قدموا عبد الرحمن بن كثير اللخمي للاحكام.
فلما تفاقم الأمر اتفق رأيهم على يوسف بن عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة الفهري فوليها يوسف سنة تسع وعشرين فاستقر الأمر ان يلي سنة ثم يرد الأمر إلى اليمن فيولون من أحبوا من قومهم.
فلما انقضت السنة اقبل أهل اليمن بأسرهم يريدون ان يولوا رجلا منهم فبيتهم الصميل فقتل منهم خلقا كثيرا فهي وقعة شقندة المشهورة وفيها قتل أبو الخطار واقتتلوا بالرماح حتى تقطعت وبالسيوف حتى تكسرت ثن تجاذبوا بالشعور وكان ذلك سنة ثلاثين واجتمع الناس على يوسف ولم يعترضه أحد.
وقد قيل غير ما ذكرنا وقد تقدم ذكره سنة سبع وعشرين ومائة.
ثم توالى القحط على الأندلس وجلا أهلها عنها وتضعضعت إلى سنة ست وثلاثين ومائة، وفيها اجتمع تميم بن معبد الفهري وعامر العبدري بمدينة سرقسطة، وحاربهما الصميل، ثم سار إليهما يوسف الفهري فحاربهما
492

فقتلهما وبقي يوسف على الأندلس إلى ان غلب عليها عبد الرحمن بن معاوية ابن هشام.
هذا ما ذكرناه من ولاة الأندلس على الاختصار وقد تقدم ابسط من هذا متفرقا وإنما أوردناه ههنا متتابعا ليتصل بعض أخبار الأندلس ببعض لأنها وردت متفرقة ونرجع إلى ذكر عبور عبد الرحمن بن معاوية بن هشام إليها.
* * *
وأما سبب مسير عبد الرحمن إلى الغرب فإنه يحكى عنه انه لما ظهرت الدولة العباسية وقتب من بني أمية من قتل ومن شيعتهم فر منهم من نجا في الأرض وكان عبد الرحمن بن معاوية بذات الزيتون ففر منها إلى فلسطين واقام هو ومولاه بدر يتجسس الاخبار فحكي عنه انه قال لما أعطينا الأمان ثم نكث بنا بنهر أبي فطرس وأبيحت دماؤنا اتانا الخبر وكنت منتبذا من الناس فرجعت إلى منزلي آيسا ونظرت فيما يصلحني وأهلي وخرجت خائفا حتى صرت إلى قرية على الفرات ذات شجر وغياض فبينا أنا ذات يوم بها وولدي سليمان يلعب بين يدي وهو يومئذ ابن اربع سنين فخرج عني ثم دخل الصبي من باب البيت باكيا فزعا فتعلق بي وجعلت أدفعه وهو يتعلق بي فخرجت لأنظر وإذا بالخوف قد نزل بالقرية وإذا بالرايات السود منحطة عليها واخ لي حدث السن يقول لي النجاء النجاء فهذه رايات المسودة فأخذت دنانير معي ونجوت بنفسي وأخي وأعلمت أخواتي بمتوجهي فأمرتهن ان يلحقنني مولاي بدرا وأحاطت الخيل بالقرية فلم يجدوا لي اثرا فاتيت رجلا من معارفي وأمرته فاشترى لي دواب وما يصلحني فدل علي عبد له العامل فاقبل في خيله يطلبني فخرجنا على أرجلنا هرابا والخيل
493

تبصرنا فدخلنا في بساتين على الفرات فسبقنا الخيل إلى الفرات فسبحنا فاما أنا فنجوت والخيل ينادوننا بالأمان ولا ارجع وأما أخي فإنه عجز عن السباحة في نصف الفرات فرجع إليهم بالأمان وأخذوه فقتلوه وانا انظر إليه وهو ابن ثلاث عشرة سنة فاحتملت فيه ثكلا ومضيت لوجهي فتواريت في غيضة أشبة حتى انقطع الطلب عني وخرجت فقصدت المغرب فبلغت إفريقية.
ثم ان أخته ام الأصبغ ألحقته بدرا ومولاه ومعه نفقة له وجوهر فلما بلغ إفريقية لج عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة الفهري قيل هو والد يوسف أمير الأندلس وكان عبد الرحمن عامل إفريقية في طلبه واشتد عليه فهرب منه فاتى مكناسة وهم قبيل من البربر فلقي عندهم شدة يطول ذكرها ثم هرب من عندهم فاتى نفزاوة وهم أخواله وبدر معه.
وقيل اتى قوما من الزناتيين فأحسنوا قبوله واطمأن فيهم وأخذ في تدبير المكاتبة إلى الأمويين من أهل الأندلس يعلمهم بقدومه ويدعوهم إلى نفسه ووجه بدرا مولاه إليهم وأمير الأندلس حينئذ يوسف بن عبد الرحمن الفهري.
فسار بدر إليهم واعلمهم حال عبد الرحمن ودعاهم إليه فأجابوه ووجهوا له مركبا فيه ثمامة بن علقمة ووهب بن الأصفر وشاكر بن أبي الاسمط فوصلوا إليه وأبلغوه طاعتهم له وأخذوه ورجعوا إلى الأندلس فارسي في المكنب في شهر ربيع الأول سنة ثمان وثلاثين ومائة فاتاه جماعة من رؤسائهم من أهل إشبيلية وكأنت أيضا نفوس أهل اليمن حنقة على الصميل ويوسف الفهري فاتوه ثم أنتقل إلى كورة رية فبايعه عاملها عيسى بن مساور ثم اتى شذونة فبايعه غياث بن علقمة اللخمي ثم اتى مورور فبايعه إبراهيم ابن شجرة عاملها ثم اتى إشبيلية فبايعه أبو الصباح يحيى بن يحيى ونهض إلى قرطبة.
فبلغ خبره إلى يوسف وكان غائبا عن قرطبة بنواحي طليلة فاتاه
494

الخبر وهو راجع إلى قرطبة فسار عبد الرحمن نحو قرطبة.
فلما اتى قرطبة تراسل هو ويوسف في الصلح فخادعه نحو يومين أحدهما يوم عرفة ولم يشك أحد من أصحاب يوسف ان الصلح قد أبرم واقبل على اعداد الطعام ليأكله الناس على السماط يوم الأضحى وعبد الرحمن مرتب خيله ورجله وعبر النهر في أصحابه ليلا ونشب القتال ليلة الأضحى وصبر الفريقان إلى ان ارتفع النهار وركب عبد الرحمن على بغل لئلا يظن الناس انه يهرب فلما رأوه كذلك سكنت نفوسهم واسرع القتل في أصحاب يوسف وانهزم وبقي الصميل يقاتل مع عصابة من عشيرته ثم انهزموا فظفر عبد الرحمن ولما انهزم يوسف اتى ماردة واتى عبد الرحمن قرطبة فأخرج حشم يوسف من القصر على عودة ودخله بعد ذلك.
ثم سار في طلب يوسف فلما أحس به يوسف خالفه إلى قرطبة فدخلها وملك قصرها فأخذ جميع أهله وماله ولحق بمدينة البيرة وكان الصميل لحق بمدينة شوذر.
وورد إلى عبد الرحمن الخبر فرجع إلى قرطبة طمعا في لحاقه بها فلما لم يجده عزم على النهوض إليه فسار إلى البيرة وكان الصميل قد لحق بيوسف وتجمع لهما هناك جمع فتراسلوا في الصلح فاصطلحوا على ان ينزل يوسف بأمان هو ومن معه وان يسكن مع عبد الرحمن بقرطبة ورهنه يوسف ابنيه أبا الأسود محمدا وعبد الرحمن وسار يوسف مع عبد الرحمن فلما دخل قرطبة تمثل:
(فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا * إذا نحن فيهم سوقة نتنصف)
واستقر عبد الرحمن بقرطبة وبنى القصر والمسجد الجامع وانفق فيه ثمانين
495

ألف دينار ومات قبل تمامه وبنى مساجد الجماعات ووافاه جماعة من أهل بيته وكان يدعو للمنصور.
* * *
وقد ذكر أبو جعفر ان دخول عبد الرحمن كان سنة تسع وثلاثين وقيل سنة ثمان وثلاثين على ما ذكرنا.
وهذا القدر كاف في ذكر دخوله الأندلس لئلا نخرج عن الذي قصدنا له من الاختصار.
ذكر حبس عبد الله بن علي
ولما عزل سليمان عن البصرة اختفى اخوه عبد الله بن علي ومن معه من أصحابه خوفا من المنصور فبلغ ذلك المنصور فأرسل إلى سليمان وعيسى ابني علي بن عبد الله بن عباس في اشخاص عبد الله وأعطاهما الأمان لعبد الله وعزم عليهما ان يفعلا.
فخرج سليمان وعيسى بعبد الله وقواده ومواليه حتى قدموا على المنصور في ذي الحجة فلما قدموا عليه أذن لسليمان وعيسى فدخلا عليه وأعلماه حضور عبد الله وسألاه الإذن له فأجابهما إلى ذلك وشغلهما بالحديث وكان قد هيأ لعبد الله مكانا في قصره فأمر به أن يصرف إليه بعد دخول سليمان وعيسى ففعل به ذلك ثم نهض المنصور وقال لسليمان وعيسى خذا عبد الله معكما فلما خرجا لم يجدا عبد الله فعلما أنه قد حبس فرجعا إلى المنصور فمنعنا عنه وأخذت عند ذلك سيوف من حضر من أصحابه وحبسوا.
496

وقد كان خفاف بن منصور حذرهم ذلك وندم على مجيئه معهم وقال: إن أطعتموني شددنا شدة واحدة على أبي جعفر فوالله لا يحول بينه وبيننا حائل حتى نأتي عليه ولا يعرض لنا أحد الا قتلناه وننجو بأنفسنا فعصوه.
فلما اخذت سيوفهم وحبسوا جعل خفاف يضرط في لحية نفسه ويتفل في وجوه أصحابه؛ ثم أمر المنصور بقتل بعضهم بحضرته وبعث الباقين إلى أبي داود خالد بن إبراهيم بخراسان فقتلهم بها.
ذكر عدة حوادث
عزل سليمان بن علي عن امرأة البصرة وقيل سنة أربعين واستعمل عليها سفيان بن معاوية في رمضان.
وحج بالناس هذه السنة العباس بن محمد بن علي وكان على مكة والمدينة والطائف زياد بن عبيد الله الحرثي وعلى الكوفة عيسى ابن موسى وعلى البصرة سفيان بن معاوية وعلى قضائها سوار بن عبد الله وعلى خراسان أبو داود.
وفيها مات عبد ربه سعيد بن قيس الأنصاري، وقيل سنة إحدى وأربعين. وفيها مات العلاء بن عبد الرحمن مولى الخرقة ومحمد بن عبد الله بن عبد الرحمن أبي صعصعة المازني ويزيد بن عبد الله بن شداد بن الهاد الليثي وكان موته بالإسكندرية.
497

140
ثم دخلت سنة أربعين ومائة
ذكر هلاك أبي داود عامل خراسان وولاية عبد الجبار
وفي هذه السنة هلك أبو داود خالد بن إبراهيم الذهلي عامل خراسان وكان سبب هلاكه ان ناسا من الجند ثاروا به وهو بكشماهن ووصلوا إلى المنزل الذي هو فيه فأشرف عليهم من الحائط ليلا فوطئ حرف الآجرة خارجة وجعل ينادي أصحابه ليعرفوا صوته فانكسرت الآجرة تحته عند الصبح فسقط على الأرض فانكسر ظهره فمات عند صلاة العصر.
فقام عصام صاحب شرطته بعده حتى قدم عليه عبد الجبار بن عبد الرحمن الأزدي عاملا على خراسان.
فلما قدمها أخذ جماعة من القواد اتهمهم بالدعاء إلى ولد علي بن أبي طالب منهم مجاشع بن حريث الأنصاري عامل بخارى وأبو المغيرة خالد بن كثير مولى بني تميم
عامل قوهستان والحريش بن محمد الذهلي وهو ابن عم أبي داود فقتلهم وحبس جماعة غيرهم وألح على عمال أبي داود في استخراج ما عندهم من الأموال.
ذكر قتل يوسف الفهري
في هذه السنة نكث يوسف الفهري الذي كان أمير الأندلس عهد عبد الرحمن الأموي.
498

وكان سبب ذلك ان عبد الرحمن كان يضع عليه من يهينه وينازعه في املاكه فإذا اظهر حجر الشريعة لا يعمل بها ففطن لما يراد منه فقصد ماردة واجتمع عليه عشرون ألفا فسار نحو عبد الرحمن وخرج عبد الرحمن من قرطبة نحوه إلى حصن المدور.
ثم ان يوسف رأى ان يسير إلى عبد الملك بن عمر بن مروان وكان واليا على إشبيلية والى ابنه عمر بن عبد الملك وكان على المدور فسار نحوهما وخرجا إليه فلقياه فاقتتلا قتالا شديدا فصبر الفريقان وانهزم أصحاب يوسف وقتل منهم خلق كثير وهرب يوسف وبقي مترددا في البلاد فقتله بعض أصحابه في رجب من سنة اثنتين وأربعين بنواحي طليلة وحمل رأسه إلى عبد الرحمن فنصبه بقرطبة وقتل ابنه عبد الرحمن بن يوسف الذي كان عنده رهينة ونصب رأسه مع رأس أبيه وبقي أبو الأسود ابن يوسف عند عبد الرحمن الأموي رهينة وسيأتي ذكره.
وما العميل فإنه لما فر يوسف من قرطبة لم يهرب معه فدعاه الأمير عبد الرحمن وسأله عنه فقال لم يعلمني بأمره ولا اعرف خبره فقال لا بد ان تخبر فقال لو كان تحت قدمي ما رفعتهما عنه فسجنه مع ابني يوسف. فلما هربا من السجن أنف من الهرب والفرار فبقي في السجن. ثم أدخل إليه بعد ذلك مشيخة مضر فوجدوه ميتا وعنده كأس ونقل فقالوا: يا أبا جوشن قد علمنا انك ما شربت ولكن سقيت ودفع إلى أهله فدفنوه.
499

ذكر عدة حوادث
في هذه السنة هلك أذفنش ملك جليقية وملك بعده ابنه تدويلية وكان أشجع من أبيه وأحسن سياسة للملك وضبطا له وكان ملك أبيه ثماني عشرة سنة ولما ملك ابنه قوي وعظم سلطانه واخرج المسلمين من ثغور البلاد وملك مدينة لك وبرطقال وسلمنقة وشمورة وأيلة وشقوبية وفشتيالة وكل هذه من الأندلس.
وفيها سير المنصور عبد الوهاب بن أخيه إبراهيم الامام والحسن بن قحطبة في سبعين ألفا من المقاتلة إلى ملطية فنزلوا عليها وعمروا ما كان خربه الروم منها ففرغوا من العمارة في ستة اشهر وكان للحسن في ذلك اثر عظيم وأسكنها المنصور وأربعة آلاف من الجند وأكثر فيها من السلاح والذخائر وبنى حصن قلوذية.
ولما سمع ملك الروم بمسير عبد الوهاب والحسن إلى ملطية سار إليهم في مائة ألف مقاتل فنزل جيحان فبلغه كثرة المسلمين فعاد عنهم ولما عمرت ملطية عاد إليها من كان باقيا من أهلها.
وفيها حج المنصور فاحرم من الحيرة فلما قضى حجه توجه إلى بيت المقدس وسار منه إلى الرقة فقتل بها منصور بن جعونة العامري وعاد إلى هاشمية الكوفة.
وفيها أمر المنصور بعمارة مدينة المصيصة على يد جبرائيل بن يحيى وكان سورها قد تشعث من الزلازل وأهلها قليل فبنى السور وسماها المعمورة،
500

وبنى لها مسجدا جامعا وفرض فيها لألف رجل وأسكنها كثيرا من أهلها وفيها توفي سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة وعمرو بن يحيى بن اي حسن الأنصاري وعمارة بن غزية الأنصاري وكان ثقة وأبو العلاء أيوب القصاب وأبو جعفر محمد بن عبد الله الإسكافي وهو من متكلمي المعتزلة وأئمتهم وله طائفة تنسب إليه وأسماء بن عبيد بن مخارق والد حويزة بن أسماء.
501

141
ثم دخلت سنة إحدى وأربعين ومائة
ذكر خروج الراوندية
وفي هذه السنة كان خروج الراوندية على المنصور وهم قوم من أهل خراسان على رأي أبي مسلم صاحب الدعوة يقولون بتناسخ الأرواح يزعمون أن روح آدم في عثمان بن نهيك وان ربهم الذي يطعمهم ويسقيهم هو المنصور وان جبرائيل هو الهيثم بن معاوية.
فلما ظهروا اتوا قصر المنصور فقالوا: هذا قصر ربنا فأخذ المنصور رؤسائهم فحبس منهم مائتين فغضب أصحابهم واخذوا نعشا وحملوا السرير وليس في النعش أحدا ومروا به حتى صاروا على باب السجن فرموا بالنعش وحملوا على الناس ودخلوا السجن وأخرجوا أصحابهم وقصدوا نحو المنصور وهم يومئذ ستمائة رجل فتنادى الناس وغلقت أبواب المدينة فلم يدخل أحد فخرج المنصور من القصر ماشيا ولم يكن في القصر دابة فجعل بعد ذلك اليوم يرتبط دابة معه في القصر.
فلما خرج المنصور اتي بدابة فركبها وهو يريدهم وتكاثروا عليه حتى كادوا يقتلونه، وجاء معن بن زائدة الشيباني وكان مستترا من المنصور بقتاله مع ابن هبيرة كما ذكرناه والمنصور شديد الطلب له وقد
502

بذل فيه مالا كثيرا فلما كان هذا اليوم حضر عند المنصور متلثما وترجل وقاتل قتالا شديدا وأبلى بلاء حسنا وكان المنصور راكبا على بغلة ولجامها بيد الربيع حاجبه فاتى معن وقال تنح فأنا أحق بهذا اللجام منك في هذا الوقت وأعظم غناء فقال المنصور صدق فادفعه إليه فلم يزل يقاتل حتى تكشفت الحال وظفر بالراوندية فقال له المنصور من أنت قال طلبتك يا أمير المؤمنين معن بن زائدة فقال آمنك الله على نفسك ومالك وأهلك مثلك يصطنع.
وجاء أبو نصر مالك بن الهيثم فوقف على باب المنصور قال أنا اليوم بواب ونودي في أهل السوق فرموهم وقاتلوهم وفتح باب المدينة فدخل الناس فجاء خازم بن خزيمة فحمل عليهم حتى ألجأهم إلى الحائط ثم حملوا عليه فكشفوه مرتين فقال خازم للهيثم بن شعبة إذا كروا علينا فاستبقهم إلى الحائط فإذا رجعوا فاقتلهم فحملوا على خازم
فاطرد لهم وصار الهيثم من ورائهم فقتلوا جميعا.
وجاءهم يومئذ عثمان بن نهيك فكلمهم فرموه بسهم عند رجوعه فوقع بين كتفيه فمرض أياما ومات منها فصلى عليه المنصور وجعل على حرسه بعده عيسى بن نهيك فكان على الحرس حتى مات فجعل على الحرس أبو العباس الطوسي وكان ذلك كله بالمدينة الهاشمية [بالكوفة].
فلما صلى المنصور الظهر دعا بالعشاء واحضر معنا ورفع منزلته وقال لعمه عيسى بن علي بن عبد الله بن عباس يا أبا العباس أسمعت بأشد رجل؟
503

قال نعم. قال لو رأيت اليوم معنا لعلمت انه منهم فقال معن والله يا أمير المؤمنين لقد اتيتك واني لوجل القلب فلما رأيت ما عندك من الاستهانة بهم وشدة الاقدام عليهم رأيت ما لم أره من خلق في حرب فشد ذلك من قلبي وحملني ما رأيت مني.
وقيل كان معن متخفيا من المنصور لما كان من قتاله مع ابن هبيرة كما ذكرناه وكان اختفاؤه عند أبي الخصيب حاجب المنصور وكان على ان يطلب [له] الأمان فلما خرجت الراوندية جاء معن فوقف بالباب فسال المنصور أبا الخصيب من بالباب فقال معن بن زائدة فقال المنصور رجل من العرب شديد النفس عالك بالحرب كريم الحسب أدخله فلما دخل قال إيه يا معن ما الرأي قال الرأي أن تنادي في الناس فتأمر لهم بالأموال فقال وأين الناس والأموال ومن يقدم على ان يعرض نفسه لهؤلاء العلوج لم تصنع شيئا يا معن الرأي ان اخرج فأقف للناس فإذا رأوني قاتلوا وتراجعوا إلي وان أقمت تهاونوا وتخاذلوا فاخذ معن بيده وقال لا يا أمير المؤمنين إذا والله تقتل الساعة فأنشدك الله في نفسك فقال له أبو الخصيب مثلها فجذب ثوبه منهما وركب دابته وخرج ومعن أخذ بلجام دابته وأبو الخصيب مع ركابه واتاه رجل فقتله معن حتى قتل أربعة في تلك الحالة حتى اجتمع إليه الناس فلم يكن الا ساعة حتى أفنوهم ثم تغيب معن فسال المنصور عنه أبا الخصيب فقال لا اعلم مكانه فقال المنصور أيظن معن ان لا اغفر ذنبه بعد بلائه اعطه الأمان وادخله علي فأدخله إليه فأمر له بعشرة آلاف درهم ثم ولاه اليمن.
504

ذكر خلع عبد الجبار بخراسان ومسير المهدي إليه
في هذه السنة خلع عبد الجبار بن عبد الرحمن عامل خراسان للمنصور وسبب ذلك أن عبد الجبار لما استعمله المنصور على خراسان عمد إلى القواد فقتل بعضهم وحبس بعضهم فبلغ ذلك المنصور وأتاه من بعضهم كتاب قد نغل الأديم فقال لأبي أيوب إن عبد الجبار قد افنى شيعتنا وما فعل ذلك الا وهو يريد ان يخلع فقال له اكتب إليه انك تريد غزو الروم فليوجه إليك الجنود من خراسان وعليهم فرسانهم ووجوههم فإذا خرجوا منها فابعث إليه من شئت فلا تمنع.
فكتب المنصور إليه بذلك وأجابه أن الترك قد جاشت وإن فرقت الجنود ذهب خراسان فالقى الكتاب إلى أبي أيوب وقال له ما ترى قال قد أمكنك من قياده اكتب إليه خان خراسان أهم إلي من غيرها وانا موجه إليك الجنود من قبلي ثم وجه إليه الجنود ليكونوا بخراسان فان هم بخلع أخذوا بعنقه.
فلما ورد الكتاب بهذا على عبد الجبار أجابه ان خراسان لم تكن قط أسوأ حالا منها في هذا العام وان دخلها الجنود هلكوا لضيق ما هم فيه من الغلاء فلما اتاه الكتاب ألقاه إلى أبي أيوب فقال له أبو أيوب قد ابدى صفحته وقد خلع فلا تناظره.
505

ووجه المنصور ابنه المهدي وأمره بنزول الري فسار إليها المهدي ووجه خازم بن خزيمة بين يديه لحرب عبد الجبار وسار المهدي فنزل نيسابور فلما بلغ ذلك أهل مرو الروذ ساروا إلى عبد الجبار وحاربوه وقاتلوه قتالا شديدا فانهزم منهم ولجأ إلى معطنة فتوارى فيها فعبر إليه بمحشر بن مزاحم من أهل مرو الروذ فاخذه أسيرا فلما قدن خازم اتاه به فالبسه جبة صوف وحمله على بعير وجعل وجهه مما يلي عجز البعير وحمله إلى المنصور ومعه ولده وأصحابه فبسط عليهم العذاب حتى استخرج منهم الأموال ثم أمر فقطعت يدا عبد الجبار ورجلاه وضرب عنقه وأمر بتسيير ولده إلى دهلك وهي جزيرة باليمن فلم يزالوا بها حتى أغار عليهم الهند فسبوهم فيمن سبوا ثم فودوا بعد ذلك وكان ممن نجا منهم عبد الرحمن بن عبد الجبار صحب الخلفاء ومات أيام الرشيد سنة سبعين ومائة.
وقيل: وكان أمر عبد الجبار سنة اثنتين وأربعين في ربيع الأول وقيل سنة أربعين.
ذكر فتح طبرستان
ولما ظفر المهدي بعبد الجبار بغير تعب ولا مباشرة قتال كره المنصور ان تبطل تلك النفقات التي انفق على المهدي فكتب إليه ان يغزو طبرستان وينزل الري ويوجه أبا الخطيب وخازم بن خزيمة والجنود إلى الأصبهبذ وكان الأصبهبذ يومئذ محاربا للمصمغان ملك دنباوند معسكرا بإزائه فلما بلغه دخول الجنود بلاده ودخول أبي الخصيب سايره فقال المصمغان
506

للأصبهبذ: متى قهروك صاروا الي، فاجتمعوا على حرب المسلمين فانصرف الاصبهبذ إلى بلاده فحارب المسلمين فطالت تلك الحروب فوجه المنصور عمر بن العلاء إلى طبرستان وهو الذي يقول فيه بشار:
(إذا أيقظتك حروب العدى * فنبه لها عمرا ثم نم)
وكان عالما ببلاد طبرستان فأخذ الجنود وقصد الرويان وفتحها وأخذ قلعة الطلق وما فيها وطالت الحروب فألح خازم على القتال ففتح طبرستان وقتل منهم فأكثر وسار الاصبهبذ إلى قلعته فطلب الأمان على ان يسلم القلعة بما فيها من الذخائر وكتب المهدي بذلك إلى المنصور فوجه المنصور صالحا صاحب المصلى فأحصوا ما في الحصن وانصرفوا ودخل الاصبهبذ بلاد جيلان من الديلم فمات بها واخذت ابنته وهي أم إبراهيم بن العباس بن محمد وقصدت الجنود بلد المصمغان فظفروا به وبالبحترية أم منصور بن المهدي.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة عزل زياد بن عبيد الله الحرثي عن مكة والمدينة والطائف واستعمل على المدينة محمد بن خالد بن عبد الله القسري في رجب على الطائف ومكة الهيثم بن معاوية العتكي من أهل خراسان.
507

وفيها توفي موسى بن كعب وهو على شرط المنصور وعلى مصر والهند وخليفته على الهند عيينة ابنه وكان قد عزل موسى عن مصر ووليها محمد بن الأشعث ثم عزل عنها ووليها نوفل بن محمد بن الفرات.
وحج بالناس هذه السنة صالح بن علي بن عبد الله بن عباس وهو على الشام وعلى الكوفة عيسى بن موسى وعلى البصرة سفيان بن معاوية وعلى خراسان المهدي وخليفته بها السري بن عبد الله وعلى الموصل إسماعيل بن علي.
وفيها مات سعد بن سعيد أخو يحيى بن سعيد الأنصاري وأبان بن تغلب القارئ.
508

142
ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين ومائة
ذكر خلع عيينة بن موسى بن كعب
في هذه السنة خلع عيينة بن موسى بالسند وكان عاملا عليها وسبب خلعه أن أباه كان استخلف المسيب بن زهير على الشرط فلما مات موسى أقام المسيب على ما كان يلي من الشرط وخاف أن يحضر المنصور عيينة فيوليه ما كان إلى أبيه فكتب إليه ببيت شعر ولم ينسب الكتاب إلى نفسه:
(فأرضك أرضك إن تأتنا * تنم نومة ليس فيها حلم)
فخلع الطاعة فلما بلغ الخبر إلى المنصور سار بعسكره حتى نزل على جسر البصرة ووجه عمر بن حفص بن أبي صفراء العتكي عاملا على السند والهند، فحاربه عيينة، فسار حتى ورد السند فغلب عليها.
ذكر نكث الاصبهبذ
وفي هذه السنة نكث الاصبهبذ بطبرستان العهد بينه وبين المسلمين وقتل من كان ببلاده منهم، فلما انتهى الخبر إلى المنصور سير مولاه أبا الخصيب
509

وخازم بن خزيمة وروح بن حاتم فأقاموه على الحصن يحاصرونه وهو فيه وهم يقاتلونه فلما طال عليهم المقام احتال أبو الخصيب في ذلك فقال لأصحابه اضربوني واحلقوا رأسي ولحيتي ففعلوا ذلك به ولحق بالاصبهبذ فقال له فعل بي هذا تهمة منهم لي أن يكون هواي معك واخبره انه معه وانه دليل على عورة عسكرهم فقبل ذلك الاصبهبذ وجعله في خاصته وألطفه.
وكان باب حصنهم من حجر يلقى القاء يرفعه الرجال وتضعه عند فتحه واغلاقه وكان الاصبهبذ يوكل به ثقات أصحابه نوبا بينهم فلما وثق الاصبهبذ إلى أبي الخصيب وكله بالباب فتولى فتحه واغلاقه حتى انس به.
ثم كتب أبو الخصيب إلى روح وخازم والقى الكتاب في سهم واعلمهم انه قد ظفر بالحيلة وواعدهم ليلة في فتح الباب فلما كان تلك الليلة فتح لهم فقتلوا من في الحصن من المقاتلة وسبوا الذرية واخذوا شكلة ام إبراهيم بن المهدي وكان مع الاصبهبذ سم فشربه فمات.
وقد قيل: ان ذلك سنة ثلاث وأربعين ومائة
ذكر عدة حوادث
وفيها مات سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس وهو على البصرة في جمادى الآخرة وعمره تسع وخمسون سنة وصلى عليه اخوه عبد الصمد.
وفيها عزل نوفل بن الفرات عن مصر ووليها حميد بن قحطبة.
وحج بالناس إسماعيل بن علي بن عبد الله وكان العمال من تقدم ذكرهم.
510

وولى المنصور الجزيرة والثغور والعواصم أخاه العباس بن محمد وعزل المنصور عمه إسماعيل ابن علي عن الموصل فاستعمل عليها مالك بن الهيثم الخزاعي جد احمد بن نصير الذي قتله الواثق وكان خير أمير.
وفيها مات يحيى بن سعيد الأنصاري أبو سعيد قاضي المدينة وقيل سنة ثلاث وقيل سنة اربع وأربعين. وفيها مات موسى بن عقبة مولى آل الزبير. وفيها توفي أيضا عاصم بن سليمان الأحول وقيل سنة ثلاث وأربعين. وفيها مات حميد بن أبي حميد طرخان وقيل مهران مولى طلحة بن عبد الله الخزاعي وهو حميد الطويل يروي عن انس بن مالك وعمره خمس وسبعون سنة.
511

143
ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين ومائة
في هذه السنة ثار الديلم بالمسلمين فقتلوا منهم مقتلة عظيمة فبلغ ذلك المنصور فندب الناس إلى قتال الديلم وجهادهم.
وفيها عزل الهيثم بن معاوية عن مكة والطائف وولي ذلك السري بن عبد الله بن الحرث بن العباس وكان على اليمامة فسار إلى مكة واستعمل المنصور على اليمامة قثم بن عباس بن عبد الله. وفيها عزل حميد بن قحطبة عن مصر واستعمل عليها نوفل بن الفرات ثم عزل نوفل واستعمل عليها يزيد بن حاتم.
وحج بالناس هذه السنة عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله وكان إليه ولاية الكوفة.
وفيها ثار بالأندلس رزق بن النعمان الغساني على عبد الرحمن وكان رزق على الجزيرة الخضراء فاجتمع إليه خلق عظيم فسار إلى شذونة فملكها ودخل مدينة إشبيلية وعاجله عبد الرحمن فحصره فيها وضيق على من بها فتقربوا إليه بتسليم رزق إليه فقتله فآمنهم ورجع عنهم.
وفيها مات عبد الرحمن بن عطاء صاحب الشارعة وهي نخل وسليمان بن طرخان التيمي وأشعث بن سوار ومجالد بن سعيد.
512

144
ثم دخلت سنة اربع وأربعين ومائة
في هذه السنة سير أبو جعفر الناس من الكوفة والبصرة والجزيرة والموصل إلى غزو الديلم واستعمل عليهم محمد بن أبي العباس السفاح.
وفيها رجع المهدي من خراسان إلى العراق وبني بريطة ابنة عمه السفاح وفيها حج المنصور واستعمل على عسكره والميرة خازم بن خزيمة.
ذكر استعمال رياح بن عثمان المري على المدينة
وأمر محمد بن عبد الله بن الحسن
وفيها استعمل المنصور على المدينة رياح بن عثمان المري وعزل محمد بن خالد ابن عبد الله القسري عنها.
وكان سبب عزله وعزل زياد قبله ان المنصور أهمه أمر محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب وتخلفهما عن الحضور عنده مع من حضره من بني هاشم عاك حج أيام السفاح سنة ست وثلاثين وذكر ان محمد بن عبد الله كان يزعم ان المنصور ممن بايعه ليلة تشاور بنو هاشم بمكة فيمن يعقدون له الخلافة حين اضطرب أمر مروان بن محمد،
513

فلما الحسن بن سهل المنصور سنة ست وثلاثين سأل عنهما فقال له زياد بن عبيد الله الحرثي ما يهمك من أمرهما أنا آتيك بهما وكان معه بمكة فرده المنصور إلى المدينة.
فلما استخلف المنصور لم يكن همه الا أمر محمد والمسألة عنه وما يريد فدعا بني هاشم رجلا رجلا يسأله سرا عنه فكلهم يقول قد علم أنك عرفته يطلب هذا الأمر فهو يخافك على نفسه وهو لا يريد لك خلافا وما شابه هذا الكلام الا الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب فإنه أخبره خبره وقال له والله ما آمن وثوبه عليك فإنه لا ينام عنك فأيقظ بكلامه من لا ينام فكان موسى بن عبد الله بن الحسن يقول بعد ذلك اللهم اطلب الحسن بن زيد بدمائنا.
ثم ألح المنصور على عبد الله بن الحسن في احضار ابنه محمد سنة حج فقال عبد الله لسليمان بن علي بن عبد الله بن عباس يا أخي بيننا من الصهر والرحم ما تعلم فما ترى فقال سليمان والله لكأنني انظر إلى أخي عبد الله بن علي حين حال المنية بينه وبيننا وهو يشير الينا هذا الذي فعلتم بي فلو كان عافيا عفا عن عمه فقبل عبد الله رأي سليمان وعلم انه قد صدقه ولم يظهر ابنه.
ثم ان المنصور اشترى رقيقا من رقيق الاعراب وأعطى الرجل منهم البعير والرجل البعيرين والرجل الذود وفرقهم في طلب محمد في ظهر المدينة وكان الرجل منهم يرد الماء كالمار وكالضال يسألون عنه وبعث المنصور عينا آخر وكتب معه كتابا على السن الشيعة إلى محمد يذكرون طاعتهم ومسارعتهم وبعث معه بمال والطاف وقدم الرجل المدينة فدخل على عبد الله بن الحسن
514

ابن الحسن فسأله عن ابنه محمد فذكر له فكتم له خبره فتردد الرجل إليه وألح في المسالة فذكر انه في جبل جهينة فقال له أمرر بعلي ابن الرجل الصالح الذي يدعى الأغر وهو بذي الأبر فهو يرشدك فاتاه فأرشده.
وكان للمنصور كاتب على سره يتشيع فكتب إلى عبد الله بن الحسن يخبره بذلك العين، فلما قدم الكتاب ارتاعوا له وبعثوا أبا هبار إلى محمد والى علي بن الحسن يحذرهما الرجل فخرج أبو هبار فنزل بعلي بن الحسن واخبره ثم سار إلى محمد بن عبد الله في موضعه الذي هو به فإذا هو جالس في كهف ومعه جماعة من أصحابه وذلك العين معهم أعلاهم صوتا وأشدهم انبساطا فلما رأى أبا هبار خلفه فقال أبو هبار لمحمد لي حاجة فقام معه فأخبره الخبر قال فما الرأي قال أرى إحدى ثلاث قال وما هي قال تدعني اقتل هذا الرجل قال ما أنا مقارف دما الا كرها قال أثقله حديدا وتنقله معك حيث تنقلب قال وهل لنا قرار مع الخوف والإعجال قال نشده ونودعه عنه بعض أهلك من جهينة قال هذا إذا.
فرجعا فلم يريا الرجل فقال محمد أين الرجل قالوا: تركوه مهملا وتوارى بهذا الطريق يتوضأ فطلبوه فلم يجدوه فكأن الأرض التأمت عليه وسعى على قدميه حتى اتصل بالطريق فمر به الاعراب معهم حمولة إلى المدينة فقال لبعضهم فرغ هذه الغرارة وأدخلنيها أكن عدلا لصاحبتها كذا وكذا ففعل وحمله حتى أقدمه المدينة.
ثم قدم على المنصور واخبره خبره كله ونسي اسم أبي هبار وكنيته وقال وبار فكتب أبو جعفر في طلب وبار المري فحمل إليه رجل اسمه وبر
515

فسأله عن قصة محمد فحلف له انه لا يعرف من ذلك شيئا فأمر به وضرب سبعمائة سوط وحبس حتى مات المنصور.
ثم انه أحضر عقبة بن سلم الأزدي فقال أريدك لأمر أنا به معني لم أزل أرتاد له رجلا عسى أن تكونه وان كفيتنيه رفعتك فقال أرجو ان أصدق ظن أمير المؤمنين في. [قال]: فأخف شخصك واستر أمرك واتني يوم كذا وكذا في وقت كذا فأتاه ذلك الوقت فقال له ان بني عمنا هؤلاء قد أبوا الا كيدا لملكنا واغتيالا له ولهم شيعة بخراسان بقرية كذا يكاتبونهم ويرسلون إليهم بصدقات أموالهم والطاف من ألطاف بلادهم فأخرج بكسى والطاف وعين حتى تأتيهم متنكرا بكتاب تكتبه عن أهل هذه القرية ثم تعلم حالهم فان كانوا نزعوا عن رأيهم فاحبب والله بهم وأقرب وان كانوا على رأيهم علمت ذلك وكنت على حذر فاشخص حتى تلقى عبد الله بن الحسن متخضعا ومتقشفا فان
جبهك وهو فاعل فاصبر وعاوده حتى يأنس بك ويلين لك ناحيته فإذا اظهر لك ما قبله فاعجل علي.
فشخص حتى قدم على عبد الله فلقيه بالكتاب فأنكره ونهره وقال ما أعرف هؤلاء القوم فلم يزل يتردد إليه حتى قبل كتابه وألطافه وانس به فسأله عقبة الجواب فقال اما الكتاب فاني لا اكتب إلى أحد ولكن أنت كتابي إليهم فأقرئهم السلام واعلمهم انني خارج لوقت كذا وكذا.
ورجع عقبة إلى المنصور فاعلمه الخبر فأنشأ المنصور الحج وقال لعقبة إذا لقيني بنو الحسن فيهم عبد الله بن الحسن فأنا مكرمه ورافع محلته وداع
516

بالغداء، فإذا فرغنا من طعامنا فلحظتك فامثل بين يديه قائما فإنه سيصرف عنك بصره فاستدر حتى ترمز ظهره بابهام رجلك حتى يملأ عينه منك ثم حسبك وإياك ان يراك ما دام يأكل.
فخرج إلى الحج فلما لقيه بنو الحسن اجلس عبد الله إلى جانبه ثم دعا بالغداء فأصابوا منه ثم رفع فاقبل على عبد الله بن الحسن فقال له قد علمت ما أعطيتني من العهود والمواثيق أن لا تبغيني بسوء ولا تكيد لي سلطانا قال فأنا على ذلك يا أمير المؤمنين فلحظ المنصور عقبة بن سلمك فاستدار حتى وقف بين يدي عبد الله فأعرض عنه فاستدار حتى قام وراء ظهره فغمزه بإصبعه فرفع رأسه فملا عينه منه فوثب حتى قعد بين يدي المنصور فقال أقلني يا أمير المؤمنين أقالك الله قال لا أقالني الله ان قتلتك ثم أمر بحبسه.
وكان محمد قد قدم قبل ذلك البصرة فنزلها في بني راسب يدعو إلى نفسه وقيل نزل عبد الله بن شيبان أحد بني مرة بن عبيد ثم خرج منها فبلغ المنصور مقدمه البصرة فسار إليها مجدا فنزل عند الجسر الأكبر فلقيه عمرو بن عبيد فقال له يا أبا عثمان هل بالبصرة أحد تخافه على أمرنا قال لا قال فاقتصر على قولك وانصرف قال نعم.
وكان محمد قد سار عنها قبل مقدم المنصور فرجع المنصور واشتد الخوف على محمد وإبراهيم ابني عبد الله فخرجا حتى أتيا عدن ثم سارا إلى السند ثم إلى الكوفة ثم إلى المدينة.
517

وكان المنصور قد حج سنة أربعين ومائة فقسم أموالا عظيمة في آل أبي طالب فلم يظهر محمد وإبراهيم فسأل أباهما عب د الله عنهما فقال لا علم لي بهما فتغالظا فامصه أبو جعف ر المنصور حتى قال له امصص كذا وكذا ومن أمك فقال يا أبا جعفر باي أمهاتي تمصني أبفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أم بفاطمة بنت الحسين بن علي أم بأم إسحاق بنت طلحة أم بخديجة بنت خويلد؟ [قال]: لا بواحدة منهن ولكن بالحرباء بنت قسامة بن زهير! وهي امرأة من طيء فقال المسيب بن زهير يا أمير المؤمنين دعني اضرب عنق ابن الفاعلة فقام زياد بن عبد الله فالقى عليه رداءه وقال هبه [لي] يا أمير المؤمنين فاستخرج لك ابنيه، فتخلصه [منه].
وكان محمد وإبراهيم ابنا عبد الله قد تغيبا حين حج المنصور سنة أربعين ومائة عن المدينة وحج أيضا فاجتمعوا بمكة وأرادوا اغتيال المنصور فقال لهم الأشتر عبد الله بن محمد أنا أكفيكموه فقال محمد لا والله لا اقتله ابدا غيلة حتى ادعوه لينقض ما كانوا اجمعوا عليه. وكان قد دخل عليهم قائد من قواد المنصور من أهل خراسان اسمه خالد بن حسان يدعى أبا العساكر على ألف رجل فنمى الخبر إلى المنصور فطلب فلم يظفر به فظفر بأصحابه فقتلهم وأما القائد فإنه لحق بمحمد بن عبد الله بن محمد.
ثم ان المنصور حث زياد بن عبد الله على طلب محمد وإبراهيم فضمن له ذلك ووعده به فقدم محمد المدينة قدمة فبلغ ذلك زيادا فتلطف له وأعطاه الأمان على ان يظهر وجهه للناس فوعده محمد ذلك فركب زياد مع المساء ووعد محمدا سوق الظهر وركب محمد فتصايح الناس يا أهل المدينة
518

المهدي المهدي! فوقف هو وزياد فقال زياد أيها الناس هذا محمد بن عبد الله بن الحسن ثم قال له الحق بأي بلاد الله شئت فتوارى محمد.
وسمع المنصور الخبر فأرسل أبا الأزهر في جمادى الآخرة سنة إحدى وأربعين ومائة إلى المدينة فأمره ان يستعمل على المدينة عبد العزيز بن المطلب وان يقبض على زياد وأصحابه ويسير بهم إليه فقدم أبو الأزهر المدينة ففعل ما أمره وأخذ زيادا وأصحابه وسار نحو المنصور وخلف زياد في بيت مال المدينة ثماني ألف دينار فسجنهم المنصور ثم من عليهم بعد ذلك.
واستعمل المنصور على المدينة محمد بن خالد بن عبد الله القسري وأمره بطلب محمد بن عبد الله وبسط يده في النفقة في طلبه فقدم المدينة في رجب سنة إحدى وأربعين فاخذ المال ورفع في محاسبته أموالا كثيرة انفقها في طلب محمد فاستبطأه أبو جعفر واتهمه فكتب إليه يأمره بكشف المدينة واعراضها فطاف ببيوت الناس فلم يجد محمدا.
فلما رأى المنصور ما قد اخرج من الأموال ولم يظفر بمحمد استشار أبا العلاء رجلا من قيس عيلان في أمر محم د بن عبد الله وأخيه فقال أرى ان تستعمل رجلا من ولد الزبير أو طلحة فإنهم يطلبونهما بزحل ويخرجونهما إليك فقال قاتلك الله ما أجود ما رأيت والله خفي علي هذا ولكني أعاهد الله لا أنتقم من بني عمي وأهل بيتي بعدوي وعدوهم ولكني ابعث عليهم صعلوكا من العرب يفعل بهم ما قلت.
فاستشار يزيد بن يزيد السلمي وقال له دلني على فتى مقل من قيس اغنيه وأشرفه وأمكنه من سيد اليمن يعني ابن القسري، [قال]:
519

هو رياح بن عثمان بن حيان المري فسيره أميرا على المدينة في رمضان سنة اربع وأربعين.
وقيل: إن رياحا ضمن للمنصور ان يخرج محمدا وإبراهيم ابني عبد الله ان استعمله على المدينة فاستعمله عليها فسار حتى دخلها فلما دخل دار مروان. وهي التي كان ينزلها الأمراء قال لحاجب كان له يقال له أبو البختري هذه دار مروان؟ قال: نعم. قال أما إنها محلال مظعان ونحن أول من يظعن منها. فلما تفرق الناس عنه قال لحاجبه يا أبا البختري خذ بيدي ندخل على هذا الشيخ يعني عبد الله بن الحسن فدخلا عليه فقال رياح أيها الشيخ ان أمير المؤمنين والله ما استعملني لرحم قريبة ولا ليد سلفت إليه والله لا لعبت بي كما لعبت بزياد وابن القسري والله لأزهقن نفسك أو لتأتيني بابنيك محمد وإبراهيم فرفع رأسه إليه وقال نعم اما والله انك لأزيرق قيس المذبوح فيها كما تذبح الشاة!
قال أبو البختري فانصرف والله رياح آخذا بيدي أجد برد يده وان رجليه ليخطان الأرض مما كلمه قال فقلت له ان هذا ما اطلع على الغيب فقال إيها ويلك فوالله ما قال إلا [ما] سمع فذبح كما تذبح الشاة.
ثم انه دعا بالقسري وسأله عن الأموال وضربه وسجنه وأخذ كاتبه زراعا وعاقبه فأكثر وطلب إليه ان يذكر ما أخذ محمد بن خالد من الأموال وهو لا يجيبه فلما طال عليه العذاب أجابه إلى ذلك فقال له رياح احضر الرفيعة وقت اجتماع الناس ففل ذلك فلما اجتمع الناس احضره فقال أيها الناس ان الأمير امرني ان ارفع علي ابن خالد وقد كتب كتابا خان فيه وانا لنشهدكم ان كل ما فيه باطل فأمر رياح فضرب مائة سوط ورد إلى السجن.
520

وجد رياح في طلب محمد فأخبر انه في شعب من شعاب رضوي جبل جهينة وهو من عمل ينبع فأمر عامله في طلب محمد فهرب منه راجلا فأفلت وله ابن صغير ولد في خوفه وهو مع جارية له فسقط من الجبل فقطع فقال محمد:
(منخرق السربال يشكو الوجى * تنكبه أطراف مرو حداد)
(قد كان في الموت له راحة * والموت حتم في رقاب العباد)
(شرده الخوف فأزرى به * كذاك من يكره حر الجلاد)
وبينا رياح يسير في الحرة إذ لقي محمدا فعدل محمد إلى بئر هناك فجعل يستقي فقال رياح قاتله الله اعرابيا ما أحسن ذراعه!
ذكر حبس أولاد الحسن
قد ذكرنا قبل ان المنصور حبسهم وقد قيل أيضا ان رياحا هو الذي حبسهم.
قال علي بن عبد الله بن محمد بن عمرو بن علي حضرنا باب رياح في المقصورة فقال الآذن من كان ههنا من بني الحسين فليدخل فدخلوا من باب المقصورة وخرجوا من باب مروان ثم قال من ههنا من بني الحسن فليدخل فدخلوا من باب المقصورة ودخل الحدادون من بني مروان فدعا
521

بالقيود فقيدهم وحبسهم، وكان عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي والحسن وإبراهيم ابني الحسن ابن الحسن وجعفر بن الحسن بن الحسن وسليمان وعبد الله ابني داود بن الحسن بن الحسن ومحمدا وإسماعيل وإسحاق بني إبراهيم بن الحسن بن الحسن وعباس بن الحسن بن الحسن بن علس وموسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن.
فلما حبسهم لم يكن فيهم علي بن الحسن بن الحسن بن علي العابد فلما كان الغد بعد الصبح وإذ قد أقبل رجل متلفف فقال له رياح مرحبا بك ما حاجتك قال جئتك لتحبسني مع قومي فإذا هو علي بن الحسن بن الحسن فحبسه معهم.
وكان محمد قد أرسل ابنه عليا إلى مصر يدعو إليه فبلغ خبره عامل مصر وقيل انه على الوثوب بك والقيام عليك بمن شايعه فقبضه وأرسله إلى المنصور فاعترف له وسمى أصحاب أبيه وكان فيمن سمى عبد الرحمن بن أبي الوالي وأبو جبير فضربهما المنصور وحبسهما وحبس عليا فبقي محبوسا إلى ان مات.
وكتب المنصور إلى رياح ان يحبس معهم محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان المعروف بالديباج وكان أخا عبد بن الحسن بن الحسن لا أمهما جميعا فاطمة بنت الحسين بن علي فاخذه معهم.
وقيل: إن المنصور حبس عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي وحده وترك باقي أولاد الحسن فلم يزل محبوسا فبقي الحسن بن الحسن بن الحسن قد
522

نصل خضابه حزنا على أخيه عبد الله وكان المنصور يقول ما فعلت الحادة؟ ومر الحسن بن الحسن بن الحسن على إبراهيم بن الحسن وهو يعلف إبلا له فقال أتعلف إبلك وعبد الله محبوس يا غلام أطلق عقلها فأطلقها ثم صاح في أدبارها فلم يوجد منها بعير.
فلما طال حبس عبد الله بن الحسن قال عبد العزيز بن سعيد للمنصور أتطمع في خروج محمد وإبراهيم وبنو الحسن مخلون والله للواحد منهم أهيب في صدور الناس من الأسد فكان ذلك سبب حبس الباقين.
ذكر حملهم إلى العراق
ولما حج المنصور سنة اربع وأربعين ومائة أرسل محمد بن عمران بن إبراهيم بن محمد بن طلحة ومالك بن انس إلى بني الحسن وهم في الحبس يسألهم ان يدفعوا إليه محمدا وإبراهيم ابني عبد الله فدخلا عليهم وعبد الله قائم يصلي فأبلغاهم الرسالة فقال الحسن بن الحسن أخو عبد الله هذا عمل ابني المشؤومة اما والله ما هذا عن رأينا ولا عن ملإ منا ولنا فيه حكم فقال له اخوه إبراهيم علام تؤذي أخاك في ابنيه وتؤذي ابن أخيك في أمه ثم فرغ عبد الله من صلاته فأبلغاه الرسالة فقال لا والله لا أرد عليكما حرفا ان أحب ان يأذن لي فألقاه فليفعل فانطلق الرسولان فأبلغا المنصور. فقال:
523

[أراد] أن يسخرني، لا والله لا ترى عينه عيني حتى يأتني بابنيه.
وكان عبد الله لا يحدث أحدا الا قلبه عن رأيه.
ثم سار المنصور لوجهه، فلما حج ورجع لم يدخل المدينة ومضى إلى الربذة فخرج إليه رياح إلى الربذة فرده إلى المدينة وأمره باشخاص بني الحسن إليه ومعهم محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان أخو بني الحسن لامهم فرجع رياح فاخذهم وسار بهم إلى الربذة وجعلت القيود والسلاسل في أرجلهم وأعناقهم وجعلهم في محامل بغير وطاء ولما خرج بهم رياح من المدينة وقف جعفر بن محمد من وراء ستر يراهم ولا يرونه وهو يبكي ودموعه تجري على لحيته وهو يدعو الله ثم قال والله لا يحفظ الله حرميه بعد هؤلاء.
ولما ساروا كان محمد وإبراهيم ابنا عبد الله يأتيان كهيئة الأعراب فيسايران مع أبيهما ويستأذنان بالخروج ويقول لا تعجلا حتى يمكنكما ذلك وقال لهما ان منعكما أبو جعفر يعني المنصور ان تعيشا كريمين.
فلا يمنعكما ان تموتا كريمين فلما وصلوا إلى الربذة ادخل محمد بن عبد الله العثماني على المنصور وعليه قميص وازار رقيق فلما وقف بين يديه قال إيها يا ديوث قال محمد سبحان الله لقد عرفتني بغير ذلك صغيرا وكبيرا قال فممن حملت ابنتك رقية؟ وكأنت تحت إبراهيم بن عبد الله بن الحسن، وقد أعطيتني الأيمان أن
524

لا تغشني ولا تمالئ علي عدوا، [ثم] أنت ترى ابنتك حاملا وزوجها غائب وأنت بين أن تكون حانثا أو ديوثا وأيم الله إني لأهم برجمها قال محمد أما أيماني فهي علي ان كنت دخلت لك في أمر غش علمته وأما ما رميت به هذه الجارية فان الله قد أكرمها بولادة رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها ولكني ظننت حين ظهر حملها ان زوجها ألم بها على حين غفلة. فاغتاظ المنصور من كلامه وأمر بشق ثيابه عن ازاره فحكى ان عورته قد كشفت ثم أمر به فضرب خمسين ومائة سوط فبلغت منه كل مبلغ والمنصور يفتري عليه لا يكني فأصاب سوط منها وجهه فقال ويحك اكفف عن وجهي فان له حرمة برسول الله صلى الله عليه وسلم فأغرى المنصور فقال للجلاد الرأس الرأس فضربه على رأسه نحوا من ثلاثين سوطا وأصاب إحدى عينيه سوط فسالت ثم اخرج وكأنه زنجي من الضرب وكان من أحسن الناس وكان يسمى الديباج لحسنه.
فلما خرج وثيب إليه مولى له فقال الا اطرح ردائي عليك قال بلى جزيت خيرا والله انك لشفوف إزاري أشد علي من الضرب.
وكان سبب أخذه أن رياحا قال للمنصور: يا أمير المؤمنين اما أهل خراسان فشيعتك وأما أهل العراق فشيعة آل أبي طالب.
وأما أهل الشام فوالله ما علي عندهم الا كافر ولكن محمد بن عبد الله العثماني لو دعا أهل الشام ما تخلف
525

عنه منهم أحد فوقعت في نفس المنصور فأمر به فاخذ معهم وكان حسن الرأي فيه قبل ذلك.
ثم إن أبا عون كتب إلى المنصور ان أهل خراسان قد تعاشوا عني وطال عليهم أمر محمد بن عبد الله فأمر المنصور بمحمد بن عبد الله بن عمرو العثماني فقتل وأرسل رأسه إلى خراسان وأرسل معه من يحلف انه رأس محمد بن عبد الله وان أمه فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قتل قال اخوه عبد الله بن الحسن أنا لله وانا إليه راجعون ان كنا لنأمن به في سلطانهم ثم قد قتل بنا في سلطاننا!
ثم ان المنصور أخذهم وسار بهم من الربذة فمر بهم على بلغة شقراء، فناداه عبد الله بن الحسن: يا أبا جعفر ما هكذا فعلنا بأسرائكم يوم بدر فأخساه أبو جعفر وثقل عليه ومضى فلما قدموا إلى الكوفة قال عبد الله لمن معه اما ترون في هذه القرية من يمنعنا من هذه الطاغية قال فلقيه الحسن وعلي ابنا أخيه مشتملين على سيفين فقالا: له قد جئناك يا ابن رسول الله فمرنا بالذي تريد قال قد قضيتما ما عليكما ولن تغنيا في هؤلاء شيئا فانصرفا.
ثم ان المنصور أودعهم بقصر ابن هبيرة شرقي الكوفة واحضر المنصور محمد ابن إبراهيم بن الحسن وكان أحسن الناس صورة فقال له أنت الديباج الأصغر قال نعم. قال لأقتلنك قتلة لم اقتلها أحدا ثم أمر به فبنى عليه أسطوانة وهو حي فمات فيها.
وكان إبراهيم بن الحسن أول من مات منهم ثم عبد الله بن الحسن فدفن قريبا من حيث مات فان يكن في القبر الذي يزعم الناس انه قبره وإلا فهو
526

قريب منه. ثم مات علي بن الحسن.
وقيل ان المنصور أمر بهم فقتلوا وقيل بل أمر بهم فقتلوا وقيل بل أمر بهم فسقوا السم وقيل وضع المنصور على عبد الله من قال له ان ابنه محمدا قد خرج فقتل فانصدع قلبه فمات والله اعلم.
ولم ينج منهم الا سليمان وعبد الله ابنا داود بن الحسن بن الحسن بن علي وإسحاق وإسماعيل ابنا إبراهيم بن الحسن بن الحسن وجعفر بن الحسن وانقضى أمرهم.
ذكر عدة حوادث
كان على مكة هذه السنة السري بن عبد الله وعلى المدينة رياح بن عثمان وعلى الكوفة عيسى بن موسى وعلى البصرة سفيان بن معاوية وعلى مصر يزيد بن حاتم بن قتيبة بن المهلب بن أبي صفرة وهو الذي قال فيه يزيد بن ثابت يمدحه ويهجو يزيد بن أسيد السلمي:
(لشتان ما بين اليزيدن في الندى * يزيد سليم والأغر بن حاتم)
في ابيات كثيرة وكان ممدحا جوادا.
وفيها ثار هشام بن عذرة الفهري، وهو من بني عمرو ويوسف بن عبد الرحمن الفهري بطليطلة على الأمير عبد الرحمن الأموي فاتبعه من فيها فسار إليه عبد الرحمن فحاصره وشدد عليه الحصار فمال إلى الصلح وأعطاه ابنه أفلح رهينة فاخذه عبد الرحمن ورجع إلى قرطبة، فرجع
527

هشام وخلع عبد الرحمن فعاد إليه عبد الرحمن وحاصره ونصب عليه المجانيق فلم يؤثر فيها لحصانتها فقتل أفلح ابنه ورمى رأسه في المنجنيق ورحل إلى قرطبة ولم يظفر بهشام.
وفيها مات عبد الله بن شبرمة وعمرو بن عبيد المعتزلي وكان زاهدا وكان موته أبي مريم مولى سهل بن الحنظلية وعقيل بن خالد الأيلي صاحب الزهري وكان موته بمصر فجأة ومحمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي أبو الحسن المدني وهاشم ابن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص المدني.
(بريد بضم الباء الموحدة وفتح الراء المهملة. وعقيل بضم العين المهملة، وفتح القاف).
528

145
ثم دخلت سنة خمس وأربعين ومائة
ذكر ظهور محمد بن عبد الله بن الحسن
في هذه السنة كان ظهور محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب بالمدينة لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة وقيل رابع عشر شهر رمضان قد ذكرنا فيما تقدم أخباره وتبعته وحمل المنصور أهله إلى العراق.
فلما حملهم وسار بهم رد رياحا إلى المدينة أميرا عليها فالح في طلب محمد وضيق عليه وطلبه حتى سقط ابنه فمات وأرهقه الطلب يوما فتدلى في بئر بالمدينة يناول أصحابه الماء وانغمس في الماء إلى حلقه وكان بدنه لا يخفى لعظمه وبلغ رياحا خبر محمد وانه بالمذار فركب نحوه في جنده فتنحى محمد عن طريقه واختفى في دار الجهينة فحيث لم يره رياح رجع إلى دار مروان.
وكان الذي اعلم رياحا سليمان بن عبد الله بن أبي سبرة.
فلما اشتد الطلب بمحمد خرج قبل وقته الذي واعد أخاه إبراهيم على الخروج فيه وقيل بل خرج محمد لميعاده مع أخيه وإنما اخوه تأخر لجدري لحقه وكان عبيد الله بن عمرو بن أبي ذئب وعبد الحميد بن جعفر يقولان لمحمد بن عبد الله ما تنتظره بالخروج فوالله ما على هذه الأمة أشام
529

منك اخرج ولو وجدك فتحرك بذلك أيضا (؟!).
وأتى رياحا الخبر ان محمدا خارج الليلة فاحضر محمد بن عمران بن إبراهيم بن محمد قاضي المدينة والعباس بن عبد الله بن الحرث بن العباس وغيرهما عنده فصمت طويلا ثم قال لهم يا أهل المدينة أمير المؤمنين يطلب محمدا في شرق الأرض وغربها وهو بين أظهركم واقسم بالله لئن خرج لأقتلنكم أجمعين! وقال محمد بن عمران: أنت قاضي أمير المؤمنين فادع عشيرتك فأرسل تجمع بني زهرة فأرسل فجاؤوا في جمع كثير فأجلسهم بالباب فأرسل فاخذ نفرا من العلويين وغيرهم فيهم جعر بن علي بن الحسين والحسين بن علي بن الحسين بن علي والحسن بن علي بن الحسن بن علي بن الحسين بن علي ورجال من قريش فيهم إسماعيل بن أيوب بن سلمة بن عبد الله بن الوليد بن المغيرة وابنه خالد.
فبينما هم عنده إذ ظهر محمد فسمعوا التكبير فقال ابن مسلم بن عقبة المري وكان من رياح أطعني في هؤلاء واضرب أعناقهم فقال له الحسين بن علي بن الحسين بن علي والله ما ذاك إليك أنا لعلي السمع والطاعة.
واقبل محمد من المذار في مائة وخمسين رجلا فاتى في بني سلمة بهؤلاء تفاؤلا بالسلامة وقصد السجن فكسر بابه واخرج من فيه وكان فيهم محمد بن خالد بن عبد الله القسري وابن أخ النذير بن يزيد ورزام فأخرجهم وجعل على الرجالة خوات بن بكير بن خوات بن جبير وأتى دار الإمارة وهو يقول لأصحابه لا تقتلوا إلا يقتلوا.
530

فامتنع منهم رياح، فدخلوا من باب المقصورة واخذوا رياحا أسيرا واخاه عباسا وابن مسلم بن عقبة المري فحبسهم في دار الامارة ثم خرج إلى المسجد فصعد المنبر فخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال اما بعد فإنه قد كان من أمر هذه الطاغية عدو الله أبي جعفر ما لم يخف عليكم من بنائه القبة الخضراء التي بناها معاندة لله في ملكه وتصغيرا للكعبة الحراتم وإنما أخذ الله فرعون حين قال أنا ربكم الأعلى وان أحق الناس بالقيام في هذا الدين أبناء المهاجرين والأنصار المواسين اللهم انهم لأحلوا حرامك وحرموا حلالك وامنوا من أخفت وأخافوا من امنت اللهم فاحصهم عددا واقتلهم بددا ولا تغادر منهم أحدا! أيها الناس إني والله ما خرجت [من] بين أظهركم وأنت عندي أهل قوة ولا شدة ولكني اخترتكم لنفسي والله ما جت هذه وفي الأرض مصر يعبد الله فيه الا وقد أخذ لي فيه البيعة!
وكان المنصور يكتب إلى محمد على السن قواده يدعونه إلى الظهور ويخبرونه انهم معه فكان محمد يقوله ويقول لو التقينا مال إلى القواد كلهم. واستولى محمد على المدينة واستعمل عليها عثمان بن محمد بن خالد بن الزبير وعلى قضائها عبد العزيز بن المطلب بن عبد الله المخزومي وعلى بيت السلاح عبد العزيز الدراوردي وعلى الشرط أبا القلمس عثمان بن عبيد الله بن عمر بن الخطاب وعلى ديوان العطاء عبد الله بن جعفر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة وقيل كان على شرطته عبد الحميد بن جعفر فعزله.
وأرسل محمد إلى محمد بن عبد العزيز إني كنت لأظنك ستنصرنا وتقوم
531

معنا. فاعتذر إليه وقال افعل ثم انسل منه واتى مكة ولم يتخلف عن محمد أحد من وجوه الناس الا نفر منهم الضحاك بن عثمان بن عبد الله بن خالد بن حزام وعبد الله بن المنذر بن المغيرة بن عبد الله بن خالد وأبو سلمة بن عبيد الله بن عبيد الله بن عمر وحبيب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير.
وكان أهل المدينة قد استفتوا مالك بن أنس في الخروج مع محمد وقالوا: إن في أعناقنا بيعة لأبي جعفر فقال إنما بايعتم مكرهين وليس على مكره يمين فأسرع الناس إلى محمد ولزم مالك بيته.
فأرسل محمد إلى إسماعيل بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب وكان شيخا كبيرا فدعاه إلى بيعته فقال يا ابن أخي أنت والله مقتول فكيف أبايعك فارتدع الناس عنه قليلا.
وكان بنو معاوية بن عبد الله بن جعفر قد أسرعوا إلى محمد فأتت حمادة بنت معاوية إلى إسماعيل بن عبد الله وقالت له يا عم ان اخوتي قد اسرعوا إلى ابن خالهم وانك ان قلت هذه المقالة ثبطت الناس عنه فيقتل ابن خالي وأخوتي فأبى إسماعيل الا النهي عنه فيقال ان حمادة عدت عليه فقتلته فأراد محمد الصلاة عليه فمنعه عبد الله بن إسماعيل وقال أتأمر بقتل أبي وتصلي عليه فنحاه الحرس وصلى عليه محمد.
ولما ظهر محمد كان محمد بن خالد القسري بالمدينة في حبس رياح فأطلقه وقال ابن خالد فلما سمعت دعوته التي دعا إليها على المنبر قلت هذه دعوة حق والله لأبلين لله فيها بلاء حسنا فقلت يا أمير المؤمنين انك قد خرجت بهذا البلد والله لو وقف على نقب من أنقابه أحد مات أهله جوعا
532

وعطشا فانهض معي فإنما هي عشر حتى اضربه بمائة ألف سيف فأبى علي، فبينا أنا عنده إذ قال ما وجدنا من خير المتاع شيئا أجود من شيء وجدناه عند ابن أبي فروة ختن أبي الخصيب وكان أنتهبه قال فقلت الا أراك قد أبصرت خير المتاع فكتبت إلى المنصور فأخبرته بقلة من معه فاخذني محمد فحبسني حتى أطلقني عيسى بن موسى بعد قتله بأيام.
وكان رجل من آل أويس بن أبي سرح العامري عامر بن لؤي اسمه الحسين بن صخر بالمدينة لما ظهر محمد سار من ساعته إلى المنصور فبلغه في تسعة أسام فقدم ليلا فقام على أبواب المدينة فصاح حتى علموا به وأدخلوه فقال الربيع ما حاجتك في هذه الساعة وأمير المؤمنين نائم قال لا بد لي منه. فدخل الربيع على المنصور فأخبره خبره وأنه قد طلب مشافهته فأذن له فدخل عليه فقال يا أمير المؤمنين خرج محمد بن عبد الله بالمدينة قال قتلته والله إن كنت صادقا أخبرني من معه فسمى له ومن معه من وجوه أل المدينة وأهل بيته قال أنت رأيته وعاينته قال أنا رأيته وعاينته وكلمته على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا فأدخله أبو جعفر بيتا فلما صابح جار رسول لسعيد بن دينار غلام عيسى بن موسى يلي أمواله بالمدينة فأخبره بأمر محمد وتواترت عليه أخباره فأخرج الأويسي فقال لأوطئن الرجال عقبيك ولأغنينك فأمر له بتسعة آلاف درهم لكل ليلة ألف درهم.
وأشفق من محمد فقال له الحارثي المنجم يا أمير المؤمنين ما يجزعك منه والله لو ملك الأرض ما لبث إلا تسعين يوما.
533

فأرسل المنصور إلى عمه عبد الله بن علي وهو محبوس إن هذا الرجل قد خرج فإن كان عندك رأي فأشر به علينا وكان ذا رأي عندهم فقال إن المحبوس محبوس الرأي فأرسل إليه المنصور لو جاءني حتى يضرب بابي ما أخرجتك وأنا خير لك منه وهو ملك أهل بيتك فأعاد عليه عبد الله ارتحل الساعة حتى تأتي الكوفة فاجثم على أكنافهم فإنهم شيعة أهل هذا البيت وأنصاره ثم احففها بالمسالح فمن خرج منها إلى وجه من الوجوه أو أتاها من وجه من الوجوه فاضرب عنقه وابعث إلى سلم بن قتيبة يتحدر إليك وكان بالري واكتب إلى أهل الشام فمرهم أن يحملوا إليك من أهل البأس والنجحدة ما حمل البريد فأحسن جوائزهم ووجههم مع سلم. ففعل.
وقيل: أرسل المنصور إلى عبد الله مع إخوته يستشيرونه في أمر محمد وقال لهم لا يعلم عبد الله أني أرسلتكم إليه فلما دخلوا عليه قال لأمر ما جئتم ما جاء بكم جميعا وقد هجرتموني مذ دهر قالوا: أنا استأذنا أمير المؤمنين فأذن لنا قال ليس هذا بشيء فما الخبر قالوا: خرج محمد بن عبد الله قال فما ترون ابن سلامة صانعا يعني المنصور قالوا: لا ندري والله قال إن البخل قد قتله فمروه فليخرج الأموال وليعط الأجناد فإن غلب فما أسرع ما يعود إليه ماله وإن غلب لم يقدم صاحبه على دينار ولا درهم.
ولما ورد الخبر على المنصور بخروج محمد كان المنصور قد خط مدينة
534

بغداد بالقصب، فسار إلى الكوفة ومعه عبد الله بن الربيع بن عبيد الله بن المداد فقال له المنصور إن محمدا قد خرج بالمدينة فقال عبد الله هلك وأهلك خرج في غير عدد ولا رجال.
حدثني سعيد بن عمرو بن جعدة المخزومي قال كنت مع مروان يوم الزاب واقفا فقال لي مروان من هذا الذي قاتلني؟ قلت: عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس قال وددت والله أن علي بن أبي طالب يقاتلني مكانه إن عليا وولده لا حظ لهم في هذا الأمر وهل هو إلا رجل من بني هاشم وابن عم رسول الله معه ريح الشام؟ ونصر الشام يا ابن جعدة تدري ما حملني أن عقدت لعبد الله وعبيد الله بعدي وتركت عبد الملك وهو أكبر من عبيد الله قال ابن جعدة: لا. قال: وجدت الذي يلي هذا الأمر عبد الله وعبيد الله وكان عبيد الله أقرب إلى عبد الله من عبد الملك فعقدت له فاستحلفه المنصور على صحة ذلك فحلف له فسرى عنه.
ولما بلغ المنصور خبر ظهور محمد. قال لأبي أيوب وعبد الملك: هل من رجل تعرفانه بالرأي يجمع رأيه إلى رأينا قالا: بالكوفة بديل بن يحيى وكان السفاح يشاوره فأرسل إليه وقال له إن محمدا قد ظهر بالمدينة قال فاشحن الأهواز بالجنود قال إنه قد ظهر بالمدينة قال قد فهمت وإنما الأهواز الباب الذي تؤتون منه فلما ظهر إبراهيم بالبصرة قال له المنصور ذلك قال فعاجله بالجنود واشغل الأهواز عليه.
وشاور المنصور أيضا جعفر بن حنظلة البهراني عن زهور محمد فقال وجه الجنود إلى البصرة قال انصرف حتى أرسل إليك. فلما صار إبراهيم
535

إلى البصرة أرسل إليه فقال له ذلك فقال إني خفت بادرة الجنود قال وكيف خفت البصرة قال لأن محمدا ظهر بالمدينة وليسوا أهل الحرب بحبسهم أن يقيموا شأن أنفسهم وأهل الكوفة تحت قدمك وأهل الشام أعداء آل أبي طالب فلم يبق إلا البصرة.
ثم إن المنصور كتب إلى محمد بسم الله الرحمن الرحيم: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض) الآيتين؛ ولك عهد الله وميثاقه وذمة رسوله أن أؤمنك وجميع ولدك وإخوتك وأهل بيتك ومن اتبعكم على دمائكم وأموالكم وأسوغك ما أصبت من دم أو مال وأعطيك ألف ألف درهم وما سألت من الحوائج وأنزلك من البلاد حيث شئت وأن أطلق من في حبسي من أهل بيتك وأن أؤمن كل من جاءك وبايعك واتبعك أو دخل في شيء من أمرك ثم لا أتبع أحدا منهم بشيء كان منه أبدا فإن أردت أن تتوثق لنفسك فوجه إلي من أحببت يأخذ لك مني الأمان والعهد والميثاق ما تتوثق به والسلام.
فكتب إلى محمد: (طسم تلك آيات الكتاب المبين نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون) إلى: (يحذرون) وأنا أعرض عليك من الأمان مثل ما عرضت
علي فإن الحق حقنا وإنما دعيتم هذا الأمر بنا وخرجتم له بشيعتنا وحظيتم بفضله،
536

فإن أبانا عليا كان الوصي وكان الإمام فكيف ورثتم ولايته وولده أحياء؟
ثم قد علمت أنه لم يطلب الأمر أحد [له] مثل نسبنا وشرفنا وحالنا وشرف آبائنا لسنا من أبناء اللعناء ولا الطرداء ولا الطلقاء وليس يمت أحد من بني هاشم بمثل الذي نمت به من القرابة والسابقة والفضل. وإنا بنو أم رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت عمرو في الجاهلية وبنو بنته فاطمة في الإلسام دونكم إن الله اختارنا واختار لنا فوالدنا من النبيين محمد أفضلهم ومنهم السلف أولهم إسلاما علي ومن الأزواج أفضلهن خديجة الطاهرة وأول من صلى [إلى] القبلة، ومن البنات خيرهن فاطمة سيدة نساء العالمين وأهل الجنة ومن المولودين في الإسلام حسن وحسين سيدا شباب أهل الجنة وأن هاشما ولد عليا مرتين وأن عبد المطلب ولد حسنا مرتين وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولدني مرتين من قبل حسن وحسين وإني أوسط بني هاشم نسبا وأصرحهم أبا لم تعرف في العجمة ولم تنازع في أمهات الأولاد فما زال [الله] يختار لي الأباء والأمهات في الجاهلية والإسلام حتى اختار لي في الأشرار فأنا ابن أرفع الناس درجة في الجنة وأهونهم عذابا في النار ولك الله على أن دخلت في طاعتي وأجبت دعوتي أن أؤمنك على نفسك ومالك وعلى كل أمر أحدثته إلا حدا من حدود الله أو حقا لمسلم أو معاهد فقد علمت ما يلزمني من ذلك.
وأنا أولى بالأمر منك وأوفى بالعهد لأنك أعطيتني من الأمان والعهد ما أعطيته رجالا قبلي فأي الأمانات تعطيني أمان ابن هبيرة أم أمان عمك
537

عبد الله بن علي أم أمان أبي مسلم؟
فلما ورد كتابه على المنصور قال له أبو أيوب الورناني: دعني أجبه عليه قال إلا إذا تقارعنا على الأحساب فدعني وإياه ثم كتب إليه المنصور:
بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فقد بلغني كلامك وقرأت كتابك فإذا جل فخرك بقرابة النساء لتضل به الجفاة والغوغاء ولم يجعل الله النساء كالعمومة والأباء ولا كالعصبة والأولياء لأن الله جعل العم أبا وبدأ في كتابه على الوالدية الدنيا ولو كان اختار الله لهن على قد قرابتهن كأنت آمنة أقربهن رحما وأعظمهن حقا وأول من يدخل الجنة غدا ولكن اختار الله لخلقه على علمه فيما مضى منهم واصطفائه لهم.
وأما ما ذكرت من فاطمة أم أبي طالب وولادتها فإن الله لم يرزق أحدا من ولدها الإسلام لا بنتا ولا ابنا ولو أن رجلا رزق الإسلام بالقرابة رزقه عبد الله ولكن أولاهم بكل خير في الدنيا والآخرة ولكن الأمر لله يختار لدينه من يشاء، قال الله تعالى: (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين). ولقد بعث محمدا وله عمومة أربعة فأنزل الله عز وجل: (وأنذر عشيرتك الأقربين) فأنذرهم ودعاهم فأجاب اثنان أحدهما أبي وأبى اثنان أحدهما أبوك فقطع الله ولايتهما منه ولم يجعل بينه وبينهما إلا ولا ذمة ولا ميراثا.
وزعمت أنك ابن أخف أهل النار عذابا وابن خير الأشرار، وليس في
538

الكفر بالله صغير ولا في عذاب الله خفيف ولا يسير وليس في الشر خيار ولا ينبغي لمؤمن بالله أن يفخر بالنار وسترد فتعلم: (وسيعلم الذين ظلموا) الآية.
وأما أمر حسن وأن عبد المطلب ولده مرتين وأن النبي صلى الله عليه وسلم ولدك مرتين فخير الأولين والآخرين رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يلده هاشم إلا مرة ولا عبد المطلب إلا مرة، وزعمت أنك أوسط بني هاشم وأصرحهم أما وأبا وأنه لم يلدك العجم ولم تعرف فيك أمهات الأولاد فقد رأيتك فخرت على بني هاشم طرا فانظر ويحك أين أنت من الله غدا فإنك قد تعديت طورك وفخرت على من هو خير منك نفسا وأبا وأولادا وأخا إبراهيم رسول الله صلى الله عليه وسلم وما خيار بني أبيك خاصة وأهل الفضل منهم إلا بنو أمهات الأولاد ما ولد فيكم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من علي بن الحسين وهو لأم ولد ولهو خير من جدك حسن بن حسين وما كان فيكم بعده مثل محمد بن علي وجدته أم ولد ولهو خير من أبيك ولا مثل ابنه جعفر وجدته أم ولد وهو خير منك.
وأما قولك إنكم بنو رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الله تعالى يقول في كتابه: (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم) ولكنكم بنو بنته وإنها لقرابة قريبة ولكنها لا يجوز لها الميراث ولا ترث الولاية ولا يجوز لها الإمامة فكيف تورث بها ولقد طلبها أبوك بكل وجه فأخرج فاطمة نهارا ومرضها سرا ودفنها ليلا فأبى الناس إلا الشيخين ولقد جاءت السنة
539

التي لا اختلاف فيها من المسلمين أن الجد أبا الأم والخال والخالة لا يورثون.
وأما ما فخرت به من علي وسابقته فقد حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم الوفاة فأمر غيره بالصلاة ثم أخذ الناس رجلا بعد رجل فلم يأخذوه وكان في الستة فتركوه كلهم دفعا له عنها ولم يروا له حقا فيها.
وأما عبد الرحمن فقدم عليه عثمان وهو له متهم وقاتله طلحة والزبير وأبى سعد بيعته فأغلق بابه دونه ثم بايع معاوية بعده ثم طلبها بكل وجه وقاتل عليها وتفرق عنه أصحابه وشط فيه شيعته قبل الحكومة ثم حكم حكمين رضي بهما وأعطاهما عهد الله وميثاقه فاجتمعا على خلعه، ثم كان حسن فباعها من معاوية بخرق ودراهم ولحق بالحجاز وأسلم شيعته بيد معاوية ودفع الأمر إلى غير أهله وأخذ مالا من غير ولاية ولا حلة فإن كان لكم فيها شيء فقد بعتموه وأخذتم ثمنه ثم خرج عمك حسين على ابن مرجانة فكان الناس معه عليه حتى قتلوه وأتوا برأسه إليه، ثم خرجتم على بني أمية فقتلوكم وصلبوكم على جذوع النخل وأحرقوكم بالنيران ونفوكم من البلدان حتى قتل يحيى بن زيد بخراسان وقتلوا رجالكم وأسروا الصبية والنساء وحملوهم بلا وطء في المحامل كالسبي المجلوب إلى الشام حتى خرجنا عليهم فطلبنا بثأركم وأدركنا بدمائكم وأورثناكم أرضهم وديارهم وسنينا سلفكم وفضلناه فاتخذت ذلك علينا حجة وظننت أنا إنما ذكرنا أباك للتقدمة مناله على حمزة والعباس وجعفر وليس ذلك كما ظننت ولكن خرج هؤلاء من الدنيا سالمين متسلما منهم مجتمعا عليهم بالفضل وابتلى أبوك بالقتال والحرب،
540

وكأنت بنو أمية تلعنه كما تعلن الكفرة في الصلاة المكتوبة فاحتججنا وذكرناهم فضله وعنفناهم وظلمناهم لما نالوا منه.
فلقد علمت أن مكرمتنا في الجاهلي سقاية الحاج الأعظم وولاية زمزم فصارت للعباس من بين إخوته فنازعنا فيها أبوك فقضى لنا عليه عمر فلم نزل نليها في الجاهلية والإسلام، ولقد قحط أهل المدينة فلم يتوسل عمر إلى ربه ولم يتقرب إليه بأبينا حتى يغيثهم الله فسقاهم الغيث وأبوك حاضر لم يتوسل عمر إلى ربه ولم يتقرب إليه بأبينا حتى يغيثهم الله فسقاهم الغيث وأبوك حاضر لم يتوسل له ولقد علمت أنه لم يبق أحد من بني عبد المطلب بعد النبي صلى الله عليه وسلم غيره فكانت وراثة من عمومته ثم طلب هذا الأمر غير واحد من بني هاشم فلم ينله إلا ولده فالسقاية سقايته وميراث النبي له والخلافة في ولده فلم يبق شرف ولا فضل في جاهلية ولا إسلام في الدنيا والآخرة إلا والعباس وارثه ومورثه.
وأما ما ذكرت من بدر فإن الإسلام جاء والعباس يمون أبا طالب وعياله وينفق عليهم للأزمة التي أصابته ولولا أن العباس أخرج إلى بدر كارها لمات طالب وعقيل جوعا وللحسا أجفانه عتبة وشيبة ولكنه كان من المطعمين فأذهب عنكم العار والسبة وكفاكم النفقة والمؤونة ثم فدى عقيلا يود بدر فكيف تفخر علينا وقد علناكم في الكفر وفديناكم [من الأسر] وحزنا عليكم مكارم الأباء ورثنا دونكم خاتم الأنبياء وطلبنا بثأركم فأدركنا منه ما
541

عجزتم عنه ولم تدركوا لأنفسكم والسلام عليكم ورحمة الله.
* * *
فكان محمد قد استعمل محمد بن الحسن بن معاوية بن عبد الله بن جعفر على الشام فأما محمد بن الحسن والقاسم فسار إلى مكة فخرج إليهما السري بن عبد الله عامل المنصور على مكة فلقيهما ببطن أذاخر فهزماه.
ودخل محمد مكة وأقام بها يسيرا فأتاه كتاب محمد بن عبد الله يأمره بالمسير إليه فيمن معه ويخبره بمسير عيسى بن موسى إليه ليحاربه فسار إليه من مكة هو والقاسم فبلغه بنواحي قديد قتل محمد فهرب هو وأصحابه وتفرقوا فلحق محمد بن الحسن بإبراهيم فأقام عنده حتى قتل إبراهيم واختفى القاسم بالمدينة حتى أخذت له ابنة عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن جعفر امرأة عيسى الأمان له ولإخوته معاوية وغيره.
وأما موسى بن عبد الله فسار نحو الشام ومعه رزام مولى محمد بن خالد القسري فانسل منه رزام تيمنا وسار إلى المنصور برسالة من مولاه محمد القسري فظهر محمد بن عبد الله على ذلك فحبس محمد القسري ووصل موسى إلى الشام فرأى منهم سوء رد عليه وغلظة فكتب إلى محمد: أخبرك أني لقيت الشام وأهله فكان أحسنهم قولا الذي قال والله لقد مللنا البلاء وضقنا حتى ما فينا لهذا الأمر موضع ولا لنا به حاجة ومنهم طائفة تحلف لئن أصبحنا من ليلتنا وأمسينا من غد ليرفعن أمرنا فكتب إليك وقد غيبت وجهي وخفت على نفسي ثم رجع إلى المدينة.
542

وقيل: أتى البصرة وأرسل صاحبا له يشتري له طعاما فاشتراه وجاء به على حمار اسود فأدخله الدار التي سكنها وخرج فلم يكن بأسرع من أن كسبت الدار وأخذ موسى وابنه عبد الله وغلامه فأخذوا وحملوا إلى محمد بن سلمان بن علي بن عبد الله بن عباس فلما رأى موسى قال لا قرب الله قرابتكم ولا حيا وجوهكم تركت البلاد كلها إلا بلدا أنا فيه فإن وصلت أرحامكم أغضبت أمير المؤمنين وإن أطعته قطعت أرحامكم ثم أرسلهم إلى المنصور فأمر فضرب موسى وابنه كل واحد خمسمائة سوط فلم يتأوهوا فقال المنصور أعذرت أهل الباطل في صبرهم فما بال هؤلاء فقال موسى أهل الحق أولى بالصبر ثم أخرجهم وأمر بهم فسجنوا:
(خبيب بن ثابت بالخاء المعجمة المضمومة وبيائين موحدتين وبينهما ياء مثناة من تحتها).
ذكر مسير عيسى بن موسى إلى محمد بن عبد الله وقتله
ثم إن المنصور أحضر ابن أخيه عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس وأمره بالمسير إلى المدينة لقتال محمد فقال شاور عمومتك يا أمير المؤمنين ثم قال فأين قول قول ابن هرثمة:
(نزور امرءا لا يمخض القوم سره * ولا ينتجي الأدنين عما يحاول)
(إذا ما أتى شيئا مضى كالذي أتى * وإن قال إني فاعل فهو فاعل)
فقال المنصور امض أيهات الرجل فوالله ما يراد غيري وغيرك، وما
543

هو إلا أن تشخص أنت وأشخص أنا. فسار وسير معه الجنود. وقال المنصور لما سار عيسى لا أبالي أيهما قتل صاحبه وبعث محمد بن أبي العباس السفاح وكثير من حصين العبدي وابن قحطبة وهزارمرد وغيرهم وقال له حين ودعه يا عيسى إني أبعثك إلى ما بين هذين وأشار إلى جنبيه فإن ظفرت بالرجل فأغمد سيفك وأبذل الأمان وإن تغيب فضمنهم إياه فإنهم يعرفون مذاهبه ومن لقيك من آل أبي طالب فاكتب إلي باسمه ومن لم يلقك فاقبض ماله.
وكان جعفر الصادق تغيب عنه فقبض ماله فلما قدم المنصور المدينة قال له جعفر في معنى ماله فقال قبضه مهديكم.
فلما وصل عيسى إلى فيد كتب إلى الناس في خرق حرير منهم عبد العزيز بن المطلب المخزومي وعبيد الله بن محمد بن صفوان الجمحي وكتب إلى عبد الله بن محمد بن عمر بن عل بن أبي طالب يأمره بالخروج من المدينة فيمن أطاعه فخرج هو وعمر بن محمد بن عمر وأبو عقيل محمد بن عبد الله بن محمد بن عقيل وأبو عيسى.
ولما بلغ محمدا قرب عيسى من المدينة استشار أصحابه في الخروج من المدينة أو المقام بها فأشار بعضهم بالخروج عنها وأشار بعضهم بالمقام بها لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيتني في درع حصينة فأولتها المدينة، فأقام ثم استشارهم في حفر خندق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له جابر بن أنس رئيس سليم يا أمير
المؤمنين نحو أخوالك وجيرانك وفينا السلاح والكراع فلا تخندق الخندق فإن رسول الله صلى الله عليه
544

وسلم، خندق خندقة لما الله أعلم به، وان خندقه لم يحسن القتال رجالة ولم توجه لنا الخيل بين الأزقة وان الذين تخندق دونهم هم الذين يحول الخندق دونهم فقال أحد بني شجاع خندق خندق رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقتد به وتريد أنت أن تدع أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرأيك قال انه والله يا ابن شجاع ما شيء أثقل عليك وعلى أصحابك من لقائهم وما شيء أحب إلينا من مناجزتهم فقال محمد إنما اتبعنا في الخندق أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يردني أحد عنه فليست بتاركه وأمر به فحفر وبدأ هو فحفر بنفسه الخندق الذي حفره رسول الله صلى الله عليه وسلم للأحزاب.
وسار عيسى حتى نزل الأعوص وكان محمد قد جمع الناس وأخذ عليهم الميثاق وحصرهم فلا يخرجون وخطبهم محمد بن عبد الله فقال لهم إن عدو الله عدوكم قد نزل الأعوص وإن أحق الناس بالقيام بهذا الأمر لأبناء المهاجرين والأنصار ألا وإنا قد جمعناكم وأخذنا عليكم الميثاق وعدوكم عدد كثير والنصر من الله والأمر بيده وأنه قد بدا لي أن آذن لكم فمن أحب منكم أن يقيم أقام ومن أحب أن يظعن ظعن.
فخرج عالم كثير وخرج ناس من أهل المدينة بذراريهم وأهليهم إلى الأعراض والجبال وبقي محمد في شرذمة يسيرة فأمر أبا القلمي برد من قدر عليه فأعجزه كثير منهم، فتركهم.
وكان المنصور قد أرسل ابن الأصم مع عيسى ينزله المنازل فلما قدموا أنزلوا على ميل من المدينة فقال ابن الأصم إن الخيل لا عمل لها مع الرجالة،
545

وإني أخاف إن كشفوكم كشفة أن يدخلوا عسكركم. فتأخروا إلى سقاية سليمان بن عبد الملك بالجرف وهي على أربعة أميال من المدينة وقال لا يهرول الراجل أكثر من ميلين وثلاث حتى يأخذه الخيل وأرسل عيسى خمسمائة رجل إلى بطحاء بن أزهر على ستة أميال من المدينة فأقاموا بها وقال أخاف أن ينهزم محمد فيأتي مكة فيرده هؤلاء فأقاموا بها حتى قتل.
وأرسل عيسى إلى محمد يخبره أن المنصور قد أمنه وأهله فأعاد الجواب يا هذا إنك لك برسول الله صلى الله عليه وسلم قرابة قريبة وإن أدعوك إلى كتاب الله وسنة نبيه والعمل بطاعته وأحذرك نقمته وعذابه وإني والله ما أنا منصرف عن هذا الأمر حتى ألقى الله عليه وإياك أن يقتلك من يدعوك إلى الله فتكون شر قتيل أو تقتله فيكون أعظم لوزرك فلما بلغته الرسالة قال عيسى ليس بيننا وبينه إلا القتال وقال محمد للرسول علام تقتلونني وإنما أنا رجل فر من أن يقتل قال القوم يدعونك إلى الأمان فإن أبيت إلا قتالهم قاتلوك على ما قاتل عليه خير آبائك طلحة والزبير على نكث بيعتهم وكيد ملكه فلما سمع المنصور قوله قال ما سرني أنه قال غير ذلك.
ونزل عيسى بالجرف لاثنتي عشرة من رمضان يوم السبت فأقام السبت والأجد وغدا يوم الاثنين فوقف على سلع فنظر إلى المدينة ومن فيها فنادى يا أهل المدينة إن الله حرم دماء بعضنا على بعض فهلموا إلى الأمان فمن قام تحت رايتنا فهو آمن ومن دخل داره فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن ومن ألقى سلاحه فهو آمن ومن خرج من المدينة فهو آمن، خلوا
546

بيننا وبين صاحبنا فإما لنا وأما له فشتموه وانصرف من يومه وعاد من الغد وقد فرق القواد من سائر جهات المدينة وأهلي ناحية مسجد أبي الجراح وهو على بطحان فإنه أخلى تلك الناحية لخروج من ينهزم وبرز محمد في أصحابه وكأنت رايته مع عثمان بن محمد بن خالد بن الزبير وكان شعاره أحد أحد فبرز أبو القلمس وهو من أصحاب محمد فبرز إليه أخو أسد واقتتلوا طويلا فقتله أبو القلمس وبرز إليه آخر فقتله فقال حين ضربه خذها وأنا ابن الفاروق فقال رجل من أصحاب عيسى قتلت خيرا من ألف فاروق.
وقاتل محمد بن عبد الله يومئذ قتالا عظيما فقتل بيده سبعين رجلا وأمر عيسى حميد بن قحطبة فتقدم في مائة كلهم راجل سواه فزحفوا حتى بلغوا جدارا دون الخندق عليه ناس من أصحاب محمد فهدم حميد الحائط وانتهى إلى الخندق ونصب عليه أبوابا وعبر هو وأصحابه عليها فجازوا الخندق وقاتلوا من ورائه أشد قتال من بكرة إلى العصر وأمر عيسى أصحابه فالقوا الحقائب وغيرها في الخندق وجعل الأبواب عليها وجازت الخيل فاقتتلوا قتالا شديدا فانصرف محمد قبل الظهر فاغتسل وتحنط ثم رجع فقال له عبد الله بن جعفر بأبي أنت وأمي والله مالك بما ترى طاقة فلو أتيت الحسن بن معاوية بمكة فإن معه جل أصحابك فقال لو خرجت لقتل أهل المدينة والله لا أرجع حتى أقتل أو أقتل وأنت مني في سعة فاذهب حين شئت.
فمشى معه قليلا ثم رجع عنه، وتفرق عنه جل أصحابه حتى بقي في ثلاثمائة رجل يزيدون قليلا فقال لبعض أصحابه نحن اليوم بعدة أهل بدر وصلى محمد الظهر والعصر وكان معه عيسى بن خضير وهو يناشده إلا ذهبت إلى البصرة أو غيرها ومحمد يقول والله لا تبتلون بي مرتين ولكن اذهب أنت حيث شئت فقال ابن خضير وأين المذهب عنك ثم مضى فاحرق
547

الديوان الذي فيه أسماء من بايعه وقتل رياح بن عثمان وأخاه عباس بن عثمان وقتل ابن مسلم بن عقبة المري ومضى إلى محمد بن القسري وهو محبوس ليقتله فعلم به فردم الأبواب دونه فلم يقدر عليه ورجع إلى محمد فقاتل بين يديه [حتى قتل].
وتقدم حميد بن قحطبة وتقدم محمد فلما صار ينظر مسيل سلع عرقب فرسه وعرقب بنو شجاع الخميسيون دوابهم ولم يبق أحد غلا كسر جفن سيفه فقال لهم محمد قد بايعتموني ولست بارحا حتى أقتل فمن أحب أن ينصرف فقد أذنت له.
واشتد القتال فهزموا أصحاب عيسى مرتين وثلاثا وقال يزيد بن معاوية بن عباس بن جعفر ويل أمه فتحا لو كان له رجال فصعد نفر من أصحاب عيسى على جبل سلع وانحدروا منه إلى المدينة وأمرت أسماء بنت حسن بنت عبد الله بن عبيد الله بن عباس بخمار أسود فرفع على منارة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أصحاب
محمد دخلت المدينة فهربوا فقال يزيد لكل قوم جبل يعصمهم ولنا جبل لا نؤتى الا منه يعني سلعا.
وفتح بنو أبو عمرو الغفاريون طريقا في بني غفار لأصحاب عيسى ودخلوا منه أيضا وجاؤوا من وراء أصحاب محمد ونادى محمد حميد بن قحطبة ابرز إلي فأنا محمد بن عبد الله فقال حميد قد عرفتك وأنت الشريف ابن الشريف الكريم ابن الكريم لا والله لا أبرز إليك وبين يدي من هؤلاء الأغمار أحد فإذا فرغت منهم فسأبرز إليك.
548

وجعل حميد يدعو ابن خضير إلى الأمان ويشح به على الموت وأين خضير يحمل على الناس راجلا لا يصغي إلى أمانه وهو يأخذه بين يديه فضربه رجل من أصحاب عيسى على أليته فحلها فرجع إلى أصحابه فشدها بثوب ثم عاد إلى القتال فضربه إنسان على عينه فغاص السيف وسقط فابتدروه فقتلوه واحتزوا رأسه وكأنه باذنجانة مفلقة من كثرة الجراح فيه. فلما قتل تقدم محمد فقاتل على جيفته فجل يهذ الناس هدا وكان أشبه الناس بقتال حمزة ولم يزل يقاتل حتى ضربه رجل دون شحمة أذنه اليمنى فبرك لركبته وجعل يذب عن نفسه ويقول ويحكم ابن نبيكم مجرح مظلوم فطعنه ابن قحطبة في صدره فصرعه ثم نزل إليه فاحتز رأسه وأتى به عيسى وهو لا يعرف من كثرة الدماء.
وقيل إن عيسى اتهم ابن قحطبة وكان في الخيل فقال له ما أراك تبالغ فقال له أتتهمني فوالله لأضربن محمدا حين أراه بالسيف أو اقتل دونه قال فمر به وهو مقتول فضربه ليبر يمينه.
وقيل: بل رمى بسهم وهو يقاتل فوقف إلى جدار فتحاماه الناس فلما وجد الموت تحامل على سيفه فكسره وهو ذو الفقار سيف علي وقيل بل أعطاه رجلا من التجار كان معه وله عليه أربعمائة دينار وقال خذه فإنك لا تلقى أحدا من آل أبي طالب إلا أخذه وأعطاك حقك فلم يزل عنده حتى ولي جعفر بن سليمان المدينة فأخبر به فأخذ السيف منه وأعطاه أربعمائة دينار ولم يزل معه حتى أخذه منه المهدي، ثم صار إلى الهادي، فجربه على كلب
549

فانقطع السيف وقيل بل بقي إلى أيام الرشيد وكان يتقلده وكان به ثماني عشرة فقارة.
ولما أتي عيسى برأس محمد قال لأصحابه ما تقولون فيه فوقعوا فيه فقال بعضهم كذبتم ما لهذا قاتلناه ولكنه خالف أمير المؤمنين وشق عصا المسلمين وان كان لصواما قواما فسكتوا فأرسل عيسى الرأس إلى المنصور مع محمد بن أبي الكرام بن عبد الله بن علي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب والبشارة مع القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب وأرسل معه رؤوس بني شجاع فأمر المنصور فطيف برأس محمد في الكوفة وسيره إلى الآفاق ولما رأى المنصور رؤوس بني شجاع قال هكذا فليكن الناس طلبت محمدا فاشتمل عليه هؤلاء ثم نقلوه وانتقلوا معه ثم قاتلوا معه حتى قتلوا.
وكان قتل محمد وأصحابه يوم الاثنين بعد العصر لأربع عشرة خلت من شهر رمضان وكان المنصور قد بلغه أن عيسى قد هزم فقال كلا أين لعب أصحابنا وصبياننا بها على المنابر ومشورة النساء ما أتى كذلك بعد ثم بلغه أن محمدا هرب فقال كلا أنا أهل بيت لا نفر فجاءته بعد ذلك الرؤوس.
ولما وصل رأس محمد إلى المنصور وكان الحسن بن زيد بن الحسن بن علي عنده فلما رأى الرأس عظم عليه فتجلد خوفا من المنصور وقال لنقيب المنصور أهو قال هو فلذهم وقال لوددت أنا الركانة إلى طاعته وانه لم يكن فعل ولا قال وإلا فأم موسى طالق وكأنت غاية أيمانه،
550

ولكنه أراد قتله وكأنت نفسه أكرم علينا من نفسه فبصق بعض الغلمان في وجهه فأمر المنصور بأنفه فكسر عقوبة له.
ولما ورد الخبر بقتل محمد على أخيه إبراهيم بالبصرة كان يوم العيد فخرج فصلى بالناس ونعاه على المنبر وأظهر الجزع عليه وتمثل على المنبر:
(أبا المنازل يا خير الفوارس من * يفجع بمثلك في الدنيا فقد فجعا)
(الله يعلم أني لو خشيتهم * وأوجس القلب من خوف لهم فزعا)
(لم يقتلوه ولم اسلم أخي بدا * حتى نموت جميعا أو نعيش معا)
ولما قتل محمد أرسل عيسى ألوية فنصبت في مواضع بالمدينة ونادى مناديه من دخل تحت لواء منها فهو آمن. وأخذ أصحاب محمد فصلبهم ما بين ثنية الوداع إلى دار عمر بن عبد العزيز صفين ووكل بخشبة ابن خضير من يحفظها فاحتمله قوم من الليل فواروه سرا وبقي الآخرون ثلاثا فأمر بهم عيسى فألقوا على مقابر اليهود ثم ألقوا بعد ذلك في خندق في أصل ذباب.
فأرسلت زينب بنت عبد الله أخت محمد وابنة فاطمة إلى عيسى انكم قد قتلتموه وقضيتم حاجتكم منه فلو أذنتم لنا في دفنه فأذن لها فدفن بالبقيع وقطع المنصور المسرة في البحر إلى المدينة ثم أذن فيها المهدي.
551

ذكر بعض المشهورين ممن كان معه
وكان فيمن معه من بني هاشم أخوه موسى بن عبد الله وحسين وعلس ابنا زيد بن علي بن الحسين بن علي ولما بلغ المنصور أن ابني زيد أعانا محمدا عليه قال عجبا لهما قد خرجا علي وقد قتلنا أبيهما كما قتله وصلبناه كما صلبه وأحرقناه كما أحرقه!
وكان معه حمزة بن عبد الله بن محمد بن الحسين وعلي وزيد ابنا الحسن بن زيد بن علي بن أبي طالب وكان أبوهما مع المنصور والحسن ويزيد وصالح بنو معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب والقاسم بن إسحاق بن عبد الله بن جعفر والمرجى علي بن جعفر بن إسحاق بن علي بن عبد الله بن جعفر وكان أبوه مع المنصور ومن غيرهم محمد بن عبد الله بن عمرو بن سعيد بن العباس ومحمد بن عجلان وعبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم أخذا أسيرا فأتي به المنصور فقال له أنت الخارج علي قال لم أجد إلا ذلك أو الكفر بما أنزل الله على محمد.
وكان معه أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن [أبي] سبرة، وعبد الواحد بن أبي عون مولى الأزد وعبد الله بن جعفر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة وعبد العزيز بن محمد الدراوردي وعبد الحميد بن جعفر وعبد الله بن عطاء بن يعقوب ويعقوب وعثمان وعبد العزيز بنو عبد الله بن عطاء وعيسى
552

ابن خضير وعثمان بن خضير وعثمان بن محمد بن خالد بن الزبير هرب بعد قتل محمد فأتي البصرة فأخذ منها وأتي به المنصور فقال له هيه يا عثمان أنت الخارج علي مع محمد قال بايعته أنا وأنت بمكة فوفيت ببيعتي وغدرت بيعتك قال يا بن اللخناء قال ذاك من قامت عنه الإماء يعني المنصور فأمر به فقتل.
وكان مع محمد بن عبد العزيز بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب وأخذ أسيرا فأطلقه المنصور وعبد العزيز بن إبراهيم ن عبد الله بن مطيع وعلي بن عبد المطلب بن عبد الله بن حنطب وإبراهيم بن جعفر بن مصعب بن الزبير وهشام بن عمارة بن الوليد بن عدي بن الخيار وعبد الله بن يزيد بن هرمز وغيرهم ممن تقدم ذكرهم.
ذكر صفة محمد والاخبار بقتله
كان محمد أسمر شديد السمرة وكان المنصور يسميه محمما وكان سمينا شجاعا كثير الصوم والصلاة شديد القوة وكان يخطب على المنبر فاعترض في حلقه بلغم فتنحنح فذهب ثم عاد فتنحنح فذهب ثم عاد فتنحنح فنظر فلم ير موضعا يبصق فيه فرمى بنخامته في سقف المسجد فألصقها فيه.
وسئل جعفر الصادق عن أمر محمد فقال فتنة يقتل فيها محمد ويقتل أخوه لأبيه وأمه بالعراق وحوافر فرسه في ماء.
فلما قتل محمد قبض عيسى أموال بني الحسن كلها وأموال جعفر، فلقي جعفر المنصور فقال له: رد علي قطيعتي من أبي زياد. قال: إياي تكلم
553

بهذا؟ والله لأزهقن نفسك قال فلا تعجل علي قد بلغت ثلاثا وستين سنة وفيها مات أبي وجدي وعلي بن أبي طالب وعلي كذا وكذا إن ربتك بشيء وإن بقيت بعدك ان ربت الذي يقوم بعدك فرق له المنصور ولم يرد عليه قطيعته فردها المهدي على ولده.
وقال محمد لعبد الله بن عامر الأسلمي: تغشانا سحابة فإن أمطرتنا ظفرنا وإن تجاوزتنا إليهم فانظر إلى دمي عند أحجار الزيت قال فوالله لقد أظلتنا سحابة فلم تمطرنا وتجاوزتنا إلى عيسى وأصحابه فظفروا وقتلوا محمدا ورأيت دمه عند أحجار الزيت.
وكان قتله يوم الاثنين لأربع عشرة خلت من رمضان سنة خمس وأربعين ومائة.
وكان يلقب المهدي والنفس الزكية.
ومما رثي به هو وأخوه قول عبد الله بن مصعب بن ثابت:
(يا صاحبي دعا الملامة واعلما * أن لست في هذا بألوم منكما)
(وقفا بقبر للنبي فسلما * لا باس أن تقفا به وتسلما)
(قبر تضمن خير أهل زمانه * حسبا وطيب سجية وتكرما)
(رجل نفى بالعدل جور بلادنا * وعفا عظيمات الأمور وأنعما)
554

(لم يجتنب قصد السبيل ولم يجر * عنه ولم يفتح بفاحشة فما)
(لو أعظم الحدثان شيئا قبله * بعد النبي به لكنت المعظما)
(أو كان أمتع بالسلامة قبله * أحدا لكان قصاره أن يسلما)
(ضحوا بإبراهيم خير ضحية * فتصرمت أيامه فتضرما)
(بطلا يخوض بنفسه غمراته * لا طائشا رعشا ولا مستسلما)
(حتى مضت فيه السيوف وربما * كأنت حتوفهم السيوف وربما)
(أضحى بنو حسن أبيح حريمهم * فينا وأصبح نهبهم متقسما)
(ونساؤهم في دورهن نوائح * سجع الحمام إذا الحمام ترنما)
(يتوسلون بقتله ويرونه * شرفا لهم عند الامام ومغنما)
(والله لو شهد النبي محمد * صلى الإله على النبي وسلما)
(اشراع أمته الأسنة لابنه * حتى تقطر من ظباتهم دما)
(حقا لأيقن أنهم قد ضيعوا * تلك القرابة واستحلوا المحرما)
ولما قتل محمد قام عيسى بالمدينة أياما ثم سار عنها صبح تسع عشرة خلت من رمضان يريد مكة معتمرا واستخلف على المدينة كثير بن خضير فأقام بها شهرا ثم استعمل المنصور عليها عبد الله بن الربيع الحارثي.
555

ذكر وثوب السودان بالمدينة
وفيها ثار السودان بالمدينة على عاملها عبد الله بن الربيع الحارثي فهرب منهم وسبب ذلك أن المنصور استعمل عبد الله بن الربيع على المدينة وقدمها لخمس بقين من شوال فنازع جنده التجار في بعض ما يشترونه منهم فشكا ذلك التجار إلى ابن الربيع فانتهرهم وشتمهم فتزايد طمع الجند فيهم فعدوا على رجل صيرفي فنازعوه كيسه
فاستعان بالناس فخلص ماله منهم وشكا أهل المدينة ذلك منهم فلم ينكره ابن الربيع ثم جاء رجل من الجند فاشترى من جزار لحما يوم جمعة ولم يعطه ثمنه وشهر عليه السيف فضربه الجزار بشفرة في خاصرته فقتله واجتمع الجزارون وتنادى السودان على الجند وهم يروحون إلى الجمعة فقتلوهم بالعمد ونفخوا في بوق لهم فسمعه السودان من العالية والسافلة فأقبلوا واجتمعوا وكان رؤساؤهم ثلاثة نفر وثيق ويعقل وزمعة ولم يزالوا على ذلك من قتل الجند حتى أمسوا.
فلما كان الغد قصدوا ابن الربيع فهرب منهم وأتى بطن نخل على ليلتين من المدينة فنزل به فانتهبوا طعاما للمنصور وزيتا وقصبا فباعوا الحمل الدقيق بدرهمين وراوية الزيت بأربعة دراهم.
وسار سليمان بن مليح ذلك اليوم إلى المنصور فأخبره.
وكان أبو بكر بن أبي سبرة في الحبس قد أخرج مع محمد بن عبد الله فضرب
556

وحبس مقيدا، فلما كان من السودان ما كان خرج في حديده من الحبس فأتى المسجد فأرسل إلى محمد بن عمران ومحمد بن عبد العزيز وغيرهما فاحضرهم عنده فقال أنشدكم الله وهذه البلية التي وقعت فوالله إن ثبتت علينا عند أمير المؤمنين بعد الفعلة الأولى إنه لهلاك البلد وأهله والعبيد في السوق بأجمعهم فاذهبوا إليهم فكلموهم في الرجعة والعود إلى رأيكم فإنهم أخرجتهم الحمية فذهبوا إلى العبيد فكلموهم فقالوا: مرحبا بموالينا والله ما قمنا إلا أنفة مما عمل بكم فأمرنا إليكم فأقبلوا بهم غلى المسجد فخطبهم ابن أبي سبرة وحثهم على الطاعة فتراجعوا ولم يصل الناس يومئذ جمعة فلما كان وقت العشاء الآخرة لم يجب المؤذن أحد إلى الصلاة بهم فقدم الأصبغ بن سفيان بن عاصم بن عبد العزيز بن مروان فلما وقف للصلاة واستوت الصفوف أقبل عليهم بوجهه ونادى بأعلى صوته أنا فلان ابن فلان أصلي بالناس على طاعة أمير المؤمنين ثم يقول ذلك مرتين وثلاثا ثم تقدم فصلى بهم فلما كان الغد قال لهم ابن أبي سبرة انكم قد كان منكم بالأمس ما قد علمتم ونهبتم طعام أمير المؤمنين فلا يبقين عند أحد منه شيء إلا ده فردوه ورجع ابن الربيع من بطن نخل فقطع يد وثيق ويعقل وغيرهما.
ذكر بناء مدينة بغداذ
فيها ابتدأ المنصور في بناء مدينة بغداذ.
وسبب ذلك أنه كان قد ابتنى الهاشمية بنواحي الكوفة، فلما ثارت الراوندية فيها كره سكناها لذلك ولجوار أهل الكوفة أيضا، فإنه كان لا يأمن
557

أهلها على نفسه، وكانوا قد أفسدوا جنده. فخرج بنفسه يرتاد له موضعا يسكنه هو وجنده فانحدر إلى جرجرايا ثم أصعد إلى الموصل وسار نحو الجبل في طلب منزل يبنى له وكان قد تخلف بعض جنده بالمدائن لرمد لحقه فسأله الطبيب الذي يعالجه عن سبب حركة المنصور فأخبره فقال أنا نجد في كتاب عندنا أن رجلا يدعى مقلاصا يبنى مدينة بين دجلة والصراة تدعى الزوراء فإذا أسسها وبنى بعضها أتاه فتق من الحجاز فقطع بناءها وأصلح ذلك الفتق ثم أتاه فتق من البصرة أعظم منه فلم يلبث الفتقان أن يلتئما ثم يعود إلى بنائها فيتمه ثم يعمر عمرا طويلا ويبقى الملك في عقبه.
فقدم ذلك الجندي إلى عسكر المنصور وهو بنواحي الجبل فأخبره الخبر فرجع وقال إني أنا كنت أدعي مقلاصا وأنا صبي ثم زال عني وسار حتى نزل الدير الذي حذاء تقصره المعروف بالخلد ودعا بصاحب الدير وبالبطريق صاحب رحا البطريق وصاحب بغداد وصاحب المخرم وصاحب بستان النفس وصاحب العتيقة فسألهم عن مواضعهم وكيف هي في الحر والبرد والأمطار والوحول والبق والهوام فأخبره كل منهم بما عنده ووقع اختيارهم على صاحب بغداد فأحضره وشاوره.
فقال: يا أمير المؤمنين سألتني عن هذه الأمكنة وما نختار منها وإني أرى أن تنزل أربعة طساسيج في الجانب الغرب طسوجين وهما بقطربل وبادوريا وفي الجانب الشرقي طسوجين وهما نهر بوق وكلواذي فيكون بين نخل وقرب الماء وإن أجدب طسوج وتأخرت عمارته كان في الطسوج الآخر العمارات وأنت يا أمير المؤمنين على الصراة تجيئك الميرة في السفن من الشام
558

والرقة، والغرب في طوائف مصر وتجيئك الميرة من الصين والهند والصرة وواسط وديار بكر والروم والموصل وغيرها في دجلة وتجيئك الميرة من أرمينية وما اتصل بها في تامرا حتى يتصل بالزاب فأنت بين أنهار لا يصل إليك عدوك إلا على جسر أو قنطرة فإذا قطعت الجسر وأخربت القنطرة لم يصل إليك، ودجلة والفرات والصراة خنادق هذه المدينة وأنت متوسط للبصرة والكوفة وواسط والموصل والواد وأنت قريب من البر والبحر والجبل فازداد المنصور عزما على النزول في ذلك الموضع.
وقيل: إن المنصور لما أراد أن يبني مدينته بغداد رأى راهبا فناداه فأجابه فقال هل تجدون في كتبكم انه يبنى ههنا مدينه قال نعم يبنيها مقلاص قال فانا كنت أدعى مقلاصا في حداثتي قال فإذا أنت صاحبها.
فابتدأ المنصور بعملها سنة خمس وأربعين وكتب إلى الشام والجبل والكوفة وواسط والبصرة في معنى إنفاذ الصناع والفعلة وأمر باختيار قوم من دوى الفضل والعدالة والفقه وأمر باختيار قوم من دوى الأمانة والمعرفة بالهندسة فكان ممن أحضر لذلك الحجاج بن أرطأة وا بو حنيفة وأمر فخطت المدينة وحفر الأساس وضرب اللبن وطبخ الاجر فكان أول ما ابتدأ به منها انه أمر بخطها بالرماد فدخلها من أبوابها وفصلانها وطاقاتها ورحابها وهي مخطوطة بالرماد ثم أمر ان يجعل على الرماد حب القطن ويشعل بالنار ففعلوا فنظر إليها وهي تشتعل ففهمها وعرف رسمها وأمر ان يحفر الأساس على دلك الرسم ووكل بها أربعة من القواعد كل قائد بربع ووكل أبا حنيفة بعد الاجر واللبن. وكان قبل ذلك قد أراد أبا حنيفة أن يتولى القضاء والمظالم فلم يجب فحلف المنصور أنه لا يقلع عنه أو يعمل له فأجابه إلى أن ينظر في
559

عمارة بغداد ويعد اللبن والأجر بالقصب وهو أول من فعل ذلك.
وجعل المنصور عرض أساس السور من أسفله خمسين ذراعا، ومن أعلاه عشرين ذراعا، وجعل في البناء القضب والخشب ووضع بيده أول لبنة، وقال: بسم الله والحمد لله والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين. ثم قال: ابنوا على بركة الله.
فلما بلغ السور مقدار قامة جاء الخبر بظهور محمد بن عبد الله فقطع البناء ثم أقام بالكوفة حتى فرغ من حرب محمد وأخيه إبراهيم ثم رجع إلى بغداد فأتم بناءها وأقطع فيها القطائع لأصحابه.
وكان المنصور قد أعد جميع ما يحتاج إليه من بناء المدينة من خشب وساج وغير ذلك واستخلف حين يشخص إلى الكوفة على إصلاح ما أعد أسلم مولاه فبلغه أن إبراهيم قد هزم عسكر المنصور فأحرق ما كان خلفه عليه المنصور فبلغ المنصور ذلك فكتب إليه يلومه فكتب إليه أسلم ليخبره أنه خاف أن يظفر بهم إبراهيم فيأخذه فلم يقل شيئا.
وسنذكر كيفية بنائها في سنة ست وأرعبني إن شاء الله.
ذكر ظهور إبراهيم بن عبد الله بن الحسن أخي محمد
فيها كان ظهور إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب وهو أخو محمد المقدم ذكره وكان قبل ظهوره قد طلب أشد الطلب فحكت جارية له انه لم تقرهم أرض خمس سنين مرة بفارس ومرة بكرمان
560

ومرة بالجبل ومرة بالحجاز ومرة باليمن ومرة بالشام ثم انه قدم الموصل وقدمها المنصور في طلبه فحكى إبراهيم قال اضطرني الطلب بالموصل حتى جلست على مائدة المنصور ثم خرجت وقد كف الطلب وكان قوم من أهل العسكر يتشيعون فكتبوا إلى إبراهيم يسألونه القدوم إليهم ليثبوا بالمنصور فقدم عسكر أبي جعفر وهو ببغداد وقد خطها وكأنت له مرآة ينظر فيها فيرى عدوه من صديقه فنظر فيها فقال يا مسيب قد رأيت إبراهيم في عسكري وما في الأرض أعدى لي منه فانظر أي رجل يكون.
ثم إن المنصور أمر ببناء قنطرة الصراة العتيقة فخرج إبراهيم ينظر إليها مع الناس فوقعت عليه عين المنصور فجلس إبراهيم وذهب في الناس فاتى قاميا فلجأ إليه فأصعده غرفة له وجد المنصور في طلبه وضع الرصد بكل مكان فنشب إبراهيم مكانه فقال له صاحبه سفيان بن حيان القمي قد نزل بنا ما ترى ولا بد من المخاطرة قال فأنت وذاك فاقبل سفيان إلى الربيع فسأله الاذن على المنصور فأدخله عليه فلما رآه شتمه فقال يا أمير المؤمنين أنا أهل لما تقول غير أني أتيتك تائبا ولك عندي كل ما تحب وأنا آتيك بإبراهيم بن عبد الله إني قد بلوتهم فلم أجد فيهم خيرا فاكتب لي جوازا ولغلام معي يحملني على البريد ووجه معي جندا فكتب له جوازا ودفع إليه جندا وقال هذه ألف دينار فاستعن بها قال لا حاجة لي فيها وأخذ منها ثلاثمائة دينار وأقبل الجند معه فدخل البيت وعلى إبراهيم جبة صوف وقباء كأقبية الغلمان فصاح به فوثب وجعل يأمره وينهاه وسار على البريد.
561

وقيل لم يركب البريد.
وسار حتى قدن المدائن، فمنعه صاحب القنطرة بها فدفع جوازه إليه فلما جازها قال له الموكل بالقنطرة ما هذا غلام وإنه لإبراهيم بن عبد الله إذهب راشدا فأطلقهما فركبا سفينة حتى قدما البصرة فجعل يأتي بالجند الدار لها بابنا فيقعد البعض منهم على أحد البابين ويقول لا تبرحوا حتى آتيكم فيخرج من الباب الآخر ويتركهم حتى فرق الجند عن نفسه وبقي وحده.
وبلغ الخبر سفيان بن معاوية أمير البصرة فأرسل إليهم فجمعهم وتطلب القمي فأعجزه وكان إبراهيم قد قدم الأهواز قبل ذلك واختفى عند الحسن بن خبيب وكان محمد بن الحصين يطلبه فقال يوما إن أمير المؤمنين كتب إلي يخبرني أن المنجمين أخبروه أن إبراهيم نازلا بالأهواز في جزيرة بين نهرين وقد طلبته في الجزيرة وليس هناك وقد عزمت أن أطلبه فدا بالمدينة لعل أمير المؤمنين يعني بقوله بين نهرين بين دجيل والمسرقان فرجع الحسن بن خبيب إلى إبراهيم فأخبره وأخرجه إلى ظاهر البلد ولم يطلبه محمد ذلك اليوم.
فلما كان آخر النهار خرج الحسن إلى إبراهيم فأدخله البلد وهما على حمارين وقت العشاء الآخرة فلقيه أوائل خيل ابن الحصين فنزل إبراهيم عن حماره كأنه يبول فسأل ابن الحصين الحسن بن خبيب عن مجيئه فقال من عند بعض أهلي فمضى وتركه ورجع الحسن إلى إبراهيم فأركبه وادخله إلى منزله فقال له إبراهيم والله لقد بلت دما قال فاتيت الموضع فرأيته قد بال دما.
ثم ان إبراهيم قدم البصرة فقيل قدمها سنة خمس وأربعين بعد ظهور
562

أخيه محمد بالمدينة، وقيل قدمها سنة ثلاث وأربعين ومائة وكان الذي أقدمه وتولى قراه في قول بعضهم يحيى بن زياد بن حيان النبطي وأنزله في داره في بني ليث وقيل نزل في دار أبي فروة ودعا الناس إلى بيعة أخيه وكان أول من بايعه نميلة بن مرة العبشمي وعفو الله بن سفيان وعبد الواحد بن زياد وعمرو بن سلمة الهجيمي وعبد الله بن يحيى بن حصين الرقاشي وندبوا الناس فأجابهم المغيرة بن الفزع وأشباه له وأجابه أيضا عيسى بن يونس ومعا بن معاذ وعباد بن العوام وإسحاق بن يوسف الأزرق ومعاوية بن هشيم بن بشير وجماعة كثيرة من الفقهاء وأهل العلم حتى أحصى ديوانه أربعة آلاف وشهر أمره فقالوا: له لو تحولت إلى وسط البصرة أتاك الناس وهم مستريحون فتحول فنزل دار أبي مروان مولى بني سليم في مقبرة بني يشكر، وكان سفيان بن معاوية قد ملأ على أمره.
ولما ظهر أخوه محمد كتب إليه يأمره بالظهور فوجم لذلك واغتم فجعل بعض أصحابه يسهل عليه ذلك وقال له قد اجتمع لك أمرك فتخرج إلى السجن فتكسره من الليل فتصبح وقد اجتمع لك عالم من الناس وطابت نفسه، وكان المنصور بظاهر الكوفة كما تقدم في قلة من العساكر وقد أرسل ثلاثة من القواد إلى سفيان بن معاوية بالبصرة
مددا له ليكونوا عونا له على إبراهيم ان ظهر.
فلما أراد إبراهيم الظهور أرسل إلى سفيان فأعلمه فجمع القواد عنده وظهر إبراهيم أول شهر رمضان سنة خمس وأربعين ومائة فغنم دواب أولئك الجند وصلى بالناس الصبح في الجامع وقصد دار الإمارة وبها سفيان متحصنا في جماعة فحصره وطلب سفيان منه الأمان فأمنه إبراهيم ودخل الدار ففرشوا له حصيرا فهبت الريح فقلبته قبل أن يجلس فتطير الناس بذلك فقال
563

إبراهيم: أنا لا نتطير وجلس عليه مقلوبا وحبس القواد وحبس أيضا سفيان بن معاوية في القصر وقيده بقيد خفيف ليعلم المنصور أنه محبوس.
وبلغ جعفرا ومحمدا ابني سليمان بن علي ظهور إبراهيم، فأتيا في ستمائة رجل فأرسل إليهما إبراهيم المضاء بن القاسم الجزري في خمسين رجلا فهزمهما ونادى مناي إبراهيم لا يتبع مهزوم ولا يذفف على جريح ومضى إبراهيم بنفسه إلى باب زينب بنت سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس وإليها ينسب الزينبيون من العباسيين فنادى بالأمان وأن لا يعرض لهم أحد فصفت له البصرة ووجد في بيت مالها ألفي ألف درهم قوي بذلك وفرض لأصحابه لكل رجل خمسين خمسين.
فلما استقرت له البصرة أرسل المغيرة إلى الأهواز فبلغها في مائتي رجل وكان بها محمد بن الحصين عاملا للمنصور فخرج إليه في أربعة آلاف فالتقوا فانهزم ابن الحصين ودخل المغيرة الأهواز وقيل إنما وجه المغيرة بعد مسيره إلى باخمرى وسير إبراهيم إلى فارس عمرو بن شداد فقدمها وبها إسماعيل وعبد الصمد ابنا علي بن عبد الله بن عباس فبلغهما دنو عمرو وهما بإصطخر فقصد دارا بجرد فتحصنا بها فصارت فارس في يد عمرو وأرسل إبراهيم مروان بن سعيد العجلي في سبعة عشر ألفا إلى واسط وبها هارون بن حميد الأيادي من قبل المنصور فملكها العجلي، وأرسل المنصور لحربه عامر بن إسماعيل المسلي في خمسة آلاف وقيل في عشرين ألفا فكانت بينهم وقعات ثم تهادنوا على ترك الحرب حتى ينظروا ما يكون من إبراهيم والمنصور فلما قتل إبراهيم هرب مروان بن سعيد عنهما فاختفى حتى مات.
564

فلم يزل إبراهيم بالبصرة يفرق العمال والجيوش حتى أتاه نعي أخيه محمد قبل عيد الفطر بثلاثة أيام فخرج بالناس يوم العيد وفيه الانكسار فصلى بهم وأخبرهم بقتل محمد فازدادوا في قتال المنصور بصيرة وأصبح من الغد فعسكر واستخلف على البصرة وخلف ابنه حسنا معه.
ذكر مسير إبراهيم وقتله
ثم إن إبراهيم عزم على المسير فأشار أصحابه البصريون أن تقيم وترسل الجنود فيكون إذا انهزم لك الجند أمددتهم بغيرهم فخيف مكانك واتقاك عدوك وجبيت الأموال وثبتت وطأتك فقال من عنده من أهل الكوفة إن بالكوفة أقواما لو رأوك ماتوا دونك وإن لم يروك قعدت بهم أسباب شتى فسار عن البصرة إلى الكوفة.
وكان المنصور لما بلغه ظهور إبراهيم في قلة من العسكر فقال والله ما أدري كيف أصنع! ما في عسكري إلا ألفا رجل فرقت جندي مع المهدي بالري ثلاثون ألفا وع محمد بن الأشعث بإفريقية أربعون ألفا والباقون مع عيسى بن موسى والله لئن سلمت من هذه لا يفارق عسكري ثلاثون ألفا.
ثم كتب إلى عيسى بن موسى يأمره بالعود مسرعا فأتاه الكتاب وقد أحرم بعمرة فتركها وعاد. وكتب إلى سلم بن قتيبة فقدم عليه من الري فقال له المنصور اعمد إلى إبراهيم ولا يروعنك جمعه فوالله انهما جملا بني هاشم المقتولان! فثق بما أقول. وضم في غيره من القواد وكتب إلى المهدي يأمره بانفاذ خزيمة بن خازم إلى الأهواز. فسيره في أربعة آلاف
565

فارس فوصلها وقاتل المغيرة فرجع المغيرة إلى البصرة واستباح خزيمة الأهواز ثلاثا.
وتوالت على المنصور الفتوق من البصرة والأهواز وفارس وواسط والمدائن والسواد وإلى جانيه أهل الكوفة في مائة ألف مقاتل ينتظرون به صبحة فلما توالت الأخبار عليه بذلك أنشد:
(وجعلت نفسي للرماح دريئة * إن الرئيس لمثل ذاك فعول)
ثم إنه رمى كل ناحية بحجرها وبقي المنصور على مصلاه خمسين يوما ينام عليه وجلس عليه وعليه جبة ملونة قد اتسخ جبيها لا غيرها ولا هجر المصلى إلا أنه كان إذا ظهر للناس لبس السواد فإذا فارقهم رجع إلى هيئته وأهديت إليه امرأتان من المدينة إحداهما فاطمة بنت محمد بن عيسى بن طلحة بن عبيد الله والأخرى أم الكريم ابنة عبد الله من ولد خالد بن أسيد فلم ينظر إليهما فقيل له: انهما قد ساءت ظنونهما فقال ليست هذه أيام نساء ولا سبيل إليهما حتى أنظر رأس إبراهيم لي أو رأسي له.
قال الحجاج بن قتيبة لما تتابعت الفتوق على المنصور دخلت مسلما عليه وقد أتاه خبر البصرة والأهواز وفارس وعساكر إبراهيم قد عظمت، وبالكوفة مائة ألف سيف بإزاء عسكره ينتظر صيحة واحدة فيثبون به فرأيته أحوذيا مشمرا قد قام إلى ما نزل به من النوائب يعركها فقام بها ولم تقعد به نفسه وإنه كما قال الأول:
566

(نفس عصام سودت عصاما * وعلمته المر والإقداما)
(وصيرته ملكا هماما)
ثم وجه المنصور إلى إبراهيم عيسى بن موسى في خمسة عشر ألفا وعلى مقدمته حميد بن قحطبة في ثلاثة آلاف وقال له لما ودعه إن هؤلاء الخبثاء يعني المنجمين يزعمون أنك إذا لاقيت إبراهيم تجول أصحابك جولة حتى تلقاه ثم يرجعون إليك وتكون العاقبة لك.
ولما سار إبراهيم عن البصرة مشى ليلته في عسكره سرا فسمع أصوات الطنابير ثم فعل ذلك مرة أخرى فسمعها أيضا فقال ما أطمع في نصر عسكر فيه مثل هذا وسمع ينشد في طريقه أبيات القطامي:
(أمور لو يدبرها حكيم * اذن أنهى وهيب ما استطاعا)
(ومعصية الشفيق عليك مما * يزيدك مرة منه استماعا)
(وخير الأمر ما استقبلت منه * وليس بأن تتبعه التباعا)
(ولكن الأديم إذا تفرى * بلى وتعيبا غلب الصناعا.
فعلموا أنه نادم على مسيره.
وكان ديوانه قد أحصى مائة ألف وقيل كان معه في طريقه عشرة آلاف وقيل له في طريقه ليأخذ غير الوجه الذي فيه عيسى ويقصد الكوفة فان المنصور لا يقوم له وينضاف أهل الكوفة إليه ولا يبقى للمنصور مرجع دون حلوان فلم يفعل فقيل له ليبيت عيسى فقال أكره البيات الا بعد الانذار.
567

وقام بعض أهل الكوفة ليأمره بالمسير إليها ليدعو إليه الناس وقال أدعوهم سرا ثم أجهر فإذا سمع المنصور الهيعة بأرجاء الكوفة لم يرد وجهه شيء دون حلوان فاستشار بشيرا الرحال فقال لو وثقنا بالذي تقول لكان رأيا ولكنا لا نأمن أن تجيئك منهم طائفة فيرسل إليهم المنصور الخيل فيأخذ البريء والصغير والمرأة فيكون ذلك تعرضا للمأثم فقال الكوفي كأنكم خرجتم لقتال المنصور وأنتم تتوقون قتل الضعيف والمرأة والصغير أو لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث سراياه ليقاتل ويكون نحو هذا فقال بشير أولئك كفار وهؤلاء مسلمون.
واتبع إبراهيم رأيه وسار حتى نزل باخمرى وهي من الكوفة على ستة عشر فرسخا مقابل عيسى بن موسى فأرسل إليه سلم بن قتيبة إنك قد أصحرت ومثلك أنفس به عن الموت فخندق على نفسك حتى لا تؤتى إلا من مأتى واحد فإن أنت لم تفعل فقد أغرى أبو جعفر عسكره فتخفف في طائفة حتى تأتيه فتأخذ بقفاه فدعا إبراهيم أصحابه وعرض عليهم ذلك فقالوا: نخندق على أنفسنا ونحن الظاهرون عليهم لا والله لا نفعل قال فنأتي أبا جعفر قالوا: ولم هو في أيدينا متى أردناه فقال إبراهيم للرسول أتسمع؟ فارجع راشدا.
ثم انهم تصافوا، فصف إبراهيم أصحابه صفا واحدا فأشار عليه بعض أصحابه بأن يجعلهم كراديس فإذا انهزم كردوس ثبت كردوس فإن الصف إذا انهزم بعضه تداعى سائره فقال الباقون لا نصف إلا صف أهل الإسلام يعني قول الله تعالى: (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا) الآية.
568

فاقتتل الناس قتالا شديدا وانهزم حميد بن قحطبة وانهزم الناس معه فعرض لهم عيسى يناشدهم الله والطاعة فلا يلوون عليه فاقبل حميد منهزما فقال له عيسى الله الله والطاعة فقال لا طاعة في الهزيمة! ومر الناس فلم يبق مع عيسى إلا نفر يسير فقيل له: لو تنحيت عن مكانك حتى تؤوب إليك الناس فتكر بهم فقال لا أزول عن مكاني هذا أبدا حتى أقتل أو يفتح الله على يدي والله لا ينظر أهل بيتي إلى وجهي أبدا وقد انهزمت عن عدوهم وجعل يقول لمن يمر به أقرئ أهل بيتي السلام وقولوا لهم لم أجد فداء أفديكم به أعز من نفسي وقد بذلتها دونكم!
فبينا هم على ذلك لا يلوي أحد على أحد إذ أتى جعفر ومحمد ابنا سليمان بن علي من ظهور أصحاب إبراهيم ولا يشعر باقي أصحابه الذين يتبعون المنهزمين حتى نزر بعضهم فرأى القتال من ورائهم فعطفوا نحوه ورجع أصحاب المنصور يتبعونهم فأنت الهزيمة على أصحاب إبراهيم فلولا جعفر ومحمد لتمت الهزيمة. وكان من صنع الله للمنصور أن أصحابه لقيهم نهر في طريقهم فلم يقدروا على الوثوب ولم يجدوا مخاضة فعادوا بأجمعهم وكان أصحاب إبراهيم قد مخروا الماء ليكون قتلاهم من وجده واحد فلما انهزموا منعهم الماء من الفرار وثبت إبراهيم في نفر من أصحابه يبلغون ستمائة وقيل أربعمائة وقاتلهم حميد وجعل يرسل بالرؤوس إلى عيسى، وجاء إبراهيم سهم عائر فوقع في حلقه فنحره فتنحى من موقفه وقال أنزلوني فأنزلوه
569

عن مركبه وهو يقول: (وكان أمر الله قدرا مقدورا) أردنا أمرا وأراد الله غيره.
واجتمع عليه أصحابه وخاصته يحمونه ويقاتلون دونه فقال حميد بن قحطبة لأصحابه شدوا على تلك الجماعة حتى تزيلوهم عن موضعهم وتعلموا ما اجتمعوا عليه؛ فشدوا عليهم فقاتلوهم أشد قتال حتى أفرجوهم عن إبراهيم ووصلوا إليه وحزوا رأسه فأتوا به عيسى فأراه ابن أبي الكرام الجعفري فقال نعم هذا رأسه فنزل عيسى إلى الأرض فسجد وبعث برأسه إلى المنصور.
وكان قتله يوم الاثنين لخمس ليال بقين من ذي القعدة سنة خمس وأربعين ومائة وكان عمره ثمانيا وأربعين سنة ومكث منذ خرج إلى أن قتل ثلاثة أشهر إلا خمسة أيام.
وقيل كان سبب انهزام أصحابه أنهم لما هزموا أصحاب المنصور وتبعوهم نادى منادي إبراهيم ألا لا تتبعوا مدبرا فرجعوا فلما رآهم أصحاب المنصور راجعين ظنوهم منهزمين فعطفوا في آثارهم وكأنت الهزيمة.
وبلغ المنصور الخبر بهزيمة أصحابه أولا فعزم على إتيان الري فأتاه نوبخت المنجم وقال يا أمير المؤمنين الظفر لك وسيقتل إبراهيم فلم يقبل منه فبينما هو كذلك إذ جاءه الخبر بقتل إبراهيم فتمثل:
(فألقت عصاها واستقر بها النوى * كما قر عينا بالإياب المسافر)
570

فاقطع المنصور نوبخت ألفي جريب بنهر حويزة.
وحمل رأس إبراهيم إلى المنصور فوضع بين يديه لما رآه بكى حتى خرجت دموعه على خد إبراهيم ثم قال أما والله إني كنت لهذا كارها ولكنك ابتليت بي وابتليت بك! ثم جلس مجلسا عاما وأذن للناس فكان الداخل يدخل فيتناول إبراهيم ويسئ القول فيه ويذكر فيه القبيح التماسا لرضا المنصور والمنصور متمسك متغير لونه حتى دخل جعفر بن حنظلة الدارمي فوقف فسلم ثم قال أعظم الله أجرك يا أمير المؤمنين في ابن عمك وغفر له ما فرط فيه من حقك فاصفر لون المنصور وأقبل عليه وقال يا أبا
خالد مرحبا [وأهلا] ههنا فعلم الناس أن ذلك يرضيه فقالوا: مثل قوله.
وقيل: لما وضع الرأس بصق في وجهه رجل من الحرس فأمر به المنصور فضرب بالعمد فهشمت أنفه ووجهه وضرب حتى خمد وأمر به فجروا رجله فالقوه خارج الباب.
قيل نظر المنصور إلى سفيان بن معاوية بعد مدة راكبا فقال لله العجب كيف يقتلني ابن الفاعلة!
انقضى أمر إبراهيم رضي الله عنه.
ذكر عدة حوادث
وفيها خرجت الترك والخزر بباب الأبواب فقتلوا من المسلمين بأرمينية جماعة كثيرة.
571

وحج بالناس هذه السنة السري بن عبد الله بن الحرث بن العباس وكان على مكة، وكان على المدينة عبد الله بن الربيع وعلى الكوفة عيسى بن موسى وعلى البصرة سلم بن قتيبة الباهلي وعلى قضائها عباد بن منصور وعلى مصر يزيد بن حاتم.
وفيها عزل المنصور مالك بن الهيثم عن الموصل بابنه جعفر بن أبي جعفر المنصور وسير معه حرب بن عبد الله وهو من أكابر قواده وهو صاحب الحربية ببغداد وبنى بأسفل الموصل قصرا وسكنه فهو يعرف إلى اليوم بقصر حرب وفيه ولدت زبيدة بنت جعفر زوجة الرشيد وعنده يومنا هذا قرية كأنت ملكا لنا فبيننا فيها رباطا للصوفية وقفنا القرية عليه قد جمعت كثيرا من هذا الكتاب في هذه القرية في دار لنا بها وهي من أنزه المواضع وأحسنها، واثر القصر باق بها إلى الآن سبحان من لا يزول ولا تغيره الدهور.
وفيها مات عمرو بن ميمون بن مهران والحسن بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب وكان موته في حبس المنصور لأنه أخذه من المدينة كما ذكرناه وهو عم محمد وإبراهيم وفيها مات عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي ويحيى بن الحرث الذماري وله سبعون سنة. وإسماعيل بن أبي خالد البجلي وحبيب بن الشهيد مولى الأزد وكنيته أبو شهيد.
572

146
ثم دخلت سنة ست وأربعين ومائة
ذكر انتقال المنصور إلى بغداد وكيفية بنائها
وفيها في صفر تحول المنصور من مدينة ابن هبيرة إلى بغداد وبنى مدينتها وقد ذكرنا في سنة خمس وأربعين ومائة السبب الباعث للمنصور على بناء مدينة بغداد ونذكر الآن بناءها.
ولما عزم المنصور على بناء بغداد شاور أصحابه وكان فيهم خالد بن برمك فأشار أيضا بذلك وهو خطها فاستشاره في نقض المدائن وإيوان كسرى ونقل نقضها إلى بغداد، فقال: لا أرى ذلك لأنه علم من أعلام الإسلام يستدل به الناظر على أنه لم يكن ليزال مثل أصحابه عنه بأمر الدنيا وإنما هو على أمر دين ومع هذا ففيه مصلى علي بن أبي طالب قال المنصور لا أبيت يا خالد إلا بالميل إلى أصحابك العجم وأمر بنقض القصر الأبيض فنقضت ناحية منه وحمل نقضه فنظر فكان مقدار ما يلزمهم له أكثر من ثمن الجديد فدعا خالد بن برمك فأعلمه ذلك فقال يا أمير المؤمنين قد كنت أرى أن لا تفعل فأما إذا فعلت فإني أرى أن تهدم لئلا يقال إنك عجزت عن هدم ما بناه غيرك. فاعرض عنه وترك هدمه.
ونقل أبواب مدينة واسط فجعلها على بغداد وبأبا جيء به من الشام،
573

وبأبا آخر جيء به من الكوفة كان عمله خالد بن عبد الله القسري وجعل المدينة مدورة لئلا يكون بعض الناس أقرب إلى السلطان من بعض وعمل ها سورين السور الداخل أعلى من الخارج وبنى قصره في وسطها والمسجد الجامع بجانب القصر وكان الحجاج بن أرطأة هو الذي خط المسجد وقبلته غسر مستقيمة يحتاج المصلى أن ينحرف إلى باب البصرة لأنه وضع بعد القصر، وكان القصر غير مستقيم على القبلة.
وكان اللبن الذي يبنى به ذراع في ذراع ووزن بعضها لما نقض فكان وزن لبنة منه مائة رطل وستة عشر رطلا، وكان مقاصير جماعة من قواد المنصور وكتابه تشرع أبوابها إلى رحبة الجامع فطلب إليه عمه عيسى بن علي أن يأذن له في الركوب من باب الرحبة إلى القصر لضعفه فلم يأذن له قال فاحسبني راوية فأمر الناس بإخراج أبوابهم من الرحبة إلى فصلان الطاقات.
وكأنت الأسواق في المدينة فجاء رسول لملك الروم فأمر الربيع فطاف به في المدينة فقال كيف رأيت قال رأيت بناء حسنا إلا أني رأيت أعداءك معك وهم السوقة فلما عاد الرسول عنه أمر باخراجهم إلى ناحية الكرخ.
وقيل: إنما أخرجهم لأن الغرباء يطرقونها ويبيتون فيها وربما كان فيهم الجاسوس.
وقيل: إن المنصور كان يتبع من خرج مع إبراهيم بن عبد الله وكان أبو زكريا يحيى بن عبد الله محتسب بغداد له مع إبراهيم ميل فجمع جماعة من السفلة فشغبوا على المنصور فسكنهم وأخذ أبا زكريا فقتله وأخرج
574

الأسواق فكلم في بقال فأمر أن يجعل في كل ربع بقال يبيع البقل والخل حسب.
وجعل الطريق أربعين ذراعا.
وكان مقدار النفقة على بنائها وبناء المسجد والقصر والأسواق والفضلان والخنادق وأبوابها أربعة آلاف ألف وثمانمائة وثلاثة وثلاثين درهما.
وكان الأستاذ من البنائين يعمل يومه بقيراط فضة والروزكاري بحبتين وحاسب القواد عند الفراغ منها فألزم كلا منهم بما بقي عنده فأخذه حتى أن خالد بن الصلت بقي عليه خمسة عشر درهما فحبسه وأخذها منه.
ذكر خروج العلاء بالأندلس
وفيها سار العلاء بن مغيث اليحصبي من أفريقية إلى مدينة بناحية من الأندلس ولبس السواد وقام بالدولة العباسية وخطب للمنصور واجتمع إليه خلق كثير فخرج إليه الأمير عبد الرحمن الأموي فالتقيا بنواحي أشبيلية ثم تحاربا أياما فانهزم العلاء وأصحابه وقتل منهم في المعركة سبعة آلاف وقتل العلاء وأمر بعض التجار بحمل رأسه ورؤوس جماعة من مشاهير أصحابه إلى القيروان والقائها بالسوق سرا ففعل ذلك ثم حمل منها شيء إلى مكة فوصلت وكان بها المنصور وكان مع الرؤوس لواء أسود وكتاب كتبه المنصور للعلاء.
575

ذكر عدة حوادث
في هذه السنة عزل سلم بن قتيبة عن البصرة.
وكان سبب عزله أن المنصور كتب إليه بأمره بهدم دور من خرج مع إبراهيم وبعقر نخلهم، فكتب سلم بأي ذلك أبدأ بالدور أم النخل فأنكر المنصور ذلك عليه وعزله واستعمل محمد بن سليمان فعاث بالبصرة وهدم دار أبي مروان ودار عون بن مالك ودار عبد الواحد بن زياد وغيرهم.
وغزا الصائفة هذه السنة جعفر بن حنظلة البهراني.
وفيها عزل عن المدينة عبد الله بن الربيع الحارثي وول مكانه جعفر بن سليمان فقدمها في ربيع الأول وفيها عزل عن مكة السري بن عبد الله ووليها عبد الصمد بن علي.
وحج بالناس هذه السنة عبد الوهاب بن إبراهيم الامام.
وفيها مات هشام بن عروة بن الزبير وقيل سنة سبع وأربعين في شعبان وعوف الأعرابي وطلحة بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله التيمي الكوفي.
وفيها غزا مالك بن عبد الله الخثعمي الذي يقال له مالك الصوائف وهو من أهل فلسطين بلاد الروم فغنم غنائم كثيرة ثم قفل فلما كان من درب الحدث على خمسة عشر ميلا بموضع يدعى الرهوة نزل بها ثلاثا وباع الغنائم وقسم سهام الغنيمة فسميت تلك الرهوة رهوة مالك.
وفيها توفي ابن السائب الكلبي النسابة
576

147
ثم دخلت سنة سبع وأربعين ومائة
ذكر قتل حرب بن عبد الله
فيها أغار استرخان الخوارزمي في جمع من الترك على المسلمين بناحية أرمينية وسبى من المسلمين وأهل الذمة خلقا ودخلوا تفليس وكان حرب مقيما بالموصل في ألفين من الجند لمكان الخوارج الذين بالجزيرة وسير المنصور إلى محاربة الترك جبرائيل بن يحيى وحرب بن عبد الله فقاتلوهم فهزم جبرائيل وقتل حرب وقتل من أصحاب جبرائيل خلق كثير.
ذكر البيعة للمهدي وخلع عيسى بن موسى
وفيها خلع عيسى بن موسى بن محمد بن علي من ولاية العهد وبويع للمهدي محمد بن المنصور وقد اختلف في السبب الذي خلع لأجله نفسه فقيل إن عيسى لم يزل على ولاية العهد وأمارة الكوفة من أيام السفاح إلى الآن فلما كبر المهدي وعزم المنصور على البيعة له كل عيسى بن موسى في ذلك وكان يكرمه ويجلسه عن يمينه ويجلس المهدي عن يساره فلما قال له المنصور في معنى خلع نفسه وتقديم المهدي عليه أبى وقال يا أمير المؤمنين كيف بالايمان علي
577

وعلى المسلمين من العتق والطلاق وغير ذلك؟ ليس إلى الخلع سبيل! فتغير المنصور عليه وباعده بعض المباعدة وصار يأذن للمهدي قبله وكان يجلس عن يمينه في مجلس عيسى ثم يؤذن لعيسى فيدخل فيجلس إلى جانب المهدي ولم يجلس عن يسار المنصور فاغتاظ مه ثم صار يأذن للمهدي ولعمه عيسى بن علي ثم لعبد الصمد بن علي ثم لعيسى بن موسى وربما قدم وأخر إلا أنه يبدأ بالإذن للمهدي على كل حال.
وتوهم عيسى أنه يقدم اذنهم لحاجة له إليهم وعيسى صامت لا يشكو منه شيئا ثم صار حال عيسى إلى أعظم من ذلك فكان يكون في المجلس معه بعض ولده فيسمع الحفر في أصل الحائط وينثر عليه التراب وينظر إلى الخشبة من السقف قد حفر عن أحد طرفيها لتقلع فيسقط التراب على قلنسوته وثيابه فيأمر من معه من ولده بالتحول ويقوم هو يصلي ثم يؤذن له فيدخل بهيئته والتراب على رأسه وثيابه لا ينفضه فيقول له المنصور يا عيسى ما يدخل على أحد بمثل هيئتك من كثرة الغبار والتراب أفكل هذا من الشارع فيقول أحسب ذلك يا أمير المؤمنين ولا يشكو شيئا.
وكان المنصور يرسل إليه عمه عيسى بن علي في ذلك فكان عيسى بن موسى لا يؤثره ويتهمه فقيل ان المنصور أمر أن يسقى عيسى بن موسى بعض ما يتلفه فوجد الماء في بطنه فاستأذن في العود إلى بيته بالكوفة فأذن له فمرض من ذلك واشتد مرضه ثم عوفي بعد أن أشفى.
وقال عيسى بن علي للمنصور: إن ابن موسى إنما يتربص بالخلافة لابنه موسى فابنه الذي يمنعه، فقال له: خوفه وتهدده فكلمه عيسى بن علي في ذلك وخوفه فخاف عيسى بن موسى وأتى العباس بن محمد فقال: يا
578

عم إني أرى ما يسام أبي من إخراج هذا الأمر من عنقه وهو يؤذي بصنوف الأذى بالمكروه فهو يهدد مرة ويؤخر إذنه مرة ويهدم عليه الحيطان مرة وتدس إليه الحتوف مرة وأبي لا يعطي على ذلك شيئا ولا يكون ذلك ابدا ولكن ههنا طريق لعله يعطي عليها وإلا فلا قال وما هو قال يقبل عليه أمير المؤمنين وأنا شاهد فقول له إني أعلم إنك لا تبخل بهذا [عن المهدي] لنفسك لكبر سنك وأنه لا تطول مدتك فيه وغنما تبخل له لابنك أفتراني أدع ابنك يبقى بعدم حتى يلي على ابني؟ كلا والله لا يكون ذلك ابدا ولأثبن على ابنك وأنت تنظر حتى ييأس منه فإن فعل ذلك فلعله أن يجيب إلى ما يراد منه.
فجاء العباس إلى المنصور وأخبره بذلك فلما اجتمعوا عنده قال ذلك، وكان عيسى بن علي حاضرا فقام ليبول فأمر عيسى بن موسى ابنه موسى ليقوم معه يجمع عليه ثيابه فقام معه فقال له عيسى بن علي بأبي أنت وبأبي أب ولدك والله إني لأعلم أنه لا خير في هذا الأمر بعدكما وأنكما لأحق له ولكن المرء مغرى بما تعجل، فقال موسى [في نفسه]: أمكنني هذا والله من مقاتله وهو الذي يغرى بأبي والله لأقتلنه فلما رجعا قال موسى لأبيه ذلك سرا فاستأذنه في أن يقول للمنصور ما سمع منه فقال له أبوه إن لهذا رأيا ومذهبا أئتمنك عمك على مقالة أراد أن يسرك لها فجعلتها سببا لمكروهه لا يسمعن هذا أحد ارجع إلى مكانك.
579

فلما رجع إلى مكانه أمر المنصور الربيع فقام إلى موسى فخنقه بحمائله وموسى يصيح الله الله في دمي يا أمير المؤمنين وما يبالي عيسى أن تقتلني وله بضعة عشر ذكرا والمنصور يقول يا ربيع أزهق نفسه والربيع يوهم أنه يريد تلفه وهو يرفق به وموسى يصيح. فلما رأى ذلك أبوه قال والله يا أمير ما كنت أظن أن الأمر يبلغ منك هذا كله فاكفف عنه فها أنا ذا أشهدك أن نسائي طوالق ومماليكي [أحرار] وما أملك في سبيل الله تصرف ذلك فيمن رأيت يا أمير المؤمنين وهذه يدي بالبيعة للمهدي فبايعه للمهدي ثم جعل عيسى بن موسى بعد المهدي.
فقال بعض أهل الكوفة هذا الذي كان غدا فصار بعد غد.
وقيل إن المنصور وضع الجند وكانوا يسمعون عيسى بن موسى ما يكره فشكا ذلك من فعلهم فنهاهم المنصور عنه وكانوا يكفون ثم يعودون ثم أنهما تكاتبا أغضبت المنصور، وعاد الجند معه لأشد ما كانوا منهم أسد بن المرزبان وعقبة بن سلم ونصر بن حرب بن عبد الله وغيرهم فكانوا يمنعونه من الدخول عليه ويسمعونه فشكاهم إلى المنصور فقال له يا بن أخي أنا والله أخافهم عليك وعلى نفسي فإنهم يحبون هذا الفتى فلو قدمته بين يديك لكفوا فأجاب عيسى إلى ذلك.
وقيل: إن المنصور استشار خالد بن برمك في ذلك وبعثه إلى عيسى فأخذ معه ثلاثين من كبار شيعة المنصور ممن يختارهم وقال لعيسى في أمر البيعة فامتنع.
فرجعوا إلى المنصور وشهدوا على عيسى أنه خلع نفسه فبايع للمهدي وجاء عيسى فأنكر ذلك فلم يسمع منه وشكر لخالد صنيعه وقيل بل اشترى المنصور منه ذلك قدره أحد عشر ألف ألف درهم
580

له ولأولاده وأشهد على نفسه بالخلع.
وكأنت مدة ولاية عيسى بن موسى الكوفة ثلاث عشرة سنة وعزله المنصور واستعمل محمد بن سليمان بن علي ليؤذي عيسى ويستخف به فلم يفعل ولم يزل معظما له مبجلا.
ذكر موت عبد الله بن علي
وكان المنصور قد أحضر عيسى بن موسى بعد أن خلع نفسه وسلم إليه عمه عبد الله بن علي وأمره بقتله وقال له إن الخلافة صائرة إليك بعد المهدي فاضرب عنقه وإياك أن تضعف فتنقض على أمري الذي دبرته ثم مضى إلى مكة وكتب إلى عيسى من الطريق يستعلم منه ما فعل في الأمر الذي أمره فكتب عيسى في الجواب قد أنفذت ما أمرت به فلم يشك أنه قتله.
وكان عيسى حين أخذ عبد الله من عند المنصور دعا كاتبه يونس بن فروة وأخبره الخبر فقال أراد أن تقتله ثم يقتلك لأنه أمر بقتله سرا ثم يدعيه عليك علانية فلا تقتله ولا تدفعه إليه سرا أبدا واكتم أمره ففعل ذلك عيسى.
فلما قدم المنصور وضع على أعمامه من يحركهم على الشفاعة في أخيهم عبد الله ففعلوا وشفعوا فشفعهم وقال لعيسى إني كنت دفعت إليك عمي وعمك عبد الله ليكون في منزلك وقد كلمني عمومتك فيه وقد صفحت عنه فأتنا به.
قال: يا أمير المؤمنين ألم تأمرني بقتله؟ فقتلته ‍ قال: ما أمرتك! قال: بلى أمرتني قال ما أمرتك إلا بحبسه وقد كذبت! ثم قال المنصور
581

لعمومته: إن هذا قد أقر لكم بقتل أخيكم قالوا: فادفعه إلينا نقيده به فسلمه إليهم وخرجوا به إلى الرحبة واجتمع الناس وشهر الأمر وقام أحدهم ليقتله فقال له عيسى أفاعل أنت قال إي والله قال ردوني إلى أمير المؤمنين فردوه إليه فقال له إنما أردت بقتله أن تقتلني هذا عمك حي سوي قال ائتنا به فأتاه به قال يدخل حتى أرى رأيي ثم انصرفوا ثم أمر به فجعل في بيت أساسه ملح وأجرى الماء في أساسه فسقط عليه فمات فدفن في مقابر باب الشام فكان أول من دفن فيها وكان عمره اثنتين وخمسين سنة.
قيل: ركب المنصور يوما ومعه ابن عياش المنتوف فقال له المنصور تعرف ثلاث خلفاء أسمائهم على العين قتلت ثلاثة خوارج مبدأ أسمائهم على العين قال لا أعرف إلا ما يقول العامة إن عليا قتل عثمان وكذبوا وعبد الملك قتل عبد الرحمن بن أشعث وعبد الله بن الزبير قتل عمرا بن سعيد وعبد الله بن علي سقط عليه بيت. فقال المنصور إذا سقط عليه فما ذنبي أنا قال ما قلت إن لك ذنبا.
قوله: ابن الزبير قتل عمرا بن سعيد ليس بصحيح إنما قتله عبد الملك.
(عياش بالياء المثناة من تحت والشين المعجمة).
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة ولى المنصور محمدا ابن أخيه أبي العباس السفاح، البصرة، فاستعفى منها، فأعفاه، فانصرف إلى بغداد واستخلف بها نخبة بن سالم،
582

فأقره عليها فلما رجع إلى بغداد مات بها.
وحج بالناس هذه السنة المنصور وكان عامله على مكة والطائف عمه عبد الصمد بن علي وعلى المدينة جعفر بن سليمان وعلى مصر يزيد بن حاتم المهلبي.
وفيها أغزى عبد الرحمن الأموي صاحب الأندلس مولاه بدرا وتمام بن علقمة طليطلة وبها هاشم بن عذرة وضيقا عليه ثم أسراه هو وحياة بن الوليد اليحصبي وعثمان بن حمزة بن عبيد الله بن عمر بن الخطاب وأتيا بهم إلى عبد الرحمن في جباب صوف وقد حلقت رؤوسهم ولحاهم وقد أركبوا الحمير وهم في السلاسل ثم صلبوا بقرطبة.
وفيها قدم رسول عبد الرحمن الذي أرسله إلى الشام في إحضار ولده الأكبر سليمان فحضر وسليمان معه وكان قد ولد لعبد الرحمن بالأندلس ولده هشام فقدمه الأمير عبد الرحمن على سليمان فحصل بينهما حقد وغل أوجبا ما نذكره فيما بعد.
وفيها تناثرت النجوم.
وفيها مات أشعث بن عبد الملك الحمراني البصري وهشام بن حسان مولى لعتيك وقيل مات سنة ثمان وأربعين وعبد الرحمن بن زبيد بن الحرث اليامي أبو الأشعث الكوفي.
583

148
ثم دخلت سنة ثمان وأربعين ومائة
ذكر خروج حسان بن مجالد
وفيها خرج حسان بن مجالد بن يحيى بن مالك بن الأجدع الهمداني ومالك هذا هو أخو مسروق بن الأجدع. وكان خروجه بنواحي الموصل بقرية تسمى بافخارى قريب من الموصل على دجلة فخرج إليه عسكر الموصل وعليها الصقر بن نجدة وكان قد وليها بعد حرب بن عبد الله فالتقوا واقتتلوا وانهزم عسكر الموصل إلى الجسر وأحرق الخوارج أصحاب حسان السوق هناك ونهبوه.
ثم إن حسان سار إلى الرقة ومنها إلى البحر ودخل إلى بلد السند وكأنت الخوارج من أهل عمان يدخلونهم ويدعونهم فاستأذنهم في المسير إليهم فلم يجيبوه فعاد غلى الموصل فخرج إليه الصقر أيضا والحسن بن صالح بن حسان الهمذاني وبلال القيسي فالتقوا فانهزم الصقر وأسر الحسن بن صالح وبلال فقتل حسان بلالا واستبقى الحسن لأنه من همدان ففارقه بعض أصحابه لهذا.
وكان حسان قد أخذ رأي الخوارج عن خاله حفص بن أشيم وكان
584

من علماء الخوارج وفقهائهم.
ولما بلغ المنصور خروج حسان قال خارجي من همدان قالوا: إنه ابن أخت حفص بن أشيم فقال فمن هناك وإنما أنكر المنصور ذلك لأنه عامة همدان شيعة لعلي وعزم المنصور على انفاذ الجيوش إلى الموصل والفتك بأهلها فأحضر أبا حنيفة وابن أبي ليلى وابن شبرمة وقال لهم إن أهل الموصل شرطوا لي أنهم لا يخرجون علي فإن فعلوا حلت دماؤهم وأموالهم وقد خرجوا فسكت أبو حنيفة وتكلم الرجلان وقالا: رعيتك فإن عفوت فأهل ذلك أنت وإن عاقبت فيما يستحقون فقال لأبي حنيفة أراك سكت يا شيخ فقال يا أمير المؤمنين أباحوك مالا يملكون، أرأيت لو أن امرأة أباحت فرجها بغير عقد نكاح وملك يمين أكان يجوز أن توطأ؟ قال: لا! وكف عن أهل الموصل وأم أبا حنيفة وصاحبيه بالعود إلى الكوفة.
ذكر استعمال خالد بن برمك
وفيها استعمل المنصور على الموصل خالد بن برمك.
وسبب ذلك أنه بلغه انتشار الأكراد بولايتها وإفسادهم فقال من لها فقالوا: المسيب بن زهير فأشار عمارة بن غمرة بخالد بن برمك فولاه وسيره إليها وأحسن إلى الناس وقهر المفسدين وكفهم وهابه أهل البلد هيبة شديدة مع إحسانه إليهم.
وفيها ولد الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك لسبع بقين من ذي الحجة قبل
585

أن يولد الرشيد ابن المهدي بسبعة أيام فأرضعته الخيزران أم الرشد بلبن ابنها فكان الفضل بن يحيى أخا الرشيد من الرضاعة ولذلك يقول سلم الخاسر:
(أصبح الفضل والخليفة هارو * ن رضيعي لبان خير النساء)
وقال أبو الجنوب:
(كفى لك فضلا أن أفضل حرة * غذتك بثدي والخليفة واحد)
ذكر ولاية الأغلب بن سالم أفريقية
لما بلغ المنصور خروج محمد بن الأشعث من أفريقية بعث غلى الأغلب بن سالم بن عقال بن خفاجة التميمي عهدا بولاية أفريقية وكان هذا الأغلب ممن قام مع أبي مسلم الخراساني وقدم أفريقية مع محمد بن الأشعث فلما أتاه العهد قدم القيروان في جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين ومائة وأخرج جماعة من قواد المضرية وسكن الناس وخرج عليه أبو قرة في جمع كثير من البربر فسار إليه الأغلب فهرب أبو قرة من غير قتال وسار الأغلب يريد طنجة فاشتد ذلك على الجند وكرهوا المسير وتسللوا عنه إلى القيروان فلم يبق معه إلا نفر يسير.
وكان الحسن بن حرب الكندي بمدينة تونس وكاتب الجند ودعاهم إلى
586

نفسه فأجابوه فسار حتى دخل القيروان من غير مانع.
وبلغ الأغلب الخبر فعاد مجدا فقال له بعض أصحابه ليس من الرأي أن تعدل [إلى] لقاء العدو في هذه العدة القليلة ولكن الرأي أن تعدل إلى قابس فإن أكثر من معه يجيء إليك لأنهم إنما كرهوا المسير إلى طنجة لا غير وتقوى بهم وتقاتل عدوك. ففعل ذلك وكثر جمعه وسار إلى الحسن بن حرب فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزم الحسن وقتل من أصحابه جمع كثير ومضى الحسن إلى تونس في جمادى الآخرة سنة خمسين ومائة ودخل الأغلب القيروان.
وحشد الحسن وجمع فصار في عدة عظيمة فقصد الأغلب فخرج إليه الأغلب من القيروان فالتقوا واقتتلوا فأصاب الأغلب سهم فقتله وثبت أصحابه فتقدم عليهم المخارق بن غفار فحمل المخارق على الحسن وكان في ميمنة الأغلب فهزمه فمضى منهزما إلى تونس في شعبان سنة خمسين ومائة، وولي المخارق أفريقية في رمضان ووجه الخيل في طلب الحسن فهرب الحسن من تونس إلى كتامة فأقا شهرين ثم رجع إلى تونس فخرج إليه من بها من الجند فقتلوه.
وقد قيل إن الحسن قتل بعد قتل الأغلب لأن أصحاب الأغلب ثبتوا بعد قتله في المعركة فقتل الحسن بن حرب أيضا وولي أصحابه منهزمين وصلب الحسن ودفن الأغلب وسمي الشهيد وكأنت هذه الوقعة في شعبان سنة خمسين ومائة.
587

ذكر الفتن بالأندلس
في هذه السنة خرج سعيد اليحصبي المعروف بالمطري بالأندلس بمدينة لبلة.
وسبب ذلك أنه سكر يوما فتذكر من قتل من أصحابه اليمانية مع العلاء وقد ذكرناه فعقد لواء فلما صحا رآه معقودا فسأله لعنه فأخبر به فأراد حله ثم قال ما كنت أعقد لواء ثم أحله بغر شيء وشرع في الخلاف فاجتمعت اليمانية إليه وقصد إشبيلية وتغلب عليها وكثر جمعه فبادره عبد الرحمن صاحب الأندلس في جموعه فامتنع المطري في قلعة زعواق لإحدى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول فحصره عبد الرحمن فيها وضيق عليه ومنع أهل الخلاف من الوصول إليه.
وكان قد وافقه على الخلاف غياث بن علقمة اللخمي وكان بمدينة شدونة وقد انضاف إليه جماعة من رؤساء القبائل يريدون إمداد المطري وهم في جمع كثير.
فلما سمع عبد الرحمن ذلك سير إليهم بدرا مولاه في جيش فحال بينهم وبين الوصول إلى المطري فطال الحصار عليه وقلت رجاله بالقتل ففارقه بعضهم فخرج يوما من القلعة وقاتل فقتل وحمل رأسه إلى عبد الرحمن.
588

فقدم أهل القلعة عليهم خليفة ابن مروان فدام الحصار عليهم فأرسل أهلها يطلبون الأمان من عبد الرحمن ليسلموا إليه خليفة فأجابهم إلى ذلك وأمنهم فسلموا إليه الحصن وخليفة فخرب الحصن وقتل خليفة ومن معه ثم أنتقل إلى غياث وكان موافقا للمطري على الخلاف فحصرهم وضيق عليهم فطلبوا الأمان فأمنهم إلا نفرا كان يعرف كراهتهم لدولته فإنه قبض عليهم وعاد إلى قرطبة فلما عاد إليها خرج عليه عبد الله بن خراشة الأسدي بكورة جيان فاجتمعت إليه جموع فأغار على قرطبة فسير إليه عبد الرحمن جيشا فتفرق جمعه فطلب الأمان فبذله له عبد الرحمن ووفى له.
ذكر عدة حوادث
وفيها عسكر صالح بن علي بدابق ولم يغز.
وحج بالناس أبو جعفر المنصور وكان ولاة الأمصار من تقدم ذكرهم وفيها مات سليمان بن مهران الأعمش وكان مولده سنة ستين وفيها مات جعفر بن محمد الصادق وقبره بالمدينة يزار هو وأبوه وجده في قبر واحد مع الحسن بن علي بن أبي طالب وفيها مات زكريا بن أبي زائدة وأبو أمية عمرو بن الحرث بن يعقوب مولى قيس بن سعد بن عبادة وقيل غير ذلك وكان مولده سنة تسعين وعبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان ويقال مولى تميم وهو ثقة ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى القاضي ومحمد بن الوليد الزبيدي ومحمد بن عجلان المدني وعوام بن حوشب بن يزيد بن رويم الشيباني الواسطي ويحيى بن أبي عمرو السيباني من أهل الرملة.
(سيبان بالسين المهملة، ثم بالياء المثناة من تحت ثم بالباء الموحدة بطن من حمير).
589

149
ثم دخلت سنة تسع وأربعين ومائة
وفيها غزا العباس بن محمد الصائفة أرض الروم ومعه الحسن بن قحطبة ومحمد بن الأشعث فمات محمد في الطريق.
وفيها استتم المنصور بناء سور المدينة بغداد وخندقها وفرغ جميع أمورها وسار إلى حديثة الموصل ثم عاد.
وحج بالناس محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس. وفيها عزل عبد الصمد بن علي عن مكة في قول بعضهم واستعمل محمد بن إبراهيم وكان عمال الأمصار من تقدم ذكرهم سوى مكة والطائف.
وفيها أغزى عبد الرحمن صاحب الأندلس بدرا مولاه إلى بلاد العدو فجاوز إليه وأخذ جزيتها. وكان أبو الصباح حي بن يحيى على إشبيلية فعزله فدعا إلى الخلاف فأنفذ إليه عبد الرحمن وخدعه حتى حضر عنده فقتله.
وفيها مات سلم بن قتيبة الباهلي بالري وكان مشهورا عظيم القدر وكهمس بن الحسن أبو الحسن التميمي البصري. وفيها توفي عيسى بن عمر الثقفي النحوي المشهور وعنه أخذ الخليل النحو وله وفيه تصنيف.
590

150
ثم دخلت سنة خمسين ومائة
ذكر خروج أستاذ سيس
وفيها خرج أستاذ سيس في أهل هراة وباذغيس وسجستان وغيرها من خراسان، وكان فيما قيل في زهاء ثلاثمائة ألف مقاتل فغلبوا على عامة خراسان وسار حتى التقوا هم وأهل مرو والروذ فخرج إليهم الأجشم المروروذي في أهل مرو الروذ فقاتلوه قتالا شديدا فقتل الأجشم وكثر القتل في أصحابه وهزم عدة من القواد منهم معاذ بن مسلم وجبرائيل بن يحيى وحماد بن عمرو وأبو النجم السجستاني وداود بن كرار.
ووجه المنصور وهو بالراذان خازم بن خزيمة إلى المهدي فولاه المهدي محاربة أستاذ سيس وضم إليه القواد فسار خاوم وأخذ معه من انهزم وجعلهم في أخريات الناس يكثر بهم من معه وكان معه من هذه الطبقة اثنان وعشرون ألفا ثم أنتخب منهم ستة آلاف رجل وضمهم إلى اثني عشر ألفا كانوا معه من المنتخبين، وكان بكار بن سلم فيمن أنتخب وتعبأ للقتال فجعل الهيثم بن شعبة بن ظهير على ميمنته ونهار بن حصين السعدي على ميسرته وبكار بن سلم العقيلي في مقدمته وكان لؤلؤه مع الزبرقان.
فمكر بهم وراوغهم في أن ينقلهم من موضع إلى موضع وخندق إلى
591

خندق حتى قطعهم، وكان أكثرهم رجالة ثم سار خازم إلى موضع فنزله وخندق عليه وعلى جميع أصحابه وجعل له أربعة أبواب وجعل على كل باب ألفا من أصحابه الذين أنتخب. وأتى أصحاب أستاذ سيس ومعهم الفؤوس والمرو والزبل ليطموا الخندق فأتوا الخندق من الباب الذي عليه بكار بن سلم فحملوا على أصحاب بكار حملة هزموهم بها فرمى بكار بنفسه فترجل على باب الخندق وقال لأصحابه لا يؤتى المسلمون من ناحيتنا فترجل معه من أهله وعشيرته نحو من خمسين رجلا وقاتلوهم حتى ردوهم من بابهم ثم اقبل إلى الباب الذي عليه خازم رجل من أصحاب أستاذ سيس من أهل سجستان اسمه الحريش وهو الذي كان يدبر أمره، فلما رى خازم مقبلا بعث إليهم الهيثم بن شعبة وكان في الميمنة أن يخرج من الباب الذي عليه بكار فإن من بإزائه قد شغلوا عنهم ويسير حتى يغيب عن ابصارهم ثم يرجع من حلف العدو، وقد كانوا يتوقعون قدوم أبي عون وعمرو بن سلم بن قتيبة من طخارستان.
وبعث خازم غلى بكار غذا رأيت رايات الهيثم قد جاءت فكبروا وقولوا قد جاءت فكبروا وقولوا قد جاء أهل طخارستان ففعل ذلك الهيثم وخرج خازم في القلب على الحريش وشغلهم بالقتال وصبر بعضهم لبعض.
فبينا هم على ذلك نظروا إلى اعلام الهيثم فتنادوا بينهم جاء أهل طخارستان فلما نظروا إليها حمل عليهم أصحاب خازم فكشفوهم ولقيهم أصحاب الهيثم فطعنوهم بالرماح ورموهم بالنشاب.
وخرج [عليهم] نهار بن حصين من ناحية الميسرة وبكار بن سلم وأصحابه من ناحيتهم فهزموهم ووضعوا فيهم السيوف فقتلهم المسلمون فاكصروا وكان عدد من قتل سبعين ألفا وأسروا أربعة عشر ألفا ونجا أستاذ سيس إلى جبل في نفر يسير فحصرهم خازم وقتل الأسرى ووافاه أبو عون وعمرو
592

ابن سلم ومن معهما، فنزل أستاذ سيس على حكم أبي عون فحكم أن يوثق أستاذ سيس وبنوه وأهل بيته بالحديد وأن يعتق الباقون وهم ثلاثون ألفا فامضى خازم حكمه وكسا كل رجل ثوبين وكتب إلى المهدي بذلك فكتب المهدي إلى المنصور.
وقيل إن خروج أستاذ سيس كان سنة خمسين وكأنت هزيمته سنة إحدى وخمسين ومائة.
وقد قيل: إن أستاذ سيس ادعي النبوة وأظهر أصحابه الفسق وقطع السبيل.
وقيل: إنه جد المأمون أبو أمه مراجل وابنه غالب خال المأمون وهو الذي قتل ذا الرياستين الفضل بن سهل لمواطأة المأمون وسيرد ذكره إن شاء الله.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة عزل المنصور جعفر بن سليمان عن المدينة وولاها الحسن بن زيد بن الحسن بن الحسن بن علي.
وفيها خرج بالأندلس غياث بن المسير الأسدي بنائحة فجمع العمال لعبد الرحمن جمعا كثيرا وسار إلى غياث فواقعه فانهزم غياث ومن معه وقتل غياث وبعث برأسه إلى عبد الرحمن بقرطبة.
وفيها مات جعفر بن أبي جعفر المنصور وصلى عليه أبوه ودفن ليلا
593

في مقابر قريش ولم يكن للناس [في هذه السنة] صائفة.
وحج بالناس عبد الصمد بن عل وكان هو العامل على مكة في قول بعضهم وقال بعضهم بل كان العامل محمد بن إبراهيم وكان على الكوفة محمد بن سليمان بن علي وعلى البصرة عقبة بن سلم وعلى قضائها سوار وعلى مصر يزيد بن حاتم.
وفي هذه السنة مات الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان بن ثابت ومعمر بن راشد وعمر بن ذر وقيل مات عمر سنة خمس وخمسين ومائة وكان من الصالحين يقول بالإرجاء وفي سنة خمسين مات عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج ومحمد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي وقيل مات سنة إحدى وخمسين وفيها مات مقاتل بن سليمان البلخي المفسر وكان ضعيفا في الحديث.
وأبو جناب الكلبي وعثمان بن الأسود وسعيد بن أبي عروبة واسم أبي عروبة مهران مولى بني يشكر كنيته أبو النضر.
(يسار بالياء تحتها نقطتان وبالسين المهملة).
594

151
ثم دخلت سنة إحدى وخمسين ومائة
فيها أغارت الكرك على جدة.
ذكر عزل عمر بن حفص عن السند وولاية هشام بن عمرو
وفيها عزل المنصور عمر بن حفص بن عثمان بن قبيصة بن أبي صفرة المعروف بهزامرد يعني ألف رجل عن السند. واستعمل عليها هشام بن عمرو التغلبي واستعمل عمر بن حفص على إفريقية.
وكان سبب عزله عن السند أنه كان عليها لما ظهر محمد وإبراهيم ابنا عبد الله بن الحسن فوجه محمد ابنه عبد الله المعروف بالأشتر إلى البصرة فاشترى منها خيلا عتاقا ليكون سبب وصولهم إلى عمر بن حفص لأنه كان فيمن بايعه من قواد المنصور وكان يتشيع، وساروا في البحر إلى السند فأمرهم عمر أن يحضروا فقال له بعضهم أنا جئناك بما هو خير من الخيل وبما لك فيه خير الدنيا والآخرة فاعطنا الأمان إما قبلت منا وأما سترت وأمسكت عن أذانا حتى نخرج عن بلادك راجعين فآمنه.
فذكر له حالهم وحال عبد الله بن محمد بن عبد الله أرسله أبوه إليه فرحب بهم وبايعهم وانزل الأشتر عنده مختفيا ودعا كبراء أهل البلد وقواده وأهل
595

بيته إلى البيعة، فأجابوه، فقطع ألويتهم البيض وهيأ لبسه من البياض ليخطب فيه وتهيأ لذلك يوم الخميس فوصله مركب لطيف فيه رسول من امرأة عمر بن حفص تخبره بقتل محمد بن عبد الله فدخل على الأشتر فأخبره وعزاه فقال له الأشتر إن امرئ قد ظهر ودمي في عنقك فانظر لنفسك أو دع قال عمر قد رأيت رأيا ههنا ملك من ملوك السند عظيم الشأن كثير المملكة وهو على شوكة أشد الناس تعظيما لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو وفي أرسل إليه فاعقد بينك وبينه عقدا فأوجهك إليه تكون عنده فلست ترام معه ففعل ذلك وسار إليه الأشتر فأكرمه وأظهر بره وتسللت إليه اليزيدة حتى اجتمع معه أربعمائة انسان من أهل البصائر فكان يركب فيهم ويتصيد في هيئة الملوك وآلاتهم.
فلما انتهى [ذلك] إلى المنصور بلغ منه ما بلغ وكتب إلى عمر بن حفص يخبره ما بلغه فقرأ الكتاب على أهله وقال لهم إن أقررت بالقصة عزلني وإن سرت إليه قتلني وإن امتنعت حاربني فقال له رجل منهم ألق الذنب علي وخذني وقيدني فإنه سيكتب في حملي إليه فاحملني فإنه لا يقدم علي لمكانهم في السمد وحال أهل بيتك بالبصرة فقال عمر أخاف عليك خلاف ما تظن قال إن قتلت فنفسي فداء لنفسك.
فقيده وحبسه وكتب إلى المنصور بأمره فكتب إليه المنصور يأمره بحمله فلما صار إليه ضرب عنقه.
ثم استعمل على السند هشام بن عمرو التغلبي وكان سبب استعماله أن المنصور كان تفكر فيمن يوليه السند فبينا هو راكب والمنصور ينظر إليه إذ غاب يسيرا ثم عاد فاستأذن على المنصور فأدخله فقال إني لما انصرفت
596

من الموكب لقيتني أختي فلانة، فرأيت من جمالها وعقلها ودينها ما رضيتها لأمير المؤمنين فاطرق ثم قال أخرج يأتك أمري فلما خرج قال المنصور لحاجبه الربيع لولا قول جرير:
(لا تطلبن خؤولة في تغلب * فالزنج أكرم منهم أخوالا)
لتزوجت إليه قل له لو كان لنا حاجة في النكاح لقبلت فجزاك الله خيرا وقد وليتك السند.
فتجهز إليها وأمره أن يكاتب الملك بتسليم عبد الله فإن سلمه وإلا حاربه وكتب إلى عمر بن حفص بولايته إفريقية.
فسار هشام إلى السند فملكها وسار عمر إلى إفريقية فوليها فلما صار هشام بالسند كره أخذ عبد الله الأشتر وأقبل يرى الناس أنه يكاتب ذلك الملك، واتصلت الأخبار المنصور بذلك فجعل إليه يستحثه فبينا هو كذلك إذ خرجت خارجة ببلاد السند فوجه هشام أخاه سفنجا فخرج في جيشه وطريقه بجنبات ذلك الملك فبينا هو يسير إذ غبرة قد ارتفعت فظن أنهم مقدمة العدو الذي يقصده فوجه طلائعه فزحفت إليه فقالوا: هذا عبد الله بن محمد العلوي يتنزه على شاطئ مهران فمضى يريده فقال نصحاؤه هذا ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تركه أخوك متعمدا مخافة أن يبوء بدمه فلم يقصده فقال ما كنت لأدع أخذه ولا أدع أحدا يحظى بأخذه وقتله عند المنصور وكان عبد الله في عشرة فقصده فقاتله عبد الله وقاتل أصحابه حتى قتل وقتلوا جميعا فلم يفلت منهم مخبر وسقط عبد الله بين القتلى فلم يشعر به.
وقيل إن أصحابه قذفوه في مهران حتى لا يحمل رأسه، فكتب هشام
597

بذلك إلى المنصور فكتب إليه المنصور يشكر هو يأمره بمحاربة ذلك الملك فحاربه حتى ظفر به وقتله وغلب على مملكته.
وكان عبد الله قد اتخذ سراري فأولد واحدة منهن ولدا وهو محمد بن عبد الله الذي يقال له أين الأشتر فأخذ هشام السراري والولد معهن فسيرهن إلى المنصور فسير
المنصور الولد إلى عامله بالمدينة وكاب معه بصحة نسبه وتسليمه إلى أهله.
ذكر ولاية أبي جعفر عمر بن حفص أفريقي
وفي هذه السنة استعمل المنصور على إفريقية أبا جعفر عمر بن حفص من ولد قبيصة بن أبي صفرة أخي المهلب وإنما نسب [إلى] بيت المهلب لشهرته.
وكان سبب مسيره إليها أن المنصور لما بلغه قتل الأغلب بن سالم خاف على أفريقية فوجه إليها عمر واليا فقدم القيروان في صفر سنة إحدى وخمسين ومائة في خمسمائة فارس فاجتمع وجوه البلد فوصلهم وأحسن إليهم وأقام والأمور مستقيمة ثلاث سنين.
فسار إلى الزاب لبناء مدينة طبنة بأمر المنصور واستخلف على القيروان حبيب بن حبيب المهلبي فخلت أفريقية من الجند فثار بها البربر فخرج إليهم حبيب فقتل واجتمع البربر بطرابلس وولوا عليهم أبا حاتم الإباضي واسمه يعقوب بن حبيب مولى كندة وكان عامل عمر بن حفص على طرابلس الجنيد بن بشار الاسادي وكتب إلى عمر يستمده فأمده بعسكر،
598

فالتقوا وقاتلوا أبا حاتم الأباضي فهزمهم فساروا إلى قابس وحصرهم أبو حاتم وعمر مقيم بالزاب على عمارة طبنة وانتقضت أفريقية من كل ناحية ومضوا غلى طبنة فأحاطوا بها في اثني عشر عسكرا منهم أبو قرة الصفري في أربعين ألفا وعبد الرحمن بن رستم في خمسة عشر ألفا، وأبو حاتمخ في عسكر كثير وعاصم السدراتي الإباضي في ستة آلاف والمسعود الزناتي الأباضي في عشرة آلاف فارس وغير من ذكرنا.
فلما رأى عمر بن حفص إحاطتهم به عزم على الخروج إلى قتالهم فمنعه أصحابه وقالوا: إن أصبت تلف العرب فعدل إلى أعمال الحيلة فأرسل إلى أبي قرة مقدم الصفرية يبذل له ستين ألف درهم ليرجع عنه فقال بعد أن سلم علي بالخلافة أربعين سنة أبيع حربكم بعرض قليل من الدنيا ولم يجبهم [إلى] ذلك.
فأرسل إلى أخي أبي قرة فدفع إليه أربعة آلاف درهم وثيابا على أن يعمل في صرف أخيه الصفرية فأجابهم وارتحل من ليلته وتبعه العسكر منصرفين إلى بلادهم فاضطر أبو قرة إلى اتباعهم.
فلما سارت الصفرية سير عمر جيشا إلى ابن رستم وهو في تهوذا قبيلة من البربر فقاتلوه فانهزم ابن رستم إلى تاهرت فضعف أمر الأباضية عن مقاومة عمر فساروا عن طبنة إلى القيروان فحصرها أبو حاتم وعمر بطبنة ليصلح أمورها ويحفظها ممن يجاوره من الخوارج فلما علم ضيق الحال بالقيروان سار إليها ولما سار عمر بن حفص إلى القيروان استخلف على طبنة عسكرا.
لما سمع أبو قرة بمسير عمر بن حفص سار هو إلى طبنة فحصرها فخرج إليه من بها من العساكر وقاتلوه فانهزم منهم وقتل من عسكره خلق كثير.
599

وأما أبو حاتم لما حصر القيروان كثر جمعه ولازم حصارها وليس في بيت مالها دينار ولا في اهرائها شيء من الطعام فدام الحصار ثمانية أشهر وكان الجند يخرجون فيقاتلون الخوارج طرفي النهار حتى جهدهم الجوع وأكلوا دوابهم وكلابهم ولحق كثير من أهلها بالبربر ولم يبق غير دخول الخوارج إليها فأتاهم الخبر بوصول عمر بن حفص من طبنة فنزل الهريش وهو في سبعمائة فارس فزحف الخوارج إليه بأجمعهم وتركوا القيروان فلما فارقوها سار عمر إلى تونس فتبعه البربر فعاد إلى القيروان مجدا وأدخل إليها ما يحتاج من طعام ودواب وحطب وغير ذلك ووصل أبو حاتم والبربر فحصروه فطال الحصار حتى أكلوا دوابهم وفي كل يوم يكون بينهم قتال وحرب فلما ضاق الأمر بعمر وبمن معه قال لهم الرأي أن أخرج من الحصار وأغير على بلاد البربر وأحمل إليكم الميرة قالوا: أنا نخاف بعدك قال فأرسل فلانا وفلانا يفعلان ذلك فأجابوه فلما قال للرجلين قالا: لا نتركك في الحصار ونسير عنك فعزم على إلقاء نفسه إلى الموت.
فأتى الخبر أن المنصور قد سير إليه يزيد بن حاتم بن قتيبة بن الهلب في ستين ألف مقاتل وأشار عليه من عنده بالتوقف عن القتال إلى أن يصل العسكر فلم يفعل وخرج وقاتل فقتل منتصف ذي الحجة سنة اربع وخمسين ومائة وقام بأمر الناس حميد بن صخر وهو أخو عمر لأمه فوادع أبا حاتم وصالحه على أن حميدا ومن معه لا يخلعون المنصور ولا ينازعهم أبو حاتم في سوادهم وسلاحهم وأجابهم إلى ذلك وفتحت له القروان وخرج أكثر الجند إلى طبنة وأحرق أبو حاتم أبواب القيروان وثلم سورها.
وبلغه وصول يزيد بن حاتم فسار إلى طرابلس وأمر صاحبه بالقيروان بأخذ
600

سلاح الجند وأن يفرق بينهم فخالف بعض أصحابه وقالوا: لا نغدر بهم وكان المقدم على المخالفين عمر بن عثمان الفهري وقام في القيروان وقتل أصحاب أبي حاتم فعاد أبو حاتم فهرب عمر بن عثمان من بين يديه إلى تونس وعاد أبو حاتم إلى طرابلس لقتال يزيد بن حاتم.
فقيل: كان بين الخوارج والجنود من الذين قاتلوا عمر بن حفص إلى انقضاء أمرهم ثلاثمائة وخمس وسبعون وقعة.
ذكر ولاية يزيد بن حاتم أفريقية وقتال الخوارج
لما بلغ المنصور ما حل بعمر بن حفص من الخوارج جهز يزيد بن حاتم بن قبيصة بن أبي صفرة في ستين ألف فارس وسيره إلى أفريقية فوصلها سنة اربع وخمسين ومائة ولما قاربها سار إليه بعض جندها واجتمعوا به وساروا معه إلى طرابلس فسار أبو حاتم الخارجي إلى جبال نفوسة وسير يزيد طائفة من العسكر إلى قابس فلقيهم أبو حاتم فهزمهم فعادوا إلى يزيد ونزل أبو حاتم في مكان وعر وخندق على عسكره وعبأ يزيد أصحابه وسار إليه فالتقوا في ربيع الأول سنة خمس وخمسين فاقتتلوا أشد قتال فانهزمت البربر وقتل أبو حاتم وأهل نجدته وطلبهم يزيد في كل سهل وجبل فقتلهم قتلا ذريعا وكان عدة من قتل في المعركة ثلاثين ألفا.
وجعل آل المهلب يقتلون الخوارج يقولون يا لثارات عمر بن حفص وأقام شهرا يقتل الخوارج، ثم رحل إلى القيروان.
فكان عبد الرحمن بن حبيب بن عبد الرحمن الفهري مع أبي حاتم فهرب إلى كتامة فسير إليهم يزيد بن حاتم جيشا فحصروا البربر وظفروا بهم وقتلوا
601

منهم خلقا كثيرا، وهرب عبد الرحمن وقتل جميع من كان معه وصفت إفريقية وأحسن يزيد السيرة وأمن الناس إلى أن انقضت ورفجومة سنة أربع وستين ومائة بأرض الزاب وعليها أيوب الهواري فسير إليهم عسكرا كثيرا واستعمل عليهم يزيد بن مجزاء المهلبي فالتقوا واقتتلوا فانهزم يزيد وقتل كثير من أصحابه وقتل المخارق بن عقار صاحب الزاب فولي مكانه المهلب بن يزيد المهلبي وأمدهم يزيد بن حاتم بجمع كثير واستعمل عليهم العلاء بن سعيد المهلبي وانضم إليهم المنهزمون ولقوا ورفجومة واقتتلوا واشتد القتال فانهزمت البربر وأيوب وقتلوا بكل مكان حتى أتى على آخرهم ولم يقتل من الجند أحد.
ثم مات يزيد في رمضان سنة سبعين ومائة وكأنت ولايته خمس عشرة سنة وثلاثة أشهر واستخلف ابنه داود على إفريقية.
ذكر بناء الرصافة للمهدي
وفي هذه السنة قدم المهدي من خراسان في شوال فقدم عليه أهل بيته من الشام والكوفة والبصرة وغيرها فهنأوه بمقدمه فأجازهم وحملهم وكساهم وفعل بهم المنصور مثل ذلك وبنى له الرصافة.
وكان سبب بنائها أن بعض الجند شغبوا على المنصور وحاربوه على با الذهب فدخل عليه قثم بن العباس بن عبيد الله بن عباس وهو شيخهم وله الحرمة والتقدم عندهم فقال له المنصور أما ترى ما نحن فيه من التياث
602

الجند علينا؟ وقد خفت أن تجتمع كلمتهم فيخرج هذا الأمر من أيدينا فما ترى؟
قال: يا أمير المؤمنين عندي رأي إن أظهرته لك فسد وإن تركته أمضيته وصلحت خلافتك وهابك جندك قال له أفتمضي في خلافتي شيئا لا أعلمه فقال له إن كنت عندك متهما فلا تشاورني فإن كنت مأمونا عليها فدعني أفعل رأيي قال له المنصور فأمضه.
فانصرف قثم إلى منزله فدعا غلاما له فقال [له]: إذا كان الغد فتقدمني واجلس في دار أمير المؤمنين فإذا رأيتني قد دخلت وتوسطت أصحاب المراتب فخذ بعنان بغلتي فاستخلفني بحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وبحق العباس وبحق أمير المؤمنين إلا ما وقفت لك وسمعت مسألتك وأجبتك عنها فإني سأنتهزك وأغلظ لك [القول] فلا تخف وعاود المسألة فإني سأضربك بسوطي فعاج وقل لي أي الحيين أشرف اليمن أم مضر فإذا أجبتك فاترك البغلة وأنت حر.
ففعل الغلام ما أمره. وفعل قثم به ما قاله، ثم قال: مضر أشرف لأن منها رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيها كتاب الله وفيها بيت الله ومنها خليفة الله.
فامتعضت لذلك اليمن إذ لم يذكر لهم شيئا [من شرفهم]، وقال بعض قوادهم: ليس الأمر كذلك مطلقا بغير فضيلة لليمن ثم قال لغلام له قم غلى بغلة الشيخ فاكبحها. ففعل حتى كاد يقعيها، فامتعضت مضر وقالوا: أيفعل
603

هذا بشيخنا! فأمر بعضهم غلامه فضرب يد ذلك الغلام فقطعها فنفر الحيان.
ودخل قثم على المنصور فافترق الجند فصارت مضر فرقة وربيعة فرقة والخراسانية فرقة فقال قثم للمنصور قد فرقت بين جندك وجعلتهم أحزابا كل حزب منهم يخاف أن يحدث [عليك] حدثا فتضربه بالحزب الآخر وقد بقي عليك في التدبير بقية وهي أن تعبر بابنك فتنزله في ذلك الجانب وتحول معه قطعة من جيشك فيصير ذلك بلدا وهذا بلد فإن فسد عليك أولئك ضربتهم بهؤلاء وإن فسد عليك هؤلاء ضربتهم بأولئك وإن فسد عليك بعض القبائل ضربتهم بالقبيلة الأخرى فقبل رأيه واستقام ملكه وبنى الرصافة وتولى صالح صاحب المصلى ذلك.
ذكر قتل سليمان بن حكيم العبدي
في هذه السنة سار عقبة بن سلم من البصرة _ واستخلف عليها نافع بن عقبة _ إلى البحرين فقتل سليمان بن حكيم وسبى أهل البحرين وأنفذ 1 بعض السبي والأسارى إلى المنصور فقتل بعضهم ووهب الباقين للمهدي فأطلقهم وكساهم ثم عزل عقبة عن البصرة لأنه لم يستقص على أهل البحرين.
* * *
وزعم بعضهم أن المنصور استعمل معن بن زائدة الشيباني على سجستان هذه السنة.
وحج بالناس هذه السنة محمد بن إبراهيم الإمام وكان هو العامل بمكة
604

والطائف؛ وعلى المدينة الحسن بن زيد، وعلى البصرة جابر بن توبة الكلابي وعلى الكوفة محمد بن سليمان وعلى مصر يزيد بن حاتم.
ذكر ابتداء أمر شقنا وخروجه بالأندلس
وفيها ثار في الشرق من الأندلس من بربر مكناسة كان يعلم الصبيان وكان اسمه شقنا بن عبد الواحد وكانت أمه تسمى فاطمة وادعى أنه من ولد فاطمة عليها السلام ثم من ولد الحسين عليه السلام وتسمى بعبد الله بن محمد وسكن شنت برية واجتمع عليه خلق كثير من البربر وعظم أمره وسار إلى عبد الرحمن الأموي فلم يقف له وراغ في الجبال فكان إذا أمن انبسط وإذا خاف صعد الجبال بحيث يصعب طلبه.
فاستعمل عبد الرحمن على طليطلة حبيب بن عبد الملك فاستعمل حبيب على شنت برية سليمان بن عثمان بن مروان بن أبان بن عثمان بن عفان وأمره بطلب شقنا فنزل شقنا إلى شنت برية وأخذ سليمان فقتله واشتد أمره وطار وغلب على ناحية قورية وأفسد في الأرض.
فعاد عبد الرحمن الأموي فعزاه في سنة اثنتين وخمسين ومائة بنفسه فلم يثبت له فأعياه أمره فعاد عنه وسير إليه سنة خمس وخمسين أبا عثمان عبيد الله بن عثمان فخدعه شقنا وأفسد عليه جنده فهرب عبيد الله وغنم شقنا عسكره وقتل جماعة من بني أمية كانوا في العسكر.
وفي سنة خمس وخمسين أيضا سار شقنا بعد أن غنم عسكر عبيد الله إلى
605

حصن الهواريين المعروف بمدائن وبه عامل لعبد الرحمن فمكر به شقنا حتى خرج إليه. فقتله شقنا وأخذ خيله وسلاحه وجميع ما كان معه.
ذكر قتل معن بن زائدة
في هذه السنة قتل معن بن زائدة الشيباني بسجستان وكان المنصور قد استعمله عليها فلما وصلها أرسل إلى رتبيل يأمره بحمل القرار الذي عليه كل سنة فبعث إليه عروضا وزاد في ثمنها فغضب معن وسار إلى الرخج وعلى مقدمته ابن أخيه مزيد بن زائدة فوجد رتبيل قد خرج عنها إلى زابلستان ليصيف بها ففتحها وأصاب سبيا كثيرا وكان في السبي فرج الرحجي وهو صبي وأبوه زياد فرأى معن غبارا ساطعا أثارته حمر الوحش فظن أنه جيش أقبل ليخلص السبي والأسى فأمر بوضع السيف فيهم فقتل منهم عدة كثيرة ثم ظهر له أمر الغبار فأمسك.
فخاف معن الشتاء وهجومه فانصرف إلى بست.
وأنكر قوم من الخوارج سيرته فاندسوا مع فعلة كانوا يبنون في منزله فلما بلغوا التسقيف أخفوا سيوفهم في القصب ثم دخلوا عليه بيته وهو يحتجم ففتكوا به وشق بعضهم بطنه بخنجر كان معه وقال أحدهم لما ضربه أنا الغلام الطاقي والطاق رستاق بقرب زرنج فقتلهم يزيد بن مزيد فلم ينج منهم أحد.
ثم أن يزيد قام بأمر سجستان واشتدت على العرب والعجم من أهلها وطأته فاحتال بعض العرب فكتب على لسانه إلى المنصور كتابا يخبره فيه
606

أن كتب المهدي إليه قد حيرته وأدهشته ويسأله أن يعفيه من معاملته فأغضب ذلك المنصور وشتمه وأقر المهدي كتابه فعزله وأمر بحبسه وبيع كل شيء له ثم انه كلم فيه فأشخص إلى مدينة السلام فلم يزل بها مجفوا حتى لقيه الخوارج على الجسر فقاتلهم فتحرك أمره قليلا ثم وجه إلى يوسف البرم بخراسان فلم يزل في ارتفاع إلى أن مات.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة غزا الصائفة عبد الوهاب بن إبراهيم الإمام.
وفيها استعمل المنصور على الموصل إسماعيل بن خالد بن عبد الله القسري وفيها مات عبد الله بن عون وكان مولده سنة ست وستين وفيها مات أسيد بن عبد الله في ذي الحجة وهو أمير بخراسان وحنظلة بن بي سفيان الجمحي وعلي بن صالح بن حيي أخو الحسن بن صالح وكانا تقيين فيهما تشيع.
607

152
ثم دخلت سنة اثنين وخمسين ومائة
فيها غزا حميد بن قحطبة كابل وكان قد استعمله المنصور على خراسان سنة إحدى وخمسين.
وغزا الصائفة عبد الوهاب بن إبراهيم وقيل أخوه محمد بن إبراهيم الإمام ولم يدرب.
وفيها عزل المنصور جابر بن توبة عن البصرة واستعمل عليها يزيد بن منصور.
وفيها قتل المنصور هاشم بن الأستجيج، و [كان] قد خالف وعصا بإفريقية، فحمل إليه فقتله.
وحج بالناس هذه السنة المنصور.
وفيها عزل يزيد بن حاتم عن مصر واستعمل عليها محمد بن سعيد وكان عمال الأمصار سوى ما ذكرنا الذين تقدم ذكرهم.
وفيها مات محمد إبراهيم عبد الله بن مسلم بن عبد الله بن شهاب وهو ابن أخي محمد بن شهاب الزهري روى عنه عمه وفيها مات يونس بن يزيد الأيلي روى عن الزهري أيضا وفيها مات طلحة بن عمرو الحضرمي وإبراهيم بن أبي عبلة واسم أبي عبلة شمر بن يقظان بن عامر العقيلي:
(الأيلي بفتح الهمزة وبالياء تحتها نقطتان والعقيلي بضم العين وفتح القاف).
608

153
ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين ومائة
فيها عاد المنصور من مكة إلى البصرة فجهز جيشا في البحر إلى الكرك الذين تقدم ذكر إغارتهم على جدة.
وفيها قبض المنصور على أبي أيوب المورياني وعلى أخيه وبني أخيه وكانت منازلهم المناذر وكان قد سعى به كاتبه أبان بن صدقة.
وقيل: كان سبب قبضه أن المنصور في دولة بني أمية ورد على الموصل وأقام بها مستترا وتزوج امرأة من الأزد فحملت منه ثم فارق الموصل وأعطاها تذكرة وقال لها إذا سمعت بدولة لنبي هاشم فأرسلي هذه التذكرة إلى صاحب الأمر فهو يعرفها فوضعت المرأة ولدا سمته جعفرا فنشأ وتعلم الكتابة وما يحتاج إليه الكاتب.
وولي المنصور الخلافة، فقدم جعفر إلى بغداد واتصل بأبي أيوب فجعله كاتبا بالديوان فطلب المنصور يوما من أبي أيوب كاتبا يكتب له شيئا فأرسل جعفرا إليه فلما رآه المنصور مال إليه وأحبه فلما أمره بالكتابة رآه حاذقا ماهرا فسأله من أين هو ومن أبوه فذكر له الحال وأراد التذكرة وكانت معه فعرفه المنصور وصار يطلبه كل وقت بحجة الكتابة فخافه أبو أيوب.
ثم أن المنصور أحضره يوما وأعطاه مالأ وأمر أن يصعد إلى الموصل ويحضر والدته فسار من بغداد وكان أبو أيوب قد وضع عليه العيون
609

يأتونه بأخباره فلما علم مسيره سير وراءه من اغتاله في الطريق فقتله فلما أبطأ على المنصور أرسل [إلى] أمه بالموصل من يسألها عنه فذكرت له أنها لا علم لها به إلا أنه ببغداد يكتب في ديوان الخليفة، فلما علم المنصور ذلك أرسل من يقص أثره فانتهى إلى موضع وانقطع خبره فعلم أنه قتل هناك وكشف الخبر فرأى أن قتله من يد أبي أيوب فنكبه وفعل له ما فعل.
وقبض المنصور أيضا على عباد مولاه، وعلى هرثمة بن أعين بخراسان وأحضرا مقيدين لتعصبهما لعيسى بن موسى.
وفيها أخذ المنصور الناس بتلبيس القلانس الطوال المفرطة الطول فقال أبو دلامة:
(وكنا نرجي من إمام زيادة * فزاد الإمام المصطفى في القلانس)
وفيها توفي عبيد ابن بنت أبي ليلى قاضي الكوفة فاستقضى [مكانه] شريك بن عبد الله النخعي.
وفيها غزا الصائفة معيوف بن يحيى الحجوري فوصل إلى حصن من حصون الروم ليلا وأهله نيام فسبى وأسر من كان فيه ثم قصد اللاذقية الخراب فسبى منها ستة آلاف رأس سوى الرجال البالغين.
وحج بالناي في هذه السنة المهدي وكان أمير مكة محمد بن إبراهيم وأمير المدينة الحسن بن زيد وأمير مصر محمد بن سعيد وكان يزيد بن منصور على اليمن في قول بعضهم وعلى الموصل إسماعيل بن خالد بن عبد الله بن خالد.
610

وفيها مات هشام بن الغاز بن ربيعة الجرشي وقيل سنة ست وخمسين وقيل تسع وخمسين والحسن بن عمارة وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر وثور بن يزيد وعبد الحميد بن جعفر بن عبد الله الأنصاري والضحاك بن عثمان بن عبد الله بن خالد بن حزام من ولد أخي حكم بن حزام وفطر بن خليفة الكوفي:
(فطر بالفاء والراء المهملة والجرشي بضم الجيم وبالشين المعجمة).
611

154
ثم دخلت سنة أربع وخمسين ومائة
في هذه السنة سار المنصور إلى الشام وبيت المقدس وسير يزيد بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة إلى أفريقية في خمسين ألفا لحرب الخوارج الذين قتلوا عمر بن حفص، وأراد المنصور بناء الرافقة فمنعه أهل الرقة فهم بمحاربتهم.
وسقطت في هذه السنة الصاعقة فقتلت بالمسجد خمسة نفر.
وفيها هلك أبو أيوب المورياني وأخوه خالد وأمر المنصور بقطع أيدي بني أخيه وأرجلهم [وضرب أعناقهم].
وفيها استعمل على البصرة عبد الملك بن ظبيان النميري وغزا الصائفة زفر بن عاصم الهلالي فبلغ الفرات.
وحج بالناس محمد بن إبراهيم وهو على مكة.
وكان على إفريقية يزيد بن حاتم وكان العمال من تقدم ذكرهم.
وفيها مات أبو عمرة بن العلاء وقيل مات سنة سبع وخمسين وكان عمره ستا وثمانين سنة ومحمد بن عبد الله الشعيثي النصري (بالنون). وفيها مات عثمان بن عطاء وجعفر بن برقان الجزري وأشعب الطامع.
612

وعلي بن صالح بن حبي وعمر بن إسحاق بن يسار أخو محمد بن إسحاق ورهيب بن الورد المكي الزاهد وقرة بن خالد السدوسي البصري وهشام الدستوائي وهو هشام بن أبي عبد الله البصري.
(الشعيثي بضم الشين المعجمة وفي آخره ثاء مثلثة).
تم المجلد الخامس
613