الكتاب: شيخ المضيرة أبو هريرة
المؤلف: محمود أبو رية
الجزء:
الوفاة: ١٣٨٥
المجموعة: أهم مصادر رجال الحديث عند السنة
تحقيق:
الطبعة: الثالثة
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات: دار المعارف بمصر / طبعة مزيدة ومعدلة

شيخ المضيرة
أبو هريرة
" أول راوية اتهم في الاسلام "
ابن قتيبة
تأليف
محمود أبو رية
الطبعة الثالثة: مزيدة ومعدلة
حق الطبع محفوظ
دار المعارف بمصر
1

بسم الله الرحمن الرحيم
2

بيان واجب
حول عنوان الكتاب
حدثني صديق كريم قال: إن بعض الناس قد فهم من وضع كلمة
(شيخ المضيرة) في عنوان الكتاب إنما كان لغرض بعيد، وهو ازدراء أبي هريرة!
وقد استغربت من أن يذهب مثل هذا الفهم الخاطئ إلى ذهن ذي لب أو
علم! وكأن الذي يرمينا بهذه التهمة لم يدرس تاريخ أبي هريرة ولا يعرف من
أمره شيئا! ذلك بأن هذا اللقب لم يكن شيئا جديدا ابتدعناه من عند أنفسنا،
وإنما هو عريق في القدم مضى عليه أكثر من ثلاثة عشر قرنا، إذ أنه يرجع
إلى عهد معاوية بن أبي سفيان الذي كانت هذه المضيرة من أطايب أطعمته
فلما نهم أبو هريرة فيها، وأشهر ذلك بين الناس لقبوه بها، ولزمه هذا اللقب
من ذلك العهد، وجرى على ألسنة الناس ذكره، ثم دونه المؤرخون وكبار العلماء
والكتاب في مؤلفاتهم مثل الزمخشري في ربيع الأبرار وفى أساس البلاغة،
وبديع الزمان الهمذاني في مقاماته، إذ عقد له مقامة خاصة سماها (المقامة
المضيرية) وشرح الأستاذ الإمام محمد عبده أمرها وأمر شيخها، ومناصرته
لمعاوية شرحا لاذعا، وتكلم عنه الثعالبي في كتابه (المضاف والمنسوب) (1)
كلاما طويلا، ولا نستوعب كل ما قيل في هذه المضيرة وشيخها فيرجع إلى ذلك
في موضعه من هذا الكتاب.
ولو أننا كنا نحن الذين ابتدعنا هذا اللقب في دهرنا، وأفشيناه لكان لهذا
الفهم شئ من الاعتبار!
يتبين من ذلك أننا لم يكن لنا قصد سيئ لأبي هريرة ولا نريد أن نتجنى
عليه بشئ غير معروف من تاريخه، وإنما الذي دعانا إلى ذلك - أننا بسبيل
ترجمته ترجمة مفصلة، ولا يمكن ذلك إلا باستيعاب كل ما يتصل بهذه
الترجمة، وأن أول شئ يجب أن يعنى به المؤرخ أن يذكر اسم من يؤرخ له

(1) طبع هذا الكتاب في مصر مرتين إحداهما في سنة 1908 والأخرى في سنة 1965.
3

كاملا غير منقوص، ولأن لقب (شيخ المضيرة) قد لازم اسم أبي هريرة فلا
ينفك عنه بحيث إذا أطلق فإنه لا ينصرف إلا إليه، ولم يلقب أحد غيره بهذا
اللقب على مدى الدهور، فقد وجب علينا أن نذكر اسمه ولقبه الذي اقترن
به، وأصبح جزءا منه، ولو نحن أغفلنا ذلك لحاسبنا التاريخ على إغفاله حسابا
عسيرا!! إذ ماذا يكون جوابنا إذا قال لنا: كيف تؤرخ لرجل لا يعرف
الناس اسمه كاملا؟ لقد عرفتهم في كتابك بأنهم عندما جهلوا اسمه الذي سماه
به أهله كنوه بهريرة كان يلعب بها! وبقى عليك أن تعرفهم بلقبه الذي جاءه
من (مضيرته) التي كان يحبها، وبذلك تكون قد أديت ما عليك ويخرج كتابك
مستوفى مستوعبا.
هذه هي حقيقة الامر في شأن عنوان الكتاب نذكرها على وجهها لمن يفهم
ويعقل، ولا علينا ممن لا يفهم ولا يعقل، وهذه الصفحة قد جعلناها في مفتتح
كتابنا، لنضع بها الامر في نصابه، ولتكون تبصرة لأولي الألباب، هدانا
الله جميعا لما فيه الرشد والصواب. إنه سميع مجيب.
4

هذا الكتاب
أقدم كتابا ما عرفت صاحبه من قبل، وإذا كان جهل مثله خمولا في
الاطلاع وقصورا في النشاط، فإني أحمد لعدوه أن زكاه عندي وهو يبالغ
بتجريحه والعدوان عليه.
ولقد عرفته أول مرة في كتاب (السنة) للدكتور السباعي، إذ استهدفه
هذا بنقد عاطفي دلني على القيمة في (أبو رية) وفى (أضوائه) الصافية، الامر
الذي أتاح لي شرف الدفاع عن الحقيقة فيه وفى كتابه المذكور دون معرفة به،
ولا إلمام بكتابه.
وعرفته بعد ذلك من خلال (أضوائه) فعرفت عالما متبحرا يلين بيده
الموضوع الصعب، ويرتفع بناؤه منهجيا، يوازن شكله محتواه وينهض به، وفى
الحق أنه من أنفس ما أنتجته الدراسات الاسلامية الحديثة، وأهداها في فن
الوصول إلى الحقيقة.
ولا يقل (شيخ المضيرة) الكتاب الذي نقدمه عن كتاب (الأضواء)
بل هو فلذة منه تناولها المؤلف بالتحسين، وخصها برعاية أبرزتها عملا مستقلا
ذا عطاء يغنى محصول (الاحياء) المعتبر اليوم أحد مصادر تقدمنا الأساسية.
وقد أوضحنا غير مرة أن تجديد الأبحاث القديمة شئ، ونبش الضغائن
شئ آخر، وأن التناول الموضوعي هو القياس في التمييز بينهما، ولا حاجة للتأكيد
أن أولهما نافع، وثانيهما ضار، ولكن ما يجب التحذير منه هو الخلط بينهما،
فالخلط خبط يثير الحفائظ وينتج الفتن، ولا ينفع إلا الأعداء.
أقول هذا وأشير إلى العلامة مؤلف هذا الكتاب، الناهض شاهدا من
عشرات الشواهد على نتائج الخلط المشار إليه، أفليس من أغرب ما يسمعه المرء

(1) افتتحت الطبعة الأولى من هذا الكتاب بهذه الكلمة القيمة التي تفضل بها العالم الكبير الأستاذ
صدر الدين شرف الدين وقد رأينا إثباتها في كل طبعة تصدر من هذا الكتاب.
5

المعاصر أن يحاصر كاتب حر وتضرب حوله السدود والاقفال لرأى قاده إليه
الدليل، وحركه نحوه الجهر بالحق؟
تلك هي محنة العلامة (أبو رية) وهي محنة إذا وجدت في القرون الوسطى
مسوغا من عشوائية المرحلة فليس لها في عصرنا أدنى مسوغ. وأغرب ما في هذه
المحنة أن طوقها من صنع غير الحكام خلافا للمعهود في الأزمنة الغابرة. الطوق
اشترك في حبكه حول (أبو رية) كتاب كالسباعي أحاطوه بأراجيف وافتراءات
منفردة، وناشرون استغلوا ظرفه هذا فاشترطوا لنشر كتابه تجريده من حقوق
المؤلف، ولك أن تجد بين هؤلاء وأولئك سبب تطوعنا لنشر هذا الكتاب الجليل.
بقى أن السباعي وأمثاله سيؤكدون للبسطاء من قرائهم تهمة تشيع (أبو رية)
ويسوقون التهمة - كما جاءت في كتاب السنة - بأسلوب المرجفين، وليت
السباعي يحيى عصره ليخفف على نفسه ثقل هذا الأسلوب الغليظ، فالتشيع لم
يعد كفرا، ولا إلحادا في الدين، ولم يعد التسنن ضلالة، ولا خروجا على
الاسلام كذلك، وإنما هما في مفهوم الوعي الحديث جدولان يتألف منهما
نهر الاسلام الكبير، فلا يخطئ الاسلام متدين تشيع أو تسنن، أما الذين
يخطئونه حقا فإنما هم المرجفون المفرقون المتعصبون من الفريقين.
والبحث في الحديث والمحدثين بحثا علميا ينفض عنهما غبار القدم رسالة
لا يقدرها حق قدرها إلا مسلم يعيش الاسلام بعلم وإخلاص.
هدانا الله لما فيه صلاح أنفسنا ومصلحة أمتنا، ولا يشذ عن هذين تأليف
هذا الكتاب ولا نشره، ولا الانتفاع بقراءته واقتنائه.
صدر الدين شرف الدين
6

مقدمة الطبعة الأولى
كان هذا الكتاب فصلا من كتابنا " أضواء على السنة المحمدية " الذي
استفاض أمره وأحدث دويا هائلا بين أرجاء العالم الاسلامي، مما لم يحدث مثله
لكتاب آخر في عصرنا غير كتاب (في الشعر الجاهلي الذي ألفه الدكتور
طه حسين) (1)، وعلى أنه قد ظفر والحمد لله من كبار العلماء، وقادة الفكر
بالتقدير الكريم، والثناء الجميل، فإن بعض من أصيبوا بالحشوية والجمود
قابلونا بالشتم القاذع، والسب الوضيع فلم نلتفت إليهم، وتركناهم في ضلالهم
يعمهون.
ولو أن هذه الفئة قد التزمت معنا الطريق السوي، الذي يقضى به النقد
العلمي النزيه، لقابلناهم مسرورين ولنازلناهم فرحين، ولكنها ارتطمت في
حمأة السباب، وزاغت عن سبيل الصواب، فلذلك سقط معها الخطاب.
ولقد كان أكثر ما نالنا من شتم الشاتمين، وقذف القاذفين، مرده إلى ما بيناه
من تاريخ (أبي هريرة) وما أظهرناه في هذا التاريخ من حقائق مذهلة لم تكن
معروفة لهم من قبل، فصدموا بها، ودهشوا لها، وكادوا منها يصعقون! ولم يلبثوا
أن هبوا ليخففوا عنهم ما أصابهم من هول الصدمة، فلم يجدوا غير الوسيلة التي
يحسنونها، فأطلقوا ألسنتهم بسبنا، وشهروا أقلامهم لشتمنا، وقد كان أقذرهم
شتما، وأفحشهم سبابا، شامي أزهري، سمى نفسه (الدكتور مصطفى
السباعي) (2) فقد فاقهم في مضمارهم، وكان بحق فارس حلبتهم! وكأنه أراد أن
يستعلن بأنه (عيير) وحده في فن الهجاء فكأنه (3).

(1) بلغ ما صدر في نقد كتابنا إلى اليوم خمسة عشر كتابا، في مصر، والحجاز والشام.
هذا عدا جميع المجلات التي تتجر بالدين في بلاد المسلمين ولا نعلم ماذا سيظهر غدا.
(2) لا ندري من أين جاءته هذه (الدكترة)؟! ومن الذي منحه هذا اللقب؟ إن كل ما يعرف
عنه أنه تخرج في الأزهر كأولئك الآلاف الذين يتخرجون فيه كل عام! ولا ميزة له عليهم بشئ.
على أن هذا اللقب قد هان أخيرا في بلادنا، حتى فقد معناه المعروف عند غيرنا.
(3) حذفنا هنا مقدار صفحة ونصف للسبب الذي بيناه فيما بعد بعد مقدمة الطبعة الثانية.
7

ومن أجل هذه العاصفة الهوجاء التي أثيرت علينا رأينا أن نعيد النظر في
دراسة تاريخ (شيخ المضيرة) (1) من جميع نواحيه دراسة مستفيضة شاملة،
حتى تبدو للناس شخصية هذا الصحابي المشهور على حقيقتها، وتتضح لهم
على وجهها - فرجعنا إلى ما بين أيدينا من المصادر الموثوق بها عند أهل السنة
- وقد اعتمدنا عليها وحدها في هذه الدراسة ولم نرجع إلى غيرها، حتى
لا يرمينا غبي جاهل بالتشيع ويقول: إنه يأتينا بكلام لا نعرفه، ولا نثق به!
وكذلك عدنا إلى ما كنا قد احتجناه لدينا من المواد التي استخرجناها من بطون
هذه الكتب أثناء دراستنا الطويلة لموضوع كتابنا الكبير، تلك الدراسة التي
استغرقت أكثر من خمس عشرة سنة، ولم ننشر كل ما فيها في الطبعة الأولى
مراعاة للاختصار، وإشفاقا على من لا يحتملون صولة الحق من أن يصيب
عقولهم وعقائدهم مس! إذا نحن فاجأناهم بكل ما لا يفهمون! وما لا يعقلون!!
رجعنا إلى كل ذلك لنسوي منه بحثا كاملا مستوفى لتاريخ أبي هريرة،
غير مبالين أن يطول هذا البحث أو يقصر، لان موضوعه خطير، والكلام فيه
ليس بالسهل اليسير، وقد نهجت فيه منهجا واضحا مستقيما، - وهو سبيل
المؤرخ الذي يتحرى الصدق والأمانة مبتغيا بعمله وجه الله ورضا العلم، وأداء
حق التاريخ، فإذا هو انحرف عن هذا الصراط المستقيم، ومال به عن النهج
القويم، ضل وغوى.
هذا هو منهجي الذي اتخذته في كتابي هذا وفى غيره، ولا يعنيني بعد
ذلك أن يغضب على زيد، أو يرضى عنى عمرو. ولا أكتم القراء أنه منهج
شاق عسير، ولكني استعذبته ورضيت به مغتبطا لأنه سبيل الحق، وليس
بعد الحق إلا الضلال، وقد استعنت الله فيه فأعانني، واستهديته فهداني.
وما كدت أفرغ من بحثي هذا حتى رأيته قد امتد وطال فبلغت صفحاته حوالي
خمسين ومئة صفحة (2) على حين أنه كان في الأصل لا يتجاوز خمسين صفحة.

(1) راجع ص 86 من كتاب (المضاف والمنسوب) للثعالبي لتقرأ ما قاله في هذه المضيرة
التي نهم أبو هريرة فيها، واشتهر ذلك عنه حتى جعلوه (شيخا لها) وسيقابلك نبأ ذلك في هذا الكتاب.
(2) استغرقت هذه الصفحات في الطبعة الأولى 193 صفحة وستزيد في هذه الطبعة على الطبعة
الأولى كثيرا.
8

ولو أنى أطعت القلم وأطلقت من عنانه، ليجري إلى مداه الذي يريده،
لزادت صفحات الكتاب على ذلك كثيرا، ولكني كبحت من جماحه،
ووقفت عند هذا الحد به.
ثم رأيت من التدبير أن أفرده في كتاب برأسه ليعم النفع به، والاستفادة
منه، وإني أقدمه اليوم بعد أن أوفى من التحقيق على الغاية، وبلغ من الاستقصاء
أقصى النهاية، وأصبح بلا مراء مرآة مجلوة تصور تاريخ هذا الصحابي المعروف
تصويرا صادقا من يوم أن قدم على النبي صلى الله عليه وآله وهو بخيبر فقيرا معدما، إلى
أن توفى في قصره المنيف بالعقيق غنيا مثريا.
فإذا أنت نظرت في هذه المرآة المصقولة تراءت لك شخصيته واضحة المعالم
من جميع جهاتها، وانكشفت لك حياته في زمن النبي وخلفائه الأربعة، وماذا
كان شأنه بين سائر الصحابة في هذه الفترة ونهى عمر له عن الرواية عن رسول الله
وضربه بالدرة من أجل ذلك وإنذاره إياه بالنفي إلى بلاده إذا هو روى، ثم
مصادرته لشطر أمواله لما آنس منه عدم أمانته في ولايته - وما كان بعد ذلك
من إمعانه في الرواية بعد أن خلا له الجو بموت كبار الصحابة واختفاء
درة عمر التي كانت تباشر ظهره عندما كان يروى - ولكثرة هذه
الرواية على قلة زمن صحبته اتهموه في روايته حتى كان بذلك (أول راوية اتهم
في الاسلام) - ثم تشيعه لنبي أمية بعد أن انتزعوا الحكم اغتصابا، وعطلوا
حكم الشورى في الاسلام، وأصبحوا ملوكا في الأرض بيدهم الأمر والنهي
والرفع والخفض، فكان من دعاتهم وأوليائهم، يناصرهم بلسانه ورواياته، وما
ناله لقاء ذلك من نوالهم ورفدهم وأطايب أطعمتهم، وبخاصة (المضيرة) التي
كانت من أفخر أطعمة معاوية حتى بلغ من نهمه وحبه لها، أن لقب بها،
وظل هذا اللقب يلازمه ويعرف به على مد الزمن كما ستراه في كتابنا هذا
ولذلك جعلناه عنوانا لهذا الكتاب.
ويشهد القارئ في تاريخه غير ذلك قصته العجيبة ذات الفصول الثلاثة
الغريبة عندما حطب في حبل معاوية، وذلك فيما رواه من أحاديث (بسط
الثوب، والوعاءين، والمزود).
9

وهذه القصة تعتبر ولا ريب من أروع قصص التاريخ الاسلامي.
وقد أمطنا اللثام عن أهم ما يجب على المسلمين وغير المسلمين معرفته من
رواياته، ومبلغ نصيبها من الصدق ومدى نسبتها إلى النبي، حتى تعلم على
حقيقتها، وتؤخذ على مقدار وزنها، وذلك لان في أكثرها مشكلات يحتج
بها علينا أعداء الدين، وتضيق بها صدور المؤمنين - وذلك أنه كان (يدلس) في
هذه الروايات، ويرسل و (التدليس) - كما نص عليه علماء الحديث أنفسهم -
يعتبر في حكم (المرسل) الذي اختلف العلماء في الاخذ به، ومنهم من منع
ذلك منعا باتا.
ومن أجل ذلك اتجهت عنايتنا إلى تأريخه دون سائر الصحابة.
هذا بعض ما ينطوي عليه هذا الكتاب الذي بين يديك، وفيه غير ذلك
من الحقائق العلمية ما لم يضمه من قبل كتاب.
وإني إذ أنشره اليوم لعلى ثقة بما سينالني من وراء نشره، ولكن كل
ما ألقاه في سبيله، سيكون ولا ريب مما أغتبط به وأسر له، ورحم الله ابن حزم
حيث يقول:
" من حقق النظر، وراض نفسه على السكون إلى الحقائق - وإن آلمتها
في أول صدمة، كان اغتباطه بذم الناس إياه، أشد وأكثر من اغتباطه
بمدحهم إياه ".
محمود أبو رية
عن جيزة الفسطاط - بالقاهرة
10

مقدمة الطبعة الثانية
ما كنت أظن - عندما ظهرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب - أنه
سينال من إقبال القراء عليه، ورضاهم عنه، وتقديرهم إياه، مثل ما نال،
والحمد لله.
ذلك أنه لم يكد ينقضي على ظهوره زمن قليل حتى انتشر بين الارجاء
ونفدت نسخه كلها، مما دعا إلى إعادة طبعه.
وقد رأيت قبل تقديمه للطبعة الثانية أن ألقى عليه نظرة طويلة لكي أراجعه
مراجعة دقيقة، وما إن قرأته حتى استبان لي أنه يحتاج إلى تنقيح في بعض
مواضيعه، وإلى تفصيل أو إيضاح في مواضيع أخرى.
- من ذلك أمر إقصاء النبي صلى الله عليه وآله لأبي هريرة عن المدينة إلى البحرين ولما
يقض فيها إلا عاما وبعض عام! مما لم يفعل بغيره من الصحابة جميعا!
فقد أوردنا هذا الامر المهم بغير أن نبين علله ودواعيه.
- ومن ذلك أمر ضرب عمر له ونهيه إياه عن رواية الحديث، وكيف
يقصده وحده بهذا الضرب وهذا النهى، على حين أن أبا هريرة قد زعم أن النبي
صلى الله عليه وآله قد آثره من دون الصحابة كلهم (بالثوب والأجربة) (1) وأنه - كما
افترى ناعق جهول ظهر في هذه الأيام - قد أسلم منذ أول البعثة المحمدية وهو في
بلاده (اليمن) ثم كان يتتبع أخبار النبي صلى الله عليه وآله وهو بمكة ويعلم ما كان ينزل
عليه من وحى وغيره، إلى أن قدم عليه بعد وقعة خيبر!
وثم أمر اقتضى لخطره أن نبينه ونفصل القول فيه، لان تاريخ أبي هريرة
لا يعرف إلا منه ولا يتم إلا به، ذلك أنه - كما ثبت - لم يبد نجمه المنطفي،
ولم يظهر شخصه المختفي، إلا في العهد الأموي، الذي استظل بظله، وبلغ

(1) ستقرأ قصة هذا الثوب وهذه الأجربة في موضعها في هذا الكتاب وهي قصة شائقة.
11

رغد العيش من رفده، ولم تكثر أحاديثه الغريبة إلا بتأييده، وقد كان قبلها
من المغمورين.
ومن أجل ذلك عقدنا فصلا مستوفى تحدثنا فيه عن دولة بنى أمية وكيف
نشأت.
ولا نطيل بذكر كل المواضع التي توليناها بالتنقيح أو التفصيل، أو البيان،
أو الزيادة، حتى أصبح الكتاب ولله الحمد في صورة مستوعبة كاملة.
* * *
وبرغمنا:
أولا - أن نأتى في هذه الطبعة بكلمة (1) نرد فيها على ما اتهمونا به من
التشيع! وأن ما ننشره في كتبنا لم يكن للحق ولا للعلم وإنما لنزدلف به إلى
إخواننا من الشيعة، وقد سبقت هذه الفرية بهتية أخرى، قذفونا بها فقالوا:
" إننا نعمل لمصلحة أمريكا " وإنها من أجل ذلك قد ملأت أيدينا من
دولارتها التي يعرفونها، بما غمرت جيوبهم منها!
وثانيا - أن نأتى في آخر كتابنا هذا بإلمامة مررنا فيها مرا خفيفا بكتاب
ظهر أخيرا باسم (أبو هريرة راوية الاسلام) لشاب يدعى عجاج الخطيب،
وساعده على تأليفه جمهرة كبيرة من شيوخ الدين.
وقد اضطررنا لكتابة هذه الإلمامة على حين أن هذا الكتاب في حقيقة
أمره - لا يستحق أن ينظر إليه، وأن مصنفه لا يستأهل أن يرد عليه!
وقد بينا سبب هذا الاضطرار في مقدمة هذه الإلمامة فلا نعود إلى بيانه هنا.

(1) حذفنا هذه الكلمة وكانت تقع في سبع صفحات، وكذلك حذفنا من مقدمة الطبعة الأولى
مقدار صفحة ونصف، وذلك بعد أن جاءنا نبأ وفاة الشيخ مصطفى السباعي، إذ لا يصح أن نناقش
ميتا، أو ننازل جثمانا أودع قبره، ووكلنا الامر بيننا وبينه وبين غيره إلى الله.
12

مقدمة الطبعة الثالثة
هذه هي الطبعة الثالثة من كتاب (شيخ المضيرة) نقدمها للقراء بعد أن
أصبحت كامله مستوفاة والحمد لله، وقد كنا نتمنى أن تتخذ الطبعة الثانية
سبيلها إلى القراء بغير أن نقابل بما تعودنا أن يقابل به كل كتاب يظهر لنا
من أذى الجاهلين، وشتائم الجامدين، ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه!
فشاءت الاقدار، أن ينبعث من دمشق أستاذ ناصبي اسمه محمد عزة دروزه
فأرسل إلينا خطابا يطفح هجوا وشتما من جنس ما رمانا به من قبل شيخ
ناصبي آخر اسمه مصطفى السباعي وهو من دمشق كذلك، وكان ذنبنا عندهما
وعند أشباههما ما نكشف للناس من حقائق عن معاوية بن أبي سفيان وحكمه،
وعمن كان يناصره من الصحابة على بغيه، ومما جاء في خطاب هذا الدروزي:
أنى أطعن في أعظم دولة إسلامية، وأنى أحقد (كذا) على أبي هريرة، وأبى
أصطنع منهج كتاب الشيعة في إيران! وأنى أحمل العقدة أو العقيدة الشيعية
التي لا تبالي بحجة ومنطق وحقيقة (كذا). وكلام غير ذلك كثير مما لا فائدة فيه
ولا عائدة. ومن العجب أن هذا الدروزي يزعم أنه مؤرخ إسلامي وهو يجهل
أن أبا هريرة كان يلقب بشيخ المضيرة، وهذا الخطاب مسجل من دمشق ومؤرخ
2 تموز سنة 1965، كأن كل من ينطق بكلمة حق عن معاوية وحكمه وظلمه
يعد شيعيا، وويل له من النواصب (1)، وأتباعهم الذين يؤمنون بما يؤمنون به.
وفى مصر ظهر كتيب! وكتاب
الكتيب!
أما الكتيب ففي حوالي 90 صفحة من القطع الصغير عنوانه (السنة في
مكانها وفى تاريخها) لمؤلف يسمى - كما جاء على ظهر هذا الكتيب (الدكتور

(1) النواصب هم أهل النصب الذين ينصبون للامام على رضي الله عنه.
13

عبد الحليم محمود) ذهب ثلثاه في كلام عن كتابة الحديث. واسود الثلث
الباقي في نقد بعض ما جاء في كتابنا (أضواء على السنة المحمدية) وطعن فينا
وفى ديننا - إذ رماني الشيخ المسلم الصوفي (بالفسق) واستشهد على ذلك بآية
من كتاب الله العزيز - كبرت كلمة تخرج من فيه - وكان عليه قبل أن
يقترف هذا الاثم الكبير أن يذكر الحكمة المعروفة (إذا كان بيتك من
زجاج فلا ترم الناس بالحجارة) ففي ذلك خير له. وفى هذا كفاية - ولا نزيد
عليه!
ولقد علمت قبل ظهور هذا الكتيب أنه قد اشترك في تأليفه مع هذا
الدكتور طائفة من أساتذة جامعة الأزهر! ثم جاء الدكتور نفسه فاعترف بهذه
الحقيقة، في كتيبه، حيث قال في الصفحة 12 منه ما يلي: " إن هذا الكتاب
إنما هو من ثمار توجيه الدار ومن بركاتها " أي الدار التي أنشأها هو وجماعته
لخدمة الحديث (بزعمهم)، وقد جعلوا هذه الدار تحت ظل أحد الوزراء
ليستغلوا اسمه في رفع شأنها وقضاء مأربها! وقد كان أول عجب لنا من هذه
الجماعة قيامهم لنقد كتابنا الأضواء بعد أن مضى على ظهوره حوالي عشرة
أعوام! إذ أنه قد صدر في سنة 1958 وكتيبهم قد طبع في سنة 1967 أي بعد
ظهور كتابي بتسع سنين كاملة! فأين كان شيوخنا الاجلاء حينئذ من نقد
كتابنا؟ وما سبب قيامهم بعد انقضاء هذا الزمن الطويل؟ لعل هذه الجماعة
وهي بطبيعتها أزهرية قد أرادت أن لا يفوتها أداء ما على كل أزهري من نصيب
في شتمنا والطعن فينا! فقامت بأداء ما عليها - ولو جاء متأخرا - حتى تبرئ
ذمتها، وترضى نزعتها! وإذا كان الامر كذلك فمرحبا!
وبعد ذلك نقول إنه كان لنا أن نستعين بالقضاء على هذا الشيخ لكي
يأخذ حقنا منه على ما طعن في ديننا، ولكن منعنا من ذلك ما استفاض بين
الناس من أنه قد غرق في بحر التصوف! حتى أثر ذلك على حصاة عقله، وقد
بدا ذلك على ما يجرى على لسانه من قول، وما يخطه يمينه في كتاب (1).

(1) مما يثبت ما يقال عن الشيخ، ما ينشره في كتبه مما ينكره العقل ويأباه الدين والعلم، وإليك
مثلا من ذلك، ننقله بحرفه عن الرسالة القشيرية التي نشرها أخيرا (بالصفحة 69) وهو كاف وحده
للحكم على عقليته، ذلك أنه كتب تعليقا على خرافة أوتاد الأرض التي ذكرت في هذه الرسالة " قال
العروسي *: الأوتاد هم الرجال الأربعة الذين هم على منازل الجهات الأربع في العالم، أي الشرق
والغرب والشمال والجنوب يحفظ الله تلك الجهات بهم "!!
ونكتفي بهذا المثل وندع للعلماء (العقلاء) أن يبدوا فيه رأيهم، والرسالة القشيرية هذه التي نشرها
الشيخ يقرؤها طلابه في الأزهر ومريدوه وغيرهم في غير الأزهر، ثم لا ننسى أنه كان عميدا لكلية أصول
الدين، وهو الآن (رئيس قسم العقيدة بالأزهر) - أي العقيدة الاسلامية!!
14

ومن أجل ذلك - واستجابة لرغبات كثير علماء أجلاء عقلاء - رأينا
أن نتجاوز عما اقترفه الشيخ في حقنا وتركنا الامر لله، وهو سبحانه يفتح
بيننا وبينه بالحق، وهو خير الحاكمين.
ومن كان هذا مثله وأحواله، لو أنت اعتبرته ممن رفع القلم عنهم، الذين
لا يؤاخذون بشئ مما يقع منهم، فإنك لا تبعد عن الحق، ولا تجانب
الصواب.
ذلك بأن رجلا مثل هذا لا يصح أن يحاسب على ما يصدر منه.
وإذا كنا قد تجاوزنا عن حقنا الشخصي الذي نملكه، فإنه لا يجوز
لنا أن ندع حق العلم أو نفرط في جنب الحق. فنسكت عما في هذا الكتيب
مما يستوجب النقد، ورأينا حقا علينا أن نلقى عليه نظرة عابرة لا نستوفي فيها
نقد كل ما جاء به مما هو مخالف للعلم والعقل والمنطق، وبخاصة فإن الذين
ألفوه أساتذة كبار يعملون في جامعة إسلامية كبيرة، ويهم الناس جميعا أن
يعرفوا مبلغ هؤلاء الأساتذة من العلم، ومدى بصرهم بالنقد والبحث، ولا سيما
في مثل هذا الامر الخطير الذي تصدوا للكلام فيه، وهو تاريخ الحديث المحمدي
- وقد فعلنا مثل ذلك من قبل عندما أمطنا اللئام عن حقيقة علم بعض
أساتذة جامعة القاهرة (من الشيوخ) الذي ظهر في كتاب آخر نشر باسم
(أبو هريرة راوية الاسلام) (1).

(1) راجع ذلك في آخر هذا الكتاب.
* ما نقله الشيخ عن العروسي لم يكن في الطبعات القديمة من هذه الرسالة
15

كان مما وصل إليه علم وتحقيق هؤلاء الشيوخ في موضوع كتابة الحديث
النبوي، أن خرجوا على الناس برأي ابتدعوه من عند أنفسهم، لم يقل به أحد.
من قبل! ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله قد نهى عن كتابة حديثه في العهد المكي!
ولما انتقل إلى المدينة أباح كتابته، فكتبه أصحابه، وهاك ما جاء في كتيبهم
هذا بنص حرفه: " إن موضوع القرآن في هذه الفترة (أي في العهد المكي)
كان موضوعا محددا: لقد كان جملة من القضايا تتصل بالغيب، الغيب
الإلهي، أو - بتعبير آخر - توضيح العقيدة:
توحيدا، ورسالة، وبعثا. وكان أسلوب القرآن في ذلك واضحا لا لبس
فيه، بينا بيانا سافرا " (1) أي لا يحتاج إل بيان أو تفسير من النبي صلى الله عليه وآله " من
أجل ذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وآله عن كتابة حديثه، صلوات الله وسلامه
عليه " (2)، " ولكن في فترة العهد المدني تغير الوضع " (3) أي بما نزل من آيات
التشريع وغيرها مما يحتاج إلى بيان وشرح، " من أجل ذلك أباح الرسول صلى الله عليه وآله
كتابته بعد أن كان قد نهى عنها، وبدأ الصحابة رضوان الله عليهم
يكتبون " (4).
هذا ما انتهى إليه تحقيق شيوخنا في أمر كتابة الحديث. وهي مجازفة خطيرة
لا تغتفر! ينبذها العقل الصريح ويأباها النقل الصحيح! ذلك بأنها تقضى
حتما بأن النبي صلى الله عليه وآله قد ظل طوال العهد المكي صامتا لا ينطق بكلمة واحدة،
لا في بيان ما ينزل من القرآن، ولا في أي غرض من أغراض الرسالة مما يتصل
بشؤون الناس وحياتهم! وإذا تحدث بشئ، فإنه لا يستحق أن يكتب عنه،
ولا يستأهل أن يؤثر من بعده! وهذا ما لا يمكن تصوره أو تصديقه، فضلا

(1) ص 34.
(2) ص 35.
(3) ص 38.
(4) ص 40.
16

عن التسليم به، اللهم إلا إذا فقد الناس عقولهم، وتجردوا من علمهم،
وأصبحوا أغبياء لا يفقهون!
ومن ذا الذي يتصور أو يصدق أو يسلم بأنه صلوات الله عليه قد قضى
بمكة ثلاث عشرة سنة نزل عليه فيها أكثر من ثمانين سورة، ولا يكون فيها
شئ لا يحتاج إلى بيان أو إيضاح، أو قول من الحق فيما يختلف الناس فيه!
هذا - وإن مما تدفعه بدائه العقول أن تخلو مجالس النبي صلى الله عليه وآله التي كان
يعقدها بمكة ليلا ونهارا مدى هذا الزمن الطويل من تعاليم وآداب وحكم وغير
ذلك مما ينفع الناس في حياتهم، ويهديهم إلى الصراط المستقيم من أمورهم!
ومعلوم أن كل لفظة من ألفاظه التي ينطق بها إنما تنطوي على منافع وفوائد
جليلة مما يجب حفظه والحرص عليه إن في حياته، أو بعد مماته.
وأين الذين يستعلنون بهذا القول الفاسد والرأي العقيم مما أمر الله به رسوله
غير مرة في القرآن الكريم، أن يبين للناس ما نزل إليهم ويبين ما يختلفون فيه
من مثل قوله تعالى (16 - 44): " وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم
ولعلهم يتفكرون "، وقوله تعالى (16 - - 64): " وما أنزلنا عليك الكتاب إلا
لتبين لهم الذي اختلفوا فيه، وهدى ورحمة لقوم يؤمنون " فهل كان ذلك
لما نزل بالمدينة فحسب، ولم يكن لما نزل بمكة؟
وإن في هاتين الآيتين وحدهما للرد المفحم والجواب المسكت على هذا
القول العجيب - ومن الغريب أنهما مكيتان جاءتا في سورة النحل - وهي
مكية بالاجماع إلا بعض آيات في آخرها.
هذا وإن هذا الادعاء الباطل الذي أتى به شيوخنا من أن النبي صلى الله عليه وآله
قد أباح كتابة الحديث، وكتبه أصحابه (1) (في العهد المدني) لا بد له من

(1) غير خاف أن الصحابة الذين سمعوا من النبي كان عددهم أكثر من مئة ألف، وبديهي أن
يكون لدى كل واحد منهم حديث أو حديثان أو ما هو أكثر من ذلك، وكان النبي يحدث قوما بما لم
يحدث به غيرهم، وكان يقع من الحوادث أمام قوم ما لم يشهده سواهم، وقد تفرق هؤلاء الصحابة بين
مختلف الأمصار فإذا كان جميع الكاتبين منهم قد كتبوا ما سمعوه من النبي - كما زعم الشيخ فيجب
استيعاب ما كتبه كل صحابي والآتيان به كاملا صحيحا، وإلا فإن هذا الزعم يصبح باطلا ومفضوحا.
17

برهان على صحته - كما قال تعالى: " قل هاتوا برهانكم، إن كنتم صادقين
وإن برهان هذا الادعاء أن يأتي مصداقه بالفعل الثابت لا بالكلام الذي
لا حقيقة له ولا جدوى منه! ذلك بأن يرى الناس بأعينهم ما كتب في العهد
المدني، ويقفوا على رصيده أو حصيده منشورا عليهم لكي يتبعوه، ويذروا
غيره! من مصادر الحديث الموجودة بين أيدي المسلمين، وهي كثيرة
لا عداد لها!
ومن وراء ذلك كله دليل قوى يثبت أن النهى قد جاء الامر به وهو بالمدينة
لا بمكة، وهذا دليل لا يعقله إلا العالمون، ذلك أن الحديث الذي حمل نهى
النبي صلى الله عليه وآله عن كتابة غير القرآن قد رواه أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله واتبعه
الصحابة جميعا وعملوا به - هو أنصاري خزرجي مدني، لا قرشي مكي (1)!!
أفهمت يا مولانا! أما الشطر الآخر من شطحة مولانا الشيخ الذي زعم فيه
أن النبي صلى الله عليه وآله قد أباح كتابة الحديث في العهد المدني فهذا لا ندفعه ولا
نماري فيه - وكل ما نطلبه، أنه لكي يتبين صحته، ويبدو صوابه أن نرى كما
قلنا مصداقه بالحس والعيان، لا بالزعم والبهتان، وذلك فيما كتب من الأحاديث
في هذا العهد فليأتوا لنا به إن كانوا صادقين!
هذا هو البرهان الصحيح - وما عداه يكون لغوا لا خير فيه. ولا يعول عليه.
ومن المعلوم الذي لا ريب فيه أنه صلى الله عليه وآله قد قضى بالمدينة عشرة أعوام
كاملة أي نحو 3500 يوم فلو أنه صلوات الله عليه قد صدر عنه في كل
يوم ثلاثة أحاديث فقط لجاءنا من ذلك مصحف ضخم يحتوي على أكثر
من عشرة آلاف حديث تكون كلها، لا ريب، صحيحة متواترة لفظا ومعنى،
ويكون هذا المقدار أو نصفه أجدى وأنفع للمسلمين من هذه السبعمائة ألف
حديث التي قالوا: إنها رويت عن النبي صلى الله عليه وآله وإن أبا زرعه قد حفظها،
ولرجع المسلمون كافة إليها في مشارق الأرض ومغاربها ولاعتمدوا المصحف
الذي يضمها ليعرفوا منه الحديث النبوي، كما اعتمدوا مصحف القرآن لمعرفة

(1) هو من مشهوري الصحابة ولم يكن أحد منهم أفقه منه، وكان يكثر من الحديث.
18

الكلام الإلهي، ولاستغنوا به عن تلكم الكتب الضخمة الكثيرة العدد التي
تحمل الأحاديث المروية وفيها الصحيح والموضوع وغير ذلك مما كان مدعاة
للاختلاف بين المسلمين على مد العصور، وسيظل قائما إلى يوم الدين وبخاصة
بين علماء الفقه الذين تفرقوا في الدين مذاهب وشيعا، ثم لاتخذ علماء النحو
من الحديث أوثق مصدر لهم في الاستشهاد به على اللغة والنحو بعد كتاب الله
وقبل كلام العرب، بعد أن تجافوا عن الاستشهاد به لما ثبت لديهم ولدى
غيرهم يقينا أنه قد جاء على غير لفظه الذي نطق النبي به صلى الله عليه وآله وإنما جاءت
روايته (بالمعنى)، ثم لكان قبل ذلك كله أعظم ثروة في البلاغة العربية لا يوجد
مثلها في كلام العرب، ولا نحصي ما وراء ذلك من المنافع والفوائد - إذا
كان الحديث قد جاء مكتوبا كالقرآن - كما زعموا.
نعم هذا ما يجب على شيوخنا أن يؤدوه لكي يصدق الناس ما أدعوه،
وأم المنطق لم تلد غير ذلك!
وإنا لنتحداهم في ذلك فإن أتوا بهذا المصحف كانوا علماء محققين،
وإن لم يفعلوا كانوا على نقيض ذلك جهلاء غير عالمين.
ولم يرد مشايخنا عفا الله عنهم أن يقفوا عند هذه الدعوى الباطلة بل لجوا
في الادعاء الباطل فتنبل زعيمهم الشيخ عبد الحليم وازدهى وقال في كتيبه ما نصه:
" ولقد وقر في أذهان الناس، بصورة راسخة أن السنة لم تدون إلا في
القرن الثاني، ومن أجل اقتلاع هذه الفكرة الخاطئة أطلنا في نقل بعض
النصوص التي تثبت الحقيقة! وهي أن السنة دونت في القرن الأول في عهد
الرسول صلى الله عليه وآله وفى عهد الصحابة الاجلاء " (1)
وإن هذه النصوص التي يقول الشيخ عبد الحليم إنه أطال في نقلها بغير فهم
ولا إدراك قد مر عليها العلماء المحققون وعرفوها ولكنهم لم يعرجوا عليها، ولم يلتفتوا
إليها، ذلك بأن أمر النهى عن كتابة الحديث يلقفها كلها، لأنه قاطع ثابت
لا يستطيع أحد أن يستريب فيه وآية ذلك أن الصحابة قد اتبعوه (فعلا)

(1) ص 48.
19

وانتهوا عن الكتابة انتهاء مطلقا، إن بمكة وإن بالمدينة (1)، وكل ما جاء عنهم
من حديث عن رسول الله إنما كان من طريق الرواية لا من طريق الكتابة
وجرى الامر على ذلك إلى أن جاء عهد التدوين (2) - وكان ذلك في القرن
الثاني ثم تطور فيما يلي هذا القرن من القرون، وانعقد الاجماع على أن أول من
أمر بتدوين الحديث هو عمر بن عبد العزيز الذي تولى سنة 99 وأنه كلف
بذلك أبا بكر بن حزم الأنصاري المتوفى سنة 120، ولكن لم يأت خبر عن
الأنصاري هذا لا صحيح ولا مكذوب بأنه ألف كتابا في هذا التدوين، وقد
ذكروا أن أول كتاب دون في الحديث هو موطأ مالك المتوفى سنة 179 ه‍ وهذا
الكتاب، وكل ما جاء بعده من كتب الحديث، قد أتانا من طريق الرواية
لا من طريق الكتابة عن النبي صلى الله عليه وآله. والمقطوع به الذي لا يختلف عليه اثنان
ولا يحتاج في إثباته إلى برهان، أنه لم يدون كتاب في الحديث في القرن الأول.
كل ذلك إنما ينسخ بل ينسف ما سماه هذا الشيخ نصوصا، ويقضى عليها
قضاء مبرما، وإنا لنتحدى شيوخا مرة ثانية أن يثبتوا - إن استطاعوا - أن
كتابا واحدا من كتب الحديث كلها ما سموه صحيحا وما سموه سننا قد جاء
من طريق الكتابة عن النبي صلى الله عليه وآله أو عن صحابته في القرن الأول أو غيره من
القرون حتى تصدق دعاواهم الباطلة!

(1) لو أنهم درسوا هذا الموضوع حق الدرس كما يدرس العلماء لعرفوا كيف اتبع الصحابة
جميعا ما أمر به النبي صلى الله عليه وآله من عدم كتابة حديثه ولوقفوا على ما فعله عمر بن الخطاب خاصة من
عدوله عن تدوين الحديث بعد أن أراد أن يدونه، ومما قاله عمر في ذلك: " إني كنت أريد أن أكتب
السنن، وإني ذكرت قوما كانوا قبلكم، كتبوا كتبا فأكبوا عليها، وتركوا كتاب الله تعالى وإني والله
لا ألبس - وفى راوية - لا أشوب - كتاب الله بشئ أبدا (ص 64 ج 1 جامع بيان العلم وفضله)
لحافظ المغرب ابن عبد البر وص 206 / 1 / 3 طبقات ابن سعد وكتب إلى الأمصار: من كان عنده منها
شئ فليمحه (ص 65 ج 1 جامع بيان العلم وفضله) ويراجع كتابنا الأضواء في طبعته الثالثة لأنه بحث
هذا الامر وغيره بحثا مستوعبا.
(2) جعلوا للرواية أقساما ثمانية مبينة في كتبهم ومن هذه الأقسام (الوجادة) وهي أن يقف
على كتاب شخص فيه أحاديث يرويها بخطه ولم يلقه أو لقيه ولم يسمع منه، ذلك الذي وجده بخطه،
وقد اختلف في العمل بالوجادة فقال بعضهم لا يجوز، وقال بعضهم يجوز، ولهم في ذلك كلام طويل
يرجع إليه في مظانه.
20

هذا مثل واحد مما بدا في هذا الكتيب الهزيل من علم شيوخنا وتحقيقهم في
أمر كتابة الحديث، وهو وحده آية تدل على المجازفة الفاضحة في الظهور بهذه
البدعة التي ابتدعوها في أمر كتابة الحديث والتي لم يقل بها من قبل أحد
غيرهم.
وهاك مثلا آخر في نقدهم وتحقيقهم، نعزز به ما بيناه من حقيقة علمهم:
ذلك أنى كنت أرتقب من أمثالهم أن يكون نقدهم نابعا من فيض علمهم،
وعصير أفكارهم ولكنهم وا أسفا قد كشفوا عن حقيقة أنفسهم بأنهم فقراء معدمون
حتى في النقد، فقد اضطروا إلى أن يستجدوا غيرهم عندما أرادوا أن ينتقدوا
كتابنا الأضواء وأخذوا يتكففون الناس حتى وقعوا على رجل شامي اسمه مصطفى
السباعي، وكان هذا الرجل قد انتقد كتابنا الأضواء عند ظهوره ولضغن أموي (1)
يكنه في صدره تجنى علينا في نقده، وتسفل في عباراته، إلى ما ليس بعده
غاية في القذف والسباب، وكتابه ينطق عليه بذلك حتى استوجب مقت الناس
وسخطهم فانتقدوه في الصحف على ما بدا منه (2)، ومن تجنيه أن تشبث بهنات
مطبعية وقعت في الكتاب مما يقع مثله في كل مطبوع بالعربية، وعلق عليها
بعبارات له يصدر مثلها إلا من الجهلاء، فجاء شيوخنا الأفاضل وتلقفوا هذه
الهنات وما علق عليها بغير أن ينظروا في حقيقتها، ثم خرجوا على الناس فخورين
بها، أن قدموا للعلم والنقد بحثا ليس له من قبل نظير!

(1) يشابه هذا الضغن ما بدا من الأستاذ دروزه الذي تكلمنا عنه في أول هذه المقدمة.
(2) لم نستطع أن نرد على هذا السباب لأننا لا نحسن السفاهة، ولكي لا نجاريه في خلقه فنكون
معه سواء فيه، ولما كان الله سبحانه، يدافع عن الذين آمنوا، فقد قيض الدكتورة بنت الشاطئ لتتولى
الرد عليه عنا، وقد وفته حسابه، ولطمته لطمات أليمة، وذلك في مقال طويل نشرته بجريدة الاهرام
الصادرة في 28 / 7 / 1961 ومما جاء في مقدمة هذا المقال الممتع.
" إن الذي أو من به أن أسلوب القذف والسباب تأباه الخصومة الفكرية التي لا تجيز غير سلاح
الفكرة والمنطق والدليل، ثم هو لا يغنى عن الحق شيئا، بل لعله أجدر بأن يضعف مركزنا بما يثير من نفور
القارئ الواعي وما يلقى في روعه من وهن مركزنا، بحيث لا نملك إلا أن نستعين على خصومنا بالشتائم
واللعنات إلخ " والمقال كله على هذا الغرار اللاذع الأليم..
هذا هو السباعي وسفاهته الذي جاء شيوخنا - بعد بضع سنين - ليقلدوه وليتلقوا عنه، وليستعينوا
بسبابه وقذفه وعلمه علينا، فما أشبه الليلة بالبارحة، وحقا ما قالوا: إن الطيور على أشباهها تقع.
21

ولو أنهم كانوا على شئ من العلم والفهم، واصطنعوا أناة العقلاء، وتحقيق
العلماء، وأصول النقد العلمي، والتفتوا وراءهم قليلا، لوجدوا أن هذه الهنات
التي استلبوها من هذا السباعي، ثم هللوا بها وكبروا، وقذفونا من أجلها بما قذفوا،
وعلى أساسها بنوا حكمهم علينا (بالفسق) قد صححت هي وغيرها من سائر
الهنات التي وقعت في الطبعة الأولى، لا لان السباعي هذا قد لاحظها، ولكن
لأننا قد عثرنا عليها لما قرأنا الكتاب بعد طبعه! ولم يكن هذا التصحيح مرة
واحدة بل مرتين اثنتين في طبعتين متواليتين صدرتا من كتاب (شيخ المضيرة)
إحداهما في سنة 1963 والأخرى في سنة 1964 أي قبل ظهور كتيب،
مشايخنا ببضع سنين!
وهذه والله وحدها لآية أخرى بينة تدل دلالة واضحة على أنهم قوم لا يفقهون
من أمر النقد شيئا.
ولو أن مشايخنا كانوا على شئ من معرفة أصول الدين وحقائق العلم
لنأوا بأنفسهم عن الكلام في هذه الهنات لأنها في نفسها - حتى لو بقيت بغير
تصحيح لا تمس الدين ولا العلم في شئ.. وليس في إتيانها أي وزر
أو ذنب.
ومن التهم التي نقلها شيوخنا عن شيخهم السباعي هذا بغير فهم ولا
إدراك، أننا بكتابنا الأضواء إنما نخدم المستشرقين، بما نطلعهم على خفايا
الدين التي لا يعرفها أحد من غير المسلمين! كأنهم يستعلنون بذلك أن الدين
الاسلامي وتاريخه وكتبه، كل ذلك محجوب علمه عمن ليسوا بمسلمين، وأن
هؤلاء المستشرفين كانوا عن ذلك كله من الغافلين الجاهلين، حتى أتاهم كتابنا
فكشف لهم الغطاء عن المكنون من أسرارنا، والمخفي من ديننا، فعرفوا منه
ما لم يكونوا يعرفون! وهذا والله هو الجهل والغباء بعينه.
ولقد وقع في هذه الجهالة أخيرا الشيخ محمد أبو شهبة علامة الأزهر في كتابه
الذي سنتكلم عنه فيما بعد، فقال مثل قولهم!
ألا فليعلم شيوخنا - سلمت عقولهم - أن المستشرفين إنما يعرفون من
أمر الاسلام وتاريخه ما لو عرفتم أنتم بعضه لكنتم من العلماء المحققين.
22

على أن هؤلاء المستشرقين الذين تنحطون عليهم وترمونهم دائما بأنهم يطعنون
في ديننا ويشوهون ديننا وعلمنا هم في الحقيقة لم يتجنوا علينا ولم يفتروا شيئا
من عند أنفسهم، وإنما وجدوا مادة خصبة من الخرافات والأوهام قد انبثت
في ديننا ونسب بعضها - وا أسفاه - إلى النبي صلى الله عليه وآله فتشبثوا بها وتسلقوا عليها
وانتقدونا من أجلها، ولا تثريب عليهم في ذلك. لأنهم قوم يفهمون بعقول
راجحة وأذهان مستنيرة وعلوم واسعة وأفكار متحررة لا يكبلهم شئ من تقليد
أو عبادة للاسلاف، ولا يعرفون عبارة (قال المصنف رحمه الله!) من أجل
ذلك لا تلوموهم ولوموا أنفسكم. ثم اجعلوا ردكم عليهم وصدكم لهجومهم أن
تعمدوا إلى دينكم فتمحصوه وتطهروه من الشوائب التي لحقت به حتى يعود
كما جاء على لسان محمد صلى الله عليه وآله دينا قيما صافيا يتبين منه لأهل هذا العصر ومن
يأتي بعدهم إلى يوم الدين أنه دين العقل والعلم والحرية والفكر.
هذا هو ما يجب عليكم إن كنتم تستطيعون، أما طريقتكم هذه التي تتبعونها
من الطعن فيهم في كل مناسبة ونبز كل من يتكلم بكلمة الحق أنه يساعدهم
فهذا ليس بسبيل العلماء المحققين الذين يعرفون قدر أنفسهم، ولو أنكم قد فهمتم
كتابنا كما يجب أن يفهمه العلماء المحققون لتبين لكم أن الامر فيه بعكس
ما تظنون، ذلك أن من أغراضه الواضحة أنه يصحح للمستشرقين وغير المستشرقين
من المسلمين ما قد يوجد في بعض الأحاديث من شبهات أو مشكلات فيحيل
وزرها على الذين أتوا بها من الرواة وينزه النبي صلى الله عليه وآله عن قولها، مثل حديث:
أين تذهب الشمس بعد الغروب، الذي قالوا فيه: إن إسناده جيد، ذلك
الذي يضحك الأطفال لأنه يخالف دليل العلم وشاهد الحس، إذ يفيد أن الشمس
عندما تغرب تصعد إلى عرش الرحمن فتسجد تحته ثم تستأذن ربها في الطلوع
في اليوم الثاني فلا يؤذن لها، وتظل تستأذن حتى يجيئها الاذن فيجرها سبعون
ألف ملك من المغرب إلى المشرق لكي تطلع على الناس في اليوم الثاني! ومثل
حديث خلق الله التربة يوم السبت الذي صرح فيه أبو هريرة بأنه تلقاه عن
النبي صلى الله عليه وآله ويده في يده! ثم تبين للعلماء أنه قد تلقاه عن كعب الأحبار
اليهودي - وهذا الحديث مخالف لنص القرآن الكريم.
والأمثلة على ذلك كثيرة بيناها في كتابنا هذا وفى كتاب الأضواء
23

ومثل آخر من علمهم!
ونسوق هنا مثلا آخر يفصح عن حقيقة دار الحديث هذه التي أنشأوها،
ويثبت أنه ليس فيها عالم بالحديث بصير بأمره، يمكنه أن يميز بين الصحيح
منه وغير الصيح، بل كله عند العرب صابون!!
لقد أقحموا في كتيبهم هذا بغير ما مناسبة (1) حديثا رواه البخاري عن أبي
هريرة، واعتبروه صحيحا، ما دام البخاري قد رواه! وهذا نصه: من عادى
لي وليا فقه آذنته بالحرب، وما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه،
فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي
يبطش بها، ورجله التي يمشى بها، وإن سألني أعطيته، ولئن استعاذني
لأعيذنه.
ولقد كان على الشيخ عبد الحليم - خاصة - وجماعة دار الحديث عامة
أن يرجعوا - قبل أن يأخذوا بهذا الحديث إلى ما قاله العلماء فيه، كالذهبي
وابن رجب والخطابي وما ذكره أبو نعيم في الحلية من أنه منقول عن وهب بن منبه
اليهودي، وكان أبو هريرة راوي الحديث تلميذا لكهان اليهود يتلقى عنهم ويبث ما
يتلقاه بين الناس على أنه من قول النبي صلى الله عليه وآله.
حقا كان على مشايخنا أن يفعلوا ذلك، إن كانوا علماء حقا، ولكنهم
لم يفعلوا لجهلهم بأمر الحديث وما قاله العلماء الاجلاء فيه.

(1) لعل الشيخ عبد الحليم قد أتى بهذا الحديث في كتيبه لكي يتقى به معاداة المبغضين له،
واعتراض المعترضين عليه، - ومن قولهم في ذلك: من اعترض انطرد - أي من اعترض على مثل الشيخ
عبد الحليم في شئ من أقوال أو أفعاله فإنه (ينطرد) من رحمة الله والعياذ بالله.
24

قيمة كتيب هذه الجماعة
هذا بعض ما لاحظناه على كتيب هذه الجماعة، وإذا كان الشيخ
عبد الحليم قد فال إن ما فيه هو من ثمار وتوجيه وبركات هذه الدار التي أنشأوها
لخدمة الحديث وتحقيق أمره، وإنهم قد عرضوا هذه الباكورة، على الناس
ليتذوقوها! فتبين لهم أن الفساد قد دب فيها - فالويل إذن للعلم وأهله مما تخرجه
هذه الدار بعد ذلك من ثمار!
ولقد كان الأجدر بمشايخنا هؤلاء أن يعرفوا قدر أنفسهم ويحفظوا للعلم
كرامته حتى لا يتورطوا في معالجة أمر هو من وراء علمهم، وفوق طاقتهم،
ومن أجل ذلك جاء كتيبهم كغيره وليس فيه دراسة علمية تظهر خطأ أو تصحح
غلطا، أو تعدل رأيا، وكذلك ليس فيه نقد موضوعي يقوم على المنهج العلمي
الحديث - وإنما يحمل مثل ما يحمله غيره من السب والشتم، ورمى الناس
بالتهم بغير رادع من دين، ولا زاجر من خلق كريم، مما أصبح بين الناس
ممقوتا مرذولا، لا يستسيغه عالم، ولا يرضى به عاقل.
إن النقد العلمي الصحيح إنما يقوم على قرع الحجة بالحجة، ودفع
الدليل بالدليل، وأن يكون ذلك في أسلوب عف وعبارة مهذبة، أما ما عدا
ذلك فإنه يعتبر هراء وهذيانا، يرتد على صاحبه بالمقت ويرمى من أجله
بالجهل والسفاهة والغباء.
ولتجدن الذين قابلونا بنقدهم، ليس فيهم عالم محقق، ولا بينهم ناقد بصير،
وليس ذلك بغريب عليهم لأنهم جميعا قد جمعوا بين التقليد الديني، والجمود
الفكري، والحشو الذهني، ومثل هؤلاء جميعا يجب أن يقابلوا بما يستحقون من
الاهمال والاعراض، ومن أجل ذلك تركناهم في جهلهم يعمهون.
أما المقلدون فحسبك ما ذكره حافظ المغرب ابن عبد البر في وصفهم
في كتابه (جامع بيان العلم وفضله) إذ يقول: قال عبيد الله بن المعتز:
لا فرق بين بهيمة تقاد وإنسان يقلد (1) وقال هو وغيره من كبار الأئمة: أجمع

(1) ص 114 و 115 ج 2.
25

الناس على أن المقلد ليس معدودا من أهل العلم، وأن العلم معرفة الحق بدليله.
وقال ابن القيم تعليقا على هذا القول: قد تضمن هذان الاجماعان اطراح
المتعصب بالهوى، والمقلد الأعمى من زمرة العلماء وأسقطوهما باستكمال من فوقهما
الفروض من وراثة الأنبياء.
وقال الأصفهاني في كتابه (أطباق الذهب) (1) مثل المقلد بين يدي المحقق،
مثل الضرير بين يدي البصير المحدق، ومثل الحكيم والحشوي كالميتة والمشوي.
أقنعه رواية الرواية عن در الدراية، وما أشقى جهالا قلدوا آباءهم فهم على
آثارهم مقتدون، أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون!
وقال العلماء: المقلدون للمذاهب (2) المتعصبون لها لا يعدون من العلماء
حقيقة وإن عدوا عرفا.
وكان السلف يعبرون عن المقلد بالجاهل مهما اشتغل بالعلم، لان العالم
من كان مستقلا في فهمه للعلم واستدلاله على مسائله، وسئل بعض العارفين
عن معنى الذهب، فأجاب أن معناه دين مبدل (3).
والحشويون سموا بذلك لأنهم يحشون الأحاديث التي لا أصل لها، في
الأحاديث المروية عن رسول الله.
وهنا نقف عن المضي في الكلام عن هذا الكتيب وبحسبنا ما قدمناه في
نقده، وهو كاف في بيان قيمته العلمية، وفى تعريف الناس بمبلغ الذين
ألفوه من العلم، ومقدار حظهم في النقد والفهم، ثم ندع للعلماء المحققين بعد
ذلك الحكم فيما بيننا وبينهم، وغفر الله لنا ولهم أجمعين.

(1) المقالة 36 ص 36.
(2) مما لا يخفى على أحد أن كل شيوخ الأزهر مقلدون يدرسون الفقه على المذاهب الأربعة وقد
قرروا أن باب الاجتهاد قد أقفل بعد هؤلاء الأربعة ولا يجوز لاحد فتحه مهما أوتى من العلم ومن أجل
ذلك لا نجد بين هؤلاء الشيوخ مجتهدا واحدا.
(3) ص 10 من مختصر كتاب المؤمل للرد على الامر الأول للامام أبى شامة.
26

كتاب الأزهر
وبعد أن فرغنا من الكلام عن كتيب دار الحديث وزعيمها الشيخ
عبد الحليم محمود نقف وقفة قصيرة مع كتاب الأزهر الذي ظهر أخيرا في
نقد كتابنا.
كان هذا الكتاب آخر الكتب التي تصدت لنقد كتابنا (الأضواء) وقد
جعلوا عنوانه " دفاع عن السنة المحمدية من شبه المستشرقين والكتاب المعاصرين "
ومؤلف هذا الكتاب هو (الدكتور) (1) الشيخ محمد أبو شهبة الأستاذ
بكلية أصول الدين - وهذا الكتاب يعتبر ولا ريب كتاب الأزهر (الرسمي)
للرد على كتابنا، وأن ما عداه مما كتبه شيوخ الأزهر من قبل في هذا النقد
هو (براني غير مدموغ!!)
ومن أجل ذلك نرى الأزهر قد اهتم به وأعد له كل ما استطاع من قوة
للدفاع عن السنة (كما زعموا) ثم عهدوا بالقيادة في هذه الحملة إلى بطل
الأزهر الشيخ محمد أبو شهبة لكي يتولى الدفاع ضد العدو المغير على السنة
وهو: محمود أبو رية بكتابه الأضواء. بخ. بخ!
ونحن قبل كل شئ نرحب والله بذلك ترحيبا شديدا ونشكر الله شكرا
جزيلا على ما أتانا من فضله، وأن نرى الأزهر يقف بجحافله الجرارة لمحاربتنا،
وأن ينازلنا وحدنا في ميدان النضال دون سوانا.
ولو أنت قرأت كتاب الأزهر هذا بتدبر لوجدته - وكأنه مرآة مصقولة يتراءى على
صفحاتها علم الأزهر وتحقيقه ونقده، وما أوتى شيوخه من عقل وفطنة، ويصور أصدق
تصوير مناهجه في البحث والدرس والنقد وما إلى ذلك مما اختص به وعرف عنه
منذ إنشائه، ويكشف عن الأسلوب الغالب على كثير من الشيوخ في الجدل

(1) كلهم ما شاء الله دكاترة، وربنا يزيد ويبارك! ورحم الله العقاد فيما صرح به لجماعة
طلبوا منه أن يتقدم للجامعة المصرية لكي ينال منها درجة الدكتوراه، لأنه عاطل منها! فقال كلمته
المشهورة: قولوا لي قبل كل شئ من هم هؤلاء الذين سيمتحنونني ثم يمنحونني هذه الدرجة لكي أعرفهم
لأني لا أجد أمامي من يستحق ذلك!!
27

والمناقشة العلمية ذلك الذي يقوم على السب والشتم والطعن في دين الغير (1) مما
يحسبونه من أسباب التفوق والغلب. وفى الكتاب غير ذلك أمور كثيرة يجب أن
تعرف عن هذا المعهد العتيق تولى بيانها بقلمه السيال عالم الأزهر ومدرهه الشيخ
أبو شهبة.
ولخطر هذا الكتاب عند الأزهر وأنه لا يدانيه في المنزلة أي كتاب غيره
تراهم قد عنوا به عناية فائقة واهتموا به اهتماما شديدا فطبعوه على نفقه الأزهر
الخاصة وهي ليست هينة ولا قليلة وأخرجوا منه عدة آلاف من النسخ وزعت
كلها بالمجان على المعاهد الدينية في بلادنا وغير بلادنا وعلى كثير من العلماء
والوزراء والكبراء - وكأنهم يباهون العالم كله به!
ولعل الذين اهتموا بهذا الكتاب، وبذلوا ما بذلوا في سبيل إخراجه
ظنوا أنهم قد بلغوا به ما يريدون، وأنهم قد أحسنوا الدفاع عن السنة، وأن
المغيرين عليها الذين يقصدونهم، قد لاذوا بالفرار، وولوا الادبار! وأن
كتابهم قد ظهر على كتابنا ظهور الشمس في رائعة النهار!
إن كان هذا ظنهم فقد أخطأوا خطأ كبيرا، ذلك بأن سنة الله قد مضت
بأن الحق لا يدحض بالباطل، وأن نور العلم لا يطفأ بالجهل، وأستغفر الله
من أن أصف علم الأزهر بالجهل!!
فكتابي - بحمد الله - الذي قام على دعائم قوية من البراهين الساطعة،
والحجج الدامغة، رابض في مكانه كالصخرة العاتية، لا يؤثر فيه ما يظهر
من جهالات الجامدين ولا ينال منه ما يبدو من تلفيقات الحشويين - ويعتز
أيما اعتزاز، أنه قد أصبح بغير نزاع بين العلماء الفهماء، هو الكتاب الأول
والمصدر الوحيد الذي يؤرخ لحياة الحديث المحمدي أصدق تاريخ من لدن
روايته، بعد أن نهى النبي عن كتابته، إلى أن خرج إلى الناس مدونا في كتبه،
وهذه الحقيقة قد تقررت ورسخت، فإن يكفر بها بعض المعاندين فقد وكل الله

(1) كنت ذات يوم مع الشيخ محمد أبو زهرة في كلية الحقوق وجاء ذكر طريقة الأزهر في
المناقشة، وكان قد أفاض علينا ذنوبا من هجائه المعروف فسألته: لم يتخذ الأزهر هذه الطريقة؟
فقال: إن هذه هي طريقتنا ولا يمكن أن نتحول عنها فهنأته عليها وسكت!
28

بها علماء أجلاء في جميع الأقطار الاسلامية - ليسوا بها بكافرين. وقد
بدا ذلك جليا في أنهم قد قدروا كتابنا حق قدره، ووفوه من جميل التقريظ (1)
وحسن الثناء حقه وهذا من توفيق الله وفضله.
أما نحن فسنظل بعون الله وحوله ثابتين في موقفنا لا يزعجنا أي صوت يرتفع
بالطعن فينا، مهما كان ناعقه! وإذا كانوا قد توهموا أن كتابهم متى ظهر
باسم الأزهر، واكتسب الصفة الرسمية الأزهرية فإن ذلك سيكون مدعاة لان
يتزاحم الناس على ورده، ويهيموا شوقا إلى إحرازه، فقد فاتهم أن تقدير الناس
لما كان يصدر عن الأزهر من كتب أو مطبوعات، قد ذهبت أيامه، وأن
ما كان لشيوخه الكبار من احترام موروث قد تضاءل، ذلك بأن أكثرهم قد هانوا
على الناس.
ومر ذلك إلى أن الجيل الجديد قد بلغ درجة من السمو العلمي، والنضج
الفكري والعقلي بحث أصبح وهو ينفر من الأوهام ولا يهتم إلا بالحقائق ولا
يسعى إلا إلى معرفة العلم النافع، ينبذ كل ما عدا ذلك مهما كان ومهما كان
قائله، وآية ذلك ظاهرة لا تحتاج إلى بيان، وهذه الآية تتجلى في مجلة (الأزهر)
وهي التي تصور ولا ريب علم الأزهر وأدبه وفكره أصدق تصوير، وتبين

(1) نشرنا في الطبعة الثانية من كتابنا (الأضواء) طائفة من تقاريظ كبار علماء أفغانستان
والعراق والشام ومنها خطاب من أحد علماء زنجبار جاء فيه هذه العبارة " كدت أجن طربا لظهور مثل
هذا الكتاب الذي يجب على كل مسلم شفيق على دينه أن يقتني نسخة منه " ومثل هذه العبارة ما سمعته
بأذني من العالم المحقق الأستاذ إسماعيل مظهر رحمه الله، فقد قابلني ذات يوم في الطريق وقال لي هذه
العبارة بنصها (كتابك مجنني) وكتب عنه كلمة رائعة في جريدة الاخبار ختمها بقوله: " وفى القرن
العشرين - عصر النور والعلم الذي حضنا على الاستزادة منه وطلبه ولو بالصين - ينبغي لكل مسلم أن
يقرأ هذا الكتاب، ويطيل التأمل في حقائقه ليعرف أين هو من دينه، دين العقل والمنطق وحرية
التفكير ". وممن قرظوا كتابي الدكتور طه حسين فقد نشر عنه مقالا نفيسا في جريدة الجمهورية ذكر
فيها أنه قرأ كتابنا مرتين وكتب على رأس هذا المقال هذه العبارة. " جهد وعبء ثقيل لا يقوم به في هذه
الأيام إلا القليلون، وختم مقاله ببيت بشار وهو:
إذا أنت لم تشرب مرارا على القذى * ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه
وهذا البيت الحكيم - لا نفتأ نردده فإنه ينطق عن حقيقة أمرنا من الذين يتلقوننا كل يوم بقذائف
جهالاتهم وشتائمهم.
29

ما بلغ إليه شيوخه في مضمار الثقافة العربية الاسلامية في هذا العصر أجلى
بيان، والتي كانوا قد جلبوا لها كاتبا كبيرا مشهورا (1) لكي يرفع من شأنها،
ويجذب القراء إليها - هذه المجلة كان الظن بها - بعد كل ذلك - أن تكون
هي المجلة الاسلامية الوحيدة بين مشارق الأرض ومغاربها، وأنها ستكون أوسع
سائر المجلات بينها انتشارا! ترى ماذا هو شأنها الآن؟
لو أنك اختبرت أمرها وعرفت مكانها بين سائر المجلات العربية والاسلامية
التي تصدر في مصر خاصة وفى غيرها من الأقطار عامة لرثيت لها، ولهالك
ما تجد من حالها، إذ ترى أنها أقل المجلات رواجا وأنذرها ذيوعا، على رغم
رخص ثمنها، ولولا بقية من قراء رئيس تحريرها القدماء في مجلاته لما وجدت
لها اليوم بين الناس قارئا، وحسبنا ذلك دليلا على قيمة ما يظهر من الأزهر
للناس من كتب أو مطبوعات، ورحم الله امرأ عرف قدر نفسه.
هذا ولا يفوتنا قبل أن ننتهي من الكلام عن كتاب الأزهر أن نذكر أن
الشيخ أبو شهبة هذا كان من أوائل الذين انتقدوا كتابنا (الأضواء) عند
ظهوره في سنة 1958 وكان ذلك بمجلة الأزهر وكان يشاركه في هذا النقد
محب الدين الخطيب وكان يومئذ رئيسا لتحرير هذه المجلة، ففضحنا علمهما،
وأظهرنا للناس جهلهما (2)، هما وغيرهما من الذين انتقدوا معهم كتابنا وذلك في كتاب
طبعناه يومئذ ووجهنا الكلام فيه إلى (مشيخة الأزهر) وإلى المراقبة العامة للثقافة
الاسلامية بالأزهر، وإلى العلماء والمفكرين ثم وزعناه على كثير من العلماء وقادة
الفكر، ومن أجل ذلك تمزق قلب الشيخ غيظا منا، وامتلأ ضغنا علينا
وأصبح لا يفتأ يرمينا بين آن وآخر بترهاته في مقالات ينشرها في مختلف المجلات
لا ينى في ذلك ولا يفتر! وكنت أعجب لذلك وأخجل ثم أقول: ما وراء

(1) هو الأستاذ أحمد حسن الزيات وقد توفى رحمه الله في 11 / 6 / 1968 رحمه الله رحمة
واسعة.
(2) كان ردنا هذا من أسباب إقصاء محب الدين الخطيب عن رياسة تحرير مجلة الأزهر لما تبين
من جهله وتلفيقه في علمه وقد تميز هو الآخر من الغيظ فأخذ يؤلب الناس ويحرضهم على نقد كتابنا في
كتب يطبعها بمطبعته لينتفع بأجر طبعها، وقد حسب هذا المغرور أن ذلك ينال منا، ولكنا بما
نعرف من تاريخه المشهور بين المطلعين عليه لم نأبه له ولا حسبنا له حسابا وتركناه يحترق بنار غيظه.
30

ذلك كله؟ وقد بدا ما أخفاه في نفسه: ذلك أن ضغنه قد انتهى به إلى أن يجمع
كل ما سوده قلمه في مدى عشر سنين كاملة مما حسبه نقدا وهو ليس من
النقد في شئ، وأن يسوى منه كتابا لم يلبث أن فزع به إلى رؤسائه مهولا
لهم في الامر، واستصرخهم بأن يدركوا السنة المحمدية مما يراد بها،، ويكاد لها،
وصور لهم كتابنا الأضواء في صورة مخيفة مروعة فاعتراهم الخوف، ورأوا أن
يستنصروا علماء الأقطار الاسلامية في أمر هذا الخطر الداهم على السنة، فعرضوا
الامر على مجمع البحوث الاسلامية (1) الذي يتألف من مئة عالم من أربعين
دولة إسلامية، وبعد أن بحثوا الامر من جميع نواحيه اتفق رأيهم على طبع
كتاب الشيخ أبو شهبة على نفقة الأزهر لأنه بزعمهم هو الذي يستطيع أن
يدفع عن السنة النبوية غوائل أعدائها الذين انقضوا عليها، وكذلك طبع الكتاب.
أصبح الامر قضية بيننا وبين الأزهر
وإني بعد ذلك كله لاستعلن بهذه الصيحة الصريحة وأرسلها تدوي بين
جميع الارجاء، أن الأزهر قد وضع كتابه وسماه (دفاع عن السنة) ليدفع به
هجمات الطاعنين فيها، وجعف كتابي هو وحده الطاعن في السنة مع المستشرقين
والذي يجب محاربته والقضاء عليه.
وإني في تواضع شديد أقول: إن كتابي هذا إنما وضعته في الحقيقة ليكون
دفاعا عن الحديث المحمدي مما ناله بفعل أعدائه وأوليائه على السواء، وما بذلت
ما بذلت من جهد ونصب سنين طويلة - في سبيل تأليفه إلا من أجل هذه

(1) نشرت جريدة الاخبار المصرية في عددها المؤرخ 20 / 7 / 1966 " أن أكثر من مئة
عالم من 40 دولة سيجتمعون في القاهرة خلال الشهر القادم بدعوة من (مجمع البحوث الاسلامية ويرأس
المؤتمر شيخ الأزهر - وسيكون في جدول أعمال المؤتمر " مكانة السنة في بيان الاحكام الاسلامية والرد
على مثيري الشبهات حول حجيتها أو رجالها وسندها والحديث وقيمته العلمية والدينية " وقد علمنا أن الدكتور
محمود حب الله أمين هذا المجمع كان أشد أعضاء المجمع حماسة لطبع كتاب الأزهر - وقالوا: إن ذلك
قد جاء من قوة إيمانه وشدة غيرته على السنة، ولأنه من كبار علمائها وله مؤلفات ومواقف عديدة في الذب
عنها وبيان حقيقتها!
31

الغاية البعيدة وعلى ذلك أصبح الامر بيني وبين الأزهر قضية تحتاج إلى
تحكيم قضاة عادلين، ليقضوا فيها بحكمهم النزيه.
وتلقاء ذلك رأيت من الواجب على أن أسارع إلى وضع كتابي هذا
بين أيدي جميع العلماء المحققين وقادة الفكر النابهين ذوي الرأي السديد،
والعقل الرشيد، الذين نزعوا عن أعناقهم أغلال الجمود، وخلصوا أيديهم
وأرجلهم من قيوده الثقيلة مصريين وغير مصريين، ليدرسوه مع كتاب الأزهر
ويوازنوا بينهما ثم يصدروا فيهما حكما قاطعا يتبين منه قيمة كل كتاب منهما،
وأيهما هو الأحق بالدفاع عن السنة، والأجدر بالقيام بهذا العبء الثقيل،
ثم أيهما الذي يخدم الحديث خدمة صحيحة ويحرص عليه ويبين حقيقة ما بأيدي
الناس منه أو غير ذلك: أهو كتاب الأزهر! أم هو كتاب الأضواء؟
على أن لا يكون بين القضاة في هذه القضية شيخ أزهري، حتى تتحقق
النزاهة ويصدر الحكم عدلا. وفى بلادنا وغير بلادنا من العلماء الاجلاء من
غير هؤلاء الشيوخ من يتولون هذه الحكومة بعدل وعلم ونزاهة.
وإني لراض كل الرضا ومطمئن غاية الاطمئنان بما يصدر في ذلك من
حكم الحاكمين سواء أكان على هذا الحكم أم لي!
ولو أن هذا الكتاب قد خرج باسم الشيخ أبو شهبة ولم يكن باسم الأزهر،
لأهملنا أمره ولنبذنا ظهريا كما فعلنا بغيره من سائر الكتب التي صدرت قبله
في نقد كتابنا، ذلك بأنه لا يمتاز منها بشئ، ولأن مؤلفه لا فرق بينه وبين
من سبقوه في النقد لا في العلم ولا في الفهم، فهم جميعا والحمد لله سواسية،
ونحن نعرفهم على حقيقتهم، ولا ينبئك مثل خبير.
ونختم هذه المقدمة بكلمة نبين فيها شيئا مما كيد لكتابنا.
إن هذا الكتاب - الذي قامت قيامتهم عليه، واعتوروه بالنقد سنين
عديدة من كل نواحيه، وهو كتاب الأضواء قد كتب الله له النجاح والرواج
بما لم نكن نحتسب، فبعونه تعالى نفدت طبعته الأول في زمن وجيز، ثم طبع
32

مرة ثانية بلبنان، وأخيرا ظهرت طبعته الثالثة على أكبر مطابع الشرق (1).
وهذا صنوه (شيخ المضيرة) نخرجه اليوم في طبعته الثالثة على مطابع هذه الدار
أكذلك بعد أن طبع مرتين في مدى سنتين، مما لا يتفق وقوعه لأي كتاب إلا في
الندرة - وقد جاء ذلك كله على رغم ما كان يتمنى أعداء الكتاب الذين كانوا يقدرون
أن لا يظهر في غير طبعته الأولى، وكانت تضم الكتابين معا، فجمعوا له
كيدهم. وحسبوا أنهم قد وأدوه بوهمهم، وبخاصة بعد أن حذروا الناس من
قراءته أو شرائه - وكأن الاقدار كانت تضحك وتسخر مما يقدرون، والله
غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
ولقد كان من توفيق الله وفضله أن ترجم كتاب شيخ المضيرة، وهو هذا
الكتاب، باللغة الفارسية، وانتشر في بلاد إيران وما وراءها من البلاد الاسلامية
وسننشر ترجمة مقدمة هذه الترجمة في آخر الكتاب لنفاستها ليطلع القراء عليها.
فنحمده تعالى أخلص الحمد، وشكره أجزل الشكر على أن كتب لكتابنا
هذا البقاء والنماء، وأن يظل نوره يتأرج في الارجاء. وهو سبحانه يحق الحق
ويبطل الباطل ولو كره الكافرون.
محمود أبو رية
يطيب لنا هنا أن نتمثل ببيتين من الشعر لولى الدين يكن رحمه الله:
كتابي سر في الأرض واسلك فجاجها * وخل عباد الله تتلوك ما تتلو
فما بك من أكذوبة فأخافها * ولا بك من جهل فيزري بك الجهل

(1) هي مطابع دار المعارف المشهورة.
33

تمهيد
قبل أن نمضي في الحديث عن تاريخ أبي هريرة، نرى من التدبير أن
نقدم بين يدينا صدرا وجيزا من القول عن الدعوة الاسلامية، ومن تصدى لها
من أعدائها في أول أمرها، لنمهد به إلى ما نحن بسبيله من غرضنا.
ذلك بأن أبا هريرة هذا الذي نؤرخ له قد عاش بجوار صاحب هذه الدعوة
صلوات الله عليه وقتا ما.
وقد اصطلحوا على أن يجعلوا مثله من صحابته - ثم انقلب بعد ذلك فاتصل
بمن كانوا أكبر أعداء الدعوة المحمدية وصاحبها من أول ظهورها، فظاهرهم،
وسار تحت رايتهم، ونال جزاءه على ذلك من رفدهم ونوالهم كما سنبينه بعد.
بعث الله محمدا صلى الله عليه وآله
بالهدى ودين الحق ليخرج الناس من الظلمات إلى
النور، ويهديهم بإذنه إلى الصراط المستقيم.
كان يدعو إلى الامر بالمعروف والنهى عن المنكر، ويأمر بالعدل والاحسان
وعمل الخير، واجتناب الشر، وما إلى ذلك من الاغراض النبيلة، والمقاصد
الجليلة، التي تكفل للانسان السعادة في دنياه وآخرته.
وإذا كان الأساس الأول للدعوة الاسلامية هو عبادة الله وحده وترك
الشرك في جميع مظاهره، فإن أهم غرض يرمى إليه الدين بعد ذلك، هو إنصاف أهل
الفقر من أهل الغنى، وأن يكون الناس جميعا سواسية في الحقوق الاجتماعية
والسياسية.
ومن أجل ذلك كان أول من ثار على هذه الدعوة الأغنياء، ذوو الثراء،
وبخاصة بنو أمية وبنو أبى معيط، وهم الذين كانوا مسيطرين على مكة حينئذ،
وسنعقد فصلا خاصا لدولتهم وكيف نشأت.
أما الفقراء والمساكين فقد استبشروا بدعوة محمد صلى الله عليه وآله
والتفوا حوله،
وأيقنوا أنهم بفضل دينه سينالون في الحياة حقهم الذي كتب الله لهم، وأنهم
سيعيشون كما يعيش الناس سعداء مطمئنين.
35

الحياة في مكة زمن البعثة
قضت حكمة الله أن يكون مبعث الرسول محمد صلى الله عليه وآله في البلاد العربية،
وأن تكون مكة أول بلد يشرق منه نور الاسلام.
وكان أهل مكة حينئذ يتألفون من طبقات ثلاث، طبقة أرسطقراطية
غنية، وهم صناديد قريش، وكانت مكة خالصة لهم، وأخرى متوسطة.
وثالثة فقيرة، وكان يعيش بين هذه الطبقات (الرقيق) الذين لم يكن لهم أي
حق في الحياة في الحقوق الانسانية، وإنما كانوا كالانعام أو العروض التجارية،
ملكا خالصا لأسيادهم، يسخرونهم في كل ما يريدون، ويتصرفون فيهم كما
يشاءون، إن بالهبة، وإن بالبيع، ويعاقبونهم بأنواع العقاب بغير أن يسألهم
أحد عما يفعلون.
فلما أمر النبي صلى الله عليه وآله أن ينذر قومه، وأن يدعوهم إلى البر والتقوى والعدل
والمساواة، وأنه لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، وتلا عليهم الآية
الكريمة (49: 13): " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا
وقبائل لتعارفوا. إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير " كبر ذلك على
كبار القوم وأغنيائهم، وعز عليهم أن يعلو شأن الفقراء بينهم، وأن يكون لهم،
حق معلوم في أموالهم، وأخذوا يحاربون هذه الدعوة بكل ما استطاعوا من قوة
فلم يجد النبي مناصا من أن يهاجر من مكة إلى المدينة، بعد ما لقي من أذى
قريش وعنتهم ما لقي أكثر من عشر سنين، ولكن قريشا لم تدعه يهدأ في
مهجره، بل لاحقوه هناك بعدائهم وبغيهم، وكان أبو سفيان بن حرب أشد
الناس عداوة للنبي صلى الله عليه وآله مما ستعرف نبأه فيما بعد.
ولم يجد النبي (صلوات الله عليه) راحة في المدينة التي هاجر إليها بعد
ما أصابه بمكة ما أصابه، فقد كثرت هناك أعداؤه، وزادت فيها أعباؤه،
فبعد أن كان في مكة يكيد له قريش وحدهم أصبح في المدينة وقد ظهر له
36

عدو شديد ماكرهم اليهود، ومع هؤلاء وهؤلاء انبعث عدو أخبث من خلق
الله وهم المنافقون - وكانت المدينة مباءة للنفاق، ولعل ذلك بسبب وجود اليهود
بينهم.
وأجمع هؤلاء الأعداء الأشداء أمرهم بينهم على أن يحاربوا النبي صلى الله عليه وآله
ودعوته حربا لا هوادة فيها، واتصلت هذه الحرب بينهم وبينه بضع سنين حتى
كان يوم فتح مكة فاستسلمت قريش وعلى رأسها أبو سفيان بن حرب ومن
النبي صلى الله عليه وآله عليهم بالعفو وسموا من هذا اليوم (الطلقاء) ثم زاد من فضله
عليهم وبره بهم - على ما كانوا يضمرون من بغض له ولدعوته في نفوسهم -
فتألفهم بالمال يهبه لهم وعاملهم بالحسنى وهم المعروفون (بالمؤلفة قلوبهم).
وقعة خيبر
وإذا كان ليس من همنا أن نتوسع هنا بالكلام عن تلك الحروب التي
وقعت بين النبي صلى الله عليه وآله وبين أعدائه لان هذا الكتاب لم يعقد لذلك، فإنه
لابد لنا من أن نشير إلى وقعة منها، لأنها تتصل بموضوعنا الذي نحن فيه،
تلك هي وقعة (خيبر).
كانت وقعة خيبر هذه سنة سبع من الهجرة وبعد أن فرغ النبي منها
منتصرا، قدم اليمنيون من بلادهم على النبي صلى الله عليه وآله ليسلموا، وكذلك قدم أبو هريرة
الذي هو موضوع كتابنا.
قدوم الأشعريين والدوسيين إلى النبي صلى الله عليه وسلم
خرج أبو موسى الأشعري ومن كان معه من الأشعريين من بلادهم - كما
قال هو - وقدم على النبي صلى الله عليه وآله الأشعريون منهم والدوسيون وهو بخيبر وكان
ذلك بعد أن افتتحت في سنة 7 ه‍. وإليك ما رواه البخاري عن أبي موسى
الأشعري:
37

بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه وآله ونحن باليمن (1) فخرجنا مهاجرين إليه أنا وإخوان
لي، أنا أصغرهم في 53 أو 52 رجلا من قومي، فركبنا سفينة فألقتنا إلى
النجاشي بالحبشة فوافقنا جعفر بن أبي طالب (2) فأقمنا معه حتى قدمنا جميعا
فوافقنا النبي حين افتتح خيبر (3).
وروى عنه البخاري كذلك: قدمنا على النبي بعد أن افتتح خيبر فقسم
لنا ولم يقسم لاحد لم يشهد الفتح غيرنا (4).
قال ابن حجر في الفتح وهو يشرح هذا القول: أراد أنه لم يسهم لاحد لم
يشهد الموقعة من غير استرضاء أحد من الفاتحين إلا لأصحاب السفينة التي قدم
عليها أبو موسى ومن معه.
ووقع عنه البيهقي، أن النبي قبل أن يقسم لهم كلم المسلمين فأشركوهم.
سبب تأخر الأشعريين
في القدوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم
وقد تكلم ابن حجر العسقلاني في فتح الباري عن أسباب تأخر الأشعريين
في القدوم إلى النبي فجعل من هذه الأسباب أنهم علموا ما كان المسلمون
فيه من المحاربة مع الكفار، فلما بلغتهم المهادنة أمنوا وطلبوا الوصول إليه (5)
ومعنى كلام ابن حجر صريح بأن هؤلاء الأشعريين لم يقدموا إلى النبي
أيام محنته في مكة ولا في زمن حروبه الطاحنة وهو بالمدينة لينصروه، ويجاهدوا
معه، بل هرعوا إليه بعد الغزوات الكبيرة التي انتصر فيها، وغنم منها المغانم،
من غزوة بدر وأحد والخندق أي بعد أن استقر أمر البعثة وأصبح لها شوكة
وهيبة وصولة! (6)

(1) من العجيب أن يقول أبو موسى الأشعري ذلك وقد كان مخرج النبي قبل ذلك بعشرين سنة.
(2) قال البلاذري إنه كان مع أبي موسى 40 رجلا وكان مع جعفر 16 رجلا.
(3) ص 391 ج 7 فتح الباري ويراجع ص 182 ج 6 من فتح الباري لابن حجر العسقلاني.
(4) ص 392 ج 7 من نفس المصدر.
(5) ص 39 ج 7 فتح الباري.
(6) ص 54 و 55 ج 3 أسد الغابة.
38

هذا هو أمر الأشعريين عامة الذين كانوا مع أبي موسى الأشعري، وقدومهم
على النبي صلى الله عليه وآله. أما قدوم أبي هريرة، فإليك نبأه الصحيح.
قدوم أبي هريرة إلى النبي صلى اله عليه وسلم
إن الثابت الصحيح الذي لا ريب فيه ومن قوله هو نفسه في ذلك: " أتيت
رسول الله وهو بخيبر بعد ما افتتحها، فقلت يا رسول الله أسهم لي، فكلم
المسلمين فأشركونا من سهامهم (1).
هذا هو أمر إسلام أبي هريرة وزمنه على حقيقته أما ما يقال غير ذلك
فمحض افتراء لا يلتفت إليه، وقد فندنا ما زعمه بعضهم من أنه أسلم وهو في
بلاده (2).
وقفة قصيرة هنا
لماذا تأخر قدوم أبي هريرة إلى النبي صلى الله عليه وآله؟
وهنا نقف وقفة قصيرة مع أبي هريرة ننظر: لماذا تأخر قدومه إلى النبي
صلى الله عليه وآله عشرين سنة كاملة، من مبدأ البعثة إلى وقعة خيبر التي كانت في
سنة 7 من الهجرة! على حين أن بلاده دانية من بلاد الحجاز؟
لم تأخر هذا الزمن الطويل إذا كانت له رغبة صادقة، ونية خالصة في
أن يتبع هذا الدين، ويكون مسلما مجاهدا مع المجاهدين؟
وإذا كان ابن حجر العسقلاني قد بين في إيجاز ورفق سبب تأخر الأشعريين
عن القدوم إلى النبي، فإن لأبي هريرة شأنا آخر غير شأن الأشعريين الذين
أسلموا مع في وقت واحد، ذلك أنه ثبت من تاريخه أنه كان لفقره يخدم الناس
بطعام بطنه (3)!.

(1) ص 31 ج 6 وص 393 ج 7 من فتح الباري، وستقابلك قصة هذا القدوم مفصلة في
مكانها من كتابنا هذا.
(2) راجع الكلمة التي رددنا فيها على العجاج مصنف كتاب (أبو هريرة) في آخر الكتاب.
(3) سترى كلاما مفصلا عن ذلك في مكانه من هذا الكتاب.
39

فإذا ما انتهى إلى مسمعه أن نبيا ظهر بمكة بدين يدعو إلى مساعدة البائسين،
وسد عوز المحتاجين، فإنه ولا ريب يغتبط بذلك ويشرق قلبه فرحا!
وإذا ما بلغه كذلك أنه بعد أن هاجر إلى المدينة قد أصبح مأوى المجاويع،
وأنه قد جعل للفقراء الذين يقصدون المدينة مكانا خاصا يؤون إليه، يطمعهم
فيه ويسقيهم (!) فإن نفسه تشرئب ولا جرم إلى ذلك، ويتمنى لو يضمه هذا
المأوى ليطعم فيه، ويكفي مشقة خدمة الناس، وما يلقى في سبيل ذلك من
نصب؟
وإذا علم غير هذا وذاك، أنه قد جعل للفقراء والمساكين نصيبا في مغانم
الحرب وأنه (صلوات الله عليه) قد اتخذ له موالي وخدما (2)..
إذا ما انتهى إليه كل ذلك وغيره فترى ماذا يكون أمره؟
إنه ولا شك يطير فرحا، ويهيم سرورا، وتشتد به الرغبة، ويستبد به
الطمع، وتلح عليه الحاجة، في أن يهرع إلى صاحب هذا الدين ليعيش في
كنفه، ويستظل بظله.
هذا أمر لا شك فيه، والجبلة الانسانية تميل إليه وتبعث عليه " ولكن
أنى له بلوغ ذلك، وكيف السبيل إليه وهو يسمع فيما يسمع كذلك أن الناس
يحاربون هذا النبي وأصحابه، وأن النضال المسلح متصل بينهم وبينه لا ينقطع -
وهو بطبعه يريدها سهلة غير ذات شوكة، لأنه ليس من أبطال الحروب،
ولا عهد له بميادين القتال، وأنه لم يخلق إلا ليخدم ويطعم من أجر خدمته!
تلقاء ذلك لم يجد مناصا من أن يصبر على مضض وأن يرتقب حتى تسكن
غمغمة الحرب بين النبي وأعدائه، ويرى لمن تكون الغلبة، شأنه في ذلك شأن
غيره في ذلك العهد ممن على شاكلته. وهم الذين كانوا يقولون في أنفسهم " دعوه
وقومه فإن غلبهم دخلنا في دينه. وإن غلبوه كفونا شره ".
وظل أبو هريرة يرتقب حتى فتح الله على نبيه ورسخت قواعد الدين.

(1) هو المكان المعروف بالصفة.
(2) انظر في ذلك أنساب الأشراف للبلاذري ص 467 تجد أسماء موالي النبي وخدمه.
40

وثبتت دعائمه، وبسط على أرجاء الأرض جناح سلطانه، وأصبح كل من
اتبعه وصدق بدعوته آمنا مطمئنا لا يخشى ظلما ولا رهقا.
حينئذ طابت نفسه، واطمأن قلبه، وذهب الخوف عنه. ولم يلبث أن
ركب رجليه واتخذ طريقه إلى النبي ليخدمه على ملء بطنه، ويملأ يده من
مغانمه، ويسكن المأوى الذي أعده للفقراء من أتباعه. وكان ذلك في شهر
صفر سنة 7 ه‍.
وكان له ما أراد عندما اتصل بالنبي، وحقق كل ما كان يبتغيه، فأطعمه
النبي ومن عليه بالعطاء من غنائم خيبر - وهو لم يشهدها -، وأسكنه المأوى
الذي أعده للفقراء وهو الصفة (1).
وما نذكره هنا أمر ثابت لم نتهمه به، ولم نفتر عليه فيه، ذلك بأنه قد اعترف
هو مرارا بأنه قد خدم النبي على ملء بطنه وستري ذلك مبينا في مكانه من هذا
الكتاب، واعترافه الصريح من أول يوم لقي فيه النبي. وما كاد يملا عينه من
رؤية مغنم خيبر حتى رنا إليها، وطالب بنصيب فيها، على حين أنه لم يشهدها،
وله في ذلك قصة ستقف عليها في موضعها من هذا الكتاب.
والذي نستطيع أن نقطع به ونحن مطمئنون إليه بما تبين لنا من القرائن
والأدلة الصحيحة وما بدا من اعترافاته الصريحة أن أبا هريرة - إنما كان يبتغى
من قدومه على النبي صلى الله عليه وسلم أن يحقق مطامعه الشخصية، ومآربه
الذاتية لا ليلتمس أن يتفقه في الدين كما يفعل غيره من الذين أسلموا مخلصين.
ولعلك ترى الفرق الهائل بينه وبين غيره من الذين كانوا يقدمون على النبي
عن طواعية، مخلصة قلوبهم، راضية نفوسهم بالدين الحنيف.
ولنضرب لذلك مثلا واحدا من أمثله كثيرة لا تحصى.
ذلك هو مثل إياس بن عمير الحميري الذي قدم وافدا على النبي في نفر
من حمير - إذ بينما نجد أبا هريرة يصرح تصريحا لا لبس فيه ولا إبهام بأنه قد
جاء إلى النبي ليخدمه على ملء بطنه، إذ بهذا الحميري ومن معه يقولون للنبي:

(1) زعم أبو هريرة أنه كان عريفا لأهل الصفة واعتمد المؤرخون على روايته وحده في ذلك
ولكن لم يأت في ذلك خبر صحيح من غيره.
41

" أتيناك يا رسول الله لنتفقه في الدين " (1).
هذا هو الاسلام الصحيح، والايمان الخالص لوجه الله، الذي ليس وراءه
أي مأرب شخصي أو غرض ذاتي.
وإنا بعد ذلك نمضي فيما أخذنا على أنفسنا أن نقوم به من ترجمة أبي هريرة
الذي أفردناه دون الصحابة جميعا بالتأريخ، لأنه كان أكثرهم تحديثا عن
النبي، على حين أنه لم يصاحبه صلوات الله عليه إلا عاما وبعض عام، ونفذت
رواياته إلى عقائد المسلمين وأحكامهم وغير ذلك على ما فيها من خرافات وشبهات
ومشكلات كانت مبعث ضيق لصدر المسلمين، وانتقادا على الدين الاسلامي
من غير المسلمين!

(1) ص 79 ج 8 فتح الباري.
42

أبو هريرة
الاختلاف في اسمه:
لم يختلف الناس في اسم أحد في الجاهلية والاسلام، مثل ما اختلفوا في
اسم " أبي هريرة " فلا يعرف على التحقيق اسمه الذي سماه به أهله ليدعى بين
الناس به، وكذلك اختلفوا في اسم أبيه اختلافا كثيرا.
قال النووي: اختلف في اسمه واسم أبيه على نحو من ثلاثين قولا.
وقال القطب الحلبي: اجتمع في اسمه واسم أبيه أربعة وأربعون قولا مذكورة
الكنى للحاكم وقد ذكر ذلك ابن حجر في الإصابة (1).
وقال حافظ المغرب ابن عبد البر في الاستيعاب:
" واختلفوا في اسم أبي هريرة واسم أبيه اختلافا كثيرا، لا يحاط به،
ولا يضبط في الجاهلية والاسلام - وقال: ومثل هذا الاختلاف والاضطراب
لا يصح معه شئ يعتمد عليه، وقد غلبت عليه كنيته - فهو كمن لا اسم له
غيرها، وأولى المواضع بذكره الكنى (2) أي لا يذكر اسمه بين الأسماء، وإنما
يذكر في الكنى.
وفى أسد الغابة: وقد اختلف في اسمه اختلافا كثيرا لم يختلف في اسم
آخر قبله ولا يقاربه (3). أما أمه فقد ذكروا أن اسمها (أميمة).
وقال الفيروز آبادي: واختلف في اسمه على نيف وثلاثين قولا.
ومما أوردناه لك يكون الجزم باسم صحيح يطلق عليه من ضروب التخمين،
فنكتفي بذكر كنيته التي التصقت به والتحمت وظهرت على الألسنة في حياته
وبعد موته، وقد بين هو سببها فقال:

(1) 99 ج 7.
(2) ص 718 و 719 ج 2 طبعة الهند و 1170 و 1171 من القسم الرابع طبعة مصر.
(3) ص 315 و 316 ج 5.
43

كنت أرعى غنم أهلي، وكانت لي هرة صغيرة فكنت أضعها بالليل في
شجرة وإذا كان النهار ذهبت بها معي فكنوني أبا هريرة، ولا ضير من تصديق
ما قاله، ويبدو أن هذه الهرة قد ظلت تلازمه وهو بالمدينة، فقد رآه النبي
وهو يحملها في كمه فقال: يا أبا هريرة، واشتهر به، كما ذكر ذلك
الفيروزآبادي في قاموسه المحيط.
أصله ونشأته
كل ما عرف عن أصله - على ما قيل - أنه من عشيرة سليم بن فهم من
قبيلة أزد، ثم من دوس إحدى قبائل العرب الجنوبية - أما نشأته فلم يعرفوا عنها
شيئا - وكذلك لم يعرف الناس عن حياته في بلاده (اليمن) في مدى السنين التي
قضاها بها قبل إسلامه - غير ما قاله هو عن نفسه من أنه كان يرعى الغنم
وكان فقيرا معدما يخدم الناس بطعام بطنه، وروى عنه ابن قتيبة قال: نشأت
يتيما وهاجرت مسكينا وكنت أجيرا لبسرة بنت غزوان بطعام بطني وعقبة رجلي
فكنت أخدم إذا نزلوا، وأحدوا إذا ركبوا (1).
وأخرجه ابن سعد عن أبي هريرة قال: وقد رأيتني وإني لأجير لابن عفان
وابنة غزوان بطعام بطني وعقبة رجلي (2)، أسوق إذا ارتحلوا وأحدوا (3) بهم
إذا نزلوا (4). ولقد كان أبو هريرة أميا لا يقرأ ولا يكتب، وظل على أميته طول حياته.

(1) ص 120 من كتاب المعارف.
(2) العقبة أي نوبة ركوبه.
(3) يبدو أن هذا الحداء الذي كان يحسنه أبو هريرة هو الذي جعله يطلب من العلاء بن
الحضرمي أن يجعله مؤذنا وهو بالبحرين * وقد ظل يهوى التأذين حتى بعد أن زادت سنه على الستين.
فقد ثبت أنه كان يؤذن كذلك لمروان بن الحكم وهو حاكم على المدينة من قبل معاوية سنة 41 ه‍.
كما ستراه فيما بعد.
(4) ص 53 ج 4 قسم 2 من الطبقات وص 440 ج 2 سير أعلام النبلاء.
44

قدومه إلى النبي وهو بخيبر
لما سمع أبو هريرة ببعثة النبي وانتشار دعوته وانتصاره على أعدائه قدم إليه
صلوات الله عليه وهو بخيبر كما قدم غيره من الدوسيين الأشعريين (1) وكان
ذلك بعد أن تخطى الثلاثين من عمره، وذلك بعد ما افتتحوها - كما ذكر
هو نفسه في قوله: أتيت رسول الله وهو بخيبر بعدما افتتحوها (2).
قال ابن سعد في طبقاته وهو يتكلم عن غزوة خيبر:
وقدم الدوسيون فيهم أبو هريرة وقدم الطفيل بن عمرو وقدم الأشعريون
ورسول الله بخيبر فلحقوه بها فكلم رسول الله أصحابه فيهم أن يشركوهم في الغنيمة
ففعلوا (3).
وقال المقريزي في إمتاع الاسماع:
وقدم الدوسيون فيهم أبو هريرة والطفيل بن عمرو وأصحابهم ونفر من الأشعريين،
فكلم رسول الله أصحابه فيهم أن يشركوهم في الغنيمة، فقالوا نعم يا رسول الله (4).
ونقل ابن حجر في الإصابة عن ابن أبي حاتم قدوم الطفيل بن عمرو
وأبي هريرة على النبي بخيبر (5).
ولما رأى كثرة مغانم هذه الغزوة جاشت مطامعه وطلب من رسول الله أن
يسهم له، ثم تدخل فيما لا يعنيه، فطلب من النبي أن لا يسهم لأبان بن سعيد
ابن العاص الذي كان ممن خاضوا غمار هذه الغزوة. فانبرى له أبان بن سعيد
وأغلظ له في القول وأهانه، لأنه لم يكن من الذين اصطلوا بنار الغزو ولا اشترك
في الجهاد - فكيف تطمع نفسه في أن يشارك في المغانم، وقد بلغ من إيلام

(1) راجع ما كتبنا آنفا.
(2) ص 31 ج 6 و 391 و 397 ج 7 من فتح الباري وص 436 ج 2 سير أعلام النبلاء
الذهبي وص 102 ج 8 من البداية والنهاية.
(3) ص 78 ج 1.
(4) ص 326 ج 1.
(5) ص 287 ج 3.
45

أبان لأبي هريرة، أن قال له: واعجبا لوبر (1) تدلى علينا من قدوم ضأن (2)،
وفى رواية: يا وبر تحدر من رأس ضال، فقال النبي: يا أبان، اجلس،
ولم يقسم له، وتلقى أبو هريرة هذه الإهانة فقبع، ولم يجد له جوابا يرد
به على أبان.
وقد علق الخطابي على قول أبان هذا فقال: أراد أبان تحقير أبي هريرة،.
وأنه ليس في قدر من يشير بعطاء، ولا منع، لأنه قليل القدرة على القتال.
وعن أبي الحسن القابسي: أن معناه أنه ملصق في قريش، وشبهه بما يعلق
بوبر الشاة من الشوك وغيره.
ولو كان لأبي هريرة نفس يعرف قدرها، أو كرامة يحافظ عليها، لأبي أن
تمتد يده إلى ما ليس من حقه، أو يرنو بعينيه إلى مغانم حرب لم يشهدها، ولما
تعرض لهذا الازدراء والتحقير - وبخاصة - وهو في أول يوم يلقى النبي وأصحابه فيه.
ومن العجيب أنه كان حينئذ بين بضع وخمسين من الأشعريين ومنهم
أبو موسى الأشعري، وقد أسلم معهم عمران بن حصين الخزاعي وأبوه سبيد
ابن خلف والطفيل بن عمرو (3) ولكن لم يبد من أحد منهم جميعا مثل ما بدا
من أبي هريرة بل ظلوا قانعين حتى أعطاهم النبي من مغانم خيبر من غير
أسهم المحاربين.

(1) الوبر دويبة صغيرة وحشية كالسنور، ونقل أبو على القالي عن أبي حاتم أن بعض العرب
يسمى كل دابة من حشران الأرض وبرا - وقال الفريق أمين المعلوف باشا في كتابه " معجم الحيوان ":
إنه حيوان، من ذوات الحافر في حجم الأرنب أطحل اللون أي ما بين الغبرة والسواد. قصير الذيل يحرك
فكه الأسفل كأنه يجتر.
(2) قدوم ضأن جبل في أرض دوس قوم أبي هريرة - وقيل هو رأس جبلي لأنه في الغالب
مرعى غنم.
(3) ص 393 ج 2 سير أعلام النبلاء.
46

مفتاح شخصيته
وإن ما بدا من أبي هريرة في خيبر، وكشف به - من أول يوم - عن
مكنون مطامعه، وخفى مآربه، وحقيقة نفسه، ثم ما وقع منه وهو في الصفة، لمما
يصح أن يجعله المؤرخ (مفتاحا لشخصيته).
ولا ريب في أن النبي صلى الله عليه وآله قد أسقطه من عينه، فلم يقم له من يومئذ
وزنا، ووضعه بين أصحابه في المكان الذي يليق به - وآية ذلك أنه صلوات الله
عليه لم يؤاخذ أبانا بما أغلظ له في القول - على حين أنه كان صلى الله عليه وآله يغضب
غضبا شديدا عندما ينال أحد (أصحابه) إهانة من (صحابي) آخر كما فعل
عندما حصل لعمار بن ياسر، أو عبد الرحمن بن عوف أو غيرهما - فإنه
عندما تقاول خالد بن الوليد، وعبد الرحمن بن عوف في بعض الغزوات،
وأغلظ خالد في المقال لعبد الرحمن بن عوف، وبلغ ذلك رسول الله غضب
غضبا شديدا وقال: لا تسبوا أصحابي - الحديث، ومن جهلهم يجعلون حكم
هذا الحديث عاما بحيث يشمل الصحابة جميعا (1)
أما ما كان بين أبان وأبي هريرة فقد أغضى النبي عنه، ولم يقل لأبان
شيئا، واكتفى بأن قال له: اجلس يا أبان، ولم يسهم لأبي هريرة وتركه يغدو
مغيظا محنقا، وكأنه بذلك قد أقر أبانا على ما فعل بأبي هريرة.
وأبو هريرة كان في هذا اليوم يعد ضيفا، والضيف له حرمة يستحق
التكريم من أجلها، ولو بكلمة طيبة، ولكنه لم يظفر من النبي بها. وحقت
عليه المهانة أمام الصحابة جميعا من أول يوم جاء فيه إلى النبي صلى الله عليه وآله.
سبب صحبة أبي هريرة للنبي صلى الله عليه وسلم:
كان أبو هريرة صريحا في الإبانة عن سبب صحبته للنبي فلم يقل إنه قد
صاحبه للمحبة أو للهداية كغيره، من الذين كانوا يسلمون وإنما قال: إنه
صاحبه على (ملء بطنه).

(1) يراجع فصل عدالة الصحابة بكتابنا (أضواء على السنة) الطبعة الثالثة.
47

ففي حديث رواه أحمد والشيخان عن الزهري عن عبد الرحمن بن الأعرج
قال:
سمعت أبا هريرة يقول: إني كنت امرأ مسكينا أصحب رسول الله على
ملء بطني (1).
وفى رواية أخرى " لشبع بطني " ورواية الكشميهني " بشبع بطني " (2).
وفى رواية لمسلم كنت رجلا مسكينا أخدم رسول الله على ملء بطني - وفى
رواية له أيضا - وكنت ألزم رسول الله على ملء بطني (3).
وقال ابن حجر العسقلاني في شرح أحاديث البخاري التي جاءت بلفظ
(لشبع ولفظ بشبع) والمعنى مختلف فإن الذي بالباء يشعر بالمعاوضة - ولكن
رواية اللام لا تنفيها ورواية بشبع أي لأجل الشبع.
وقال كذلك في شرح الرواية التي جاءت بلفظ (لشبع): لشبع بلام
التعليل وهو الأكثر وهو الثابت في غير البخاري (4).
وهذا الذي اعترف به أبو هريرة ننقله على حقيقته بغير أن نخرم منه حرفا.
والاعتراف كما يقولون (سيد الأدلة) ولا علينا مما يقال بعد ذلك (5)!!

(1) ص 271 و 272 ج 13 من فتح الباري والأعرج هو تلميذ أبي هريرة.
(2) ص 61 ج 7 من نفس المصدر.
(3) على هنا للتعليل - قال ابن هشام وهو يتكلم عن معاني (على) في المعنى: إنها تكون للتعليل
كاللام نحو: ولتكبروا الله على ما هداكم. أي لهدايته إياكم.
(4) ص 173 ج 1 فتح الباري.
(5) كان هذا الامر من الهنات الثلاث التي أخذها الدكتور طه حسين علينا في كلمته النفيسة
التي كتبها عن كتابنا (الأضواء) * وأولاها أنه شك في اشتراك كعب الأحبار في مؤامرة قتل عمر وزاد
من شكه أن تهكم بالخبر! وشك كذلك في أن أبا هريرة قد أسلم على ملء بطنه، وأنه كان يأكل مع
معاوية ويصلى خلف علي (ع) وقد عجبنا أن يجهل مثله وهو من كبار العلماء هذه الأمور ويفوته
معرفتها، وهي ثابتة صحيحة لا يستطيع أحد أن يماري فيها - وقد زال عجبي عند ما تبين للدكتور بعد
دراسته لتاريخ عمر أن ما قلناه عن اشتراك كعب في مؤامرة قتل عمر صحيح * * وقلنا ولو أنه قد درس
تاريخ أبي هريرة حق الدرس كما درس تاريخ عمر لعرف أن كل ما قلته لا شك فيه ولا يمكن دفعه.
* راجع هذه الكلمة في صدر الطبعة الثالثة من كتاب الأضواء.
* * راجع ص 254 إلى 257 من كتاب (الشيخان) للدكتور طه حسين.
48

حياة أبي هريرة بعد إسلامه في المدينة:
لما انصرف النبي صلى الله عليه وآله إلى المدينة بعد فتح خيبر رجع معه أبو هريرة
فيمن رجعوا - كان الظن أن يتخذ سبيله وهو بالمدينة إلى السعي في مناكب
الأرض ليأكل من رزق الله، إما بالصفق في الأسواق، أو بالزرع في
الأرض، كما كان يفعل غيره. لكي يعيش عيشة كريمة، ولكنه تنكب
طريق العمل واتخذ سبيله إلى مثابة ليس لمن يؤمها أي عمل إلا أن يتلقى
ما تجود به نفوس المحسنين من فضلاتهم وصدقاتهم، التي سماها النبي أوساخا
- فيطعم هو ومن معه من الذين أخلدوا إلى الخمول والكسل، شأن سكنة
التكايا والخوانق، وقد فعل ذلك ليثبت بفعله ما أعلنه بقوله: من أنه خدم
النبي لملء بطنه، ولو أنه آثر الأجدر بالرجال، والأخلق بالذين يحافظون
على كرامتهم - أو لو أنه اتبع ما رواه هو عن النبي صلى الله عليه وآله من قوله صلى الله عليه وآله:
والذي نفسي بيده لان يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره فيأكل - خير
له من أن يأتي رجلا أغناه الله من فضله فيسأله، أعطاه أو منعه (1). لو أنه
فعل ذلك لوجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة، ولعاش كريما، عيشة رغدا!
ولكنه اختار أن يسأل الناس فهذا يعطيه - وهذا يمنعه، كما صرح هو
مرارا فيما ستقرؤه من بعد.
وانظر الفرق بينه وبين غيره مثل عبد الرحمن بن عوف، الذي آخى
النبي بينه وبين سعد بن الربيع، وكان ذا غنى. فقال له سعد: أقاسمك مالي
نصفين وأزوجك! فقال له عبد الرحمن بن عوف، بارك الله لك في أهلك
ومالك. دلوني على السوق (2).
ومن يقرأ ما صرح به أبو هريرة مرارا عن نفسه، وما وصف من سوء حاله،
يتبين له أن معيشته كانت ضنكا أيام إقامته بالمدينة في عهد النبي، حتى لقد
بلغ من شدة بؤسه وفاقته، أن كان يصرع من الجوع، حتى وصف بعضهم
هذا الصرع بالجنون.

(1) رواه أحمد والبخاري ومسلم.
(2) ص 232 ج 4 من فتح الباري.
49

سكنه في الصفة
أما المثابة التي لجأ إليها أبو هريرة، ورضى بها مقاما له فهي (الصفة) (1)
وقد نص أبو نعيم في حلية الأولياء (2) على أن أبا هريرة كان أشهر من سكن
الصفة ولم ينتقل عنها - إلا عندما أقصى من المدينة كما ستعرف ذلك.
ومن قول أبي هريرة: كنت من أهل الصفة، وكنا إذا أمسينا حضرنا
رسول الله، فيأمر كل رجل فينصرف برجل أو أكثر (3).
وقال (4): رأيت سبعين من أصحاب الصفة، وما منهم رجل عليه رداء،
وإنما عليه إما إزار وإما كساء ربطوه في أعناقهم، فمنها ما يبلغ نصف الساقين،
ومنها ما يبلغ الكعبين فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته.
وقال واثلة بن الأسقع (5): كنت من أصحاب الصفة، وما منا إنسان يجد
ثوبا تاما، قد جعل الغبار والعرق في جلودنا طرقا.
حياة أبي هريرة في الصفة
أما حياته في الصفة، فندع له هو وصفها بلسانه، ولا نزيد شيئا من
عندنا عليها حتى لا نرمي بالطعن فيه أو بالتحامل عليه.
قال رحمه الله فيما أخرجه ابن نعيم في الحلية (6):

(1) الصفة موقع مظلل في مؤخرة مسجد النبي بالمدينة من الجهة الشمالية، وأهلها الذين
يتخذونها سكنا لهم هم - كما قال أبو الفداء في تاريخه المختصر -: أناس فقراء لا منازل لهم ولا عشائر
ينامون على عهد رسول الله في المسجد ويظلون فيه - وكانت صفة المسجد مثواهم، فنسبوا إليها - وكان
إذا تعشى رسول الله يدعو طائفة منهم يتعشون معه أو يفرق طائفة منهم على الصحابة ليعشوهم، وكانوا
يكثرون فيها ويقلون بسبب من يتزوج منهم أو يسافر أو يعمل في الأرض - اللهم إلا أبو هريرة فقد
ظل فيها لا يبرحها إلى أن انتقل منها إلى البحرين كما سنبينه لك.
(2) ص 376 ج 2 من فتح الباري.
(3) ص 238 ج 11 البخاري.
(4) ص 416 من نفس المصدر.
(5) ص 172 ج 1 من أنساب الأشراف.
(6) ص 378 ج 1.
50

كنت من أهل الصفة فظللت صائما فأمسيت وأنا أشتكي بطني، فانطلقت
لأقضي حاجتي، فجئت وقد أكل الطعام، وكان أغنياء قريش يبعثون بالطعام
لأهل الصفة، وقلت: إلى من أذهب؟ فقيل لي، اذهب إلى عمر بن الخطاب،
فأتيته وهو يسبح بعد الصلاة، فانتظرته فلما انصرف دنوت منه، فقلت:
أقرئني! وما أريد إلا الطعام! قال: فأقرأني آيات من سورة آل عمران،
فلما بلغ أهله دخل وتركني على الباب، فأبطأ فقلت ينزع ثيابه! ثم يأمر
لي بطعام! فلم أر شيئا!
وروى البخاري (1) عنه قال: والله الذي لا إله إلا هو، إن كنت لأعتمد
بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع،
ولقد قعدت يوما على طريقهم الذي يخرجون منه من المسجد، فمر أبو بكر
فسألته عن آية من كتاب الله وما سألته إلا (ليشبعني) - فمر ولم يفعل ثم مر
عمر بي فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني فلم يفعل - الحديث
وروى البخاري عن أبي هريرة قال:
أصابني جهد شديد فلقيت عمر بن الخطاب. فاستقرأته آية من كتاب
الله، فدخل داره وفتحها على فمشيت غير بعيد فخررت لوجهي من الجهد
والجوع!
قال ابن حجر في شرح هذا الحديث (فاستقرأته آية) أي سألته أن يقرأ
على آية من القرآن، آية معينة، على طريق الاستفادة وفى غالب النسخ
(فاستقريته) بغير همزة - وهو جائز على التسهيل، وإن كان أصله الهمزة (2).
وبينما يقول ابن حجر ذلك، إذ ببعض الجهلاء الذين ردوا علينا يقول إنها
من القرى!
وروى البخاري عنه قال: لقد رأيتني وإني لاخر فيما بين منبر رسول الله
إلى حجرة عائشة مغشيا على فيجئ الجائي فيضع رجله على عنقي ويرى أنى
مجنون وما بي من جنون! ما بي إلا جوع (3).
.

(1) 236 و 237 ج 11 من فتح الباري.
(2) ص 428 ج 9 من فتح الباري.
(3) ص 259 و 260 ج 13 من فتح الباري
51

والاخبار كثيرة عن حياته وهو في الصفة فنكتفي بما أوردناه هنا منها،
وليس القصد من نقلها أن نعيب على أبي هريرة فقره الذي اعترف به، كما فهم
بعض الأغبياء، فليس في الفقر من عيب وإنما لنبين ناحية من تاريخه لا بد
أن تعرف.
أين كان المزود وهو يتلوى من الجوع؟
على أن مما لا يقضى الانسان منه عجبا، أن أبا هريرة بينما يصف هنا
ما ناله من الجوع هذا الوصف الذي يرق له قلب الشحيح، إذ به يزعم في ناحية
أخرى أنه كن له مزود فيه بقية من تمر فمسها النبي صلى الله عليه وآله بيده الكريمة وقال
له: كل من هذا المزود (1) ما شئت في أي وقت، فأصبح به غنيا عن الناس،
وظل يأكل منه حياة النبي صلى الله عليه وآله وحياة أبى بكر وحياة عمر، وحياة عثمان
إلى أن أغارت جيوش الشام على المدينة بعد قتل عثمان فانتهبته، وقد حسب
أبو هريرة ما أكله من مزوده في هذه الفترة فوجده مئتي وسق!
فانظر إلى هذه الغرائب بغير أن تحدثك نفسك بالاعتراض عليها أو
الشك فيها، لان أبا هريرة لا تنقضي عجائبه! ثم إنه يعد من الصحابة الذين
يحرم أن يتجه إليهم أي نقد!
وهنا يبدو سؤال: هل يا ترى ظل هذا المزود معلقا بحقوه عند ما أقصى
إلى البحرين مع العلاء بن الحضرمي، أو تركه أبو هريرة ليأكل منه غيره من
أهل الصفة حتى يعود فيأخذه؟
ولعلنا نجد من يتفضل بالجواب، ويكون له من الله حسن الثواب، ومن
الناس ومنا الثناء المستطاب.
* * *

(1) سيأتيك نبأ هذا المزود فيما بعد.
52

أبو هريرة وجعفر بن أبي طالب (1)
كان الذي يسعف أبا هريرة عندما كان يستطعم الناس فيزورون عنه،
وينفرون منه - كما علمت - جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه.
فقد روى البخاري (2) عن أبي هريرة قال: " كنت أستقرئ الرجل الآية
- هي معي - كي ينقلب بي فيطعمني، وكان أخير الناس للمسكين -
جعفر بن أبي طالب - كان ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته ".
وروى الترمذي عنه: وكنت إذا سألت جعفرا عن آية لم يجبني حتى
يذهب إلى منزله (3).
ومن أجل ذلك كان جعفر عند أبي هريرة أفضل الصحابة جميعا،
ففضله على أبى بكر وعمر وعلى وغيرهم، فقد أخرج الترمذي والنسائي بإسناد
صحيح عن أبي هريرة: ما احتذى النعال، ولا ركب المطايا ولا وطئ التراب -
بعد رسول الله - أفضل من جعفر بن أبي طالب، وقد جاء هذا الخبر كذلك
في كتاب سير أعلام النبلاء للذهبي (4).
هذه كانت حياة أبي هريرة في الصفة وهو بالمدينة، فلم يكن له شأن
يذكر، ولا عمل يؤثر.

(1) كان جعفر بن أبي طالب يحب المساكين، ويحسن إليهم، وكان رسول الله يكنيه
أبا المساكين. وفى كتاب " أنباء نجباء الأبناء " لأبي ظفر الصقلي: دخل مرة أبو سفيان بن حرب
على ابنته أم حبيبة زوج النبي فوجد عندها عبد الله بن جعفر وهو صبي، فقال لها. أي بنية، من
هذا الغلام الذي يتضوع كرما، ويتألق شرفا، ويتميع حياء؟ فقالت: من تظنه؟ فقال:
أما الشمائل فهاشمية! قالت: نعم، وهو هاشمي، فمن تظنه من بنى هاشم؟ فتأمله، ثم قال:
إذا لم يلده جعفر فلست بسداد البطحاء! فقالت أم حبيبة: نعم هو ابن جعفر! فقال:
أما إنه لم يمت من خلف مثل هذا.
(2) ص 61 و 62 ج 7 من فتح الباري.
(3) لما يعرف من عادته.
(4) ص 158 ج 1.
53

نهم أبي هريرة
لشخصية أبي هريرة نواح كثيرة منها نهمه الشديد للطعام، ومن أجل ذلك
كان - كما علمت - يتكفف الأبواب ويستكف الناس (1)، وهذا النهم
كان له ولا ريب أثر بعيد في حياته، وقد لازمته هذه الصفة طول عمره حتى
لقد جاءت الرواية الصحيحة أنه لما نشب القتال في صفين بين على رضي الله عنه
وبين معاوية - كان يأكل على مائدة معاوية الفاخرة، ويصلى وراء
على، وإذا احتدم القتال لزم الجبل (2).
ومرد ذلك إلى أنه لم يؤت قناعة في نفسه تعصمه من التعرض لما يأتي من
ورائها من زراية الناس واحتقارهم.
وقد عرضنا لذكر هذه الخلة فيه حتى لا يبدو تاريخنا له غير كامل.
ولقد تبين لك مما رواه هو عن نفسه أنه قد بلغ من أمره أنه كان يعترض
الناس في طرقهم، ويغشاهم في بيوتهم ليستطعمهم، وأنهم كانوا، يصرفون
وجوههم عنه. وقد اشتهر ذلك عنه حتى لقد اضطر النبي صلوات الله عليه
أن يأمره بأن يزور الناس غبا كما ستقف عليه فيما بعد، وقد ظلت هذه الشهرة
تلاحقه على مد التاريخ كله.
وسيقابلك كذلك بعض ما ذكره العلماء والكتاب في هذا النهم وبخاصة
شغفه بالمضيرة.

(1) استكف مد كفه للسؤال، وتكفف الأبواب إذا وقف بها سائلا.
(2) ص 64 ج 1 شذرات الذهب في تاريخ من ذهب لابن العماد الحنبلي - وقد ذكر هذا
الخبر مؤرخون كثيرون غير ابن العماد وما يزال يدور على الألسنة في كل عصر ومصر.
54

شيخ المضيرة
كان أبو هريرة يلقب (بشيخ المضيرة) وهو صنف من الطعام كان
مشهورا بين أطعمة معاوية الفاخرة.
وقد نالت هذه المضيرة من عناية الكتاب والشعراء ما لم ينله صنف آخر
من الطعام، وظلوا يتندرون بها، ويغمزونه قرونا طويلة من أجلها.
وإليك بعض ما كتبوه فيها:
قال الثعالبي في كتابه (ثمار القلوب في المضاف والمنسوب) (1) ما يلي:
شيخ المضيرة (2): كان أبو هريرة على فضله واختصاصه (3) بالنبي
مزاحا أكولا وكان يدعى الطب (4) فيقول: أكل التمر أمان من القولنج،
وشرب العسل على الريق أمان من الفالج، وأكل السفرجل يحسن الولد وأكل
الرمان يصلح الكبد، والزبيب يشد العصب، ويذهب الوصب والنصب،
والكرفس يقوى المعدة، والقرع يزيد في اللب، ويرق البشرة، وأطيب اللحم
الكتف وحواشي فقار العنق والظهر. وكان يديم أكل الهريسة والفالوذج (5)

(1) ص 86 و 87 من طبعة مطبعة الظاهر سنة 1326 ه‍ وص 111 و 112 طبعة دار
نهضة مصر 1384 - 1965.
(2) المضيرة لحم يطبخ باللبن وربما خلط بالحليب وهو الأجود ثم يضيفون إليه من الابزار
ما يوفر اللذة في طعمه، وله مريقة يحمدون أكلها. قال الأستاذ الإمام محمد عبده في شرح مقامات
بديع الزمان الهمذاني: ربما تكون لبنية بلاد الشام هي المضيرة، وكانت من أطايب أطعمة معاوية
حتى ضربوا المثل بها.
(3) لم يكن أبو هريرة مختصا بالنبي كما ذكر الثعالبي.
(4) من ينعم النظر في طب أبي هريرة يجده كله أطعمة تشفي داء الأمعاء. وتداوي نهم البطن.
(5) أطايب أطعمة العرب التي ضرب بها المثل: مضيرة معاوية، وثريد غسان. وفالوذج
ابن جدعان، وكان ملوك غسان يختصون من بين ملوك العرب بالطيبات، ولهم الثريدة التي أجمعت
العرب على أنه ليست ثريدة أطيب منها - وكان عبد الله بن جدعان من مطعمي قريش كهاشم بن
عبد مناف، وهو أول من عمل الفالوذج للأضياف وفيه يقول أمية بن أبي الصلت.
له داع بمكة مشمعل * وآخر فوق دارته ينادى
إلى ردح من الشيزى ملاء * لباب البر يلبك بالشهاد *
* الشهاد عسل النحل.
55

ويقول: هما مادتا الولد، وكان يعجبه المضيرة جدا، فكان يأكل مع معاوية
فإذا حضرت الصلاة صلى خلف على رضي الله عنه، فإذا قيل له في ذلك
قال: مضيرة معاوية أدسم، والصلاة خلف على أفضل، وكان يقال له (شيخ
المضيرة) وفيه يقول الشاعر.
وتولى أبو هريرة عن نصر * علي ليستفيد الثريدا
ولعمري إن الثريد كثير * للذي ليس يستخف الهبيدا (1)
وقال الزمخشري في ربيع الأبرار: وكان أبو هريرة يعجبه المضيرة فيأكلها
مع معاوية، وإذا حضرت الصلاة، صلى خلف على، فإذا قيل له في ذلك
قال: مضيرة معاوية أدسم، والصلاة خلف على أفضل، وكان يقال له:
شيخ المضيرة.
وله في أساس البلاغة: على مع الحال المضيرة، خير من معاوية مع
المضيرة.
وفى شذرات الذهب في أخبار من ذهب للعماد الحنبلي (2).
وكان أبو هريرة يصلى خلف على ويأكل على سماط معاوية ويعتزل القتال
ويقول:
الصلاة خلف على أتم، وسماط معاوية أدسم، وترك القتال أسلم.
وقد أورد هذا الخبر كذلك برهان الحلبي في السيرة الحلبية (3) وصاحب
كتاب روض الأخيار المنتخب من ربيع الأبرار لمحمد بن قاسم ابن يعقوب
في باب الطعام وألوانه: فقال: إن أول من صنع المضيرة معاوية، وإن
أبا هريرة كان يستطيبها ويأكل عنده في أيام صفين ويصلى خلف على وبذلك
سمى " شيخ المضيرة، وموقعة صفين كانت في شهر صفر " (4) سنة 37 ه‍.

(1) الهبيد هو حب الحنظل - كان يطحنه الناس في أيام الجدب.
(2) ص 64 ج 1.
(3) ص 397 ج 3.
(4) ص 122 واختلاف الألفاظ في هذا الخبر جاء من أنهم كانوا يروون بالمعنى كما فصلنا ذلك
بكتابنا أضواء على السنة.
56

وعقد بديع الزمان الهمذاني مقامة خاصة بين مقاماته سماها (المقامة
المضيرية) غمز فيها أبا هريرة غمزة أليمة فقال:
حدثنا عيسى بن هشام، قال: كنت في البصرة ومعي أبو الفتح
الإسكندري، رجل الفصاحة، يدعوها فتجيبه، والبلاغة يأمرها فتطيعه،
وحضرنا معه دعوة بعض التجار فقدمت إلينا مضيرة، تثنى على الحضارة،
وتترجرج في الغضارة وتؤذن بالسلامة - وتشهد لمعاوية بالإمامة!
وقال أستاذنا الإمام محمد عبده رضي الله عنه في شرح هذه العبارة:
" ومعاوية ادعى الخلافة بعد بيعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فلم
يكن من يشهد له بها في حياة على، إلا طلاب اللذائذ، وبغاة الشهوات،
فلو كانت هذه المضيرة من طعام معاوية لحملت آكليها على الشهادة له بالخلافة،
وإن كان صاحب البيعة الشرعية حيا، وإسناد الشهادة إليها لأنها سببها الحامل
عليها، والإمامة والخلافة في معنى واحد (1).
وقد حملت فعلا أبا هريرة وغيره على الشهادة لمعاوية بالخلافة!
وإذا كان الأستاذ الامام لم يذكر أبا هريرة صراحة، فإنه قد وفاه حسابه
تلميحا.
وكذلك فعل الهمذاني (2)

(1) ص 109، وأمر هذه المضيرة وشيخها ثابت على مر التاريخ لا يمترى فيه باحث عالم
مدقق لم يلعب بعقله الهوى، وقد جرى لقب (شيخ المضيرة) على ألسنة الناس من عهد معاوية بن أبي سفيان
ودونه كبار المؤرخين في كتبهم - كما رأيت، وقد التصق لقب (شيخ المضيرة) بأبي هريرة لا ينفك
عنه حتى إنه إذا ذكر هذا اللقب مجردا فإنه لا ينصرف إلا إليه. وكان الدكتور طه حسين قد استراب
في هذا الخبر وفى خبر اشتراك كعب الأحبار في مؤامرة قتل عمر كما بيناه آنفا في صفحة 48، ويراجع
ردنا على الدكتور طه حسين فيما سماه هنات وذلك في كتابنا. الأضواء الطبعة الثالثة.
(2) مما يجب التنبيه عليه هنا أن بديع الزمان الهمذاني كان " ثقة في الحديث يعرف الرجال
والمتون متعصبا لأهل الحديث والسنة (ص 162 ج 2 معجم الأدباء) فكلامه هذا يعتبر ولا ريب طعنا
صريحا في أبي هريرة ورواياته - ولو كان لأبي هريرة قدر عند هذا العالم المحدث الكبير لما رماه بهذا
النبذ المعيب الذي يلاحقه على مد العصور.
57

وفى الحلية لأبي نعيم (1) أن أبا هريرة كان في سفر فلما نزلوا وضعوا السفرة
وبعثوا إليه وهو يصلى فقال إني صائم! فلما كادوا يفرغون، جاء فجعل يأكل
الطعام فنظر القوم إلى رسولهم! فقال: ما تنظرون! قد والله أخبرني أنه
صائم. فقال أبو هريرة صدق. إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: صوم
رمضان وصوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر، وقد صمت ثلاثة أيام
من أول الشهر فأنا مفطر في تخفيف الله صائم في تضعيف الله. وهذا الخبر
أورده ابن كثير بتغيير في بعض الألفاظ (2).
وفى خاص الخاص للثعالبي (3):
كان أبو هريرة يقول ما شممت رائحة أطيب من رائحة الخبز، وما رأيت
فارسا أحسن من زبد على تمر!
ولنهمه بالطعام جعل الاكل من المروءة! فقد سئل ما المروءة؟ قال:
تقوى الله وإصلاح الصنيعة والغداء والعشاء بالأفنية!
ونكتفي بهذا القدر من الكلام عن المضيرة، ونأخذ في الكلام عن عيرها.
وفى البداية والنهاية أن أبا هريرة كان يقول: اللهم ارزقني ضرسا طحونا،
ومعدة هضوما ودبرا نثورا.
وقد أورد هذا الخبر الزمخشري في ربيع الأبرار (4).
وقد أضربنا عن أخبار كثيرة غير ما أوردناه حتى لا نزيد في إيلام الحشوية
وعبدة الأشخاص الذين يكرهون ذكر الحقائق.
ولا يؤاخذنا أحد إذا ذكرنا مثل هذه الأخبار لان كبار العلماء قد ذكروها
قبلنا، ونحن قد نقلنا عنهم وناقل الكفر ليس بكافر.

(1) ص 380 / 1 حلية الأولياء.
(2) ص 111 ج 8 من البداية والنهاية.
(3) ص 43.
(4) ص 113 ج 8 وص 125 وكتاب روض الاخبار المنتخب من ربيع الأبرار.
58

حديث: زر غبا تزدد حبا
لما رأى النبي كثرة غشيان أبي هريرة لبيوت المسلمين، وتبرم أصحابها به،
أراد أن يلقنه درسا في الأدب حتى يفئ إلى القناعة، ويحفظ لنفسه كرامتها
- وكان صلوات الله عليه نعم المؤدب لأصحابه يتولاهم دائما بتأديبه وحكمته،
ويغرس فيهم مكارم الأخلاق بكمال سيرته، وما كان له صلى الله عليه وآله أن يذر مثل
أبي هريرة على ما كان عليه من اقتحام بيوت الناس في كل وقت، وأخذ
الطريق على أصحابها على ما لا يقضى به أدب اللياقة - من غير أن يؤدبه بأدبه
العالي وتربيته الحكيمة، فقال له يوما: أين كنت أمس يا أبا هريرة؟ قال
زرت أناسا من أهلي، فقال: يا أبا هريرة، " زر غبا تزدد حبا ". ولكن
أبا هريرة لم يرعو وظل على ما تعود، ومن أجل ذلك لم يجد النبي بدا من أن يقصيه
عن المدينة كما سيتبين لك ذلك فيما بعد.
انصر أخاك ظالما أو مظلوما
وكنا نشرنا كلمة بمجلة الرسالة (1) عن حديث - زر غبا - وحديث
انصر أخاك نجتزئ منها هنا بما يلي لاتصاله بما نحن بصدده.
إن كلمة (انصر أخاك ظالما أو مظلوما) كانت مبدأ جاهليا مقررا، فلما
جاء الاسلام نسخ ما كانت تعتقده الجاهلية من هذه العبارة، وفسرها الرسول
بما يتفق ومبادئ الاسلام العادلة القويمة.
وقد ذكر المفضل الضبي في كتابه الفاخر أن أول من قال: " انصر أخاك
ظالما أو مظلوما، جندب بن العنبر بن عمرو بن تيم، وأراد بذلك ظاهره، وهو
ما اعتاده من حمية الجاهلية، وفى ذلك يقول شاعرهم:

(1) العدد 918 السنة 19 / 5 فبراير سنة 1951.
59

إذا أنا لم أنصر أخي وهو ظالم * على القوم لم أنصر أخي وهو يظلم
ولقد كان النبي يتكلم بما للعرب من أمثال فلا يلبث الرواة أن يصيروه من
كلامه ويتلقاه الناس على أنه حديث، وأصله ما علمت.
ومثل هذه الكلمة المثل المشهور " زر غبا تزدد حبا " فقد أورده رجال
الحديث على أنه من قول النبي ودونوه في كتبهم - وكان أول من قاله معاذ بن
حزم الخزاعي فارس خزاعة.
وقد ذكر أبو حيان التوحيدي في كتابه (الصداقة والصديق) (1) ما يلي:
" قال أبو هريرة: لقد دارت كلمة العرب " زر غبا تزدد حبا " (2) إلى أن
سمعت من رسول الله، ولقد قالها لي.
قال العسجدي: ليست هذه الكلمة محمولة على العام، ولكن ها مواضع
يجب أن تقال فيها، لان الزائر يستحقها، ألا ترى أنه صلوات الله عليه
لا يقول ذلك لأبي بكر ولا لعلي بن أبي طالب وأشباههما، فأما أبو هريرة فأهل
ذاك لبعض الهنات التي يلزمه أن يكون مجانبا لها، وحائدا عنها.
وهنات أبي هريرة التي يغتمزه بها العسجدي أنه كان لنهمه يغشى بيوت
الصحابة في كل وقت، وكان بعضهم يزور عنه، وينزوى منه، فأراد الرسول
أن يلقى عليه درسا في أدب الزيارة فذكر له المثل العربي " زر غبا تزدد حبا ".
وفى الزيارة المتواترة قال الشاعر:
إذا شئت أن تقلى فزر متواترا * وإن شئت أن تزداد حبا فزر غبا
ولم يكتف الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا القول بل كرره مرة ثانية لما
وجده لم يرجع عن طبيعته، وأشار عليه بأن يسلك في الحياة طريقا كريما
لابتغاء العيش، بأن يعمل ولو بأن يحتطب!
وها هو ذا يعترف بأنه سمع هذه النصيحة من النبي صلى الله عليه وآله كما اعترف
في حديث: زر غبا تزدد حبا.

(1) ص 51.
(2) قول النبي صلى الله عليه وآله لأبي هريرة هذه الكلمة ثابت ولا يمكن لاحد أن يمارى فيه وقد أورده
فيلسوف العربية ابن جنى في كتابه الخصائص ص 89 ج 1.
60

فقد روى أحمد والشيخان عنه أنه قال: سمعت رسول الله يقول: " والله
لان يأخذ أحكم حبلا فيحتطب على ظهره فيأكل ويتصدق، خير له من
أن يأتي رجلا أغناه الله عز وجل من فضله فيسأله، أعطاه أو منعه " (1).
ويبدو أن الرسول صلوات الله عليه لما وجد أن طبيعة أبي هريرة قد استعصت
عليه أقصاه عن المدينة إلى البحرين وسنعرض لهذا الامر فيما بعد.
وإليك حديثا رواه مسلم عن أبي هريرة نأتى به هنا لأنه يتصل بموضوعنا:
شر الطعام طعام الوليمة، يمنعها من يأتيها " أي بغير دعوة " ويدعى إليها من
يأباها، ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله! أي أنك إذا لم تجب الدعوة
إلى الولائم لتتملأ منها فقد عصيت الله ورسوله، بهذا يقضى أبو هريرة بمقتضى
أحكام شريعته في الطعام!
مزاح أبي هريرة وهذره
أجمع مؤرخو أبي هريرة على أنه كان رجلا مزاحا يتودد إلى الناس ويسليهم
بكثرة مزاحه وبالاغراب في قوله، ليشتد ميلهم إليه، ويزداد إقبالهم عليه.
قالت عائشة وهي أعلم الناس به في حديث المهراس: " لقد كان رجلا
مهذارا " (2).

(1) راجع صفحة 49 من هذا الكتاب.
(2) في لسان العرب مادة " هذر " الهذر هو الكلام الذي لا يعبأ به، وهذر في كلامه
كفرح. أكثر من الخطأ والباطل، والهذر الكثير الردئ، وقيل هو سقط الكلام والاسم الهذر وهو
الهذيان. وحكى ابن الأعرابي: من أكثر أهذر أي جاء بالهذر - وقد أثارت كلمة عائشة هذه ثائرة
- مصطفى السباعي - أحد الذين انتقدونا عندما قرأها في كتابنا " أضواء على السنة " وكذب خبرها ثم
اندفع فألقى إلينا هذا التحدي " إن أحدا لم يصف أبا هريرة بأنه مهذار! ونحن نتحداه أن يأتينا
برواية صحيحة في هذا الشأن " وقد لف هذا التحدي في خرقة قذرة من السب والشتم الذي ملا به كتابه،
وخصنا به! وقد عجبنا أن يصدر هذا التحدي من مثله وهو - كما يزعم - رئيس قسم الفقه ومذاهبه في
جامعة دمشق وأستاذ الأحوال الشخصية في كليتي الشريعة والحقوق - ما أكثر الألقاب وما أحقر
الهر.. وكيف غاب عنه أن يطلع على هذا الخبر وهو في أكبر مصدر يجب على مثله أن يدرسه ويطلع
عليه؟ وهذا المصدر هو الاحكام في أصول الاحكام للآمدي الذي لم يؤلف مثله في موضوعه فليرجع إليه
في الصفحة 106 من الجزء الثاني ونصه فيه " إن الصحابة أنكرت على أبي هريرة كثرة روايته، حتى
قالت عائشة رضي الله عنها: رحم الله أبا هريرة لقد كان رجلا مهذارا " في حديث المهراس. أفهمت
يا مولانا، وهذا الكتاب طبع بمطبعة المعارف بمصر في سنة 1332 ه‍ 1914 ميلادية.
61

وإليك بعض ما أوردوه في مزاحه وهذره:
عن أبي رافع قال: كان مروان (ابن الحكم) ربما استخلف أبا هريرة
على المدينة فيركب حمارا قد شد عليه برذعة وفى رأسه خلبة (1) من ليف
فيسير فيلقى الرجل فيقول:
الطريق، قد جاء الأمير! وربما أتى الصبيان وهم يلعبون بالليل لعبة
الغراب فلا يشعرون حتى يلقى نفسه بينهم ويضرب برجليه فينفر الصبيان فيفرون (2).
ورواية ابن كثير " كأنه مجنون يريد أن يضحكهم فيفزع الصبيان منه،
ويفرون هنا وههنا يتضاحكون (3) ".
وعن ثعلبة بن أبي مالك القرظي قال:
أقبل أبو هريرة في السوق يحمل حزمة حطب - وهو يومئذ خليفة لمروان
فقال: أوسع الطريق للأمير (4) (يا ابن أبي مالك، فقلت له، يكفي هذا،
فقال: أوسع الطريق للأمير والحزمة عليه) (5).
وخلافة أبي هريرة لمروان على المدينة قد نالها بعد ما اتصل بمعاوية وكان
من أنصاره كما سنبينه في محله من هذا الكتاب.

(1) الخلبة: الحلقة.
(2) ص 121 من كتاب المعارف لابن قتيبة وص 441 و 442 ج م من سير أعلام النبلاء
وص 53. ج 4 / 2 طبقات ابن سعد.
(3) ص 113 ج 8 من البداية والنهاية.
(4) ص 442 ج 2 من سير أعلام النبلاء.
(5) هذه الزيادة من الحلية لأبي نعيم.
62

إقصاء أبي هريرة إلى البحرين
ومدة صحبته للنبي صلى الله عليه وآله
بينا لك من قبل كيف كانت حياة أبي هريرة وهو من أهل الصفة بالمدينة،
ولكي تعرف ماذا كانت حياته بعدها، نسوق إليك نبأ ذلك لكي يتصل الحديث
عن حياته كلها بعضه ببعض.
لبث أبو هريرة في الصفة يعاني فيها ما يعاني كما وصف ذلك بلسانه زمنا
يبتدئ من شهر صفر سنة 7 ه‍ وهو الشهر الذي وقعت فيه غزوة خيبر -
وينتهي إلى شهر ذي القعدة سنة 8 ه‍ ثم انتقل بعد ذلك إلى البحرين وبذلك
يكون قد قضى بالمدينة: سنة واحدة وتسعة أشهر (1) - لا كما اشتهر بين الجمهور (2)
من أنه قضى بالمدينة حياة النبي - ثلاث سنين! وبعضهم أوصلها إلى أربع
سنين!
وإليك قصة ذهابه إلى البحرين وإقامته بها نوردها لك من أوثق المصادر،
وأصح الأسانيد (3).
بعث رسول الله صلى الله عليه وآله منصرفه من الجعرانة (4) - بعد أن قسم غنائم حنين

(1) هذه المدة مقدرة على اعتبار أن وقعة خيبر كانت في شهر صفر سنة 7 ه‍ كما هو المشهور
ولو نحن أخذنا بما روى ابن سعد في طبقاته من أن هذه الوقعة كانت في جمادى الأولى لكانت مدة
صحبة أبي هريرة للنبي أقل من عام ونصف عام. وثم رواية أخرى ذكرها أبو سعيد الخدري ورواها
عنه ابن سعد أنه خرج مع النبي إلى خيبر لثمان وعشرين في رمضان، فلو اعتمدنا عليها لرجعت صحبة
أبي هريرة للنبي إلى سنة واحدة وشهرين! فحسب.
(2) إن ما اشتهر بين الجمهور إنما كان أخذا بما ادعاه هو من أنه صحب النبي ثلاث سنين -
ص 476 ج 6 فتح الباري.
(3) رجعنا في هذا البحث إلى طبقات ابن سعد وتاريخ الطبري وسيرة ابن هشام والاستيعاب
لحافظ المغرب ابن عبد البر وابن خلدون وأسد الغابة وأعلام النبلاء والتاريخ الكبير للذهبي والبداية والنهاية
لابن كثير ومعجم البلدان وفتح الباري والإصابة لابن حجر العسقلاني.
(4) الجعرانة ماء بين الطائف ومكة وهو إلى مكة أقرب وعلى هذا الماء وزع النبي مغانم حنين
وكان ذلك في شهر ذي القعدة سنة 8 ه‍.
63

العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى العبدي عامل الفرس على البحرين (1)
وكتب له كتابا فيه فرائض الصدقة في الإبل والبقر والغنم والثمار يصدقهم على
ذلك، وأمره أن يأخذ الصدقة من أغنيائهم، وبعث معه نفرا كان فهم
(أبو هريرة) وقال له: استوص به خيرا (2).
فقال له العلاء: إن رسول الله قد أوصاني بك خيرا فانظر ماذا تحب؟
فقال: تجعلني أؤذن لك، ولا تسبقني بآمين، فأعطاه ذلك (3).
فأسلم المنذر وحسن إسلامه وأسلم معه أهلها العرب ومن لم يسلم من مجوس
تلك البلاد صالحهم على الجزية.
ومات المنذر بن ساوى بعد رسول الله قبل ردة أهل البحرين - والعلاء
عنده أميرا لرسول الله.
ولما ارتد أهل البحرين فيمن ارتدوا بعد موت رسول الله - بعث أبو بكر
العلاء بن الحضرمي في جيش من المسلمين لمحاربة المرتدين وبينه وبينهم البحر
يعنى الرقراق، فمشوا فيه بأرجلهم وقطعوا كذلك مكانا تجرى فيه السفن،

(1) بلد مشهور بالعراق وهي بين البصرة وعمان - وكان يسكن هذه المنطقة قبل الفتح
الاسلامي خلق كثير من عبد القيس وبكر بن وائل وتميم وكانت إذ ذاك تحت حكم الفرس.
وقال البلاذري عن المنذر بن ساوى هذا إنه من قوم كانوا يعبدون الخيل بالبحرين ص 96 ج 1 من
فتوح البلدان.
(2) انظر نص اعتراف أبي هريرة نفسه بذلك فيما بعد.
(3) يتبين من هذا الخبر الصحيح أن أبا هريرة كان لا يحسن شيئا من أمور الدين أيام ذهابه
إلى البحرين إلا (التأذين) فقد روى البخاري في (باب جهر الامام بالتأمين قال: وكان أبو هريرة
ينادى الامام (لا تفتني بآمين) هذا لفظ البخاري ومن شرح الحافظ ابن حجر لهذا الحديث " ومراد أبي هريرة
أن يؤمن مع الامام داخل الصلاة، ومعناه: لا تنازعني بالتأمين الذي هو من وظيفة المأموم -
وقد جاء عن أبي هريرة من وجه آخر أخرجه البيهقي قال: كان أبو هريرة يؤذن لمروان فاشترط أن
لا يسبقه بالصلاة حتى يعلم أنه دخل في الصف وكأنه كان يشتغل بالإقامة وتعديل الصفوف، وكان
مروان يبادر إلى الدخول في الصلاة قبل فراغ أبي هريرة، وكان أبو هريرة ينهاه عن ذلك ومعلوم أن
مروان تولى المدينة في عهد معاوية أي بعد سنة 41 ه‍ وقد وقع له مع غير مروان فروى سعيد بن منصور
من طريق محمد بن سيرين: أن أبا هريرة كان مؤذنا بالبحرين، وأنه اشترط على الامام أن لا يسبقه
بآمين والامام بالبحرين كان العلاء بن الحضرمي، بينه عبد الرزاق من طريق أبى سلمة عنه ص 208
و 209 ج 2 فتح الباري.
64

وحاربهم وانتصر عليهم - وبذلوا الزكاة ثم سار إلى مدينة دارين فافتتحها وظل
يقاتل هناك حتى مات أبو بكر والعلاء على البحرين، وتولى عمر والعلاء على
البحرين وكان حينئذ محاصرا لأهل الردة (1)، ثم بعث إليه: أن صر إلى عتبة
ابن غزوان (2) فقد وليتك عمله - فخرج العلاء في رهط منهم (أبو هريرة)
وولى عمر على البحرين قدامة ابن مظعون (3) ثم عزله في سنة 20 كما روى
الطبري لأنه شرب الخمر واستعمل أبا هريرة بعده وكان يومئذ لا يزال هناك.
ولأن العلاء بن الحضرمي قد تولى البحرين عهد النبي وعهد أبى بكر وعمر،
فقد قال الذهبي ولاه رسول الله صلى الله عليه وآله البحرين ثم وليها لأبي بكر وعمر (4).
اضطرابهم في أخبارهم:
ولا بد لنا هنا من أن نشير إلى بعض أمور مما اضطربت أخبارهم فيها.
وتناقضوا - كعادتهم - في ذكرها، وأهملوا العقل والمنطق في فهمها.
فمن ذلك: أنه بينما تترادف الاخبار بأن النبي صلوات الله عليه قد ولى
العلاء بن الحضرمي البحرين وتوفى صلى الله عليه وآله وهو عليها، فأقره أبو بكر خلافته
كلها عليها، ثم أقره عمر وتوفى في خلافة عمر (5) وأن هذه الأخبار يعززها ما
جاء في الإستيعاب لابن عبد البر قال: مات أبو بكر والعلاء محاصر لأهل
الردة (6) فأقره عمر. وذلك لان أبا بكر كان قد عهد بمحاربة المرتدين في
البحرين إليه. والردة كما هو معلوم كانت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله.
وبينما يتفق كثير من المؤرخين على أن العلاء بن الحضرمي قد ظل عاملا

(1) ص 518 ج 2 من الإستيعاب لابن عبد البر.
(2) عتبة بن غزوان أسلم سابع سبعة، وكان من الامراء الغزاة وهو الذي اختط البصرة
وأنشأها وهو الذي مصرها لما استعمله عمر عليها وبنى بها مسجدا ولم يبن بها دارا، توفى سنة 18
وقيل سنة 15 (له حديث في مسلم).
(3) قدامة بن مظعون من السابقين البدريين.
(4) ص 191 ج 1 سير أعلام النبلاء للذهبي.
(5) جاء ذلك الخبر بلفظه صريحا في الاستيعاب ص 518 ج 2 وأسد الغابة ص 7 ج 4
الإصابة ص 259 ج 4 وسير أعلام النبلاء ص 191 ج 1.
(6) 518 ج 2.
65

على البحرين بعد ما أرسله النبي صلى الله عليه وآله إليها إلى سنة 21 ه‍ وأن عمر قد
استعمل في هذه السنة أبا هريرة مكانه، إذ بهم يقولون إن العلاء قد توفى
سنة 20 ه‍ وإن عمر ولى أبا هريرة قبل موت العلاء وإن العلاء قد أتى توج
من أرض فارس وعزم على المقام بها ثم رجع إلى البحرين فمات هناك، ثم
تأتى رواية أخرى لأبي مخنف ذكرها البلاذري في فتوح البلدان أن عمر كتب
إلى العلاء وهو عامله على البحرين يأمره بالقدوم عليه، وولى عثمان بن العاص
الثقفي البحرين وعمان، فلما قدم العلاء المدينة ولاه البصرة مكان عتبة بن غزوان
فلم يصل إليها حتى مات وذلك في سنة 14 ه‍ أو سنة 15 ه‍ ثم إن عمر ولى قدامة
ابن مظعون الجمحي جباية البحرين ثم عزله وحده على شرب الخمر، وولى
أبا هريرة مكانه ثم عزله وقاسمه ماله ثم ولى عثمان بن أبي العاص البحرين وعمان!
بينما يقولون ذلك كله إذ بهم يذكرون في تأريخ أبان بن سعيد أن رسول
الله استعمله على البحرين بعد أن عزل العلاء عنها فلم يزل عليها إلى أن توفى
رسول الله فرجع إلى المدينة وقال: لا أعمل لاحد بعد رسول الله، ونحن أبناء
بنى أحيحة لا نعمل لاحد بعد رسول الله! وكأنه أنف من أن يعمل تحت
إمرة أبى بكر التيمي. ثم تخرج رواية بأنه لما عاد أبان إلى المدينة غير راغب في
الولاية دعا أبو بكر العلاء بن الحضرمي وقال له: إني وجدتك في عمال رسول
الله الذين ولى فرأيت أن أوليك - ما كان رسول الله ولاك، وظل إلى أن توفى
أبو بكر وولى عمر، وفى خبر أن أهل البحرين سألوا أبا بكر أن يرد عليهم
العلاء ففعل، ثم يعودون بعد ذلك كله فيقولون: إن أبان هذا قد عمل
لأبي بكر على بعض اليمن!
كل هذا وغيره من التناقض والتخليط قد حشوا به كتبهم وهو كثير لا يمكن
تفصيله وإنما أشرنا إلى بعضه (1).

(1) من أراد أن يطلع على تفصيل هذا التناقض والتخليط في هذا الامر فليرجع إلى الإستيعاب لابن عبد
البر ص 518، و 548 ج 2 طبعة الهند، وإلى الكامل لابن الأثير ص 16 ج 3 طبعة
ليدن، وتاريخ الرسل والملوك للطبري ص 294، ج 5 طبعة ليدن وطبقات ابن سعد ص 77 - 79
ج 2 طبعة ليدن وسير أعلام النبلاء للذهبي ص 116 و 189 ص 192 ج 1 وأنساب الأشراف
للبلاذري ص 529 ج 1 وأسد الغابة لابن الأثير ص 31 ج 1 وص 7 و 199 ج 4 والإصابة لابن
حجر ص 7 و 259 ج 4 و 233 ج 5 والبداية والنهاية ص 120 ج 7 وفتوح البلدان ص 99 -
104 ج 1.
66

ومن تناقضهم كذلك: أنه على رغم اعتراف أبي هريرة نفسه بأن النبي قد
بعثه إلى البحرين كما مر بك، وأنه رأى بعينه حرب المرتدين هناك مع العلاء
وزعمه بأنه شاهد الخوارق التي وقعت من العلاء في هذه الحرب كخوضه لخليج
البحر، وسيره بفرسه على وجه الماء.. الخ ما خرف به وتلوته قريبا - ثم شهادته
على قدامة عندما شرب الخمر وهو في البحرين - على رغم ذلك كله وغيره.
من الأدلة القاطعة، والقرائن الصحيحة التي تقطع بوجوده في البحرين من يوم
أن ذهب مع العلاء بن الحضرمي - يأتي ابن حجر الذي يقولون عنه بأنه أمير
المؤمنين في الحديث فيروي من مزاعم أبي هريرة هذا الخبر بغير مناقشة ولا
اعتراض، كأنه من الأخبار الصحيحة كعادتهم في تصديق كل صحابي
فيما يرويه مهما كان، على حين أنه ينادى على نفسه بأنه كذب محض وهذا
الخبر هو:
" قدمت ورسول الله بخيبر وأنا يومئذ قد زدت على الثلاثين، فأقمت معه
حتى مات!! أدور معه في بيوت نسائه! وأخدمه - وأغزو معه وأحج
فكنت أعلم الناس بحديثه (1).
وهذه المتناقضات وغيرها مما لا نعرض له، لا نعنى بها، ولا نلتفت إليها،
وندعها لأصحابها! وإنما الذي يهمنا ويعنينا ويجعلنا لا نحول وجهنا إلى غيره
مهما كان، ومهما كان قائله - هو إثبات وجود أبي هريرة في البحرين من
يوم أن ذهب إليها مع العلاء بن الحضرمي في شهر ذي القعدة سنة 8 ه‍ وأنه ظل
هناك ولم يعد إلى المدينة إلا بعد وفاة النبي صلوات الله عليه بسنين طويلة -
لكي يتبين للناس كافة مقدار الزمن الصحيح الذي قضاه تحت ظل الصفة
بمسجد المدينة في حياة النبي صلى الله عليه وآله، وهذا الزمن هو عام وتسعة أشهر فقط،

(1) ص 205 ج 7 من الإصابة.
67

وهذه حقيقة ثابتة لا يستطيع أحد أن يدفعها، أو يماري فيها. ومن كان عنده
دليل صحيح يثبت عودته من البحرين إلى المدينة في عهد النبي فليبده، ونحن
لا نجد ما يمنع من تصديقه.
أما ما زعمه هو وروته عنه كتب السنة، من أنه أقام مع النبي حتى مات
أو صحب النبي صلى الله عليه وآله حتى مات! فهذا كله محض افتراء منه وممن رووه عنه.
ولا يمكن لعاقل أن يستمع إليه، أو يعول عليه. اللهم إلا إذا كان قد فقد
عقله ومنطقه.
* * *
يتبين مما ذكرنا آنفا أن أبا هريرة قدم من بلاده على النبي وهو بخيبر
سنة 7 ه‍ وأن النبي بعثه مع العلاء بن الحضرمي إلى البحرين بعد منصرفه من
الجعرانة (1) بعد أن قسم مغانم خيبر، وكان ذلك في شهر ذي القعدة سنة
8 ه‍ وبذلك تكون مدة إقامته بجوار النبي - مقيما مع أهل الصفة تبتدئ من
شهر صفر سنة 7 ه‍ وتنتهي في شهر ذي القعدة سنة 8 ه‍، وإذا حسبناها
وجدنا أنها لا تزيد على سنة واحدة وتسعة أشهر فقط!
وهاك نص ما قاله أبو هريرة في ذلك ونقله ابن سعد في طبقاته الكبرى
(ص 77 ج 4 ق 2) عن سالم مولى بنى نصر قال:
سمعت أبا هريرة يقول: بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله مع العلاء بن الحضرمي
وأوصاه بي خيرا، فلما فصلنا قال لي:
إن رسول الله قد أوصاني بك خيرا، فانظر ماذا تحب؟ قال قلت:
تجعلني أؤذن لك ولا تسبقني بآمين.
فأعطاني ذلك (2):
وقد جاء هذا الخبر بحرفه في الإصابة لابن حجر العسقلاني (ص 204 ج 7)
وإليك نص ما قاله:
" بعثني رسول الله مع العلاء بن الحضرمي فأوصاه بي خيرا، فقال لي:

(1) ص 70 و 77 ج 4 ق 2 من طبقات ابن سعد وكذلك ورد هذا الخبر في كثير من
المصادر الموثوق بها كالإصابة لابن حجر ص 204 ج 7.
(2) راجع ص 46.
68

ما تحب؟ قلت: أؤذن لك ولا تسبقني بأذاني.
ولما ذهب إلى البحرين، كان عمله هناك (التأذين) كما طلب هو، ولو أن
العلاء كان يأنس من أبي هريرة القدرة على أداء أي عمل ديني، لما قال له:
انظر ماذا تحب؟
وكذلك لو كان النبي يعلم منه أنه كفى للقيام بأي أمر من أمور الدين
لقال للعلاء وهو يوصيه: إني أرسله معك ليعلم الناس دينهم، كما كان يرسل
غيره مثل معاذ بن جبل وابن مسعود، وأبى موسى الأشعري (1) - الذي أسلم
مع أبي هريرة في وقت واحد - وغيرهم - ليعلموا الناس دينهم! (2).
ويخلص من ذلك كله، أن أبا هريرة لم يكن كما قلنا يفقه شيئا من أمور
الدين ينفع الناس به في زمن النبي صلى الله عليه وآله وزمن أبى بكر وعمر وعثمان وسنثبت
ذلك بأدلة قوية أخرى فيما بعد إن شاء الله.
أما التأذين الذي كان يحسنه مع العلاء بن الحضرمي، وظل يؤديه إلى زمن
مروان بن الحكم الذي كان واليا لمعاوية على المدينة بعد سنة 41 ه‍ التي تم فيها
الغلب للطليق معاوية. فيبدو أن إحسان أبي هريرة له إنما جاءه، لأنه كان
يجيد الحداء في زمن شبابه أيام خدمته لابن عفان وبسرة ابنة غزوان - وبذلك
يثبت ثبوتا قاطعا صحة ما حققه ابن سعد في طبقاته وغيره من أن أبا هريرة لم يظهر
بالفتوى والتحديث إلا بعد مقتل عثمان - وسنأتيك بما ذكره ابن سعد وغيره في
موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله.
ومن الأدلة القوية التي نسوقها لاثبات وجود أبي هريرة في البحرين - غير

(1) قدم أبو موسى على النبي عند فتح خيبر كما علمت ولم يلبث أن صار له شأن فولاه رسول
الله مخاليف اليمن وولاه عمر البصرة ثم عزله بعد أن قاسمه ماله، وولاه عثمان الكوفة فعزله على، ومن أجل
ذلك انقلب على على وأخذ يطعن فيه وانحرف عنه يوم الحكمين، ونال بذلك مكانة عظيمة عند معاوية،
قال ابنه أبوه بردة: إن معاوية لم يغلق دونه بابا، ولا كانت له حاجة إلا قضيت، وذلك لولاء أبيه
لمعاوية.
(2) قال الغزالي في المستصفى إنه قد تواتر أن الرسول صلى الله عليه وآله كان لا ينفذ أمراءه وقضاته
ورسله وسعاته إلى الأطراف إلا لقبض الصدقات وحل العهود وتبليغ أحكام الشرع (ص 96 ج 1).
وليس أبو هريرة من هؤلاء جميعا في شئ.
69

ما قدمناه آنفا - أن العلاء لما غزا زارة (1) ودارين (2) في خلافة عمر بن
الخطاب رأى أبو هريرة أن يهتبل هذه الفرصة لكي يزدلف بشئ إلى مولاه
العلاء، فأخذ يظهر براعته في تصوير ما بهره مما زعم أنه (شاهد بنفسه) من
بطولة العلاء وشجاعته في هذه الغزوة مما يجعله في منزلة سعد بن أبي وقاص أو
خالد بن الوليد في البطولة.
وكان كلامه في ذلك أقرب إلى الخرافات منه إلى الحقيقة، وإليك شيئا
مما قاله لكي تقف على مقدار براعته وتفننه في الرواية!
زعم غفر الله له: أنه كان مع العلاء بن الحضرمي لما بعث في أربعة آلاف
إلى البحرين فانطلقوا حتى أتوا على خليج من البحر ما خاضه قبلهم أحد!
ولا يخوضه بعدهم أحد! وأخذ العلاء بعنان فرسه فسار على وجه الماء! وسار
الجيش وراءه، قال: (فوالله) ما ابتل (لنا) قدم ولا خف، ولا حافر!
وفى حديث آخر (رأيت) من العلاء أشياء لا أزال أحبه أبدا، قطع البحر
يوم دارين وقدم يريد البحرين، فدعا الله بالدهناء، فنبع لهم ماء فارتووا،
ونسي رجل منهم بعض متاعه فرد عليه فلقيه ولم يجد الماء، ومات ونحن على
غير ماء فأبدى الله لنا سحابة فمطرنا فغسلناه، وحفرنا له (بسيوفنا) ودفناه ولم
نلحد له!
وفى رواية له قال: دفنا العلاء، ثم احتجنا إلى رفع لبنة فرفعناها فلم نجد
العلاء في اللحد:
وكل الذي هول به أبو هريرة لم تكن حقيقته إلا أن جيش العلاء لما
تحصن منه في دارين جمع من المحاربين له - وكان الماء يفصل بينهم دله
كراز النكري (3) على مخاضة في الماء فخاضها العلاء بجيشه ووصل إلى دارين وفتحها،
وقد عبر إلى دارين من مخاضة كان يخوض منها الناس وأن كراز النكري هو
الذي دلهم عليها (4).

(1) زارة قرية كبيرة بالبحرين.
(2) دارين فرضة بالبحرين يجلب إليها المسك وغيره من الهند.
(3) النكرة بضم فسكون فخذ من بنى ثعلبة.
(4) ارجع في ذلك إلى الإستيعاب لابن عبد البر، والإصابة لابن حجر، وسير أعلام النبلاء
للذهبي، ومعجم البلدان، وفتوح البلدان للبلاذري، وطبقات ابن سعد وص 162 من كتاب عبد الله بن
سبأ للعلامة مرتضى العسكري من كبار علماء العراق الطبعة الثالثة.
70

وما كان تهويل أبي هريرة هذا إلا ليتقرب بذلك إلى العلاء ليجعله من
كبار قواد المسلمين، ثم ليثبت لنفسه أنه كان في هذه الوقعة من أبطال المحاربين.
من هذا كله يتبين بما لا شك فيه أن أبا هريرة قد ظل بالبحرين من يوم
أن بعثه النبي مع العلاء في سنة 8 ه‍ ولم يعد إلى المدينة لا في عهد النبي صلى الله عليه وآله
ولا في عهد أبى بكر، وهذا ينافي قطعا ما زعمه هو من أنه كان مع أبي بكر
في حجته سنة 9 ه‍، ويثبت ما قلناه ثبوتا قاطعا لا ريب فيه أن مدة صحبته
للنبي صلى الله عليه وآله كانت من شهر صفر سنة 7 ه‍ إلى ذي القعدة سنة 8 ه‍ لا كما
هو مشهور لدى الجمهور من أنه صاحب النبي ثلاث سنين! أخذا بروايته
هو!
ولا بد لنا - لكي نمتلخ عروق الشك فيما أدى إليه بحثنا الذي لم يصل إليه
أحد من قبلنا - من أن نقول إن أبا هريرة لم يصاحب النبي صلى الله عليه وآله غير عام
وتسعة أشهر، لان المشهور أنه صاحب النبي ثلاث سنين - ورفعها بعضهم
إلى أربع!
وأول شئ نعرض له في صدر بحثنا هو ما ذكره بعض المؤرخين من أن
أبا هريرة عاد مع العلاء إلى المدينة في حياة النبي بعد أن أقصاه إلى البحرين،
حتى لا يتشبث بهذا الخبر أحد من الذين يصدقون بكل ما ينشر في الكتب
بغير أن يكلفوا أنفسهم عناء البحث عن حقيقته فنقول:
إن هذا الخبر الذي شذ به بعضهم لم يذكره أحد من كبار المؤرخين،
ولا أتى به راو من ثقات المحدثين، ولو أنه كان صحيحا لجاءوا به ولكان مشهورا
بينهم، ومن أجل ذلك تراه متهافتا يحمل في طياته برهان بطلانه، وعلة كذبه،
وقد أرسله (واضعه) بغير زمام، فلم يسنده بدليل ثابت، أو يؤيده بسند
صحيح، وكذلك لم يبين فيه هل كان ذلك بأمر النبي، كما أمر بإبعاده،
أو أن العلاء الذي حمله إلى البحرين قد رده لأمر أتاه؟ أو أن أبا هريرة قد
عافت نفسه الحياة في البحرين واستوخم مناخها فانقلب عنها! أو أنه قد مل
عمل التأذين فعاد إلى النبي ليعهد إليه بأمر آخر؟ كل ذلك لم يتبين! وكل
ذلك مجهول لا يعرف.
71

وكذلك لم يتضح: في أي زمن عاد أبو هريرة إلى المدينة حتى تعرف المدة
التي قضاها في البحرين فتطرح من مدة صحبته للنبي صلى الله عليه وآله! ولا في أي وقت
كان رجوعه إلى البحرين ثانية، وقد ثبت أنه كان هناك مع جيش العلاء الذي
حارب المرتدين في عهد أبى بكر - وكان مما زعمه في هذه الحرب أنه خاض
الخليج على فرسه! مع العلاء وجيشه، وأيد زعمه هذا بيمين غموس - كعادته -
هذا نصه " فوالله ما ابتل لنا قدم ولا خف ولا حافر "؟!
كل ذلك وغيره لم يفصح عنه (واضع الخبر) حتى يكون لخبره وزن،
ولكلامه اعتبار!
وعلى فرض صحة الخبر وقولهم: إن أبا هريرة قد ظل بالمدينة مع النبي إلى أن
قامت حروب الردة فبعثه أبو بكر فيمن اختارهم ليكونوا في جيش العلاء في
حربه، فإنا نذكر أن هذا القول يدفعه ويدحضه ما علم من تاريخ أبي هريرة،
- فهو لم يكن من أبطال الحروب ولا فرسان الملاحم، حتى يختاره أبو بكر
فيمن اختارهم ليحاربوا مع العلاء! وإنما كان بطبيعته وما جبلت عليه نفسه،
لا يصلح لخوض غمرات الحروب وحمل السيوف، لا فارسا (ولا راجلا)
بل كان - كما هو مشهور عنه - جبانا رعديدا - على أن هذا القول لم
يذكره أحد من الثقات. وسنبين لك فيما بعد مثلا من شجاعته.
وكأن هذا الخبر قد (وضع) لكي يثبتوا به صدق أبي هريرة فيما ادعاه -
ورواه عنه البخاري. من أنه صاحب النبي ثلاث سنين. لأنهم ولا يستطيعون
أن يشكو فيما يروى اتباعا لقاعدتهم التي ألزموا بها أنفسهم، وهي تصديق كل
صحابي في جميع ما يرويه، لأنهم بزعمهم كلهم عدول (1) ولو كان فيه
ما فيه!!
على أن هذا الخبر (الموضوع) الذي اجتلب لتأييد أبي هريرة لم يحل
المشكلة ولم يغير من وجه الحقيقة شيئا - ذلك أنهم قد أجمعوا على أمرين في
تاريخ أبي هريرة، أولهما: أنه أسلم بعد فتح خيبر في سنة 7 ه‍. وثانيهما أن

(1) راجع فصل عدالة الصحابة في كتابنا أضواء على السنة الطبعة الثالثة.
72

النبي قد أقصاه من المدينة إلى البحرين في العام الثاني من إسلامه أي في
سنة 8 ه‍ فأي زمن يقضيه في البحرين سواء أكان قليلا أم كثيرا فإنه
ينقص ولا ريب من السنين الثلاث المزعومة - وبذلك ينهدم أساس هذا الادعاء
وتنهار قواعده، على رأس من وضعه، وتفصح الرغوة عن الصريج. ويصبح
ما حققناه هو الصحيح، والحمد الله على توفيقه.
على أن لا أدرى ما جداء هذا اللجاج والتشبث بالاخبار الواهية لدفع ما هو
صحيح ثابت؟ وهبه قد عاش بجوار النبي ثلاث سنين كما زعموا! أو أربعا كما
افتروا، أو أكثر من ذلك! فهل ترى ذلك مغيرا شيئا مما وجه إليه من تهم؟ وما
نفذ إلى رواياته من شك؟
وهل طول زمن الصحبة وحده لمثل أبي هريرة يكون سببا في أن يخلع على
شخصه رداء العدالة والثقة، وأن يكسب مروياته رواء الصحة والصدق؟
إن ذلك كله وغيره لا يجدى ولا ينفع! ذلك بأنه هو هو أبو هريرة ملفف
بتاريخه وما قيل فيه، حتى لو قضى حياته كلها بجوار النبي خادما أو صاحبا!
جبن أبي هريرة
قرأت في الصفحات الماضية شيئا من أخبار حرب الردة وما زعم أبو هريرة
من أنه كان له فيها سيف وفرس! وكأني بك قد حسبت أن ما زعمه أبو هريرة
كان صحيحا! وأنه قد شهد هذه الحرب وكان من أبطالها الذين اصطلوا بنارها!
ولكنه في حقيقة الامر كان بعيدا عنها كما هو شأنه في غيرها من سائر الحروب
الاسلامية التي وقعت، ذلك بأنه لم يدخل في أية حرب منها سواء في عهد النبي
صلى الله عليه وآله أو في عهد الخلفاء، وذلك بأن الله قد حرمه نعمة الشجاعة وخلقه جبانا
رعديدا، ولقد كان هذا الجبن من أسباب إبعاده عن المدينة إلى البحرين!
وقد حاول مرة أن يخرج على جبنه ويتشبه بالرجال وينازل الابطال فذهب
يحارب في غزوة مؤتة التي وقعت في جمادى الأول سنة 8 ه‍ - وما كاد يسمع
صليل السيوف ويرى لمعان الأسنة حتى غلب عليه طبعه فجبن وهلع وولى
73

الادبار ولاذ بالفرار، ولما عيروه بفعلته هذه لم يجد جوابا يدفع به عن نفسه
واستخذى!
ولو أنت رجعت إلى كتاب المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري (1)
لوجدت في الصفحة الثانية عشرة من الجزء الثاني - أن أبا هريرة يعترف بهذا
الفرار ويتوارى منه خجلا حتى من ابن عمه، ولا يدرى ماذا يقول له!
وهاك ما جاء في هذه الصفحة:
عن الأعرج (2) عن أبي هريرة قال: لقد كان بيني وبين ابن عم لي
كلام فقال: إلا فرارك يوم مؤتة؟ فما دريت أي شئ أقوله له!
ومن العجيب أن يأتي في آخر الزمان من يأتون بفرية مفضوحة ويزعمون
أن أبا هريرة قد شهد حروب النبي كلها! ثم اشترك بعد ذلك في حروب
الردة (3).
وإنا نتحداهم جميعا أن يثبتوا أنه قد حضر غزوة أو سرية واحدة مع
النبي صلى الله عليه وآله أو أنه قد شهد حروب الردة أو غيرها!

(1) نقلنا هذا الخبر عن المخطوطة الموجودة بدار الكتب المصرية والمسجلة برقم 617 (حديث).
(2) الأعرج صاحب أبي هريرة هو عبد الرحمن بن هرمز ويكنى أبا داود مولى محمد بن ربيعة
ابن الحارث بن عبد المطلب خرج إلى الإسكندرية فأقام بها حتى توفى سنة 117 ه‍ - ص 205 من
كتاب المعارف لابن قتيبة.
(3) انظر ما كتبناه عن كتاب ظهر حديثا ألفه طائفة من شيوخ الأزهر وجامعة القاهرة
لشخص اسمه العجاج الخطيب.
74

سبب إقصاء أبي هريرة عن المدينة
ذكرنا من قبل نبأ إقصاء أبي هريرة عن المدينة إلى البحرين ولم نبين سبب
هذا الاقصاء الذي لم يصب غيره من الصحابة جميعا - وقد رأينا أن نقدم
كلمة في هذا الامر الذي يجب أن يطيل الباحث نظره فيه.
لم يبين النبي صلوات الله عليه السبب الذي من أجله أبعد أبا هريرة عن
المدينة، إلى البحرين، ولم يعرف الناس ما هي العلة في أن ينتهى أمر هذا الرجل
الذي قدم من بلاده ليخدم النبي على ملء بطنه، إلى هذا المصير الذي لم ينته
إليه أحد غيره من الصحابة جميعا، ومما لا خلاف عليه أن النبي لا يصدر
منه شئ عبثا، بل كل أعماله إنما يأتيها لحكمة بالغة، ظاهرة كانت
أو باطنة.
ولو نحن أردنا أن نتوسل بالقرائن التي تعد من الأدلة القوية في القضايا،
ونستعرض الأمور بملابساتها، ونظرنا فيما يقضى به العقل والاستنتاج المنطقي،
ثم رجعنا - بعد ذلك كله - إلى مفتاح شخصية (أبي هريرة)، الذي حدثناك
عنه من قبل (1) والذي نستطيع أن نفتح به كل مغلق من نزعاته النفسية - لعلنا
نصل إلى معرفة سبب إقصائه عن المدينة، فإنا بذلك كله يمكنا أن نرد هذا
السبب - ونحن مطمئنون - إلى ما بدا من شرهه للطعام، وإيغاله في التطفل
على الناس بغير وازع من أدب، ولا رادع من عفة، وأنه لاشباع نهمه كان
يقتحم كل سبيل ويركب كل صعب.
وما ظنك برجل يتصدى للصحابة في طرقهم أنى ساروا ملحا عليهم أن
يطعموه، وبخاصة الكبار منهم كأبي بكر وعمر ويلاحقهم في سبيلهم حتى
تضيق منه صدورهم، فيضجرون منه، ويزورون عنه ويفرون!
هذا هو أبو هريرة وقد كان لأشعبيته لا يدعهم حتى يدخلوا بيوتهم،
ويضطروا إلى أن يقفلوا في وجهه أبوابها، هربا منه وتخلصا، كما اعترف

(1) راجع ص 47.
75

هو بذلك ورواه عنه البخاري فيما نقلناه من قبل.
ولم يقف الامر عند ضجر كبار الصحابة ونفورهم بل كان يذهب إلى
مكان عزيز من النبي (بين منبره وحجرة عائشة) فيتماوت ويمثل مشهدا تشمئز
منه النفوس الأبية، وتنفر منه الطباع الكريمة.
وهذا المشهد كان لا يفتأ يأتيه في هذا المكان العزيز من النبي - إنما كان
ولا جرم مما يؤذى النبي، ويبعث في نفسه الأسى - أن يكون بين من ينتمون
إليه، ويحسبون عليه، من يبدو أمام الناس كل يوم في هذه الصورة
المزرية المشينة!
وما نذكره هنا ليس من عندنا، ولا نفتري عليه به، وإنما هو أمر ثابت
لا ريب فيه وذلك باعتراف أبي هريرة نفسه، فقد روى البخاري عنه هذا
الحديث " لقد رأيتني وإني لاخر فيما بين منبر رسول الله إلى حجرة عائشة
مغشيا على فيجئ الجائي فيضع رجله على عنقي ويرى أنى مجنون! وما بي من
جنون! ما بي إلا الجوع (1) ".
ولا ريب في أنهم ما كانوا ليفعلوا ذلك معه إلا استهانة به، وازدراء له،
إذ لو كان له حرمة عندهم، أو مكانة لديهم، لأشفقوا عليه وأعانوه ولم
يطأوا عنقه!
ولما رأى النبي ذلك كله منه أراد أن يؤدبه بأدبه العالي ويردعه لكي يقلع
عن هذه العادة الذميمة فنضع له أول الامر بأن يزور الناس غبا (2) ولكن
غلبته نفسه، واستعصت عليه طبيعته، فلم يستمع إلى هذه النصيحة الغالية
واتبع هواه، ولما رأى النبي أن هذه النصيحة لم تبلغ منه، عززها بقوله في
حديثه الشريف على مسمع منه " والله لان يأخذ أحدكم حبلا فيحتطب علي
ظهره فيأكل ويتصدق، خير له من أن يأتي رجلا أغناه الله عزو جل من

(1) ص 259 و 260 ج 13 من فتح الباري ويرجع إلى ملاحقته لكبار الصحابة فيما
أوردناه من قبل نقلا عن البخاري.
(2) راجع صفحة 59.
76

فضله فيسأله اعطاءه أو منعه " (1).
وبديهي أنه صلوات الله عليه بعد أن عيل صبره لم ير مناصا من التفكير في
اقصائه عن المدينة ليتخلص منه، وليريح الناس من ملاحقته إياهم، إذ لا يصح
أن يكون بين أصحابه، ومن يعيشون بجواره، من لم يحمل نفسا أبية عفيفة قانعة.
ومما نزيده توكيدا لذلك وتأييدا أن كثيرا من أهل الصفة الذين كان
يعيش بينهم لم يفعل واحد منهم مثل ما فعل، فيخرج منها ليستطعم الناس
مهما بلغ به الجوع، بل كان كثير منهم لا يرضون بعيشتهم فيها، ولا يطيقون
المقام بها، ويهتبلون الفرص لمغادرتها، يضربون في الأرض، ويأكلون بسعيهم
من رزق الله.
أما أبو هريرة فقد أخلد إليها، لا يريم عنها ثم كان (وحده) من دون إخوانه
جميعا لا ينتظر حتى يأتيه طعامه مما يجود به النبي أو غيره من الصحابة، بل
كان يخرج من الصفة ليتكفف الناس، وهذه صفه لا تقبلها نفس كريمة ولا
يرضى عنها النبي (ص) بل يمقتها مقتا شديدا، لأنه يريد من أصحابه وسائر
من يتبعونه أن يكونوا شرفاء النفس متردين برداء العفة، لا يعيشون من فضلات
الناس، وإنما يأكلون من كسب أيديهم ولو أن يحتطبوا، لان هذه الفضلات
إن هي إلا أوساخ.
ومما يجب ملاحظته هنا، أن من المستحيل أن يأتي رجل من مكان سحيق
ليخدم آخر متطوعا بغير أجر إلا أن يملا بطنه، ثم يكون الطرد جزاؤه!
إن هذا لمما تأباه كل نفس كريمة وبخاصة - عند العرب - فما بالك إذا
كان ذلك من النبي صاحب الخلق العظيم، والذي أتى إلى الناس بمكارم
الأخلاق.
وإذا كان ذلك مما لا يصدقه أحد، ولا يسلم به عاقل، فإن الذي يقضى
به العقل الصريح، ويحكم به المنطق الصحيح، أن النبي (ص) لم يخرج
أبا هريرة من المدينة إلا لأسباب قوية، لا يمكن الصفح عنها، أو التسمح فيها!

(1) رواه أحمد والشيخان.
77

وليس هناك من أسباب أقوى وأظهر مما بيناه.
هذا ومما لا ريب فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وهو الخبير بطبائع أصحابه، لو كان
يعلم أن في أبي هريرة خيرا وفضلا، وأنه أهل لصحبته لأبقاه بجواره ليستضئ
بنوره، كسائر أصحابه، ولكنه لما علم فيه أنه غير صالح لصحبته، أقصاه عن
هذا النور النبوي، ولم يرض أن يظل منه قريبا.
ومن العجيب أننا لم نر النبي صلوات الله عليه قد صنع مع أحد من أصحابه
جميعا حتى المنافقين منهم مثل ما صنع مع أبي هريرة، وبخاصة فإنه لم يخالفه في
شئ، وإنما كان يبعث من يبعث من أصحابه إلى مختلف البلدان، إما ليعلموا
الناس، أو ليكونوا ولاة عليها أو مصدقين فيها، أو رسلا وسفراء بينه وبين
من يحكمونها كما بينا من قبل.
وثم أمر خطير وراء ذلك يعتبر بالغ الأهمية، وهو أقوى وأشد في نقيصة
نهمه وشرهه، يستوجب ولا ريب نفور النبي منه، وعدم رضاه عنه، ذلك هو
ما بدا من جبنه، وهلعه في غزوة مؤتة، التي تكلمنا عنها من قبل إذ فر منها
وولى مدبرا عندما احتدم القتال، مما جعل الصحابة جميعا يزدرونه ويعيرونه
بهذه الفعلة التي انفضح بها، ذلك بأن الشجاعة الحربية كانت أول صفة حميدة
في العربي!! وقد قتل في هذه المعركة زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب
وعبد الله بن رواحة.
ومثل هذا الجبان الرعديد لا يرضى به النبي صاحبا، ولا يقبل أن يكون له
جارا، وهذا بديهي لا يقبل الجدل - وإنما يجب أن يقصيه عن صحبته، ويبعده
عن جواره، بعد أن أصبح لا يصلح لا للعير ولا للنفير، وليس فيه خير
لا قليل ولا كثير، وقد وقع هذا الاقصاء بعد أن بدا جبنه المزرى ببضعة أشهر، فقد
كانت وقعة مؤتة في جمادى الأولى سنة 8 ه‍ والاقصاء كان في ذي القعدة سنة 8 ه‍.
هذا ما انتهى إليه بحثنا عن الهوى وخرجنا منه بنتيجة صحيحة يبدو منها
واضحا سر إبعاد النبي صلى الله عليه وآله لأبي هريرة عن المدينة إلى البحرين مع العلاء بن
الحضرمي بعد أن لبث في الصفة سنة وتسعة أشهر!
78

ولعلنا نكون قد وفقنا في بحثنا هذا، وكشفنا عما يقصده النبي صلى الله عليه وآله من
إقصاء أبو؟ هريرة إلى البحرين - ومن يماري في ذلك فليأتنا بسبب آخر على أن
يكون صحيحا معقولا فنتبعه!
وإذا كان النبي (صلوات الله عليه) لم يفصح عن قصده في هذا الامر
تصريحا، فإنه قد ترك لمن خلفه من ذوي الألباب أن يفهموه تلميحا.
وإن من حكمته صلوات الله عليه أن يدع مثل هذا الامر بغير أن يكشف
عن سببه، لأنه يأبى بسمو أدبه، وعظيم خلقه، أن يؤذى أحدا عرف أنه من
أصحابه، مهما يكن من أمره، حتى لا يظل على مد الزمن كله. موضع ازدراء
الناس وتحقيرهم، وويل لمن يصيبه مثل ذلك!
سيرته في ولايته
علمت مما سقناه إليك من قبل، أن أبا هريرة بعد أن قضى في الصفة
ما قضى بعثه النبي فيمن بعثهم مع العلاء بن الحضرمي إلى البحرين، وكان ذلك
في شهر ذي القعدة سنة 8 ه‍ وأن العلاء قد سأله عما يستطيع عمله في البحرين
فرغب في أن يكون (مؤذنا له).
ونذكر هنا أن عمر قد ولاه على البحرين سنة 20 ه‍ (1) كما روى الطبري
وبعد ذلك بلغ عمر عنه أشياء تخل بأمانة الوالي فعزله وولى مكانه عثمان بن أبي
العاص الثقفي - ولما عاد وجد معه لبيت المال أربعمائة ألف (2) فقال له:
أظلمت أحدا؟ فقال لا. قال: فما جئت لنفسك؟ قال: عشرين ألفا. قال:
من أين أصبتها؟ قال كنت أتجر (3). قال: انظر رأس مالك ورزقك فخذه،

(1) رواية الطبري أن عمر ولاه سنة 20 ه‍ بعد أن عزل عنها قدامة بن مظعون وذكر بعض
المؤرخين أن ولايته كانت بعد العلاء سنة 21 ه‍. وفى بعض الروايات أن توليته كانت في غير هذه السنة.
(2) يبدو أن البحرين كانت غنية جدا، وأنه كان يأتي منها لبيت المال ما لم يأت مثله من
غيرها. قال حميد بن هلال: بعث الحضرمي إلى رسول الله بمال، ثمانين ألفا من البحرين فنثرت
على حصير، فجاء النبي فوقف، وجاء الناس فما كان يومئذ عدد ولا وزن، ما كان إلا قبضا - ص 66
ج 2 سير أعلام النبلاء للذهبي، وقد ذكر البلاذري هذا الخبر في فتوح البلدان ص 81 طبع أوربا.
فقال: إنه ما أتاه أكثر منه قبله ولا بعده.
(3) هل يليق بالوالي الأمين أن يتجر؟ وانظر فيما بعد كيف يكون الولاة الامناء.
79

اجعل الآخر في بيت المال (1) ثم أمر عمر بأن يقبض منه عشرة آلاف وفي
رواية اثنا عشر ألفا.
ورواية ابن سعد في طبقاته عن أبي هريرة أن عمر قال له: عدوا لله وللاسلام.
وفى رواية عدوا لله ولكتابه. سرقت مال الله. وفى رواية: أسرقت مال الله؟ (2)
وقد روى البلاذري مثل ذلك في فتوح البلدان (3).
وفى رواية أن عمر قال:
هل علمت من حين أنى استعملتك على البحرين، وأنت بلا نعلين، ثم
بلغني أنك ابتعت أفراسا بألف دينار وستمائة دينار. قال: كانت لنا أفراس
تناتجت وعطايا تلاحقت. قال: قد حسبت لك رزقك ومؤونتك، وهذا فضل
فأده، قال: ليس لك ذلك، قال له عمر: بلى والله: وأوجع ظهرك. ثم قام
إليه بالدرة فضربه حتى أدماه، ثم قال له: إيت بها. قال: احتسبتها عند الله.
قال: ذلك لو أخذتها (من حلال!) وأديتها طائعا، أجئت من أقصى حجر
البحرين يجبى الناس لك؟ لا لله ولا للمسلمين. ما رجعت بك أميمة (4) إلا
لرعية الحمر (5)!
وهذه الرواية أقرب إلى الصحة. لأنها تتفق مع حزم عمر وصرامته، وطبع
أبي هريرة ومهانته، وقد ثبت أن عمر شاطره ماله كما شاطر غيره مثل أبى موسى
الأشعري والحارس بن كعب بن وهب وغيرهما (6).
وقال الأستاذ عبد الحليم الجندي رئيس أقلام قضايا الحكومة المصرية
(سابقا) " إن عمر ضرب عامله على البحرين (أبو هريرة) حتى أدماه وأخذ

(1) ص 338 ج 2 تاريخ الذهبي الكبير. وص 444 ج 2 من سير أعلام النبلاء للذهبي.
(2) ص 59 و 60 ج 4 قسم 2.
(3) ص 82 طبع أوربا.
(4) أميمة هي أم أبي هريرة والرجع والرجيع، والروث. والمعنى: ما روثت بك أمك لتكون
واليا وأميرا وإنما تغوطت بك لترعى الحمير.
(5) والحمر هي الحمير.
(6) ص 53 ج 1 العقد الفريد. وأبو موسى الأشعري أسلم مع أبي هريرة في وقت واحد كما قلنا
من قبل.
80

منه 1600 دينار وقال له:
" والله ما بعثناكم لتتجروا بأموال المسلمين ".
وكان يقول لمن يتعلل بالتجارة في أحراز الأموال:
" إنما بعثناكم ولاة ولم نبعثكم تجارا " (1).
وقد يرد على ذلك: إذا كان أبو هريرة على ما وصفت من تاريخه
فكيف يوليه عمر على البحرين؟ إنه لم يفعل ذلك إلا لان له شأنا وقدرا؟
والجواب عن ذلك ظاهر لا يحتاج إلى بيان، ذلك بأن سنة عمر في استعمال
الولاة كانت تقضى بأن لا يستعمل كبار الصحابة، حتى لا يدنسهم بالعمل.
أو لكي يمسكهم بالمدينة ليكونوا بين يديه، حتى لا يخرجوا عليه وإنما
يستعمل صغارهم كما ستعرف ذلك فيما بعد، فاستعمال أبي هريرة على هذه السنة
لا يكون مستغربا، هذا ولا يتوهمن أحد، أو يظن إنسان أن عمر قد استعمله عن
جهل به، أو نسيان لتاريخه، وكيف ينسى ما وقع له نفسه منه أيام كان
يعيش في الصفة فقد كان يلاحقه في طريقه، ويضايقه في سيره، فلا يجد
سبيلا إلى التخلص منه إلا بأن يدخل داره ويغلق الباب في وجهه (2)، وكان
لا يخفى عليه أن النبي صلى الله عليه وآله قد أخرجه من المدينة بعد أن ظهر منه ما ظهر
مما أضجر الناس منه.
فإذا كان عمر قد استعمله بعد كل ما بيناه ولم نبينه من تاريخه، فإنما
يكون ذلك على ظن منه وأمل بأنه - بما قضى مع العلاء بن الحضرمي قرابة
اثنتي عشرة سنة ملازما له في الصلاة، وبما شهد من أعماله الصالحة وأحكامه
العادلة، قد يكون اكتسب شيئا من الدراية والخبرة، فيضطلع بأعباء الولاية
كما يجب أن يكون عليه الوالي الصالح النزيه، وأنه سيأخذ نفسه بأن يجعل من
العلاء قدوة صالحة له حتى لا يبدو عواره للناس إذا هو أعوج أو مال عن
سيرة سلفه.

(1) ص 62 من كتاب توحيد الأمة العربية.
(2) وكذلك كان الامر مع أبي بكر وغيره ممن يضايقهم أبو هريرة بإلحاحه.
81

هذا ما كان يظنه عمر في أبي هريرة ويرجوه عندما استعمله على البحرين
وما كان عمر ليعلم الغيب، فقد خاب ظنه، ولم يتحقق رجاؤه - إذ ما كاد
أبو هريرة يتولى أمر هذه البلاد الغنية بخيراتها حتى غلبته شنشنته، وانطلقت من
عقالها مطامعه، فأرصد كل قوته لجمع المال وابتغاء الثراء ما وجد إلى ذلك
سبيلا، وأنساه حب المال ذكر عمر وصرامته ودرته، وأنه يقف وراءه
بالمرصاد يترقب الصغير والكبير من أعماله.
ولقد كان أول ما انتهى إلى عمر من اخباره، أنه ابتاع أفراسا بألف وستمائة
دينار! فهاله ما سمع! ولما استقدمه من البحرين - أتاه يحمل أربعين ألف درهم
لبيت المال، وعشرين ألفا لنفسه فدهش عمر كيف يجبى من الناس كل هذه
المبالغ الطائلة! ولم يملك إلا أن فاجأ أبا هريرة بقوله: أسرقت مال الله؟ إنك
عدو الله وعدو المسلمين!
وعندما سأله عن المال الذي أصابه لنفسه، ومن أين أتى به، أجابه بجواب
غريب لا يصدر من وال أمين! إذ قال: كنت أتجر! وكانت لنا أفراس
تناتجت (1) فلم يجد عمر من حيلة معه إلا أن يشاطره هذا المال، وكانت هذه
سنة عمر في الولاة الذين يخونون الأمانة في ولاياتهم، ولم يكتف بذلك مع
أبي هريرة - كما كان يفعل مع غيره، بل أوجع ظهره بدرته حتى أدماه، ثم
أخذ يلذعه بموجع القول وقوارص الكلم، مما لا يوجه مثله إلا إلى رجل مهين
فقد قال له: هل علمت من حين استعملتك على البحرين، وأنت بلا نعلين!
ولما طلب منه المال الذي استولى عليه من الناس ظلما بغير حق - وأجاب
أبو هريرة: لقد احتسبته عند الله! رد عليه عمر هذا الرد الأليم فقال له: ذلك
لو أخذته من حلال! أي أن هذا المال كان من المال الحرام!
وقوله له: أجئت من أقصى حجر يجبى الناس لك، لا لله ولا المسلمين!
ما رجعت بك أميمة إلا لرعية الحمر (2).
وماذا بعد أن يرميه بسرقة مال الله أو أنه عدو لله وعدو للمسلمين!

(1) رواية الذهبي: خيل نتجت وغلة رقيق لي ص 440 ج 2 سير أعلام النبلاء.
(2) تقدم معنى هذه العبارة في هامش رقم 1 ص 880 فراجع.
82

هذا وسواه قد صنعه عمر مع أبي هريرة عندما رآه قد أخل بأمانة الوالي
الصالح الأمين النزيه، واتبع هواه وكان من الخائنين!
وليس بعجيب أن يأتي أبو هريرة بما أتى في البحرين، ولا أن ما فعله
بمستغرب منه لأنه في الحقيقة إنما يكشف بذلك للناس عن أهم جانب من جوانب
شخصيته التي وضعنا في يدك مفتاحها عندما حدثناك عما بدا من جشعه وطمعه،
في أن ينال من غنائم خيبر ما ليس من حقه.
وإن ما سيقابلك من أفعاله مع معاوية لمما يزيدك إدراكا لحقيقة هذه الشخصية
وأغراضها التي ترمى إليها، وأنها لا تتحرج من ركوب أي مركب في سبيل
تحقيقها - فقد مثل مع معاوية وقومه آخر فصل من فصول روايته الغريبة التي
كان يمثل - على توالى السنين - فصولها، ويعيش في الحياة ما يعيش من أجلها.
وقد صدق رسول الله صلى الله عليه وآله حيث يقول: " كل ميسر لما خلق له ".
وسيأتيك ما جاء في أمر تولية عمر لولاته، ننقله لنعزز كلامنا به.
أما كثرة أحاديثه فقد كانت في عهد معاوية. أما في زمن أبى بكر وعمر فلم
يستطع أن يحدث بحديث واحد لان عمر نهاه عن ذلك بل أوجع ظهره بدرته.
وإليك طرفة نتحفك بها:
طرفة
عمر يرمى أبا هريرة بالتنطع في النهاية!
لما استعمل عمر بن الخطاب على البحرين قدامة بن مظعون - كما ذكروا -
شرب هناك الخمر، فقدم الجارود العقدي سيد عبد قيس على عمر من البحرين
وقال له: إن قدامة شرب فسكر! فقال عمر: من يشهد معك؟ فقال أبو هريرة،
إذ كان حينئذ معهم هناك، فدعى أبو هريرة. فقال: لم أره يشرب، ولكني
رأيته سكران يقئ! فقال له عمر: لقد تنطعت في الشهادة! وأرسل عمر إلى
83

زوجة قدامة هند بنت الوليد. فأقامت الشهادة على زوجها (1).
ولما أراد عمر أن يحد قدامة، قال قدامة: ليس لك ذلك! يقول الله عز
وجل " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا " (الآية 93
من سورة المائدة).
فقال له عمر: أخطأت التأويل فإن بقية الآية (إذا ما اتقوا) فإنك إذا
اتقيت اجتنبت ما حرم الله عليك ثم أمر به فجلد ثم رجع فكلمه واستغفر له.
ولم يحد أحد من أهل بدر في الخمر إلا قدامة (2).
ولا يفوتنا هنا أن نبين أن خبر شرب قدامة بن مظعون الخمر وهو وال على
البحرين وشهادة أبي هريرة عليه قد ذكره كبار المؤرخين وأكدوه حتى ليصح
أن يعد هذا الخبر متواترا بحيث لا يقبل أي شك، وإن كانوا لم يبينوا لنا - كما
أسلفنا - متى استعمل عمر قدامة على البحرين؟ وهل كان ذلك بعد العلاء
ابن الحضرمي؟
على أن الذي لا شك فيه أن هذا الخبر الثابت مما يزيد في توكيد الدلائل
وتوثيق البينة على وجود أبي هريرة في البحرين إلى أن ولاه عمر عليها - ومن أجل
ذلك أتينا به.
سنة عمر في استعمال الولاة:
كان عمر لا يستعمل كبار الصحابة ويستعمل من دونهم ممن لا شأن
لهم ولا قدر من أصحاب رسول الله مثل عمرو بن العاص ومعاوية والمغيرة
ابن شعبة حتى من الموالى مثل عمار بن ياسر (3) فقد ولاه على الكوفة وسلمان

(1) انظر كيف كانت هذه السيدة الجليلة أقوى دينا وأصدق شهادة من أبي هريرة على حين
أن الامر يعنيها هي وكان يجب أن تكون شهادتها عكس ذلك، إذ كانت هي أولى بأن تدرأ عن زوجها
هذه التهمة حي ينجو من عقابها فتكتم الشهادة!
(2) ص 548 ج 2 من الاستيعاب طبعة الهند وص 1277 - 1278 قسم 3 طبعة مصر
وص 255 ج 7 من فتح الباري وقدامة بن مظعون هذا من أخوال أم المؤمنين حفصة وابن عمر وله
هجرة إلى الحبشة وممن شهد بدرا توفى سنة 36 رضي الله عنه.
(3) قال عمر لعمار لما ولاه الكوفة: أردت أن أحقق قول الله عز وجل (ونريد أن نمن على
الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين) (ص 235) من كتاب الشيخان للدكتور
طه حسين.
84

الفارسي على المدائن وهما من الموالى، وكانت العرب عامة وقريش خاصة تحتقر
الموالى - وكان يدع من هم أفضل منهم مثل على وعثمان وطلحة والزبير
و عبد الرحمن بن عوف ونظرائهم.
وقيل له: مالك لا تولى الأكابر من أصحاب رسول الله فقال: (أكره
أن أدنسهم بالعمل (1)) ولم يقف الامر عند ذلك فقد حبس هؤلاء الأكابر
في المدينة معه.
قال الدكتور طه حسين نقلا عن الطبري:
كان عمر بن الخطاب قد حجر على أعلام قريش من المهاجرين الخروج
من البلدان إلا بإذن عاجل فشكوه فبلغه فقام فقال: ألا إني قد سننت الاسلام
سن البعير، يبدأ فيكون جذعا ثم ثنيا، ثم رباعيا ثم سديسا ثم بازلا، ألا فهل ينتظر
من البازل إلا النقصان! ألا فإن الاسلام قد يبزل، ألا وإن قريشا يريدون
أن يتخذوا مال الله معونات دون عباده. ألا فأما وابن الخطاب حي فلا!
إني قائم دون شعب الحرة، آخذ بحلاقيم قريش وحجزها أن يتهافتوا في النار.
ولم يمت عمر رضي الله عنه حتى ملته قريش، وقد كان حصرهم بالمدينة
فامتنع عليهم وقال، إن أخوف ما أخاف على هذه الأمة انتشاركم في البلاد (2)
وقال: إن قريشا كانت تزعم لنفسها أرستقراطية متفوقة وقد اعترف لها العرب بهذه
الاستقراطية في جملتهم (3). وليس ببعيد أن يفعل ذلك عمر خشية أن يستأثر
كل وال بولايته عندما يولى عليها ويقطع صلته بالمدينة حضرة الملك كما فعل
معاوية عند ما استأثر بحكم الشام وبذلك تتمزق الدولة.
وكان من سنة عمر إذا بعث عاملا له على مدينة أو ولاية كتب ماله لكي
ينظر ماذا سيتصرف في ولايته ومدى ما ينتفع منها فإذا زاد هذا المال بعد توليته
شاطره ما يزيد على أصل ماله. وكان من وصيته ألا يقر عاملا في عمله أكثر
من سنة (4).

(1) ص 203 ج 3 ق 1 طبقات ابن سعد.
(2) ص 79 من الفتنة الكبرى ج 1 (عثمان).
(3) ص 80 من نفس المصدر.
(4) ص 281 ج 2 سير أعلام النبلاء.
85

هذه هي سنة عمر من تولية الولاة فليس غريبا إذن أن يولى عمر أبا هريرة
ولاية البحرين. على أن هذه الولاية قد كشفت عن حقيقة أمانة ونزاهة
أبي هريرة - وانتشر نبأ ذلك بين الناس وسجله التاريخ فيما يسجل على صفحاته -
فقد ظهرت بعد ذلك فرية تقول: إن عمر قد عاد فطلب من أبي هريرة بعد
عزله أن يعمل ثانية ولكنه أبى!
وهذه الفرية ظاهرة البطلان ولا يمكن لذي لب أن يقبلها، لأنه لا يمكن
لمثل عمر في حزمه وصرامته أن يفعلها. وبخاصة مع مثل أبي هريرة!
ولقد يكون لمثل هذه الفرية وجه من الصحة إذا كان قد ثبتت لعمر براءة
أبي هريرة مما رمى به، فقد اتهمه عمر بسرقة مال الله ووصمه بأنه عدو لله (1)
وأنه قد رد إليه المال الذي انتزعه منه برغم أنفه! ولكن هذا الامر لم يرد فيه خبر
لا صحيح ولا موضوع!
اللهم إلا إذا كان عمر قد انقلب في آخر حياته فأصبح من الحكام الطعاة
الظالمين الذين يسلبون أموال الناس بغير حق وينفقونها في سبيل أغراضهم
الذاتية، ويستعينون على ذلك بولاتهم - ومن أجل ذلك أراد أن يعيد أن هريرة بعد ما
آنس منه الكفاية والمقدرة على ابتزاز أموال الناس ليستأنف نشاطه ويأتي لعمر
بما يريد من أموال الناس ثم أبى ورع أبي هريرة أن يقع في هذا الفخ وسلم!
وهذا ما يقضى به منطق هذه الفرية نذكره لذوي الألباب، أما الذين
يصدقون كل دعوى أو ادعاء بغير فهم ولا تمحيص فهؤلاء ندعهم لعقولهم.
ولا كلام لنا معهم!
وقفة قصيرة مع عمر:
مما يدعو إلى الملاحظة هنا أننا لم نجد عمر رضي الله عنه قد اتبع هذه السنة
مع معاوية بن أبي سفيان، فقد أبقاه عاملا على دمشق سنين طويلة ولم يزعجه
بالعزل كغيره - وكان ذلك مما أعان معاوية على طغيانه، وأن يحكم حكما قيصريا
طوال أيامه، وبخاصة بعد أن استولى على الشام كله في عهد عثمان، ثم امتد

(1) ذكر ذلك ابن سعد والبلاذري راجع صفحة 80 من هذا الكتاب.
86

هذا الطغيان الأموي إلى ما بعد معاوية حتى تسلم العباسيون الحكم.
وأمر آخر يستوجب الملاحظة، ذلك أن عمر لم يكن هو الذي ولى معاوية
على دمشق وإنما الذي ولاه هو أخوه يزيد بن أبي سفيان.
ذلك أنه لما فتحت دمشق في عهد عمر أمر عليها يزيد بن أبي سفيان،
ولما احتضر يزيد (مات بالطاعون سنة 18 ه‍)، استعمل أخاه معاوية مكانه من
غير أن يستشير عمر، وأقره عمر على ذلك.
هذان أمران قد يستوجبان الملاحظة على موقف عمر من معاوية وبنى
أمية، ولم يأت لنا من أحد من المؤرخين في ذلك بيان نسكن إليه.
فهل جعل عمر (دمشق) من نصيب بنى أمية فأمر عليها في أول الامر
يزيد بن أبي سفيان ثم رضى بأن يعهد يزيد هذا بالامارة إلى أخيه معاوية بغير
أن يرجع في ذلك إليه؟
وهل فعل عمر ذلك ليتألف بنى أمية وليتقي كيدهم ومكرهم، وهم قوم أهل
شر ومكر وكيد؟ أم أن هناك أسبابا أخرى دعت إلى ذلك!
هذا ما لا علم لنا به! وإنما الذي يعلمه هو علام الغيوب!
مثل الولاة الامناء:
تبين لك من سيرة أبي هريرة في ولايته على البحرين أنه كان فيها على غير
ما يجب أن يكون عليه الوالي النزيه الأمين، مما جعل عمر بن الخطاب يعزله،
ويأخذ منه شطر ماله ثم يصفه بما وصف، وقد كان مما سوغ به أبو هريرة
إحرازه للأموال الطائلة التي استولى عليها من البحرين بغير حق، أنه كان يتجر،
وهل للوالي النزيه أن يتجر مع رعيته، وبخاصة من كان مثل أبي هريرة؟
وليس غريبا كما قلنا أن يتخذ أبو هريرة هذا السبيل في سيرته بالبحرين.
بل الغريب أن يتخذ غيرها، فإن تاريخه قبل ولايته، لا يمكن أن يؤدى به
إلا إلى السبيل التي سلكها، ورضى بها.
ولو شئت أن ترى مثلا عاليا لما يكون عليه الوالي النزيه الأمين فإنا نسوق
87

إليك من سير بعض أجلاء الصحابة ما تعرف منها الفرق بين النفس العالية
الأبية، العفيفة المؤمنة الطاهرة، وبين غيرها ممن حرم هذه المزايا الغالية
العاطرة.
سيرة حذيفة بن اليمان:
حذيفة بن اليمان من نجباء الصحابة، وصاحب سر النبي الذي أسر إليه
بأسماء المنافقين (1).
ولاه عمر على المدائن، وكتب له عهدا قال فيه لأهل المدائن: اسمعوا له
وأطيعوا وأعطوه ما سألكم، فخرج على حمار موكف، تحته زاده، فلما قدم
المدائن، استقبله أعاظم الدهاقين (التجار) وبيده رغيف، وعرق من لحم.
ولما قرأ عليهم عهده، قالوا: سل ما شئت، قال: طعاما آكله، وعلف
حماري هذا - ما دمت فيكم - من تبن. فأقام ما شاء الله، ثم كتب إليه
عمر: أقدم، فلما بلغه قدومه، كمن له على الطريق - وكانت هذه عادته -
فلما رآه على الحال التي خرج عليها، أتاه فالتزمه وقال: أنت أخي وأنا
أخوك (2).
سلمان الفارسي،:
وإليك سطرين من تاريخ صحابي جليل آخر نعطر بها هذا الكتاب،
ننقلهما عن حافظ المغرب ابن عبد البر - ذلكم هو سلمان الفارسي.
دخل قوم عليه - وهو أمير على المدائن - وهو يعمل الخوص، فقيل له:
- لم تعمل هذا وأنت أمير يجرى عليك رزق؟ فقال: إني أحب أن آكل من
عمل يدي. وكان يشترى خوصا بدرهم فيعمله ويبيعه بثلاثة دراهم ينفق درهما
ويتصدق بدرهمين.

(1) ناشده عمر: أأنا من المنافقين؟ فقال: لا، ولا أزكى أحدا بعدك، وكان
عمر يترقبه عند موت أحد الصحابة. فإذا رآه لا يشهد جنازته، عرف أنه من المنافقين، مات سنة
36 ه‍، ولم يدرك وقعة الجمل، وقد قتل صفوان وسعيد اثنا حذيفة بصفين، وكانا قد بايعا عليا بوصية
أبيهما إياهما، له في الصحيحين 12 حديثا.
(2) ص 260 وما بعدها ج 2 من سير أعلام النبلاء.
88

وقد ذكروا أنه تعلم عمل الخوص بالمدينة من الأنصار أيام كان بها مع
النبي صلى الله عليه وآله وكان عطاؤه خمسة آلاف، يتصدق به، ويأكل من عمل
يده (1).
وزار مرة المدينة أثناء ولايته فجمع عمر الصحابة وقال لهم:
هيا بنا نخرج لاستقبال سلمان. ولم يفعل ذلك لغيره.
عبد الله بن رواحة:
ونضيف هنا في أمثلة الأمانة والنزاهة هذا الخبر الذي قرأناه عن عبد الله بن
رواحة أحد شعراء النبي صلى الله عليه وآله لان هذا المكان يليق به.
ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله بعثه إلى خيبر ليخرص (2) بينه وبين اليهود فجمعوا
له حليا من نسائهم وقالوا: هذا لك؟ وخفف عنا! فقال لهم:
يا معشر يهود، والله إنكم لمن أبغض خلق الله إلى، وما ذاك بحاملي على
أن أحيف عليكم، والرشوة سحت! فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض (3).
فترى لو كان أبو هريرة هو الذي بعثه النبي صلى الله عليه وآله إلى هؤلاء اليهود ورنت
عيناه إلى حلي نسائهم! هل كان يغمض عينيه عنها، أو يصم أذنيه عن سماع
وسوستها (4).
ونكتفي بما أوردناه في هذه المثل العليا التي يفخر بها وبمثلها الاسلام على
مد عصوره، حتى لا يطول الحديث، وهل يستوى الخبيث والطيب؟
أخذ أبي هريرة عن كعب الأحبار:
ما كاد أبو هريرة يرجع إلى المدينة معزولا عن ولايته بالبحرين حتى تلقفه
الحبر الأكبر كعب الأحبار اليهودي، وأخذ يلقنه من إسرائيلياته، ويدس له من

(1) ص 572 ج 2 من الاستيعاب - طبع الهند. وانظر فضائل سلمان الفارسي في
هذا الكتاب.
(2) الخرص هو حذر ما على النخل من الرطب تمرا، والخرص أيضا الكذب.
(3) ص 170 ج 1 سير أعلام النبلاء.
(4) وسوستها أي صوتها.
89

خرافاته، وكان المسلمون يرجعون إليه فيما يجهلون، وبخاصة بعد أن قال لقيس
ابن خرشة هذه الأكذوبة: " ما من الأرض شبر إلا مكتوب في التوراة التي
أنزل على موسى ما يكون عليه، وما يخرج منه. (1) "
ومن أجل ذلك هرع أبو هريرة إليه، ليأخذ منه ويتتلمذ عليه، وسال
سيل روايتهما، ولا سيما بعد أن خلا الجو لهما، بموت عمر واختفاء درته.
ولا يزال هذا السيل يتدفق بالأحاديث الخرافية والمشكلة. وقد سمعت مرة
من أحد أحرار الفكر المحققين أن أبا هريرة وكعبا هما اللذان أفسدا الاسلام
بما بثا فيه من الخرافات والأوهام
ومن عجيب أمر هؤلاء الذين يطلقون عليهم جمهور المسلمين أنه على رغم
ما قيل فيهما، وما ثبت من أكاذيبهما ثبوتا بينا، لا يزالون يثقون بهما، ويأخذون
بما يرويانه وفيه ما لا يقبله عقل صريح ولا نقل صحيح ثم يجعلون الأول من خيار
التابعين ويجعلون الآخر راوية الاسلام من بين جميع المسلمين.
كيف اتصل أبو هريرة بكعب الأحبار وتتلمذ عليه:
روى ابن سعد في طبقاته الكبرى عن عبد الله بن شقيق أن أبا هريرة جاء
إلى كعب يسأل عنه. وكعب في القوم، فقال كعب ما تريد منه؟ فقال:
أما إني لا أعرف أحدا من أصحاب رسول الله أن يكون أحفظ لحديث رسول
الله منى! فقال كعب: أما إنك لم تجد طالب شئ إلا سيشبع منه يوما من
الدهر إلا طالب علم، أو طالب دنيا! فقال أبو هريرة: أنت كعب؟ فقال:
نعم، فقال: لمثل هذا جئتك (2).
إنني جئتك لأطلب عندك العلم، وأستقي من معينك الغزير، وقد وجد
كعب بغيته في أبي هريرة الذي يزعم أنه أحفظ الناس لحديث رسول الله، وأنه
نعم التلميذ النجيب الذي يحمل عنه ما يريد بثه مما يفسد عقائد المسلمين.

(1) رواه الطبراني والبيهقي في الدلائل.
(2) ص 57 ج 4 ق 2. وقال الحاكم في المستدرك حديث صحيح على شرط الشيخين
ص 92 ج 1.
90

وقد بلغ من علو شأن كعب حينئذ أنه كان يلقى دروسه في المسجد، فقد
نقل الدكتور أحمد أمين (1) عن طبقات بن سعد حكاية عن رجل دخل المسجد
فإذا عامر بن عبد الله بن عبد القيس جالس إلى كتب، وبينها سفر من أسفار
التوراة، وكعب يقرأ (2).
وقد أثبت علماء الحديث أمر أخذ أبي هريرة وغيره عن كعب الأحبار
وذلك في باب (رواية الأكابر عن الأصاغر، أو الصحابة عن التابعين)
وقد عدوا كعبا من كبار التابعين، قال السيوطي في ألفيته:
وقد روى الكبار عن صغار * في السن أو في العلم والمقدار (3)
ومنه أخذ الصحب من أتباع * وتابع عن تابع الاتباع
كالحبر عن كعب وكالزهري * عن مالك ويحيى الأنصاري
وقال شارح الألفية الشيخ أحمد شاكر رحمه الله: ومن هذا النوع
رواية الصحابي عن التابعين كرواية الحبر عبد الله بن عباس وسائر العبادلة
(وأبي هريرة) وأنس وغيرهم عن كعب الأحبار (4) ا هو أبو هريرة وابن عباس
كانا أكثر من نشر علم كعب الأحبار، ويبدو أن أبا هريرة كان أكثر
الصحابة انخداعا به، وثقه فيه، ورواية عنه، كما كان أكثرهم رواية للحديث

(1) ص 198 فجر الاسلام.
(2) ص 79 ج 7. طبقات بن سعد.
(3) ص 237 و 238 وورد مثل هذه الأبيات في ألفية العراقي راجع 832 و 833
من فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي.
(4) كعب الأحبار أكبر أحبار اليهود في عصره أسلم في عهد عمر إسلاما ظاهرا ليخدع
المسلمين، وبث هو وزميليه وهب بن منبه وعبد الله بن سلام في الاسلام ما بثوا، وكان من أعمال
الخطيرة أن اشترك في مؤامرة قتل عمر - وقال له عمر: دعنا من يهوديتك، وأنذره إذا لم يكف عن
التحديث أن ينفيه. وقد كانوا - كما قال سبط بن الجوزي في مرآة الزمان - يتوقفون فيما يرويه،
وقال ابن كثير: لما أسلم في الدولة العمرية جعل يحدث عمر عن كتبه قديما فربما استمع له عمر
فترخص الناس في استماع ما عنده غثه وسمينه - ص 17 ج 4 من تفسيره، ولما وجد أنه تمادى في الحديث
نهاه عن التحديث كما نهى أبا هريرة وقال عنه معاوية إنا كنا نبلو عليه الكذب، وانظر كلامنا عن هذا
الكاهن وغيره من كهان اليهود وما بثوه في الدين الاسلامي من الإسرائيليات وذلك في كتابنا (أضواء على
السنة المحمدية) الطبعة الثالثة.
91

عن النبي صلى الله عليه وآله ويتبين من الاستقراء أن كعب الأحبار بعد أن أصبح له
شأن بين المسلمين كما بيناه في كتابنا الأضواء، قد سلط من دهائه على سذاجة
أبي هريرة لكي يستحوذ عليه وينيمه ليلقنه كل ما يريد أن يبثه في الدين
الاسلامي من خرافات وأساطير وأوهام، وكان له في ذلك أساليب غريبة
وطرق عجيبة.
فقد ذكر الذهبي في طبقات الحفاظ وفى أعلام النبلاء في ترجمة أبي هريرة
أن كعب الأحبار قال فيه، أي في أبي هريرة: ما رأيت أحدا لم يقرأ التوراة
أعلم بما فيها من أبي هريرة (1).
وقال في سير أعلام النبلاء: أن أبا هريرة قد حمل عن كعب الحبر (2).
وأخرج البيهقي في المدخل عن طريق بكر بن عبد الله عن أبي رافع عن أبي
هريرة قال: إن أبا هريرة لقي كعبا فجعل يحدثه ويسأله: فقال كعب:
ما رأيت رجلا لم يقرأ التوراة أعلم بما في التوراة من أبي هريرة (3).
فانظر مبلغ دهاء هذا الكاهن ومكره بأبي هريرة الذي يتجلى من تاريخه
أنه كان رجلا فيه غفلة وغرة! إذ من أين له أن يعرف ما في التوراة وهو
لا يعرف اللغة العبرية؟ ثم إنه كان أميا لا يقرأ ولا يكتب حتى العربية! على أن
التوراة كانت حينئذ مخفية عن المسلمين، ولا يعلمها إلا الأحبار من اليهود.
وإليك سطورا مما وصف به الدكتور طه حسين هذا الكاهن الخبيث:
كان غريب الأطوار، عرف كيف يخدع كثيرا من المسلمين ومنهم
عمر - وهو كعب الأحبار، وكان كعب يهوديا من أهل اليمن زعم أنه سأل عليا
رحمه الله عن النبي حين ذهب على إلى اليمن مرسلا من رسول الله صلى الله عليه وآله فلما
أنبأه على بصفة النبي عرف هذه الصفة مما كان يجده بزعمه في التوراة، ولم
يأت المدينة أيام النبي وإنما أقام على يهوديته في اليمن. وزعم هو بعد ذلك
للمسلمين أنه أسلم ودعا إلى الاسلام في اليمن. وقد أقبل إلى المدينة أيام عمر،

(1) ص 432 ج 2 أعلام النبلاء. وص 34 ج 1 من تذكرة الحفاظ.
(2) ص 418 ج 2.
(3) 205 ج 5 من الإصابة.
92

فأقام فيها مولى للعباس بن عبد المطلب رحمه الله، وكان بارعا في الكذب على
المسلمين يزعم أنه يجد صفاتهم في الكتب، وكان المسلمون يعجبون بذلك
ويتعجبون له، ولم يلبث أن كذب على عمر نفسه فزعم له أنه يجد صفته.
التوراة فعجب عمر وقال: تجد اسم عمر في التوراة؟ قال كعب: لا أجد
اسمك وإنما أجد صفتك (1).
وكان الأستاذ سعيد الأفغاني قد نشر مقالا بمجلة الرسالة المصرية قال فيه:
إن وهب بن منبه هو الصهيوني الأول، فصححت هذا الرأي بمقال نشر في العدد 656
من هذه المجلة أثبت فيه بالأدلة القاطعة أن كعب الأحبار هو الصهيوني الأول.
وما كاد هذا المقال ينشر حتى هب في وجهنا شيوخ الأزهر وأمطرونا وابلا
من طعنهم المعروف وقالوا: كيف تصف (سيدنا كعبا) بأنه الصهيوني الأول،
وهو من كبار التابعين وخيار المسلمين. ومما يؤسف له أنهم لا يزالون يذكرون
اسمه بالسيادة إلى اليوم.
ويرجع إلى ترجمة سائر كهنة اليهود بكتابنا الأضواء الطبعة الثالثة.
كيف كان يتلقى عن كعب الأحبار:
روى أبو هريرة عن رسول الله " إن في الجمعة لساعة لا يوافقها رجل مسلم
يسأل لله خيرا إلا أعطاه إياه، وفى يوم الجمعة خلق آدم وفيه أهبط إلى
الأرض، الحديث - وروى مالك عن أبي سلمة أن أبا هريرة قال: قدمت الطور
فوافقت كعبا فحدثني عن التوراة، وحدثته عن رسول الله حديث يوم الجمعة،
فقال كعب: فيه خلق آدم! وفيه هبط إلى الأرض، الحديث (2).
وبذلك يكون أبو هريرة قد حدث ببعض الحديث عن رسول الله، ثم
تلقى بعضه عن كعب ونسب الحديث كله إلى النبي.
ومما يدلك على أن هذا الكاهن الداهية، قد طوى أبا هريرة تحت جناحه
حتى جعله يردد كلامه بالنص، ويجعله حديثا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وآله ما
نورد لك شيئا منه.

(1) ص 254 و 255 من كتاب الشيخان.
(2) ص 57 من كتاب قبول الاخبار ومعرفة الرجال لأبي القاسم البلخي.
93

روى البخاري عن أبي هريرة أن النبي قال: " الشمس والقمر مكوران
يوم القيامة " (1).
وقال ابن حجر في شرح هذا الحديث: زاد في رواية البزار ومن ذكر معه
(في النار) فقال الحسن: وما ذنبهما فقال أبو سلمة: أحدثك عن رسول الله،
وتقول ما ذنبهما؟
وهذا الكلام نفسه قد قاله كعب الأحبار بنصه - فقد روى أبو يعلى الموصلي
قال: يجاء بالشمس والقمر يوم القيامة كأنهما ثوران عقيران فيقذفان في
جهنم يراهما من عبدهما " (2).
وروى الحاكم في المستدرك والطبراني ورجاله رجال الصحيح عن أبي هريرة.
أن النبي قال: إن الله قد أذن لي أن أحدث عن ديك قد مرقت رجلاه في
الأرض وعنقه مثنية تحت العرش وهو يقول. سبحانك ما أعظم شأنك! قال
فيرد عليه، ما يعلم ذلك من حلف بي كاذبا.
وهذا الحديث من قول كعب الأحبار ونصه: " إن لله ديكا عنقه تحت
العرش وبراثنه في أسفل الأرض، فإذا صاح صاحت الديكة فيقول: سبحان
القدوس الملك الرحمن لا إله غيره (3).
حديث: " النيل، وسيحان، وجيحان، والفرات من أنهار الجنة! ":
روى أحمد ومسلم عن أبي هريرة، أن رسول الله قال: " النيل، وسيحان،
وجيحان، والفرات من أنهار الجنة "، وهذا القول نفسه رواه كعب الأحبار إذ قال (4)
" أربعة أنهار من الجنة وضعها الله عز وجل في الدنيا، فالنيل نهر العسل في
الجنة، والفرات نهر الخمر، وسيحان نهر الماء في الجنة، وجيحان نهر اللبن
في الجنة "!

(1) ص 229 ج 6 فتح الباري و 475 ج 4 تفسير ابن كثير.
(2) ص 232 حياة الحيوان.
(3) ص 220 ج 10 نهاية الإرب للنويري.
(4) ص 34 ج 1 النجوم الزاهرة.
94

صدور هذه الأنهار من الجنة أسطورة قديمة:
إن القول بأن هذه الأنهار تنبع من الجنة أسطورة قديمة ليست إسرائيلية
فحسب، وإنما يرجع تاريخها إلى ما وراء ذلك بأحقاب طويلة.
وإليك كلمة قيمة في هذا الصدد نشرتها مجلة الكتاب (1) للأستاذ السيد
أبو النصر أحمد الحسيني الهندي بعنوان: كنك نهر الهند المقدس:
ذكر نهر كنك في الكتب الأربعة الهندية المقدسة الشهيرة مرارا فذكر
في " رج ويدا " مرتين وفى " پورانا " باسم " وياد كنك " ومعناه كنك
الجني، وكذلك ذكرت أسطورة صدوره من الجنة - ونسبة الأنهر إلى الجنة
عقيدة عريقة في القدم، وجدت تقريبا في جميع الأديان، فقد ذكر في
نصوص الديانة البابلية القديمة: أن أربعة أنهر من الجنة هي:
(1) نارو " وهو يسمى اليوم الفرات " (2) سى جال (3) سى
ليم (4) روديج " وهو يسمى اليوم في الغالب دجلة ". كذلك في التوراة
بيان عن صدور أربعة أنهر من الجنة وهي: (1) فيشون (2) جيحون
(3) حداقل (4) الفرات.
وفى الاسلام أيضا ورد حديث رواه أبو هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال:
" النيل، وسيحان، وجيحان، والفرات من أنهار الجنة (2) " وفى حديث آخر
عن ابن عباس (3) مرفوعا: " أنزل الله تعالى من الجنة إلى الأرض خمسة أنهار:
سيحون وجيحون ودجلة، والفرات، والنيل. أنزلها الله من عين واحدة من
عيون الجنة من أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبريل، واستودعها الجبال
وأجراها في الأرض وجعل فيها منافع للناس (4) " - وفى حديث آخر: نهران
مؤمنان! ونهران كافران! أما المؤمنان! فالنيل والفرات! وأما الكافران فدجلة

(1) ص 320 - 322 من المجلد الأول السنة الأولى - الجزء الثالث، يناير سنة 1946.
(2) ذكره السيوطي في حسن المحاضرة طبع مصر ج 2 ص 179 نقلا عن الامامين
أحمد ومسلم " من هامش الأصل ".
(3) ابن عباس وأبو هريرة كانا، كما قلنا من قبل، أكثر من نشر علم كعب الأحبار
(4) قال السيوطي: أخرجه الخطيب في تاريخه وابن مردويه في تفسيره، والضياء المقدسي في
صفة الجنة.
95

ونهر بلخ! وقد فسر إيمانهما بأنهما يفيضان على الأرض فيسقيان الحرث
بلا مؤونة وكلفة، وفسر كفرهما بأنهما لا يسقيان ولا ينتفع بهما إلا بمؤونة
وكلفة (1) اه‍.
وهكذا يتسلل إلى ديننا مثل هذه الخرافات والأساطير التي تفضحنا بين
الأمم ويضحك حتى أطفال المدارس منها، وللأسف فإنهم يرفعون أخبارها
إلى النبي صلى الله عليه وآله ويثبتونها في كتبهم الصحيحة! ويروجونها بين الناس بنشرها،
ثم يدافعون عنها - وإذا بصرناهم بالحقائق، وفتحنا العيون العمى، والآذان
الصم، والقلوب الغلف - ونزهنا مقام النبي صلى الله عليه وآله عن هذه الأساطير، رمونا
بالشتائم وقذفونا بالسباب، وقالوا: إننا نطعن في صحابي جليل. غفر الله لهم
وشفاهم من داء الجهل والغفلة والحماقة.
ولنرجع إلى الإسرائيليات التي تلقاها أبو هريرة عن كعب الأحبار.
قال ابن كثير في تفسيره: إن حديث يأجوج ومأجوج الذي رواه أحمد
وغيره عن أبي هريرة ونصه: إن يأجوج ومأجوج ليحفرون السد كل يوم حتى
إذا كادوا يرون شعاع الشمس، قال الذين عليهم: ارجعوا فستحفرونه غدا
فيعودون. إلخ ".
قال ابن كثير: لعل أبا هريرة تلقاه من كعب الأحبار فإنه كان كثيرا
ما يجالسه ويحدثه فحدث به أبو هريرة فتوهم بعض الرواة أنه مرفوع فرفعه
والله أعلم (2).
وقد بين ابن كثير في مواضع كثيرة من تفسيره ما أخذه أبو هريرة عن
كعب الأحبار ثم رفعه إلى النبي - فيرجع إلى هذا التفسير للوقوف عليها.
وفى الصحيحين البخاري ومسلم - من حديث أبي هريرة: " إن الله خلق

(1) راجع النهاية لابن الأثير طبع مصر ج 1 ص 54 من هامش الأصل.
(2) ص 104 و 105 ج 3 تفسير ابن كثير.
96

آدم على صورته (1) " - وهذا الكلام قد جاء في الأصحاح الأول من التوراة
(العهد القديم) ونصه هناك: " خلق الله الانسان على صورته، على صورة الله
خلقه "!
ولما ذكر كعب صفة النبي في التوراة، قال أبو هريرة في صفته صلى الله عليه وآله
لم يكن فاحشا ولا متفحشا ولا سخابا في الأسواق. وهو نص ما قاله كعب
كما أوردناه في كتابنا الأضواء.
حديث خلق الله التربة يوم السبت:
روى مسلم في كتابه عن أبي هريرة: أخذ رسول الله بيدي! فقال: خلق
الله التربة يوم السبب، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم
الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها
الدواب يوم الخميس، وخلق آدم عليه السلام بعد العصر يوم الجمعة في آخر
الخلق من آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل.
وقد روى هذا الحديث كذلك الإمام أحمد والنسائي عن أبي هريرة - ورواية
النسائي: " إن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على
العرش في اليوم السابع ".
وقد ذكر الأئمة ومنهم البخاري في التاريخ الكبير وابن كثير أن أبا هريرة
قد تلقى هذا الحديث عن كعب الأحبار، لأنه يخالف نص القرآن في أنه
خلق السماوات والأرض في ستة أيام!

(1) من روايات هذا الحديث وطوله - أي آدم - ستون ذراعا في سبعة أذرع عرضا وفى رواية
على صورة الرحمن.
وقد انتقد هذا الحديث ابن حجر من إحدى نواحيه فقال - ويشكل على هذا ما يوجد
الآن من آثار الأمم السالفة كديار عاد وثمود - فإن مساكنهم تدل على أن قاماتهم لم تكن
مفرطة في الطول على حسب ما يقتضيه الترتيب السابق - إلى أن قال: ولم يظهر لي إلى الآن
ما يزيل هذا الاشكال - ص 281 و 282 ج 6 فتح الباري، وقد أنكر الامام مالك هذا الحديث،
وحديث: إن الله يكشف عن ساقه يوم القيامة، وإنه - أي الله سبحانه - يدخل في النار يده حتى
يدخل من أراد الله - إنكارا شديدا. والحديث الثاني من رواية أبي هريرة وهما في الصحيحين.
97

ومما بدل على أن أبا هريرة قد استقى هذا الحديث من كعب الأحبار كما
نص الأئمة على ذلك، وأنه من نبع إسرائيلي، أن هناك خبرا آخر يشابهه مرويا
عن عبد الله بن سلام - الذي كان من أحبار اليهود وأسلم رواه الطبراني وهذا
نصه:
" إن الله بدأ الخلق يوم الأحد فخلق الأرضين في الأحد والاثنين، وخلق
الأقوات والرواسي في الثلاثاء والأربعاء وخلق السماوات في الخميس والجمعة،
وفرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة فخلق فيها آدم على عجل فتلك الساعة
التي تقوم فيها الساعة.
وعبد الله بن سلام هذا قد حدث عنه أبو هريرة كما حدث عن كعب
الأحبار (1).
ومن العجيب أن أبا هريرة قد صرح في هذا الحديث (بسماعه) من النبي
وأنه صلى الله عليه وآله قد (أخذ بيده) حين حدثه به - وإني لأتحدى الذين يزعمون أنهم
على شئ من علم الحديث، أن يحلوا هذا (المشكل) وأن يخرجوا شيخهم من
هذه الورطة التي ارتطم فيها!
إن الحديث صحيح السند على قواعدهم، لا خلاف في ذلك بينهم، وقد
رواه مسلم في صحيحة، ولم يصرح بسماعه من النبي فحسب، بل زعم أن رسول
الله قد أخذ بيده وهو يحدثه به، وقد قضى أئمة الحديث بأن أبا هريرة قد
أخذه من كعب الأحبار وأنه مخالف للكتاب العزيز - ولو رواه عنعنة لقلنا
عسى، ولالتمسنا له مخرجا يخرج منه، ولكنه صرح بسماعه ووضع يده في يد
النبي عندما تلقاه منه - فمثل هذه الرواية تعد ولا ريب (كذبا صراحا وافتراء
على رسول الله) فما حكم من يقترفها؟ وهل تدخل تحت طائلة حكم حديث
الرسول " من كذب على فليتبوأ مقعده من النار ". أم هناك مخرج لراوي هذا
الحديث بذاته، لأنه صاحب الثوب، والوعاءين، والمزود (2)؟

(1) ص 296 ج 2 من سير أعلام النبلاء للذهبي. وعبد الله بن سلام هو أبو الحارث الإسرائيلي
أسلم بعد أن قدم النبي المدينة وهو من أحبار اليهود حدث عنه أبو هريرة وأنس بن مالك وجماعة،
اتفقوا على أنه توفى سنة 43 ه‍.
(2) سنحدثك فيما بعد عن قصة الثوب والوعاءين والمزود وهي قصة طريفة.
98

إني والله لفي حاجة إلى الانتفاع بالجواب المقنع عن ذلك! لان هذا الحديث
وحده لو حقق. لانسان نظره فيه وأمعن في ظاهره ومطاويه، لكشف ولا ريب
عن حقيقة روايات أبي هريرة كلها. لأنه إذا كان هذا شأنه في رواية ما
يصرح بسماعه بأذنه من النبي صلى الله عليه وآله فكيف يكون الامر فيما يرويه عنعنة عن
غيره؟ وأكثر رواياته عنعنة كما صرحوا بذلك.
وإني - كلما ذكرت هذا الحديث - يعتريني شئ أشبه ما يكون بالخجل
أو الخزي!
إذ ماذا يقول العلماء وبخاصة علماء الجيولوجيا الذين انتهى بحثهم العلمي إلى
أن الأرض قد انقضى على تكوينها آلاف الملايين من السنين، ثم يأتي رسول
المسلمين فيقول: إنها خلقت هي وما عليها في سبعة أيام من أيام الدنيا! وماذا
يكون ظن هؤلاء العلماء في مبلغ علمه عليه الصلاة والسلام! على حين أنه
يقول إنه تلقى علمه وحيا من الله! وإنه لا ينطق عن الهوى! وهكذا يورطنا
أبو هريرة في المشاكل التي تفضحنا عند الأمم ولا نعرف كيف نتخلص منها!
ولقد أحسن علماؤنا في تكذيب هذا الحديث، وأن يقطعوا بأن أبا هريرة
قد كذب في أنه قد رواه عن النبي - وأنه قد تلقاه عن كعب الأحبار اليهودي
الذي لم يكن له من عمل إلا أن يدس في الاسلام ما يشوه بهاءه، وأن يفتح
باب الطعن في علم من جاء به.
وهذه كلمة نتم بها نقد هذا الحديث.
إن الذين انتقدوا أبا هريرة في رواية هذا الحديث وكذبوه من أجله، قد
حصروا انتقادهم في الاختلاف بين عدد الأيام التي جاءت في حديثه وما جاء
في القرآن! ثم وقفوا عند ذلك، وفاتهم أمر آخر مهم كان عليهم أن يشتدوا
في نقده حتى ولو كانت رواية حديث أبي هريرة قد جاءت مطابقة لما في
القرآن! من حيث عدد الأيام - ذلك لان الأيام التي ذكرها في حديثه
والتي خلق الله العالم كله فيها - هي الأيام المعروفة لنا، تلك التي جاءت من
دوران الأرض حول الشمس - وهذه الأيام لم تكن معروفة يوم خلق الله
السماوات والأرض، لا بأسمائها ولا بمقاديرها! لان ذلك قد جاء في اصطلاح
99

البشر، وكان لكل أمة اصطلاح خاص في ذلك. على أن هذه الأسماء التي
وضعوها على أيام الأسبوع وأصبحت متعارفة اليوم لجميع الناس قد كان
للعرب قبلها أسماء أخرى يطلقونها على أيام الأسبوع وهي:
" أول، وأوهد، وجبار، ودبار، ومؤنس، وعروبة، وشيار " وجمعها
بعضهم في هذين البيتين:
أؤمل أن أعيش وإن يومى * بأول أو بأوهد أو جبار
أو التالي دبار فإن أفته * فمؤنس أو عروبة أو شيار
ولا نتوسع في بيان أسماء الأيام عند غير العرب من المصريين والرومانيين
والبابليين وغيرهم فإن لذلك بحثا آخر هو أملك به.
ومما فات الذين انتقدوا أبا هريرة كذلك أنهم لم يفقهوا أن اليوم إذا كان
مقداره عند الناس أربعا وعشرين ساعة فإنه عند الله غير معروف المقدار!
فقد يكون ألف سنة كما في قوله تعالى " وإن يوما عند ربك كألف سنة مما
تعدون "، وقد يكون خمسين ألف سنة كما في قوله تعالى " تعرج الملائكة والروح
إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة " وقد يكون أكثر من ذلك، والله
عنده علم الغيب، هذا ما كان يجب أن يتولاه العلماء في نقد أبي هريرة في
حديث خلق الله التربة يوم السبت، وتقصيرهم هذا ليس بغريب عليهم بل
إنهم قد عرفوا به إذ يجعلون وكدهم في نقد الأسانيد فحسب، أما المتون
فإنهم يدعونها على ما قد يكون فيها مما لا يقبله عقل صريح، ولا يقره علم صحيح،
وقد أوضحنا ذلك في كتابنا " أضواء على السنة المحمدية " أكمل إيضاح وهم على
كل حال مشكورون على ما بذلوه فيما يستطيعون!
وإن هذا الحديث الذي أثبت ثبوتا قاطعا كذب أبي هريرة وافتراءه على
النبي صلى الله عليه وآله ليكفي وحده في نزع رداء الثقة عن أبي هريرة ورواياته، وفى
امتلاخ كل عرق من الظن بأنه كان فيما يروى عن النبي صلى الله عليه وآله صادقا أمينا
وإنه لكما وصفه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه حيث قال فيه:
إنه كان أكذب الناس، هذا وسيأتيك في موضعه من هذا الكتاب - اتهام
الصحابة والتابعين ومن بعدهم إياه حتى كان بذلك (أول راوية اتهم في الاسلام).
100

وإليك حديثا آخر نضمه إلى حديث (خلق الله التربة يوم السبت) لأنه
صرح كذلك فيه بسماعه من النبي:
روى ابن كثير في تفسيره عن أبي هريرة أنه قال (1):
سمعت رسول الله يحكى عن موسى على المنبر (أي سمعه كل الصحابة)
قال:
" وقع في نفس موسى هل ينام الله عز وجل؟ فأرسل الله تعالى إليه ملكا
فأرقه ثلاثا، وأعطاه قارورتين، في كل يد قارورة، وأمره أن يحتفظ بهما،
فجعل ينام وتكاد يداه تلتقيان، ثم يستيقظ فيحبس إحداهما عن الأخرى،
حتى نام نومة فاصطفقت يده فانكسرت القارورتان ".
قال ابن كثير: والظاهر أن هذا الحديث ليس بمرفوع، بل هو من
الإسرائيليات المنكرة فإن موسى (ع) أجل من أن يجوز على الله سبحانه وتعالى
النوم، وقد أخبر الله عز وجل في كتابه العزيز بأنه الحي القيوم الذي لا تأخذه
سنة ولا نوم، له ما في السماوات وما في الأرض.
وروى أحمد عن أبي هريرة أن رسول الله قال: " يخرج من خراسان رايات
سود لا يردها شئ حتى تنصب بإيليا "، رواه البيهقي، وقد قال الحافظ ابن كثير
إنه من كعب الأحبار (2).
وروى أحمد في مسنده عن القاسم بن محمد قال: اجتمع أبو هريرة وكعب
فجعل أبو هريرة يحدث كعبا عن النبي وكعب يحدث أبا هريرة عن
الكتب (3).
وقد بلغ من دهاء كعب الأحبار واستغلاله لسذاجة أبي هريرة وغفلته أن
كان يلقنه ما يريد بثه في الدين الاسلامي من خرافات وأساطير، حتى إذا
رواها أبو هريرة، عاد هو فصدق أبا هريرة، ليؤكد هذه الإسرائيليات وليمكن

(1) ص 561 ج 3.
(2) ص 51 ج 10 من البداية والنهاية لابن كثير.
(3) ص 275 ج 2.
101

لها في عقول المسلمين كأن الخبر قد رواه أبو هريرة عن النبي، وهو في الحقيقة
عن كعب الأحبار!
وإليك مثلا آخر من الأحاديث التي رواها أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله
وهي في الحقيقة من الإسرائيليات:
روى أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم عن (أبي هريرة) أن رسول الله قال:
" إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مئة عام لا يقطعها " اقرأوا
إن شئتم " وظل ممدود "!!
ولم يكد هذا الحديث يبلغ كعبا! حتى أسرع فقال - كما روى ابن
جرير -: صدق والذي أنزل التوراة على موسى! والفرقان على محمد، لو أن
رجلا ركب (حقة) (1) أو (جذعة) ثم دار بأعلى تلك الشجرة ما بلغها حتى
يسقط هرما! إن الله تعالى غرسها بيده، ونفخ فيها من روحه، وإن أفنانها لمن
وراء ستار الجنة، وما في الجنة نهر إلا وهو يخرج من أصل هذه الشجرة (2).
وهكذا يتعاونان على نشر هذه الخرافات بين المسلمين، وهي سوس الدين،
أما كعب الأحبار فلكي يبلغ غايته من إفساد مبادئ الاسلام، وأما أبو هريرة
فلكي يعلو شأنه بين الأنام، وبخاصة في نظر بنى أمية، وبذلك ينال مآربه
الدنيوية بعد أن أصبح التلميذ الأول للكاهن اليهودي الماكر، وأنه أعلم الناس
بما في التوراة بعد أن تلقى علم النبي صلى الله عليه وآله وأسراره في ثوبه وأجربته! وأصبح
أعلم الناس بأحاديثه!
وهكذا تحيط بنا الإسرائيليات وغيرها من كل جانب، والمسلمون يصدقون،
والحشوية يؤيدون، وأعداء الاسلام يضحكون، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
البيت وما كان من أمره:
ونختم هذا الفصل بخبر عجيب مما كان كعب يبثه من خرافات وترهات:
سأل عمر كعبا (أيام كان يثق فيه) أخبرني عن بناء هذا البيت ما كان
أمره؟

(1) الحقة من الإبل هي ابنة ثلاث سنين ودخلت في الرابعة، والجذعة الناقة التي بلغت الخامسة.
(2) ص 289 ج 4 من تفسير ابن كثير.
102

فقال: إن هذا البيت أنزله الله من السماء ياقوتة حمراء، مجوفة مع آدم (1)،
ويراجع فصل الإسرائيليات من كتابنا (الأضواء) من الطبعة الثالثة.
وكذلك يراجع فيه فصل المسيحيات، ليعرف منه مما بثه أبو هريرة في
الدين الاسلامي من المسيحيات كما بثه من الإسرائيليات.
عمر ينهى أبا هريرة عن الرواية ويضربه بالدرة عليها
كان عمر أول من تنبه إلى خطر ما يرويه أبو هريرة وينسبه إلى النبي،
فعندما انتهى إليه أنه يحدث عن النبي، وذلك بعد رجوعه من البحرين واتصاله
بكعب الأحبار، دعاه وزجره، ثم لم يلبث أن ضربه بدرته، ولما لم يزدجر
أوعده، إن لم يترك الحديث عن رسول الله فإنه ينفيه إلى بلاده، وذلك قبل
أن يستشري الداء، ويستعصي على الدواء، وكذلك نهى كعب الأحبار عن التحدث
من إسرائيلياته.
أخرج ابن عساكر من حديث السائب بن يزيد أنه سمع عمر يقول
لأبي هريرة لتتركن الحديث عن رسول الله أو لألحقنك بأرض دوس. وقال لكعب
الأحبار لتتركن الحديث أو لألحقنك بأرض القردة - وفى رواية لتتركن الحديث
عن الأول (2). وقد غضب على أبي هريرة من أجل إكثاره فضربة بالدرة زجرا له
ووبخه بقوله: أكثرت يا أبا هريرة وأحر بك أن تكون كاذبا على رسول الله (3).
ولابن عساكر في رواية أخرى أو لألحقك بأرض دوس أو بأرض القردة.
وقد جاء مثل هذا النهى والانذار من عثمان إليهما، ولكن عثمان ليس كعمر

(1) ص 10 كتاب الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف لابن حجر العسقلاني.
(2) ص 433 ج 2 أعلام النبلاء للذهبي وص 106 ج 8 من البداية والنهاية.
(3) ص 360 من شرح النهج لابن أبي الحديد.
103

في صرامته وشدته؟، ولا يحمل درة مثل درته (1).
وقد عقب الذهبي على نهى عمر عن التحدث فقال:
هكذا كان عمر رضي الله عنه يقول: أقلوا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله
وزجر غير واحد من الصحابة عن بث الحديث - وهذا مذهب لعمر ولغيره.
فبالله عليك - إذا كان الاكثار من الحديث في دولة عمر وكانوا يمنعون منه
مع صدقهم وعدالتهم وعدم الأسانيد، بل هو غض لم يشب! فما ظنك بالاكثار
من رواية الغرائب والمناكير في زماننا مع طول الأسانيد وكثرة الوهم والغلظ!
فبالحري أن نزجر القوم عنه، فيا ليتهم يقتصرون على رواية الغريب والضعيف
بل يروون - والله - الموضوعات والأباطيل والمستحيل في الأصول والفروع والملاحم
والزهد نسأل الله العافية (3).
وروى ابن علية عن رجاء بن أبي سلمة قال: بلغني أن معاوية كان يقول:
عليكم من الحديث بها كان في عهد عمر فإنه قد أخاف الناس في الحديث عن
رسول الله (2).
ومن أجل ذلك كثرت أحاديث أبي هريرة بعد وفاة عمر وذهاب الدرة،
إذ أصبح لا يخشى أحدا بعده - وكان عمر يخيف الناس، ومن قول أبي هريرة
في ذلك: إني لأحدث أحاديث لو تكلمت بها في زمن عمر لشج رأسي - كما
رواه عنه ابن عجلان.
وعن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال:
ما كنا نستطيع أن نقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله حتى قبض عمر، كنا
نخاف السياط (3).
وكان يقول: أفكنت محدثكم بهذه الأحاديث وعمر حي؟ أما والله لأيقنت

(1) ص 133 من كتاب المحدث الفاصل بين الراوي والواعي للقاضي أبى محمد الحسن بن
عبد الرحمن الرامهرمزي، المخطوطة المحفوظة بدار الكتب المصرية رقم 483 مصطلح الحديث.
(2) ص 161 من كتاب تمهيد لتاريخ الفلسفة للشيخ مصطفى عبد الرازق نقلا عن كتاب
تاريخ التشريع الاسلامي لمحمد الخضري ص 99 - 100.
(3) ص 433 و 434 ج 2 أعلام النبلاء.
104

أن المخفقة ستباشر ظهري (1)، وفى رواية: لو كنت أحدث في زمان عمر مثل
ما أحدثكم لضربني بمخفقته.
وعن الزهري قال: قال عمر: أقلوا الرواية عن رسول الله إلا فيما يعمل به (2).
وقد قال الفقيه المحدث محمد رشيد رضا رحمه الله في ذلك: لو طال عمر عمر
حتى مات أبو هريرة لما وصلت إلينا تلك الأحاديث الكثيرة (3)، التي منها
449 في البخاري وحده.
هنا وقفة مهمة:
من يحقق النظر فيما صنعه عمر مع أبي هريرة من نهيه عن الحديث وضربه
إياه على ذلك، يتنور من خلال ذلك معنى عميقا يقف عنده العقل والمنطق
مليا.
ذلك أن عمر لو كان يعلم - وهو الناقد البصير الذي يعرف منازل الصحابة
من النبي صلى الله عليه وآله ومكانتهم من العلم والفضل - أن أبا هريرة من الصفوة الممتازين
منهم، وأنه كان يلازم النبي صلى الله عليه وآله ويصحبه في غدوه ورواحه، ولم يفارقه
لا في سفر ولا حضر من يوم أن أسلم كما زعم هو وأنصاره، وأنه قد أتيح له أن
يسمع كل ما ينطق به النبي صلى الله عليه وآله ويضبطه ويحفظه ولا يفوته شئ منه - وأنه
وحده قد ظفر بنفحات نبوية ملا بها ثوبه وأجربته (4) لم يظفر بمثلها أحد
غيره من الصحابة حتى صارت رواياته بذلك كلها وثيقة، وأحاديثه متواترة
صحيحة، وأنه مع ذلك من أهل الفقه والبصر بالدين الذين كانوا في عهد النبي
وأبى بكر قبله من المفتين الذين يؤخذ برأيهم، ويصغي إلى أقوالهم!
لو كان عمر يعلم ذلك كله - وأنه قد بلغ هذه المنزلة التي لم يبلغها أحد

(1) يقول ذلك لان هذه المخفقة قد باشرت ظهره مرارا حتى في عهد النبي " ص 34 - 1 مسلم "
وبعد عهد النبي عندما عزله عمر عن البحرين فقد ضربه حتى أدمى ظهره.
(2) ارجع إلى الجزء الثامن من البداية والنهاية والجزء الثاني من أعلام النبلاء تجد هذه الأخبار
وغيرها مبسوطة هناك.
(3) ص 851 ج 10 من مجلة المنار.
(4) ستقابلك قصة عجيبة عن هذا الثوب! وهذه الأجربة!
105

سواه من الصحابة جميعا - لأباح له الرواية، ولرضي عنها - بل لكان أولى
الناس بأن يتخذه مرجعا علميا، يرجع إليه فيما يغيب عنه معرفته، أو يشك فيه
من أحاديث الرسول، فكان - على سبيل المثال - يرجع إليه في حديث الطاعون
الذي حيره! أو يسأله عن حديث فاطمة بنت قيس وحديث الاستئذان الذي
سأل عنه أبا موسى الأشعري، وغير ذلك من الأحاديث التي كان يشك فيها -
وهذا أمر يقع كل يوم، وعلى سبيل المثال كذلك - أين كان أبو هريرة
عندما استبهم أمر ميراث الجدة على أبى بكر وأخذ يسأل الناس عنه! وأين
وأين - ولكن من يفهم!
حقا لو كان عمر يعرف لأبي هريرة هذه المزايا التي لو كانت صحيحة لاشتهر
بها بين الصحابة جميعا ولأصبح بها يشار إليه بينهم بالبنان، ولذاع اسمه بسبها
في كل مكان، ولكان قد اتقى درة عمر من أن تباشر ظهره، ولحرص عمر
الحرص كله على أحاديثه ولامر بكتابتها، كما حرص على كتابة القرآن لتبقى
بجوار كتاب الله خالدة على وجه الزمان!
وبذلك تكون أحاديث أبي هريرة وحدها موضع ثقة المسلمين جميعا في
مشارق الأرض ومغاربها على مد العصور - وتأتي منزلتها عندهم بعد منزلة القرآن
في اتباعها، والاخذ بها، ثم لجعلها علماء النحو من دون أحاديث الصحابة
جميعا (1) مما يستشهدون به على اللغة والنحو لأنها جاءت - كما يطلبون متواترة
في لفظها ومعناها، وتظل هذه الأحاديث على مدى الأجيال أعظم ثروة أدبية
في حقيقة مبناها، وأجل ذخيرة لغوية ينعم الناس بارتشاف رياها!
وعلى الجملة يكون الكتاب الذي يحمل أحاديث أبي هريرة، هو الكتاب
الثاني - في الصدق - بعد القرآن في الدين والعلم والأدب واللغة والبلاغة!
وإذا قلنا إن عمر قد تعنت مع أبي هريرة فمنعه من الرواية عن النبي صلى الله عليه وآله
وبالغ في التعنت فضربه بغير حق ليكفحه بلجام درته! لو قلنا ذلك لكان
عمر - ولا ريب ظالما لأبي هريرة أي ظلم، وجانيا على الدين - وعلى من جاء

(1) إذا كان أبو هريرة قد حمل كل أحاديث النبي وجاءنا بها صحيحة فأي داع لان نسمع من
غيره أحاديث قد لا تأتى صحيحة!!
106

به - أكبر جناية يعاقب عليها يوم القيامة عقابا شديدا!
ولكن الذي يقضى به الدين والعقل والمنطق والتاريخ، أن عمر لم يفعل ما
فعل مع أبي هريرة إلا لأنه كان يعلم من أمره، أنه ليس أهلا لان يكون راوية
أمينا صادقا عن النبي صلى الله عليه وآله ولا هو ممن يصح أن يظل ما يرويه باقيا بين
المسلمين، يأخذه الخلف عن السلف بالرضا والقبول.
وما لنا نذهب بعيدا في أمر موقف عمر من أبي هريرة - وهذا الامر مقطوع
به ومعروف قبل عمر وأبى بكر، ذلك بأن النبي صلى الله عليه وآله قد حسمه وقضى فيه
بصائب حكمه عندما أقصاه إلى البحرين.
فلو كان صلى الله عليه وآله يعلم في أبي هريرة خيرا لأبقاه بجواره بالمدينة لكي يحفظ
عنه أحاديثه ثم يبثها من بعده بين المسلمين حتى تظل محفوظة مصونة، وبذلك
يصبح بحق (راوية الاسلام) كما خرف وخرق بذلك جماعة من شيوخ الدين
واستعلنوا به في آخر الزمان بين العالمين!
وكأن هذا الامر الخطير قد غاب علمه عن السلف الصالح وعمن جاء
بعدهم جميعا على مد التاريخ الاسلامي كله فلم يعرفه النبي ولا خلفاؤه ولا أئمة
المسلمين جميعا حتى اهتدى إليه هؤلاء الشيوخ في آخر الزمان! وسبحان واهب
العقول! وسنزيد هذا الامر بيانا عند كلامنا على كتاب عجاج الخطيب في
آخر الكتاب.
على أنه قد استبان واتضح من روايات أبي هريرة التي حملت ما حملت -
بعد أن غابت عنه درة عمر ما أثبت يقينا أن ما صنعه عمر معه إنما كان عملا
رشيدا، وأن رأيه فيه كان سديدا، ولو أن أبا هريرة قد مات قبل موت عمر
لما رأينا من مروياته ما رأينا من خرافات وإشكالات وإسرائيليات - كما ذكر
العلامة السيد رشيد رضا ذلك من قبل.
هذه وقفة لا بد منها لان موقف عمر من أبي هريرة من أهم الأدلة التي
تكشف عن حقيقة مرويات أبي هريرة، وتضعه في ميزان التقدير، بل قل:
إن هذا الموقف وحده كاف لنزع الثقة فيه وفى مروياته معه إلى يوم الدين.
107

لم يظهر أبو هريرة إلا بعد الفتنة:
ذكرنا لك من قبل أن أبا هريرة لم يكن له أي شأن في زمن النبي صلى الله عليه وآله
ولا في زمن الخلفاء الأربعة من بعده، وأنه لم يستطع أن يفتح فاه بحديث عن
النبي إلا بعد موت عمر، ولم يجرؤ على الفتيا أو يلفظ بكلمة في الدين إلا بعد
أن توفى عثمان - أي بعد الفتنة الكبرى كما قرر ذلك كبار المؤرخين، أما إكثاره
من التحديث عن رسول الله وإسرافه في ذلك، فلم يكن إلا في عهد بنى أمية
بعد أن خلا له الجو، وأصبح من دعاتهم وأنصارهم.
وإليك ما قاله ابن سعد في طبقاته وهو يترجم لعبد الله بن عباس (1):
" كان ابن عباس، وابن عمر، وأبو سعيد الخدري - وأبو هريرة -
وعبد الله بن عمرو بن العاص، وجابر بن عبد الله، ورافع بن خديج، وسلمة
ابن الأكوع، وأبو واقد الليثي، وعبد الله بن بحينة، مع أشباه لهم من أصحاب رسول
الله، يفتون بالمدينة ويحدثون عن رسول الله من لدن توفى عثمان إلى أن توفوا ".
أما قبل ذلك فكان من عامة الصحابة فلم يعرف عنه أنه قام بعمل ديني كما
عمل غيره من الصحابة المشهورين، اللهم إلا أنه كان يؤذن للصلاة وهو في
البحرين مع العلاء بن الحضرمي كما عرفت (2) وقد ظل يهوى التأذين ويتعشقه
ويميل إليه إلى زمن مروان بن الحكم أي بعد سنة 41 ه‍.
ولا غرابة في أن يلمع نجمه المنطفئ في عهد بنى أمية المظلم، بعد أن
اختفت من سمائه كواكب أعلام الصحابة وخيارهم ولم يبق فيه إلا نجوم منطفئة.

(1) ص 124 ج 2 ق 2 طبعة ليدن وص 336 ج 2 من تاريخ الذهبي الكبير وص 437
ج 2 من سير أعلام النبلاء و 223 ج 3 من نفس المصدر وارجع إلى كتابنا " أضواء على السنة
المحمدية " الطبعة الثالثة لكي تعرف من كانوا يفتون على عهد رسول الله وعهد صاحبيه أبى بكر وعمر
فإنك لا تجد منهم أبا هريرة إذ كان كما قلنا مغمورا لا يعرفه أحد.
(2) يراجع هذا الامر فيما سبق من هذا الكتاب.
108

وقائع لم يحضرها - ويزعم أنه حضرها:
كان أبو هريرة لا يفتأ يعمل على ما يرفع من شأنه في عهد بنى أمية
ويتخذ كل سبيل لهذه الغاية، وكان مما صنع في ذلك أن يدعى حضور وقائع
لم يرها!
ومن ذلك أنه قال، كما روى البخاري: افتتحنا خيبر ولم نغنم ذهبا ولا
فضة، إنما غنمنا البقر والإبل والمتاع! وقد جاء هذا الحديث كذلك في مسلم
على حين أنه لم يشهد الفتح إجماعا وإنما جاء بعد الفتح.
ومن ذلك أنه زعم أنه كان مع أبي بكر في حجته، وأورد في ذلك أحاديث
ملفقة متعارضة - وللأسف أوردها البخاري في كتابه - وكلها قد جاءت من
قبل أبي هريرة وابنه المحرر، فمرة يقول (1): إن أبا بكر قد بعثه في مؤذنين في
تلك الحجة ليؤذن في الناس، ثم أردف النبي صلى الله عليه وآله بعلي، فأمره أن يؤذن ببراءة
(معنا) أي أنه كان مع أبي بكر وأن عليا قدم عليهم.
وتارة أخرى يقول فيها: كنت في البعث الذين بعثهم رسول الله مع علي
ببراءة وكنا نقول: لا يدخل الجنة إلا مؤمن، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا
يطوف بالبيت عريان ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فأجله إلى أربعة أشهر (2).
ولا نتوسع في إيراد هذا التخليط في هذا الامر حتى لا نطيل بغير فائدة
ونقول:
إن الامر في حجة أبى بكر ظاهر مكشوف، وقد أورده ابن إسحاق في
سيرة ابن هشام والطبري وغيرهما من المحققين ولم يذكر فيها شئ عن أبي هريرة
وإنا نلخص هنا ما جاء في سيرة ابن هشام عنها (3):
بعث رسول الله أبا بكر أميرا على الحج سنة 9 ه‍ وبعد أن فصل أبو بكر عن
المدينة نزلت سورة براءة، فقيل لرسول الله: لو بعثت بها أبا بكر؟ فقال:

(1) روى ذلك البخاري في تفسير سورة براءة.
(2) أخرجه الحاكم ورواية أحمد والنسائي " كنا مع علي حين بعثه رسول الله إلى مكة ببراءة ".
(3) ص 203 وما بعدها ج 4.
109

لا يؤدى عنى إلا رجل من أهل بيتي، ثم دعا عليا وقال له: اخرج بهذه القصة
من صدر براءة وأذن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى إلخ. فخرج
على على ناقة رسول الله العضباء - حتى أدرك أبا بكر في الطريق فلما رآه
أبو بكر قال: أمير أو مأمور؟ فقال: بل مأمور. حتى إذا كان يوم النحر،
قام على رضي الله عنه فأذن في الناس بالذي أمر رسول الله، وكان الذي أذن به
على " أن لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت
عريان، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وآله عهد فهو إلى مدته (1)، ويؤيد ذلك
ويعززه ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي بكر وعلى في هذا الامر، وإليك
نص ما صرح به أصحاب الشأن أنفسهم في هذا الامر، وهما: أبو بكر وعلى
رضي الله عنهما، حتى نأخذ الطريق على كل مكابر يريد أن يماري فيما
قطعنا به، قال أبو بكر: إن النبي صلى الله عليه وآله بعثني ببراءة لأهل مكة، لا يحج
بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة -
ومن كان بينه وبين رسول الله مدة فأجله إلى مدته، والله برئ من المشركين
ورسوله، قال: فسرت بها ثلاثا، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله لعلى: الحق
أبا بكر فرده على وبلغها أنت (قال) ففعل على ذلك ورجعت إلى المدينة، فلما
قدمت على النبي صلى الله عليه وآله بكيت إليه وقلت: يا رسول الله، حدث في شئ؟
قال: ما حدث فيك إلا خير، لكني أمرت، ألا يبلغها إلا أنا أو رجل منى " (2).
وقال على: لما نزلت عشر آيات من سورة براءة دعا النبي صلى الله عليه وآله أبا بكر
فبعثه بها ليقرأها على أهل مكة ثم دعاني فقال لي: أدرك أبا بكر، خذ الكتاب
منه فاذهب به إلى أهل مكة فاقرأه عليهم، فلحقته فأخذت الكتاب منه.
فرجع إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال: يا رسول الله، نزل في شئ؟ قال: لا، ولكن
جبرائيل جاءني فقال: " لن يؤدى عنك إلا أنت، أو رجل منك " (3).
ولعلي حديث آخر قال فيه: إن رسول الله بعث ببراءة إلى أهل مكة مع أبي
بكر ثم أتبعه بي فقال لي: خذ الكتاب منه فامض به إلى أهل مكة،
قال: فلحقت أبا بكر فأخذت الكتاب منه، فانصرف إلى المدينة وهو كئيب،

(1) كان العرب إذ ذاك في تلك السنة على منازلهم في الحج التي كانوا عليها في الجاهلية. (2 و 3) رواهما أحمد في مسنده.
110

فقال يا رسول الله: أنزل في شئ؟ قال: لا، إلا أنى أمرت أن أبلغه أنا،
أو رجل من أهل بيتي (1).
هذه هي قصة حج أبى بكر على وجهها الصحيح، فأين كان أبو هريرة
إذن؟ وأين مكانه بجوار أبى بكر، أو بجانب علي؟
وإنا نقول في ثقة: بأننا لا نطمئن بما أورده الرواة عن أبي هريرة في هذا
الامر وإن كان فيهم البخاري، أو غير البخاري، ونقطع بأن أبا هريرة لم يكن
في هذه الحجة، ولم يشهدها، لا مع أبي بكر، ولا مع علي! وأنى له أن
يحضر هذه الحجة وهو كان يومئذ على التحقيق ليس بالمدينة، وإنما كان
بالبحرين مع العلاء - كما أثبتنا ذلك من قبل (2).
وثم دليل آخر قوى يؤيد ما حققناه من أن أبا هريرة لم يشهد هذا الحج
ولا كان حينئذ في المدينة أنه جعل في حديثه الذي مر بك آنفا أجل عهد
النبي صلى الله عليه وآله إلى المشركين أربعة أشهر! وقد أنكر العلماء ذلك لان الذي جاء
في خطبة الامام يومئذ: ومن كان له عهد من المشركين فأجله إلى أمده
بالغا ما بلغ، ومن ليس له عهد فأجله إلى أربعة أشهر! وهذا مما يدل قطعا
على أنه لم يسمع بأذنه، ما قيل يومئذ وإنما أخرجه من كيسه، وافتراه من عند
نفسه.
ومن غرائبه أنه قال - كما جاء في المستدرك للحاكم:
دخلت على رقية بنت رسول الله امرأة عثمان وبيدها مشط فقالت: خرج
رسول الله من عندي آنفا، رجلت شعره، فقال: كيف تجدين أبا عبد الله
(يعنى عثمان) قالت: بخير، قال: أكرميه فإنه من أشبه أصحابي بي خلقا (3).
قال الحاكم: هذا حديث (صحيح الاسناد) واهي المتن! فإن رقية ماتت
سنة 3 من الهجرة عند فتح بدر، وأبو هريرة أسلم بعد فتح خيبر في سنة 7 من
الهجرة. ولكنه أبو هريرة!!

(1) رواه أحمد والنسائي في الخصائص.
(2) راجع تحقيقنا السابق في هذا الامر.
(3) هذا الحديث مما تقرب به أبو هريرة - ولا ريب - إلى بنى أمية.
111

ومن ذلك أنه قال: " صلى بنا رسول الله الظهر، أو العصر فسلم في ركعتين
فقال له ذو اليدين: أنقصت الصلاة؟ أم نسيت!
وذو اليدين استشهد ببدر قبل أن يسلم أبو هريرة بزمان! وقد اضطرب
أبو هريرة في هذا الحديث وتعارضت أقواله، فمرة يقول: صلى بنا إحدى صلاتي
العشى، إما الظهر، وإما العصر! وتارة يقول: صلى بنا صلاة العصر، وأخرى
يقول: بينما أصلى مع رسول الله صلاة الظهر! وهذه الروايات كلها في البخاري
ومسلم. وا أسفا!
ومن الوقائع التي لم يحضرها، واخترعها ليتقرب إلى معاوية بها! ما رواه
عنه مسلم في حديثين اثنين:
أحدهما، قال رسول الله صلى الله عليه وآله لعمه أبى طالب: قل لا إله إلا الله أشهد
لك بها يوم القيامة، قال: لولا أن تعيرني قريش، يقولون: إنما حمله على ذلك،
لأقررت بها عينك، فأنزل الله تعالى: (إنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى
من يشاء).
والآخر قال رسول الله لعمه عند الموت: قل: لا إله إلا الله أشهد لك بها
يوم القيامة، فأبى، قال فأنزل تعالى الآية إلخ رواه مسلم.
وأنى له أن يسمع هذين الحديثين وقد مات أبو طالب في مكة سنة عشر
قبل الهجرة بثلاث سنين وقيل إنه مات سنة 9 وفى رواية أنه مات سنة 8. أي قبل أن
يسلم بعشر سنين، لان الاجماع قد انعقد على أن أبا هريرة لم يسلم إلا بعد أن فرغ
النبي صلى الله عليه وآله من وقعة خيبر التي كانت في سنة 7 من الهجرة، ولكنه أبو هريرة!
والاخبار في ذلك كثيرة تملأ مجلدات فنقتصر على ما أوردناه وهو كاف وندع
فهمه وإدراكه إلى ذوي الفهم والادراك.
112

أبو هريرة يدلس:
كانت طريقة أبي هريرة في روايته للحديث أن يرفع كل ما يرويه إلى
النبي سواء أكان قد سمعه منه مشافهة، أم أخذه من غيره من الصحابة، أو من
التابعين عنعنة، وكان لا يميز بين هذا وذاك عند الرواية ولا يذكر اسم من أخذ
عنه من غير النبي - وهذا يعد عند المحدثين - تدليسا، ويكون ما يرويه من هذا
الباب في حكم (المرسل) وقد أثبت العلماء أن أبا هريرة كان (مدلسا) (1) لان
أكثر ما رواه بل غالبه لم يأخذه (سماعا) من النبي بسبب تأخر إسلامه وإنما
رواه عنعنة (2) عن غيره من الصحابة أو التابعين (3).
قال ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث (4):
كان أبو هريرة يقول: قال: رسول الله كذا، وإنما سمعه من الثقة عنده
فحكاه، وكذلك كان ابن عباس يفعل وغيره من الصحابة.
وقد احتاط ابن قتيبة فقال (من الثقة عنده) ولم يقل من الثقة، لان
أبا هريرة لم يكن يذكر اسم من روى عنه حتى يعلم، إن كان ثقة أو غير ثقة -
وسيأتيك كلام طويل في ذلك.
وذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء (5)، قال يزيد بن إبراهيم: سمعت
شعبة (6) يقول: " كان أبو هريرة يدلس ". وعلق الذهبي على هذا الخبر بقوله:

(1) يقال في اللغة: دلس في البيع إذا لم يظهر عيبه.
(2) قال أبو بكر بن العربي: إذا كان الحديث معنعنا كان محتملا ولا يلزم فيه ما يلزم
في حدثني، لان للراوي أن يقول: عن فلان وإن لم يدركه، حكاه الشافعي ص 52 من كتاب الإجابة.
(3) ذكرنا لك من قبل ما قاله السيوطي وغيره من أن الصحابة كانوا يروون عن التابعين وأن
العبادلة الثلاثة وأبا هريرة وغيرهم قد رووا عن كعب الأحبار الذي جعلوه من كبار التابعين الموثوق بهم.
(4) ص 50.
(5) ص 438 ج 2.
(6) شعبة بن الحجاج هو الحجة الحافظ إمام أهل الجرح والتعديل، قال فيه الثوري: شعبة
أمير المؤمنين في الحديث - وقال الشافعي: لولا شعبة ما عرف الحديث بالعراق، وكان صريحا فيما يقول -
ومن صراحته أنه كان يقول: والله لأنا في الشعر أسلم منى في الحديث، ولو أردت الله ما خرجت
لكم، ولو أردتم الله ما جئتموني، ولكنا نحب المدح ونكره الذم - هذا هو رأى شعبة وأمثاله في
التدليس وسيأتيك ما قاله كبار العلماء في ذمه واستبشاعه.
113

تدليس الصحابة كثير ولا عيب فيه. وقد جاء قول يزيد بن هارون هذا الذي
سمع شعبة - تاما - في رواية أخرى، وهاك نصها كاملا كما جاء في البداية
والنهاية، قال يزيد بن هارون:
سمعت شعبة يقول: أبو هريرة كان يدلس، أي يروى ما سمعه من كعب
الأحبار وما سمعه من رسول الله، فلا يميز هذا من هذا - ذكره ابن عساكر -
وكان شعبة يشير بهذا إلى حديثه (من أصبح جنبا فلا صيام له) (1) فإنه لما
حوقق عليه قال: أخبرنيه مخبر ولم أسمعه من رسول الله (2).
وما دام قد ثبت أن أبا هريرة كان (مدلسا) وكان الحديث الذي يرويه
(المدلس) يسميه رجال الحديث (مرسلا) فقد وجب علينا أن نقول كلمة
وجيزة في (الحديث المرسل) واختلاف شيوخ الحديث والفقه في الاحتجاج به،
لان الكلام في الحديث المرسل متصل بالتدليس، حتى نستوفي تاريخ
أبي هريرة من جميع أطرافه.
التدليس والمدلسون:
التدليس كما عرفوه أن يروى (الراوي) عمن لقيه ما لم يسمعه منه، أو عمن
عاصره، ولم يلقه موهما أنه سمعه منه.
وقال الحاكم في النوع السادس والعشرين من كتابه (معرفة علوم الحديث).
التدليس عندنا على ستة أجناس - ثم تكلم عن الجنس الثاني فقال: " إنهم
قوم يدلسون الحديث، فيقولون قال فلان، فإذا وقع من ينقر عن أسماعهم
ويراجعهم ذكروا فيه سماعاتهم (3).
وأبو هريرة ولا ريب من هذا الجنس، لأنه كان يروى عن غيره من
الصحابة، دون أن يذكر اسم من روى عنه، ثم يرفعه إلى النبي فإذا حوقق في

(1) سيمر بك هذا الحديث مفصلا وأنه لما أحرج أبو هريرة فيه زعم مرة أنه سمعه من الفضل
ابن العباس، ومرة أخرى أنه سمعه من أسامة بن زيد. ومرة يقسم أن محمدا قاله!!.
(2) ص 109 ج 8 من البداية والنهاية.
(3) ارجع إلى ص 182 من كتاب توجيه النظر للجزائري تجد كلاما كثيرا عن التدليس
والمدلسين.
114

حديث، اضطر إلى ذكر من روى عنه - وكان عندما يحرج - يحيل على
ميت كما فعل في حديث (من أصبح جنبا) الذي سنورد قصته فيما بعد.
وقال النووي في التقريب (1):
" تدليس الاسناد بأن يروى الراوي عمن عاصره، لم يسمع منه موهما؟ سماعه
قائلا: قال فلان: - أو عن فلان - وهذا التعريف ينطبق على أبي هريرة
انطباقا تاما: فهو في أغلب رواياته يقول: قال رسول الله، أو عن رسول الله،
وهو لم يسمع منه صلى الله عليه وآله.
الحديث المدلس:
والحديث المدلس - بفتح اللام - هو ما سقط من إسناده راو لم يسمه
من حدث عنه موهما سماعه للحديث ممن لم يحدثه بشرط معاصرته له (2).
حكم التدليس:
وحكم التدليس أنه مذموم كله على الاطلاق - حتى بالغ شعبة بن الحجاج
إمام أهل الجرح والتعديل فقال: " لان أزنى أحب إلى من أن أدلس "، وقال
أيضا " التدليس أخو الكذب ".
وذهب بعضهم إلى أن من عرف به صار مجروحا مردود الرواية مطلقا، وإن
صرح بالسماع بعد ذلك. والصحيح الذي رجحه علماء الحديث أن ما رواه
المدلس بلفظ محتمل ولم يصرح فيه بالسماع لا يقبل، بل يكون (منقطعا) وما
صرح فيه بالسماع يقبل وهذا كله إذا كان الراوي ثقة في روايته (3).
وقال بعضهم: المدلس داخل في قول النبي صلى الله عليه وآله " من غشنا فليس منا "
لأنه يوهم السامعين أن حديثه متصل وفيه انقطاع، هذا إن دلس عن ثقة فإن
كان ضعيفا فقد خان الله ورسوله، وهو - كما قال بعض الأئمة - حرام
إجماعا.

(1) ص 8.
(2) 113 قواعد التحديث.
(3) ص، 34 من شرح ألفية السيوطي للشيخ أحمد شاكر رحمه الله، أما الحديث المنقطع
فستعرفه قريبا.
115

وقد اختلف العلماء في قبول رواية من عرف بالتدليس، فقال فريق من
أهل الحديث والفقهاء: لا تقبل رواية المدلس بحال - سواء بين السماع أو لم
يبين، لان التدليس مما يقتضى الجرح.
ومن الحفاظ من جرح من عرف بالتدليس من الرواة فرد روايته مطلقا،
وإن أتى بلفظ الاتصال، ولو لم يعرف أنه دلس مرة واحدة - كما نص على
ذلك الشافعي رحمه الله (1).
والكلام في هذا الموضوع طويل الذيل لو ذهبنا في استقصائه لخرجنا عن
موضوعنا فيرجع إليه في مظانه.
وإذا طبقنا ذلك كله أو بعضه على أبي هريرة رأينا أين يكون مكانه بين
الرواة في ميزان الضبط والعدالة! ومبلغ رواياته من الصحة والصدق! ولكن
لا يستطيع أحد أن يطبق أي قاعدة على الصحابة. لأنهم جميعا في رأى
الجمهور من الخطأ معصومون، ولا يمكن أن يمتد الشك أو الريب إلى ما يروون!
الحديث المرسل:
بعد أن تكلمنا عن التدليس وحكمه، والمدلسين وما قالوه فيهم، نواصل
الكلام عن (الحديث المرسل) لأنه متصل بما قبله.
عرفوا الحديث المرسل بأنه: هو الذي سقط منه الصحابي الذي سمع
الحديث بأذنيه من النبي صلى الله عليه وآله. هذا هو المشهور، وهو الصحيح أيضا -
كما في فتح المغيث للعراقي - وهو رأى الفقهاء والأصوليين، ومما يشهد للتعميم
قول ابن القطان: إن الارسال هو رواية الرجل عمن لم يسمع منه (2).
وقال ابن حزم في كتاب الأحكام في أصول الاحكام:
المرسل من الحديث، هو الذي سقط بين أحد رواته وبين النبي صلى الله عليه وآله
ناقل واحد فصاعدا وهو (المنقطع) أيضا - وهو غير مقبول، ولا تقوم به
حجة، لأنه عن مجهول! وقد قدمنا أن من جهلنا حاله، ففرض علينا التوقف

(1) ص 44 و 45 من رسالته.
(2) 114 من قواعد التحديث للقاسمي.
116

عن قبول خبره، وعن قبول شهادته، حتى نعلم حاله - وسواء أقال الراوي
العدل: حدثنا الثقة أو لم يقل، لا يجب أن يلتفت إلى ذلك، إذ قد يكون
عنده ثقة من لم يعلم من جرحته، ما يعلم غيره، وقد قدمنا أن الجرح أولى من
التعديل.
وقد كذب على النبي صلى الله عليه وآله وهو حي، وقد كان في عصر الصحابة
منافقون، ومرتدون فلا يقبل حديث قال راويه فيه: عن رجل من الصحابة،
أو حدثني من صحب رسول الله (حتى يسميه) ويكون معلوما بالصحبة الفاضلة (1)
- قال لله عز وجل: " وممن حولكم من الاعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا
على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم! سنعذبهم مرتين، ثم يردون إلى عذاب
عظيم ".
وقد ارتد قوم ممن صحب النبي صلى الله عليه وآله كعيينة بن حصن والأشعث بن قيس
وعبد الله بن سرح إلخ.
" وقد روى مسلم عن عبد الله مولى أسماء بنت أبي بكر قال: أرسلتني
أسماء إلى عبد الله بن عمر فقالت: بلغني أنك تحرم أشياء ثلاثة، العلم،
في الثوب، وميثرة الأرجوان، وصوم رجب (2)! فأنكر ابن عمر أن يكون
حرم شيئا من ذلك!
فهذه أسماء وهي صحابية من قدماء الصحابة، وذوات الفضل منهم - قد
حدثها بالكذب من شغل بالها حديثه عن ابن عمر، حتى استبرأت ذلك،
فصح كذب المخبر.
فواجب على كل أحد أن لا يقبل إلا من عرف اسمه وعرف عدالته وحفظه " (3).
انتهى كلام ابن حزم. وقال في المسائل التي جعلها مقدمة لكتابه المحلى:
والمرسل والموقوف لا تقوم بهما حجة.

(1) هذا هو الحق، ولقد أصاب ابن حزم بذلك كبد الصواب.
(2) الميثرة بالكسر بدون همز لبدة الفرس. قال أبو عبيد وأما المياثر الحمر التي جاء فيها
النهى فإنها كانت من مراكب الأعاجم من ديباج أو حرير، والأرجوان بضم الهمزة والجيم معرب
وهو الأحمر الشديد الحمرة.
(3) ص 2 - 4 ج 4 من الاحكام.
117

ورد أبو إسحاق الأسفرايني ومن وافقه، المرسل مطلقا حتى مراسيل
الصحابة (1).
وأخرج العقيلي من حديث ابن عوف قال: ذكر أيوب السختياني لمحمد
ابن سيرين حديثا عن أبي قلابة فقال: أبو قلابة رجل صالح! ولكن عمن ذكره
أبو قلابة؟
وأخرج في الحلية من طريق ابن مهدي عن ابن لهيعة أنه سمع شيخا من
الخوارج يقول بعد ما تاب: إن هذه الأحاديث دين، فانظروا عمن تأخذون
دينكم! فإنا كنا إذا هوينا أمرا صيرنا له حديثا!
قال الحافظ ابن حجر: هذه والله قاصمة الظهر للمحتجين بالمرسل، إذ
بدعة الخوارج كانت في مبدأ الاسلام، والصحابة متوافرون، ثم في عصر
التابعين فمن بعدهم - وهؤلاء إذا استحسنوا أمرا جعلوه حديثا! وأشاعوه! فربما
سمع الرجل الشئ فحدث به ولم يذكر من حدثه به تحسينا للظن، فيحمله
عنه غيره، ويجئ الذي يحتج بالمنقطعات (2) فيحتج به مع كون أصله ما
ذكرت (3).
مراسيل الصحابة:
هذا ما قالوه وشددوا فيه في أمر مراسيل غير الصحابة، وأما مراسيل
الصحابة فقد قالوا: إن حكمها حكم الموصول على المشهور، الذي ذهب إليه
الجمهور.
قال ابن الصلاح: لم نعد في أنواع المرسل ونحوه ما يسمى في أصول الفقه،
مرسل الصحابي، مثل ما يرويه ابن عباس وغيره من أحداث الصحابة عن النبي
(ص) ولم يسمعوه منه، لان ذلك في حكم الموصول المسند! لان رواياتهم

(1) ص 2 ج 7 من فتح الباري لابن حجر العسقلاني.
(2) قال النووي في التقريب في تعريف " المنقطع ": الصحيح الذي ذهب إليه الفقهاء
والخطيب وابن عبد البر وغيرهما من المحدثين: أن المنقطع ما لم يتصل إسناده على أي وجه كان
انقطاعه، وأكثر ما يستعمل في رواية من دون التابعي عن الصحابي، كمالك عن ابن عمر ص 7.
(3) ص 245 من توجيه النظر.
118

عن الصحابة! والجهالة بالصحابي غير قادحة، لان الصحابة كلهم عدول!
قال الحافظ العراقي: وفى قوله: - لان روايتهم عن الصحابة - نظر،
والصواب أن يقال: لان غالب روايتهم، إذ قد سمع جماعة من الصحابة من
بعض التابعين (1).
ونحن لا ندري لماذا يفرقون بين مراسيل الصحابة، وبين مراسيل غيرهم،
فيجعلون مراسيل الصحابة في حكم الموصول الذي يؤخذ به، أما مراسيل غيرهم
فيختلفون في الاخذ بها، والصحابة ناس يجوز عليهم ما يجوز على غيرهم من
التابعين وغير التابعين - وقد أثبت التاريخ والقرآن يؤيده - أنه قد وقع منهم
مثل ما وقع من سائر خلق الله من الأناسي أجمعين، فكان منهم المنافقون، وكان
منهم من ارتكب الكبائر، وكان منهم من قاتل بعضهم بعضا، وكفر بعضهم
بعضا، ثم كان منهم المرتدون. وغير ذلك مما يعلم من تاريخهم، ولا يستطيع
عاقل منصف أن يدافع عنهم، وقد أشبعنا القول في أمر عدالة الصحابة فارجع
إلى الفصل الذي عقدناه لذلك في كتابنا (أضواء على السنة المحمدية)،
الطبعة الثالثة.
أبو هريرة ليس كغيره من الصحابة بل له وضع خاص:
لو حققنا النظر في أمر أبي هريرة على ما تبين من دراسة تاريخه، وعرفنا
حقيقة مكانه من الصحبة بين غيره، وبخاصة في عهد النبي وخلفائه - لوجدنا
أنه من دون الصحابة جميعا، يجب أن يكون له وضع خاص لأنه قد أصيب من
طعن كبار الصحابة ومن جاء بعدهم فيه إلى اليوم بما لم يصب بمثله أو بقليل
منه أحد غيره - مما كان بعضه يكفي لتجريحه، وتمحيص رواياته والتوقف فيها،
ولكن الآمر قد جرى معه على غير ما كان يجب أن يجرى. فقد رأينا رجال
الجرح والتعديل قد وقفوا منه ومن مثله من الصحابة - موقفا عجيبا - خالفوا فيه
قواعدهم التي وضعوها، وطبقوها على الرواة جميعا من غير الصحابة. فلم
يمسوه - بنقد أو تجريح، واعتبروه عدلا صادقا، لا يجوز أن يستريب أحد

(1) ص 245 و 246 من نفس المصدر.
119

في روايته، وكل ما رواه يلزم تصديقه، والاخذ به.
وقد بالغوا في الثقة به حتى جعلوا مروياته التي لم يسمعها من النبي، وإنما
سمعها عنعنة من غيره من الصحابة أو التابعين في حكم (المرفوع) على حين
أنه لم يصرح بسماعها من النبي أو ممن تلقاها عنهم حتى يعرف حقيقة من أخذ
عنه من غير النبي، - إذ قد يكون من روى عنه - قد روى هو الآخر مثله
عن صحابي غيره أو تابعي بعده، ولم يأخذه من النبي سماعا، ذلك بأن الصحابة
جميعا كان من عادتهم أن يروى بعضهم عن بعض بغير أن يبين الراوي
اسم الصحابي الذي روى عنه، سواء أكان من الصحابة أم من التابعين،
وقد كان بعض التابعين يروى عن إخوانه، كما كان كعب الأحبار وهو
من التابعين يروى عن مثله من التابعين ثم يروى الصحابة عنه، وقد كانوا
في هذا العهد لا يسألون عن الاسناد - روى مسلم في مقدمة كتابه عن محمد
ابن سيرين أنه قال:
إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم - وقال: لم يكونوا يسألون
عن الاسناد فلما وقعت الفتنة (أي فتنة عثمان) قالوا: سموا لنا رجالكم. وإذا كان أبو هريرة صادقا فيما يروى، فما يدرينا أن يكون من روى عنه
صادقا؟ ونحن لم نعرف عنه شيئا، لأنه لم يذكر اسمه!
وعدالة الراوي شرط في صحة حديثه فلا بد أن يكون من يروى عنهم
أبو هريرة معروفين حتى ينظر في عدالتهم وضبطهم.
وإليك سؤالا عظيما أورده العلامة القرافي في التنقيح عن الارسال فقال:
الارسال: هو إسقاط صحابي من السند - والصحابة كلهم عدول - فلا
فرق بين ذكره والسكوت عنه، فكيف جرى الخلاف فيه؟ وأجاب هو: بأنهم
عدول، إلا عند قيام المعارض، وقد يكون المسكوت عنه منهم عرض في حقه
ما يوجب القدح، فيتوقف في قبول الحديث حتى تعلم سلامته عن القادح (1).
ولنرجع إلى الكلام عن الراوي الذي لم يعرف اسمه. فننقل كلمة قيمة

(1) ص 122 من قواعد التحديث للقاسمي.
120

للفقيه المحدث السيد محمد رشيد رضا وارث علم الأستاذ الإمام محمد عبده، قال
رحمه الله:
". وأدهى الدواهي أن يكون الحديث مأخوذا عن بعض أهل الكتاب
بالقبول، ولم يعز إليه - ولا يغرنك قولهم: إن مراسيل الصحابة حجة، وإن
الموقوف الذي لا مجال للرأي فيه - له حكم المرفوع. فإذا ثبت أن أبا هريرة مثلا
كان يروي عن كعب الأحبار وأن الكثير من أحاديثه (مراسيل) (1) فالواجب
أن يتروى في كل حديث لم يصرح فيه بالسماع من النبي (2). فإذا كان من
الإسرائيليات، أو ما في معناها، احتمل أن يكون قد رواه عن كعب، وكان
هذا الاحتمال علة مانعة من ترجيح إسناد كلام إلى النبي يوقع في الاشكال (3).
تناقض رجال الحديث:
وإن أمر رجال الحديث لعجيب فإنهم يتناقضون حتى في تطبيق قواعدهم،
فبينما هم يجعلون روايات أبي هريرة وغيره من الصحابة التي لم يسمعوها من النبي
في حكم المرفوع، ويأخذون بها، إذ بهم يعتبرون مثل هذه الروايات من غير
الصحابة في حكم المرسل، وإنهم بذلك ليزنون بميزانين ويكيلون بكيلين، ولا
يسألون عما يفعلون، وكأن هذا الامر قد جاءهم فيه نص قاطع من الله أو من
رسوله، فهم يخشون أن يخالفوا هذا الامر القطعي أو يخرجوا عليه!
على أننا إذا سلمنا جدلا لمن يقول: إن الصحابة كلهم عدول فإن
أبا هريرة خاصة كما قلنا بما حمل تاريخه وما نال من اتهام رواياته على مد
الزمن، لا يصح ولا ريب أن تشمله هذه العدالة المطلقة، ولا أن يتفيأ ظلالها.
وأعجب من هذا وأغرب، أنهم - وقد جعلوا التدليس والارسال من أسباب

(1) هكذا يقرر هذا العالم الكبير أن الكثير من أحاديث أبي هريرة " مراسيل " ويطلب
أن لا يغتر أحد بقولهم " إن مراسيل الصحابة حجة ".
(2) حتى سماع أبي هريرة فيه شئ كما في حديث خلق الله التربة يو السبت الذي صرح بسماعه
من النبي وأن يده كانت في يده وهو ينطق بهذا الحديث، وقد جزم أئمة الحديث بأنه قد أخذه من
كعب الأحبار.
(3) ص 99 ج 19 من المنار.
121

الجرح والتعديل (1) وكان عليهم بذلك أن يجرحوا أبا هريرة من هاتين الناحيتين
لأنه كان يدلس ويرسل - تركوه يروى كما يريد، ويتحدث بما يشاء، من
غير أن يشك في روايته أحد، أو يجرحه إنسان لأنه صحابي جليل!
وإليك كلمة حق تؤيدنا فيما أثبتناه من تناقض رجال الحديث في تطبيق
قواعدهم على الصحابة وغير الصحابة صرح بها علماء الكلام فقالوا (2):
ومن عجيب شأنهم (3) أنهم ينسبون (الشيخ) (4) إلى الكذب ولا يكتبون
عنه ما يوافقه عليه المحدثون بقدح يحيى بن معين، وعلي بن المديني (5) وأشباههما
ويحتجون بحديث أبي هريرة فيما لا يوافقه عليه أحد من الصحابة وقد أكذبه عمر
وعثمان وعائشة "، وغيرهم، وكثيرون ممن جاء بعدهم من التابعين. ولم يبرح
أهل التحقيق يكذبونه حتى يومنا هذا وإلى يوم الدين.
كثرة أحاديث أبي هريرة:
لو كانت أحاديث رسول الله كلها من الدين العام. كالقرآن الكريم.
لا يقوم إلا عليها، ولا يؤخذ إلا منها، وأنه يجب على كل مسلم أن يعرفها ويتبع
ما فيها، كما يتبع ما في القرآن، وكان النبي قد أمر أصحابه أن يحفظوا هذه
الأحاديث لكي تؤثر عنه من بعده - لكان أكثر الصحابة رواية لها، أعلاهم
كعبا في الدين، وأثبتهم قدما في الايمان، وأسناهم مرتبة في العلم - ولكان
المقلون منهم في الرواية دون المكثرين في رتبة الدين، ووراءهم في درجة العلم
والفضل، وخلفهم في منزلة الاعتبار والقدر - ولكنا نجد الامر كما بدا في
كتب الحديث المعروفة للجمهور قد جرى على خلاف ذلك.

(1) إن أسباب الجرح والتعديل مدارها عندهم على خمسة أشياء " 1 " البدعة " 2 " والمخالفة
" 3 " والغلط " 4 " وجهالة الحال " 5 " ودعوى الانقطاع في السند بأن يدعى في الراوي أنه كان يدلس
أو يرسل، وشيخهم كان بحمد الله يدلس ويرسل.
(2) ص 10 و 11 من كتاب تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة.
(3) أي رجال الحديث. (4) ليس المراد شيخا معينا مخصوصا بل المراد شيخ من الأشياخ (كذا في الأصل).
(5) هما من كبار رجال الجرح والتعديل.
122

فإن أفضل الصحابة في المرتبة، وأرفعهم في المنزلة، وأوسعهم علما بالدين
وأشدهم عناية به، وأقواهم حياطة له، ودفاعا عنه، الذين نيط بهم حمل
أصول الدين وفروعه إلى المسلمين بما ورثوا عن أستاذهم الأكبر صلوات الله
عليه - وبخاصة أولئك الذين رجعت إليهم الفتيا في عهد النبي كالخلفاء وكبار
المهاجرين والأنصار، ومن قالوا: إن النبي قد مات وهو راض عنهم، وكل
أولئك كانوا أقل الصحابة عنه تحديثا، وأنزرهم رواية، حتى لقد بلغ الامر
ببعضهم أنه لم يرو عن النبي حديثا واحدا!!
ولم يقف الامر عند ذلك فحسب بل قد وجدنا كبار الصحابة يرغبون عن
رواية الحديث وينهون إخوانهم عنها، حتى أدى بهم فرط الاحتياط والمبالغة
في التوقي إلى أنهم كانوا يحرقون ما يكتبون منها (1).
وهذا الامر قد دعانا إلى أن نكسر كتابا خاصا نترجم فيه لمن كان أكثر
الصحابة تحديثا عن النبي وأوسعهم رواية عنه - على حين أنه لم يصاحب النبي
على التحقيق إلا عاما واحدا وبضعة أشهر - كما حققناه في هذا الكتاب - وكان
بين الصحابة لا شأن له، فلم يكن في العير ولا في النفير - ذلكم هو " أبو هريرة ".
لولا رواياته:
ولولا أن هذه الكثرة البالغة قد استفاضت في كتب الحديث المشهورة
وأخذت مكان الاعتبار والتصديق من قلوب الجمهور من المسلمين، وسيطرت
على عقولهم وأفكارهم. ونفذت إلى أصول الدين وفروعه، وأصبحت مصدرا
للفقهاء في أحكام الدين وشرائعه، وأدلة للمتكلمين، وأصحاب الملل والنحل في
عقائدهم، على ما في كثير منها من مشكلات وترهات وأساطير تحار فيها
عقول المفكرين من المؤمنين وغير المؤمنين، وشبهات وخرافات، تتخذ مطاعن
على الدين، وأسانيد يتكأ عليها في إثبات الإسرائيليات وغيرها، لولا ذلك
كله ما جرى بهذا البحث قلمنا، ولا اتجه إليه بالعناية همنا.

(1) كل ذلك قد بيناه بيانا مفصلا في كتاب أضواء على السنة المحمدية، الطبعة الثالثة،
فارجع إليه.
123

أبو هريرة أكثر الصحابة تحديثا:
أجمع رجال الحديث على أن أبا هريرة كان أكثر الصحابة تحديثا عن
رسول الله - على حين أنه لم يصاحب النبي إلا عاما واحدا وبضعه أشهر فحسب
كما قلنا.
وقد ذكر أبو محمد بن حزم أن مسند بقى من مخلد (1) قد احتوى من حديث
أبي هريرة على 5374 روى البخاري منها 446 مما جعل الصحابة ينكرون عليه
ويكذبون بعض رواياته كما ستراه بعد.
هذا هو المعروف المشهور ولكنا رأيناه يقول كما روى البخاري (2) وغيره:
ما من أصحاب النبي أحد أكثر حديثا منى إلا ما كان من عبد الله بن
عمرو (3) فقد كان يكتب ولا أكتب (4) ولو بحثنا عن كل ما رواه ابن عمرو هذا

(1) هو أبو عبد الرحمن بقى بن مخلد الأندلسي من حفاظ الحديث وأئمة الدين ملا الأندلس
علما جما وله تفسير فضلوه على تفسير ابن جرير، وله في الحديث مصنفه الكبير الذي رتب فيه حديث
كل صاحب على الفقه وبيان الاحكام، فهو مصنف ومسند وكان حرا لا يقلد أحدا ولد سنة 181 ه‍
وتوفى سنة 276.
(2) ص 167 ج 1 فتح الباري.
(3) هو أحد العبادلة الثلاثة الذين رووا عن كعب الأحبار وكان قد أصاب يوم اليرموك
زاملتين من كتب أهل الكتاب وكان يرويها للناس، فتجنب كثير من أئمة التابعين الاخذ عنه وكان
يقال له: لا تحدثنا عن الزاملتين. وقال ابن حجر في فتح الباري ص 167 ج 1 إنه قد ظفر في
الشام بحمل جمل من كتب أهل الكتاب فكان ينظر فيها ويحدث منها فتجنب الاخذ عنه لذلك كثير
من أئمة التابعين، وفى رد الدارمي على بشر المريسي أنه أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب أهل الكتاب
وكان يرويهما للناس عن النبي صلى الله عليه وآله وكان يقال له: لا تحدثنا عن الزاملتين - ص 136.
وقال الحافظ أبو الفداء إسماعيل بن الخطيب أبى حفص عمر بن كثير في خطة تفسيره بالصفحة الرابعة
من الجزء الأول.
إن عبد الله بن عمرو أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب أهل الكتاب فكان يحدث منهما
وقال ابن كثير عن الحديث الذي رواه البيهقي في بناء الكعبة عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا
أن الأشبه أن يكون موقوفا على عبد الله بن عمرو ويكون من الزاملتين اللتين أصابهما يوم اليرموك من
كلام أهل الكتاب.
وهذا نص الحديث: بعث الله جبريل إلى آدم وحواء فأمرهما ببناء الكعبة فبناه آدم ثم أمر بالطواف به
وقيل له: أنت أول الناس وهذا أول بيت وضع للناس ص 383 ج 1، والاخبار في ذلك كثيرة يرجع
إليها في مظانها.
(4) أثبت ذلك ابن حجر في ص 167 ج 1 فتح الباري وفى مسند أحمد عن أبي هريرة أن ابن
عمرو كان يكتب بيده وكنت لا أكتب بيدي. علق العلامة السيد محمد رشيد رضا على هذا الخبر
فقال: هذا القول من أبي هريرة ليس حجة شرعية وهو لا يدل على أن ابن عمرو كان يكتب بأمر النبي
ولا بإقراره فيصلح معارضا لحديث نهيه صلى الله عليه وآله عن كتابة شئ غير القرآن - ص 617 ج 27 مجلة المنار.
124

لوجدناه 700 حديث عند ابن الجوزي أي بنسبة 8 / 1 مما رواه أبو هريرة روى
البخاري منها ثمانية ومسلم عشرين.
ولعل اعترف أبي هريرة هذا. قد صدر عنه أول أمره حينما كان يعيش
بين كبار الصحابة وعلمائهم، إذ كان يخشى أن ينكروا عليه مروياته، ولكن
لما خلا له الجو، واستباح الرواية بعد مقتل عمر وموت كبار الصحابة (1) -
أكثر وأفرط، وبخاصة في عهد معاوية الذي حمى ظهره، وأعلى قدره،
وجعله محدث دولته، كما سترى ذلك إن شاء الله.
وقد يظن بعضهم من قول أبي هريرة هذا أن عبد الله بن عمرو قد كتب
ما سمعه من رسول الله، وبذلك تكون مروياته متواترة في لفظها ومعناها، وأن
ما كتبه قد حفظ من بعده بالكتابة كذلك - كما حفظ القرآن بالكتابة فيفيد
العلم بنفسه، ويكون أصلا صحيحا معتمدا بين المسلمين - بعد كتاب
الله المبين.
ولكن المعروف أن ما لابن عمرو من الحديث في كتب السنة قد جاء من
طريق الرواية لا من سبيل الكتابة، وكل ما علم عما كتبه أنه (صحيفة) كان
يسميها الصادقة، وقد ذكروا أنها كانت تحمل أدعية منسوبة إلى النبي يقولها المرء
إذا أصبح وإذا أمسى.
ويبدو أن هذه الصحيفة لم تكن عند المحققين ذات قيمة ولا تساوى
شيئا.
فقد جاء في كتاب تأويل مختلف الحديث (2) وكتاب المعارف (3) وكلاهما
لابن قتيبة ما يلي:

(1) عن خيثمة بن عبد الرحمن، قلت لأبي هريرة: حدثني! فقال: تسألني وبينكم علماء،
أصحاب محمد والمجار من الشيطان - عمار بن ياسر، وعمار قتل بوقعة صفين سنة 37 ه‍ ويتبين من هذا
الحديث أن أبا هريرة كان إلى هذا التاريخ يخشى أن يحدث الناس عن رسول الله صلوات الله عليه.
(2) ص 93.
(3) ص 200 ويراجع ترجمة مغيرة بعد صفحات من هذا الكتاب.
125

وقال مغيرة: كانت لعبد الله بن عمرو صحيفة (1) تسمى الصادقة، ما تسرني
أنها لي بفلسين!!
والفلس تساوى قيمته في التعامل بالعراق جزءا من ألف من الدينار،
أي يقدر بمليم عندنا بمصر.
كيف سوغ أبو هريرة لنفسه أن يروى ما يشاء!
لما رأى أبو هريرة أن غيره من الصحابة وغيرهم قد يلاحظون عليه كثرة
الرواية عن النبي، وأنه سيأتي منها بما لم يستطع أحد منهم أن يأتي بمثله أو ببعضه،
هدته الحيلة إلى أن يروى حديثا رفعه إلى النبي لكي يسوغ به كل ما يرويه،
حتى لا يكون لاحد من الصحابة أو من غيرهم أي مغمز عليه، ولكنهم برغم
ذلك اتهموه وأنكروا عليه، ولم يصدقوه، كما ستراه فيما بعد.
فقد أخرج الطحاوي عنه (أي عن أبي هريرة): إذا حدثتم عنى حديثا
تعرفونه ولا تنكرونه، فصدقوا به، قلته أم لم أقله - فإني أقول ما يعرف ولا

(1) في مسند أحمد عن أبي راشد الحبراني قال: أتيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت له:
حدثنا ما سمعت من رسول الله، فألقى بين يدي صحيفة، فقال: هذا ما كتب لي رسول الله صلى الله عليه وآله
فنظرت فيها، فإذا فيها أن أبا بكر الصديق قال: يا رسول الله علمني ما أقول إذا أصبحت وإذا
أمسيت فقال له رسول الله: يا أبا بكر قل: اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة،
لا إله إلا أنت، رب كل شئ ومليكه. أعوذ بك من شر نفسي، ومن شر الشيطان وشركه، وأن
أقترف على نفسي سوءا وأجره إلى مسلم. الحديث رقم 6851 ص 84 ج 11 مسند أحمد شرح
الشيخ أحمد شاكر.
وقال مجاهد رأيت عند عبد الله بن عمرو صحيفة فسألته عنها فقال: هذه الصادقة فيها ما سمعت
من رسول الله صلى الله عليه وآله ليس بيني وبينه فيها أحد. ص 189 ج 7 طبقات ابن سعد.
وروى المقريزي عن حياة بن شريح قال: دخلت على حسين بن شفى بن مانع الأصبحي وهو
يقول: فعل الله بفلان! فقلت ما له؟ فقال عمد إلى كتابين كان شفى سمعهما من عبد الله بن عمرو بن
العاص أحدهما: قضى رسول الله في كذا وقال رسول الله كذا، والآخر ما يكون من الاحداث إلى
يوم القيامة فرمى بهما بين الخولة والرباب، ص 333 ج 2، خطط المقريزي. والخولة والرباب
مركبين كبيرين من سفن الجسر كانا يكونان عند رأس الجسر مما يلي الفسطاط تجوز من تحتهما
المراكب لكبرهما.
126

ينكر، وإذا حدثتم عنى حديثا تنكرونه، ولا تعرفونه، فكذبوا به، فإني لا أقول
ما ينكر ولا يعرف (1). قال الشارح: وذكره في راموز الحديث عن الحكيم.
والله يعلم إذا كان النبي قد قال هذا الحديث أو أنه قد جاء من (كيس)
أبي هريرة، وكيف يقول النبي ذلك وقد ثبت عنه أنه قال: من يقل على ما لم
أقله فليتبوأ مقعده من النار. وكيس أبي هريرة هذا ستعلم نبأه فيما بعد.
وقد أعرضنا عن أحاديث أخرى رويت في هذا المعنى.
ما رواه كبار الصحابة:
علمت مما تقدم أن أبا هريرة روى عن رسول الله 5374 حديثا روى البخاري
منها 446 على حين أنه لم يصاحب النبي إلا عاما وبضعة أشهر - وبقى أن تعرف
مقدار ما رواه الذين سبقوه بالايمان. وكانوا أدنى منه إلى رسول الله، وأعلم
بالدين، وأبعد في الفضل والجهاد من المهاجرين والأنصار وغيرهم ممن قضوا
مع الرسول السنين الطوال - لتعرف كم روى كبارهم من أحاديث رسول الله.
ما رواه أبو بكر:
فهذا أبو بكر أول الرجال إسلاما بعد على، وشيخ الصحابة جميعا،
وقضى مع النبي مدة البعثة كلها! ترى كم من حديث رواه؟ قال النووي في
تهذيبه: روى الصديق عن النبي 142 حديثا أورد منها السيوطي في تاريخ
الخلفاء 104 - وله في البخاري 22 حديثا، وفى مسلم حديث، وستة في
الترمذي، وحديث في أبى داود - ولعلك لا تنسى أنه كان نسابة العرب يحفظ
أنساب القبائل كلها، فلو كان قد عنى برواية الحديث وقد ظل مع النبي
23 سنة لجاءتنا عنه ثروة عظيمة.
ما رواه عمر:
أسلم سنة ست فأقام مع النبي بمكة سبع سنين وبالمدينة عشرا وظل بعد
ذلك إلى 23 سنة - ومن قوله: كنت وجارا لي من الأنصار نتناوب النزول على

(1) ص 23 ج 4 من المومقات للشاطى.
127

رسول الله، ينزل يوما، وأنزل يوما، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي
وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك (1) أسندوا له 537 ولكن لم يصح منها إلا
نحو خمسين حديثا كما أثبت ذلك ابن حزم (2).
ما رواه على:
أول من أسلم وتربى في حجر النبي، وعاش تحت كنفه قبل البعثة، واشتد
ساعده في حضنه، وظل معه إلى أن انتقل إلى الرفيق الاعلى، لم يفارقه لا في
سفر ولا في حضر - وهو ابن عمه وزوج ابنته فاطمة الزهراء، شهد المشاهد
كلها سوى تبوك فقد استخلفه النبي فيها على المدينة فقال: يا رسول الله أتخلفني
في النساء والصبيان؟ فقال له رسول الله: أما ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون
من موسى؟ إلا أنه لا نبي بعدي. رواه الشيخان وابن سعد (3). ولو كان على
رضي الله عنه قد حفظ كل يوم عن النبي - وهو الفطن اللبيب الذكي الحافظ،
ربيب النبي - (حديثا واحدا) وقد قضى معه رشيدا أكثر من ثلث قرن،
لبلغ ما كان يجب أن يرويه أكثر من 12 ألف حديث. هذا إذا روى حديثا
واحدا في كل يوم، فما بالك لو كان قد روى كل ما سمعه - وكان له الحق في
روايته، ولا يستطيع أحد أن يماري فيه - ولا تنس أنه مع ذلك كله كان يقرأ
ويكتب، وكان يحفظ القرآن.
هذا الامام الذي لا يكاد يضارعه أحد من الصحابة جميعا في العلم والفضل -
قد أسندوا له كما روى السيوطي 586 حديثا، وقال ابن حزم لم يصح منها
إلا خمسون حديثا. ولم يرو البخاري ومسلم منها إلا نحوا من عشرين حديثا (4).

(1) ص 150 ج 1 فتح الباري.
(2) ص 138 ج 4 في الملل والنحل لابن حزم.
(3) ص 15 ج 2 من الطبقات.
(4) هذا ما في البخاري ومسلم ولا نعلم شيئا عن مقدار أحاديثه التي روتها الشيعة عنه " ولكل
قوم سنة وإمامها ".
128

ما رواه عثمان:
أما عثمان فقد روى البخاري له تسعة أحاديث، ومسلم خمسة ومسنده يحتوي
على 146 حديثا.
الزبير بن العوام:
حواري رسول الله وابن عمته، واحد العشرة الذين قيل إن النبي بشرهم بالجنة
وأحد أهل الشورى - له في البخاري تسعة أحاديث وفى مسلم حديث. توفى
سنة 36 ه‍.
عبد الرحمن بن عوف:
أحد العشرة وأحد الستة أهل الشورى سمع منه عمر فقال له: أنت العدل
الرضا - وصدقه ولم يصدق أبا موسى الأشعري في حديث الاستئذان (1) وقال
له: ائت بمن يشهد معك! له في البخاري تسعة أحاديث.
أبي بن كعب:
أبي بن كعب سيد القراء قال فيه النبي (أقرأ أمتي أبى)، ولما سأله
النبي عن أي آية في القرآن أعظم قال: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم)
ضرب النبي في صدره وقال: ليهنك العلم أبا المنذر.
ولما اختلف هو وعمر في قراءة آية من القرآن قال لعمر:
والله يا عمر إنك تعلم أنى كنت أحضر ويغيبون، وأدنى ويحجبون ويصنع بي
ويصنع بي، والله لئن أحببت لألزمن بيتي ولا أحدث شيئا ولا أقرئ أحدا حتى
أموت. فقال عمر: اللهم غفرانا! إنا لنعلم أن الله قد جعل عندك علما، فعلم
الناس ما علمت.
وكان أبى صاحب عبادة فلما احتاج الناس إليه ترك العبادة وجلس للقوم.

(1) استأذن أبو موسى على عمر ثلاث مرات ثم رجع فقال له عمر: لم رجعت فقال: إن النبي
قال: إذا استأذن أحدكم ثلاثا ولم يؤذن له فليرجع، فلم يصدقه عمر وقال له: إن لم تأت بمن
يشهد معك على هذا الحديث فسأوجع ظهرك. فأتى له بمن سمع من النبي هذا الحديث.
129

وكان عمر يجله ويتأدب معه ويتحاكم إليه.
مات سنة 22 بالمدينة وقيل سنة 30، له في الكتب الستة نيف وستون حديثا
منها في البخاري ومسلم 3 أحاديث وانفرد البخاري بثلاثة ومسلم بسبعة (1).
زيد بن ثابت:
الأنصاري صحب النبي منذ صباه، وكان من كتاب الوحي، ولما جاءت
الكتب إلى النبي بالسريانية أمره أن يتعلمها، وكتب لأبي بكر وعمر، وهو الذي
تولى كتابة المصحف في عهد أبى بكر وفى عهد عثمان كما رووا، وأحد من
جمعوا القرآن على عهد النبي وكان من أصحاب الفتوى، وبلغ من عظم القدر
أن كان ابن عباس يمسك بركابه حين يركب، له في كتب السنة 92 حديثا
اتفق الشيخان على خمسة وانفرد البخاري بثمانية.
ما رواه سلمان الفارسي:
صحب النبي وخدمه وحدث عنه، روى عنه ابن عباس وأنس بن مالك
وغيرهم - وكان لبيبا حازما من عقلاء الرجال وعبادهم ونبلائهم. وعن ابن عباس
وابن مسعود وعن ناس من أصحاب رسول الله، في قوله تعالى: " إن الذين آمنوا
والذين هادوا والنصارى والصابئين.. " (الآية 62 من سورة البقرة) نزلت
في أصحاب سلمان (2).
ولما خط النبي الخندق عام الأحزاب، احتج المهاجرون والأنصار في سلمان
الفارسي وكان رجلا قويا وقال المهاجرون: سلمان منا، وقال الأنصار: سلمان منا، فقال النبي: سلمان منا أهل البيت.
ولما تلا النبي صلى الله عليه وآله هذه الآية " وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم " (37 من سورة
محمد) قالوا: يا رسول الله من هؤلاء؟ فضرب النبي على فخذ سلمان الفارسي

(1) عن سير أعلام النبلاء من صفحة 280 - 288 ج 1.
(2) راجع صفحة 103 ج 1 تفسير ابن كثير.
130

ثم قال: هذا وقومه، ولو كان الدين عند الثريا لناله رجال من الفرس. وسئل
عن سلمان فقال: من لكم بمثل لقمان الحكيم، امرؤ ذاك منا وإلينا أهل البيت
أدرك العلم الأول والآخر بحر لا ينزف. له في مسند بقى ستون حديثا وأخرج
له البخاري أربعة أحاديث ومسلم خمسة توفى بالمدائن سنة 36 ه‍ (1) وقيل سنة 35
في خلافة عثمان.
وروى ابن سعد في الطبقات أن النبي قال: إنه منا وإلينا أهل البيت
أدرك العلم الأول والعلم الآخر بحر لا ينزف (2) وقال: إنه يبعث أمة وحده، لقد
أشبع من العلم (3).
قالت عائشة: كان لسلمان مجلس من رسول الله ينفرد به في الليل حتى كاد
يغلبنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أسلم بين أحد والخندق وكانت أحد سنة 3 ه‍ والخندق سنة 5 ه‍ وشهد
الخندق ولم يتخلف عن غزاة من غزوات رسول الله.
وذكروا في تاريخه أنه تنقل في أديان مختلفة فكان مجوسيا، ثم كان نصرانيا
ثم كان مملوكا ليهودي من بني قريظة ثم أسلم.
طلحة بن عبيد الله:
كان ممن سبق إلى الاسلام وهو أحد العشرة وأحد الستة أهل الشورى، له
في مسند بقى بن مخلد 38 بالمكرر، وروى البخاري له 4 أحاديث، قتل
سنة 36 ه‍
معاذ بن جبل:
الأنصاري الخزرجي البدري شهد العقبة قال النبي صلى الله عليه وآله خذوا القرآن من
أربعة: ابن مسعود، وأبى، ومعاذ، وسالم مولى حذيفة - وقال فيه النبي صلى الله عليه وآله

(1 و 2 و 3) انظر ترجمة سلمان الفارسي في الاستيعاب لحافظ المغرب ابن عبد البر ص 572
ج 2 وص 362 ج 1 سير أعلام النبلاء للذهبي. وص 271 و 487 و 488 من أنساب الأشراف
ج 1.
131

كذلك، هو أعلم الناس بحرام الدين وحلاله، وكان من الذين يفتون على عهد
رسول الله ومن الذين يستشيرهم عمر، ومن قوله: ما عمل آدمي عملا أنجى له
من عذاب الله - من ذكر الله، وأخذ ذلك من قوله تعالى: " ولذكر الله أكبر "
(آية 45 من سورة العنكبوت). له في البخاري ستة أحاديث.
أصحاب كبار لم يرووا عن النبي شيئا:
ثبت أن كثيرا من كبار الصحابة لم يرووا عن النبي شيئا، منهم سعيد بن
زيد بن نفيل أحد العشرة (1) - وأبى بن عمارة المدني، قال المزي له حديث
واحد في المسح على الخفين.
ملاحظة دقيقة لمن يفهم:
للعلامة الكبير السيد عبد الحسين شرف الدين كلمة قيمة علق بها على
(كمية حديث أبي هريرة) التي بلغت في كتب السنة 5374 كما بينا، وقارن
فيها بين هذه (الكمية الهائلة) وبين ما روى عن الخلفاء الأربعة وخرج من
هذه المقارنة بأن نسبة ما رووه عنهم جميعا صحيحا وغير صحيح - وبين ما رواه
هو وحده هي 27 %، وإنا نقتطف من هذه الكلمة السطور الآتية لنضعها في
مكانها من كتابنا هذا قال رحمه الله وأثابه:
فلينظر ناظر بعقله في أبي هريرة وتأخره في إسلامه، وخموله في حسبه وأميته،
وما إلى ذلك مما يوجب إقلاله، ثم لينظر إلى الخلفاء الأربعة وسبقهم واختصاصهم
وحضورهم في تشريع الاحكام، وحسن بلائهم في اثنتين وخمسين سنة، ثلاث
وعشرين كانت بخدمة رسول الله وتسع وعشرون من بعده، ساسوا فيها الأمة
وسادوا الأمم، وفتح الله لهم ملك كسرى وقيصر، فمدنوا المدن، ومصروا
الأمصار، ونشروا دعوة الاسلام، وصدعوا بأحكامه، وأذاعوا السنن،
ينحدر عنهم السيل، ولا يرقى إليهم الطير! فكيف يمكن والحال هذه أن يكون
المأثور عن أبي هريرة وحده أضعاف المأثور عنهم جميعا!
أفتونا يا أولى الألباب؟ (2)

(1) ص 49 تأويل مختلف الحديث.
(2) ص 44 و 54 من كتاب (أبو هريرة).
132

اتهام الصحابة لأبي هريرة
كان من أثر إفراط أبي هريرة في التحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله مما لم
يقع مثله لاحد حتى لمن طالت صحبتهم. وكانوا أدنى إلى النبي صلى الله عليه وآله منه
كالسابقين والمهاجرين والأنصار، وبخاصة على الذي تربى في حجر النبي
وعاشره وناصره إلى أن توفى، على حين أن أبا هريرة لم يصاحب النبي إلا عاما
وبعض عام! كان من أثر ذلك أن اتهموه وأنكروا عليه وأخذوا ينتقدونه بل
يكذبونه!
أكذبه عمر وعثمان وعلى وعائشة وغيرهم:
مما لا خلاف فيه أن أبا هريرة قد ناله من طعن الصحابة ومن بعدهم ما لم
ينل مثله ولا بعضه صحابي آخر. وقد ثبت أن عمر وعليا وعثمان وعائشة وغيرهم
من كبار الصحابة قد كذبوه في وجهه، وبلغ من أمر عمر معه أن نهاه عن
الرواية ثم ضربه عليها، وبعد ذلك أنذره إذا هو روى أن ينفيه إلى بلاده، وقد
بينا ذلك كله في موضعه من هذا الكتاب.
وقد قال ابن قتيبة في كتابه (تأويل مختلف الحديث) (1): لما أتى
أبو هريرة عنه صلى الله عليه وآله ما لم يأت بمثله من صحبه من جلة الصحابة والسابقين الأولين
إليه، اتهموه وأنكروا عليه وقالوا كيف سمعت هذا وحدك ومن سمعه معك؟
وكانت عائشة رضي الله عنها أشدهم إنكارا عليه لتطاول الأيام بها وبه.
وقالوا (2): ومن عجيب شأنهم (أي رجال الحديث) أنهم ينسبون الشيخ
إلى الكذب ولا يكتبون عنه ما يوافقه عليه المحدثون بقدح يحيى بن معين وعلى
ابن المديني وأشباههما، ويحتجون بحديث أبي هريرة فيما لا يوافق على أحد من
الصحابة وقد أكذبه عمر وعثمان وعائشة.

(1) ص 48.
(2) ابن قتيبة ص 10 و 11 من نفس المصدر.
133

وقد كان أبو هريرة يسوغ كثرة رواياته بأنه كان يلزم النبي صلى الله عليه وآله وحده!
أما المهاجرون فكان يشغلهم الصفق في الأسواق، وكان الأنصار يشغلهم عمل
أموالهم! وقد فند هذا الزعم الباطل ودحضه العلامة عبد الحسين شرف الدين
بأدلة قاطعة وترى كلامه في ذلك فيما زعم أبو هريرة في أمر (بسط الثوب)
فيما سيقابلك من هذا الكتاب.
وقال ابن قتيبة كتاب تأويل مختلف الحديث:
وروى حديثا في المشي في الخلف الواحد فبلغ عائشة فمشت في خف واحد
وقالت: لأخالفن أبا هريرة. وروى أن الكلب والمرأة والحمار تقطع الصلاة
فقالت عائشة رضي الله عنها: ربما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله يصلى وسط السرير
وأنا على السرير معترضة بينه وبين القبلة. قال: وبلغ عليا أن أبا هريرة يبتدئ
بميامنه في الوضوء وفى اللباس فدعا بماء فتوضأ فبدأ بمياسره وقال: لأخالفن
أبا هريرة (1).
كان أبو هريرة يقول: حدثني خليلي! وقال خليلي!
وكان من قول أبي هريرة: حدثني خليلي! وقال خليلي! ورأيت خليلي! فلما
سمع على أبا هريرة يقول: قال خليلي وسمعت خليلي، وقال له: متى كان
خليلك يا أبا هريرة؟

(1) انظر كيف كانت عائشة وعلى يتحديانه ويعارضانه فيما يروى لكي يثبتا كذبه!
(2) ص 51 من كتاب تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة، وبينما أبو هريرة يتبجح بهذا
الادعاء، ولا يستطيع أحد أن يرد عليه لأنه صحابي! وكل ما أتى من الصحابة لا يصح لانسان أن يشك
فيه، إذ بالبخاري يروى عن ابن عباس أن النبي قال: لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر ولكن
أخي وصاحبي. وعن ابن أيوب: لو كنت متخذا خليلا لاتخذته ولكن أخوة الاسلام أفضل،
وروى مسلم عن جندب أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله يقول قبل أن يموت بخمس: إني أبرأ إلى الله أن يكون لي
منكم خليل - ص 14 ج 7 فتح الباري.
وقال ابن حجر في الشرح: تواترت هذه الأحاديث على نفى الخلة من النبي صلى الله عليه وآله لاحد من
الناس، فإذا كان شيخ الصحابة لم يبلغ أن يكون خليلا للنبي صلى الله عليه وآله فكيف بمثل أبي هريرة أن ينال
هذه الدرجة الرفيعة؟ اللهم لا اعتراض!
134

وقد روى من أصبح جنبا فلا صيام له (1) فأرسل مروان في ذلك إلى
عائشة وحفصة يسألهما فقالتا: كان النبي صلى الله عليه وآله يصبح جنبا من غير
احتلام ثم يصوم، فقال للرسول: اذهب إلى أبي هريرة حتى تعلمه! فقال
أبو هريرة: إنما حدثني بذلك الفضل بن العباس فاستشهد ميتا وأوهم الناس أنه
سمع الحديث من رسول الله صلى الله عليه وآله ولم يسمعه (2).
أبو هريرة أكذب الناس هكذا يقول على رضي الله عنه:
وكان على رضي الله عنه سئ الرأي فيه، فقد روى عنه أنه قال:
ألا إن أكذب الناس - أو قال: أكذب الاحياء على رسول الله صلى الله عليه وآله -
لأبو هريرة الدوسي (3) وقال مرة: لا أحد أكذب من هذا الدوسي على رسول الله!
أبو هريرة يشهد بأن عائشة أعلم منه وأفقه:
كان من إنكار عائشة على أبي هريرة الذي ذكره ابن قتيبة آنفا أنها قالت
له يوما: إنك لتحدث حديثا ما سمعته من النبي صلى الله عليه وآله، أجابها بجواب
لا أدب فيه ولا وقار! فقال لها - كما روى البخاري وابن سعد وابن كثير وغيرهم:
شغلك عنه صلى الله عليه وآله المرآة والمكحلة - وفى رواية: ما كانت تشغلني عنه المكحلة
والخضاب، ولكني أرى ذلك شغلك. ورواية الذهبي أن عائشة قالت له:
أكثرت يا أبا هريرة على رسول الله، فكان جوابه: ما كانت تشغلني عنه المرآة
ولا المكحلة، ولا المدهن (4).
ولقد كان لام المؤمنين أن ترد عليه قلة أدبه فتجبهه بقولها:
إنما أنت الذي شغلك بطنك، وألهاك نهمك عن رسول الله، حتى كنت
تعدو وراء الناس في الطرقات تلتمس منهم أن يطعموك من جوعك، فينفرون
منك ويهربون، ثم ينتهى بك الامر إلى أن تصرع مغشيا عليك من الجوع أمام
حجرتي، فيحسب الناس أنك مجنون فيطأون عنقك بأرجلهم (5).

(1) سيأتي تفصيل الكلام في هذا الحديث.
(2) ص 28 من كتاب تأويل مختلف الحديث.
(3) ص 360 ج 1 شرح نهج البلاغة.
(4) ص 435 ج 2 سير أعلام للذهبي.
(5) راجع أخبار ذلك في محله من هذا الكتاب.
135

وما كان أبو هريرة ليستطيع أن يفتح فاه بكلمة من هذه العبارات النابية
التي يخاطب بها عائشة أم المؤمنين، لولا أنه كان حينئذ تحت ظل الحماية
الأموية والدولة كلها تؤيده.
على أنه قد ندم بعد ذلك على ما فرط منه في حق السيدة عائشة فانقلب
يعمل على إرضائها، والتقرب إليها، لأنه لا يقوى على إغضابها وبخاصة في عهد
بنى أمية أو يستهدف بذلك لغضب الدولة كلها.
ذلك أنه ما كاد يسمع نبأ حديث نزول جبريل بصورة عائشة في سرقة
من حرير وقال له: هذه امرأتك. وفى رواية للترمذي " في خرقة من حرير
خضراء " (1) حتى أسرع أبو هريرة فتبرع بحديث من كيسه يقول فيه:
" إن طول تلك الخرقة ذراعان وعرضها شبر ".
ولا ندري كيف عرف ذلك لكي يرويه وخبر هذه السرقة قد مضى عليه
قبل إسلامه حوالي عشر سنين!
ولعله قد جعل هذا الحديث نقطا (2) من عنده للسيدة عائشة ولو جاء هذا
النقط بعد سنين طويلة!
قصة حديث من أصبح جنبا:
على أنه لم يلبث أن عاد فاضطر إلى أن يشهد بأنها أعلم منه وأفقه، وأحفظ،
وأن المرآة والمكحلة لم يشغلاها عن النبي صلى الله عليه وآله وإنما هو الذي شغله بطنه.
ذلك أنه لما روى حديث " من أصبح جنبا فلا صوم له " أنكرت عليه
عائشة هذا الحديث وقالت: " إن رسول الله كان يدركه الفجر وهو جنب من
غير احتلام، فيغتسل ويصوم " وبعثت إليه أن لا يحدث بهذا الحديث عن
رسول الله، فلم يسعه إزاء ذلك الانذار الصارخ إلا الاذعان والاستخذاء، وقال:

(1) ذكر ذلك الخطيب البغدادي في تاريخه من رواية أبي هريرة ونقله عنه الزركشي في كتابه
(الإجابة لما استدركته عائشة على الصحابة).
(2) نقط العروس قدم لها مالا أو هدية عند زفافها وهو لفظ مولد - وأبو هريرة لم تكن هداياه
مالا وإنما كانت أحاديث يرويها ويعزوها إلى النبي صلى الله عليه وآله وهو سخي في ذلك.
136

إنها أعلم منى وأنا لم أسمعه من النبي، وإنما سمعته من الفضل بن العباس، وكان
الفضل قد مات حينئذ. وقد قال ابن قتيبة في ذلك " إنه استشهد ميتا، وأوهم
الناس أنه سمع الحديث من رسول الله ولم يسمعه (1)، والفضل بن العباس
استشهد في طاعون عمواس سنة 18 في عهد عمر.
وقول أبي هريرة: إنه سمعه من الفضل بن العباس اعتراف صريح منه
بأنه كان يسند إلى النبي من القول ما لم يسمعه منه - وهذا هو الارسال والتدليس
بعينه - كما تبين لك ذلك من قبل. هذا إذا كان صادقا في أنه سمعه من
الفضل بن العباس!
ولهذا الحديث قصة طريفة لا بأس من إيرادها هنا:
في كتاب اختلاف الحديث للشافعي، أن أبا بكر بن عبد الرحمن (2)
قال: كنت أنا وأبى عند مروان بن الحكم - وهو أمير المدينة من قبل معاوية،
فذكر له أن أبا هريرة يقول: " من أصبح جنبا أفطر ذلك اليوم ". فقال مروان:
أقسمت عليك يا أبا عبد الرحمن لتذهبن إلى أمي المؤمنين عائشة وأم سلمة
فتسألهما عن ذلك. أما عائشة فقد قالت: ليس كما قال أبو هريرة،
يا عبد الرحمن، أترغب عما كان رسول الله يفعله؟
فقال عبد الرحمن: لا والله، قالت عائشة: فأشهد على رسول الله أنه
كان ليصبح جنبا من جماع غير احتلام، ثم يصوم ذلك اليوم. ثم دخلا
على أم سلمة (رضي الله عنها) فسألاها عن ذلك فقالت مثل ما قالت عائشة،
ثم جئنا مروان، فقال له عبد الرحمن: ما قالتا، فقال مروان: أقسمت
عليك يا أبا محمد لتركبن دابتي فلتأتين أبا هريرة فتخبره بذلك، قال: فركب
عبد الرحمن وركبت معه حتى أتينا (أبا هريرة) فتحدث معه عبد الرحمن
ساعة. ثم ذكر له ذلك فقال أبو هريرة: لا علم لي بذلك وإنما أخبرنيه مخبر (3).

(1) ص 28 من كتاب تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة.
(2) هو أبو بكر بن عبد الرحمن أحد الفقهاء السبعة وأبوه عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن
المغيرة المخزومي - وهذا الحديث في موطأ مالك. وفى البخاري ومسلم.
(3) ص 233، 234 من هامش الجزء السابع من كتاب الام للشافعي رواية الربيع.
137

وروى البخاري في باب " الصائم يصبح جنبا " (1) عن أبي بكر قال: كنت
أنا وأبى حين دخلنا على عائشة وأم سلمة وإن أباه عبد الرحمن أخبر مروان:
أن عائشة وأم سلمة أخبرتاه أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يدركه الفجر وهو جنب
من أهله ثم يغتسل ويصوم. وقال مروان لعبد الرحمن بن الحارث أقسم بالله
لتفزعن بها أبا هريرة (2)، ومروان يومئذ على المدينة - فقال أبو بكر: فكره ذلك
عبد الرحمن ثم قدر لنا أن نجتمع (بذى الحليفة) (3) وكانت لأبي هريرة
هنالك أرض، فقال عبد الرحمن لأبي هريرة: إني ذاكر لك أمرا، ولولا مروان
أقسم على فيه لم أذكره لك، فذكر قول عائشة وأم سلمة! فقال كذلك حدثني
الفضل بن العباس وهو أعلم.
وفى رواية النسائي: أن مروان قال لعبد الرحمن: ألق أبا هريرة فحدثه
بهذا فقال: إنه لجاري، وإني لأكره أن أستقبله بما يكره، فقال: أعزم عليك
لتلقينه (4).
وفى رواية معمر عن ابن شهاب: أن أبا هريرة، لما ذكر له عبد الرحمن
قول عائشة " تلون وجهه "، ولأحمد (بن حنبل) من طريق عبد الله بن عمرو
القاري سمعت أبا هريرة يقول: ورب هذا البيت، ما أنا قلت: من أدرك
الصبح وهو جنب فلا يصم، محمد ورب الكعبة قاله (5).
ورواية مالك في الموطأ: فقال مروان لعبد الرحمن: أقسمت عليك لتركبن
دابتي فإنها بالباب فلتذهبن فإنه (بأرض العقيق) فلتخبرنه.
وقال ابن حجر في شرح هذا الخبر: " ولا تخالف بين رواية البخاري

(1) ارجع إلى الجزء الرابع من فتح الباري ص 115 وما بعدها تجد القصة هناك كاملة مفصلة.
(2) في رواية لتقرعن.
(3) يبدو أن مروان كان يشك كغيره في روايات أبي هريرة رغم أن أبا هريرة كان من
صنائع بنى أمية ومؤيديهم. ولو أنه كان يثق به لما أخذ يبحث عن حقيقة ما رواه.
(4) قال النووي في شرح مسلم كان أبو هريرة ينزل بالمدينة بذى الحليفة وله بها دار.
(5) جاء هذا الحديث في مسند أحمد في الجزء الثاني ونصه فيه - لا ورب هذا البيت،
ما أنا قلت: من أصبح جنبا فلا يصوم! محمد ورب الكعبة قاله. وقد نقل هذا الخبر ابن حجر في
الصفحة 118 من الجزء الرابع من فتح الباري.
138

" بذى الحليفة " وبين مالك " بأرضه بالعقيق " لاحتمال أن يكونا قصداه إلى
العقيق، فلم يجداه، ثم وجداه " بذى الحليفة " وكان له أيضا بها أرض (1).
وفى رواية أنه قال: أخبرني بذلك أسامة بن زيد أخرجه النسائي.
وعن أبي حسان الأعرج - تلميذ أبي هريرة - أن رجلين دخلا على عائشة
فقالا:
إن أبا هريرة يحدث عن رسول الله أنه قال " إنما الطيرة في المرأة والدار
والدابة " فطارت شفقا ثم قالت: كذب والذي أنزل القرآن على أبى القاسم (2) من
حدث بهذا عن رسول الله! إنما قال رسول الله: كان أهل الجاهلية يقولون: إن
الطيرة في الدابة والمرأة والدار، ثم قرأت: " ما أصاب من مصيبة في الأرض
ولا في أنفسكم " الآية (3).
وعن طاوس قال: كنت جالسا عند ابن عمر فأتاه رجل فقال: إن
أبا هريرة يقول: " إن الوتر ليس بحتم، فخذوا منه ودعوا " فقال ابن عمر: كذب
أبو هريرة (4). وبينما يروى هذا الحديث إذ به يرجع فيناقض نفسه ويروى هذا
الحديث: إن رسول الله قال: من لم يوتر فلا صلاة له، فبلغ ذلك عائشة
فقالت: من سمع هذا من أبى القاسم؟ ما بعد العهد وما فنينا! إنما قال
أبو القاسم: من جاء بصلوات الخمس يوم القيامة حافظ على وضوئها ومواقيتها
وركوعها وسجودها لم ينتقص منه شئ، كان له عند الله عهد ألا يعذبه، ومن
جاء وقد أنقص منهن شيئا فليس له عهد عند الله إن شاء رحمه وإن شاء عذبه.
رواه الطبراني في الأوسط عن أبي سلمة.
وأنكر عليه ابن مسعود قوله: من غسل ميتا ومن حمله فليتوضأ، وقال

(1) ص 117 ج 4 من فتح الباري ومعنى ذلك أن أبا هريرة كان له بذى الحليفة أرض وبالعقيق
أرض أخرى وقصر، فمن أين له هذا الملك العريض وقد كان على ما نعلم! لا ريب في أن لرواية
الحديث سرا عظيما يمكن أصحاب الرواية في كل عصر - حتى في عصرنا هذا - من أن يعتقدوا
به الأموال ويقيموا القصور.
(2) أبو القاسم - هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(3) ص 126 و 127 من مختلف تأويل الحديث ورواه البخاري ص 61 ج 7 فتح الباري.
(4) ص 154 ج 2 جامع بيان العلم وفضله لحافظ المغرب ابن عبد البر.
139

فيه قولا شديدا ثم قال: أيها الناس لا تنجسوا موتاكم (1).
ولما سمع الزبير (ابن العوام) أحاديثه، قال: صدق! كذب! (2).
ولما روى حديث إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر، فليضطجع على يمينه!
قال له مروان: أما يكفي أحدنا ممشاه إلى المسجد حتى يضطجع؟ فبلغ
ذلك ابن عمر فقال: أكثر أبو هريرة! وكان له أن يقول: كذب أبو هريرة!
وروت عائشة حديثه: لا يدخل الجنة ولد الزنا، فقالت: ليس عليه من
وزر أبويه شئ، وقرأت ولا تزر وازرة وزر أخرى.
وأنكر عليه ابن عباس ما رواه عن النبي من أن من حمل جنازة فليتوضأ
وقال: لا يلزمنا الوضوء من حمل عيدان يابسة (3).
وعن الشعبي: حدث أبو هريرة فرد عليه سعد (بن أبي وقاص) حديثه
فوقع بينهما كلام حتى ارتجت الأبواب (4).
حديث الشعر: ولما روى أن رسول الله قال: " لان يمتلئ جوف أحدكم قيحا يريه خير
من أن يمتلئ شعرا (5) "، قالت عائشة: لم يحفظ إنما قال رسول الله: " لان
يمتلئ جوف أحدكم قيئا ودما خير من أن يمتلئ شعرا هجيت به " (6).
وقد اتخذ الذين لا يعلمون قول أبي هريرة هذا حجة على أن النبي كان
يكره الشعر، وفشا ذلك بين المسلمين، على حين أنا نجده صلى الله عليه وآله كان
يصغى إلى الشعر، ويمدحه، ويثني عليه، فقد روى أبي بن كعب أن رسول

(1) ص 85 ج 2 من نفس المصدر.
(2) ص 109 ج 8 البداية والنهاية لابن كثير.
(3) ص 295 فجر الاسلام.
(4) ص 435 ج 2 سير أعلام النبلاء.
(5) رواه البخاري.
(6) يؤيد ذلك ما ذكره السهيلي في غزوة ودان عن جامع ابن وهب أنه روى فيه أن عائشة
تأولت هذا الحديث على ما هجا به النبي صلى الله عليه وآله وأنكرت على من حمله على العموم في جميع الشعر
ص 453 ج 10 من فتح الباري.
140

الله قال: " إن من الشعر حكمة "، وفى رواية لأبي داود: " إن من البيان سحرا
وان من العلم جهلا وإن من الشعر حكمة ". وفى رواية: " إن من الشعر
حكما ". واستشهد صلى الله عليه وآله من شعر أمية بن أبي الصلت، وعن عمرو بن
الشريد عن أبيه قال: ردفت رسول الله يوما فقال: هل معك من شعر أمية
ابن أبي الصلت شئ؟ قلت: نعم، قال هيه، حتى أنشدته مئة بيت. رواه
مسلم، ولما سمع بيت طرفة المشهور:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا * ويأتيك بالاخبار من لم تزود
قال: إن معناه من كلام النبوة.
وروى البخاري أن النبي صلى الله عليه وآله قال: أصدق كلمة قالها الشاعر حكمة
لبيد:
ألا كل شئ ما خلا الله باطل * وكل نعيم لا محالة زائل
وقد أجاز لحسان أن يهجو المشركين وقال له: إن روح القدس لا يزال
يؤيدك ما نافحت عن الله ورسوله. رواه مسلم. ورواية البخاري: اهجهم أو
هاجهم وجبريل معك، وفى القرآن عشرات من الأبيات الشعرية وكثير جدا من
الأشطار.
فمن الرمل: وجفان كالجواب وقدور راسيات
ومن الخفيف: من تزكى فإنما يتزكى لنفسه
ومن الوافر:
ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنينا
ولا نستوفي كل ما جاء في القرآن من أبيات وأشطار حتى لا يطول بنا
الطريق. ونستطرد إلى كل ما هو خارج عن موضوعنا، ومن شاء أن يستزيد
من معرفة ذلك فليرجع إلى مظانه (1) ولنعد إلى ما نحن بصدده.

(1) راجع فتح الباري من صفحة 442 - 447 ج 10.
141

حديث لا عدوى ولا طيرة ولا هامة:
روى الشيخان عن " أبي هريرة " أن النبي قال: لا عدوى ولا طيرة
ولا هامة.
وقد روى هذا الحديث بألفاظ مختلفة - ولكن الصحابة عملوا بما يخالفه.
فقد روى البخاري عن أسامة بن زيد أن رسول الله قال:
إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع وأنتم بها فلا تخرجوا
منها.
وقد جاء هذا الحديث كذلك عن عبد الرحمن بن عوف، ولما سمع عمر
هذين الحديثين، وحديث " لا يوردن ممرض على مصح " - وهو مما رواه
أبو هريرة (1) كذلك - وكان قد خرج إلى الشام (2) ووجد الوباء، عاد بمن معه.
وقد اضطر أبو هريرة أمام هذه الأخبار القوية إلى أن يرجع عما حدث،
وأنكر روايته الأولى (لا عدوى).
ولما أنكر عليه الحارث ابن أبي ذباب (ابن عم أبي هريرة) وقال له: كنت
أسمعك يا أبا هريرة تحدثنا مع حديث (لا يورد..) حديث لا (عدوى) فأنكر
معرفته لذلك، ووقع عند الإسماعيلي من رواية شعيب، فقال الحارث (ابن عم
أبي هريرة) إنك حدثتنا! فأنكر أبو هريرة وقال لم أحدثك ما تقول. ورواية
مسلم: ألم تحدث أنه لا عدوى؟ صمت ورطن بالحبشية (3).
كان أبو هريرة عندما يريد شيئا يضع له حديثا:
روى ابن عمر أن رسول الله أمر بقتل الكلاب إلا كلب ماشية أو كلب صيد
فقيل لابن عمر: إن أبا هريرة يقول: أو كلب زرع! أي أنه زاد من عنده -

(1) رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة ورواية مسلم: لا يورد.
(2) في ذهابه إلى الشام سنة 18 ه‍. ولما وصل إلى سرع أخبر بأن الوباء قد وقع بالشام
فرجع بالناس.
(3) ص 198 و 199 ج 10 فتح الباري وص 104 من جامع ابن وهب الذي نشره
العهد العلمي الفرنسي بالقاهرة سنة 1919 م.
142

أو كلب زرع، فقال ابن عمر: إن لأبي هريرة زرعا (1)! أي أن أبا هريرة
قد جاء بهذه الزيادة لان له زرعا!
وهذا يدل أوضح الدلالة على أن أبا هريرة كان عندما يريد شيئا يضع له
حديثا من (كيسه) ثم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله..
ولا نستوعب هنا كل ما جاء عن الصحابة في تكذيب أبي هريرة فإنه
كثير ويراجع في ذلك كتاب جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر وغيره.
انتقاد ما بعد الصحابة على أبي هريرة وموقف التابعين منه:
وإذا كنا لا نستطيع أن نستوفي كل ما صدر من مآخذ الصحابة على
أبي هريرة وشكهم في رواياته، بل تكذيبها، لان كتابنا يضيق بذلك، فإن
سياق البحث يدعونا إلى أن نعرف موقف التابعين من رواياته.
إن موقف التابعين من أبي هريرة إنما يتمثل في إمام العراق إبراهيم النخعي
وأصحابه وهم، كما عرف من تاريخهم ولخصناه لك في كلمات وجيزة، أئمة
أجلاء تلقوا القرآن، وحفظوا الحديث عن أصحاب رسول الله، وأدوا هذه
الأمانة الثقيلة إلى من بعدهم على خير ما يؤديها الامناء الصادقون، فهم بذلك
إذا تكلموا في أبي هريرة أو في غيره فإنما يتكلمون عن علم وخبرة، ويكون
كلامهم حجة لا يمكن لاحد أن يدفعها أو يشك فيها.
وشهادة النخعي خاصة في أبي هريرة تعد شهادة قاطعة لا ريب فيها، ووصفه
لرواياته يكون أدق وصف، ذلك بأنه ولد في سنة 50 ه‍، وذكروا في تاريخه أنه
دخل في صباه على عائشة أم المؤمنين ورآها، وقد ماتت عائشة قبل أبي هريرة
بعام، فبديهي أن يكون قد رأى أبا هريرة كذلك، ومهما يكن من شئ فإنه
يعتبر ممن عاشوا في عصر أبي هريرة، ومن يكن شأنه كذلك فإنه يتاح له أن
يعرف من أمر أبي هريرة ومروياته ما لم يعلم عنه غيره ممن لم يعاصره، فإذا هو
حكم عليه حكما فإنما يكون حكما عدلا، وإذا قال في رواياته قولا فإنما يكون
قولا فصلا.

(1) نص رواية أبي هريرة: من اتخذ كلبا إلا كلب ماشية أو صيد انتقص من أجره قيراط
كل يوم. وهذا الحديث رواه مسلم في صحيحه.
143

ولو أن أبا هريرة كان ثقة فيما يروى لكان النخعي عالم العراق الذي وصفوه
(بأنه كان صيرفيا في الحديث) أول من يوثقه ويروى عنه! ولكنه قال فيه كلماته
المشهورة الصريحة التي عبر فيها عن نفسه وعن كبار الأئمة من أصحابه، وإليك
ما قاله مرويا عن هؤلاء الأصحاب.
عن مغيرة (1) عن إبراهيم (2): كان أصحابنا يدعون من حديث أبي هريرة
وعن الأعمش (3) عن إبراهيم قال: ما كانوا يأخذون بكل حديث أبي هريرة.
وروى الثوري (4) عن منصور (5) عن إبراهيم قال: كانوا يرون في حديث

(1) مغيرة ابن مقسم:
الفقيه الحافظ ولد أعمى وكان عجيبا في الذكاء حدث عن أبي وائل والشعبي وإبراهيم النخعي وكان
راويته ومجاهد وعدة وأخذ عنه شعبة والثوري وغيرهم، قال عنه شعبة: كان أحفظ من حماد، وكان عثمانيا،
توفى سنة 136 ه‍.
(2) إبراهيم النخعي الكوفي الفقيه روى عن خاله علقمة * ومسروق * * والأسود * * *
وطائفة، رأى عائشة ودخل عليها وهو صبي أخذ عنه حماد بن سليمان الفقيه وسماك بن حرب وابن
عون والأعمش ومنصور وخلق، وكان من العلماء ذوي الاخلاص، قال مغيرة: كنا نهاب إبراهيم
كما يهاب الأمير، وقال: كان إبراهيم صيرفيا في الحديث، وكان يتوقى الشهرة ولا يجلس إلى الأسطوانة
وكان سعيد بن جبير يقول: تستفتوني وفيكم إبراهيم النخعي، وحمل عنه العلم وهو ابن ثمان عشرة سنة
مات سنة 96 ه‍ كهلا قبل الشيخوخة وولد سنة 50 ه‍.
(راجع تذكرة الحفاظ للذهبي ص 69 ج 1 والمعارف لابن قتيبة ص 204 ووفيات الأعيان ص 3
ج 1) وقال أبو حنيفة: إبراهيم أفقه من سالم. وهو مولى أبى حذيفة آخى النبي بينه وبين أبى بكر وهو
بدري، وسالم هذا هو الذي قال عمر عندما أراد أن يستخلف: لو كان سالم مولى أبى حذيفة حيا،
لاستخلفته.
(3) الأعمش:
شيخ الاسلام، رأى أنس بن مالك وغيره قال ابن عيينة: كان الأعمش أقرأهم لكتاب الله
وأحفظهم للحديث وأعلمهم بالفرائض، وكان يسمى المصحف في صدقه. وقال فيه يحيى القطان:
علامة الاسلام، لم تفته التكبيرة الأولى مات سنة 128 ه‍ - ولد سنة 87 ه‍.
(4) الثوري:
شيخ الاسلام، سيد الحفاظ أبو عبد الله الثوري الكوفي الفقيه قال القطان فيه: ما رأيت
أحفظ منه، إنه فوق مالك في كل شئ، ومن قوله: لو أردنا أن نحدثكم بالحديث كما سمعناه
ما حدثناكم بحديث واحد، مات بالبصرة سنة 161 ه‍.
(5) منصور بن المعتمر:
الامام الحافظ الحجة أحد الاعلام قال ابن مهدي: لم يكن بالكوفة أحد أحفظ من منصور
حدث عن أبي وائل وربعي بن خراش وإبراهيم وسعيد بن جبير والشعبي وطبقتهم، وروى عنه
الأعمش والثوري وشعبة وغيرهم مات سنة 132 ه‍.
* علقمة:
علقمة بن قيس بن عبد الله فقيه العراق ولد في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسمع من عمر وعثمان وعلى وابن
مسعود وأبى الدرداء، وكان من أنبل أصحابه، وكان فقيها إماما ثبتا، وكان ناس من الصحابة يستفتونه،
روى عنه إبراهيم النخعي والشعبي مات سنة 60 ه‍. وقال أبو حنيفة: لولا فضل الصحبة لقلت علقمة
أفقه من ابن عمر! وقد أدرك أبو حنيفة قديما الشعبي والنخعي وغيرهما من الأكابر (ص 132 من
كتاب الانتقاد).
* * مسروق:
مسروق الأجدع الامام الكوفي الفقيه أحد الاعلام أخذ عن عمر وعلى معاذ وابن مسعود وأبى وكان
أعلم بالفتوى من شريح، أخذ عنه إبراهيم والشعبي وخلق، توفى سنة 63 ه‍.
* * * الأسود:
هو أبو عبد الرحمن بن يزيد النخعي قال عنه أبو نفيح في حلية الأولياء (ص 102 - 105
ج 2): هو القارئ القوام الساري الصوام، الفقيه الأثير - كان أحد الثمانية الذين انتهى إليهم الزهد،
مات سنة 74 أو 75.
144

أبي هريرة شيئا!، وما كانوا يأخذون بكل حديث أبي هريرة إلا ما كان من
حديث صفة جنة أو نار! أو حث على عمل صالح أو نهى عن شر جاء
القرآن به.
وروى أبو أسامة عن الأعمش قال: كان إبراهيم صحيح الحديث، فكنت
إذا سمعت الحديث أتيته فعرضته عليه، فأتيته يوما بأحاديث من أحاديث
أبى صالح عن أبي هريرة فقال: دعني من أبي هريرة! إنهم كانوا يتركون كثيرا
من أحاديثه، وهذه العبارة القاطعة وحدها كافية في عدم الثقة بأبي هريرة
ورواياته. (راجع في هذه الأخبار سير أعلام النبلاء ص 348 ج 2 والبداية
والنهاية لابن كثير ص 109 ج 8 وشرح نهج البلاغة ص 360 ج - 1).
145

وأبو حنيفة وأصحابه:
ثم يأتي بعد النخعي وأصحابه شيخ أئمة الفقه أبو حنيفة وأصحابه الفقهاء الاعلام
لا ليؤيدوا آراء من سبقهم في أبي هريرة فحسب، بل ليزيدوا عليها، فإذا كان
النخعي وأصحابه يجدون في أحاديث أبي هريرة شيئا وأنهم كانوا يدعون منها،
ولا يأخذون إلا ما كان من حديث جنة أو نار - كما علمت ذلك من أقوالهم
التي قرأتها آنفا، فإن أبا حنيفة وأصحابه والآخذين بمذهبه - وهم شطر كبير
من الأمة الاسلامية - لا يثقون جميعا بأبي هريرة ولا يأخذون برواياته كلها وهاك
طرفا مما جاء عنهم في ذلك:
روى محمد بن الحسن (صاحب أبي حنيفة) عن أبي جنيفة أنه قال:
أقلد من كان من القضاة المفتين من الصحابة كأبي بكر وعمر
وعثمان وعلى والعبادلة الثلاثة ولا أستجيز خلافهم برأيي، إلا ثلاثة نفر.
وفى رواية: أقلد جميع الصحابة ولا أستجيز خلافهم برأيي إلا ثلاثة نفر
(أنس بن مالك وأبو هريرة وسمرة) فقيل له في ذلك فقال: أما أنس
فاختلط في آخر عمره، وكان يستفتى فيفتي من عقله، وأنا لا أقلد عقله،
وأما أبو هريرة، فكان يروى كل ما سمع من غير أن يتأمل في المعنى (1)،
ومن غير أن يعرف الناسخ من المنسوخ (2).

(1) يشير أبي حنيفة في قوله عن أبي هريرة - إنه كان يروى كل ما سمع من غير أن يتأمل
المعنى إلى حديث رواه مسلم عن حفص بن عاصم " كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع " وقال عمر: حسب المرء من الكذب أن يحدث بكل ما سمع. رواه مسلم.
وقال خالد بن عبد الله: سمعت ابن شبرمة يقول: أقلل الرواية تفقه (124 ج 3 جامع بيان العلم
وفضله) - وقال عبد الرحمن بن مهدي: لا يكون إماما في الحديث من تتبع شواذ الحديث، أو حدث
بكل ما سمع، أو حدث عن كل أحد (وابن مهدي من كبار أئمة الجرح والتعديل) (ص 47 من
نفس المصدر).
وقال ابن أبي ليلى: لا يفقه الرجل في الحديث حتى يأخذ منه ويدع (ص 132 من نفس
المصدر) ومن أمثال أكثم بن صيفي " المكثار كحاطب ليل، ومن أكثر أسقط " (ص 13
من كتاب المعمريز للسجستاني).
(2) من البحث الثالث في بيان حال الراوي من كتاب مرآة الأصول شرح مرقاة الوصول،
تأليف محمد بن فراموز المعروف بملا خسرو الحنفي المتوفى سنة 885 ه‍ وهو مخطوط بدار الكتب المصرية
رقم 115 وهو إن عرف بالرواية وشبر بها، فإن كان ذلك المعروف بها فقيها كالخلفاء الراشدين
والعبادلة وزيد ومعاذ وعائشة رضوان الله عليهم أجمعين تقبل الرواية منه مطلقا، أي سواء وافق القياس
أو خالفه. وإن لم يكن فقيها كأبي هريرة وأنس رضي الله عنهما فترد روايته إن لم يوافق الحديث الذي
رواه قياسا أصلا حتى إن وافق قياسا مثل حديث المصراة وهو مما روى أبو هريرة، وقال المؤلف إن هذا
الحديث مخالف للقياس الصحيح وستري الكلام عنه في الصفحة التالية.
وقال عبد الوهاب الشعراني وهو من أئمة الشافعية الكبار في كتابه الميزان:
وكان أبو مطيع البلخي يقول: قلت للامام أبي حنيفة رضي الله عنه: لو رأيت رأيا ورأى
أبو بكر رأيا أكنت تدع رأيك لرأيه؟ قال: نعم. فقلت له أرأيت لو رأيت رأيا ورأى عمر رأيا أكنت
تدع رأيك لرأيه؟ فقال: نعم، وكذلك كنت أدع رأيي لرأى عثمان وعلى وسائر الصحابة ما عدا
أبا هريرة وأنس بن مالك وسمرة بن جندب - ص 58 ج 1 الطبعة الثانية المطبعة الأزهرية المصرية سنة
1317 ه‍.
146

وروى أبو يوسف قال: قلت لأبي حنيفة: الخبر يجيئني عن رسول الله
يخالف قياسنا! ما نصنع به؟ فقال: إذا جاءت به الرواة الثقات عملنا به،
وتركنا الرأي. فقلت: ما تقول في رواية أبى بكر وعمر؟ قال: ناهيك بهما،
فقلت: وعلى وعثمان؟. قال: كذلك، فلما رآني أعد الصحابة، قال:
والصحابة كلهم عدول ما عدا رجالا، وعد منهم أبا هريرة وأنس بن مالك (1).
وقال ابن الأثير: أما رواية أبي هريرة فشك فيها قوم لكثرتها (2). وفى
الاحكام للآمدي (3):
إن الصحابة أنكرت على أبي هريرة كثرة روايته حتى قالت عائشة رضي الله عنها
: رحم الله أبا هريرة لقد كان رجلا مهذارا في حديث المهراس.
وجرت مسألة المصراة (4) في مجلس الرشيد فتنازع القوم فيها وعلت أصواتهم

(1) هذا هو رأى أبي حنيفة في أبي هريرة وهو من نعلم شيخ فقهاء أهل السنة، وأول
الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المشهورة لدى الجمهور - والذي أدرك عصر الصحابة، وهو من أصل
فارسي أخذ الفقه عن جعفر الصادق وعن إبراهيم النخعي من أكبر فقهاء عصره وسمع الحديث من الشعبي
والأعمش؟؟ وله تاريخ طويل رضي الله عنه، وله سنة 80 ه‍ في ولاية عبد الملك بن مروان وتوفى
سنة 150 وهي السنة التي ولد فيها الإمام الشافعي.
أما الشيعة وبخاصة الامامية منهم فإنهم لا يثقون بأبي هريرة ولا برواياته مهما كانت.
(2) ص 80 و 81 من كتاب المثل السائر.
(3) ص 106 ج 2.
(4) والمصراة: هي الناقة أو البقرة يجمع اللبن في ضرعها ويحبس أياما بغير حلب لايهام
المشترى أنها غزيرة اللبن، وسبب رد الحنفية لحديث " المصراة " أنه مخالف للأقيسة بأسرها فإن حلب اللبن
تعد، وضمان التعدي يكون بالمثل - أو بالقيمة، والصاع من التمر ليس بواحد منها.
147

فاحتج بعضهم بالحديث الذي رواه أبو هريرة فرد بعضهم الحديث وقال:
أبو هريرة متهم فيما يرويه - ونحا نحوه الرشيد.
وسبه عمرو بن عبيد وطعن في روايته (1).
ومن الذين انتقدوا أحاديث أبي هريرة في هذا العصر السيد محمد رشيد
رضا والدكتور طه حسين (2) والدكتور أحمد أمين والدكتور محمد توفيق
صدقي وغيرهم.
حتى المعتزلة:
وكذلك المعتزلة فإنهم لا يثقون به، ولا يأخذون بأحاديثه، قال أبو جعفر
الإسكافي: وأبو هريرة مدخول عند شيوخنا (أي شيوخ المعتزلة) غير مرضى
الرواية، ضربه عمر وقال: قد أكثرت من الرواية، وأحر بك أن تكون كاذبا
على رسول الله إلخ (3) والمعتزلة فرقة كبيرة من فرق المسلمين لا يستهان بها.
التحفظ من حديثه:
وقد مر بك في الكلام عن أخذ أبي هريرة عن كعب الأحبار وسيأتيك فيما
بعد ما رواه مسلم وأحمد بن حنبل من طلب التحفظ من حديثه - وإليك
ما ذكره في ذلك الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (4).
قال مسلم بن الحجاج عن بسر بن سعيد قال: اتقوا الله وتحفظوا في
الحديث، فوالله لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة فيحدث عن رسول الله ويحدثنا عن

(1) ص 361 فجر الاسلام، وعمرو بن عبيد هذا كان تلميذا للحسن واشتهر بالزهد والورع
وفيه يقول المنصور: كلكم طالب صيد غير عمرو بن عبيد، ولما مات ابن أبي ليلى وعمرو بن عبيد
قال أبو جعفر المنصور ما بقى أحد يستحى منه - ص 94 من البيان والتبيين. ومن العجب أنهم
تجافوا الرواية عنه. توفى سنة 145 ه‍ في رجوعه من الحج.
(2) علق الدكتور طه حسين في كتابه (مرآة الاسلام) على حديث أبي هريرة الذي رواه
الشيخان عن الاسلام والايمان وذكر من أشراط الساعة أنها إذا ولدت الأمة ربها، وإذا تطاول رعاة
الإبل في البنيان! فقال:
أما أشراط الساعة التي جاءت في الحديث، وأن الرجل الذي جاء يسأل النبي كان جبريل أقبل يعلم
الناس دينهم، فإنا نتركه لأبي هريرة ولمن روى عنه يحملون تبعته (ص 211، 212).
(3) ص 360 ح 1 من شرح نهج البلاغة.
(4) ص 109 ج 8.
148

كعب الأحبار ثم يقوم فأسمع بعض من كان معنا يجعل حديث رسول الله عن
كعب، وحديث كعب عن رسول الله. وفى رواية: يجعل ما قاله كعب عن
رسول الله، وما قاله رسول الله عن كعب، فاتقوا الله وتحفظوا في الحديث.
وقال يزيد بن هارون: سمعت شعبة يقول: أبو هريرة كان يدلس أي
ما سمعه عن كعب وما سمعه من رسول الله ولا يميز هذا من هذا. ذكره ابن
عساكر، وكأن شعبه يشير إلى حديث: من أصبح جنبا فلا صيام له،
فإنه لما حوقق عليه، قال أخبرنيه مخبر ولم أسمعه من رسول الله اه‍. وغير ذلك.
وماذا بعد ذلك؟
ليس هذا الذي أوردناه آنفا عن كبار الصحابة وأئمة التابعين ومن بعدهم
هو كل ما قيل في أبي هريرة ورواياته، ولو شئنا لأتينا بطوائف أخرى كثيرة
من أقوال الذين تحررت عقولهم من رق التقليد على مد العصور، ولكنا نكتفي
بما أوردناه وهو كفاية وفوق الكفاية. ولو نحن استقرينا كل ما وجه إلى
أبي هريرة من طعن وأحصيناه لاقتضى منا أن نفرد له كتابا برأسه.
على أن هذا الذي أوردناه عن الصحابة والتابعين وسواهم لم يكن ليصد
غيرهم من أن يصدقوه ويستمعوا إليه، وبخاصة بعد أن خلا له الجو بموت
كبار الصحابة ومن كان يخشاهم في حياتهم وتفرق أكثرهم في الأمصار التي
افتتحت، ثم أعانه على ذلك انضواؤه تحت لواء بنى أمية وأنه قد أصبح من
أنصارهم ودعاتهم، وناهيك بالسياسة إذا هي ظاهرت أحدا فإنه ينقلب ذا
قوة ونفوذ بعد أن لم يكن له قيمة وقدر.
ولقد كان لأمر أبي هريرة أن ينتهى وتتجلى حقيقته بعد غروب شمس
دولة بنى أمية ونسخ ظلها عنه فيبدو للناس على حقيقته ويتخلصوا من رواياته،
ولكن أتيح لهذه الروايات أن تبقى على مر القرون - وذلك بظهور بدعة
(عدالة الصحابة المطلقة) فعصمته وغيره من الصحابة من أن يتجه إليهم تجريح
مهما ارتكبوا من ذنب، أو اقترفوا من إثم، أو يصوب إلى رواياتهم نقد
149

مهما كان فيها مما يستوجب الطعن، وقد أصبحت هذه (البدعة) سنة متبعة،
بل قاعدة من قواعد علم الأصول، من خرج عليها، ولم يأخذ بها رمى بالمروق
والزندقة.
ولقد كان لهذه (البدعة) أثرها وخطرها على عقائد الدين وأحكامه وآدابه
ومبادئه وأوصدت الأبواب أمام الباحثين في تاريخ الصحابة ونقد مروياتهم
ومنعتهم من أن يتولوهم بالدراسة التحليلية المتبعة في ترجمة الرجال والبحث عن
حقيقة آثارهم لان بساطهم قد طوى بزعمهم كأنهم ليسوا أناسي بل هم
طبقة فوق ذلك خلقهم الله منزهين عن الخطأ والنسيان والوهم - ولولا هذه البدعة
التي تحرم بها أبو هريرة لكان أكبر من توجه إليه سهام النقد والتجريح، إن
في شخصه وإن في رواياته! ولأنه أصبح آمنا من كل نقد أرخى لنفسه العنان
في أن يتحدث بما يشاء بغير أن يخشى أحدا، وأمعن في الرواية حتى طمى سيلها،
وعلا مدها، وزخرت كتب الحديث بالألوف المؤلفة منها، برغم ما بيناه في محله
من كتابنا هذا من أنه لم يصاحب النبي إلا عاما وبعض عام - ومما يدعو إلى
الأسى أن تجد هذه المرويات من يدافعون عنها على ما فيها من مشكلات
وخرافات وما يخالف العلم، أو يصادم العقل، أو يقف في سبيل أغراض
الدعوة الاسلامية التي قام أساسها على إسعاد الانسان ورقى العمران، وأنها
صالحة لكل زمان ومكان.
وإذا كنا هنا لا نستطيع أن نتوسع في بيان الضرر الذي نجم عن
الاخذ بعدالة الصحابة بعد أن كسرنا لذلك فصلا برأسه في كتابنا الأضواء،
فإنا نقتصر هنا على إيراد كلمة قيمة وجيزة تفصح عما كان من أثر ضار في
روايات أبي هريرة خاصة، ولولاها لبدا أمر هذا الصحابي على غير ما يفهم
الجمهور، وهذه الكلمة ليست لنا حتى لا يقال إننا قد جئنا بها لنعزز ما
كتبناه، وإنما هي لامام جليل من أئمة المسلمين هو السيد رشيد رضا قال
رضي الله عنه (1):
إنه انفرد بأحاديث كثيرة كان بعضها موضع الانكار، أو مظنته، لغرابة

(1) ص 97 ج 19 مجلة المنار.
150

موضوعها كأحاديث الفتن، وإخبار النبي صلى الله عليه وآله ببعض المغيبات التي تقع
بعده، ويزاد على ذلك، أن بعض تلك المتون غريب في نفسه، ولو انفرد
بمثله غير صحابي لعد من العلل التي يتثبت بها في روايته - كما هو المعهود عند
نقاد الحديث، أهل الجرح والتعديل (1). ولذلك نرى الناس ما زالوا يتكلمون
في بعض روايات أبي هريرة " (2).
وقال رحمه الله وهو يبين أن بطلي الإسرائيليات، وينبوعي الخرافات،
هما كعب الأحبار ووهب بن منبه:
وما يدرينا أن كل تلك الروايات - أو الموقوفة منها ترجع إليهما فإن الصحابة
رضي الله عنهم لم يكونوا يذكرون ما يسمع بعضهم من بعض، ومن التابعين
على سبيل الرواية والنقل، بل يذكرونه من غير عزو غالبا، وكثيرون من
التابعين كذلك، بل أكثر ما روى عن أبي هريرة من الأحاديث المرفوعة لم
يسمعه منه صلى الله عليه وآله ولذلك روى أكثر عنه عنعنة، أو بقوله: قال رسول
الله صلى الله عليه وآله وأقله بلفظ، سمعت رسول الله يقول كذا (3).
وقال رحمه الله: لو طال عمر عمر حتى مات أبو هريرة لما وصلت إلينا
تلك الأحاديث الكثيرة (4).

(1) ولكن من يجرؤ على تجريح أبي هريرة وهو محصن بقلاع الصحبة، وقد أوصدوا باب
الجرح والتعديل دون الصحابة جميعا، وفتحوه على مصراعيه ليدخل فيه الناس كافة.
(2) ولكن لا يزال بيننا من يقذفون الذين يتكلمون في روايات أبي هريرة ويرمونهم بالزندقة.
(3) لهذا العلامة كلام نفيس أوسع من ذلك في أبي هريرة وما روى تجده منشورا فيما بعد من
كتابنا هذا.
(4) ص 851 ج 10 من مجلة المنار.
151

اعتراف أبي هريرة بأنهم كانوا يكذبونه!
ولقد سمع أبو هريرة بأذنية ما يزن به من قوارص الكلام، ورأى بعينيه
ما يلقاه - أينما ولى وجهه - من قوارع الاتهام، فلم يجد مناصا - تلقاء ذلك -
إلا أن يعترف غير مرة بما كان يرمى به من الانكار عليه وتكذيبه، فيما
يروى عن النبي صلى الله عليه وآله، وهذا مما لم يسمع من غيره من الصحابة جميعا، وهاك
بعض هذه الاعترافات التي كان يصرح بها جهارا أمام الناس:
لما قدم العراق مع معاوية في العام الذي سموه عام الجماعة - وهو في
الحقيقة عام الفرقة - جثا على ركبتيه في مسجد الكوفة وجعل يضرب صلعته
مرارا، يلفت الناس بذلك إليه (ويلفت كذلك معاوية وحاشيته) وحين
اجتمعوا عليه، أهاب بهم: يا أهل العراق أتزعمون أنى أكذب على رسول
الله الحديث (1).
وروى مسلم عن أبي رزين قال: خرج إلينا أبو هريرة فضرب بيده على
جهته فقال ألا إنكم تحدثون (أنى أكذب على رسول الله) لتهتدوا وأضل! ألا
وإني سمعت رسول الله يقول: إذا انقطع شسع أحدكم فلا يمشى في الأخرى
حتى يصلحها.
ونحن لا يعنينا من هذا الحديث إلا اعترافه الصريح بأنهم كانوا يتهمونه
بالكذب، وأن هذا الاتهام قد استفاض بين الناس حتى أصبح يلاحقه في كل
مكان، فمرة في العراق ومرارا في غير العراق من سائر الآفاق! أما نص الحديث
فما نظن أنه قد صدر عن النبي صلى الله عليه وآله لأنه في أمر تافه لا يعنى النبي بمثله،
وإنما يعنى به أبو هريرة لأنه يتفق مع عقله وتفكيره!

(1) سيقابلك نص هذا الحديث كاملا فيما افتراه ضد على من هذا الكتاب.
152

أبو هريرة يعترف كذلك بأنه ليس على الحال التي فارق عليها محمدا صلى الله عليه وآله:
ولقد كان أبو هريرة يعترف كذلك بأنه ليس على الحال التي فارق عليها
محمدا صلى الله عليه وآله.
قال أبو نعيم فيما رفعه إلى السدى أنه قال: رأيت نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله
منهم أبو سعيد الخدري وأبو هريرة، كانوا يرون أنه ليس أحد منهم على الحال
التي فارق عليها محمدا صلى الله عليه وآله (1).
ولا نستزيد من نقل هذه الاعترافات وحسبنا ما قدمناه منها فهو كاف.
وعلى أن أبا هريرة قد أكثر من الدفاع عن نفسه وأنه كان يعزز دفاعه دائما
بالقسم! وأن الدولة بسلطانها وقوتها كانت تؤيده وتعمل على درء التهم عنه،
لأنه كان من أنصارها ويهمها أن لا يشك الناس في مروياته وبخاصة ما كان
منها في تأييدها، والنيل من أعدائها! فإن ذلك كله لم يغير مما اشتهر عنه شيئا
بل كان كالزبد الذي لا يلبث قليلا حتى يذوب، وظل اتهام أبي هريرة ملازمه
لا ينفك عنه، وسيظل قائما يأخذ بتلابيبه، يتلقفه الخلف عن السلف إلى أن
يشاء الله.
التهكم به والسخرية منه:
ولم يقف الامر بهم وبه عند تكذيبه والانكار عليه بل زاد على ذلك بأنهم
كانوا يتهكمون به، ويسخرون منه، وإليك مثلا يستدل به على غيره:
فعن أبي رافع: أن رجلا من قريش أتى أبا هريرة في حلة يتبختر فيها
فقال: يا أبا هريرة، إنك (تكثر الحديث) عن رسول الله، فهل سمعته يقول
في حلتي هذه شيئا؟ (كأن كل أمر كان يستخرج له حديثا) فقال: سمعت
أبا القاسم (أي النبي) يقول: إن رجلا ممن كان قبلكم بينما كان يتبختر

(1) ص 13 - 16 ج 7 معجم الأدباء والسدي الكبير هو إسماعيل بن عبد الرحمن كان ثقة
مأمونا أدرك جماعة من الصحابة منهم سعد بن أبي وفاص وابن عمر وأبو هريرة وروى عن ابن
عباس وأنس وطائفة وروى عنه الثوري وشعبة وزائدة وغيرهم مات سنة 127 ه‍.
153

في حلة، إذ خسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها حتى تقوم الساعة -
(فوالله) ما أدرى لعله كان من قومك، أو من رهطك (1).
وهذا الرجل - كما يبدو من سؤاله لم يكن مستفهما، وإنما كان مستهزئا
متهكما، إذ لم يقل له إنك (تحفظ) أحاديث رسول الله، وإنما قال له:
(تكثر) عن رسول الله، وسياق السؤال يدل كذلك على أنه كان يسخر منه
- وانظر كيف يقسم أبو هريرة بالله - في حديث هو ابن وقته - ولقد كان
دائما يقسم هذا القسم في أحاديث قد لا تصح!
أول راوية اتهم في الاسلام:
عرفت مما تقدم كيف أنكر كبار الصحابة على أبي هريرة وكيف كذبوه
وأنه نفسه قد اعترفت بتكذيبهم إياه، وعرفت كذلك كيف امتد هذا التكذيب
وذاك الانكار، إلى ما بعد الصحابة على مد العصور حتى وصل إلى عصرنا
هذا، وهذا الاتهام لم يوجه إلى غيره من الصحابة جميعا.
ومن أجل ذلك كتب الكاتب الاسلامي البليغ مصطفى صادق الرافعي
رحمه الله يقول:
كان أبو هريرة أكثر الصحابة رواية - ولهذا كان عمر وعثمان وعلى وعائشة
ينكرون عليه ويتهمونه - وهو أول راوية اتهم في الاسلام - وكانت عائشة
أشدهم إنكارا عليه لتطاول الأيام بها وبه إذ توفيت قبله بسنة (2).

(1) ص 108 ج 8 من البداية والنهاية لابن كثير.
(2) ص 278 ج 1 تاريخ آداب العرب
154

جزاء الكذب على رسول الله
تبين لك مما سقناه إليك في هذا الفصل أن بعض الصحابة كذبوا أبا هريرة
في رواياته تكذيبا صريحا، وامتد هذا التكذيب إلى ما بعد الصحابة وإلى
اليوم وما بعد اليوم، وهو ولا ريب فيما يرويه عن رسول الله، ومعلوم أن
جزاء الكاذب على رسول الله أن يتبوأ مقعده من النار كما في حديثه الصحيح:
" من كذب على فليتبوأ مقعده من النار " - وفى اختصار علوم الحديث
قال ابن حنبل، وأبو بكر الحميدي، وأبو بكر الصيرفي: لا تقبل رواية من
كذب في أحاديث رسول الله وإن تاب عن الكذب بعد ذلك (1).
وقال السمعاني. من كذب في خبر واحد وجب إسقاط ما تقدم من
حديثه (2).
وقال الحافظ ابن حجر: اتفق العلماء على تغليظ الكذب على رسول الله
صلى الله عليه وآله وأنه من الكبائر حتى بالغ الشيخ أبو محمد الجويني فحكم بكفر من
وقع منه ذلك وكلام ابن العربي يميل إليه (3).

(1) ص 111.
(2) ص 14 من التقريب للنووي.
(3) ص 389 ج 6 فتح الباري.
155

دولة بنى أمية، وكيف نشأت (1)
" إذا وليت أمر المسلمين فاتق الله! ولا تحمل بنى
أمية، وبنى أبى معيط على رقاب المسلمين "
من وصية عمر بن الخطاب لعثمان بن عفان
مما لا ريب فيه أن أبا هريرة قد اتصل بدولة بنى أمية وبنى أبى معيط
اتصالا وثيقا، فتشيع لها، وحطب في حبلها، واستظل بظلها، وناصرها
ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ومن أجل ذلك ظفر بمكانة عظيمة لديها فغمرته
بأعطياتها، وملأوا يديه، من نوالها، وجدير بنا قبل أن نعرض لهذا الاتصال
أن نوطئ بصدر من القول نبين فيه حقيقة هذه الدولة وكيف قامت، وماذا
كان من أمر زعمائها من النبي من أول يوم قام فيه بدعوته، وقعودهم له كل
مرصد، وإمعانهم في أذاه! وشن الحروب عليه، ثم ما كان بعد ذلك من
أمر عثمان معهم - وهم قومه - عندما استخلف، من ميله إليهم، ومحاباته
إياهم، وإيثارهم بالمنح والعطايا من مال المسلمين بحق وبغير حق، وتمكينهم من
حكم الولايات الكبيرة في المملكة الاسلامية لكي يمهد بذلك لقيام دولة لهم،
ثم ما فعله معاوية - زعيم الفئة الباغية مع الامام على وبنيه عليه السلام، وقلبه
الحكم من شورى عادلة إلى ملك عضوض، وما ارتكبه يزيد بعد ذلك مع
الحسين، وما إلى ذلك مما سجله التاريخ الصادق وخلده على صفحاته - وذلك
كله في عرض وجيز - حتى إذا ما تجلى أمر هؤلاء القوم وبدت حقيقتهم
ناصعة أمكن تعليل ما اتخذوه في حكمهم من ضروب الرغبة والرهبة، والضغط
والقهر بالمال مرة، وبالسيف تارة لتأييد دولتهم، وحفظ ملكهم.

(1) هذا الموضوع الخطير يحتاج إلى أن يكسر له سفر كبير برأسه وقد أتينا هنا بهذه الفذلكة
لنبين أن وضع الحديث كان في زمن هذه الدولة وأنه من الأسس التي قامت عليها، وأن أبا هريرة كان
أكبر من وضع الحديث لتأييدها.
156

جذور الأموية:
إن قيام الدولة الأموية له جذور عميقة تضرب في أحشاء الزمن البعيد في
الجاهلية، يجب على كل من يتصدى لتأريخ هذه الفترة من الزمن أن ينفذ إليها
ويتعمقها، وأن يصورها تصويرا صادقا، ثم يعرض صورتها جلية على الناس
- وهذه الجذور ترجع إلى ما كان من شنآن متأصل في صدر بنى أمية لبني
هاشم قبل الاسلام، وظل هذا الشنآن يؤج بينهما على مد الزمن نارا وسعيرا،
حتى إذا ظهر النبي (ص) بدعوته، كان هؤلاء القوم أسرع الناس إلى
معارضته، والتصدي لدعوته، فعاجلوه بالمعارضة، وتولوه بالأذى حسدا من عند
أنفسهم، ولم يذروه ينشر دعوته، ويبلغ رسالته، بل أضرموا عليه حربا
ضروسا، اتصلت بينهم وبينه حوال عشرين سنة إلى أن فتحت مكة بنصر الله،
فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين، ولم يجد أبو سفيان الذي كانت له الزعامة في
قريش بعد أن قتل صناديدهم في وقعة بدر - مناصا من أن يستسلم وأن يسلم
مرغما هو وأولاده، ومنهم معاوية..
ولما كان إسلامهم هذا ظاهرا لم يجاوز حناجرهم، ولما يدخل الايمان في
قلوبهم، فقد ظلوا على ما بأنفسهم، مضمرين بغضهم القديم، ومقتهم
الموروث، وما أربى عليه من حقد جديد يأكل صدورهم - أن تظهر النبوة
في بنى هاشم أعدائهم، وأن أيقنوا أن دعوة هذا النبي ستقضي إلى الأبد على
نفوذهم بمكة التي كانت يومئذ خالصة لهم، وتمحو سيطرتهم على أهلها، ولبثوا
من أجل ذلك كله يتربصون بالنبي الدوائر، ويرتقبون أن تتاح لهم فرصة فيعيدوا
الكرة لكي يستعيدوا مجدهم الذاهب، ويستردوا نفوذهم البائد.
وما إن لحق النبي بالرفيق الاعلى حتى أسرعوا إلى إشعال نار الفتنة ليعيدوها
جذعة، ولكنهم خابوا فيما كانوا يبتغون، وحاق بهم ما كانوا يمكرون، إذ لم
يدع لهم أبو بكر وعمر وعلى أي منفذ إليه ينفذون، إلى أن قتل عمر بمؤامرة
أثيمة، وهنالك أماطوا عن وجوههم أقنعة النفاق، وأخذوا يسعون بكل ما استطاعوا
في سبيل قيام دولة منهم بعد أن طال ارتقابهم، وشد من عزمهم أن استخلف
157

عثمان بعد عمر في ظروف لا نتوسع بتفصيلها - وكان أمويا منهم - فما لبث أن
وطأ لهم ولبني أبى معيط من رقاب المسلمين وخالف بذلك وصية عمر
ما كان بين بنى أمية وبنى هاشم في الجاهلية:
أما ما كان بين بنى أمية وبنى هاشم في الجاهلية فإنا ندع القول فيه
للمؤرخ الكبير المقريزي فقد سجله في كتابة " النزاع والتخاصم فيما بين بنى أمية
وبنى هاشم ".
وإليك بعض ما قاله في ذلك:
" إني كثيرا ما كنت أتعجب من تطاول بنى أمية إلى الخلافة مع بعدهم
من جذم (1) رسول الله وقرب بنى هاشم، وأقول: كيف حدثتهم أنفسهم بذلك!
وأين بنو أمية، وبنو مروان بن الحكم طريد رسول الله ولعينه من هذا الحديث
مع تحكم العدواة بين بنى أمية وبنى هاشم في أيام جاهليتها! ثم شده عداوة
بنى أمية لرسول الله، ومبالغتهم في أذاه، وتماديهم على تكذيبه فيما جاء به منذ
بعثه الله عز وجل، بالهدى ودين الحق، إلى أن فتح مكة شرفها الله تعالى فدخل
من دخل منهم في الاسلام! فلعمري لا بعد أبعد مما كان بين بنى أمية وبين هذا
الامر إذ ليس لبني أمية سبب إلى الخلافة، ولا بينهم وبينها نسب..
وقد كانت المنافرة لا تزال بين بنى هاشم، وبين عبد شمس بحيث إنه
يقال إن هاشما وعبد شمس ولدا توأمين فخرج عبد شمس في الولادة قبل
هاشم وقد لصقت إصبع أحدهما بجبهة الآخر فلما نزعت دمى المكان فقيل
سيكون بينهما أو بين ولديهما دم فكان كذلك.
ويقال: إن جباههما كانت ملتصقة بعضها ببعض، فأخذ السيف ففرق
بين جباههما:
وكانت المنافرة بين هاشم بن عبد مناف بن قصي، وبين ابن أخيه أمية ابن
عبد شمس بن عبد مناف، وأصبح هاشم بعد هذه المنافرة منفردا بزعامة بنى
عبد مناف بمكة.

(1) جذم كل شئ: أصله.
158

وخلاصة القول في أمر هذه المنافرة كما ذكر المقريزي: أن هاشما كانت
إليه الرفادة (1) مع السقاية وكان رجلا موسرا، وكان إذا حضر موسم الحج
قام في قريش فقال: يا معشر قريس، إنكم جيران الله وأهل بيته، وإنكم
يأتيكم في هذا الموسم زوار الله يعظمون حرمة بيته وهم ضيف الله وأحق الضيف
بالكرامة ضيفه، وقد خصكم الله بذلك فأكرموا ضيفه وزواره وأغنوهم وأعينوهم
فكانت قريش ترافد على ذلك كل على قدره، فيضمه هاشم إلى ما أخرج من
ماله ويكمل العجز، وكان يخرج مالا كثيرا في كل سنة. وكان يطعم هؤلاء
الضيوف ويثرد لهم الخبز واللحم والسمن والسويق والتمر ويحمل لهم الماء حتى
يتفرق الناس لبلادهم. وكان هاشم هذا يسمى عمرا وإنما قيل له هاشم لهشمه
الثريد بمكة، وكان أمية بن عبد شمس ذا مال فتكلف أن يفعل كما فعل هاشم
من إطعام قريش فعجز عن ذلك فشمت به ناس من قريش وعابوه فغضب
ونافر (2) هاشما على خمسين ناقة سود الحدق تنحر بمكة وعلى جلاء عشر سنين
وجعلا بينهما الكاهن الخزاعي جد عمرو بن الحمق فقال الكاهن فيما قال:
" والقمر الباهر، والكوكب الزاهر، والغمام الماطر، وما بالجو من طائر،
وما اهتدى بعلم مسافر، من مخبر وغائر، لقد سبق هاشم أمية إلى المآثر،
أول منه وآخر، وأبو همهمة (3) بذلك خابر.
فأخذ هاشم الإبل فنحرها، وأطعم لحمها من حضر وخرج أمية إلى الشام
فأقام به عشر سنين. فكان هذا أول عداوة وقعت بين بنى هاشم وبنى أمية.
ولم يكن أمية في نفسه هناك، وإنما رفعه أبوه وبنوه، وكان مضعوفا وصاحب
عهار. اه‍ مختصرا. وثم أمور أخرى ذكرها المقريزي تزيد في العداوة والبغضاء
بين هاشم وأمية يرجع إليها في كتاب التنازع والتخاصم.
قال المقريزي. ثم تمادت العداوة بين البيتين حتى قام سيد بنى هاشم
أبو القاسم محمد بن عبد الله بمكة يدعو قريشا إلى توحيد الله تعالى، وترك ما كانت

(1) الرفادة من الرفد وهي الإعانة، رفده يرفده رفدا أعطاه.
(2) نافر الرجل منافرة ونفارا حاكم، وسميت منافرة لأنهم كانوا يقولون عند المفاخرة أنا أعز نفرا.
(3) أبو همهمة اسم الكاهن.
159

تعبد من دون الله، فانتدب لعداوته جماعة من بنى أمية منهم: أبو أحيحة
سعيد بن العاص بن أمية وعقبة بن أبي معيط، والحكم بن أبي العاص بن
أمية. وكان مؤذيا لرسول الله يطلع عليه وهو في حجرات نسائه. وقد قال فيه
النبي: من عذيري من هذا الوزغة! لو أدركته لفقأت عينه، ثم لعنه وما ولد
وغربه عن المدينة، فلم يزل خارجا عنها بقية حياة رسول الله وخلافة أبى بكر
وعمر رضي الله عنهما، فلما استخلف عثمان رده إلى المدينة وولده مروان،
ولما مات ضرب على قبره فسطاطا.
ومنهم عتبة بن أبي ربيعة بن عبد شمس، وهو أبو هند (1) التي لاكت كبد
حمزة بن عبد المطلب، ومنهم الوليد بن عتبة بن أبي ربيعة - والوليد هذا هو
خال معاوية.
ومنهم: شيبة بن ربيعة بن عبد شمس عم هند، ومنهم أبو سفيان صخر
بن حرب بن أمية قائد الأحزاب، الذي قاتل رسول الله يوم أحد، وقتل من خيار
أصحابه سبعون ما بين مهاجري وأنصاري، بينهم أسد الله حمزة عم النبي - وقاتل
رسول الله يوم الخندق. ولم يزل يحاد الله ورسوله حتى سار رسول الله لفتح
مكة، فأتى به العباس بن عبد المطلب رسول الله، وقد أردفه - وكان صديقه
ونديمه في الجاهلية - فلما دخل به على رسول الله، سأله أن يؤمنه، فلما رآه
رسول الله قال له: ويلك يا أبا سفيان. ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله؟
فقال له: بأبي أنت وأمي، ما أوصلك وأجملك وأكرمك! والله لقد ظننت أنه
لو كان مع الله غيره لقد أغنى عنى شيئا. فقال: يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن
تعلم أنى رسول الله؟ فقال: أما هذه ففي النفس منها شئ! فقال له العباس:
ويلك اشهد بشهادة الحق قبل أن تضرب عنقك! فشهد وأسلم (2)، وقد اختلف
في حسن إسلامه فقيل إنه شهد حنينا مع رسول الله وكانت الأزلام معه يستقسم

(1) هند هذه هي زوج أبى سفيان وأم معاوية.
(2) لما أسلم أبو سفيان رجع إلى مكة فصاح: يا معشر قريش، ألا إني قد أسلمت فأسلموا
فإن محمدا قد أتاكم بما لا قبل لكم به، فأخذت هند برأسه وقالت: بئس طليعة القوم أنت! والله
ما خدشت خدشا، (تعيب عليه استسلامه للاسلام بدون سابقة حرب).
يا أهل مكة عليكم الحميت الدسم فاقتلوه، وتريد ضخمه وسمنته.
160

بها، وكان كهفا للمنافقين في الجاهلية (1).
وفى خبر لعبد الله بن الزبير أنه رآه يوم اليرموك قال: فكانت الروم إذا
ظهرت قال أبو سفيان: إيه بنى الأصفر! فإذا كشفهم المسلمون قال:
وبنو الأصفر الملوك ملوك الروم * لم يبق منهم مذكور
وممن حاربوا النبي، معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية، وهو الذي
جدع أنف حمزة ومثل به، ومعاوية هذا هو أبو عائشة أم عبد الملك بن مروان،
وعبد الملك هذا أعرق الناس في الكفر، لان أحد أبويه الحكم بن أبي العاص
لعين رسول الله وطريده، والآخر معاوية بن المغيرة.
ومنهم حمالة الحطب واسمها أم جميل بنت حرب بن أمية - وإياها عنى الله
تعالى بقوله في سورة (تبت يدا أبى لهب.. السورة).
وقال المقريزي، وما من أحد من هؤلاء الذين تقدم ذكرهم إلا وقد بذل
جهده في عداوة رسول الله وبالغ في أذى من اتبعه وآمن به، ونالوا منهم من
الشتم وأنواع العذاب حتى فر منهم مهاجرون إلى بلاد الحبشة، ثم إلى المدينة
وأغلقت أبوابهم بمكة، فباع أبو سفيان بعض دورهم وقضى من ثمنها دينا
عليه - وهموا بقتل رسول الله غير مرة، وتناظروا في أمره ليخرجوه من مكة أو
يقيدوه ويحبسوه حتى يهلك - وبالغ كل منهم في ذلك بنفسه وماله وأهله
وعشيرته، ونصب لرسول الله الحبائل بكل طريق سرا وجهرا ليقتله (2).
ما قاله الجاحظ في ذلك:
ونردف ما قاله المقريزي بصفحتين من رسالة بليغة كتبها الجاحظ في معنى
ما نحن بصدده، لتكونا دليلا آخر على تصوير موقف الأمويين من النبي
ومن على وبنيه.

(1) لما انهزم المسلمون يوم حنين قال أبو سفيان: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر، وقال فيه
حافظ الغرب ابن عبد البر في الاستيعاب: " إنه كان كهفا للمنافقين منذ أسلم، وكان في الجاهلية
ينسب إلى الزندقة وإن له أخبارا رديه وإن إسلامه لم يكن سالما (ص 709 و 710 ج 2).
(2) ص 11 - 34 من كتاب النزاع والتخاصم.
161

قال الجاحظ وهو يتحدث عن أمر قتل عثمان وما جره على المسلمين من
بلايا ومحن: " ثم ما زالت الفتن متصلة، والحروب مترادفة، كحرب الجمل
وكوقائع صفين، وكيوم النهروان. إلى أن قتل أشقاها علي بن أبي طالب
رضوان الله عليه فأسعده الله بالشهادة وأوجب لقاتله النار واللعنة إلى أن كان
اعتزال الحسن عليه السلام الحروب وتخلية الأمور، عند انتشار أصحابه وما
رأى من الخلل في عسكره، وما عرف من اختلافهم على أبيه، وكثرة تلونهم
عليه، فعندها استوى معاوية على الملك، واستبد على بقية الشورى وعلى جماعة
المسلمين من الأنصار والمهاجرين في العام الذي سموه عام الجماعة! وما كان
عام جماعة! بل كان عام فرقة وقهر وجبرية وغلبة! والعام الذي تحولت فيه
الإمامة ملكا كسرويا، والخلافة غصبا قيصريا. ثم ما زالت معاصيه من جنس
ما حكينا، وعلى منازل ما رتبنا، حتى رد قضية رسول الله ردا مكشوفا وجحد
حكمه جحدا ظاهرا، في ولد الفراش وما يجب للعاهر، مع اجتماع الأمة أن
سمية لم تكن لأبي سفيان فراشا، وأنه إنما كان بها عاهرا، فخرج بذلك من
الفجار إلى حكم الكفار (1).
وليس قتل حجر بن عدي، وإطعام عمرو بن العاص خراج مصر وبيعة
يزيد الخليع (2) والاستئثار بالفئ، واختيار الولاة على الهوى، وتعطيل الحدود
بالشفاعة والقرابة من جنس جحد الاحكام المنصوصة، والشرائع المشهورة،
والسنن المنصوبة، وسواء في باب ما يستحق من الكفار جحد الكتاب ورد السنة،
إذا كانت السنة في شهرة الكتاب وظهوره، إلا أن أحدهما أعظم وعقاب
الآخرة عليه أشد.
فهذه أول كفرة كانت من الأمة. ثم لم تكن إلا فيمن يدعى إمامتها
والخلافة عليها، على أن كثيرا من أهل ذلك العصر قد كفروا بترك إكفاره،
وقد أربت عليهم نابتة عصرنا ومبتدعة دهرنا، فقالت لا تسبوه فإن له صحبة،
وسب معاوية بدعة، ومن يبغضه فقد خالف السنة!! فزعمت أن من السنة
ترك البراءة ممن جحد السنة.

(1) يشير إلى استلحاق معاوية لزياد وجعله ابنا لأبي سفيان.
(2) وصفوا يزيد هذا بأوصاف كثيرة شنيعة أتينا على بعضها عند الكلام عنه.
162

ما كان من يزيد:
ثم الذي كان من يزيد ابنه ومن عماله وأهل نصرته، ثم غزو مكة ورمى
الكعبة واستباحة المدينة، وقتل الحسين عليه السلام في أكثر أهل بيته، مصابيح
الظلام، وأوتاد الاسلام، بعد الذي أعطى من نفسه، من تفريق أتباعه،
والرجوع إلى داره وحرمه، أو الذهاب في الأرض حتى لا يحس به، أو المقام
حيث أمر به (1)، فأبوا ألا قتله والنزول على حكمهم. إلى أن قال الجاحظ:
كيف نصنع بنقر القضيب بين ثنيتي الحسين عليه السلام، وحمل بنات رسول
الله حواسر على الأقتاب العارية، والإبل الصعاب، والكشف عن عورة على
ابن الحسين عند الشك في بلوغه، على أنهم إن وجدوه وقد أنبت قتلوه، وإن لم
يكن أنبت حملوه، كما يصنع أمير جيش المسلمين بذراري المشركين (2)!
وكيف تقول في قول عبيد الله بن زياد لاخوته وخاصته: دعوني أقتله
فإنه بقية هذا النسل، فأحسم به هذا القرن، وأميت به هذا الداء، وأقطع به
هذه المادة؟ خبرونا على ما تدل هذه القسوة وهذه الغلظة بعد أن شفوا أنفسهم
بقتلهم، ونالوا ما أحبوا فيهم - أتدل على نصب وسوء رأى وحقد وبغضاء ونفاق،
وعلى يقين مدخول وإيمان مخروج (3) أم تدل على الاخلاص وحب النبي صلى الله عليه وآله
والحفظ له وعلى براءة الساحة وصحة السريرة؟ فإن كان على ما وصفناه لا يعدو
الفسق والضلال، وذلك أدنى منازله، فالفاسق ملعون، ومن نهى عن لعن
الملعون ملعون، وزعمت نابتة عصرنا، ومبتدعة دهرنا أن سب ولاة السوء فتنة
ولعن الجورة بدعة. والنابتة في هذا الوجه أكفر من يزيد وأبيه، وابن زياد
وأبيه (4).

(1) لم يذكر الجاحظ أنه طلب منه أن يذهب إلى يزيد وهذا هو الصحيح الذي رجحناه وهو
الموافق لخلق الحسين وما ركب عليه دمه.
(2) سيأتيك شئ من تفصيل هذه الجريمة الكبرى التي لم يقع مثلها في التاريخ الاسلامي
على مد عصوره.
(3) أثبتناه هنا كلمة مخروج عن الأصلي لأنها في مقابل (مدخول) السابقة لها، وقد تكون
الكلمة (مخدوج بدال) أي ناقص ومنه الخدوج وهو المولود قبل أوانه.
(4) في كل عصر نابتة سوء مبغضة عرفت بالنصب، وفى عصرنا هذا من هذه السلسلة قوم
فضحوا أنفسهم بنصبهم.
163

على أنهم مجمعون على أنه ملعون من قتل مؤمنا متعمدا أو متأولا، فإذا
كان القاتل سلطانا جائرا، وأميرا عاصيا. لم يستحلوا سبه، ولا خلعه ولا نفيه
ولا عيبه، وإن أخاف الصلحاء، وقتل الفقهاء، وأجاع الفقير، وظلم الضعيف
وعطل الحدود والثغور، وشرب الخمور، وأظهر الفجور، ثم ما زال الناس
يتسكعون مرة، ويداهنونهم مرة، ويقاربونهم مرة، ويشاركونهم مرة، إلا بقية
ممن عصمه الله تعالى ذكره!
ثم أخذ الجاحظ يبين ما وقع ممن جاء بعد يزيد من الفظائع التي تقشعر
منها الأبدان، ولم يسمع بمثله في أي زمان.
ولو أن المقام يحتمل ما في رسالة الجاحظ مما ارتكب بنو أمية من الظلم
والبغي والقهر لجئنا به كاملا، فليرجع إلى هذه الرسالة القيمة - وهي مطبوعة -
من يريد.
أبو سفيان بن حرب:
قال الشاعر وصدق:
عبد شمس قد أضرمت لبني * هاشم نارا يشيب منها الوليد
فابن حرب للمصطفى وابن هند * لعلى وللحسين يزيد
وابن حرب، هو أبو سفيان بن أمية بن عبد شمس.
كان رأسا من رؤوس الأحزاب على رسول الله، ومن الذين أجمعوا على
منابذته، وممن حضروا دار الندوة ليتشاوروا في قتله، وتعاقدوا على القضاء عليه،
كما ذكر ذلك المقريزي من قبل.
ثم كان على رأس المحرضين على محاربة النبي في موقعة بدر (1) - وفى هذه

(1) زعم الواقدي أن معاوية كان في عمرة القضاء مسلما فرد عليه ابن حجر العسقلاني
في الإصابة بقوله: هذا يعارضه ما ثبت في الصحيح عن سعد بن أبي وقاص أنه قال في العمرة
في الحج: فعلناها وهذا يومئذ كافر، يعنى معاوية وزعم الواقدي كذلك أن معاوية شهد حنينا فأعطاه
النبي من الغنائم مئة من الإبل وأربعين أوقية ورد الذهبي على ذلك فقال: الواقدي لا يعنى ما يقول فإن
كان معاوية قديما في الاسلام فلماذا يتألفه النبي صلى الله عليه وآله ولو كان أعطاه لما قال عندما خطب فاطمة
بنت قيس: أما معاوية فصعلوك لا مال له.
164

الغزوة قتل من قتل من سادات قريش، ومنهم الوليد بن عقبة خال معاوية
ووالد هند.
وبعد هذه الغزوة التي نجا منها أبو سفيان، أصبح سيد مكة بلا منازع
وزعيم قريش في حربها وسلمها، وهو الذي قاد قريشا يوم أحد والخندق،
وألب العرب على النبي وأصحابه، وأغرى اليهود حتى نقضوا عهدهم من النبي
وأصحابه، وهو الذي ظل يدبر مقاومة قريش للنبي وكيدها له، ومكرها به،
واستمر على ذلك حوالي عشرين سنة من أول قيام الدعوة حتى كان يوم فتح
مكة فأسلم مرغما.
وكان قد نذر أن لا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمدا صلى الله عليه وآله.
وقد بينا لك من قبل قصة إسلامه، عندما أحيط به على ما رواه المقريزي
آنفا، وكان معه ابنه معاوية وسائر أولاده ومن أسلم من قومه، وقال لهم النبي
يومئذ: " اذهبوا فأنتم الطلقاء ".
وكان كذلك هو وأولاده " من المؤلفة قلوبهم "، وهم قوم من كبار العرب
كانوا يعطون من الصدقات مالا، إما دفعا لأذاهم، وإما طمعا في إسلامهم،
وإما تثبيتا لهم في الاسلام (1).
وكان أبو سفيان وأولاده من الذين كان يعطيهم النبي دفعا لأذاهم، لان
إسلامهم - كما بينا - لم يكن صحيحا، فلما تولى عمر حرمهم ذلك وقال:
" انقطعت الرشا، لان المسلمين قد كثروا ".
والمؤلفة قلوبهم ناس من قريش أسلموا يوم الفتح إسلاما ضعيفا.
والطلقاء جمع طليق وهو من حصل المن عليه يوم فتح مكة من قريش،
ومن هؤلاء: أبو سفيان، وسهل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى، ومعاوية
ويزيد ابنا أبى سفيان.
وكان الطلقاء يقولون في محمد صلى الله عليه وآله " دعوه وقومه، فإن غلبهم دخلنا في
دينه، وإن غلبوه كفونا أمره ".

(1) ظل المؤلفة قلوبهم يأخذون من مال الأمة حتى تولى عمر وقال: لقد اعتز الاسلام ولم
تعد حاجة لاعطائهم.
165

وقال ابن عباس: إن قوما كانوا يأتون النبي فإذا أعطاهم مدحوا الاسلام،
وإذا منعهم ذموا وعابوا، وكان من هؤلاء أبو سفيان وعيينة بن حصن. وكانوا
إذا ذكروا أبا سفيان ذكروا معه ابنه معاوية (1).
عثمان بن عفان (2)
عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، وأمه أروى بنت
كريز.
كان أول ما صنع - بعد أن استخلف - واستقر له الامر أن زاد في أعطية
الناس الضعف، ثم أخذ يصل كبار الصحابة بالمنح فوق ما كان لهم من العطاء
المفروض لهم زمن عمر، ومن ذلك أنه وصل الزبير بن العوام بستمائة ألف!
وطلحة بمئتي ألف، ونزل له عن دين كان عليه، وقد فعل ذلك ابتغاء كسب
القلوب واستمالتها.

(1) من العجيب أن يتورط بعض المؤرخين فيحكمون بصدق إيمان معاوية، ويستدلون على
ذلك بأنه كان يؤدى الفرائض. ويتبرك بآثار النبي حتى بأظافره، ونسي هؤلاء أنه هو وأبوه وأمه قد
أسلموا كرها وأن قلوبهم قد ظلت على جاهليتها! - وفاتهم أنه كان يخاصم رجلا لا يمكن أن يساويه
في العلم ولا في الفضل ولا في القدر - وإذن كان لابد له - وهو الداهية الخدعة - لكي يستقيم أمره،
ويستقر ملكه أن يتذرع بكل وسيلة يستطيعها، خفية كانت أو مفضوحة ليختدع بها العامة ويحول
أنظارهم إليه - ومن أول هذه الوسائل أن يتظاهر بموالاة النبي ويبالغ في محبته لعله يبلغ بذلك مكانة يزاحم
بها عليا رضي الله عنه! ولكن أنى له ذلك وعلى في السماك منه وإنه كان أقرب الناس وأحبهم إلى قلب النبي
حتى جعله منه كهارون من موسى! ومن كان مواليا للنبي حقا فعليه أن يوالي عليا لان النبي صلى الله عليه وآله
قال: من كنت مولاه فعلى مولاه! على أن الايمان ومقره القلب ولا يعلمه إلا الله ليس أمره سهلا،
وأن مظاهره ليست في أداء الفرائض ولا في التظاهر بحب النبي والتبرك بآثاره وإنما آيته أن يتبع الرسول فيما
جاء به أمرا ونهيا اتباعا ليس فيه ترخص ولا انحراف، ومثل معاوية بما اقترف في حكمه من الموبقات
لا يصح في عقل عاقل أن يعد من المؤمنين الصادقين.
(2) قال أبو معاوية الضرير:
كتب هشام بن عبد الملك إلى الأعمش (أستاذ الثوري) ان اكتب مناقب عثمان ومساوئ على!
فأخذ الأعمش القرطاس وأدخلها في فم شاة فلاكتها، وقال لرسوله: قل له: هذا جوابك - ص 301،
و 302 ج 1 وفيات الأعيان لابن خلكان.
166

ومن أخطر أعماله التي كان لها أثر بعيد وأليم على المسلمين جميعا وسيبقى
هذا الأثر على وجه الدهر مسجلا، أن حابى قومه بنى أمية وآل أبي معيط
وآثرهم بالولايات الكبيرة " عندما استعجلوه الولاية " وهي الشام ومصر والكوفة
والبصرة، وذلك لأهمية هذه الولايات وغناها، ووفرة خيراتها، وكثرة خراجها.
وكانت في ذلك العصر مصدر قوة الدولة المالية - ومن العجيب أنه لم
ينقض عام واحد على ولايته حتى أخذ يعزل الولاة الذين ولاهم عمر، ليستبدل
بهم ولاة من بنى أمية.
فعزل المغيرة بن شعبة عن الكوفة وولى عليها الوليد بن عقبة بن أبي معيط،
وهو الذي غش النبي صلى الله عليه وآله وكذب عليه ونزلت فيه الآية القرآنية " يا أيها
الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ.. " الآية، والقصة معروفة، وهو أخو عثمان
لامه، وكان على البصرة أبو موسى الأشعري فعزله عنها وولى عليها ابن خاله
عبد الله بن عامر ابن كريز.
وكان على مصر عمرو بن العاص بعد ما افتتحها بمهارته وحسن تدبيره في
عهد عمر، فلما جاء عثمان عزله عنها وولى عليها عبد الله بن أبي سرح أخاه
من الرضاعة.
وقد كان ابن سرح هذا من الذين اشتدوا على النبي، وأسرفوا في السخر
منه. وقد نزل القرآن بكفره وذمه، وقد كان يقول: سأنزل مثل ما أنزل الله
الآية، ومن أجل ذلك أهدر النبي دمه. وهو أول من كتب له بمكة.
أما الشام وما حولها فقد كان معاوية على دمشق وحدها (1) فجاء عثمان وجمع
الشام كله له، فلسطين وحمص، وكان على فلسطين عبد الرحمن بن علقمة،

(1) لما فتحت دمشق في عهد عمر أمر عليها يزيد بن أبي سفيان أخا معاوية بن أبيه وأخا
أم حبيبة زوج النبي، وكان من العقلاء، توفى بالطاعون (سنة 18 ه‍) ولما احتضر استعمل أخاه معاوية
على عمله فأقره عمر على ذلك احتراما ليزيد ص 237 و 238 ج 2، سير أعلام النبلاء للذهبي.
وفى رواية أن الذي استعمل يزيد بن أبي سفيان على الشام هو أبو عبيدة الذي ولاه عمر على الشام بعد أن
عزل خالدا عنها (ص 37 ج 2 من رغبة الآمل شرح الكامل).
167

وهو كناني، وكان على حمص عمير بن سعد وهو أنصاري وبهذا الملك العريض
الذي يسيطر عليه معاوية يتصرف فيه كيف يشاء " أصبح أشبه بالملك منه
بالوالي ".
وكان عثمان بما مكن لبني أمية من حكم هذه الولايات الأربع الكبيرة -
وهي تعد بمثابة القواعد الأربع للدولة الاسلامية - إنما يصنع هذه القواعد لكي
تقوم عليها أركان الدولة الأموية - وكأنه كذلك وهو يجمع أطراف الشام كلها
بيد معاوية ويجعلها تحت سلطانه إنما يرمى إلى ترشيحه لان يكون ملكا لهذه
الدولة، ويهيئ السبيل لكي يتولى الزعامة الأموية بعد أبيه أبى سفيان.
وإليك ما قاله في ذلك الدكتور طه حسين (1).
" وليس من شك في أن عثمان هو الذي مهد لمعاوية ما أتيح له من نقل
الخلافة ذات يوم إلى آل أبي سفيان وتثبيتها في بنى أمية ".
ولما أخذ يبين أعمال عثمان في تولية بنى أمية الولايات الكبيرة قال:
والشئ الذي ليس فيه شك هو أن عثمان ولى الوليد على الكوفة بعد عزل
سعد بن أبي وقاص، وولى عبد الله بن عامر على البصرة بعد أن عزل
أبا موسى الأشعري، وجمع الشام كلها لمعاوية، وبسط سلطانه عليها إلى أبعد
حد ممكن، بعد أن كانت الشام ولايات تشارك في إدارتها قريش وغيرها من
أحياء العرب، وولى عبد الله بن سرح مصر بعد أن عزل عنها عمرو بن العاص،
وكل هؤلاء الولاة من ذوي قرابة عثمان، منهم أخوه لامه ومنهم أخوه في الرضاعة
ومنهم خاله، ومنهم من يجتمع معه في نسبه الأدنى إلى أمية بن عبد شمس،
كل هذه حقائق لا سبيل إلى إنكارها (2).
ومن أعمال عثمان التي استنكرها المسلمون أشد استنكار ولا يستطيع أحد
أن يدفع عنه فيها، أنه رد الحكم بن العاص وأهله إلى المدينة، وكان النبي قد
أخرجهم منها للأسباب التي بيناها آنفا وظل الحكم منفيا عن المدينة حياة
أبى بكر وعمر، وكان عثمان قد سألهما أن يعيداه فأبيا، ولم يكتف بإعادته مع أهله

(1) ص 120 من كتاب الفتنة الكبرى (عثمان) ويرجع إلى هذا الكتاب النفيس الذي
بين تاريخ هذه الفترة أصدق بيان وأصرحه لا يبتغى في ذلك غير الحق.
(2) ص 135 من نفس المصدر.
168

بل أعطاه مالا كثيرا قدر بمئة ألف درهم، وأقطع الحارث بن الحكم سوق المدينة
ويعرف بنهروز، وكان النبي قد تصدق به على المسلمين، وأعطاه مئة ألف بعد
أن زوجه ابنته عائشة.
أما مروان بن الحكم فقد اختص به واتخذه لنفسه وزيرا ومشيرا وأمر له
بمئة ألف. وكان قد زوجه ابنته أم أبان ثم أقطعه فدك التي كانت ملكا للنبي
وكانت فاطمة رضي الله عنها طلبتها من أبى بكر فدفعت عنها بحديث أوردوه
ونصه كما قالوه " لا نورث ما تركناه صدقة " (1).
ظهور العصبية الجاهلية في أيام عثمان:
ولا نستوفي كل أعمال عثمان التي أخذت عليه هنا - لان كتابنا هذا
لا يحتملها فتطلب من مظانها.
نختم كلمتنا هذه بأن نقول: إن العصبية الجاهلية التي كانت معروفة
عند العرب من السفه والتعصب والأنفة لأتفه الأسباب فجاء الاسلام فقضى
على ذلك كله، وبين أنه ليس هناك تفاضل القبيلة أو عزة الجنس، وأن المؤمنين
جميعا إخوة لا تفاضل بينهم إلا بالتقوى قال تعالى: " إنما المؤمنون إخوة "،
وقال: " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا،
إن أكرمكم عند الله أتقاكم ". وفى الحديث، ليس منا من دعا إلى عصبية
أو قاتل على عصبية - إن هذه العصبية كانت قد اختفت في زمن النبي
وصاحبيه أبى بكر وعمر حتى جاء عثمان فأعادها وأحياها، وإليك ما قاله في ذلك
الدكتور أحمد أمين:
لما ولى عثمان وهو أموي استعان بالأمويين فكان أكثر عماله منهم وكان

(1) كنا نشرنا كلمة بمجلة الرسالة المصرية عن موقف أبى بكر من الزهراء في هذا الميراث ننقل
منها ما يلي " إننا إذا سلمنا بأن خبر الآحاد الظني يخصص الكتاب القطعي، وأنه قد ثبت أن النبي قال
إنا لا نورث. وأنه لا تخصيص في عموم هذا الخبر فإن أبا بكر كان يسعه أن يعطى فاطمة رضي الله عنها
بعض تركة أبيها كأن يخصها بفدك، وهذا من حقه الذي لا يعارضه فيه أحد، إذ يجوز للامام أن
يخص من يشاء بما شاء، وقد خص هو نفسه الزبير بن العوام ومحمد بن مسلمة وغيرهما ببعض
متروكات النبي، على أن فدك هذه التي منعها أبو بكر من فاطمة ولم تلبث أن أقطعها الخليفة عثمان لمروان
(العدد 518 من السنة الحادية عشرة من مجلة الرسالة).
169

كاتبه وأمين سره مروان بن الحكم الأموي، ومروان هذا وشيعته قد هدموا
كل ما بناه الاسلام من قبل، ودعمه أبو بكر وعمر من محاربة العصبية القبلية
وبث الشعور بأن العرب وحدة، وحكموا كأمويين! لا كعرب فحرك ذلك
ما كان كامنا من العداوة القديمة الجاهلية بين بنى هاشم وبنى أمية، وانتشرت
الجمعيات السرية في آخر عهد عثمان تدعو إلى خلعه وتولية غيره (1).
بعد مقتل عثمان:
بويع أمير المؤمنين على رضوان الله عليه بعد مقتل عثمان بيعة صحيحة، وكان
من الذين بايعوه طلحة والزبير وهما من الذين قيل: إنهم من العشرة المبشرين
بالجنة! ولكنهما لم يلبثا قليلا حتى نقضا بيعتهما وخلعا من الطاعة أيديهما
" وكان من الحق عليهما أن يفيا بالعهد ويخلصا للبيعة التي أعطياها (2) " وحرضتهما
عائشة على الوقوف من على موقف الخصومة والحرب، لأنها كانت غاضبة من
بيعة الناس لعلى أشد الغضب، حتى لقد قالت حينما بلغها أمر هذه البيعة كلمتها
المشهورة وهي " لا يمكن أن تتم هذه البيعة ولو انطبقت السماء على الأرض (3)
وذلك لما كانت تكن في قلبها من بغض وموجدة لعلى، بسبب رأيه المعروف في
حديث الإفك، ولأنه زوج بنت ضرتها السيدة الجليلة خديجة، وكانت تغار منها
حتى بعد موتها، ولأنه تزوج بأسماء الخثعمية بعد وفاة أبى بكر وهي أم أخيها
محمد بن أبي بكر.
ولم تلبث عائشة حتى أمسكت بزمام الفتنة وركبت جملها (4) لتحرض

(1) ص 311 من فجر الاسلام.
(2) يقول الفقهاء: إن الباغي على الإمام الحق، والخارج عليه بشبهة أو بغير شبهة هو
فاسق، ولا ندري ماذا يقولون فيمن خرج على على من كبار الصحابة؟ هل يدخلون تحت هذا الحكم؟
أم أن الصحبة تخرجهم منه؟
(3) كانت حينئذ قد فارقت المدينة إلى مكة بحجة الحج! ولكنها في الحقيقة لما رأت أن نار
الثورة في المدينة قد اشتد سعيرها وتوشك أن تلتهم عثمان أرادت أن تبتعد عن لهيبها، على حين أنها كانت
من الذين حرضوا على الفتنة بمثل قولها: اقتلوا نعثلا - أبعده الله - وغير ذلك، ولم يكن غيظها من مبايعة
على رضي الله عنه بأقل من حزنها على عدم استخلاف طلحة التيمي، إذ كانت تريد أن تعود الخلافة
(تيمية) حتى بعد عمر! ولكنها لم تستطع!
(4) كان هذا الجمل هدية من يعلى بن أمية اشتراه لها بثمانين دينارا لتركب عليه وهي تسوق
جحافل الجيوش لحرب على زاعمة أنها تطالب بثأر عثمان * ويعلى هذا كان عاملا لعثمان على اليمن ثم
عزله على، فأسرها في نفسه، وقد شهد تدبير المؤامرة في بيت عائشة وأعان المحاربين بأربعمائة ألف
وحمل سبعين رجلا من قريش.
* من العجيب أن عائشة أم المؤمنين، كانت أول من أنكر على عثمان ما وقع منه، كانت
تخرج قميص النبي " ص " وتقول: هذا قميصه لم يبل وقد بلى دينه، وكانت تقول: اقتلوا نعثلا فقد
كفر! ولما بويع على بيعته الصحيحة قالت: ما كنت أبالي أن تقع السماء على الأرض، ثم أشعلت على
على نار الحرب بمعاونة طلحة والزبير إلخ. وقد وصف كارل بروكلمان السيدة عائشة بأنها المحبة للفتنة
ص 133 ج 1 من كتاب تاريخ الشعوب الاسلامية، ووصفها كذلك (بالداهية) ص 137 من نفس
المصدر.
170

الناس على على، ولتؤيد طلحة والزبير في محاربتهما إياه. وكانت وقعة الجمل
المشهورة التي قتل فيها عشرات الألوف من المسلمين!
وفى ذلك يقول على في خطبة له:
أيها الناس: إن عائشة سارت إلى البصرة ومعها طلحة والزبير وكل منهما
يرى الامر له دون صاحبه، أما طلحة فابن عمها، وأما الزبير فختنها! والله إن
راكبة الجمل الأحمر ما تقطع عقبة، ولا تحل عقدة إلا في معصية الله وسخطه (1)
وقال في خطبة رواها ابن عبد البر في الاستيعاب جاء فيها:
بايعوني ولم أستكره أحدا، وبايعني طلحة والزبير، ولم يصبرا شهرا كاملا
حتى خرجا إلى العراق ناكثين، وإني منيت بأربعة: أدهى الناس وأسخاهم
طلحة، وأشجع الناس الزبير، وأطوع الناس في الناس عائشة، وأسرع الناس
إلى فتنة يعلى بن أمية.
وبعد أن انتهت وقعة الجمل بنصر على استعرت الحروب في صفين بين
على ومعاوية وفى هذه الحروب تألبت جميع القوى على على رضي الله عنه (2).

(1) ص 78 ج 1 تاريخ أبى الفدا.
(2) لك الله يا علي! تألبت كل القوى عليك، وكم نلت من البعيد والقريب، وكم حملت
مما تأبى الجبال أن تحمله، وقد صدق أحمد شوقي شاعر الاسلام في وصف موقف عائشة وصاحبها من
على، حيث قال رحمه الله:
يا جبلا تأبى الجبال ما حمل * ماذا رمت عليك ربة الجمل *
أثأر عثمان الذي شجاها * * - أم غصة لم ينتزع شجاها
قضية من دمه تبنيها * هبت لها واستنفرت بنيها
ذلك فتق لم يكن بالبال * كيد النساء موهن الجبال
وإن أم المؤمنين لامرأة * وإن تك الطاهرة المبرأة
أخرجها من كنها وسنها * ما لم يزل طوله المدى من ضغها
صاحبة الهادي وصاحباه * فكيف يمضون لما يأباه
وجاء في الأسد أبو تراب (1) * على متون الضمر العراب
يرجو لصدع المؤمنين رأبا * وأمهم تدفعه وتأبى
تجر ذات الطهر فيه عسكرا (2) * وتذمر (3) الخيل وتغري العسكرا (4)
والقصيدة طويلة على هذا الغرار الرائع (5).
وقال ابن قتيبة في عيون الاخبار: دخلت أم أفعى العبدية على عائشة فقالت: يا أم المؤمنين،
ما تقولين في امرأة قتلت ابنا صغيرا لها؟ قالت: وجبت لها النار! قالت: فما تقولين في امرأة قتلت
من أولادها الأكابر عشرين ألفا (أي عدد من قتلوا في وقعة الجمل)! قالت عائشة: خذوا بيد
اللعينة عدوة الله! وروى البلاذري في أنساب الأشراف قال: عرضت لعائشة حاجة فبعثت إلى ابن أبي
عتيق، أن ارسل إلى بغلتك لأركبها في حاجة، فقال لرسولها وكان مزاحا: قل لام المؤمنين،
ما رحضنا عار يوم الجمل! أفتريدين أن تأتينا بيوم البغلة (6)!
* ربة الجمل عائشة التي تركب جملا في هذه الحرب.
* * كانت عائشة كما قلنا تسوع خروجها على على بأنها تطالب بثأر عثمان على حين أن القرآن
يقول في سورة الأحزاب " وقرن في بيوتكن ولا تبرجن.. الآية ". وانظر الفرق الهائل بينها وبين
الحصان العاقلة الرزان أم سلمة التي كانت تقول كما روى البخاري عنها (ص 86 ج 7): " لا يحركني
ظهر بعير حتى ألق النبي ".
1 أبو تراب هو على رضي الله عنه.
2 - عسكر اسم جمل عائشة التي كانت تركبه في وقعة الجمل.
3 - تذمر الخيل أي تحثها.
4 - العسكر هنا معناه الجيش.
5 - ص 54 و 55 من كتابه دول العرب وعظماء الاسلام.
6 - ص 421 ج 1.
171

وبعد حروب طاحنة في وقائع الجمل وصفين، قتل على رضي الله عنه غيلة
بيد مجرم أثيم لعين، وبذلك انقض أكبر حصن أمام الأمويين.
وعندما بلغ عائشة نبأ قتله تمثلت بقول الشاعر:
فألقت عصاها واستقر بها النوى * كما قر عينا بالإياب المسافر
172

وقال الفيلسوف الإنجليزي المشهور ولز الذي يعد في طليعة مفكري هذا
العصر في كتابه " تجربة في التاريخ العام - في مبحث الاسلام " عن موقف
عائشة من الحرب الداخلية، ما ترجمته:
" إن الاسلام كاد يفتح العالم أجمع لو بقى سائرا سيرته الأولى، ولو لم تنشب
في وسطه من أول الامر الحرب الداخلية، فقد كان هم عائشة أن تقهر عليا
قبل كل شئ " (1).
وقال عنها بركلمان في تاريخ الشعوب الاسلامية:
" وأما عائشة الداهية فتركت المدينة تحت ستار من الحج إلى مكة لكي
لا تشهد الوقائع فيما بعد " (أي فتنة عثمان) (2).
ثم وصفها بأنها " المحبة للفتنة " (3).

(1) ص 141 ج 1 حاضر العالم الاسلامي.
(2) ص 173 ج 1.
(3) ص 133 من نفس المصدر.
173

معاوية بن أبي سفيان
هو معاوية بن أبي سفيان بن أمية بن عبد شمس، وأمه هند بنت عتبة
ابن أبي ربيعة بن عبد شمس وهي أم أخيه عتبة بن أبي سفيان، أما يزيد ومحمد
وعنبسة وحنظلة وعمرو فمن أمهات شتى.
ومعاوية مطعون في دينه وقد كان في الجاهلية زنديقا، وأصبح بعد الاسلام
طليقا.
" وقد ورث عن أبيه قوته وقسوته وكيده ودهاءه ومرونته كذلك، ولم تكن
أم معاوية بأقل من أبيه تنكرا للاسلام وبغضا لأهله وحفيظة عليهم، وهم
قد وتروها يوم بدر فثأر لها المشركون يوم أحد. ولكن ضغنها لم يهدأ وحفيظتها
لم تسكن، حتى فتحت مكة فأسلمت كارهة كما أسلم زوجها كارها (1) " وكما
أسلم كذلك ابنها معاوية بعد إسلام أبيه كارها.
وهند هذه هي التي أغرت وحشيا بحمزة عم النبي حتى قتله ثم أعتقته،
ولما قتل حمزة بقرت بطنه، ولاكت كبده، وفعلت فعلاتها بجثته!
وإذا كان معاوية قد ورث بغض على عن آبائه - مما حدثناك عنه، فإن
هناك أسبابا أخرى تسعر من نار هذا البغض، منها أن عليا قتل أخاه حنظلة
يوم بدر، وخاله الوليد بن عتبة وغيرهما كثيرين من أعيان وأماثل عبد شمس.
ومن أجل ذلك كان معاوية أشد الناس عداوة لعلى يتربص به الدوائر
دائما، ولا يفتأ يسعى في الكيد له سرا وعلانية، قولا وعملا.
معاوية وحروب الجمل:
وقد انتهز معاوية فرصة حروب الجمل فأخذ يحرض طلحة والزبير وعائشة
ويظاهرهم، وكان يعد طلحة والزبير بالبصرة والكوفة بأن يحكم كل واحد منهما

(1) ص 61 من كتاب " على وبنوه " للدكتور طه حسين.
174

إحداهما حتى إذا انتهت هذه الحروب بهزيمة من أثاروها، أشعل الحرب بينه وبين
على في صفين وغيرها، ثم انتهى الامر بقتل على بمؤامرة كما ذكرنا ذلك من قبل.
ولا تنس أنه لم يبايع عليا عندما بويع له - كما بايع كل الولاة، وخرج
عليه.
انصراف معاوية إلى أولاد على بعد قتل أبيهم:
ولم يشبع نهم الحقد الأموي قتل هذا الامام العظيم، بل صرف معاوية
كيده وبغيه أول الامر إلى الحسن رضي الله عنه الذي كان يزاحمه بحقه في
الخلافة وما زال يراوغه بكيده حتى تخلص منه بالسم (1).
ومات معاوية قبل أن يلحق الحسين بأخيه الحسن (2)، وهما ريحانتا
النبي صلى الله عليه وآله وترك ذلك لابنه يزيد.
وممن سمهم معاوية: عبد الرحمن بن خالد بن الوليد وذلك عندما شاور
أهل الشام فيمن يعقد له من بعده فقالوا له: رضينا بعبد الرحمن بن خالد
وكان أهل الشام يحبونه، فشق ذلك على معاوية وأسرها في نفسه ثم مرض
عبد الرحمن بعد ذلك فأمر معاوية طبيبا يهوديا - وكان مكينا عنده. أن
يأتيه فيسقيه سقية تقتله، فأتاه فسقاه فانخرق بطنه فمات (3).

(1) سمته امرأته جعدة بنت الأشعث بتدسيس معاوية، وكان وعدها أن يزوجها من يزيد وأن
يعطيها مئة ألف درهم فسوغها المال ولم يزوجها منه، فخلف عليها رجل من آل طلحة فأولدها فكان
إذا وقع بينهم وبين بطون قريش كلام عيروهم وقالوا: يا بن مسممة الأزواج (ص 73 من مقاتل
الطالبيين)، وذكر الأصفهاني في هذا الكتاب، أن معاوية عندما أراد البيعة لابنه يزيد لم يكن
شئ أثقل عليه من أمر الحسن بن علي وسعد بن أبي وقاص فدس إليهم السم فماتا منه.
(2) عن أبي أيوب الأنصاري قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله والحسن والحسين يلعبان على
صدره فقلت يا رسول: أتحبهما؟ قال: كيف لا أحبهما وهما ريحانتاي في الدنيا.
وعن عبد الله، رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله أخذ بين الحسن والحسين وقال: هذان ابناي فمن أحبهما
فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني (ص 189 و 190 ج 3 سير الاعلام).
وعن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وآله جلل حسنا وحسينا وفاطمة بكساء ثم قال: اللهم هؤلاء أهلي وخاصتي
اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا (ص 168 من نفس المصدر).
(3) راجع ترجمته في الاستيعاب.
175

وعلى أثره مات عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق بالسم، وكان سبب ذلك
أم معاوية حينما كان يدعو إلى بيعة بزيد قال له عبد الرحمن هذا: أهرقلية
إذا مات كسرى كان كسرى مكانه؟ لا نفعل والله أبدا، فبعث إليه معاوية
بمئة ألف درهم، فردها عبد الرحمن وقال: " أبيع ديني بدنياي ".
وما لبث أن مات فجأة بموضع يقال له الحبشي! (جبل بأسفل مكة)
وحمل إلى مكة فدفن فيها (1). وممن سمهم معاوية كذلك مالك بن الأشتر
الذي ولاه الامام على على مصر وكان سمه في عسل ولذلك قال عمرو بن العاص
في ذلك إن لله جنودا من عسل. ولا نحصي من تخلص منهم معاوية بالسم.
وهذه سنة الحكام الطغاة في كل زمان، ولعلك لا تنسى أن عبد الرحمن بن أبي
بكر كان في حرب الجمل مع عائشة أخته وكان هو وعبد الرحمن بن خالد
مع معاوية في حرب صفين، ولكن الطغاة لا يبالون شيئا عند طغيانهم، ومن
العجيب أن عائشة لم تغير موقفها في تأييد معاوية وقد قضى على أخوين لها.
عبد الرحمن هذا، ومن قبله محمد بن أبي بكر، وكان ولاه الامام على مصر
فقتلوه ومثلوا به أبشع تمثيل فألقوه بعد قتله في جيفة حمار وألقوا به في العراء.
ومن أعجب العجب أن عائشة لم يفثأ من غليان حقدها ولم يطفئ من نار
غيظها أن قتل على وخلا الجو لها، واستولى على الملك من تؤثرهم بحبها، فقد وقفت
من الحسن موقفا يدل على الخسة يشاركها في ذلك بنو أمية، ذلك أنه بعد
أن سمه معاوية وشعر بدنو أجله وأرسل إلى عائشة أن تأذن له بأن يدفن مع
جده، ففزعت وأسرعت فركبت بغلا واستنفرت بنى أمية، وكان على
المدينة حينئذ مروان بن الحكم فاشتملوا بالسلاح وقالوا: لا يدفن مع النبي،
فبلغ ذلك الحسن عليه السلام فأرسل إلى أهله: أما إذا كان هذا فلا حاجة
لي فيه، ادفنوني إلى جانب أمي، فدفن إلى جانب أمه فاطمة عليها السلام
(ص 75 من مقاتل الطالبين).

(1) راجع كذلك ترجمته في الإستيعاب لابن عبد البر.
176

يزيد والحسين
كيف قتل الحسين وأهله!
ولما آل الحكم بالوراثة الاستبدادية إلى يزيد بن معاوية (1) الذي ورث
البغى والظلم والحقد عن أبيه وجده وسائر قومه، واجتمعت فيه كل خصال
الأموية الذميمة وطباعها الأثيمة، أخذ يتمم سياسة أبيه وجده، فأرصد بغيه
إلى السبط الثاني وهو الحسين رضي الله عنه، وكان يخشاه أشد خشية، لأنه
أحق وأجدر بالخلافة منه ومن أبيه، وسولت له نفسه أن يرتكب معه أبشع جريمة
تقشعر منها الأبدان.
وإنا هنا ننقل موجزا لما قاله الدكتور طه حسين في وصف هذه الجريمة
البشعة قال حفظه الله وشفاه:
ندب ابن زياد لحرب الحسين رجلا من أقرب الناس إليه هو عمر بن سعد
ابن أبي وقاص (2) وأرسل معه جيشا من بضعة آلاف فمضى عمر حتى لقي الحسين
فعرض الحسين على عمر أن يختار خصلة من ثلاث، فإما أن يخلو بينه وبين
طريقه إلى الحجاز، وإما أن يسيروه إلى يزيد بالشام ليكون بينه وبين يزيد
ما يكون (3)، وإما أن يخلوا بينه وبين الطريق إلى ثغر من ثغور المسلمين، فرضي

(1) كان يزيد هذا صاحب لهو وعبث مسرفا في اللذات مستهترا، وكانت أمه ميسون
نصرانية كنائلة زوج عثمان وكانت كثيرا ما تصطحبه إلى البادية حول تدمر حيث تقيم قبيلتها
وهناك شرب الخمر وانغمس في اللذات وأخذ منها ما شاء له هواه وفسقه وقد كانوا يسمونه يزيد القرود
ويزيد الخمور.
(2) كان عبيد الله بن زياد قد جعل لعمر بن سعد بن أبي وقاص ولاية الري إن هو خرج على
الحسين وقاتله، والري كما جاء في معجم البلدان لياقوت: مدينة مشهورة من أمهات البلاد وأعلام المدن
كثيرة الفواكه والخيرات، وهي محط الحاج وهي بين نيسابور ودارين، وقال الإصطخري: هي مدينة ليس
بعد بغداد في المشرق أعمر منها. وقال الأصمعي: هي عروس الدنيا وإليها يتجر الناس (ص 355 -
358 ج 4 معجم البلدان).
(3) يشك بعض المؤرخين ونحن منهم في هذه الخصلة لأنها لا تليق بمقام الحسين ولا بدينه
ولا بشهامته، راجع ما قاله الجاحظ فيما سبق أن نقلناه عنه.
177

عمر بن سعد وقال: أؤامر ابن زياد، ولما كتب إليه في ذلك أبى إلا أن ينزل
الحسين على حكمه، ولم يكد عمر يقرأ كتاب ابن زياد، حتى طلب إلى
الحسين أن ينزل على حكم ابن زياد فأبى الحسين وقال: أما هذه فمن دونها
الموت! فزحف عمر بجيشه على الحسين وأصحابه وكانوا اثنين وسبعين رجلا
فقاتلوهم أكثر من نصف النهار وأبلى الحسين وبنو أبيه، وبنو عمومته ومن كان
معهم من أنصاره القليلين أعظم البلاء وأقساه، ورأى الحسين المحنة كأبشع
ما تكون المحنة، رأى إخوته وأهل بيته يقتلون بين يديه، وفيهم بنوه وبنو أخيه
الحسن وبنو عمه، وكان هو آخر من قتل منهم بعد أن تجرع مرارة المحنة فلم
يبق منها شيئا (1).
وقد كانوا يجزون رؤوس القتلى ثم يسلبونها! وسلبوا الحسين حتى تركوه
متجردا بالعراء. ثم يسبون النساء كما يسبى الرقيق، وفيهم زينب حفيدة رسول
الله ثم يأتون بهم ابن زياد وكان معهم على بن الحسين وكان صبيا (2) فأرسلهم ابن
زياد مع سائر أهل الحسين إلى يزيد وقدم رؤوس القتلى بين أيديهم وفيهم رأس
الحسين فدخلوا به على يزيد فوضع أمامه فجعل ينكت في ثغره بقضيب (3) كان
في يده وينشد:
يفلقن هاما من رجال أعرة * علينا وهم كانوا أعق وأظلما (4)

(1) قتل مع الحسين 17 رجلا كلهم من ولد فاطمة وقتل 23 رجلا من غيرهم وكان قتله يوم
الجمعة لعشر خلت من المحرم سنة 61 ه‍ بكر بلاء من أرض العراق (ص 146 ج 1 من الاستيعاب).
(2) عن أبي حمزة بن يزيد الحضري قال: رأيت امرأة من أجمل النساء وأعقلهن يقال لها رية
حاضنة يزيد قالت: دخل رجل على يزيد فقال: أبشر فقد أمكنك الله من الحسين، وجئ برأسه
فوضع في طست فأمر الغلام فكشف فحين رآه احمر وجهه كأنه شم منه، فقلت لها: أقرع ثناياه
بقضيب؟ قالت أي والله، ثم قال حمزة وقد حدثني بعض أهلنا أنه رأى رأس الحسين مصلوبا بدمشق
ثلاثة أيام (ص 215 و 216 ج 3 سير أعلام النبلاء).
(3) راجع وصف ما صنعوه مع هذا الصبي فيما نقلناه من كلام الجاحظ آنفا وما فعلوه بالحسين
وبمن كانوا معه.
(4) هذا البيت من قصيدة للحصين بن الحمام المري وهو شاعر جاهلي مقل، قال أبو عبيدة:
(اتفقوا على أن أشعر المقلين في الجاهلية ثلاثة، المسيب بن غلس، والمتلمس وحصين بن الحمام هذا).
178

وأدخل السبي على يزيد فأدخلهم على أهله، ثم جهزهم بعد ذلك إلى المدينة.
وقال الدكتور طه حسين بعد تفصيل رائع مؤثر لما حدث:
" والرواة يزعمون أن يزيد تبرأ من قتل الحسين على هذا النحو! وألقى عبء
هذا الاثم على ابن مرجانة عبيد الله بن زياد، ولكنا لا نراه لام ابن زياد،
ولا عاقبه، ولا عزله عن عمله كله أو بعضه - ومن قبله قتل معاوية حجر بن عدي
وأصحابه ثم ألقى عبء قتلهم على زياد وقال: حملني ابن سمية فاحتملت (1)
اه‍ باختصار.
وفى مقاتل الطالبيين للأصفهاني (ص 119 ج 1):
وحمل خولي بن يزيد رأسه إلى عبيد الله بن زياد، وأمر ابن زياد أن يوطأ
صدر الحسين وظهره وجنبه ووجهه فأجريت الخيل عليه.
وبقتل هؤلاء الأقطاب الثلاثة الكبار (2)، خلا الجو لبني أمية وامتد
سلطانهم على البلاد الاسلامية كلها يستمتعون بحكمها، ويتوارثون هذا الحكم
فيما بينهم، بلا منازع ولا معارض، يحكمون حكما استبداديا أمويا قبليا،
أساسه الرهبة والضغط والقهر، مستبدلين إياه بحكم الشورى الاسلامي العادل
متبعين في ذلك سنن من كان قبلهم من الأكاسرة والقياصرة.
وبهذا الحكم تحقق لعثمان كل ما كان يريده لقومه بنى أمية. إذ ما كاد
ينقلب إلى ربه، حتى بدت العصبية الأموية أقوى وأعنف ما تكون كما قلنا
بما هيأ لها أثناء حكمه، وكشفت القناع عما كانت تخفيه من حردو موجدة
لبني هاشم.

(1) ص 263 - 265 من الجزء الثاني من الفتنة الكبرى (على وبنوه).
(2) عن أم سلمة: أن النبي صلى الله عليه وآله جلل عليا وفاطمة وابنيهما بكساء ثم قال: اللهم هؤلاء
أهل بيتي خاصتي، اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. فقلت يا رسول الله: أنا منهم؟
قال: أنت إلى خير (ص 190 ج 3 سير النبلاء). وقال الامام إبراهيم النخعي: لو أنى كنت فيمن
قاتل الحسين ثم أتيت بالمغفرة من ربى فأدخلت في الجنة لاستحييت من رسول الله أن أمر عليه (صفحة
40 ج 2 من الروض الباسم).
179

فوقف معاوية زعيم الفئة الباغية من على، موقف أبى سفيان من النبي،
وجاء يزيد فوقف من الحسين موقف جده من النبي وموقف أبيه من على رضي الله عنه
، وصدق قول الشاعر الذي سقناه لك من قبل
وقد كان أول عمل لمعاوية بعد أن استولى على الحكم أن كتب إلى عماله في
جميع الآفاق بأن يلعنوا عليا في صلواتهم وعلى منابرهم (1) ولم يقف الامر عند
ذلك بل كانت مجالس الوعاظ في الشام تختم بشتم على (ص 407 ج 3 ابن
عساكر) وأن لا يجيزوا لاحد من شيعته وأهل بيته شهادة وأن يمحوا من الديوان
كل من يظهر حبه لعلى وأولاده وأن يسقطوا عطاءهم ورزقهم.
هذه فذلكة وجيزة بينا فيها كيف نشأت دولة بنى أمية، والذي بعثنا عليها
أنها (أولا) تكشف عن سياسة هذه الدولة التي قلبت نظام الحكم من خلافة
عادلة أساسها الشورى إلى ملك عضوض يقوم على الاستبداد. وفى عهدها تحول
تيار التاريخ الاسلامي عن مجراه المستقيم وانحرف هاهنا وهاهنا، يسير على غير
هدى (2) (وثانيا) لولا قيامها على ما قامت عليه، ما كان أبو هريرة الذي
نؤرخ له، ولا كانت أحاديثه التي شرقت بها الكتب، ولبقي مطمورا لا يعرفه
أحد، ولا يعنى به إنسان! فهي التي رفعته من الضعة والخمول، وخلعت
عليه رداء الشهرة والظهور، وكان له بفضلها ذكر في التاريخ الاسلامي عند
كثير من الناس أي ذكر.

(1) ظلت هذه العادة الذميمة الملعونة حتى أبطلها الإمام العادل عمر بن عبد العزيز الذي تولى
من سنة 99 إلى 101 ه‍ وقتل بالسم لأنه لم يحكم حكما أمويا، بل حكمه إسلاميا. هذه الموبقة الفظيعة
التي لا يرخصها ماء البحر والتي لا تفتأ تلبب معاوية بإثمها الكبير في حياته وبعد مماته إلى يوم الدين
قال عنها الأستاذ العقاد: وإذا لم يرجح من أخبار هذه القترة إلا الخبر الراجح عن لعن " على " على
المنابر بأمر معاوية لكان فيه الكفاية لاثبات ما عداه مما يتم به الترجيح بين كفتي الميزان (ص 16
من كتاب معاوية بن أبي سفيان في الميزان).
(2) قال الربيع بن يونس: سمعت المنصور يقول: الخلفاء أربعة، أبو بكر وعمر وعثمان
وعلى، والملوك أربعة، معاوية وعبد الملك وهشام وأنا (ص 33 ج 2 النجوم الزاهرة).
ومن خطبة لعبد الملك بن مروان: إني والله ما أنا بالخليفة المستضعف (يعنى عثمان) ولا أنا
بالخليفة المداهن (يعنى معاوية) ولا الخليفة المأبون (يعنى يزيد بن معاوية).
180

كانت مؤامرة مدبرة!!
قبل أن نفرغ من هذا الفصل نتحدث في سطور قليلة عن تلك المؤامرة
التي دبروها ضد على رضي الله عنه لكي يقضوا عليه، وينقلوا الامر إلى حكم
أموي مبلى.
ذلك أنهم - لكي يسوغوا خروجهم على على رضي الله عنه - ادعو أنه قد
غض طرفه عن قتلة عثمان فلم يقتص منهم! وكانت عائشة (أم المؤمنين) أشد
الناس عداوة له وأقواهم تحريضا عليه - وكان منها ما كان مما بيناه من قبل -
على حين أنها كانت تقول في وجه عثمان. عندما وقع منه ما وقع مما أغضب
المسلمين: " اقتلوا نعثلا فقد كفر "، وكانت تخرج قميص النبي صلى الله عليه وآله وتنشره
بين يديها وتقول: " إن دينه قد بلى ولم يبل قميصه "! كما بينا ذلك آنفا.
ولكن ما كاد على يفارق هذه الحياة، حتى تولاها الصمت وسكتت عن
الطلب بدم عثمان - وقد كان عليها إذا كانت صادقة في دعواها، أن لا تفتر
عن مطلبها حتى يتحقق، ولكنها لم تطالب معاوية بما كانت تطالب به عليا،
وسكتت راضية، وكذلك سكت معاوية بعد أن استوى على عرش الملك،
وأصبح قادرا على أن يقتص ممن اعتدوا على عثمان، وهو الذي أثار الحرب في
صفين وغيرها من أجل ثأر عثمان! وانصرف إلى سياسة ملكه باللين والمداهنة
حتى لا يثور الناس أو يخرجوا عليه.
وكان آل عثمان خاصة يستيقنون أنه لابد آخذ بحقهم! ولكن ضاع
يقينهم فتأثروا وحزنوا.
وإذا كان أمر هذه المؤامرة لا يخفى على الناس كافة، فإن معاوية قد
فضحها بلسانه، وهاك ما أفضى به لعائشة ابنة عثمان ننشره على الناس تسجيلا
لهذه الفضيحة وقد قالوا (الاعتراف سيد الأدلة):
قدم معاوية المدينة فدخل دار عثمان فقالت عائشة ابنة عثمان:
وا أبتاه! وبكت. فقال معاوية: يا ابنة أخي، إن الناس أعطونا طاعة
181

وأعطيناهم أمانا، أظهرنا لهم حلما تحته غضب! وأظهروا لنا طاعة تحتها حقد،
ومع كل إنسان سيفه، وهو يرى مكان أنصاره، وإن نكثنا بهم نكثوا بنا،
ولا ندري أعلينا تكون أم لنا! ولإن تكوني بنت عم أمير المؤمنين خير من أن
تكوني من عرض المسلمين (1)!!
وإذا كان معاوية قد فضح بهذا الحديث سر المؤامرة من أجل التخلص من
على وبنيه، فإنه قد فضح كذلك نفسه في عبارة صادقة مكشوفة - كيف
كان أسلوبه في حكم الناس! وماذا كان يضمر الناس له ولحكمه وما يكن لهم
هو من غضب! مما يصح أن يعقد له كتاب برأسه يكون عنوانه:
" كيف كان الحكم الأموي " على أنه لا يفوتنا هنا أن نأتيك بصفحة من
هذا الحكم بعد الكلمة الآتية:
لك الله يا علي!
هذه كلمة وجيزة عن دولة بنى أمية وكيف قامت وقد اضطررنا إلى هذا
الايجاز، لان استيفاء الكلام في هذا الامر يحتاج إلى كتاب خاص أو إلى كتب
مطولة.
ومما لا خلاف فيه ولا نزاع، أن معاوية كان باغيا، وأنه كان أول من
هدم ركن الشورى في الاسلام وتبعه قومه، ومن أجل ذلك كثر كلام الناس
في الانكار عليه وعلى قومه. ولا بأس من أن نورد هنا ذروا قليلا مما قالوه يكون
كنموذج. وسنجعل في صدر ما ننقله ما جاء في صحيح البخاري عنه.
عقد البخاري في كتابه فصلا بعنوان (فضائل الصحابة) ذكر فيه ما جاء
عن النبي في فضل كبار الصحابة. ولما وصل إلى معاوية قال:
(باب ذكر معاوية) ولم يقل باب مناقب معاوية! أو باب فضائل
معاوية! كما يقول في غيره. ولم يذكر في الباب إلا حديثا واحدا بأنه أوتر
بركعة، وقول ابن عباس فيه إنه فقيه. على أن هذا الحديث لا يكفي للدلالة
على فقهه! ولكنها السياسة! ومن يدرينا إن كان ابن عباس قد قال هذه

(1) ص 300 ج 3 البيان والتبيين للجاحظ وابن قتيبة في عيون الاخبار وغيرهما.
182

الكلمة! على أن شهادة ابن عباس هذه لا تكفى لاثبات فضله.
وجاء الحافظ ابن حجر ليشرح الحديث فقال (تنبيه) (1).
قول عائشة في تولى معاوية الملك:
عن الأسود، قلت لعائشة: ألا تعجبين لرجل من الطلقاء ينازع أصحاب
محمد الخلافة؟ قالت: وما يعجب! هو سلطان الله يؤتيه البر والفاجر! قد
ملك فرعون مصر (2)!!
قول الشافعي:
وروى أبو الفداء عن الشافعي أنه أسر إلى الربيع، أن لا يقبل شهادة أربعة
من الصحابة وهم: معاوية وعمرو بن العاص والمغيرة وزياد.

(1) شرح ابن حجر كلمة (تنبيه) فقال: عبر البخاري في هذه الترجمة بقوله ذكر ولم يقل
فضيلة ولا منقبة، لكون الفضيلة لا تؤخذ من حديث الباب، وبعد أن ذكر أن ابن أبي عاصم وأبا عمر
غلام ثعلب وأبا بكر النقاش قد صنعوا أجزاء في مناقبه، قال: إن ابن الجوزي بعد أن أوردها في
الموضوعات ساق عن إسحاق بن راهويه (شيخ البخاري) أنه قال: " لم يصح في فضائل معاوية
شئ " قال ابن حجر: فهذه النكتة في عدول البخاري عن التصريح بلفظ منقبة اعتمادا على قول
شيخه (ابن راهويه). وأخرج ابن الجوزي من طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل - سألت
أبى، ما تقول في علي ومعاوية: فأطرق ثم قال: اعلم أن عليا كان كثير الأعداء ففتش أعداؤه له
عيبا فلم يجدوا فعمدوا إلى رجل قد حاربه فأطروه كيدا منهم لعلي. فأشار بهذا إلى ما اختلقوه لمعاوية
من الفضائل مما لا أصل له، وقد ورد في فضائل معاوية أحاديث كثيرة لكن ليس فيها ما يصح من
طريق الاسناد، وبذلك جزم إسحاق بن راهويه والنسائي وغيرهما اه‍.
وللنسائي قصة مشهورة في أمر فضائل معاوية.
قال الدارقطني: خرج النسائي حاجا فامتحن بدمشق وأدرك الشهادة فقال: احملوني إلى مكة
وتوفى بالرملة.
وكان أصحابه في دمشق قد سألوه عن فضائل معاوية، فقال: ألا يرضى رأسا برأس حتى
يفضل؟ فما زالوا يدفعونه حتى أخرج من المسجد.
وللنسائي كتاب في خصائص على رضي الله عنه. وقال الشوكاني في كتابه الفوائد المجموعة في
الأحاديث الموضوعة وفيها تحقق الحفاظ على أنه لم يصح في فضائل معاوية حديث.
(2) ص 95 ج 3 من سير أعلام النبلاء للذهبي.
183

قول الحسن فيه:
وإليك كلمة جامعة في معاوية قالها الحسن البصري:
روى الطبري أن الحسن كان يقول: " أربع خصال كن في معاوية، ولو
لم يكن فيه منهن إلا واحدة كانت موبقة: انتزاؤه على هذه الأمة بالسفهاء حتى
ابتزها أمرها بغير مشورة منهم، وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة، واستخلاف
ابنه بعده سكيرا خميرا، يلبس الحرير ويضرب الطنابير، وادعاؤه زيادا، وقد
قال رسول الله: الولد للفراش وللعاهر الحجر، وقتله حجرا وأصحابه، ويل
له من حجر وأصحابه! ويل له من حجر وأصحابه ".
وكان السبب في قتل حجر بن عدي أنه كان يرد على المغيرة بن شعبة عامل
معاوية على الكوفة شتائمه لعلى رضي الله عنه، وكان معاوية قد أمر ولاته وعماله
- كما بينا - بشتم على رضي الله عنه وعيب أصحابه وإقصائهم، ووقع بينه
وبين المغيرة كذلك ما وقع بسبب إنكاره على فعلاته. ثم فعل حجر مثل ذلك
مع زياد الذي تولى الكوفة بعد المغيرة (1)، فكبر على زياد أن يعارضه أحد،
فأمر بسجنه ومعه أحد عشر من أصحابه وادعى أنه شتم الخليفة! ودعا إلى حربه!
وأتى بشهود يؤيدونه في قوله، ثم أرسله هو وإخوانه إلى معاوية - وعلى أن
شريحا قد شهد بأن حجرا يقيم الصلاة، ويؤتى الزكاة، ويديم الحج والعمرة،
ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. وأنه حرام الدم والمال، فإن معاوية لم
يستمع لشهادة شريح وبعث إلى من مع حجر يعرض عليهم البراءة من على
واللعن له وإلا قتلهم! فقالوا لسنا على ذلك، فحفروا لهم القبور وأحضرت
الأكفان، وقام حجر وأصحابه للصلاة عامة الليل فلما كان الغد قدموهم فقتلوهم.
ومما قاله معاوية لأحدهم: يا أخا ربيعة ما تقول في علي؟ فقال له: دعني!

(1) مما أثار كامن الغضب عند زياد من حجر أنه خطب يوم جمعة فأطال الخطبة وأخر الصلاة
فقال له حجر: الصلاة! فمضى في خطبته، فقال: الصلاة! فمضى في خطبته، فلما خشى حجر بن عدي
فوت الصلاة، ضرب بيده إلى كف من حصى وقام إلى الصلاة، وقام الناس معه. فكتب زياد بذلك
وغيره مما افتراه عليه إلى معاوية: ليشده بالحديد هو ومن معه ويرسله إليه فشدوا في الحديد
وحملوا إلى معاوية ففعل بهم ما فعل مما بيناه.
184

لا تسألني فهو خير لك، قال: والله لا أدعك! قال: أشهد أنه كان من
الذاكرين الله كثيرا، ومن الآمرين بالحق، والقائمين بالقسط والعافين عن
الناس، قال: فما قولك في عثمان؟ قال: هو أول من فتح أبواب الظلم وأغلق
أبواب الحق. قال: قتلت نفسك! قال: بل إياك قتلت! فأمر بقتله شر
قتلة، فدفن حيا.
وفى الإستيعاب لابن عبد البر وأسد الغابة، أن حجرا قال لمن حضره من
أهله، لا تنزعوا عنى حديدا، ولا تغسلوا عنى دعا، فإني لاق معاوية على
الجادة، رضى الله عن حجر وإخوان حجر.
وهو حجر بن عدي الكندي الملقب بحجر الخير - كان من فضلاء الصحابة
وفد على النبي وشهد القادسية (1).
معاوية وكيف كان يحكم
لما كان معاوية على ما وصفنا، وأن أئمة السنة والشيعة قد أجمعوا على أنه
كان باغيا على أمير المؤمنين المرتضى على، وترتب على بغيه عليه سفك دماء
غزيرة، وفتن ومعاص كثيرة، لم يخلص المسلمون من شرها إلى هذا اليوم،
والظاهر أنها ستبقى إلى يوم القيامة (2)، وأنه أول من هدم ركن الشورى في الاسلام (3)
وبايع لابنه يزيد بالقوة والجبروت - لما كان كذلك كله فقد اضطر إلى تأييد

(1) راجع الطبري في حوادث سنة 51 وابن الأثير ص 202 - 209 ج 3 وابن عساكر
ص 379 ج 2.
(2) ص 540 ج 27 مجلة المنار للسيد رشيد رضا.
(3) قال أحد كبار علماء الألمان في الآستانة لبعض المسلمين - وفيهم أحد شرفاء مكة: إنه
ينبغي لنا أن نقيم تمثالا من الذهب لمعاوية بن أبي سفيان في ميدان كذا من عاصمتنا " برلين "
فقيل له: لماذا؟ قال لأنه هو الذي حول نظام الحكم الاسلامي عن قاعدته الديمقراطية إلى عصبية
ولولا ذلك لعم الاسلام العالم كله، وإذن لكنا نحن الألمان وسائر شعوب أوروبا عربا مسلمين
(ص 232 الوحي المحمدي).
185

ملكه بضروب الرهبة والرغبة (1) فمن عارضه أو وقف في سبيله، أرداه ونكل
به، إن بالسم، كما فعل بالحسن وعبد الرحمن بن أبي بكر، وعبد الرحمن
ابن خالد بن الوليد، والأشتر النخعي (2) وغيرهم ممن لا يمكن إحصاؤهم كما
بيناه آنفا، وكل هؤلاء قد ماتوا بالسم، أو بالقتل كما فعل بحجر بن عدي
ومن معه، ومن أرضاه ورضى به وبحكمه وناصره على بغيه، أغدق له من نواله
ورفع من مقامه، كما صنع مع أبي هريرة والمغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص
وغيرهم.
معاوية يهدم بناء الحكم الاسلامي الصحيح:
وما اقترفه معاوية ودولته من بغى وعصيان وفتن لم يقف وصفه في المشرق
فحسب، بل امتد إلى ما وراءه من بلاد المغرب، وإليك كلمة حكيمة
للفيلسوف ابن رشد الحفيد وهي لا تحتاج إلى شرح أو تفسير.
قال هذا الفيلسوف الكبير وهو يتكلم عن الحكم والسياسة:
" إن أحوال العرب في عهد الخلفاء الراشدين كانت على غاية من الصلاح
فكأنما وصف أفلاطون حكومتهم لما وصف في (جمهوريته) الحكومة الجمهورية
الصحيحة التي يجب أن تكون مثالا لجميع الحكومات، ولكن معاوية هدم
ذلك البناء الجليل القديم، وأقام مكانه دولة بنى أمية وسلطانها الشديد، ففتح

(1) لما اجتمع الناس لبيعة يزيد في حضور معاوية قامت الخطباء رغم إظهار الكراهة من
القوم. فقام رجل من عذرة يقال له يزيد بن المقنع فاخترط من سيفه شبرا ثم قال: أمير المؤمنين
هذا، وأشار بيده إلى معاوية، فإن مات فهذا، وأشار بيده إلى يزيد! فمن أبى فهذا! وأشار
بيده إلى سيفه! فقال له معاوية: أنت سيد الخطباء (ص 300 ج 1 من البيان والتبيين).
ومن العجيب أنه رغم ذلك كله يظهر في دهرنا هذا حشوي ناصبي يغرق في تعصيه لمعاوية ويصفه
بأنه " المهدى " وأنه كان لأهل الشام كالامام مالك لأهل المدينة! ويروى فيه حديثا لا أصل له
وهو " اللهم علمه الكتاب والحساب وقه العذاب، وأدخله الجنة! " ثم يقول: إن من لم يصدق بهذا
الحديث فهو منكر لكل ما ثبت في السنة من شريعة الاسلام! وقال كذلك إن قواد معاوية وكبار صحابته
كانوا يستهدون ملابسه للتبرك بها!
(2) الذي ولاه على على مصر، وقال فيه عمرو كلمته المشهورة إن لله جنودا من عسل، وكان
سمه من عسل!.
186

بذلك بابا للفتن التي لا تزال إلى الآن قائمة قاعدة حتى في بلادنا هذه
(الأندلس) " (1).
هذا ما قاله الفيلسوف ابن رشد في معاوية ودولته، وفى هامش صفحة
185 التي مضت قول أحد كبار علماء الألمان في أن معاوية هو الذي حول
نظام الحكم الاسلامي عن قاعدته الديموقراطية إلى عصبية. إلخ. وقال سفيان
الثوري: الأئمة أبو بكر وعمر وعثمان وعلى وعمر بن عبد العزيز وما سوى ذلك
فهم منتزون (أي متغلبون) (2).
وقال الدكتور أحمد أمين وهو يتكلم عن الحكم الأموي:
" فالحق أن الحكم الأموي لمن يكن حكما إسلاميا، يسوى فيه بين الناس،
ويكافأ فيه من أحسن عربيا كان أو مولى، ويعاقب فيه من أجرم عربيا كان
أو مولى، ولم يكن الحكام فيه خدمة للرعية على السواء، إنما كان الحكم حكما
عربيا، والحكام فيه خدمة للعرب على حساب غيرهم، كانت تسود العرب فيه
النزعة الجاهلية لا النزعة الاسلامية، فكان الحق والباطل يختلفان باختلاف من
صدر عنه العمل، فالعمل حق إذا صدر عن عربي من قبيلة! وهو باطل
إذا صدر عن مولى أو عربي من قبيلة أخرى (3).
معاوية في ميزان العقاد:
وإذا بلغنا إلى هنا من الكلام عن معاوية وكيف كان يحكم، فإنا نردف
ما قلناه بكلمات وجيزة اقتطفناها من كتاب " معاوية في الميزان "، للكاتب
العالم الأستاذ عباس محمود العقاد، لا لنؤيد بها ما قلناه، وإنما لنبين أن ما نقوله
هو الحق الذي لا يمارى فيه إلا جهول أو ذو هوى، أو متعصب، وقد جئنا
بهذه الكلمات كما جئنا من قبل بكلمات أخرى لنصير العلم والحرية العلامة
الدكتور طه حسين ليكون من ذلك كله ميسم خزي وفضيحة للذين لا يفتأون
يحصبوننا بالتشيع واتباع الهوى!

(1) ص 60 من كتاب ابن رشد وفلسفته لفرح أنطون وقد توفى ابن رشد سنة 595 ه‍ سنة 1198 م.
(2) ص 185. ج 2 جامع بيان العلم وفضله.
(3) ص 27 ج 1 ضحى الاسلام.
187

على أن ما كتبناه هنا، وما نقلناه عن غيرنا في وصف معاوية لم يكن إلا
ذروا قليلا من أعماله التي سجلها التاريخ الاسلامي على صفحاته مما لم
يسجل مثله لاحد غيره.
ولو أن كتابنا هذا قد كسر على تاريخ معاوية خاصة وما يحمل من قبائح
لاستكثرنا من الشواهد والأدلة، فيرجع إليها في مظانها.
قال العقاد وهو يتكلم عن ناحية من سياسته، وهي ناحية التفريق بين
الناس:
كانت له حيلته التي كررها وأتقنها وبرع فيها واستخدمها مع خصومه
في الدولة من المسلمين وغير المسلمين، وكان قوام تلك الحيلة، العمل الدائب
على التفرقة والتخذيل بين خصومه، بإلقاء الشبهات بينهم، وإثارة الإحن فيهم،
ومنهم من كانوا من أهل بيته وذوي قرباه، كان لا يطيق أن يرى رجلين ذوي
خطر على وفاق، وكان التنافس (الفطري) بين ذوي الاخطار مما يعينه على
الايقاع بينهم (1).
ومضى معاوية على هذه الخطة التي لا تتطلب من صاحبها حظا كبيرا من
الحيلة والروية - فلو أنه استطاع أن يجعل من كل رجل في دولته حزبا منابذا
لغيره من رجال الدولة كافة لفعل! ولو حاسبه التاريخ حسابه الصحيح لما
وصفه بغير مفرق الجماعات، ولكن العبرة لقارئ التاريخ في زنة الأعمال
والرجال أن نجد من المؤرخين من يسمى عامه حين انفرد بالدولة (عام الجماعة!)
لأنه فرق الأمة شيعا، فلا تعرف كيف تتفق إذا حاولت الاتفاق، وما لبث
أن تركها بعده تختلف في عهد كل خليفة شيعا شيعا بين ولاة العهود (2).
وليس أضل ضلالا، ولا أجهل جهلا من المؤرخين الذين سموا سنة
(أحد وأربعين هجرية) بعام الجماعة لأنها السنة التي استأثر فيها معاوية بالخلافة
فلم يشاركه أحد فيها، لان صدر الاسلام لم يعرف سنة تفرقت فيها الأمة كما
تفرقت في تلك السنة، ووقع فيها الشتات بين كل فئة من فئاتها كما وقع فيها،

(1) ص 64.
(2) ص 66.
188

إذ كانت خطة معاوية في الامن والتأمين قائمة على فكرة واحدة وهي التفرقة بين
الجميع، وسيان سكنوا عن رضا منهم بالحال، أو سكنوا عجزا منهم عن
السخط والاعتراض، وكان سكونهم سكون أيام أو كان سكون الأعمار والأعوام (1).
وعلل العقاد جميع أعمال معاوية بعلة: المصلحة الذاتية، أو مصلحة
الأسرة والعشيرة (2).
وأرجع العقاد ذلك إلى حكم الوراثة فقال:
تميزت لبني أمية في الجاهلية وصدر الاسلام خلائق عامة يوشك أن تسمى
- لعمومها بينهم - خلائق أموية، وهي تقابل ما نسميه في عصرنا بالخلائق
الدنيوية أو النفعية، ويراد بها أن المرء يؤثر لنفسه ولذويه ولا يؤثر عليها وعليهم
في مواطن الايثار (3).
الذين يزيفون التاريخ:
ثم التفت العقاد إلى الذين يزيفون التاريخ فقرعهم بهذا التقريع الأليم فقال:
. وإنما المحنة الشائعة من أولئك النهازين المتطوعين الذين يقبلون العملة
الزائفة، ويرفضون ما عداها، ويجاهدون من يكشف هذا الزيف ويقومه بقيمته
الصحيحة، ثم تكثر العملة الزائفة في الأيدي حتى يوشك أن تطرد العملة
الصحيحة وتحيطها بالريبة والحذر، ولا ينفع المحك الناقد في هذه الحالة،
لان المحك الناقد لم يسلم قبلها من التزييف (4).
وبعد أن تكلم عن الذين يزيفون تاريخ معاوية، وبين حرصهم على مطاوعة
أهوائهم، كأنهم من صنائع الدولة في إبان سلطانها، وبين عطاياها المغدفة،
قال:
ولولا أننا نأبى أن نضرب الأمثلة بالأسماء لذكرنا من هؤلاء المؤرخين المعاصرين
من يتكلم في هذا التاريخ كلاما ينضح بالغرض ويشف عن المحاباة بغير حجة (5).

(1) ص 188 و 189.
(2) ص 26.
(3) ص 119.
(4) ص 15.
(5) ص 20 من كتاب معاوية في الميزان.
189

وهؤلاء الذين أومأ إليهم العقاد ولم يفصح عن أسمائهم، نستطيع أن نذكر
منهم جماعة في الشام من حفدة الأمويين، منهم: مصطفى السباعي، ومحمد
دروزه، ومعروف الدواليبي، ولهم ضريب جالية يقيم بمصر اسمه محب الدين
الخطيب وهو من أسماء الأضداد!
ولعلهم - وأمثالهم - يفيئون إلى الحق ولا يتهمون طه حسين والعقاد وابن رشد
بما اتهمونا به - عندما جهرنا بالحق في أمر معاوية ودولته - من أن عندهما
(عقدة أو عقيدة الشيعية)! وأنهما عميلان لأمريكا أو يخدمان المستشرقين!
حسبنا ما قدمنا من أدلة على بيان حقيقة أمر معاوية وكيف كان يحكم،
وما جناه حكمه الظالم على الناس وعلى الاسلام إلى يوم القيامة. وكان لنا أن
نجتزئ بما دون ذلك من بيان، لان كتابنا لم يفرد لتاريخ هذا الملك الباغي، ولكنا
اضطررنا إلى شئ من الإطالة والاستطراد، لأنه لما يزل يوجد أناس في عصرنا
تحطب في حبله، وتمارى في بغيه وظلمه، وتتبجح بالقول بأن دولته كانت
(أعظم دولة عرفها الاسلام)، وإذا نهض منصف ليبين شيئا من صحيح
تاريخه تصدوا له بالشتم والسب ووصفوه بأنه (شيعي) والتشيع في رأى هذه
الفئة الحمقاء نبز لقوم ليسوا بمسلمين.
الناس مع معاوية:
إن قيام الدولة الأموية على ما بيناه من قبل قد جعل الناس مع معاوية على
ثلاثة أقسام:
قسم: أحب الهدى والحق لا يخشى في الله لومة لائم، ولا يبالي في سبيل
الحق ونصرته شيئا. وهؤلاء قد أدوا حق الصحبة النبوية على أكمل ما يكون
الأداء.
وقسم: آثر السلامة وعطل فريضة مقاتلة الباغي والاخذ على يده، وفريضة
الامر بالمعروف والنهى عن المنكر كما أمر الله - ومن هذا القسم عبد الله بن
190

عمر (1)، ومحمد بن مسلمة وعبد الله بن سلام - وغيرهم - وهؤلاء الثلاثة لم
يبايعوا عليا.
وقسم: رضى الضلال والباطل وتشيع له واتبع ما يهوى وما يريد فناصروه
وأيدوه ضد على رضي الله عنه، إن برواية أحاديث يرفعونها إلى النبي تشيد
بذكره وذكر قومه وتحط من قدر على! ومن هذا القسم أبو هريرة، إن بذلك
أو بغيره من عدد النصرة الكيدية والحربية، ومن هذا القسم: عمرو بن العاص
وابنه عبد الله بن عمرو (2) - والمغيرة بن شعبة، وأبو موسى الأشعري ويعلى
ابن أمية (3) وغيرهم، ولكل من هؤلاء جميعا غرض يسعى له، ويرمى إليه.

(1) عن عبد الله بن حبيب، أن عبد الله بن عمر قال حين حضرته الوفاة: ما أجد في نفسي
من أمر الدنيا شيئا إلا أنى لم أقاتل الفئة الباغية مع علي رضي الله عنه - ص 371 ج 1 من الإستيعاب لابن عبد
البر وص 229 ج 3 أسد الغابة.
(2) عن ابن أبي مليكة أن عبد الله بن عمرو كان يقول: مالي ولصفين (وهي التي كانت بين
على رضي الله عنه وبين معاوية)، ولقتال المسلمين! والله لوددت أنى مت قبل هذا بعشر سنين،
ولوددت أنى لم أحضر شيئا منها وأستغفر الله عز وجل من ذلك وأتوب إليه - وكانت بيده " الراية " في
هذه الوقعة وندم ندامة شديدة على قتاله مع معاوية. وجعل يستغفر ويتوب ص 382 و 383 من
الاستيعاب وص 234 ج 3 أسد الغابة، وفى هذه الصفحة والتي بعدها (235) من هذا الجزء أن الحسين
مر على حلقة فيها أبو سعيد الخدري وعبد الله بن عمرو فسلم فرد القوم السلام وسكت عبد الله حتى فرغوا
ثم رفع صوته وقال: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، ثم أقبل على القوم وقال: ألا أخبركم بأحب
أهل الأرض إلى أهل السماء؟ قالوا: بلى، قال: هو هذا الماشي، ما كلمني كلمة منذ ليالي صفين!
ولإن يرضى عنى أحب إلى من أن يكون لي حمر النعم، فقال أبو سعيد. ألا تعتذر إليه؟ قال: بلى،
وتواعدا أن يفدوا إليه، فلما أتياه استأذن أبو سعيد فأذن له فدخل، ثم استأذن لعبد الله فلم يزل به
حتى أذن له فلما دخل أخبر أبو سعيد الحسين بما جرى قبل ذلك فقال الحسين: أعلمت يا أبا عبد الله
أنى أحب أهل الأرض إلى أهل السماء؟ قال: أي ورب الكعبة. قال فما حملك على أن تقاتلني وأبى يوم
صفين؟ فوالله لأبي كان خيرا منى! قال: أجل ولكن أبى أقسم على - وكان الرسول قد أمرني بطاعته
فخرجت، أما والله ما اخترطت سيفا، ولا طعنت برمح ولا رميت بسهم.
(3) يعلى ابن أمية أسلم يوم الفتح وشهد حنينا والطائف وتبوك استعمله عمر على بعض اليمن
فحمى لنفسه حمى فاستدعاه عمر فمات قبل أن يصل إليه وكان ذا منزلة عند عثمان ومن أجل ذلك
استعمله على صنعاء، ولما قتل عثمان كان من الذين يطالبون بدم عثمان: وأعان الزبير في محاربة على
بأربعمائة ألف، وسبعين من قريش - واشترى لعائشة الجمل الذي ركبته في حرب الجمل ثم شهد وقعة الجمل،
وجمل عائشة يقال له عسكر اشتراه يعلى بثمانين دينارا.
191

ولنذكر بعض من كانوا من القسم الأول، الذين قاموا بحق الامر بالمعروف
والنهى عن المنكر، أما الذين حاربوا بسيوفهم فهم فوق الاحصاء.
عبادة بن الصامت:
فمن الاجلاء الذين أنكروا على معاوية وسخطوا عليه، وهو في أوج سلطانه
(عبادة بن الصامت) الخزرجي أحد نقباء الأنصار.
كان معه يوما فقام خطيب يمدح معاوية ويثني عليه، فقام عبادة بتراب
في يده فحثاه في فم الخطيب! فغضب معاوية، فقال له عبادة: إنك لم
تكن معنا حين بايعنا رسول الله بالعقبة، وكان من هذه البيعة، أن نقوم بالحق
حيث كنا، لا نخاف في الله لومة لائم، وقال رسول الله: إذا رأيتم المداحين
فاحثوا في وجوههم التراب.
ولما اشتد غضب معاوية على عبادة رحله إلى عثمان، وقال: إنه أفسد
الشام: وقال عبادة لعثمان لما رحله إليه معاوية: سمعت رسول الله يقول: سيلي
أموركم بعدي رجال يعرفونكم ما تنكرون، وينكرون عليكم ما تعرفون! فلا
طاعة لمن عصى، ولا تضلوا بربكم.
وفى رواية لابن عساكر أنه قال لعثمان بعد ذلك: فوالله الذي نفس عبادة
بيده، إن فلانا (يعنى معاوية) لمن أولئك. فما راجعه عثمان بحرف.
وكان يقول - وهو بالمدينة: تستعمل الصبيان وتقرب أولاد الطلقاء.
هذا ما فعله عثمان بعبادة، فانظر البون البعيد بين عمر وبين عثمان فإن عبادة
هذا عندما أنكر على معاوية في عهد عمر وقال لمعاوية: لا أساكنك بأرض،
ورحل إلى المدينة قال له عمر: ما أقدمك؟ فأخبره بأفعال معاوية، فقال له
عمر: ارحل إلى مكانك، فقبح الله أرضا لست فيها وأمثالك، فلا إمرة له
عليك (1).
ولعبادة هذا موقف آخر سنبينه لك قريبا.
وممن أنكروا على معاوية كذلك، أبو ذر الغفاري الذي قال فيه النبي

(1) ص 2 ج 2 من أعلام النبلاء للذهبي.
192

" ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر ".
أنكر على عثمان أن يعطى مروان بن الحكم والحارث بن الحكم، وزيد بن
ثابت الأنصاري ما أعطاهم من مئات الألوف من الدراهم، وتلا قول الله " والذين
يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ".
وجرت بينه وبين عثمان محاورة في ذلك فأمر عثمان بأن يحلق بالشام فلم
يلبث هناك بعد ما رأى من فعلات معاوية ما رأى! أن ينكر عليه، فأراد معاوية
أن يقطع لسانه بثلاثمائة دينار! فكان جوابه، إن كان هذا من عطائي قبلتها،
وإن كانت جعلة فلا حاجة لي فيها!
ولما بنى معاوية قصر (الخضراء) بدمشق قال له: يا معاوية إن كانت هذه
الدار من مال الله فهي الخيانة، وإن كانت من مالك فهذا هو الاسراف،
وكان يقول: والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها! والله ما هي في كتاب الله
ولا سنة نبيه، والله إني لأرى حقا يطفأ وباطلا يحيا، وصادقا يكذب، وأثرة
بغير تقى.
وكان الناس يجتمعون عليه، فنادى معاوية، أن لا يجالسه أحد.
ولما اشتد إنكاره عليه كتب إلى عثمان: أن أبا ذر قد أفسد على الشام!
فكتب عثمان إلى معاوية: أحمل جندبا (1) على أغلظ مركب وأوعره، فوجه
معاوية من سار به الليل والنهار، ولم يكد يصل إلى المدينة حتى تسلخت أفخاذه
وكاد يهلك، ولما قابل عثمان وذكر له ما يفعله معاوية، أمر بتسييره إلى الربذة (2)،
فلم يزل بها حتى مات سنة 31 - 32 رضي الله عنه وأرضاه.
ودخل سعد بن أبي وقاص على معاوية فلم يسلم عليه بالامرة! فقال معاوية:
لو شئت أن تقول غيرها لقلت! قال سعد: فنحن المؤمنون ولم نؤمرك، فإنك
معجب بما أنت فيه، والله ما يسرني أنى على الذي أنت عليه، وأنى هرقت
عليه محجمة دم (3).

(1) هو أبو ذر.
(2) الربذة قرية على نحو ثلاثة أيام جهة شرق المدينة على طريق حاج العراق وبها قبر أبي ذر.
(3) ص 82 ج 1 أعلام النبلاء.
193

قيس بن سعد مع معاوية:
وأرسل قيس بن سعد إلى معاوية كتابا قال فيه:
أما بعد فإنك وثن ابن وثن، دخلت الاسلام كرها، وخرجت منه طوعا.
ولم يقدم إيمانك، ولم يحدث نفاقك (1).
وأخرج مسلم في صحيحه والترمذي، أن معاوية قال لسعد بن أبي وقاص:
ما يمنعك أن تسب أبا تراب! فقال: أما ذكرت ثلاثا، قالهن له رسول الله فلن
أسبه، لان تكون لي واحدة منها، أحب إلى من حمر النعم: سمعت رسول
الله يقول له، وقد خلفه في بعض مغازيه، وهي تبوك فقال له على: يا رسول الله
خلفتني مع النساء والصبيان، فقال له رسول الله: أما ترضى أن تكون منى بمنزلة
هارون بن موسى إلا أنه لا نبي بعدي، وسمعته يقول يوم خيبر: لأعطين الراية
رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، فتطاولنا لها، فقال: ادعوا لي
عليا فأتى به أرمد ودفع الراية إليه ففتح الله عليه، ولما نزل: " قل تعالوا ندع
أبناءنا وأبناءكم.. " الآية، دعا رسول الله عليا وفاطمة وحسنا وحسينا وقال: " اللهم
هؤلاء أهلي " وذلك بعد أن أدار عليهم الكساء رضي الله عنهم جميعا وأرضاهم.
ولما قدم معاوية المدينة لقيه أبو قتادة الأنصاري (2) فقال له معاوية:
تلقاني الناس كلهم غيركم معشر الأنصار، ما منعكم؟ قال: لم يكن معنا دواب.
فقال معاوية: فأين النواضح؟ قال أبو قتادة: عقرناها في طلبك وطلب أبيك
يوم بدر!! قال: نعم يا أبا قتادة. ومما قاله أبو قتادة لمعاوية يومئذ أن رسول الله
قال لنا: إنا نرى بعده أثرة، قال معاوية: فما أمركم عند ذلك؟ قال: أمرنا
بالصبر، فقال: اصبروا حتى تلقوه!
وكان الحكم بن عمرو الغفاري (3) - وكان يقال له الحكم بن الأقرع
واليا من قبل زياد على خراسان فكتب إليه زياد: إن أمير المؤمنين معاوية كتب
إلى، أن يصطفى له الصفراء والبيضاء (4) فلا تقسم بين الناس ذهبا ولا فضة، فكتب

(1) 87 ج 2 البيان والتبيين للجاحظ.
(2) ص 161 ج 1 الاستيعاب - طبع الهند.
(3) ص 116 ج 1 من نفس المصدر.
(4) أي الذهب والفضة.
194

إليه الحكم: بلغني أن أمير المؤمنين كتب: أن يصطفى له البيضاء والصفراء وإني
وجدت كتاب الله قبل كتاب أمير المؤمنين! وإنه والله لو أن السماوات والأرض
كانتا رتقا على عبد ثم اتقى الله لجعل الله له مخرجا، والسلام عليكم، ثم قال
للناس اغدوا على مالكم، فغدوا فقسمه بينهم، وقال الحكم: اللهم إن كان
لي عندك خير فاقبضني إليك، فمات بخراسان (بمرض) رحمه الله ورضى عنه
وهكذا يكون الرجال.
وقال معاوية لأسامة بن زيد: رحم الله أم أيمن كأني أرى ساقيها، وكأنهما
ساقا نعامة، فقال أسامة: كانت والله خيرا من هند (أم معاوية) وأكرم،
فقال معاوية: وأكرم أيضا؟ فقال: نعم، قال الله عز وجل: إن أكرمكم
عند الله أتقاكم (1).
بين الأحنف ومعاوية:
قام رجل من أهل الشام خطيبا بين يدي معاوية ومعه وجوه الناس فكان
آخر كلامه أن لعن عليا، فأطرق الناس وتكلم الأحنف فقال: يا أمير المؤمنين،
إن هذا القائل ما قال آنفا لو يعلم أن رضاك في لعن المرسلين للعنهم! فاتق
الله ودع عنك عليا، فلقد لقي ربه، وأفرد في قبره، وخلا بعمله، وكان والله
ما علمنا المبرز بسبقه، الطاهر خلقه، الميمون نقيبته، العظيم مصيبته، فقال
له معاوية: يا أحنف، لقد أغضيت العين على القذى، وقلت بغير ما ترى،
وأيم الله لتصعدن المنبر فلتلعننه طوعا أو كرها، فقال له الأحنف: يا أمير
المؤمنين، إن تعفني فهو خير لك، وإن تجبرني على ذلك فوالله لا تجرى به
شفتاي أبدا، فقال: قم فاصعد المنبر، قال الأحنف أما والله - مع ذلك -
لأنصفنك في القول والفعل قال: وما أنت قائل يا أحنف إن أنصفتني؟
قال: أصعد المنبر فأحمد الله بما هو أهله، وأصلي على نبيه صلى الله عليه وسلم
ثم أقول: أيها الناس، إن أمير المؤمنين معاوية أمرني أن ألعن عليا، وإن عليا
ومعاوية اختلفا فاقتتلا، وادعى كل واحد منهما أنه بغى عليه وعلى فئته،

(1) ص 475 ج 1 أنساب الأشراف للبلاذري وأم أيمن هي خادمة النبي وأم أسامة.
195

فإذا دعوت فأمنوا رحمكم الله، ثم أقول: اللهم العن أنت وملائكتك وأنبياؤك
وجميع خلقك الباغي منهما على صاحبه، والعن الفئة الباغية، اللهم العنهم
لعنا كثيرا، أمنوا رحمكم الله، يا معاوية، لا أزيد على هذا ولا أنقص منه
حرفا ولو كان فيه ذهاب نفسي. فغص معاوية بريقه وقال: إذن نعفيك
يا أبا بحر (1).
وسمع الأحنف رجلا يقول: ما أحلم معاوية! فقال: لو كان حليما
ما سفه الحق (2).
وكتب سعيد بن العاص إلى عثمان، وكان واليا من قبله على الكوفة: إني
لا أملك من الكوفة مع الأشتر (النخعي) وأصحابه الذين يدعون القراء،
وهم السفهاء، شيئا، فكتب إليه أن سيرهم إلى الشام، فخرج المسيرون من قراء
أهل الكوفة فاجتمعوا بدمشق فبرهم معاوية وأكرمهم، ثم إنه جرى بينه وبين
الأشتر قول حتى تغالظا، فحبسه ثم أخرجه من الحبس، ولما بلغه أن قوما من
أهل دمشق يجالسون الأشتر وأصحابه، كتب إلى عثمان: إنك بعثت إلى قوما
أفسدوا مصرهم وأنغلوا، ولا آمن أن يفسدوا طاعة من قبلي، ويعلمونهم ما لا
يجدونه حتى تعود سلامتهم غائلة واستقامتهم اعوجاجا (3).
وروى المسعودي في مروج الذهب، أن معاوية حبس صعصعة بن
صوحان العبدي و عبد الله بن الكواء اليشكري ورجالا من أصحاب على مع
رجال من قريش فدخل عليهم يوما فقال: ناشدتكم الله إلا ما قلتم حقا وصدقا،
أي الخلفاء رأيتموني؟
فقال ابن الكواء: لولا أنك عزمت علينا ما قلنا! لأنك جبار عنيد لا تراقب
الله في قتل الأخيار، ولكنا نقول: إنك ما علمنا واسع الدنيا ضيق الآخرة

(1) ص 29 و 29 ج 4 من العقد الفريد. وكان الأحنف ذات يوم مع معاوية في بيته فجرى
بينهما كلام اشتد فيه الأحنف مع معاوية ولم يباله فعجبت ابنة لمعاوية مما قاله الأحنف - وكانت تسمع
كلامهما من وراء الستر. فلما نهض الأحنف سألت أباها كيف تصبر على مثل ما سمعت من هذا
الأعرابي؟ فقال لها: يا بنية إنه سيد بنى تميم إذا غضب، غضب معه مائة ألف لا يسألونه لو غضب؟
(2) ص 298 ج 1 أمالي المرتضى.
(3) ص 39 وما بعدها ج 5 الأنساب.
196

تجعل الظلمات نورا، والنور ظلمات. وبعد محاورة طويلة مع ابن الكواء
تكلم صعصعة فقال: تكلمت يا ابن أبي سفيان فأبلغت وليس الامر على ما
ذكرت! أنى يكون الخليفة من ملك الناس قهرا ودانهم كبرا، واستولى بأسباب
الباطل كذبا ومكرا، أما والله ما لك في يوم بدر مضرب ولا مرمى، ولقد كنت
أنت وأبوك في العير والنفير ممن أجلب على رسول الله صلى الله عليه وآله وإنما أنت طليق
ابن طليق، أطلقكما رسول الله صلى الله عليه وآله فأنى تصلح الخلافة لطليق، فقال
معاوية، لولا أنى أرجع إلى قول أبى طالب حيث يقول:
قابلت جهلهم حلما ومغفرة * والعفو عن قدرة ضرب من الكرم
لقتلتكم (1).
وقدم أبو أيوب الأنصاري على معاوية فأجلسه على السرير وحادثه وقال:
يا أبا أيوب: من قتل صاحب الفرس البلقاء التي جعلت تجول يوم كذا وكذا!
قال: أنا إذ أنت وأبوك على الجمل الأحمر معكما لواء الكفر، فنكس رأسه
وتنمر أهل الشام وتكلموا، فقال معاوية: مه أو قال: ما نحن عن هذا سألناك!
ودخل عليه مرة فقال له: صدق رسول الله سمعته يقول: يا معشر الأنصار
إنكم سترون أثرة فاصبروا، ولما عاده ابنه يزيد وهو في الحبس قال له: هل لك
من حاجة؟ قال: ما ازددت عنك وعن أبيك إلا غنى (2).
المسور بن مخرمة مع معاوية:
روى ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن قال: أخبرني المسور بن مخرمة
أنه وفد على معاوية، قال: فلما دخلت سلمت، فقال: ما فعل طعنك
على الأئمة يا مسور؟
قال. قلت: دعنا من هذا، وأحسن فيما قدمنا له! قال: والله لتكلمني
بذات نفسك؟ قال: فلم أدع شيئا أعيبه عليه إلا بينته له فقال: لا أتبرأ
من الذنوب! فما لك يا مسور ذنوب تخاف أن تهلك إن لم يغفرها الله لك؟

(1) راجع الجزء الثالث من مروج الذهب.
(2) ص 294 و 295 ج 2 سير الاعلام.
197

ملحة:
قال معاوية لعمرو بن العاص: هل غششتني مذ نصحتني؟ قال: لا،
قال: بلى، يوم أشرت على بمبارزة على، وأنت تعلم من هو! فقال عمرو:
دعاك رجل عظيم الخطر إلى المبارزة، فكنت من مبارزته على إحدى الحسنيين!
أما إن قتلته، فقد قتلت قتال الاقران، وازددت شرفا إلى شرفك، وخلوت
بملكك، وأما إن قتلت فتتعجل مرافقة الشهداء والصديقين والصالحين: قال
معاوية: لهذه أشد على من الأولى، فقال عمرو، أفكنت من جهادك في
شك فتكون منه الساعة! قال: دعني عنك الآن (1).
وكان على رضي الله عنه قد طلب من معاوية أن يبارزه فخنس وجبن وقد
عيروه بذلك، ولكن ماذا يصنع وهو أعلم بنفسه من غيره.
ولا نمضي في هذا الباب لان الأمثلة كثيرة جدا تملأ كتبا، إن من الرجال
وإن من النساء الفضليات، مثل سودة بنت عمارة الهمدانية، وبكارة الهلالية،
والزرقاء بنت عدى، وأم سنان بنت خيثمة، وعكرشة بنت الأطرش، وما
لا يحصى عددهن.
وبعد ذلك نأخذ في بيان القسم الثالث الذي صانع معاوية وأعانه. ومن كبار
هذا القسم - كما ذكرنا - المغيرة بن شعبة، وعمرو بن العاص، وقد كانا من
كبار دهاة العرب وشجعانها، وقد نال كل منهما مأربه من معاوية.
فأما المغيرة بن شعبة فقد ولاه معاوية على الكوفة وكان من وصيته له:
قد أردت إيصاءك بأشياء كثيرة فأنا تاركها اعتمادا على بصرك، ولست
تاركا إيصاءك بخصلة! لا تترك شتم على وذمه، والترحم على عثمان والاستغفار
له، والعيب على أصحاب على والاقصاء لهم.. إلخ (2). وظل المغيرة سبع سنين
وأشهرا في الكوفة لا يدع شتم على والوقوع فيه والنيل منه.

(1) ص 291 و 292 ج 1 من أمالي المرتضى.
(2) راجع حوادث سنة 51 ه‍ من الطبري ج 6 ص 108 وابن الأثير ص 202 ج 3.
وصف كارل بروكلمان المغيرة بن شعبة بأنه رجل انتهازي لا ذمة له ولا ذمام - ص 145 ج 1
تاريخ الشعوب الاسلامية.
198

وأما عمرو بن العاص فقد استطاع أن ينتزع حقه في ولايته على مصر، فإنه
بعد أن افتتحها بشجاعته وحسن سياسته في عهد عمر بن الخطاب ولاه عمر
عليها، وجاء عثمان فعزله وولى بدله عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وهو أخو
عثمان في الرضاعة (1).
ولقد كان من ضروب التأييد التي كان معاوية في حاجة شديدة إليها،
وضع أحاديث عن النبي صلى الله عليه وآله تشيد بذكره وذكر قومه، وتغض من قدر على
رضي الله عنه، ومن أجل ذلك وضع نفرا من الصحابة وغيرهم ليقوموا بذلك وكان
منهم أبو هريرة الذي ألفنا فيه هذا الكتاب.
قال أبو جعفر الإسكافي (2) رحمه الله: إن معاوية وضع قوما من الصحابة
وقوما من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علي عليه السلام تقتضي الطعن فيه
والبراءة منه، وجعل لهم على ذلك جعلا يرغب في مثله، فاختلقوا ما أرضاه،
منهم (أبو هريرة) وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة، ومن التابعين عروة
ابن الزبير.
وروى الزهر أن عروة بن الزبير حدثه قال: حدثتني عائشة قالت:
كنت عند رسول الله إذ أقبل العباس وعلى فقال: يا عائشة إن هذين يموتان على
غير ملتي! أو قال: ديني! وروى عبد الرزاق عن معمر قال: كان عند
الزهري حديثان عن عروة عن عائشة في علي، والحديث الثاني زعم فيه أن
عائشة حدثته قالت: كنت عند النبي إذ أقبل العباس وعلى فقال: يا عائشة
إن سرك أن تنظري إلى رجلين من أهل النار، فانظري إلى هذين قد طلعا،
فنظرت فإذا العباس وعلي بن أبي طالب.
وأما عمرو العاص فقد أخرج له الشيخان هذا الحديث قال: سمعت

(1) دخل عمرو بن العاص على عثمان بعد عزله وعليه جبة محشوة فقال له عثمان: ما حشو
جبتك يا عمرو؟ فقال: أنا، قال: قد علمت أنك فيها! ثم قال له: يا عمرو أشعرت أن اللقاح
درت بعدك ألبانها؟ فقال: لأنكم أعجفتم أولادها. فكنى عثمان عن خراج مصر باللقاح، وكنى
عمرو عن جور الوالي بإعجاف الأولاد.
(2) ص 358 ج 1 انظر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد.
199

رسول الله يقول: إن آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء، إنما ولي الله وصالح
المؤمنين.
أما أبو هريرة، فلم يقف عند وضع أحاديث في الطعن في علي وإنما زاد
في وضع أحاديث ترفع من شأن آل أبي العاص عامة ومعاوية خاصة، وستري ذلك
قريبا.
هؤلاء بعض من ظاهروا معاوية بألسنتهم ورواياتهم التي نسبوها إلى
النبي صلى الله عليه وآله.
أما الذين ناصروا معاوية بسيوفهم فهم ألوف عديدة. ومنهم وا أسفا من
الصحابة (1) كثيرون.
ولنعد بعد ذلك إلى موضوعنا من بيان تشيع أبي هريرة لبني أمية بعد أن
وطأنا له بما وطأنا. وقبل ذلك نقدم هذه الصفحة.

(1) من غرائب كتاب مسلم!
لكي يدرؤا التهم عن بعض الصحابة الذين فتنتهم الدنيا أوردوا حديثا يقول: " أصحابي
كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم "، وهذا الحديث لا أصل له، ولهذا الحديث قصة جرت بيني وبين
الناصبي محب الدين الخطيب فإنه عندما ظهر كتابي الأضواء واطلع فيه على فصل عدالة الصحابة
قابلني غاضبا وقال: كيف تذكر ذلك بعد أن قال فيهم النبي صلى الله عليه وآله " أصحابي كالنجوم - الحديث "
فقلت له إنك قد أوردت هذا الحديث في تعليقاتك على كتاب (المنتقى) للذهبي ص 71 على أنه
صحيح وقد طعنوا فيه، ومن كبار الطاعنين ابن تيمية فاشتد غضبه وقال: في أي موضع هذا الطعن؟
فقلت له في نفس كتابك (المنتقى)! فكاد يتميز من الغيظ وقال: في أية صفحة قلت له في صفحة
551 وفيها يقول ابن تيمية " وحديث أصحابي كالنجوم ضعفه أئمة الحديث فلا حجة فيه " وما كاد
يقرأ هذا الكلام الذي أثبته هو بنفسه في كتاب حققه ونشره بين الناس حتى بهت واصفر وجهه، وقد
قلت له قبل أن أغادر مجلسه، إن كتاب المنتقى هذا سيسجل عليك هذا الجهل وهذه الوصمة إلى يوم القيامة.
وبمناسبة التشيع لمعاوية والتقرب إليه برواية أحاديث مكذوبة على النبي صلى الله عليه وآله ترفع من شأنه نسوق
إليك حديثا رواه مسلم في صحيحه!! معناه أن أبا سفيان بن حرب طلب من النبي صلى الله عليه وآله
أن يزوجه ابنته أم حبيبة وأن يجعل معاوية كاتبا بين يديه إلخ الحديث، وقد ذكر أئمة الحديث
أن هذا الحديث باطل بالاجماع لان أبا سفيان قد دخل في الاسلام يوم فتح مكة بالاجماع،
أما ابنته أم حبيبة واسمها رملة، فقد أسلمت قبل الهجرة وحسن إسلامها، وكانت ممن هاجر إلى الحبشة
هربا من أبيها، وقد تزوجها رسول الله وأبوها كافر، ولما بلغه هذا الزواج قال كلمته المشهورة
" ذلك الفحل لا يجدع أنفه " ص 16 من تفسير سورة الاخلاص لشيخ الحنابلة ابن تيمية والذي يلقب
عند الجمهور بشيخ الاسلام. ويراجع كتابنا أضواء على السنة المحمدية للاطلاع على فصل عدالة الصحابة.
200

نشأة الاختراع في الرواية والوضع على رسول الله صلى الله عليه وآله
قبل أن نتكلم عن مناصرة أبي هريرة لمعاوية بما كان يقدم له من أحاديث
يرفعها إلى النبي صلى الله عليه وآله، لابد لنا أن نبين كيف كان أمر الرواية عن رسول
الله في ذلك العهد وأنها كانت تصدر ممن يريدها بغير ضابط ولا قيد لا يخشى
في ذلك شيئا، لان أحاديث الرسول صلوات الله عليه، لم يكن لها أصل محفوظ
يرجع في تحقيقها وبيان صحتها إليه (1).
أجمع الباحثون على أن نشأة الاختراع في الرواية ووضع الحديث على
رسول الله صلى الله عليه وآله إنما كان في أواخر عهد عثمان وبعد الفتنة التي أودت بحياته،
ثم اتسع الاختراع واستفاض بعد مبايعة على رضوان الله عليه، فإنه ما كاد
المسلمون يبايعونه بيعة صحيحة، حتى ذر قرن الشيطان الأموي ليغتصب الحق من
صاحبه ويجعلها أموية، وإليك كلمة صادقة دقيقة كتبها الأستاذ الإمام محمد
عبده في مقدمة رسالة التوحيد، وذلك بعد أن تكلم عن الفتنة الكبرى التي
" هوى فيها ركن عظيم من هيكل الخلافة واصطدم الاسلام وأهله صدمة زحزحتهم
عن الطريق التي استقاموا عليها "، قال رضي الله عنه:
" توالت الاحداث بعد ذلك ونقض بعض المبايعين للخليفة الرابع (2) ما
عقدوه، وكانت حروب بين المسلمين انتهى فيها أمر السلطان إلى الأمويين!
غير أن بناء الجماعة قد انصدع، وانفصمت عرى الوحدة بينهم، وتفرقت بهم
المذاهب في الخلافة، وأخذ الأحزاب في تأييد آرائهم، كل ينصر رأيه على رأى
خصمه بالقول والعمل، وكانت نشأة الاختراع في الرواية والتأويل، وغلا كل
قبيل فافترق الناس إلخ " (3).

(1) قد فصلنا القول في أمر تدوين الحديث ومتى بدأ وما أصابه قبل التدوين وبعده في كتابنا
(الأضواء) راجع الطبعة الثالثة منه.
(2) يشير إلى ما فعله طلحة والزبير من نقضهما البيعة.
(3) ص 7 و 8 من الطبعة الأولى.
201

وقال رضي الله عنه: لم يرزأ الاسلام بأعظم مما ابتدعه المنتسبون إليه،
وما أحدثه الغلاة من المفتريات عليه، فذلك ما جلب الفساد على عقول المسلمين
وأساء ظنون غيرهم فيما بنى عليه الدين.
وإن عموم البلوى بالأكاذيب حق على الناس بلاؤه في دولة الأمويين!
فكثر الناقلون، وقل الصادقون، وامتنع كثير من أجلة الصحابة عن الحديث
إلا لمن يثقون بحفظه (1).
ولقد كان من عموم البلوى بالأكاذيب الذي حق على الناس بلاؤه في دولة
الأمويين - وأشار إليه الأستاذ الامام في كلامه ما صنعه معاوية لنفسه - بأن
وضع قوما من الصحابة والتابعين على رواية أخبار قبيحة على علي عليه
السلام تقتضي الطعن فيه والبراءة منه وجعل لهم على ذلك جعلا يرغب في مثله
فاختلقوا ما أرضاه، منهم أبو هريرة (2).
وقال الدكتور أحمد أمين في كلامه عن اتخاذ الحديث وسيلة للأغراض
السياسية وغيرها وعن نفاق بعض المحدثين في كتابه ضحى الاسلام بالصفحة
123 من الجزء الثاني.
ويسوقنا هذا إلى أن نذكر هنا أن الأمويين فعلا قد وضعوا، أو وضعت
لهم أحاديث تخدم سياستهم من نواح متعددة، منها أحاديث في زيادة مناقب
عثمان - إذ كان هو الخليفة الأموي من الخلفاء الراشدين، وهم به أكثر اتصالا
مثل حديث: إن عثمان تصدق بثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها في جيش العسرة
فنزل رسول الله من على المنبر وهو يقول: ما على عثمان ما عمل بعد هذه! ما على
عثمان ما عمل بعد هذه!. وروى الطبري أن معاوية بن أبي سفيان لما ولى المغيرة
ابن شعبة الكوفة في جمادى سنة 41 دعاه وقال له:
أردت إيصاءك بأشياء كثيرة فأنا تاركها اعتمادا على بصرك بما يرضيني،
ويسعد سلطاني ويصلح به رعيتي، ولست تاركا إيصاءك بخصلة، لا تتحم!
(أي لا تتجنب) عن شتم على وذمه والترحم على عثمان والاستغفار له، والعيب
على أصحاب على، والاقصاء لهم، وترك الاستماع منهم، وبإطراء شيعة عثمان

(1) ص 347 ج 2 تاريخ الأستاذ الامام.
(2) ص 176 من هذا الكتاب.
202

والادناء لهم والاستماع منهم..
فأقام المغيرة على الكوفة عاملا لمعاوية سبع سنين وأشهرا وهو من أحسن
شئ سيرة وأشده حبا للعافية، غير أنه لا يدع ذم على والوقوع فيه.. الخ..
ص 141 ج 6 من الطبري.
ولم يكتف معاوية بذلك بل أحدث (القصص) ليعزز به أسلحة الدعاية
له ولم يكن معروفا قبله، فسخر الألوف لذلك وبثهم بين أرجاء البلاد ليقصوا له
ما يشد له دولته وما يحفظ به سلطانه، بله ما ينشرون من خرافات وأباطيل
مما جلب الفساد على عقول المسلمين، وأساء ظنون غيرهم فيما بنى عليه الدين.
كما ذكر ذلك الأستاذ الامام.
معاوية هو الذي أحدث القصص
أخرج الزبير بن بكار في أخبار المدينة عن نافع وغيره من أهل العلم قالوا:
لم يقص في زمان النبي صلى الله عليه وآله ولا في زمان أبى بكر ولا زمان عمر، وإنما القصص
محدث، أحدثه معاوية حتى كانت الفتنة (1)، وقد فتح الباب للقصاص
في المساجد والمحافل ليقصوا له ما يهواه.
وأخرج ابن أبي شيبة والمروزي عن ابن عمر قال: لم يقص على عهد النبي
صلى الله عليه وآله ولا عهد أبى بكر ولا عهد عمر ولا عهد عثمان، إنما كان القصص حيث
كانت الفتنة (2).
وقال أبو قلابة: ما أمات العلم إلا القصاص، وقال أحمد بن حنبل:
أكذب الناس السؤال والقصاص (3)، وأخرج العقيلي عن عاصم قال: كان
أبو عبد الرحمن يقول: اتقوا القصاص!

(1) ص 63 من كتاب تحذير الخواص من أكاذيب القصاص.
(2) ص 67 من نفس المصدر.
(3) ص 70 من نفس المصدر ويراجع كتابنا الأضواء للوقوف على مبلغ ضرر القصص
والقصاص.
203

وبين الدكتور أحمد أمين صورة هذا القصص فقال: يجلس القاص
في المسجد وحوله الناس فيذكرهم بالله ويقص عليهم حكايات وأحاديث
وقصصا عن الأمم الأخرى وأساطير ونحو ذلك. لا يعتمد فيها على الصدق بقدر
ما يعتمد على الترغيب والترهيب. قال الليث بن سعد " هما قصصان، قصص
العامة، وقصص الخاصة، فأما قصص العامة فهو الذي إليه النفر من الناس
يعظهم ويذكرهم فذلك مكروه لمن فعله ولمن استمعه، وأما قصص الخاصة
فهو الذي جعله معاوية، ولى رجلا على القصص، فإذا سلم من صلاة الصبح
جلس وذكر الله عز وجل وحمده ومجده وصلى على النبي صلى الله عليه وآله ودعا للخليفة
ولأهل ولايته وحشمه وجنوده، ودعا على أهل حربه وعلى المشركين كافة (1).
ولابد أن نشير هنا إلى منبعين كبيرين لهؤلاء القصاص وأمثالهم تجد
ذكرهما كثيرا في رواية القصص وفى التاريخ وفى الحديث وفى التفسير هما:
وهب بن منبه وكعب الأحبار (2).
هل كان معاوية من كتاب الوحي؟
وهذه صفحة نختم بها الكلام هنا عن (الوضع الأموي) في السياسة والدين
وهي تحمل مثلا من هذا الوضع يقاس عليه. ذلك أنهم أرادوا أن يزدلفوا إلى
معاوية فجعلوه من (كتاب الوحي) وأمعنوا في هذا الازدلاف، فرووا أنه كتب
آية الكرسي بقلم من ذهب جاء به جبريل هدية لمعاوية له من فوق العرش (3)،
وقد فشا هذا الخبر بين كثير من الناس على حين أنه في نفسه باطل، تأباه
البداهة ويدفع من صدره العقل! إذ كيف يأمن النبي صلى الله عليه وآله لمثل معاوية
على أن يكتب له ما ينزل في القرآن! وهو وأبوه وأمه ممن أسلموا كرها. ولما
يدخل الايمان في قلوبهم!

(1) نقل الدكتور أحمد أمين كلام الليث بن سعد عن خطط المقريزي جزء 2 ص 253 طبعة
أميرية.
(2) ص 196 و 197 فجر الاسلام.
(3) ص 201 من كتاب النصائح الكافية لابن عقيل العلوي.
204

إن هذا مما لا يمكن أن يقبله العقل السليم! وأما من ناحية النقل فإنه لم يأت
فيه خبر صحيح يؤيده، ولقد كان على الذين (وضعوا) هذا الخبر أن يسندوه ببرهان
يؤيده وذلك بأن يأتوا ولو بآية واحدة قد نزلت في القرآن وكتبها معاوية!
على أننا لا نستعبد أن يكون قد كتب للنبي صلى الله عليه وآله في بعض الاغراض
التي لا تتصل بالوحي، لان هذا من الممكن، أما أن يكتب شيئا من القرآن
فهذا من المستحيل. قال المدائني كان زيد بن ثابت يكتب الوحي وكان معاوية
يكتب للنبي صلى الله عليه وآله فيما بينه وبين العرب (1).
ومن العجيب أن يظل هذا الزعم الباطل يأخذ مكانه من بعض الأذهان
في هذا العصر ويسلم به حتى في بعض الجامعات.
ففي ذات يوم كنت في زيارة الأستاذ الفاضل الدكتور عبد الجبار المطلبي
المستشار الثقافي بالسفارة العراقية بمصر (سابقا) فقال لي: هل لك إلى أن تشهد
امتحانا لاحد الطلبة العراقيين في رسالة قدمها إلى جامعة القاهرة لكي ينال
عليها درجة دكتور في الأدب - موضوعها (بلاغة القرآن وإعجازه) فأغراني
جلال الموضوع بأن أحضر هذا الامتحان، وفى الموعد المحدد له التقيت بالدكتور
عبد الجبار في قاعة الامتحان وكانت غاصة بالحضور، وأخذت أستمع لما يقال
من الطالب وممتحنيه في إنصات حتى انتهت المناقشة.
وقد بدت لي بعض ملاحظات مما جرى بين الطالب وأساتذته حفظتها كلها
لنفسي، ولكني لم أملك أن أسكت عن ملاحظتين على هذا الطالب، وما
لبثت أن واجهته بهما بمحضر من كانوا في القاعة جميعا (2).

(1) ص 113 ج 6 من الإصابة لابن حجر. وقبل ابن حجر ذكر الذهبي عن أبي الحسن الكوفي
قال: كان زيد بن ثابت كاتب الوحي وكان معاوية كاتبا فيما بين النبي وبين العرب. ص 81 ج 3
سير أعلام النبلاء.
(2) خطر بذهني بعد ما رأيت ما رأيت في مناقشة هذه الرسالة، وفى مناقشة رسالة أخرى مثلها
بجامعة الأزهر عبارة قالها العقاد عندما طلب منه أن يتقدم إلى جامعة القاهرة لكي ينال منها لقبا
علميا رسميا لأنه عار من الألقاب العلمية الرسمية والشأن في بلادنا إنما هو (للشهادة) لا للعلم،
حتى قالوا: شهادة بلا علم خير من علم بلا شهادة - فكان جوابه: دلوني أولا على أسماء الذين سيتولون
امتحاني لكي أعرفهم وأعرف مبلغهم من العلم! وبعد ذلك أنظر في التقدم للامتحان أمامهم! رحم الله
العقاد ورحم من في طبقته، أولئك الغر الميامين، أئمة العلم والأدب المحققين.
205

إحداهما: أنه جعل معاوية من كتاب الوحي، وقد سألته من أين جاء بهذا
الخبر الذي لا يصح عند العلماء المحققين؟
فقال: لقد نقلته عن ابن القيم! وسكت!
والآخر: أنه لم يذكر كتاب (إعجاز القرآن للرافعي) بين المصادر التي
رجع إليها في رسالته، ولما سألته عن ذلك قال: إني لم أعرف هذا الكتاب!
وقد هالني هذا الجواب إذ كيف يفوت طالب يبحث في إعجاز القرآن
وبلاغته أن يطلع على هذا المصدر العظيم وهو أقوى وأبلغ مصدر في موضوعه،
وكيف يقول إنه لم يطلع عليه، وقد ذاعت شهرته بين جميع الآفاق الاسلامية،
وحسبه من الوصف أن قال فيه الزعيم الكبير سعد زغلول: " كأنه تنزيل من
التنزيل، أو قبس من نور الذكر الحكيم "
ومن الغريب أنى لم أسمع من أحد من الممتحنين سؤالا عن أمر معاوية وعلى
أي دليل ارتكن عليه في إثبات أنه كان من كتاب الوحي! وكذلك لم يسألوه
عن كتاب إعجاز القرآن للرافعي وكيف لا يذكره بين المصادر التي رجع
إليه وكأنهم هم كذلك لا يعرفونه!
وإذا كان ما قاله هذا الطالب عن معاوية غريبا فإن جهله بكتاب الرافعي.
أغرب وأعجب! ومن أجل ذلك لا يصح أن يؤاخذ بما يقع منه من خطأ،
وليترك في شفاعة الجهل الذي هو أكبر شفيع في هذا العصر - وسبحان الخلاق
العظيم.
وقال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة:
وكان معاوية أحد كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله، واختلف في كتابته له كيف
كانت، فالذي عليه المحققون من أهل السير أن الوحي كان يكتبه علي عليه
السلام، وزيد بن ثابت، وزيد بن أرقم، وأن حنظلة بن الربيع التيمي ومعاوية
ابن أبي سفيان كانا يكتبان له إلى الملوك وإلى رؤساء القبائل، ويكتبان حوائجه
بين يديه، ويكتبان ما يجبى من أموال الصدقات، وما يقسم في أربابها (1).

(1) ص 338 ج 1.
206

هذا بيان لبعض ما كان يتخذه معاوية من وسائل لدعم حكمه الباطل،
ولو أن كتابنا هذا قد كسر على إحصاء فعلاته وما اقترف في أيام حكمه لملأنا
من ذلك أسفارا.
ولنعد إلى الكلام في أبي هريرة وما قدم لتأييد الحكم الأموي - وهو موضوع
كتابنا هذا.
تشيع أبي هريرة لمعاوية
علمت من تاريخ أبي هريرة الذي سقناه إليك أنه - كما صرح هو
بلسانه - لم يصاحب النبي إلا على ملء بطنه، وأنه لفقره قد اتخذ الصفة ملاذا
له يأكل فيها من فضلات الناس وصدقاتهم.
وقد ظل على فقره حياة النبي وعهد أبى بكر وعمر - إلى أن فشا له مال بعد
أن تولى البحرين في أواخر عهد عمر، ومن ثم أخذ يظهر بعد انزوائه، ويبدو
بين الناس بعد خفائه.
ولما شبت نيران الحرب بين على رضي الله عنه، وبين معاوية، وإن شئت
فقل، لما انبعث الصراع بين الأموية والهاشمية، بعد أن توارى فرقا من القوة
زمن النبي وأبى بكر وعمر - كما أوضحنا ذلك من قبل - وافترق المسلمون فرقا
كثيرة منذ أواخر عهد عثمان - مال أبو هريرة إلى الناحية التي يسكن إليها طبعه،
وتتفق مع هوى نفسه، وهي ولا ريب ناحية معاوية، إذ كانت تملك من أسباب
السلطان والمال، ومظاهر الترف والنعيم، ما لا تملك بعضه ولا قليلا منه ناحية
على، التي ليس فيها إلا الفقر والجوع والزهد وما إلى ذلك مما شبع منه أبو هريرة!
فاتخذ سبيله إلى رحاب معاوية، ليشبع نهمه من ألوان موائده الشهية (2)،

(1) روى ابن طباطبا المعروف بابن الطقطقي في كتابه الفخري ص 79 أن معاوية كان
يأكل كل يوم خمس أكلات وآخرهن أغلظهن ثم يقول: يا غلام أرفع فوالله ما شبعت، ولكني مللت،
أنه أكل عجلا مشويا مع دشت من الخبز السميذ وأربع فرأى وجديا حارا وآخر باردا سوى الألوان
أما رواية ابن كثير في البداية والنهاية (ص 119 ج 8) فهي: أن معاوية كان يأكل في اليوم
سبع أكلات بلحم، ومن الحلوى والفاكهة شيئا كثيرا ويقول: ما أشبع وإنما أعيا.
وقد كان عظيم العناية بأطايب الخوان، وكان يأكل ويشرب في آنية الذهب والصحاف المرصعة
بالجوهر.
وقد روى أحمد ومسلم عن ابن عباس أن رسول الله قال له يوما: اذهب فادع معاوية، فذهبت
فدعوته فقيل: إنه يأكل، فأتيت رسول الله فقلت: إنه يأكل، فقال: اذهب فادعه، فأتيته الثانية
فقيل: إنه يأكل، فأخبرته، فقال في الثالثة: لا أشبع الله بطنه فما شبع بعدها - إذ قد استجيبت
دعوة النبي فيه..
وإليك وصفا لبعض طعام معاوية يرويه لك الأحنف بن قيس قال:
دخلت على معاوية فقدم لي من الحار والبارد والحلو والحامض ما كثر تعجبي منه، ثم قدم لونا
لم أعرف ما هو، فقلت: ما هذا؟ فقال مصارين البط محشوة بالمخ قد قلى بدهن الفستق، وذر عليه
بالطبر زد * فبكيت، فقال: ما يبكيك؟ قلت: ذكرت عليا، بينا أنا عنده، وحضر وقت
الطعام وإفطاره وسألني المقام، فجئ له بجراب مختوم، فقلت: ما في هذا الجراب؟ قال سويق
شعير، قلت: خفت عليه أن يؤخذ؟ أم بخلت به؟ فقال: لا، ولا أحدهما ولكني خفت أن يلته
الحسن والحسين بسمن أو زيت. فقلت: محرم هو يا أمير المؤمنين؟ فقال: لا ولكن يجب على أئمة
الحق أن يعدوا أنفسهم من ضعفة الناس لئلا يطغى الفقير فقره. فقال معاوية: ذكرت ما لا ينكر
فضله (ص 243 و 244 ج 1 من كتاب " نثر الدرر " تأليف الوزير أبى سعيد منصور بن الحسين
الآبي المتوفى سنة 422 ه‍. والكتاب مخطوط بدار الكتب المصرية رقم 2604).
207

ويقضى وطره من رفده وصلاته وعطاياه السنية.
وإذا كان قد بلغ من فاقة أبي هريرة وجوعه أن يخر - كما أعرب هو عن
نفسه مغشيا عليه (1) من الجوع فهل تراه يدع دولة بنى أمية ذات السلطان
العريض، والأطعمة الناعمة الفاخرة، وينقلب إلى على الذي كان طعامه سويق
الشعير؟
إن هذا لمما تأباه الطباع البشرية، ولا يتفق والغرائز النفسية، اللهم إلا من
عصم ربك، وقليل ما هم.

(1) من قول أبي هريرة - كما روى البخاري - لقد رأيتني وإني لاخر فيما بين منبر رسول الله إلى
حجرة عائشة مغشيا على فيجئ الجائي فيضع رجله على عنقي ويرى أنى مجنون، وما بي من جنون! ما بي
إلا الجوع.
* الطبرزد وزان سفرجل نوع من أنواع السكر.
208

وقد آن لنا أن نعرض عليك قصة أبي هريرة مع آل أبي العاص عامة وسائر
بنى أمية ومعاوية خاصة - كما وعدناك من قبل - ثم نردف ذلك ببيان بعض
ما قدمه لهم جميعا من مرويات وغير مرويات.
كيف اتصل أبو هريرة بدولة بنى أمية
لاتصال أبي هريرة بدولة بنى أمية قصة عجيبة نقصها عليك، ولا ريب في
أنها ستروعك بفصولها.
ذلك أنه لما رأى أن بنى أمية قد وثبوا على الحكم، وقبضوا على زمامه بعد
مقتل على رضي الله عنه، وأنهم قد أصبحوا ملوكا على بلاد المسلمين، بيدهم
الأمر والنهي، والحل والعقد، والرفع والخفض، اندفع بسائق من طبيعته إلى
انتهاز هذه الفرصة التي سنحت لبغاة المغانم، وطلاب الرغائب، ولم يلبث أن
رنا إلى غرض وضعه نصب عينيه، وآل على نفسه ليبلغنه بأية وسيلة حتى يصل
إليه - وهذا الغرض أن يتخذ له مكانا في هذه الدولة الجديدة يجعل له شأنا بين
الناس بعد أن كان مغمورا في زمن النبي وخلفائه الأربعة، وبذلك يتمكن من
أن يشارك في أسلابها ويساهم في مغانمها - وأنى له ذلك وهو يومئذ في الساقة
من عامة الصحابة، ليس له - كما علمت من تاريخه -.. شأن يذكر، ولا عمل
يؤثر، فلم يكن من دهاة السياسة، ولا من أبطال الحروب، وليس هو بشاعر
ولا خطيب، ممن تحتاج إليهم الدولة إبان نشأتها، وبخاصة مثل دولة بنى
أمية الباغية التي قامت على أساس غير سليم، وسارت في طريق غير مستقيم.
من أجل ذلك كان عليه هو - بما يعرف من نفسه - أن يطب لهذا
الامر ويتخذ له السبيل التي تنتهي به إلى مبتغاه، فوجد أن هذه الدولة الناشئة
وإن كانت قد أقامت بناءها على قواعد من الدهاء والمداورة والظلم والبغي -
بحاجة شديدة إلى دعم هذا البناء حتى لا ينهار، فيخرج الناس عليهم، وينفضوا
من حولها، ويخلعوا أيديهم من طاعتها، ولا يكون ذلك إلا بأسانيد قوية تحميها
من العوادي، وإن أقوى هذه الأسانيد بعد القوة المادية ولا ريب، أن تكون من
209

قبل الشخصية العظمى التي تعنو لها الجباه، وتخضع لها الرقاب، تلك هي
شخصية محمد صلى الله عليه وآله فيروي لها من أحاديثه ما يؤيدها، ويشد أزرها، وقد كان
الحديث النبوي يومئذ - وإلى اليوم - أقوى سلاح وأشده في سبيل تأييد الدعوات
والادعاءات! سواء للأفراد أو للجماعات في البلاد الاسلامية كافة.
ولما أحكم هذا الرأي، وتمثلت له هذه الحقيقة، أخذ على نفسه أن يعد هو
هذا السلاح لدولة بنى أمية، ويكفهم مؤونته، فيمدهم بالأحاديث التي
تؤيدهم، وتصرف وجوه الناس عن عدوهم - وعدوهم حينئذ كان عليا رضي الله عنه.
وقد وطأ لذلك بأن أظهر لهم - وللناس - أنه قد ظفر وحده من النبي بما
يجعله يمتاز من سائر الصحابة برواية أحاديثه صلى الله عليه وآله فزعم في أول الامر أن
النبي قد غرف له في ثوبه غرفتين، من نفحاته، صيرتاه - من دون الصحابة
جميعا - الحفظة لكل ما يتحدث به النبي، فلا يند عنه شئ يصافح أذنيه
ويؤديه كما سمعه - وبذلك يكون هو وحده المرجع الصحيح لكل ما جاء عن
النبي من حديث - ثم أردف ذلك بزعم آخر فقال: إنه قد حفظ عن النبي
(وعاءين)، وعاء بثه، والآخر استحفظه (!) النبي فيه من سره، مما حجبه
عن غيره، ثم ختم قصته هذه العجيبة بحديث (المزود).
وقد أعانه على ذلك كله أن أحاديث الرسول - لم تكن كما قلنا مدونة
محفوظة كالقرآن الكريم بحيث لا يستطيع أحد أن يزيد فيها، أو ينقص منها.
وبذلك كان باب (الوضع) مفتوحا على مصراعيه، يدخل فيه كل من أراد
الوضع - ثم ساعده كذلك، أن كبار الصحابة الذين يخشاهم كانوا قد ماتوا
في عهد معاوية وبخاصة عمر الذي منعه من الرواية وأنذره بالنفي إلى بلاده، إذا
هو روى، وكان يضربه بدرته لرواية الحديث حتى صرح أبو هريرة نفسه
بأنه ما كان يستطيع أن يروى الحديث وعمر حي.

(1) يقال: استحفظه مالا أو سرا أي عنده حفظه.
210

1 - حديث بسط الثوب:
جعل أبو هريرة ظاهر هذا الحديث دفاعا عن نفسه، مما كانوا يتهمونه به
من كثرة أحاديثه، كما تبين لك من قبل، وباطنه أن يثبت أنه قد بلغ من
حفظ أحاديث رسول الله غاية لم يبلغها أحد من سائر الصحابة أجمعين.
روى البخاري (1) وغيره عنه أنه قال: إنكم تقولون إن أبا هريرة يكثر
الحديث عن رسول الله، ويقولون: ما بال المهاجرين والأنصار لا يحدثون عن
رسول الله بمثل حديث أبي هريرة، وإن إخوتي من المهاجرين كان يشغلهم
الصفق بالأسواق - وكنت ألزم رسول الله على ملء بطني، فأشهد إذا غابوا
وأحفظ إذا نسوا، وكان يشغل إخوتي من الأنصار عمل أموالهم، وكنت امرأ
مسكينا من مساكين الصفة أعي حين ينسون. وقد قال رسول الله في
حديث يحدثه: إنه لن يبسط أحد ثوبه حتى أقضى مقالتي هذه ثم يجمع
إليه ثوبه إلا وعى ما أقول، فبسطت نمرة (2) على حتى إذا قضى رسول الله
مقالته جمعتها إلى صدري، فما نسيت من مقالة رسول الله تلك من شئ.
يذكر أبو هريرة في هذا الحديث أنه هو الذي بسط نمرته، ولكن الذهبي
يروى عنه حديثا يدل على أن النبي هو الذي نزع نمرة أبي هريرة من على ظهره،
وبسطها بينه وبين أبي هريرة!
وهاك ما قاله الذهبي (3) من حديث سعد بن أبي هند عن أبي هريرة، أن
رسول الله قال:
ألا تسألني من هذه الغنائم التي يسألني أصحابك؟ قلت أسألك أن تعلمني
مما علمك الله، فنزع نمرة (4) كانت على ظهري فبسطها بيني وبينه حتى كأني
أنظر إلى القمل يدب عليها (أعوذ بالله) فحدثني حتى استوعبت حديثه قال:

(1) ص 231 ج 4 فتح الباري.
(2) ص 275 ج 13 من فتح الباري " فبسطت بردة كانت على " وفى الرواية التي ستأتيك أن
النبي قال له: ابسط رداءك.
(3) ص 429 ج 2 سير أعلام النبلاء.
(4) النمرة شملة فيها خطوط بيض وسود.
211

أجمعها فصرها إليك فأصبحت لا أسقط حرفا مما حدثني.
وعن المقبري عن أبي هريرة قال: قلت لرسول الله، إني سمعت منك
حديثا كثيرا - فأنساه - فقال: ابسط (رداءك) فبسطته فغرف بيديه فيه،
ثم قال: ضمه، فضممته فما نسيت حديثا بعده (1).
ولأن حديث (بسط الثوب) مهم في تاريخ أبي هريرة، واختلفت رواياته،
وهو في نفسه يعتبر خرافة أو من أهم غرائبه، ولم نر أحدا - وا أسفا - قد
ناقش هذا الحديث مناقشة علمية تحليلية غير العلامة الكبير الأستاذ عبد الحسين
شرف الدين في كتابه (أبو هريرة)، فقد رأينا أن نمد القراء بملخص (2) لما
ناقش به هذا الحديث لان كلامه في ذلك طويل. قال رحمه الله:
إن لنا على بطلان هذا الحديث وجوها:
الأول: أنه زعم أن المهاجرين كان يشغلهم عن النبي الصفق بالأسواق،
والأنصار كان يشغلهم علم أموالهم (3)، فساق السابقين الأولين من المهاجرين
والأنصار كافة بعصا واحدة. وأي قيمة للقول بأن جميع المهاجرين كان يلهيهم
الصفق بالأسواق! بعد قوله تعالى: " رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر
الله " الآية. وهل لمعارض كتاب الله إلا الضرب بعرض الجدار.
ومن هو أبو هريرة ليحضر حين يغيب الخصيصون برسول الله، ويحفظ
حين ينسون؟ يقول هذا القول بملء فيه غير متئد ولا خجل ولا وجل، إذ قاله
في عهد معاوية وحيث لا عمر ولا عثمان ولا على ولا طلحة ولا الزبير، ولا سلمان
(الفارسي) ولا عمار ولا المقداد، ولا أبو ذر ولا أمثالهم.
يدعى ذلك وهو يدرك أن الناس يعلمون موضع على من رسول الله بالقرابة
القريبة والمنزلة الخصيصة، وضعه في حجره وهو ولد. ويرفع له في كل يوم من
أخلاقه علما، وكان بعد ذلك أقضى أمته وعيبة سره، ووارث حكمته..

(1) ص 56 ج 4 ق 2 طبقات ابن سعد.
(2) من أراد أن يقف على كل ما قاله العلامة شرف الدين فليرجع إلى كتابه " أبو هريرة "
وهو من الكتب القيمة.
(3) أي إدارة حدائقهم إذ كانوا أهل نخيل.
212

فهل يمكن أن ينسى من سننه ما حفظه أبو هريرة! أو يكتم منها ما بينه
أبو هريرة؟ سبحانك هذا بهتان عظيم!
على أنه لم يكن من المهاجرين من يصفق في الأسوق إلا القليل، وحسبك
أبو ذر والمقداد وعمار - ورفقاء أبي هريرة في الصفة وهم سبعون - كانوا كما
وصفهم أبو هريرة - ما منهم رجل عليه رداء. وإنما عليه إما إزار أو كساء
قد ربطوه في أعناقهم، إلى آخر كلامه في وصفهم (1) فما بالهم لم يحدثوا بمثل
أحاديثه؟ ولم يكثروا كما أكثر.
وكذا الأنصار لم يكونوا بأجمعهم من أهل الأموال والأشغال كما زعم،
وحسبك ممن لا مال لهم منهم سلمان الفارسي الذي قال رسول الله فيه: سلمان
منا أهل البيت.
وقال: كما في ترجمة سلمان من الاستيعاب: لو كان الدين عند الثريا
لناله سلمان (2).
وقالت عائشة: كان لسلمان مجلس من رسول الله ينفرد به في الليل حتى
كاد يغلبنا على رسول الله، وقال على: إن سلمان الفارسي مثل لقمان الحكيم،
علم علم الأول والآخر، بحر علم لا ينزف (3).
وقد علم الناس أن أبا أيوب الأنصاري لم يكن له من العيش إلا بلغة
لا تشغله عن علم ولا عمل، وكذلك أبو سعيد الخدري، وأبو فضالة الأنصاري،
وغيرهم من نظرائهم من علماء الأنصار وعظمائهم رضي الله عنهم.
على أن سيد الحكماء وخاتم الأنبياء لم تكن أوقاته فوضى، وإنما كانت في
الليل والنهار مرتبة للمهمات، على ما تقتضيه الحكمة في تلك الأوقات، وقد
خصص منها لالقاء العلم وقتا لا يعارض أوقات الصفق في الأسواق، ولا أوقات
العمل في الأموال، وكان المهاجرون والأنصار لا يغيبون في ذلك الوقت أبدا وهم
أحرص على العلم مما يخرفه المخرفون.

(1) سقنا كلامه هذا آنفا.
(2) لسلمان في مسند بقى ستون حديثا في البخاري أربعة وفى مسلم 3 ص 362 ج 1 سير
أعلام النبلاء. توفى بالمدائن سنة 36 ه‍.
(3) انظر ترجمة سلمان الفارسي في الاستيعاب لحافظ المغرب ابن عبد البر ص 572 ج 2.
213

الثاني: لو صح ما زعمه أبو هريرة من قول النبي لأصحابه: (لن يبسط أحد
منكم ثوبه) الحديث. لتسابقوا إليه، واجتمعوا بقضهم وقضيضهم عليه، فإنه
الفضل لا يبلغه الطالب بشد الرحال، والعلم لا يناله ببذل الأموال. وكيف
زهدوا في هذه الغنيمة، وضيعوا تلك الفوائد العظيمة.. الخ.
الثالث: لو صح ما زعمه أبو هريرة لعظم ندم الصحابة وأسفهم على
ما ضيعوه من ذلك الفضل الكبير والعلم الغزير، ولتواتر لهفهم على ما أهملوه من
بسط أثوابهم لرسول الله على حين أنه لا كلفة فيه ولا مشقة عليهم. ولتلاوموا على
تركهم ذلك بسوء اختيارهم. ولتواترت منهم الغبطة لأبي هريرة بالفوز به
دونهم - على أنه لم يكن عليه إلا ثوب واحد، وما منهم من أحد إلا وعليه
ثوبان، أو أكثر، فلما لم يكن شئ من ذلك، علمنا أن هذا من (كيس)
أبي هريرة (1).
الرابع: لو كان الامر كما قصه أبو هريرة لحدث به غيره ممن دعاهم النبي
إلى بسط أثوابهم ولعده الصحابة والتابعون من أعلام النبوة. ولتواترت به الاخبار
واشتهر اشتهار الشمس في رائعة النهار، فلما لم نجده إلا في حديث أبي هريرة
عطفناه على واهياته.
الخامس: أنه قد تناقض كلام أبي هريرة في هذه القصة، فتارة يروى
أن النبي قال يوما لأصحابه: لن يبسط أحد منكم ثوبه حتى أقضى مقالتي هذه
ثم يجمعه إلى صدره الحديث وفى آخره - فوالذي بعثه بالحق ما نسيت من مقالته
تلك شيئا إلى يومى هذا!
وتارة يقول: قلت يا رسول الله: إني أسمع منك الحديث أنساه قال صلى الله عليه وآله:
ابسط رداءك فغرف بيديه ثم قال: ضمه فضممته فما نسيت شيئا بعده]
وأنت ترى أن القصة على مقتضى الحديث الأول: أنها كانت بين رسول
الله وأصحابه، والمبتدئ فيها إنما كان رسول الله. إذ دعاهم إلى بسط أثوابهم

(1) يشير بذلك إلى ما رواه البخاري من أن أبا هريرة سئل مرة عن حديث، فقيل له:
يا أبا هريرة، سمعت هذا من رسول الله؟ فقال: لا، هذا، من كيس أبي هريرة (ص 413
ج 9 فتح الباري) وهذا الكيس ولا ريب غير " الوعاءين " الذين سيأتيك نبؤهما العجيب!
214

إشفاقا عليهم من النسيان، وإنها على مقتضى الحديث الثاني (حديث
المقبري)، إنما كانت بين أبي هريرة خاصة ورسول الله، والمبتدئ فيها إنما
هو أبو هريرة، حيث شكا نسيانه إلى رسول الله!
وأيضا فإن الحديث الأول يقتضى: تخصيص عدم النسيان بتلك الحالة
فقط (1) لقوله فيه: ما نسيت من مقالته تلك شيئا!
والحديث الثاني: يقتضى العموم في عدم النسيان لكل شئ من الأشياء،
حديثا كان أم غيره مطلقا لقوله فيه: ما نسيت شيئا بعده، فإن النكرة في سياق
النفي حقيقة في العموم - وقد ارتبك هنا شارحو البخاري، وارتجت عليهم
أبواب الاعتذار عنه، حتى قدر ابن حجر في فتح الباري وقوع هذه القصة
مرتين!
وقد أخرج مسلم هذا الحديث وقال فيه: فما نسيت بعد ذلك اليوم شيئا
حدثني به، وهذا يقتضى كون عدم النسيان أعم مما اقتضاه الحديث الأول
وأخص مما اقتضاه الحديث الثاني.
ونحوه حديث ابن سعد بسنده إلى عمرو بن مرداس بن عبد الرحمن الجندي
عن أبي هريرة قال: قال لي رسول الله: ابسط ثوبك فبسطته فحدثني النهار
ثم ضممت ثوبي إلى بطني فما نسيت شيئا مما حدثني، لكن قوله فيه: فحدثني النهار
لا يوجد في هذا الحديث إلا من هذا الطريق طريق الجندي فقط، وبه كان
مخالفا لكل ما جاء في هذا الموضوع من سائر الطرق إلى أبي هريرة (2).
وبعد أن أورد العلامة شرف الدين أحاديث غير ذلك فيها غرائب ومنها
حديث أخرجه أبو نعيم عن أبي هريرة: أن رسول الله قال: يا أبا هريرة:
ألا تسألني عن هذه الغنائم التي يسألني أصحابك (3) فقلت: أسألك أن تعلمني
مما علمك الله! قال: فنزعت نمرة (4) على ظهري - وفى حديث آخر (ليس

(1) وقع في جامع الترمذي وحلية أبى نعيم التصريح بهذه المقالة. وأنها كانت ما هذا لفظه
(ما من رجل يسمع كلمة أو كلمتين مما فرض الله عليه فيتعلمهن أو يعلمهن إلا دخل الجنة).
(2) ص 56 ق 2 ج 4 الطبقات الكبرى.
(3) كأنه كان وحده من دون الصحابة جميعا عفا قانعا لا يسأل عن الغنائم ولا يمد عنقه لها
(4) ص 429 ج 2 سير أعلام النبلاء.
215

على ثوب غيرها!) فبسطتها بيني وبينه - حتى كأنه أنظر إلى القمل يدب
عليها! فحدثني حتى استوعب حديثه قال: اجمعها فصرها إليك فأصبحت
لا أسقط حرفا مما حدثني.
وقول أبي هريرة: فبسطت نمرة ليس على ثوب غيرها (1) يقتضى على الظاهر
أن تبدو سوأته - وقد تأول القسطلاني وزكريا الأنصاري كلامه فحملاه على أنه
بسط بعض النمرة لئلا تنكشف عورته. ثم ختم كلامه بقوله:
وهذه الحكاية (حكاية بسط الثوب) في ذاتها تشبه قصص المخرفين،
ولا تكاد تمتاز عن خلط الدجالين - وحاشا لله أن تمتزج بمعجزات الرسول،
أو يصدق بنسبتها إليه أصحاب العقول، فإن معجزاته (ص) بهرت أولى النهى
بأنوار حقيقتها، وقهرت جبابرة الأرض بحسن أسلوبها، واعتدال طريقتها.
على أن من ألم بهذا الحديث - من جميع الطرق وجده مختلف الألفاظ
والمعاني باختلاف طرقه، لا تتجارى معانيه ولا ألفاظه إلى غاية، ولا تتساير في
حلبة، يصدم كل منها الآخر فإذا هو زاهق والحمد لله (2).
ضعف ذاكرة أبي هريرة:
وقبل أن ننتقل إلى الفصل الثاني من قصه أبي هريرة نلحق هذه الصفحات
بالفصل الماضي لاتصالها به.
كان أبو هريرة يذكر عن نفسه أنه كان كثير النسيان، لا تكاد ذاكرته
تمسك شيئا مما يسمعه، ثم يزعم أن النبي - كما علمت من بعض ما روى آنفا
- قد عرف له في نمرته غرفتين فأصبح لا ينسى شيئا يصل إلى أذنه، وذلك
لكي يسوغ كثرة أحاديثه ويثبت في الأذهان صحة كل ما يرويه.
على أن هذه الذاكرة القوية التي اختص بها أبو هريرة من دون الصحابة
جميعا، بل من دون ما ذرأ الله من الطباع الانسانية، قد خانته في مواضع

(1) راجع الحديث في البخاري في باب المزارعة وفيه " كنت امرأ مسكينا ألزم رسول الله
على ملء بطني - قال النبي يوما: لن يبسط أحد منكم ثوبه حتى أقضى مقالتي هذه ثم يجمعه في
صدره فينسى من مقالي شيئا أبدا، فبسطت نمرة ليس على غيرها - الحديث ص 22 ج 5 فتح الباري.
(2) ص 280 - 294 من كتاب أبي هريرة للعلامة شرف الدين.
216

متعددة، وأن ثوبه الذي بسطه قد تمزق فتناثر ما كان قد ضمه بين أطرافه،
والأمثلة على ذلك كثيرة، وإنا نكتفي بمثالين اثنين فقط!
لما روى أن رسول الله قال: لان يمتلئ جوف أحدكم قيئا ودما خير من أن
يمتلئ شعرا قالت عائشة: لم يحفظ! إنما قال: وأوردت الحديث كما سقناه
لك من قبل (1).
وقصة ذي اليدين التي رواها البخاري عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم
صلى الظهر أو العصر، فسلم بعد ركعتين، فقال له ذو اليدين: الصلاة
يا رسول الله، أنقصت؟ فقال النبي (يخاطب الصحابة) أحق ما يقول؟ قالوا:
نعم، فصلى ركعتين أخريين ثم سجد.
هذه القصة في رواية البخاري: أنها صلاة الظهر، أو صلاة العصر -
وفى رواية النسائي ما يشهد بأن الشك كان من أبي هريرة وهذا لفظه.
صلى النبي صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشى ولكن نسيت!
ومن عجيب أمر الذين يثقون بأبي هريرة ويمنعون عنه السهو والنسيان
لا يتحرجون من أن ينسبوهما إلى النبي صلى الله عليه وآله.
فقد روى البخاري عن عائشة أن النبي سمع رجلا يقرأ في المسجد فقال:
رحمه الله لقد أذكرني كذا وكذا أسقطتهن من سورة كذا وكذا (2).
وقال صلوات الله عليه: إنما أنا بشر أنسى، فإذا نسيت فذكروني.
وقد قالوا: إن حديث ابن مسعود في السهو وهو " إنما أنا بشر مثلكم أنسى
كما تنسون " حجة لمن أجاز النسيان على النبي فيما ليس طريقه البلاغ مطلقا
(أي البلاغ عن الله) وكذا فيما كان طريقه البلاغ ولكن بشرطين - أحدهما:
أنه بعدما يقع منه بتبليغه. والآخر:
أنه لا يستمر على نسيانه، بل يحصل له
تذكرة إما بنفسه، وإما بغيره.
وإذا كان أبو هريرة - كما نعت نفسه - ذكيا فطنا قوى الذاكرة واسع

(1) راجع حديث الشعر في كتابنا هذا.
(2) ص 302 ج 5 وص 70 ج 9 فتح الباري.
217

الحافظة، ضابطا لكل ما يسمع، لا تفلت منه كلمة، ولا يند عنه لفظ،
فلم لم يحفظ القرآن الكريم على فراغه، وطول عمره! وقد حفظه كثير من
الرجال، وكذلك بعض النساء، ومنهن أم ورقة (1) بنت عبد الله بن الحارث
الصحابية، وكان النبي يسمها الشهيدة، ولم لم يتعلم القراءة والكتابة، ويرضى
أن يكون أميا!
ولعل ذلك لان عدم معرفة القراءة والكتابة من صفات الكمال عنده.
ولو كان أبو هريرة قد بلغ هذه الدرجة التي لم يبلغها قط إنسان قبله،
ولا يبلغها أحد بعده. وهي (عدم النسيان) لاشتهر عنه ذلك، ولأصبح وحده
(علما مفردا) يرجع المسلمون جميعا إليه، وبخاصة في عهد أبى بكر وعمر،
ولكان له - في الاسلام خاصة - على مد عصوره مقام أي مقام، إذ يكون
دون سواه موضع ثقة الصحابة جميعا، فيأخذون بالثقة كل ما يجرى به لسانه،
ويقبلون مطمئنين كل ما يلقيه عليهم من رواياته، وتستمر هذه الثقة إلى من
بعد الصحابة من التابعين، ومن بعدهم إلى يوم الدين، ثم تكون كل أحاديثه
من دون أحاديث الصحابة جميعا (متواترة في لفظها ومعناها، لا ينال منها
الشك، ولا يعتريها الظن، وتأتي في درجة الثقة بعد القرآن الكريم).
ولكن الامر قد جرى على غير ذلك، فلم يكن له شأن يذكر في زمن النبي
صلى الله عليه وآله ولا في عهد الخلفاء الراشدين، وقد عرفت من قبل مبلغ ثقة عمر به
فقد كان ينهاه عن رواية الحديث، ولما لم يرجع ضربه بالدرة، وأنذره إذا هو
روى أن ينفيه إلى بلاده. ولو كان أبو هريرة على ما زعم، لأباح عمر له وحده
أن يروى، ولكان عنده وعند غيره أصدق من روى وأوثق من حدث، ولم
يقف الامر بهم عند ذلك بل إنهم قد اتهموه وكذبوه في الرواية - كما علمت
من قبل - وكان بذلك كما بينا أول راوية اتهم في الاسلام.

(1) كانت أم ورقة هذه تلميذة لعائشة.
218

2 - حديث الأوعية:
ولما أتم أبو هريرة الفصل الأول من قصته وهو " حديث بسط الثوب "
وروجه (1) بين الناس، رأى من التدبير أن يوطئ به إلى ما بعده، فأخرج
الفصل الثاني من هذه القصة وهو " حديث الوعاءين " ليقر في أذهان الناس أن
النبي لا يفتأ يخصه بالفضل، ويمده بالايثار، وأنه بعد أن أفرده بتلك (النفحة
النبوية التي حباه بها فجعله وحده محيطا بكل أحاديثه، قد شاء صلى الله عليه وآله - زيادة
في إكرامه أن يصطفيه ليكون مستودع أسراره التي حجبها عن غيره، فأفضى
إليه بأحاديث يحفظها في وعائه - وجعل له الخيار في أن يبوح بها أو يكتمها،
ولكي يبين خطر هذه الاسرار التي أمر بكتمانها قال: لو بثثت شيئا من هذا
الوعاء لقطع هذا البلعوم.
وبدهي أن أبا هريرة لم يأت بهذا الحديث إلا ليثبت - قبل كل شئ -
علو قدره، وسمو شأنه بين جميع أصحابه، ثم ليهول به على الناس بعد ذلك،
وليجعل منه سلاحا رهيبا في يده، يرغب به ويرهب - وبذلك تلتفت إليه
الأنظار، وتشرئب له الأعناق، وتتطاول إليه النفوس.
والناس بطبيعتهم يتشوفون إلى اكتناه الاسرار، ويسعون جهدهم دائما في
كشف ما غيب عنهم من الأمور.
ونمهد للكلام عن حديث (الوعاءين) بحديثين رواهما الذهبي وغيره، قد
يكشفان شيئا عن سر هذا (الوعاء) المكنون، أو المكتوم.
روى عن ابن المسيب (وهو زوج ابنة أبي هريرة) قال:
كان أبو هريرة إذا أعطاه معاوية سكت! وإذا أمسك عنه تكلم (2)!.
وروى عن محمد بن زياد قال:
كان معاوية يبعث أبا هريرة على المدينة (أي يوليه عليها) فإذا غضب عليه
بعث مروان وعزله (3).

(1) يقال روج فلان كلامه، زينه وأبهمه فلا تعلم حقيقته (المصباح المنير).
(2) ص 442 ج 2 من أعلام النبلاء وص 34 ج 1 من تذكرة الحفاظ و 114 ج 8 من
البداية والنهاية.
(3) ص 441 من سير أعلام النبلاء ج 2.
219

ولعل سكون أبي هريرة إذا ما أعطاه معاوية، أن لا يبث أحاديث
لا ترضى معاوية أو لا تنال من عدوه.
مثل الحديث الذي رواه البخاري في ذم بنى أمية الذي يقول فيه: هلكة
أمتي على يدي أغلمة من قريش.
وقد قال ابن حجر في شرح هذا الحديث: كان ذلك في زمن معاوية.
ومثل الحديث الذي رواه عمرو بن يحيى بن سعيد الآمدي عن جده قال:
كنت مع مروان وأبي هريرة، فسمعت أبا هريرة يقول: سمعت الصادق
المصدوق يقول: هلاك أمتي على يدي غلمة من قريش. قال مروان: غلمة؟
قال أبو هريرة: إن شئت أسميهم، بنى فلان وبنى فلان!
أما كلام أبي هريرة عندما يمسك عنه معاوية فإنه يذكر أحاديث فيها مدح
وثناء على على وأولاده، كالحديث الذي رواه عنه أحمد ونصه:
نظر رسول الله إلى على والحسن والحسين وفاطمة فقال:
" أنا حرب لمن حاربكم، وسلم لمن سالمكم (1) ". ونصه كما أخرجه الترمذي
من حديث زيد بن أرقم - كما جاء في ترجمة الزهراء من الإصابة أن رسول الله
ذكر عليا وفاطمة والحسن والحسين فقال: أنا حرب لمن حاربهم وسلم لمن
سالمهم، كذلك أخرجه ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه.
والأمثلة في ذلك كثيرة - ومثل هذا ولا ريب مما يغيظ معاوية وقومه.
فكان من أجل ذلك يسارع إلى ما يرضيه.
وقد عرف ذلك أبو هريرة فكان كلما أبطأ عليه معاوية بالعطاء تكلم بما
يغضبه لكي يتوالى عليه عطاؤه. ويعود إلى المدينة واليا.
ولنأخذ في بيان أحاديث الوعاءين.
أخرج البخاري عن أبي هريرة قال: حفظت عن رسول الله (وعاءين) فأما
أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم!

(1) وكذلك أخرجه الطبراني في الكبير بالاسناد إلى أبي هريرة.
220

وقال: لو أنبأتكم بكل ما أعلم لرماني الناس بالخرف، وقالوا أبو هريرة
مجنون، وفى رواية: لو حدثتكم بكل ما في جوفي لرميتموني بالبعر!
وقال: يقولون: أكثرت يا أبا هريرة. والذي نفسي بيده! لو حدثتكم
بكل شئ سمعته من رسول الله لرميتموني بالقشع (يعنى المزابل) ثم ما ناظرتموني (1).
كيس أبي هريرة:
ولم يكتف أبو هريرة بالجرابين، بل قال في رواية: حفظت من رسول الله
خمسة أجربة، فأخرجت منها جرابين (2) ولو أخرجت الثالث لرجمتموني بالحجارة
وهذه الأوعية كلها لم تقنعه، وإنما زعم أن له كيسا آخر! من الاسرار التي
لا يعلمها أحد غيره.
عن مكحول قال: كان أبو هريرة يقول. رب كيس عند أبي هريرة لم
يفتحه. رواه البخاري.
ومن هو أبو هريرة حتى يؤثره النبي بشئ يخصه به ويكتمه ويخفيه عن
أصفيائه وأوليائه وأقرب الناس إليه (3)؟ إنه لم يكن له أية ميزة من فضل يدنو بها
إلى النبي، ولا عد بعد انتقال النبي إلى الرفيق الاعلى من أية طبقة من طبقات
الصحابة (4) فلا هو من السابقين الأولين، ولا من المهاجرين، ولا من الأنصار،

(1) هذه الأخبار الثلاثة رواها ابن سعد في ترجمته في الطبقات.
(2) ص 381 من الحلية ورواية القاضي الحسن بن عبد الرحمن الرامهرمزي في كتابه
المحدث الفاصل بين الراوي والواعي ص 133 أنه حفظ عن رسول الله خمسة أجربة أحاديث وقال:
إني أخرجت منها جرابين ولو أخرجت الثالث رميتموني بالحجارة، وهذا الكتاب مأخوذ بالصورة
الشمسية بدار الكتب العربية رقم 483 مصطلح حديث.
(3) انظر صحيفة علي عليه السلام في كتابنا " أضواء على السنة المحمدية " الطبعة الثالثة.
(4) قسموا الصحابة من حيث فضلهم إلى 12 درجة فما وجدناه في واحدة منها. " 1 " قدماء
السابقين الذين أسلموا بمكة " 2 " أصحاب دار الندوة " 3 " مهاجرة الحبشة " 4 " أصحاب العقبة
الأولى " 5 " أصحاب العقبة الثانية " 6 " أول المهاجرين الذين وصلوا إلى النبي بقباء قبل أن يدخل
المدينة " 7 " أهل بدر " 8 " المهاجرون بين بدر والحديبية " 9 " أهل بيعة الرضوان " 10 " من هاجر
بين الحديبية وفتح مكة " 11 " مسلمة الفتح " 12 " صبيان وأطفال رأوا النبي يوم الفتح وحجة
الوداع ص 69 و 70 ج 1 من الروض الباسم للوزير اليماني ولعله بذلك يكون من طبقة الصبيان.
221

ولا من أهل العقبة الأولى ولا الثانية، ولا من العرفاء، ولا من الكملة في الجاهلية
وأول الاسلام، ولا من شعراء النبي الذين نافحوا عنه، ولا من المفتين على عهد
رسول الله ولا على عهد أبى بكر وعمر وعثمان، ولم يظهر إلا بعد الفتنة الكبرى
- كما سنبينه فيما بعد - ولم يكن من القراء الذين حفظوا القرآن الكريم،
ولا جاء في فضله حديث عن رسول الله (1) وكل ما عرف أنه كان من أهل
الصفة لا أكثر ولا أقل.
ومما يدل على هوانه وأنه كان من عامة الصحابة الذين لا شأن لهم، ولا علم
عندهم، أنه لم يكن من الذين يبعثون إلى الأقطار الاسلامية ليعلموا أهلها أحكام
الدين في عهد النبي ولا في عهد خلفائه. حتى في زمن معاوية، وسبق لنا كلام
في هذا المعنى عندما بعثه النبي مع العلاء بن الحضرمي.
ولو أن هناك شيئا يؤثر به النبي أحدا من أصحابه، لكان على أولى الناس
جميعا به، ذلك بأنه ربيبه، وابن عمه وأخوه ووارث علمه، وأول من أسلم
بعد خديجة وزوج ابنته فاطمة، وأبو السبطين لم يفارقه لا في سفر ولا في حضر
وشهد معه المشاهد كلها سوى تبوك - ولما استخلفه النبي فيها على المدينة قال له
على: أتخلفني في النساء والصبيان؟ فقال له النبي هذه الكلمة التي لن يظفر
بها أحد غيره وهي: أما ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى؟ إلا
أنه لا نبي بعدي (2).
حقا كان على هو أولى الناس جميعا بأن يؤثره النبي بأسراره، فإن لم يكن
على فأبو بكر أو عمر أو أبو عبيدة أو الزبير حواريه وابن عمته، أو ابن
مسعود (3) الذي قال له النبي: آذنك على أن ترفع الحجاب، وتسمع سوادي (4)،

(1) عقد البخاري بابا في فضائل الصحابة وذكر أحاديث كثيرة في فضل كثير من الصحابة لم
يكن أبو هريرة منهم ولا بحديث واحد.
(2) رواه البخاري والترمذي.
(3) روى مسلم أن النبي قال: خذوا القرآن من أربعة، ابن أم عبد (عبد الله بن مسعود)
فبدأ به، ومعاذ بن جبل، وأبى بن كعب، وسالم مولى حذيفة، فترى أنه لم يصل إلى درجة أحد
الموالى.
(4) وتسمع سوادي أي سراري وهي خصوصية لابن مسعود.
222

وكانوا لشدة ملازمته للنبي صلى الله عليه وآله لا يرون إلا أنه من أهل بيته، وعرف بين
الصحابة بأنه صاحب السواد والوساد الذي لا يعرفه غيره. أو حذيفة بن اليمان
الذي أخذ عن النبي صلى الله عليه وآله العلم بالمنافقين وقد سأله عمر: هل هو من المنافقين؟
فقال له حذيفة، لا، ولا أزكى أحدا بعدك.
وقد روى الشيخان عنه قال: قام فينا رسول الله مقاما ما ترك شيئا يكون
في مقامه إلى قيام الساعة إلا حدث به، حفظه من حفظ، ونسيه من نسيه.
وروى أحمد ومسلم عنه قال: والله إني أعلم الناس بكل فتنة هي كائنة فيما
بيني وبين الساعة، وما ذاك أن يكون رسول الله حدثني عن ذلك شيئا أسره لي
لم يكن حدث به غيري (1) ولكن رسولي الله قال وهو يحدث مجلسا أنا فيه -
وبعد أن ذكر حذيفة ما قاله النبي قال: فذهب أولئك الرهط كلهم غيري (2)
وقد مات حذيفة بعد الفتنة الأولى بقتل عثمان. أي أن أبا هريرة لم يكن في
ذلك الرهط.
أو أبو ذر الغفاري، وهو أحد السابقين الأولين، ومن نجباء الصحابة وكان
خامس خمسة، وصفه النبي بقوله: ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء على
ذي لهجة أصدق من أبي ذر، ومن سره أن ينظر إلى زهد عيسى، فلينظر
إلى أبي ذر - هذا الصحابي الجليل الذي جمع كل هذه الصفات يقول:
ما ترك رسول الله شيئا مما صبه جبريل وميكائيل في صدره إلا صبه في
صدري، ولا تركت شيئا مما صبه في صدري إلا قد صببته في صدر مالك
ابن أبي حمزة.
أو سلمان الفارسي الذي قال فيه النبي: سلمان منا أهل البيت، ولو كان
الدين عند الثريا لناله سلمان، وقال فيه على: سلمان الفارسي مثل لقمان
لحكيم، علم علم الأول والآخر، بحر علم لا ينزف - وكان ينفرد بالنبي
في الليل كما ذكرت عائشة.

(1) انظر أمانة هذا الصحابي الذي يصرح بأن النبي لم يسر بشئ له وحده.
(2) أي أن أبا هريرة لم يكن في هذا المجلس إذا لم يكن في الرهط الذين ذهبوا قبل حذيفة.
223

وهناك رجل صحب النبي قديما وكان من المقربين إليه الملازمين له في
السفر والحضر - وكان كذلك من أهل الصفة - وكان له أن يتقدم أبا هريرة
في كثرة الرواية - أو في أن يتلقى من النبي ما لم يصل إلى غيره، ولكنه كان
متواضعا مؤديا لحق الصحبة، ذلك هو (ربيعة بن كعب الأسلمي).
قال ابن عبد البر في تاريخه:
" كان من أهل الصفة، وكان يلزم رسول الله في السفر والحضر وصحبه
قديما وعمر بعده، مات بعد الحرة سنة 63 ه‍ وهو الذي سأل النبي مرافقته في
الجنة، فقال له رسول الله: أعني على نفسك بكثرة السجود. رواه الأوزاعي
عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن ربيعة بن كعب (1).
كان هؤلاء جمعيا أولى الناس بأن يؤثرهم النبي بما لا يريد أن يظهره لسائر
الصحابة - إذا كان هناك سر يريد أن يفضى به لاحد من خواصه - وقد قال
بعض العلماء: إن اعتقاد ذلك - أي أن النبي قد كتم عن جميع الصحابة
شيئا وخصه بأحدهم - يؤدى إلى نسبة الخيانة إلى النبي - ومعاذ الله.
وعلى أنه يزعم هذه المزاعم كلها عن أجربته هذه فإنه يعود فيناقض نفسه
ويقول: إن أبا هريرة لا يكتم ولا يكتب (2).
3 - حديث المزود (3):
أما الفصل الثالث وهو الأخير من هذه القصة الطريفة، فهو (حديث
المزود) ويغلب على الظن أنه ظهر به بعد أن أصبح ذا حظوة ودالة في دولة
بنى أمية - وقد نال مبتغاه من تعويضه، بما ادعى أنه فقده بسبب ضياع هذا
المزود الذي أكل منه مائتي وسق! ولو لم يقض عليه جيش معاوية لظل يأكل
منه طول حياته!

(1) ص 184 ج 1 من الاستيعاب وص 273 ج 1 من أنساب الأشراف للبلاذري.
(2) ص 119 ج 2 ق 2 من طبقات ابن سعد طبعة ليدن.
(3) المزود بكسر الميم وعاء التمر بعمل من أدم (جلد مدبوغ).
224

وها هو ذا مرويا عنه قال:
" أصبت بثلاث مصيبات في الاسلام! لم أصب بمثلهن! موت رسول الله
وكنت صويحبه، وقتل عثمان (طبعا)، والمزود. قالوا: وما المزود يا أبا هريرة؟
قال: كنا مع رسول الله في سفر (أي سفر يا مولانا) فقال: يا أبا هريرة، أمعك
شئ؟ قلت: تمر في مزود، قال: جئ به، فأخرجت تمرا قال: فمسه ودعا
فيه، ثم قال: ادع عشرة، فأكلوا حتى شبعوا، ثم كذلك حتى أكل الجيش
كله (1) (يا سلام!) وبقى من تمر معي في المزود: فقال يا أبا هريرة: إذا
أردت أن تأخذ منه شيئا فأدخل يدك ولا تكفه، قال: فأكلت منه حياة
النبي، وأكلت منه حياة أبى بكر كلها، وأكلت منه حياة عمر كلها، وأكلت
منه حياة عثمان كلها فلما قتل عثمان (2) انتهب ما في يدي! وانتهب المزود!
ألا أخبركم كم أكلت منه؟ أكلت منه أكثر من مائتي وسق؟
وإذا كان قد ذكر في هذا الحديث أن مزوده كان فيه تمر، وأن
النبي وقد طلبه منه ومسه ثم أطعم منه الجيش، فإنه قد قال في رواية أخرى جاءت
في مسند أحمد وإسنادها جيد: أعطاني رسول الله شيئا من تمر فجعلته في
(مكتل) (3) لا مزود - فعلقناه في (سقف البيت) (4) فلم نزل نأكل منه حتى كان
آخره، أصابه أهل الشام حيث أغاروا على المدينة - يعنى جيش بسرة بن
أرطاة الذي بعثه معاوية لينكل بأهل المدينة ومكة - وما دام جند معاوية هم
الذين أغاروا على هذا المزود فليكن عوضه من معاوية، وقد كان، فعوضه عنه
بالشئ الكثير!
وإذا كانت رواية أحمد هذه تدل على أن أبا هريرة قد علق المزود في

(1) أي جيش كان ذلك؟ وفى أية غزوة؟ - وهل كان معلقا في الصفة؟ وهل أخذه
معه في البحرين؟ وإذا كان يطعم من المزود حياة النبي وخلفائه الثلاثة، فلم كان يركب الصعب في
سبيل طعامه، ويستقرئ الناس الآيات وهي معه ليطعموه أو يحرموه؟
(2) هنا السر وقد ذكر مصيبته في عثمان ليشايع بها الأمويين..
(3) المكتل بكسر الميم الزنبيل وهو ما يعمل من الخوص يحمل فيه التمر وغيره.
(4) يروى هنا أن المزود كان معلقا في " سقف البيت " ولم يكن له بيت، بل كان مقامه
في الصفة.
225

سقف البيت - فإن رواية الذهبي في " سير أعلام " تدل على أن المزود كان
معلقا (بحقوه) (أي معقد إزاره) وهاك رواية الذهبي:
قال أبو هريرة: أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله بتمرات فقلت: ادع لي فيهن
يا رسول الله بالبركة، ثم قال: خذهن فاجعلهن في (مزود) فإذا أردت منهن
فأدخل يدك فخذ، ولا تنثرهن نثرا، قال: فحملت من ذلك التمر كذا وكذا (1)
وسقا في سبيل الله، وكنا نأكل ونطعم، وكان المزود معلقا بحقوي لا يفارق
حقوي فلما قتل عثمان انقطع (2).
هذه غرائب ثلاث من غرائب أبي هريرة المتعددة، نضعها تحت الأعين
البصيرة، والعقول المستنيرة، لتفكر فيها تفكيرا عميقا، ثم لتحكم بعد ذلك على
حقيقة روايات أبي هريرة وكيف كانت، ومقدار نصيبها من الصحة، ومدى
سلامة عقل من صدقها!
وإذا كان لنا من كلمة نقولها هنا فهي أننا نقطع بأن هذه الأحاديث
لا حقيقة لها، وما كان أبو هريرة ليستطيع أن يظهر بواحد منها في عهد كبار
الصحابة الذين كان يخشاهم ولا يجرؤ على أن يتكلم بمثلها وبأقل منها أمامهم، وإنما
ظهر بها في عهد معاوية الذي أيده وناصره، ولم يكن في عهده أحد يستطيع أن
يقول كلمة الحق، اللهم إلا المؤمنين حقا وقليل ما هم.
وهناك من وراء ذلك كله برهان قاطع يهدم كل ما يزعم أبو هريرة سواء
في هذه القضية أو في غيرها، وهو مقدار الزمن الذي قضاه في الصفة (بالمدينة)
وهو كما بيناه لا يزيد على عام وبضعة أشهر.
هذه كلمتنا عن هذه القصة وأحاديثها الثلاثة ونصلها بكلمة أخرى عن
عبارة جاءت في أثناء حديث (بسط الثوب) وهي: ألا تسألني في هذه الغنائم التي
يسألني عنها أصحابك!

(1) قدر هذه الكذكذة بمائتي وسق - والوسق حمل بعير.
(2) يصرح هنا بأن المزود كان لا يفارق حقوه - وكله عند مشايخنا جائز ص 452 ج 2
من سير أعلام النبلاء. وحديث المزود أخرجه الإمام أحمد من طريقين والبيهقي من طريقين آخرين
وأخرجه غيرهما من طرق أخرى.
226

إن من أعجب العجب حقا أن يستعلن أبو هريرة بهذا الحديث، ولا
يخشى أن تفضحه الحقيقة، وتنقضه سيرته التي عرفها الناس من أول يوم نزح
فيه من بلاده ليخدم النبي صلى الله عليه وآله وذلك عندما طمع فيما ليس له بحق، فطلب
من النبي صلى الله عليه وآله أن يسهم له من غنائم خيبر وهو لم يشهد حربها، ونال على هذا
التطفل جزاء وفاقا من أبان بن سعيد - ويزيد هذا الحديث افتضاحا وتناقضا،
ما وقع منه وهو في البحرين واتهام عمر إياه بسرقة مال المسلمين!
ويبدو لمن يدرس نفسية أبي هريرة من خلال سيرته أنه كان مصابا بالمرض
الذي يسمى في هذا الزمان (بمركب النقص)، فهو من أجل ذلك يسعى
ليستكمل هذا النقص، ويخلع عن نفسه (إزار) الخمول والضعة ليستبدل به
لبدة الأسد، ووجد أن أسهل طريق يبلغه مأربه، أن يبث أخبارا عن نفسه
ثم ينسبها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله توهم من يسمعها أنه كان ذا منزلة خاصة عند
رسول الله صلى الله عليه وآله وأنه كان يؤثره على غيره من كبار الصحابة بفضله!
ومما سول له أن لا يتحرج في الرواية، وأن يذهب فيها كل مذهب، بحيث
لا يخشى في ذلك شيئا. أن كان المفترى عليه صلوات الله عليه قد انتقل إلى
الرفيق الاعلى، وأن وجد الأصحاب الكبار الذين يكذبونه في مزاعمه، قد انتقلوا
جميعا إلى رحمة الله، وبخاصة عمر الذي ذهب عنه الخوف من درته التي كانت
تباشر ظهره إذا ما روى - وقد صرح هو بعد أن استباح لنفسه الرواية فقال:
إني أحدثكم بأحاديث لو حدثت بها في زمن عمر لضربني بمخفقته، ولا تنس
أن وضع الحديث كان قد فشا واستفاض في عهد معاوية كما بينا.
ومن الأسباب التي أعانته على الرواية هو اتساع الفتوح الاسلامية، ومن
أسلموا فيها لا يعرفون شيئا مما كان في عهد النبي صلى الله عليه وآله وخلفائه الراشدين، ومن وراء
ذلك كله كان السلطان يؤيده، ويوسع له ولغيره مجال الوضع.
كل ذلك قد جعله - بعد أن خلا الجو له - أن يرخى لنفسه عنان الرواية
ويهيم في أوديتها، ويفتن ما شاء أن يفتن فيها، حتى سال سيلها، وطم واديها،
وأصبح بذلك (محدث الدولة الرسمي) فكل ما يرويه يجب أن يكون صحيحا
مقبولا!
227

وهذا الحديث الذي نتحدث عنه هنا ليس هو الأول من غرائبه، وإنما له
نظائر كثيرة. ومن هذه النظائر ما قرأت نبأه قبل ذلك في قصة الثوب والمزود
والأجربة، ومنها ادعاؤه أنه كان مع أبي بكر في حجته! وأن النبي صلى الله عليه وآله
قد وكله بحفظ زكاة رمضان! وغير ذلك من مزاعمه التي لا تحصى.
ولو أنت رجعت إلى مسنده فدرسته دراسة علمية عميقة، وأردت أن تحصى
ما فيه من الغرائب والخرافات والترهات لملأت من ذلك كتابا ضخما برأسه.
وإذا كان تاريخ أبي هريرة قد حمل ما حمل من العجائب مما قد يمكن
السكوت عليه، وغض النظر عنه، فإن هذه الغرائب الثلاث المضحكة لتثير
أعظم الدهش، وأشد العجب، إذ لا يمكن أن يصدقها أي عقل، إلا إذا
كان متعفنا، ومن أجل ذلك لا يمكنا أن نسكت عليها، أو لا نقف فيها.
ومن العجيب المذهل أن هذه الغرائب - أو الخرافات - قد اتخذت
سبيلها في التاريخ الاسلامي من لدن تدوينه إلى اليوم، وتمكنت من عقول
جمهور المسلمين وأفكارهم، لتفعل فعلها مطمئنة، فلا يتكلم أحد فيها، ولا
يقف باحث عندها، ويقولون كيف لا نصدقها، والذي صاغها (صحابي
جليل (1)) وكل ما يأتي به أي صحابي فهو صحيح لا ريب فيه. وإذا كانت هذه
القاعدة العقيمة التي أضحكت الناس علينا - قد أوجبها التقليد والجمود
من قبل، فإنها قد أضحت الآن مما لا يمكن بأي حال أن تتبع، وبخاصة أن
وراء مثل هذه الخرافات أمرا خطيرا يجب الالتفات إليه، ووضعه موضع
الاعتبار، ذلك أن هذه الخرافات ومثيلاتها مما يرويه أبو هريرة - أو غيره -
متصلة كلها بشخص رسول الله صلوات الله عليه أو بدينه، فإقرارها أو السكوت
عليها، مما يسوء - ولا ريب - مقام النبي، ويجلب النقد إلى دينه، وقد أصبح
للناس عقول يفهمون بها، وعلوم يزنون بموازينها - وإن التغاضي عن مثل هذه
الخرافات ليدع للناس أن يقولوا: إن هذا الرسول يأتي بالخرافات، وإن دينه
مبنى على الترهات. على حين أنه صلوات الله عليه ما بعث إلا لهدم الخرافات

(1) ثم جعلوه أخيرا " راوية الاسلام ".
228

والأوهام واقتلاعها من الأساس، وأتى بدين أساسه العقل السليم والفكر
الصحيح. وإنا إذ نذكر ما نذكر، والأسى يملا جوانحنا، لنرجو أن يكون قد
آن لعلماء المسلمين المثقفين، أن يمحصوا تاريخهم، ويطهروا دينهم مما شابه
من الخرافات، وما غشيه من الترهات، حتى يبدو للناس على نور العلم والعقل،
كما أراد الله في أصدق صورة وأروعها.
وإذ انتهينا إلى هنا فإنا نذكر طرفا مما قام به أبو هريرة إلى آل أبي العاص
وبنى أمية.
بعض ما قدمه أبو هريرة إلى آل أبي العاص وبنى أمية
لم يكن ما قدم أبو هريرة إلى آل أبي العاص عامة، وسائر بنى أمية ومعاوية
خاصة، جهادا بسيفه أو بماله، وإنما كان كما قلنا - أحاديث ينشرها بين
الناس، يطعن فيها على على رضي الله عنه ويخذل بها أنصاره، ويجعل الناس
يتبرأون منه، أو يشيد بفضل عثمان ومعاوية!
ومما رواه في فضل عثمان ما رواه البيهقي عنه: أنه لما دخل دار عثمان وهو
محصور استأذن في الكلام، ولما أذن له قال: إني سمعت رسول الله يقول:
إنكم ستلقون بعدي فتنة واختلافا، فقال له قائل من الناس: فمن لنا يا رسول
الله؟ أو ما تأمرنا؟ فقال: عليكم بالأمير وأصحابه، وهو يشير إلى عثمان.
أورده أحمد بسند جيد!
ولما نسخ عثمان المصاحف دخل عليه أبو هريرة فقال (1): أصبت ووفقت،
أشهد! لسمعت رسول الله يقول: أشد أمتي حبا لي، قوم يأتون من بعدي
يؤمنون بي، ولم يروني - يصدقون بما جاء في الورق المعلق، فقلت: أي ورق؟
حتى رأيت المصاحف! فأعجب ذلك عثمان وأمر لأبي هريرة بعشرة آلاف.

(1) ص 16 ج 7 البداية والنهاية.
229

وهذا الحديث من غرائبه، وهو ينطق ولا ريب أنه ابن ساعته كالحديث
الذي قبله، وأنهما من كيسه!
وأخرج ابن عساكر وابن عدي والخطيب البغدادي عنه (أبو هريرة)
قال: سمعت رسول الله يقول: إن الله ائتمن على وحيه ثلاثة: أنا وجبريل
ومعاوية! ورواية أخرى (1) عنه مرفوعا، الامناء ثلاثة: جبريل وأنا، ومعاوية!
ومما خدم به أبو هريرة معاوية أنه لما اشتد إنكار عبادة بن الصامت على
معاوية - كما علمت من قبل - أرسل معاوية إلى أبي هريرة - وكان يومئذ
بالشام وقال: ألا تمسك عنا أخاك عبادة! فأتاه أبو هريرة وقال له: يا عبادة!
مالك ومعاوية! ذره وما حمل! فقال له عبادة لم تكن معنا إذ بايعنا رسول الله
على السمع والطاعة والامر بالمعروف والنهى عن المنكر، وأن لا تأخذنا في الله
لومة لائم، فسكت أبو هريرة (2) وتخاذل.
ومن تشيعه، أن معاوية أرسله هو وأبو الدرداء إلى على ليدعوانه إلى الشورى
فقابلهما عبد الرحمن بن غنم الأشعري - وكان من أفقه أهل الشام - وهو الذي
فقه عامة التابعين بالشام وكان له جلالة وقدر، فكان مما قاله لهما: عجبا منكما!
كيف جاز عليكما ما جئتما به؟ تدعوان عليا أن يجعلها شورى؟ وقد علمنا أنه
قد بايعه المهاجرون والأنصار وأهل الحجاز والعراق، وأن من رضيه خير ممن
كرهه، ومن بايعه خير ممن لم يبايعه! وأي مدخل لمعاوية في الشورى! وهو من
الطلقاء الذين لا تجوز لهم الخلافة، وهو وأبوه من رؤوس الأحزاب؟ فندما
على مسيرهما (3).

(1) ص 1 ج 8 البداية والنهاية.
(2) ص 4 ج 2 أعلام النبلاء للذهبي.
(3) ص 414 ج 2، من الإستيعاب لابن عبد البر.
230

أبو هريرة يشهد على على
بأنه يحمى قتلة عثمان
ذكر صاحب الغارات أن النعمان بن بشير قدم هو وأبو هريرة على علي عليه
السلام من عند معاوية يسألانه أن يدفع قتلة عثمان إلى معاوية ليقيدهم بعثمان،
لعل الحرب أن تطفأ.
وإنما أراد معاوية أن يرجع مثل النعمان وأبي هريرة من عند علي عليه السلام
إلى الناس وهم لمعاوية عاذرون ولعلي لائمون - وقد علم معاوية أن عليا لا يدفع
قتلة عثمان إليه - فأراد أن يكون هذان يشهدان له عند أهل الشام بذلك، وأن
يظهر عذره فقال لهما: ائتيا عليا فأنشداه الله وسلاه بالله، لما دفع إلينا قتلة
عثمان - فإن أبى فكونوا شهداء الله عليه وأقبلا على الناس فأعلماهم ذلك.
فأتيا إلى علي عليه السلام فدخلا عليه فتكلم أبو هريرة في ذلك، ولكن عليا
لم يرد عليه، وبعد أن كلمه النعمان، التفت إليه وقال له: حدثني عنك يا نعمان.
أنت أهدى قومك سبيلا؟ يعنى الأنصار - قال: لا، قال: فكل قومك قد
اتبعني إلا شذاذا منهم ثلاثة أو أربعة، أفتكون أنت من الشذاذ؟ فقال النعمان،
أصلحك لله! إنما جئت لأكون معك وألزمك، وقد كان معاوية سألني أن أؤدي
هذا الكلام ورجوت أن يكون لي موقف أجتمع فيه معك، وطمعت أن يجرى الله
تعالى بينكما صلحا فإن كان غير ذلك رأيك فأنا ملازمك وكائن معك. فأما.
أبو هريرة فلحق بالشام، وأقام النعمان عند علي عليه السلام - فأخبر
أبو هريرة معاوية بالخبر، فأمره أن يعلم الناس، ففعل، وأقام النعمان بعده
ثم خرج فارا من علي عليه السلام، وكان النعمان عثمانيا. (ص 213،
المجلد الأول من شرح نهج البلاغة)
ولما خرجت الخوارج على على رضي الله عنه وقامت الحرب بينه وبين
معاوية أخذ أبو هريرة يثبط الناس، وكان ذلك من أسلحته في مناصرة معاوية،
وذلك بأحاديث يرويها عن النبي صلى الله عليه وآله منها ما رواه أحمد والبخاري عنه:
231

ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير
من الساعي من استشرف لها تستشرفه - ومن وجد ملجأ أو معاذا فليعذ به (1)!
يروى هذا وهو يعلم أن حديثه هذا مخالف لقوله تعالى: " فقاتلوا التي تبغى
حتى تفئ إلى أمر الله " ولما جاء في كثير من الأحاديث من الضرب على يد الظالم.
وروى الشيخان عنه واللفظ لمسلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: من أطاعني
فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع الأمير فقد أطاعني
ومن عصى الأمير فقد عصاني
ولقد كان يظن عندما وقع الخلاف بين على ومعاوية أن الدائرة ستدور على
معاوية لأنه على الباطل، والحق في جانب على رضي الله عنه. فقبع واستكان ولما
تغلب الظلم والبغي كشف عن وجهه، وظهر أمام معاوية بولائه، وكان أول من
تلقى بسر بن أرطاة الذي أرسله معاوية إلى المدينة للفتك بأهلها وأخذ البيعة منهم له
فعاونه في أخذ البيعة، وقال له: سر حتى تمر بالمدينة فاطرد الناس وأخف من
مررت به، وانهب كل من أصبت له مالا ممن لم يكن دخل في طاعتنا، ففعل

(1) ص 95 ج 13 من فتح الباري وقد ظل هذا الحديث سندا قويا يرتكن إليه كل الذين
يريدون أن يثبطوا الناس عن الجهاد ضد الظالمين، ويعوقوهم عن دفع بغى الغاصبين، - وعلى سبيل
المثال - نذكر أنه لما تمكن الإنجليز في سنة 1914 من القبض على ناصية البلاد المصرية بقوتها،
وأعلنت الاحكام العرفية فيها لكي تبلغ في ظلها كل ما تريد من نهب وسلب وظلم وقهر هاج الناس
وماجوا واضطربت الأمور، ولما انتشر الامر على الإنجليز لم يجدوا وسيلة يدفعون بها غضب الجماهير
ويطفئون نار ثورتهم، إلا أن يلجأوا إلى مشيخة الأزهر الشريف لانقاذهم فطلبوا منها أن تسعى
بنفوذها الديني إلى تهدئة الخواطر وصدعت المشيخة بما أمرت به وأصدرت منشورا طويلا للناس كافة وإلى
طلبة العلم خاصة أن يلزم الجميع سبيل الهدوء ويخلدوا إلى السكينة ويستسلموا للغاصب " ولا يتكلم
أحد منهم في الأحوال الحاضرة " وألزمت الطلبة خاصة بأن لا يبرحوا منازلهم من الساعة السادسة مساء ولم
يجدوا سندا يرتكنون عليه فيما دعوا الناس إليه، إلا هذا الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة وقد
وقع هذا المنشور هيئة كبار العلماء وفريق كبير من العلماء، ونام المصريون حتى بلغ الإنجليز مأمنهم
وانتصروا - على ظلمهم - كما نام المسلمون من قبل حتى تغلب الأمويون على بغيهم، كل ذلك وغيره،
مما لم يصل إلينا خبره، يقع ببركة حديث (راوية الاسلام) أبي هريرة *.
* ومن شاء أن يطلع على صورة هذا المنشور فليرجع إلى كتاب (السلطان حسين) تأليف
الأستاذ محمد سيد كيلاني ص 43 - 46 أو الصحف المصرية الصادرة في 10 / 11 / 1914.
232

بسر بأهل المدينة ما لم يفعله جبار من قبل - وقد كان كما وصفوه قاسي القلب
فظا سفاكا للدماء لا رأفة عنده ولا رحمة - فروع أهلها وأنزل بهم من ألوان
العذاب ما تقشعر منه النفوس، وتنخلع القلوب، من تقتيل وتنكيل وتحريق وهتك
للحرمات، ولم يجد فيها مرحبا به، ولا معينا له، ولا راضيا عن جرائمه سوى
أبي هريرة. الذي كان غاليا في مناصرة معاوية، وبعد أن أخرس الناس
الرعب واستسلموا مرغمين، نادى فيهم وقال: " قد استخلفت عليكم
(أبا هريرة)، فإياكم وخلافه ".
ولم يزل أبو هريرة قائما بولايته يصلى بالناس حتى قدم المدينة جارية بن
قدامة السعدي من قبل أمير المؤمنين على في ألفي فارس، فلم يكد أبو هريرة
يسمع بقدومه حتى ولى هاربا من وجه جارية، فقال جارية فيه كلمته المشهورة
المحفوظة: " لو وجدت أبا سنور لقتلته " (أي أبا هريرة) ولم يكد يخلو له الجو
ويتسق الامر لمعاوية بعد قتل الامام حتى عاد أبو هريرة فتولى أمر المدينة.
ولا ريب في أن الذي قذف الرعب في قلب أبي هريرة حتى لاذ بالفرار -
تاركا صلاته وصلاة من معه - إنما هو الخوف والجزع من بطش جارية - أن
يؤاخذه بما اقترف من الاثم مع بسر بن أرطاة عندما أغار على المدينة، فيفتك
به ويجعله مثلا لغيره - ذلك بأن أبا هريرة كان وحده من بين أهلها جميعا الذي
تشيع له، ورحب به، ومشى في ركابه وناصره عندما أخذ البيعة لمعاوية بقهره
وجبروته.
ومن أجل ذلك كله خصه جارية - دون سواه من أهل المدينة - بتهديده،
وأنه لو وجده لقتله، ولم يفعل جارية مثل ذلك مع أحد من أهل المدينة قاطبة
غيره (1).
وتولية أبي هريرة للمدينة من قبل معاوية لولائه له (وعلى حي) أمر نص عليه
جميع المؤرخين (2) ولهذه التولية ولا ريب معنى لا يخفى على اللبيب.

(1) راجع ابن الأثير في حوادث سنة 40 ه‍ عند ذكر سير بسر إلى الحجاز واليمن ص 373
ج 3 طبعة ليدن لترى كلمة جارية هذه.
(2) راجع تاريخ الذهبي الكبير ص 334 ج 2.
233

وقد بلغ من مناصرته لبني أمية أنه كان يجث الناس على أداء ما يطالب به
عمالهم ويحذرهم من معصيتهم، أو أن يسبوهم.
قال العجاج الراجز (1) قال لي أبو هريرة: ممن أنت؟ قلت من أهل العراق
قال: يوشك أن يأتيك بقعان الشام (2) فيأخذوا صدقتك فإذا أتوك فتلقهم بها،
فإذا دخلوها فكن في أقاصيها، وخل عنهم وعنها، وإياك أن تسهم، فإنك إن
سببتهم ذهب أجرك، وأخذوا صدقتك، وإن صبرت جاءت في ميزانك يوم
القيامة!! - والاخبار في ذلك كثيرة، ومما رواه في فضل معاوية ما أخرجه
الخطيب عنه: ناول النبي صلى الله عليه وآله معاوية سهما فقال: خذ هذا السهم حتى
تلقاني به في الجنة.
وقد بلغ من شدة إخلاص أبي هريرة لمعاوية أنه كان يتمنى لو يكون من
أبطال الحروب فيغامر في مواقع صفين ضد على رضي الله عنه.
فقد روى العتكي قال: كان أبو هريرة مع معاوية في صفين، وكان
يقول: لان أرمى فيهم بسهم (يعنى أهل العراق) أحب إلى من حمر النعم (3).
أهل الغرب! ودمشق!
روى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله قال: لا يزال أهل الغرب ظاهرين
على الحق حتى تقوم الساعة، قال أحمد وغيره: هم أهل الشام.
وجعل أبو هريرة دمشق من مدائن الجنة في حديث رفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله
هذا نصه: أربع مدائن من مدائن الجنة، فمكة والمدينة وبيت المقدس ودمشق،
أما مدائن النار فالقسطنطينية وطبرية وأنطاكية وصنعاء.
وإليك خبرا تتفكه به تطرب له

(1) ص 572 من كتاب الشعر والشعراء لابن قتيبة ج 2.
(2) بقعان الشام: خدمهم وعبيدهم ومماليكهم ومصدقيهم والمصدق بتخفيف الصاد، وتشديد
الدال المكسورة هو عامل الزكاة التي يستوفيها من أربابها أي الجابي.
(3) ص 59 من كتاب قبول الاخبار ومعرفة الرجال لأبي القاسم البلخي (مخطوط).
234

حسن وجه معاوية:
نظر أبو هريرة إلى عائشة بنت طلحة - وكانت مشهورة بالجمال الفائق -
فقال: سبحان الله! ما أحسن ما غذاك أهلك! (والله) ما رأيت وجها أحسن
منك إلا وجه معاوية على منبر رسول الله (1).
أبو هريرة وهند:
قال الشافعي فيما رواه الطبري، قال أبو هريرة: رأيت هندا بمكة كأن
وجهها فلقة قمر! وخلقها من عجيزتها مثل الرجل الجالس ومعها صبي يلعب!
فمر رجل فنظر إليه فقال: إني لأرى غلاما إن عاش ليسودن قومه! فقالت
هند: إن لم يسد إلا قومه فأماته الله (2)، ولا ريب في أن أبا هريرة قد وضع
هذا الحديث ليتقرب به إلى معاوية.
وقصة غريبة:
ولقد كان معاوية يعهد إليه بما يوصله إلى أغراضه، فقد روى الثقات
أنه لما أراد أن يحتال على طلاق زوجة عبد الله بن سلام القرشي زينب بنت
إسحاق، بعد أن هام يزيد بجمالها، أرسل أبا هريرة وأبا الدرداء إلى عبد الله
ليبلغه رغبة معاوية في أن يزوجه ابنته لورعه، على أن يطلق زوجته لكي تخلص
ليزيد، فصدق عبد الله، ولكنه بعد أن خسر امرأته أبى معاوية أن يزوجه ابنته (3)!
معاوية يحدث صلاة موقوتة من أجل هواه وأبو هريرة يؤصلها له:
لما بلغ معاوية نعى أمير المؤمنين (على رضي الله عنه) وقت الضحى قام
فصلى ست ركعات، ثم أمر بنى أمية بالأحاديث في فضلها عن النبي صلى الله عليه وآله (4)

(1) ص 101 ج 6 العقد الفريد.
(2) ص 159 من كتاب معاوية بن أبي سفيان في الميزان للعقاد.
(3) المصدر السابق نفسه.
(4) ص 185 ج 3 الصراط المستقيم للعاملي.
235

وهذه الصلاة لم يصلها النبي صلى الله عليه وآله ولا أبو بكر ولا عمر ولا ابن عمر (1).
ولكن لم يلبث محدث الدولة أبو هريرة أن روى هذا الحديث:
أوصاني خليلي بثلاث لا أدعهن حتى أموت: صوم ثلاثة أيام في كل
شهر وصلاة الضحى ونوم على وتر (2).
ولقد كان أبو هريرة كثيرا ما يدعى باطلا أن النبي صلى الله عليه وآله خليله وقد
حققنا أمر هذا الادعاء الباطل فيما مضى (3).
أبو هريرة يضع أحاديث على على رضي الله عنه
وضع أبو هريرة أحاديث كثيرة على على رضي الله عنه، يطول بنا
الحديث لو أتينا بها كلها، فنكتفي بأمثال قليلة تنبئ عن غيرها.
قال أبو جعفر الإسكافي (4): إن معاوية وضع قوما من الصحابة وقوما
من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علي تقتضي الطعن فيه، والبراءة منه،
وجعل لهم على ذلك جعلا يرغب في مثله، فاختلقوا ما أرضاه - منهم أبو هريرة
وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، ومن التابعين عروة بن الزبير.. إلخ.
وروى الأعمش قال: لما قدم أبو هريرة العراق مع معاوية عام الجماعة
(سنة 41) (وهو في الحقيقة عام الفرقة) جاء إلى مسجد الكوفة، فلما رأى
كثرة من استقبله من الناس جثا على ركبتيه، ثم ضرب صلعته مرارا وقال
يا أهل العراق! أتزعمون أنى (أكذب) (5) على رسول الله وأحرق نفسي بالنار!

(1) ص 40 ج 3 البخاري.
(2) ص 44 من نفس المصدر.
(3) راجع صفحة 118 من هذا الكتاب.
(4) ص 358 ج 1 شرح نهج البلاغة.
(5) يدل هذا القول على أن كذب أبي هريرة على النبي كان قد اشتهر حتى عم الآفاق وأصبح
الناس يتحدثون به في كل مكان.
236

(والله) لقد سمعت رسول الله يقول: إن لكل نبي حرما، وإن حرمي بالمدينة
ما بين عير إلى ثور (1)، فمن أحدث فيهما حدثا فعليه لعنة الله والملائكة
والناس أجمعين، وأشهد بالله أن عليا أحدث فيها!! فلما بلغ معاوية قوله
أجازه وأكرمه وولاه إمارة المدينة (2).
على أن الحق لا يعدم أنصارا وأن الصحابة إذا كان فيهم مثل أبي هريرة
والمغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص وغيرهم ممن يستطيع معاوية أن يستحوذ عليهم،
فإن فيهم كثرة غالبة لا يستهويها وعد ولا يرهبها وعيد، وكذلك في غيرهم من
سائر الناس.
فقد روى سفيان الثوري عن عبد الرحمن بن القاسم عن عمر بن عبد الغفار
أنه - أبو هريرة - لما قدم الكوفة مع معاوية (3) كان يجلس بالعشيات بباب
كندة ويجلس الناس إليه، فجاء شاب من الكوفة فجلس إليه وقال: يا أبا هريرة،
أنشدك الله، أسمعت رسول الله يقول لعلي بن أبي طالب: اللهم وال من
والاه، وعاد من عاداه؟ فقال: اللهم نعم! فقال: فأشهد بالله، لقد
واليت عدوه، وعاديت وليه. ثم قام عنه بعد أن وخزه هذه الوخزة الأليمة.

(1) قال صاحب معجم البلدان في حرف (الثاء) ثور اسم جبل بمكة فيه الغار الذي اختفى
فيه النبي - وفى الحديث: أنه حرم بين عير إلى ثور: قال أبو عبيد: أهل المدينة لا يعرفون بالمدينة
جبلا يقال له: ثور - ويرى أهل الحديث أنه حرم ما بين عير إلى أحد. وقال بعض الرواة بين
عير إلى كدى - وقيل بمكة جبل اسمه عير ولا يجوز أن يعتقد أنه حرم ما بين عير الجبل الذي
بالمدينة وثور الجبل الذي بمكة فإن ذلك بالاجماع مباح.
(2) ص 359 ج 1 شرح نهج البلاغة وص 58 من كتاب قبول الاخبار لأبي القاسم البلخي.
(3) يتبين من ذلك أن معاوية كان يستصحب أبا هريرة في رحلاته ليكون داعيا له وأنه لم يكتف
بملازمته إياه بالشام.
237

كيف يفعل التعصب والحرص على الدنيا
ذكر البطليوسي أن من العلل التي تعرض للحديث علة (فساد الاسناد)، وقال
إنها من أشهر العلل، وإن الاسناد يعرض له الفساد من أوجه، منها أن يكون الراوي
متعصبا لبعض الصحابة منحرفا من بعضهم، وقال: " ومما يبعث على
الاسترابة بنقل الناقل أن يعلم منه حرص على الدنيا وتهافت على الاتصال بالملوك
ونيل المكانة والحظوة عندهم، فإن من كان بهذه الصفة لم يؤمن على التغيير
والتبديل والافتعال للحديث والكذب حرصا على مكسب يحصل عليه، ألا ترى
إلى قول القائل (1):
ولست وإن قربت يوما ببائع * خلاقي ولا ديني ابتغاء التحبب
ويعتده قوم كثير تجارة * ويمنعني من ذاك ديني ومنصبي
وقد نبه رسول الله صلى الله عليه وآله على نحو هذا الذي ذكرناه بقوله: " إن
الأحاديث ستكثر بعدي، كما كثرت عن الأنبياء قبلي فما جاءكم عنى
فاعرضوه على كتاب الله فما وافق كتاب الله فهو عنى قلته أو لم أقله (2).
ومما لا يمتري فيه أحد أن أبا هريرة كان متعصبا لمعاوية منحرفا عن علي
رضي الله عنه، وأنه كان حريصا على الدنيا متهافتا على الاتصال بمعاوية لنيل
المكانة والحظوة عنده وقد نال كل ما يريد.
جزاء من يداخل السلطان الظالم
ومما لا يكاد يختلف عليه أحد أن معاوية بن أبي سفيان كان أول حاكم
ظالم في الاسلام، ومما لا مراء فيه كذلك، أن أبا هريرة قد داخله وناصره وركن

(1) هو من رجال باهلة العظام يخاطب عبد الملك بن مروان.
(2) ص 103 و 104 من كتاب (الانصاف في التنبيه على الأسباب التي أوجبت الاختلاف
بين المسلمين في آرائهم) للامام أبى محمد عبد الله بن محمد بن السيد البطليوسي الأندلسي المتوفى سنة 521 ه‍
وقد بينا سائر العلل التي تكلم عنها البطليوسي في كتابنا (أضواء على السنة المحمدية) فيرجع إليها هناك.
238

إليه، فترى ماذا يكون جزاؤه وجزاء مثله على ذلك في كل عصر؟
أما القرآن الكريم فقد قضى فيهم بأن جزاءهم النار وذلك في قوله تعالى
" ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ".
وهاك ذروا من تفسير هذه الآية الكريمة:
قال أبو بكر الجصاص في تفسيره (أحكام القرآن): الركون إلى الشئ
هو السكون إليه والمحبة، فاقتضى ذلك النهى عن مجالسة الظالمين ومؤانستهم،
والانصات إليهم وهو مثل قوله تعالى: " فلا تقعد بعد الذكرى مع
القوم الظالمين "
وقال الزمخشري في الكشاف: والنهى متناول للانحطاط في هواهم، والانقطاع
إليهم، ومصاحبتهم ومجالستهم وزيارتهم، ومداهنتهم، والرضا بأعمالهم، ومد
العين إلى زهرتهم، وذكرهم بما فيه تعظيم لهم، وتأمل قوله: " ولا تركنوا "
فإن الركون هو الميل اليسير وقوله: " إلى الذين ظلموا " أي إلى الذين وجد
منهم الظلم، ولم يقل الظالمين.
وقال الرازي في مفاتيح الغيب: قال المحققون: الركون المنهى عنه هو
الرضا بما عليه الظلمة من الظلم وتحسين تلك الطريقة وتزيينها عندهم وعند
غيرهم، ومعنى قوله: " فتمسكم النار " أي أنكم إذا ركنتم إليهم فهذه
هي عاقبة الركون، واعلم بأن الله حكم بأن من ركن إلى الظلمة لابد أن تمسه
النار، وإن كان كذلك فكيف يكون حال الظالم نفسه!
وقال البيضاوي في (أنوار التنزيل): وإذا كان الركون إلى من وجد منه
ما يسمى ظلما كذلك فما ظنك بالركون إلى الظالمين الموسومين بالظلم، ثم
بالميل إليهم كل الميل، ثم بالظلم نفسه والانهماك فيه.
ونتم القول في ذلك بما جاء في الحديث عمن يداخلون الظالمين:
في حديث ابن عباس الذي ذكره ابن عبد البر في الجزء الأول من جامع
بيان العلم.
" من أتى أبواب السلطان افتتن ".
وأخرج أحمد وأبو داود من حديث (أبو هريرة): " ما ازداد أحد من
239

السلطان دنوا، إلا ازداد من الله بعدا "، وروى النسائي والترمذي والحاكم وصححاه
وغيرهم من حديث كعب بن عجرة مرفوعا: سيكون بعدي أمراء فمن دخل
عليهم فصدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فليس منى، ولست منه،
ومن لم يدخل عليهم ولم يعنهم على ظلمهم، ولم يصدقهم بكذبهم فهو منى،
وأنا منه، وهو وارد على الحوض.
وهناك أحاديث كثيرة في ذلك أخرجها الجلال السيوطي في كتاب
(الأساطين في عدم المجئ إلى السلاطين " وقد تركناها خشية الإطالة.
ولا يمتري أحد أن الصفات التي ذكرها المفسرون في تفسير آية " ولا تركنوا
إلى الذين ظلموا فتمسكم النار "، وما جاء في الأحاديث الشريفة،
ينطبق كله على أبي هريرة، ومن على شاكلته في مداخلة معاوية والركون إليه.
أيادي بنى أمية على أبي هريرة:
عرف بنو أمية صنيع أبي هريرة معهم، وقدروا موالاته لهم فأغدقوا عليه
من أفضالهم، وغمروه برفدهم وأعطياتهم، فلم يلبث أن تحول حاله، من ضيق
إلى سعة، ومن شقاء إلى دعة، ومن فقر إلى ثراء، ومن ضعة إلى علياء.
وبعد أن كان يستر جسمه بنمرة بالية، أصبح يلبس الخز (1) والديباج (2)
والكتان الممشق والساج المزرور بالديباج، وبعد أن كان خادما صار سيدا
مخدوما! ومن قوله كما جاء في الحلية: نزعت نمرة على ظهري فبسطتها بين
يديه صلى الله عليه وآله كأني أنظر إلى القمل يدب عليها. وكان يربطها في عنقه فتبلغ
ساقه فيجمعها بيده لئلا تبدو عورته.
وروى البخاري عن محمد بن سيرين قال: كنا عند أبي هريرة وعليه
ثوبان ممشقان من كتان، فقال: بخ بخ يتمخط في الكتان! لقد رأيتني وإني
لاخر فيما بين منبر رسول الله إلى حجرة عائشة مغشيا على! فيجئ الجائي

(1) قال ابن سعد في طبقاته (ص 58 - 4 - 2) والذهبي في أعلام النبلاء ص 450 ج 2
إن أبا هريرة كان يلبس الخز.
(2) هو الطيلسان - وروى ابن سعد في نفس المصدر أن أبا هريرة كان يلبس الساج
المزرور بالديباج.
240

فيضع رجله على عنقي ويرى أنى مجنون! وما بي من جنون! ما بي إلا الجوع (1).
ورواية الذهبي في أعلام النبلاء:
عن محمد: كنا عند أبي هريرة فتمخط فمسح بردائه وقال: الحمد لله
الذي تمخط أبو هريرة في الكتان (2).
ولا يستغرب أحد من هذا الامر المستقذر الذي تنفر منه النفوس، فإن
الذي يستسيغ غمس الذباب في الطعام ثم يأكله، لا يستغرب منه أي شئ
يفعله بعد ذلك. وحسبه أنه أبو هريرة!
ولقد كانت أول لفتة من عين الأمويين إلى أبي هريرة، أن ولاه معاوية على
المدينة، ثم زادت أياديهم عليه فبنوا له قصرا بالعقيق، وأقطعوه أرضا به،
وأخرى بذى الحليفة، ولا يحصى ما أسدوه له، وإنما التي هي قاصمة الظهور،
ومحرجة الصدور، والتي لا يذكرها إنسان ذو نفس كريمة إلا امتلأ حزنا وأسى
أن يزوجوه من الأميرة الجليلة بسرة بنت غزوان أخت الأمير المجاهد الجليل
عتبة بن غزوان (3).
والذي زوجه منها مروان بن الحكم أيام ولايته على المدينة من قبل معاوية.
وقد ذكر ابن حجر في الإصابة (ص 30 ج 1) أنها قد استأجرت
" أبا هريرة " في العهد النبوي ثم تزوجها بعد ذلك، لما كان مروان يستخلفه في
إمرة المدينة على عهد معاوية.
ولقد كان هذا الزواج بعد موت أخيها عتبة بزمن طويل، ولو كان حيا
ما استطاع أن يدنو ممن تخدمها، ولكنها المصادفات الغريبة الساخرة.
لك الله أيها الأميرة الفاضلة الأصيلة الطاهرة التي قضى عليها بؤسها
وشقاؤها أن يفترشها من كان من قبل يخدمها في أيام عريه وفقره بطعام بطنه.
ألا ما أقسى الزمن، وما أظلم الدهر! مهين مثل أبي هريرة يتيح له الحظ

(1) ص 259 و 260 ج 13 من فتح الباري.
(2) ص 426 ج 2.
(3) هو الأمير الجليل عتبة بن غزوان أسلم سابع سبعة وكان من الامراء الغزاة - وهو الذي
اختط البصرة وأنشأها ومصرها ولما استعمله عمر عليها بنى بها مسجدا ولم يبن دارا توفى سنة 18 ه‍ وقبل
سنة 15 ه‍.
241

فيجد من عون السلطان وغفلة الزمان، ما ينال به، ما لم يكن يحلم به!
وليته كان كريما مع هذه السيدة الجليلة التي عثر بها جدها، فوقعت
مضطرة فريسة - وهي العربية الأبية - بين يديه، فيذكر سالف برها به
وسابق إكرامها إياه، ويحفظ أياديها الكثيرة عليه أيام فقره وفاقته، أيام كان
يمشى على الأرض بلا نعلين، كما تهكم به عمر عندما عزله عن البحرين!
ولكنه قد عاملها معاملة قاسية شديدة تتفق مع طبيعته وأصله.
وهاك صورة قاتمة يبدو منها كفره بنعمتها، وسوء معاملته لها، وإهانته
إياها، مما لا يصدر مثله عن رجل كريم، أو زوج نبيل.
أشره وبطره
لما بلغ ما كان يعد مستحيلا لمثله، وتزوج من هذه الأميرة العظيمة،
لم يعرف قدر ما سبق من نعم غمرته بها من قبل، ولم يقدرها قدرها، فقد
استخفه أشره، ونم عليه أصله وطبعه، فخرج عن حدود الأدب والوقار للتي
قضى عليها سوء حظها، ونحس طالعها، بأن تتزوج من خادمها! فكان
يفتخر بعد هذا الزواج الذي كان نكبة على هذه الأميرة ويقول:
إني كنت أجيرا لبسرة بنت غزوان بطعام بطني، فكنت إذا ركبوا سقت
بهم، وإذا نزلوا خدمتهم. وفى رواية الأثرم وابن ماجة، كنت أجيرا لابنة
غزوان بطعام بطني وعقبة رجلي، أحطب لهم إذا نزلوا، وأحدو بهم إذا ركبوا،
والآن تزوجتها، فأنا الآن أركب فإذا نزلت خدمتني. ويقول: وكانت إذا أتت
على مكان سهل نزلت فقالت: لا أريم حتى تجعل لي عصيدة! فهأنذا إذا
أتيت على نحو من مكانها قلت لها: لا أريم حتى تجعلي لي عصيدة.
ومما أخرجه ابن سعد عن محمد عن أبي هريرة أنه قال: كنت أجير ابن
عفان وابنة غزوان، بطعام بطني وعقبة رجلي، أسوق بهم إذا ركبوا (1)، وأخدمهم
إذا نزلوا، فقالت لي يوما لتردنه حافيا، ولتركبنه قائما، فزوجنيها الله بعد،

(1) تقدم النص من قبل.
242

فقلت: لتردنه حافية، ولتركبنه قائمة! وفى رواية لابن سيرين، لتردنه حافية،
ولتركبنه وهو قائم (1).
فانظر إلى هذا الكلام الذي تعرى عن كل مروءة وكرم، إذ يباهى بامتهان
زوجه أمام الناس ويجاهر بالتشفي منها، وهل يفعل مثل ذلك رجل أصيل نبت
من عنصر عريق؟ ولكن لا عجب فإنه أبو هريرة وكفى!
وليته كان يكتفى بذكر هذا الأشر والزهو في مجالسه الخاصة، بل بلغ من
تبجحه في ذلك أنه كان يستعلن به على منبر رسول الله بالمدينة، وإليك ما رواه
في ذلك أبو نعيم في الحلية (2).
عن أبي يزيد المديني قام أبو هريرة على منبر رسول الله بالمدينة فخطب خطبة
ومما قاله فيها: الحمد لله الذي أطعمني الخمير، وألبسني الحرير وزوجني بنت
غزوان بعد ما كنت أجيرا لها بطعام بطني فأرحلتني فأرحلتها كما أرحلتني..
الحديث.
ومن العجيب أنك ترى من يسوع هذا الزواج ويقول: إن الاسلام قد
سوى بين الناس في المنزلة فلا فارق بين خادم ومخدوم! وهو قول باطل لا ينطق
به إلا من نبت من عنصر غير كريم، فهو لا يستطيع أن يميز بين الشريف في
عزته، والوضيع في خسته، ويجهل ما تقضى به الطبائع البشرية من أن الناس
ليسوا سواء في الأخلاق والشيم، ولا يدرى ما قاله الرسول صلى الله عليه وآله: " الناس
معادن - وأنزلوا الناس منازلهم ". هذا وإن كل نبيل النفس أغر المكارم لا يستنكر
هذا الزواج فحسب بل ينفر منه ويمقته ويفزع له.
وإن لنا أن نقول هنا ولا نخشى في الحق شيئا:
إنه لو كان قد روعي حق العرف العربي، واتبع حكم الشرع الاسلامي،
لما وقع هذا الزواج قط، وذلك بسبب انعدام الكفاءة ووجود التفاوت العظيم
في المنزلة بين هذه الأميرة الجليلة وبين أبي هريرة، فبينما تراها في السطح من

(1) ص 53 ج 4 ق 2 من طبقات ابن سعد. وص 32 ج 1 تذكرة الحفاظ.
(2) ص 384 ج 1 حلية الأولياء.
243

المجد والشرف والعزة، إذ بك تجده عاريا من مزايا الحسب والنسب، وما ظنك
برجل بلغ من الهوان والضعة، أنه لا يعرف اسمه!
والكفاءة أول شرط في صحة الزواج، فإذا ما انعدم هذا الشرط أصبح
الزواج باطلا، وبخاصة إذا وقع بإرغام وقهر من حاكم ظالم وسلطان فاجر، كما
هو الشأن في زواج أبي هريرة بهذه السيدة البائسة المغلوبة على أمرها الذي وقع
تحت سلطان معاوية الغاشم! ولكن ما لا يجوز أن يقع قد وقع بفعل السياسة
وطغيانها! التي لعن الأستاذ الإمام محمد عبده اسمها ومعناها وقال فيها كلمته
المشهورة: ما دخلت السياسة في شئ إلا أفسدته
أمثلة مما رواه أبو هريرة
وقد آن لنا أن نحدثك بأمثلة مما رواه أبو هريرة!
بعد ما قدمنا ما قدمنا من تاريخ أبي هريرة، نسوق إليك أمثلة مما رواه وعزاه
إلى النبي صلى الله عليه وآله ولا نعلق عليها، بل ندع ذلك لعقول القراء النبهاء وفطنتهم،
لان الكلام في أمره قد طال:
أخرج البخاري ومسلم عنه أنه قال: جاء ملك الموت إلى موسى فقال له:
أجب ربك! فلطم موسى عين ملك الموت ففقأها، فرجع الملك إلى الله تعالى،
فقال: إنك أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت ففقأ عيني! فرد الله إليه عينه
وقال: ارجع إلى عبدي فقل له: إن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور
فما توارت بيدك من شعرة فإنك تعيش بها سنة!
وأخرج أحمد هذا الحديث في مسنده عن أبي هريرة وفيه:
إن ملك الموت كان يأتي الناس عيانا، قال: فأتى موسى فلطمه ففقأ عينه،
الحديث وأخرجه ابن جرير الطبري عن أبي هريرة بلفظ: إن ملك الموت كان
يأتي الناس عيانا حتى أتى موسى فلطمه ففقأ عينه. وجاء في هذا الحديث أن ملك
الموت جاء إلى الناس خفيا بعد موت موسى! وشكرا لموسى!!
وقد أورد الثعالبي في كتابه (المضاف والمنسوب) هذا الحديث تحت عنوان
244

(لطمة موسى) وقال عنه إنه من أساطير الأولين وأن ملك الموت هذا (أعور)
حتى قيل فيه.
يا ملك الموت لقيت منكرا * لطمة موسى تركنك أعورا!
وختم قوله بهذه العبارة " وأنا برئ من هذه الحكاية " (ص 40، 41).
ومن العجيب أن يصف الثعالبي هذا الحديث بأنه من أساطير الأولين بعد أن
رواه البخاري ومسلم، مما يدل على أن هذين الكتابين لم يكن لهما في القرون
الأولى الاسلامية تلك القداسة التي جعلت لهما بعد ذلك، والثعالبي - كما هو
معروف - قد مات في سنة 429 ه‍.
ولا ننسى هنا فضل موسى على الناس جميعا فقد حفظهم من رؤية ملك
الموت البشعة، وله فضل آخر عظيم على المسلمين، فقد كان هو السبب في أن
وضع عنهم 45 صلاة كل يوم وليلة (انظر حديث المعراج) إذ أنه استدرك على
الله وعلى النبي ونصح له أن يراجع ربه وظل النبي يصعد ويهبط بين الله وموسى
تسع مرات، وفى كل مرة تنقص الصلاة خمسا! إلى أن أصبحت خمس صلوات
في اليوم والليلة، فجزى الله موسى عن المسلمين كافة أحسن الجزاء، إذ لولاه
لكان على المسلمين أن يؤدوا كل يوم خمسين صلاة!
وأخرج البخاري ومسلم عنه: قال النبي تحاجت الجنة والنار: فقالت
النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين! وقالت الجنة: ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء
الناس وسقطتهم! قال الله تبارك وتعالى للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء
من عبادي، وقال للنار: أنت عذابي أصيب بك من أشاء من عبادي، ولكل
واحدة منهما ملؤها، فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع رجله! فتقول: قط قط!
فهناك تمتلئ ويزوي بعضها إلى بعض. الحديث.
وروى الشيخان عنه، ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى الثلث
الأخير يقول: من يدعوني فأستجيب له.. الحديث.
وأخرج الشيخان عنه مرفوعا إلى النبي: قال سليمان بن دواد: لأطوفن الليلة
بمائة امرأة تلد كل امرأة غلاما! يقاتل في سبيل الله، فقال له الملك: قل إن
245

شاء الله، فلم يقل! فأطاف بهن فلم تلد إلا امرأة نصف إنسان: قال أبو هريرة
قال النبي صلى الله عليه وآله لو قال: إن شاء الله لم يحنث - وكان أرجى لحاجته! وفى
رواية أنهن تسعون امرأة وفى رواية ثالثة أنهن سبعون، وفى رواية رابعة أنهن ستون
وكل هذه الروايات قد جاءت عن البخاري ومسلم وأحمد. وكل جائز عند
مشايخنا!
وأخرج الشيخان عنه قال: صلى رسول الله صلاة فقال صلى الله عليه وآله إن الشيطان
عرض لي فشد على يقطع الصلاة فأمكنني الله منه فدعته (أي فخنقته) ولقد
هممت أن أوثقه إلى سارية حتى تصبحوا فتنظروا إليه، فذكرت قول سليمان
عليه السلام (رب هب لي ملكا لا ينبغي لاحد من بعدي) الآية.
روى البخاري عن أبي هريرة قال رسول الله: اشتكت النار إلى ربها
فقالت: أكل بعضي بعضا، فأذن لها بنفسين، نفس في الشتاء، ونفس في
الصيف، فأشد ما تجدون في الحر وأشد ما تجدون من الزمهرير.
وروى الشيخان من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله:
يجمع الله الناس فيقول: من كان يعبد شيئا فليتبعه، فيتبعون ما كانوا يعبدون،
وتبقى هذه الأمة بمنافقيها فيأتيهم الله تعالى في غير الصورة التي يعرفون فيقول:
أنا ربكم! فيقولون: نعوذ بالله تعالى منك! هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا
جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم في الصورة التي يعرفونها فيقول: أنا ربكم، فيقولون:
أنت ربنا!
وأخرج الشيخان عن أبي هريرة مرفوعا: فقدت أمة من بني إسرائيل
لا يدرى ما فعلت، وإني لا أراها إلا الفأرة، إذا وضع لها ألبان الإبل لم تشرب،
وإذا وضع لها ألبان الشاة شربت - الحديث.
وروى البخاري عنه: أن النبي قال: ما بين منكبي الكافر مسيرة ثلاثة
أيام للراكب المسرع. ورواية مسلم في كتابه: وغلظ جلده مسيرة ثلاثة أيام.
ورواية البزار عنه: غلظ جلد الكافر وكثافة جلده اثنان وأربعون ذراعا -
بذراع الجبار، يا حفيظ!
246

ورواية الترمذي والحاكم عنه: وأن ضرسه مثل أحد (1) وأن مجلسه من
جهنم ما بين مكة والمدينة. وهناك روايات كثيرة عن الكافر، وكلها عن أبي
هريرة أعرضنا عنها.
وأخرج الشيخان عنه عن رسول الله قال: خلق الله آدم على صورته طوله
ستون ذراعا، وزاد أحمد عن أبي هريرة: في سبعة أذرع عرضا.
وهذا الحديث هو نفس الفقرة السابعة والعشرين من الأصحاح الأول
من سفر التكوين (العهد القديم) وإليك نصها: فخلق الله الانسان على صورة
الله - على صورة الله خلقه، ذكرا وأنثى خلقهم.
وفى مسلم عن أبي هريرة مرفوعا: إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه،
ولا يقل قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك، فإن الله خلق آدم على صورته -
وقد أخرجه البخاري في الأدب المفرد ورواه أحمد كذلك.
روى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله قال: من عادى لي وليا،
فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلى عبد بشئ أحب إلى مما افترضته عليه، وما
زال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحببته، فكنت سمعه الذي يسمع به،
وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشى بها، وما
ترددت عن شئ أنا فاعله. ترددي عن قبض نفس المؤمن، يكره الموت
وأنا أكره مساءته (2)!
وروى البخاري عنه أنه كان يحمل مع النبي إداوة لوضوئه وحاجته، فبينما
هو يتبعه بها، فقال: من هذا؟ فقال: أنا أبو هريرة فقال: ابغني أحجارا
استنفض بها، ولا تأت بعظم ولا بروثة. فأتيته بأحجار أحملها في طرف ثوبي
حتى وضعت إلى جنبه، ثم انصرفت حتى إذا فرغ مشيت معه فقلت: ما بال

(1) أي جبل أحد - يا حفيظ!
(2) تفرد البخاري بإخراج هذا الحديث وقد طعن فيه الأئمة فقال الذهبي وابن رجب: هذا
حديث غريب. وقال الخطابي: التردد في حق الله غير جائز والبداء عليه في الأمور غير سائغ.
ويبدو أن أبا هريرة قد استقى هذا الحديث من أستاذه وهب بن منبه، فقد وقع في الحلية في ترجمة
هذا الكاهن " وهب " أنه قال: إني لأجد في كتب الأنبياء أن الله تعالى يقول: ما تردد عن
شئ قط ترددي عن قبض روح المؤمن.
247

العظم والروثة؟ قال: هما من طعام الجن، وأنه قد أتاني وفد جن نصيبين (1) -
ونعم الجن، فسألوني الزاد، فدعوت الله لهم، أن لا يمروا بعظم ولا بروثة إلا
وجدوا عليها طعاما!
فانظر إلى تركيب ألفاظا هذا الحديث قبل أن تنظر إلى معانيه!
وفسر (طوبى) في قوله تعالى " طوبى لهم " فقال: طوبى شجرة في الجنة
يقول الله لها: تفتقي لعبدي عما شاء، فتتفتق له عن الخيل بسروجها، وعن
الإبل بأزمتها وعما شاء من الكسوة (2).
حديث الذباب
روى البخاري وابن ماجة عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله قال: " إذا وقع
الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله فإن في أحد جناحيه داء والآخر شفاء ".
ولهذا الحديث ألفاظ مختلفة منها: فإن في أحد جناحيه سما وفى الآخر شفاء،
وأنه يقدم السم ويؤخر الشفاء، ومنها: أن تحت جناح الذباب الأيمن شفاء وتحت
جناحه الأيسر سما، فإذا سقط في إناء أو في شراب أو في مرق فاغمسوه فيه فإنه
يرفع عند ذلك الجناح الذي تحته الشفاء ويحفظ الذي تحته السم (3).
هذا الحديث قد وجد من نقد الباحثين ما لم يجده حديث آخر، ذلك
بأن الذباب في نفسه قذر تنفر النفوس من رؤيته فكيف يأمر النبي بغمسه إذا
سقط في الاناء الذي فيه طعام أو شراب ثم يتعاطون بعد ذلك ما في الاناء؟
ومنذ سبع عشرة سنة هب النطاسي البارع الدكتور سالم محمد يشك في
هذا الحديث مرتكنا على ما أثبته الحس والعلم وأجمع عليه الأطباء قاطبة من
ضرر الذباب، وأنه أكبر أعداء الانسان لأنه يسبب أمراضا كثيرة تفتك

(1) بلدة مشهورة.
(2) ص 513 ج 2 تفسير ابن كثير.
(3) يبدو أن أبا هريرة قد ذكر هذا الحديث وهو على إحدى الموائد الفاخرة - إذ كانت
الأحاديث تروى في المناسبات - ورأى ذبابة وقعت في أحد الأواني وخشي أن يستقذر الآكلون
ما فيها فيفوته شهي طعامها فقال هذا الحديث.
248

بالملايين من البشر كل عام، فوقف في وجهه شيخ جامد يدرس - للأسف -
الشريعة الاسلامية بإحدى الجامعات المصرية - فرمى هذا الطبيب الفاضل
بالجهل، وأنه لم يحترم (البخاري المقدس).
وقد رأيت حينئذ إنصافا للعلم، وتنزيها لمقام النبي صلى الله عليه وآله، وتأييدا لهذا
الدكتور الباحث أن أنشر في العدد 964 - 24 ديسمبر سنة 1951 من مجلة
الرسالة - كلمة هذا نصها:
معركة الذباب
قامت في الشهور الأخيرة معركة حامية بين مجلتي: لواء الاسلام والدكتور،
حول حديث الذباب، فالأولى تتمسك بهذا الحديث، وتصر على إثباته، ليأخذ
الناس به، ويصدقوا بمدلوله، مرتكنة على أن كتب الحديث قد أوردته - ومنها
البخاري - وأما الثانية فتدفع هذا الحديث وتستبعد صدوره عن النبي الذي
لا ينطق عن الهوى، وحجتها ما أثبته العلم وحققته التجربة من ضرر الذباب،
وأنه ناقل للعدوى في أمراض كثيرة.
وإن المرء ليأسى أن يقوم إنسان (1) في هذا العصر الذي زخرت فيه بحار
العلم وأخرجت من عجائب المخترعات والمستكشفات ما يدهش العقول، وتسابق
أهلوه في مضمار العلم ما استطاعوا للانتفاع بما خلق الله لهم وسخره لعلومهم في
السماوات والأرض، متخذين في ذلك كل سبب من أسباب العرفان والتجربة -
فيشغل الناس بهذه الأبحاث العقيمة التي لا تنفع ولا تفيد، بل هي إلى إساءة
الدين أدنى، وإلى ضرر الناس أقرب!
ولقد كان جديرا بمجلة (لواء الاسلام) ألا تسود صفحاتها بمثل هذا البحث
العقيم الذي يفتح ولا ريب على الدين شبهة يستغلها أعداؤه، ويتوارى منها

(1) الإشارة في ذلك إلى هذا الشيخ الحشوي الذي كان يجادل الدكتور بغير حق وقد أصبح
معروفا بين الناس بسخافة العقل وضيق العطن، وإن كان من شيوخ الدين. الذين يدرسون الشريعة
للشبان المسلمين وغير المسلمين.
249

أولياؤه، وأن تدع الامر في مثل هذا الحديث إلى العلم وتجاربه، وما وصلت
إليه أبحاثه الدقيقة التي لا يمكن نقضها، ولا يرد حكمها.
وماذا يضر الدين إذا أثبت العلم ما يخالف حديثا من الأحاديث التي جاءت
من طريق الآحاد، وبخاصة إذا كان هذا الحديث في أمر من أمور الدنيا التي
ترك النبي صلى الله عليه وآله أمرها إلى علم الناس.
وهل أوجب علينا الدين أن نأخذ بكل حديث حملته كتب السنة أخذ
تسليم وإذعان! وفرض علينا أن نصدقها، ونعتقد بها اعتقادا جازما؟ إن الذي
يجب التصديق به واعتقاده، إنما هو الخبر (المتواتر) فحسب، وليس عندنا
كتاب يجب اعتقاد كل ما جاء فيه اعتقادا جازما يبعث اليقين إلى القلب،
غير القرآن الكريم، لأنه هو الذي جاء من طريق (التواتر) أما الاخبار التي
جاءت من طريق (الآحاد) فإنها لا تعطى اليقين، وإنما تعطى الظن الذي
لا يغنى من الحق شيئا - فللمسلم أن يأخذ بها ويصدقها إذا اطمأن قلبه بها، وله
أن يدعها إذا حاك في صدره شئ منها، وهذا أمر معروف عند النظار، ولا
يعارض فيه إلا زوامل الاسفار من الحشوية الجامدين الذين لا يقام لهم وزن.
وإذا نحن أخذنا حديث (الذباب) على إطلاقه ولم نسلط عليه أشعة النقد
فإنا نجده من أحاديث (الآحاد) وهي التي تفيد الظن فإذا لم يسعنا ذلك في رده
بعد أن أثبت العلم بطلانه، فليسعنا ما وصفه العلماء من قواعد عامة في ذلك،
مثل: ليس كل ما صح سنده يكون متنه صحيحا، ولا كل ما لم يصح سنده
يكون متنه غير صحيح (1).
وإذا قيل إن هذا الحديث قد رواه البخاري - وهو لا يروى إلا ما كان
صحيحا - فإنا نرد على ذلك بأنه قد روى في كتابه ما عده هو صحيحا عملا
بظاهر الاسناد، لا ما ثبت أنه صحيح في الواقع - ولذلك لا يلزم غيره ما اعتبره
- هو لنفسه.
قال الزين العراقي في شرح ألفيته: وحيث قال أهل الحديث: هذا حديث

(1) ارجع إلى كتابنا أضواء على السنة في طبعته الثالثة تجد هذه القواعد مبسوطة هناك.
250

صحيح فمرادهم - فيما ظهر لنا عملا بظاهر الاسناد، لا أنه مقطوع بصحته في نفس
الامر، لجواز الخطأ والنسيان على الثقة، هذا هو الصحيح عند أهل العلم
المحققين، ولهذه القاعدة قال ابن أبي ليلى: لا يفقه الرجل في الحديث حتى
يأخذ منه ويدع!
وقال الإمام أبو حنيفة في سبب رده لبعض الأحاديث:
" ردى على كل رجل يحدث عن النبي بخلاف القرآن، ليس ردا على
النبي، ولا تكذيبا له، ولكنه رد على من يحدث عنه بالباطل، والتهمة دخلت
عليه ليست على نبي الله، وكل شئ تكلم به النبي فعلى الرأس والعين، قد
آمنا به وشهدنا أنه كما قال ".
على أننا إذا سلمنا - كما قلنا - بأن النبي صلى الله عليه وآله قد نطق بهذا الحديث
ثم أثبت العلم (ضرر الذباب) فليس علينا بأس من الرجوع عنه، وعدم الاخذ
به، لأنه من أمور الدنيا ولنا في ذلك أسوة حسنة بما فعل النبي نفسه صلى الله عليه وآله
حينما رأى أهل المدينة يؤبرون النخل فأشار عليهم بترك تأبيره - ولما ثبت بعد ذلك
ضرر عدم التأبير وخرج التمر شيصا، قال لهم حديثه المشهور " إنما ظننت ظنا،
فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به "، وفى رواية
" إذا أمرتكم بشئ من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشئ من رأيي فإنما أنا
بشر ". ثم ختم كلامه بهذه القاعدة العامة الجليلة التي يجب أن تكون دستورا
للمسلمين على مد العصور، والتي تثبت بحق أن الدين الاسلامي صالح لكل
زمان ومكان. وإنه صديق العلم وعدو الجهل، وهذه القاعدة هي " أنتم
أعلم بأمر دنياكم ".
أما راوي هذا الحديث وهو (أبو هريرة) فقد ردوا له أحاديث كثيرة في
حياته وبعد مماته، حتى من التي صرح بأنه سمعها من النبي مثل حديث: خلق
الله التربة يوم السبت (1).
وإنا نكتفي اليوم بهذه الكلمة القصيرة ونشكر لحضرة النطاسي البارع

(1) ممن اعترضوا على حديث الذباب في عصرنا الدكتور محمد توفيق صدقي.
251

الدكتور سالم محمد الذي آثار هذا البحث النافع - وندعوه وسائر زملائه الأطباء،
ثم رجال العلم جميعا، من مهندسين، وفلكيين، وجغرافيين، وغيرهم، أن
يستمروا في أبحاثهم العلمية النافعة بوسائلهم الصحيحة التي دعا إليها الاسلام،
ولا تخشوا أحدا في ذلك " فأنتم أعلم بأمر دنياكم ".
المنصورة محمود أبو رية
وفى نفس اليوم الذي نشرت فيه مجلة الرسالة هذه الكلمة - وهو يوم
24 / 12 / 1951 تلقيت من سيادة الدكتور سالم محمد، وكان حينئذ مديرا
لمستشفى كفر الشيخ، هذه البرقية ننشرها بنصها لتسجل على وجه التاريخ.
الأستاذ محمود أبو رية بك المنصورة - بمقالك مغتبطون، ولك شاكرون.
دكتور سالم محمد
أما هذا الشيخ الحشوي الجامد فقد صفعته هذه الكلمة، وأضمر لنا من
يومئذ في قلبه حقدا وضغنا، فلا يدع مناسبة يذكر فيها اسمى إلا نفث لسانه
بما يكمن في قلبه..
ومن الغريب أن العرب كانوا يعلمون من ضرر الذباب وقذارته مثل ما نعلم،
وكانوا يأنفون من تناول الطعام الذي يقع فيه الذباب، ويرفعون أيديهم منه
استقذارا له وأنفة، ومن أجل ذلك قال شاعرهم:
إذا وقع الذباب على طعامي * رفعت يدي ونفسي تشتهيه
ولما ذكر هذا البيت لأبي هريرة عندما روى حديثه هذا وقيل له:
كيف يستقذر العربي الجلف منظر الذباب وهو يقع على طعامه ويرفع يده عنه
ونفسه تشتهيه؟ ثم يأتي الرسول الكريم ذو النفس العالية والذوق السليم فيأمر
أمته بأن يغمسوا الذباب الذي يقع على طعامهم ويأكلونه بعد ذلك؟ فأجاب
أبو هريرة بأن رواة هذا البيت لم يحفظوا ما قاله الشاعر وأنه كما رويناه عن
شيخنا أشعب:
إذا وقع الذباب على طعامي * غمست يدي ونفسي تشتهيه
وبذلك لا يكون مناقضا لنص حديث النبي صلى الله عليه وآله..
252

وبعد ذلك كله نقول إن أبا هريرة قد ناقض نفسه في هذا الحديث،
كعادته في التناقض بين أحاديثه، وإنا ندع الكلام في ذلك إلى إمام كبير
من أئمة أهل السنة، ومن كبار رجال الحديث، حتى لا نرمي بالتحامل على
أبي هريرة ذلكم هو السيد رشيد رضا رحمه الله.
قال رحمه الله: " روى البخاري عن النبي صلى الله عليه وآله قال: إذا وقع الذباب
في إناء أحدكم فليغمسه كله ثم ليطرحه فإن في أحد جناحيه شفاء، وفى الآخر
داء، فهذا الحديث مشكل - وإن كان سنده صحيحا - وكم في الصحيحين
من أحاديث اتضح لعلماء الحديث غلط الرواة فيها - كحديث خلق الله
التربة يوم السبت مثلا وغيره مما ذكره المحققون، وكم فيهما من أحاديث لم
يأخذ بها الأئمة في مذاهبهم، فليس ورود هذا الحديث في البخاري دليلا
قاطعا على أن النبي صلى الله عليه وآله قاله بلفظه، مع منافاته للعلم، وعدم إمكان
تأويله، على أن مضمونه يناقض حديث أبي هريرة (نفسه). وهو أن
النبي صلى الله عليه وآله سئل عن الفأرة تقع في السمن فقال: إن كان جامدا فاطرحوه
وما حولها وإن كان ذائبا فأريقوه، أو لا تقربوه. فالذي يقول ذلك لا يبيح
أكل الشئ إذا وقع فيه الذباب! فإن ضرر كل من الذباب والفيران عظيم (1) "
وقد ثبت أن ضرر الذباب أعظم من ضرر الفيران بكثير، وأنه يحمل
ميكروبات لأمراض كثيرة (2).
وله كلام طويل في حديث الذباب نقتطف منه هذه السطور، قال
رحمه الله:
".. وحديث الذباب غريب عن الرأي وعن التشريع جميعا، أما التشريع
في مثل هذا، فإن تعلق بالنفع والضرر، فمن قواعد الشرع العامة، أن كل

(1) ص 456 ج 18 من مجلة المنار. وحديث الفأرة رواه مالك في الموطأ وكذلك رواه غيره
ونصه: أن النبي صلى الله عليه وآله سئل عن فأرة وقعت في سمن فماتت، قال: خذوها وما حولها من السمن فاطرحوه.
(2) من الأمراض التي عرفت بأن الذباب ينقلها: التيفويد والكوليرا والزحار والحمى المعوية
والرمد الصديدي.. إلخ.
253

ضار قطعا فهو محرم قطعا، وكل ضار ظنا فهو مكروه كراهة تحريمية أو
تنزيهية على الأقل إن كان الظن ضعيفا - وأما الرأي فلا يمكن أن يصل إلى
التفرقة بين جناحي الذبابة في أن أحدهما سام ضار، والآخر ترياق واق
من ذلك السم "!
وقال: " وكل من ظهر له علة في رواية حديث فلم يصدق رفعه لأجلها
فهو معذور شرعا، ولا يصح أن يقال في حقه إنه مكذب لحديث كذا. "
وقال عن قراءة البخاري واعتقاد ما فيه: " وما كلف الله مسلما أن يقرأ صحيح
البخاري ويؤمن بكل ما فيه وإن لم يصح عنده أو اعتقد أنه ينافي أصول
الاسلام. وليس معصوما هو ورواته من الخطأ، وليس كل مرتاب في
شئ في روايته كافرا! ما أسهل التكفير على مقلدة ظواهر أقوال المتأخرين!
وحسبنا الله ونعم الوكيل " (1).
وانظر تحقيق هذا العلامة الذي يفهم الدين بعقل راجح، وتحقيق متين
واضح، وقارن بينه وبين الذين يصدقون بهذا الحديث، ويدافعون عنه في
المجلات من الذين يزعمون أنهم علماء وقضى سوء الحظ على الجامعات أن
يدرسوا فيها، ومن أجل ذلك قلنا: إن أبا هريرة قد أتى بهذا الحديث من
" كيسه " ليحقق به حاجة في نفسه.
وروى الترمذي في جامعه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: العجوة
من الجنة وفيها شفاء من السم (2) وفى رواية بزيادة: والكمأة من المن وماؤها
شفاء العين!
ومما رواه الشيخان عنه أن النبي قال: لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة.
وقد عمل الصحابة بما يخالفه - فقد روى البخاري عن أسامة بن زيد، أن
رسول الله قال: إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض
وأنتم بها فلا تخرجوا منها - وروى هذا الحديث كذلك عبد الرحمن بن عوف.
ولما سمع عمر هذا الحديث رجع من الشام عندما وجد الوباء بها.

(1) ص 51 ج 29 مجلة المنار.
(2) ص 28 ج 2 طبعة الهند.
254

وعندما علم أبو هريرة ذلك - عاد فروى عن النبي: لا يوردن ممرض
على مصح - رواه البخاري - ولما قال له الحارث بن أبي ذباب - وهو ابن عم
أبي هريرة - قد كنت أسمعك يا أبا هريرة تحدثنا مع حديث (لا يوردن
الحديث) حديث (لا عدوى) فأنكر معرفته لذلك وغضب، ورطن بالحبشية (1).
ومن غرائبه التي كان لا يفتأ يطالع الناس بها ليستهويهم، كما كان
يضحك الصبيان بلعبة الغراب وهو أمير على المدينة من قبل معاوية، تلك
الغريبة التي عثرنا عليها أثناء قراءتنا لكتاب الكافي الشاف في تخريج أحاديث
الكشاف للحافظ بن حجر ص 129:
روى إسحاق في مسنده من رواية مجاهد، قيل لأبي هريرة: هل في
الجنة من سماع؟ قال: نعم شجرة أصلها من ذهب! وأغصانها من الفضة
وثمرها الياقوت والزبرجد! يبعث لها ريح فيحرك بعضها بعضا، فما سمع شئ
قط أحسن منه!
التخفيف عن داود:
أخرج البخاري عن أبي هريرة يرفعه قال: خفف على داود القرآن فكان
يأمر بدابته لتسرج فيقرأ القرآن قبل أن يسرج دوابه!
توكيله بحفظ زكاة رمضان:
أخرج البخاري بسنده إلى أبي هريرة قال: وكلني رسول الله بحفظ زكاة
رمضان فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام فأخذته وقلت: والله لأرفعنك إلى
رسول الله. قال: إني محتاج وعلى عيال ولى حاجة شديدة فخليت عنه!
فأصبحت، فقال النبي صلى الله عليه وآله يا أبا هريرة، ما فعل أسيرك البارحة؟ فقلت:
يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالا فرحمته فخليت سبيله، قال صلى الله عليه وآله:
إما أنه قد كذبك. وسيعود، فرصدته فجاء يحثو الطعام فأخذته فقلت:

(1) رواه مسلم وكذلك رواه ابن وهب محدث مصر الكبير في جامعة الذي طبعه المعهد
العلمي الفرنسي بالقاهرة سنة 1939 ص 104 وكان هذا المحدث الكبير لا يروى كثيرا عن أبي
هريرة.
255

لأرفعنك إلى رسول الله، قال: دعني فإني محتاج، لا أعود! فرحمته فخليت
سبيله، فأصبحت، فقال لي رسول الله: يا أبا هريرة، ما فعل أسيرك البارحة؟
قلت: يا رسول الله شكا حاجته فرحمته فخليت سبيله قال صلى الله عليه وآله: أما أنه
قد كذبك وسيعود، فرصدته الثالثة، فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت:
لأرفعنك إلى رسول الله، قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها..
إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي فإنك لن يزال عليك من الله حافظ،
ولا يقربنك شيطان حتى تصبح، فخليت سبيله، فلما أصبحت، قال لي
رسول الله: ما فعل أسيرك البارحة؟ فحكيت له القصة، فقال: أتعلم من تخاطب
منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة؟ قلت: لا. قال صلى الله عليه وآله: ذلك شيطان!
الله يمسح ظهر آدم:
ومن عجائبه: حديثه أن الله خلق آدم فمسح ظهره فسقط من ظهره كل
نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، أمثال الذر، ثم جعل بين عيني كل إنسان
منهم وبيصا (أي بريقا) من نور ثم عرضهم على آدم، فقال آدم: من هؤلاء
يا رب؟ قال: ذريتك، فرأى آدم رجلا منهم أعجبه وبيص ما بين عينيه،
فقال: يا رب من هذا، قال: هذا ابنك داود، قال آدم: كم جعلت له
من العمر؟ قال: ستين سنة! قال: يا رب زده من عمري أربعين سنة حتى
يكون عمره مئة سنة، قال الله عز وجل: اذن يكتب ويختم فلا يبدل، فلما
انقضى عمر آدم، جاء ملك الموت لقبض روحه، قال آدم: أولم يبق من
عمري أربعون سنة؟ قال له ملك الموت: أولم تجعلها لابنك داود؟ قال:
فجحد، فجحدت ذريته (1).
مانع الزكاة يوم القيامة:
مانع الزكاة يوم القيامة يطوق بشجاع أقرع له زبيبتان يوم القيامة -
متفق عليه.

(1) أخرجه الحاكم وصححه في المستدرك وأورده الذهبي وصححه في تلخيص المستدرك.
256

كيف يحشر الناس يوم القيامة؟
يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أثلاث! ثلث على الدواب، وثلث
على وجوههم، وثلث على أقدامهم ينسلون - رواه البيهقي.
أحاديث متناقضة!
في سنن أبي داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: ما من رجل
يسلم على إلا رد الله على روحي، حتى أرد عليه السلام!
هذا مع ما في النسائي وغيره عنه أن النبي قال: إن الله وكل بقبري
ملائكته يبلغوني عن أمتي السلام!
وفى سنن أبي داود وغيره عنه أنه قال: أكثروا من الصلاة على يوم
الجمعة، وليلة الجمعة، فإن صلاتكم معروضة على، فقالوا: يا رسول الله
كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ فقال: " إن الله حرم على الأرض
أن تأكل لحوم الأنبياء " (1).
إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان؟
أخرج الشيخان عن أبي هريرة أن رسول الله قال: إذا نودي للصلاة أدبر
الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين. فإذا قضى النداء أقبل حتى
إذا ثوب بالصلاة أدبر، حتى إذا قضى التثويب أقبل يخطر بين المرء ونفسه
يقول: أذكر كذا لما لم يكن يذكر! حتى يظل الرجل لا يدرى كم صلى!
عفريت مع النبي!
روى البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله: أن عفريتا من الجن
تفلت البارحة ليقطع على صلاتي فأمكنني الله منه، فأخذته فأردت أن أربطه
على سارية من سواري المسجد، حتى تنظروا إليه كلكم، فذكرت دعوة

(1) ص 190 و 191 من كتاب اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية.
257

أخي سليمان: " رب هب لي ملكا لا ينبغي لاحد من بعدي " فرددته خاسئا!
عفريت متمرد من إنس أو جان، الحديث..
التثاؤب من الشيطان:
روى البخاري عن أبي هريرة عن النبي قال: التثاؤب من الشيطان، فإذا
تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع فإن أحدكم إذا قال: ها، ضحك الشيطان.
الله يحب العطاس ويكره التثاؤب:
روى البخاري عن أبي هريرة أن النبي قال: إن الله يحب العطاس ويكره
التثاؤب.
صياح الديكة ونهيق الحمار:
أخرج الشيخان عن أبي هريرة واللفظ للبخاري أن النبي قال: إذا سمعتم
صياح الديكة، فاسألوا الله من فضله فإنها رأت ملكا، وإذا سمعتم نهيق
الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان فإنه رأى شيطانا.
الله يقرأ: طه ويس:
وأسند الدارمي عن أبي هريرة أن رسول الله قال: " إن الله تبارك وتعالى
قرأ طه ويس قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام "!
الفرات يحسر عن كنز من ذهب:
روى الشيخان عن أبي هريرة، قال رسول الله: يوشك الفرات أن يحسر عن
كنز من ذهب، فمن حضره فلا يأخذ منه شيئا.
ورواية الأعرج عن أبي هريرة مثله إلا أنه قال: يحسر عن جبل من
ذهب، ورواية مسلم عن أبي هريرة بلفظ (يحسر الفرات عن جبل من ذهب
فيقتتل عليه الناس فيقتل من كل مائة تسعة وتسعون! يقول كل رجل منهم:
لعلى أكون أنا الذي أنجو.
258

ووقع عند أحمد وابن ماجة عن أبي هريرة مثل هذا الحديث إلى قوله:
فيقتتل عليه الناس فيقتل من كل عشره تسعة!
وروى عن رسول الله: ما من رجل يزور قبر حميمه فيسلم عليه، ويقعد
عنده، إلا رد عليه السلام، وأنس به، حتى يقوم من عنده.
رواه أبو الشيخ والديلمي
وروى كذلك: ما من رجل يمر بقبر كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه
إلا عرفه ورد عليه السلام. وفى كنز العمال (وسنده جيد)
رواه الخطيب وابن عساكر وابن النجار
ومن أحاديثه الغريبة:
روى البخاري عن الزهري قال: قال سعيد بن المسيب، أخبرني أبو هريرة
أن رسول الله قال: لا تقوم الساعة حتى تضطرب (1) أليات نساء دوس على
ذي الخلصة، وذو الخلصة طاغية دوس التي كانوا يعبدون في الجاهلية.
لم سمى الخضر؟
روى البخاري عن أبي هريرة عن النبي أنه قال: " إنما سمى الخضر، لأنه
جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز من خلفه خضراء! "
ولدينا من مثل هذه الأحاديث ما يملا كتابا برأسه.
وتراجع أحاديثه التي تلقاها عن أستاذه كعب الأحبار في مكانها من
هذا الكتاب.
وإنا إنصافا لأبي هريرة نقول: إنه جاء ببعض أحاديث يبدو منها شعاع
النبوة، وإن كانت قليلة جدا، ولعل هذه الأحاديث كانت مما سمعه وضبطه،
مثل ما رواه أحمد في مسنده أن رسول الله قال: لا يجتمع غبار في سبيل الله

(1) حتى تضطرب: أي يضرب بعضها بعضا، والأليات جمع ألية على وزن جفنة وجفنات
والالية العجيزة وجمعها أعجاز.
259

ودخان جهنم في منخري رجل مسلم - ولا يجتمع شح وإيمان في قلب رجل
مسلم.
وحديث: ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس، رواه
البخاري في الأدب المفرد.
وحديث: إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة القائم بالليل.
وحديث: المؤمن مرآة أخيه، إذا رأى فيه عيبا أصلحه.
وحديث: سئل الرسول، أإن لنا في الهائم أجرا؟ قال: في كل كبد رطبة
أجر، رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد.
وإذ وصلنا من تاريخ أبي هريرة إلى هنا، فإنا نردف ما سقناه من قبل
بكلمات للفقيه المحدث السيد محمد رشيد رضا رحمه الله - قالها في أبي هريرة (1):
كان إسلامه في سنة 7 ه‍، فأكثر أحاديثه لم يسمعها من النبي وإنما سمعها
من الصحابة والتابعين، فإذا كان جميع الصحابة عدولا في الرواية،
كما يقول جمهور المحدثين (2)، فالتابعون ليسوا كذلك - وقد ثبت أنه كان
يسمع من كعب الأحبار، وأكثر أحاديثه (عنعنة (3)، على أنه صرح
بالسماع (4) في حديث خلق الله التربة يوم السبت - وقد جزموا بأن هذا
الحديث أخذه من كعب الأحبار (5).

(1) ص 43 ج 29 المنار.
(2) لقد أخطأ جمهور المحدثين في اعتبار جميع الصحابة عدولا، وقد بينا ذلك بالأدلة
القاطعة في كتابنا " أضواء على السنة المحمدية " من الطبعة الثالثة وأثبتنا أن عدالة الصحابة أغلبية
لا كلية.
(3) أي أن أكثر أحاديثه لم يكن يتلقاها عن النبي صلى الله عليه وآله سماعا وإنما يرويها عن غيره
وقد قال أبو بكر بن العربي: إذا كان الحديث معنعنا كان محتملا، ولم يلزم فيه ما يلزم في حدثني،
لان للراوي أن يقول: عن فلان وإن لم يدركه، حكاه الشافعي. ص 52 من كتاب الإجابة للزركشي.
(4) أي أنه سمعه من النبي. وزاد فقال: أخذ رسول الله بيدي.
(5) هكذا يثبت العالم الكبير - كما أثبت غيره - أنه كان كاذبا حتى في الأحاديث التي صرح
بأنه قد سمعها من النبي وقد مر بك نص الحديث.
260

وقال (1): إنه يكثر في أحاديثه، الرواية بالمعنى والارسال (2) لان الكثير
منها قد سمعه من الصحابة وكذا من بعض التابعين (3) لا من النبي، ولهذا
تكثر فيه العنعنة.
وقال (4): " إنه انفرد بأحاديث كثيرة كان بعضها موضع الانكار، أو
مظنته لغرابة موضوعها كأحاديث الفتن، وإخبار النبي صلى الله عليه وآله ببعض المغيبات
التي تقع بعده، ويزاد على ذلك، أن بعض تلك المتون غريب في نفسه، ولو
انفرد بمثله غير صحابي لعد من العلل التي يتثبت بها في روايته - كما هو المعهود
عند نقاد الحديث، أهل الجرح والتعديل (5). ولذلك نرى الناس ما زالوا
يتكلمون في بعض روايات أبي هريرة (6) ".
وقال فيه وفى عبد الله بن العباس (7) الذي أكثر الرواية عن رسول الله من
غير أن يسمعه لأنه كان صغيرا يوم وفاة النبي حتى قالوا إنه لم يسمع منه إلا
أربعة أحاديث وبعضهم أبلغها إلى عشرين حديثا: على حين أنه روى عنه
1660 حديثا عند ابن الجوزي، وفى مسند أحمد 1696 حديثا! " إن أبا
هريرة وابن عباس ما وضعا أساس الشريعة، ولا أركانها ولا أصولها، ولا فروعها
وإنما رويا لنا كغيرهما من الصحابة الكرام. ولو أحصينا ما انفرد بروايته
أبو هريرة وحده من أحاديث الأحكام الشرعية لرأيناه قليلا جدا، وعلمنا أنه

(1) ص 163 ج 8 تفسير المنار.
(2) أي أن أحاديثه كانت بالمعنى وأكثرها مرسلة.
(3) أي أنه لم يصرح باسم من كان يروى عنه من الصحابة أو التابعين حتى يعرف إن كان
عدلا أو غير عدل.
(4) ص 97 ج 19 المنار مجلة.
(5) ولكن من يجرؤ على تجريح أبي هريرة وهو محصن بقلاع الصحبة، وقد أوصدوا باب
الجرح والتعديل دون الصحابة جميعا، وفتحوه على مصراعيه ليدخل فيه الناس كافة.
(6) ولكن لا يزال بيننا من يقذفون الذين يتكلمون في روايات أبي هريرة ويرمونهم بالزندقة.
(7) ص 103 ج 19 من مجلة المنار ويلاحظ أن السيد رشيد رحمه الله قد قال هذا الكلام
في رده على بعض دعاة النصرانية بمجلة الشرق والغرب المسيحية الذين انتقدوا أبا هريرة وابن عباس في
أحاديثهما المشكلة، وكان بذلك يدافع عنهما!
261

لو لم يروه، لما نقصت كتب الاحكام شيئا كثيرا "، " وأن الطعن في
أبي هريرة لو كان صادقا ما حط من قدر هذه الشريعة شيئا ولو لم يخلق
أبو هريرة لما نقصت الشريعة شيئا " (1).
ولأن أبا هريرة وغيره كانوا يروون بالمعنى كما بينا ذلك في موضعه من
كتاب " أضواء على السنة المحمدية " فقد قال هذا الامام الكبير، وهو
يتكلم عن تحامي أكثر الصحابة التحديث عن النبي خشية أن لا يؤدوا ما
سمعوه على حقيقة لفظه كما نطق النبي به، فيخالفوا بذلك قوله صلى الله عليه وآله " نضر
الله امرأ سمع مقالتي فوعاها وأداها كما سمعها "، وإن الجمهور قد جوزوا بعدهم
رواية الحديث بالمعنى - قال رحمه الله:
" إنه وجد من الصحابة من كان لا يتحامى التحديث كهؤلاء (أي
الذين تحاموا عن التحديث) كأبي هريرة الذي كان أقل ما يروى من سماعه
وأكثره من غيره من الصحابة وعن التابعين أيضا حتى عن كعب الأحبار -
وكان مع ذلك قلما يذكر سماعا فأكثر ما روى عنه عنعنة كانت مصدر
مشكلات كثيرة " (2).
وقال رحمه الله (3) وهو يبين أن بطلي الإسرائيليات، وينبوعي الخرافات،
هما كعب الأحبار ووهب بن منبه:
" وما يدرينا أن كل تلك الروايات - أو الموقوفة منها - ترجع إليهما (4)، فإن
الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يذكرون ما يسمع بعضهم من بعض، ومن
التابعين على سبيل الرواية والنقل، بل يذكرونه من غير عزو غالبا، وكثيرون
من التابعين كذلك (5)، بل أكثر ما روى عن أبي هريرة من الأحاديث

(1) ص 108 من نفس المصدر.
(2) ص 514 ج 29 من مجلة المنار. ويراجع فصل رواية الحديث بالمعنى في كتابنا الأضواء
الطبعة الثالثة.
(3) ص 476 ج 9 تفسير المنار.
(4) أي إلى كعب الأحبار ووهب بن منبه.
(5) أوضحنا ذلك كله في محله من كتابنا.
262

المرفوعة لم يسمعه منه صلى الله عليه وآله ولذلك روى أكثره عنه عنعنة (1)، أو بقوله:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وأقله بلفظ، سمعت رسول الله يقول كذا. وقد روى
عن بعض الصحابة وعن بعض التابعين وثبت أنه روى عن كعب الأحبار -
ومن هنا نجزم بأن موقوفات الصحابة التي لا مجال فيها للاجتهاد والرأي لا يكون
لها قوة المرفوع كما قال المحدثون إلا إذا كانت ليست من قبيل الإسرائيليات " (2).
وقال رحمه الله (3):
" وأنا لا آمن أن يكون بعض أحاديث أبي هريرة المرفوعة الغريبة المتون التي
لم يصرح فيه بالسماع (4) - مما رواه عن كعب الأحبار فقد صرحوا بأنه
روى عنه ".
هذه ترجمة مختصرة لأبي هريرة التزمنا فيه الناحية التقريرية - ولم نسلك
فيها المنهج التحليلي العلمي العصري الذي لا تكمل التراجم الصحيحة إلا به.
ولا تتم دراسة الرجال والاحداث إلا باتباعه - ذلك بأننا لم نصل بعد إلى
احتمال سطوتها - وبخاصة إذا كان الامر يتصل بأحد الصحابة الذين قالوا
فيهم: إنهم كلهم عدول! فلا يجوز لاحد أن ينتقد بالعلم أو العقل،
أو بالبرهان والحجة، أحدا منهم، لا في روايته ولا في سيرته - ومما قالوه
فيهم: إن بساطهم قد طوى!! كأن العدالة موقوفة عليهم، والعصمة مختصة
بهم! وكأنهم في ذلك قد ارتفعوا عن درجة الانسانية - فلا يعتريهم ما يعتري
كل إنسان من سهو أو خطأ، أو وهم أو نسيان، ولا نقول الكذب والبهتان!
فحاشاهم ذلك!

(1) راجع صفحة 260 ففيها كلام لأبي بكر بن العربي عن الحديث المعنعن.
(2) ص 476 ج 9 من تفسير المنار.
(3) ص 342 ج 27 المنار.
(4) قد ثبت أن الأحاديث التي صرح بسماعها من النبي صلى الله عليه وآله قد رواها عن كعب الأحبار
كما رأيت في حديث خلق الله التربة يوم السبت كما ذكر ذلك السيد رشيد في كلمته، فما بالك بالأحاديث
التي رواها عنعنة عن غيره.
263

وماذا يقولون فيما جاء في القرآن الكريم عنهم ووصفه لاعمالهم وأنه قد
نزلت سورة خاصة بالمنافقين منهم - وأن سورة براءة قد سميت (بالفاضحة) (1)
لأنها فضحت جماعة منهم - وأن أكثرهم قد ارتد بعد موت الرسول،
وكذلك ما ورد فيهم من أحاديث صحيحة وأخبار متواترة (2)!
إذا جابهتهم بذلك نبحوك ولعنوك - وقالوا: مرتد وزنديق وفاسق، ثم
قذفوك بسبابهم وشتائمهم، على أنا إذا سلمنا لهم جدلا بأن كل صحابي
معصوم مما يقع فيه غيره من بنى الانسان، فإن أمر أبي هريرة بخاصة ليباين
أمر الصحابة أجمعين، فقد جرحه كبار الصحابة بما عرفوه عنه، لأنه كان
يعاشرهم وشكوا في روايته بل كذبوه فيها كما بيناه من قبل حتى كان كما قلنا:
أول راوية اتهم في الاسلام.
وفاة أبي هريرة
توفى أبو هريرة على الصحيح، كما روى النووي في شرحه على مسلم،
سنة 59 ه‍ عن ثمانين سنة، بقصره بالعقيق، وحمل إلى المدينة وصلى عليه
الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وكان يومئذ أميرا على المدينة من قبل معاوية.
ولما كتب الوليد إلى عمه معاوية ينعى له أبا هريرة، أرسل إليه معاوية:
انظر من ترك وادفع إلى ورثته عشرة آلاف درهم، وأحسن جوارهم، وافعل
إليهم معروفا!! وهكذا يترادف رفدهم له حتى بعد وفاته (3).

(1) أخرج البخاري عن سعيد بن جبير أنه قال: قلت لابن عباس: سورة التوبة قال:
هي الفاضحة ما زالت تنزل فيهم حتى ظننا أنها لم تبق أحدا - وهي تسمى كذلك، المنقرة لتنقيرها
عن أسرار المنافقين، والمخزية والمثيرة، والحافرة والمنكلة، والمدمدمة والمقشقشة والمبعثرة والمشردة
وتسمى سورة العذاب - ص 136 ج 2 تفسير الكشاف لجار الله الزمخشري.
(2) ارجع إلى فصل عدالة الصحابة في كتاب (الأضواء) الطبعة الثالثة لترى قول الحق فيهم
ولتقف على ما رآه رسول الله منهم ورأيه فيهم.
(3) وعلى أن أبا هريرة قد دفن بالعقيق بالمدينة فإنك تجد له ضريحا عاليا فيه قبة مكسوة
بالجوخ تعلوها عمامة كبيرة خضراء وهذه القبة داخل مسجد يسمى باسمه ويقع هذا المسجد في شارع
يشق مدينة الجيزة (بالديار المصرية) من شرقها إلى غربها يسمى (شارع سيدي أبي هريرة)
وقد زرنا هذا الضريح في يوم السبت الموافق 23 يونية سنة 1962 وليس بعجيب أن يكون
لأبي هريرة قبر في الجيزة غير قبره الذي بالمدينة فإن له من شيخه الكبير كعب الأحبار أسوة! فهذا
اليهودي - كما هو معلوم - مدفون بمدينة حمص بالشام، ولكن له قبرا آخر فوقه قبة كبيرة تقع
بأحد المساجد الكبيرة بحي الناصرية المشهور بالقاهرة. ويعمل لأبي هريرة مولد كل عام تتمثل فيه كل
المفاسد التي تقع في كل الموالد.
ومن العجيب أن وزارة الأوقاف بالجمهورية العربية المتحدة تنفق على قبري أبي هريرة وشيخه
من مال المسلمين، على عين جميع رجال الدين!
264

تنبيه وتحذير! هذا هو كتاب (شيخ المضيرة) الذي استخرت الله في تصنيفه، وأنفقت
ما أنفقت من الجهد في سبيله، وليس لي علم الله - أي غرض من وراء نشره
إلا أن يعرف الناس تاريخ هذا الصحابي الذي ملا الأرض - دون غيره -
حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وآله على حين أنه لم يصاحبه إلا زمنا يسيرا.
وقد سقنا هذا التاريخ مكشوفا بعد أن نزعنا عنه ثوب (الرواية) الملفق
الذي يظهره في غير صورته، وأظهرنا شخصيته عارية على حقيقتها، وعرضنا
سيرته كما وقعت على وجهها، من يوم أن كان يرعى الغنم في بلاده، ويخدم
ابن عفان وبسرة ابنة غزوان بطعامه، وقدومه على النبي صلى الله عليه وآله ليخدمه على ملء
بطنه، واتخاذه الصفة مثابة له بعد إسلامه، وكان يومئذ حافي القدمين
لا يستر جسمه إلا إزار بال لا يبلغ نصف الساقين! حتى كان يجمعه كراهية أن
ترى عورته (1) إلى أن أصبح من ذوي الثراء العريض، يتأثل الأراضي الواسعة
بالعقيق، وبذي الحليفة، ويبتني قصرا منيفا بالعقيق، ويلبس الخز والكتان
الممشق، والساج المزرور بالديباج، وغير ذلك مما لم يكن يحلم به، أو يخطر
بباله.
ولم يبلغ ذلك كله إلا بعد أن وصل حبله بحبل معاوية، وصار من أنصاره
ودعاته، ولم نأل جهدا في دراسة هذا التاريخ وتمحيص حقائقه، واستقصاء

(1) كل ذلك قد اعترف به وقد مضى الكلام فيه من قبل في ثنايا هذا الكتاب.
265

وقائعه حتى خرج في أصدق صورة وأوضح بيان، بحيث يرى في مرآته
الصافية حقيقة مروياته الكثيرة المنبثة في كتب السنة كلها، وبذلك يمكن
الوقوف منها الموقف الذي تستحقه من التحفظ منها، أو التوقف عنها، تلك
المرويات التي تحمل فيما تحمل غرائب وأساطير وخرافات وأوهاما، وتعزى
كلها - وا أسفا - إلى النبي صلى الله عليه وآله وتنشر بين المسلمين على أنها من حقائق
الدين الاسلامي!
ذلك بأننا لو سكتنا عنها، وجارينا الحشوية والجامدين في قبولها على
علاتها، ومنحناها محض ثقتنا، وجعلناها في مصادر ديننا، في عقائدنا
وعبادتنا، وتشريعنا، فإنما نكون بذلك قد ألغينا عقولنا، وأسأنا إلى ديننا،
واتبعنا سنن من قبلنا، من تقليد آبائهم تقليدا أعمى، وحق علينا حكم الله فيهم،
ومن وراء ذلك خطر عظيم آخر يعود علينا وعلى الدين معا.
ذلك بأن الاستمساك بهذه المرويات على ما فيها، يفتح أبواب الطعن على
ديننا من أعدائه بأنه دين خرافات وأوهام! يعادي العقل، ويصادم المنطق،
ولا يصلح للحياة ويرمى المسلمين بأنهم يأخذون بالتقليد في الدليل وأنهم
بذلك قوم لا يعقلون!
فالأحرى بنا، والواجب علينا، أن ندرأ عن أنفسنا وديننا هذه التهم
ونشمر عن ساعدنا لتمحيص هذه المرويات، ولا يأخذنا في ذلك أي اعتبار،
ولو أدى بنا الامر إلى رفضها أو تكذيبها، كما فعل الذين سبقونا، ولنعلم أننا اليوم
قد أصبحنا في عصر لا يسود فيه غير سلطان العقل والعلم، ولا يروج في سوقه
إلا ما قام على البرهان العقلي، أو الدليل العلمي وهما والحمد لله قاعدتا الدين
الاسلامي في صميمه، أما الخرافات والأوهام وما إلى ذلك مما شاب كل الأديان
فقد كسدت سوقها، وبارت تجارتها، وأصبحت مما يجلب الخزي والفضيحة
على معتنقيها.
وإنا بما ندعو اليوم إليه، لم نكن بدعا فيه، ولا بأول من يحض عليه،
فقد سبقنا إلى ذلك كبار العلماء فدعوا إلى ذلك، وهاك بعض ما قالوه:
266

فيما يجب اتخاذه نحو رواياته
والتحفظ من الأحاديث التي تروى عنه
روى مسلم بن الحجاج عن بسر بن سعيد قال: اتقوا الله وتحفظوا من
الحديث، فوالله لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة، فيحدث عن رسول الله ويحدثنا
عن كعب الأحبار ثم يقوم، فأسمع بعض من كان معنا يجعل حديث رسول الله
عن كعب، وحديث كعب عن رسول الله - وفى رواية: يجعل ما قاله كعب
عن رسول الله، وما قاله رسول الله عن كعب فاتقوا الله وتحفظوا في الحديث (1).
وروى أحمد في مسنده (2) عن القاسم بن محمد قال: اجتمع أبو هريرة
وكعب فجعل أبو هريرة يحدث كعبا عن النبي وكعب يحدث أبا هريرة عن
الكتب أي مما يفتريه كعب من الإسرائيليات أو يزعم أنه من كتبهم.
ولكي نزيد هذا الكلام بيانا وتوكيدا نقول:
إنك لو رجعت إلى كتب الحديث فإنك تجد فيها أحاديث كثيرة
لأبي هريرة ويرفعها إلى النبي صلى الله عليه وآله يزعم في بعضها أنه سمعها بأذنه من النبي
صلى الله عليه وآله ويؤكد في بعض آخر هذا السماع، ويزيد عليه فيقول: أخذ رسول الله بيدي وهو يحدثني!
وإذا أنت تدبرت هذه الأحاديث وبحثت عن حقيقتها، وجدت أنها
ليست من قول النبي صلى الله عليه وآله وإنما هي مكذوبة عليه.
وإنما نكتفي هنا بإيراد مثل واحد على ذلك حتى لا يطول بنا نفس
(الحديث) وهذا المثل - كاف ولا ريب - عند التحقيق لان يقاس عليه
كل ما جاء عن أبي هريرة مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وآله، ويكشف عن حقيقة
مروياته، ويبين مقدار نصيبها من الصحة - ذلك بأنه إذا كان يكذب فيما

(1) ص 109 ج 8 البداية والنهاية لابن كثير. وص 436 ج 2 سير أعلام النبلاء للذهبي.
(2) ص 275 ج 2.
267

يزعم أنه قد سمعه بأذنه من النبي صلى الله عليه وآله وتلقاه عنه ويده الشريفة في يده ال‍...
فكيف يكون الشأن في الأحاديث التي يرويها عنعنة عن غيره من الصحابة
أو من غيرهم من التابعين! الذين لم يبين لنا أسماءهم حتى نعرف حقيقتهم وهم
غالب أحاديثه؟؟
انصفوا العلم يا أولى الألباب، ولا تأخذكم في الحق لومة لائم!
وإذا كنا قد أوردنا هذا الحديث من قبل فإنا نعيد نشره هنا لان سياق
الحديث يقتضيه، وتمام القول يوجبه ويستدعيه.
روى مسلم في كتابه الذي يطلقون عليه اسم الصحيح عن أبي هريرة أن
النبي صلى الله عليه وآله أخذ بيده وقال: خلق الله التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال
يوم الأحد إلخ (1).
وقد طعن في هذا الحديث الأئمة وقالوا: إنه ليس من قول النبي صلى الله عليه وآله،
وجزموا بأنه من قول كعب الأحبار، وإليك ما قاله ابن تيمية الذي يلقبه
أهل السنة بشيخ الاسلام قال رحمه الله:
وأما الحديث الذي رواه مسلم في قوله: خلق التربة يوم السبت فهو حديث
معلول، قدح فيه أئمة الحديث كالبخاري وغيره، قال البخاري: الصحيح أنه
موقوف على كعب الأحبار، وقد ذكر تعليله البيهقي أيضا وبينوا أنه غلط
ليس مما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وهو ما أنكر الحذاق على مسلم إخراجه
إياه (2). وقال رحمه الله: وقد نوزع مسلم بن الحجاج في عدة أحاديث مما
خرجها وكان الصواب مع من نازعه، كما روى في حديث الكسوف أن النبي
صلى الله عليه وآله صلى بثلاث ركوعات، والصواب أنه لم يصل إلا بركوعين! وكذلك
روى مسلم. خلق الله التربة يوم السبت، ونازعه فيه من هو أعلم منه كيحيى
بن معين والبخاري فبينوا أنه غلط وليس من كلام النبي صلى الله عليه وآله والحجة مع
هؤلاء، فإنه قد ثبت بالكتاب والسنة والاجماع، أن الله خلق السماوات
والأرض في ستة أيام - وكذلك روى أن أبا سفيان لما أسلم طلب من النبي صلى الله عليه وآله

(1) ارجع إلى نص هذا الحديث في كتابنا هذا فقد أوردناه من قبل.
(2) ص 16 من تفسير سورة الاخلاص.
268

أن يتزوج بأم حبيبة وأن يتخذ معاوية كاتبا له. وغلطه في ذلك طائفة من
الحافظ (1). وذلك بأن النبي صلى الله عليه وآله قد تزوج بأم حبيبة وأبو سفيان كافر!
وبعد ذلك نعود لنتم القول فيما طلبه العلماء من التحفظ في الأحاديث التي
تروى عن أبي هريرة فنقول.
إذا كان علماؤنا رحمهم الله، قد كشفوا عن إحدى النواحي التي تتسرب
منها أحاديث أبي هريرة التي لا أصل لها، وهي ناحية كعب الأحبار
اليهودي! فإن هناك نواحي أخرى قد سال سيلها، تلك هي البواعث النفسية
التي كانت تسوق أبا هريرة بعصاها فيروي ما يروى ثم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله.
وإن من يستقرئ روايات أبي هريرة ويتدبرها، ويردها إلى أسبابها
ومناسباتها فإنه يرى من خلالها حقيقة هذه البواعث التي كان يرسل من أجلها
رواياته. ومن يحقق النظر في هذه المرويات ويتعمقها يجد أنها كانت تصدر
عنه:
إما ارتجالا: يختلقها لساعته كحديث الورق المعلق، وحديث، أن يتبع
الناس عثمان وأصحابه، عند الفتنة لأنه هو الأمين.
أو ابتداعا: لكي يصل إلى مبتغاه، من تحقيق مآربه الذاتية، ورغائبه
النفسية، كما رأيت ذلك في أحاديث، بسط الثوب! والوعائين! والمزود!
التي مر بك نبؤها في قصته العجيبة.
أو يخرجها في صورة غرائب يستهوى بها الناس كحديث امتلاء جهنم!
وحديث طواف سليمان بمئة امرأة وغيرهما.
ولا ريب في أنه قد تأثر في رواية غرائبه بأستاذه الأكبر داهية اليهود كعب
الأحبار. الذي كان يبث الغرائب الإسرائيلية بين المسلمين، لأنه يعرف كلف
الناس بها وولوعهم بسماعها. ووجد أن شيخه لم يرتفع قدره بين الناس إلا
بغرائبه فأراد أن يسلك سبيله ويتبع طريقته. وتأثر كذلك بوهب بن منبه
الحبر اليهودي وروى عنه.

(1) ص 81 من كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة، وارجع إلى كلامنا عن كتاب مسلم
هذا في فصل كتب الحديث المشهورة في كتابنا أضواء على السنة الطبعة الثالثة.
269

وكان كثيرا ما يتعاون هو وشيخه على صوغ هذه الغرائب ليستحوذ بها على
قلوب الناس وعقولهم، فيكون له بذلك شأن ومكانة بينهم.
وقد حدثناك من قبل عن ناحية من شخصيته وبينا لك أنه كان مصابا
بمرض (مركب النقص) فارجع إلى ذلك لكي تستوفى دراسة شخصيته كلها،
وتتجلى لك نفسيته على حقيقتها.
وإذا كانوا قد اتهموه كما بينا لك من قبل في بعض رواياته بل كذبوه!
فإننا نقول لأهل عصرنا ولمن يأتي بعدهم:
إنه إذا وجد واحد منهم شيئا في هذه المرويات مما يباين العقل الصريح.
أو العلم الصحيح، أو الحس، أو العيان، أو ما أثبتته البراهين العقلية أو
التجارب العلمية، أو مخالفا لنص القرآن الكريم، أو الذوق السليم أو يصادم
النواميس الكونية، والاغراض العليا التي يرمى الاسلام إليها، أو نحو ذلك مما
يحرج الصدر، أو لا يطمئن به القلب، وتسكن إليه النفس فليطرحه جانبا.
وليس عليه في ذلك بأس ولا تثريب.
ذلك بأنه صلوات الله عليه لا يصدر منه إلا القول السديد، والامر الرشيد،
والعمل الحميد: وإذا قال قائل: وماذا نصنع فيما جاء من مثل ذلك عن غير
أبي هريرة مثل أنس وجابر وعكرمة وغيرهم. فنقول له: إن الشأن فيه يكون
كالشأن في مرويات أبي هريرة سواء بسواء، ونحن لم نخص أبا هريرة بالعناية
إلا لأنه كان أكثر الصحابة تحديثا عن النبي صلوات الله عليه، وجاء في
رواياته من الاشكالات والخرافات ما لم يأت مثله من غيره، مما كان مدعاة لان
يتخذ منها أعداء الدين مآخذ على الاسلام لا تزال قائمة إلى اليوم وبعد اليوم.
ولقد صرح الأئمة " بأنه ليس من أصول الايمان، ولا من أركان الاسلام
أن يؤمن المسلم بكل حديث جاء في كتب السنة المشهورة لدى الجمهور ".
ذلك بأن أحاديث هذه الكتب قد جاءت من طريق (الآحاد) الذي يفيد
(الظن) - والظن لا يغنى من الحق شيئا - ولذلك لا يؤخذ بها في العقائد التي
لا تكون أدلتها إلا من الخبر (المتواتر) وليس هناك أخبار متواترة إلا ما جاء في
(القرآن الكريم).
270

وما دام الامر كذلك فأنت بالخيار تلقاء ما جاء في هذه الكتب تأخذ
منها ما تأخذ. وتدع ما تدع، وليس عليك في الحالتين حرج أو جناح.
وإن لك لأسوة حسنة في أئمة المذاهب الدينية كأبي حنيفة والليث بن سعد
ومالك والشافعي وغيرهم فلقد كان الواحد منهم يأخذ الحديث ويعمل به، ثم
يأتي صاحبه فيترك هذا الحديث ويعمل بغيره - والكل على صواب فيما يأخذ
وما يدع.
ولما ظهرت كتب السنة المشهورة لدى الجمهور لم يأخذ أئمة الفقه في
جميع المذاهب بما جاء فيها، وظلوا متمسكين بأدلة مذاهبهم، حتى ولو كان
فيها ما يخالف ما في هذه الكتب، وهم بعملهم لم يخرجوا من دينهم، وكذلك
لم يتخذ كبار النحويين كسيبويه والخليل وغيرهما أحاديث النبي من الأدلة
على اللغة في علمهم. وكل ذلك معروف مشهور. وقد فصلناه في كتابنا
(أضواء على السنة المحمدية) (1).
وهناك طوائف كثيرة من المسلمين لا يعترفون بكتب السنة المشهورة، ولهم
كتب في السنة والفقه خاصة بهم يتبعونها ويأخذون بها مثل الشيعة والزيدية
وغيرهم والشيعة الامامية بخاصة " لا يعتبرون من الأحاديث إلا ما صح لهم
من طرق أهل البيت عن جدهم. يعنى ما رواه الصادق عن أبيه الباقر عن
أبيه زين العابدين عن الحسين السبط عن أبيه أمير المؤمنين عن رسول الله سلام
الله عليهم جميعا. أما ما يرويه مثل أبي هريرة وسمرة بن جندب ومروان بن
الحكم وعمران بن حطان وعمرو بن العاص ونظائرهم فليس له عند الإمامية
أي اعتبار (2) "، وهؤلاء الطوائف جميعا لا يمكن لاحد أن يطعن في دينهم.
أو يستريب في إيمانهم. لأنهم مستمسكون بأصول الاسلام ويؤمنون بمحمد
(ص) والكتاب الذي جاء به - " ولكل قوم سنة وإمامها ".

(1) ارجع إلى الطبعة الثالثة من هذا الكتاب.
(2) ص 149 من كتاب أصل الشيعة وأصولها الطبعة العاشرة طبعة القاهرة، والشيعة
الامامية هم جمهور أهل العراق وإيران وملايين المسلمين في الهند ومئات الألوف في سوريا والأفغان.
ص 103 من نفس المصدر.
271

ولكي يطمئن قلب القارئ بما قلناه. وتسكن نفسه إلى ما بيناه، نسوق
هذه الأدلة القاطعة، والبراهين الساطعة التي تؤيد ما أوردناه تأييدا كاملا:
روى أحمد في مسنده عن أبي حميد وأبى أسيد أن رسول الله قال: إذا
سمعتم الحديث عنى تعرفه قلوبكم وتلين له أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه منكم
قريب فأنا أولاكم به، وإذا سمعتم الحديث عنى تنكره قلوبكم، وتنفر منه
أشعاركم وأبشاركم وترون أنه منكم بعيد فأنا أبعدكم منه (إسناده جيد).
وذكر الحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ في ترجمة أمير المؤمنين على رضي الله عنه (1).
حدثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون، أتحبون أن يكذب الله
ورسوله. وهذا الأثر أخرجه البخاري.
وقال ابن مسعود: إذا حدثناكم بحديث أتيناكم بتصديقه من كتاب الله (2).
وقال الربيع بن خيثم: أن للحديث ضوءا كضوء النهار تعرفه، وظلمة
كظلمة الليل تنكره.
وقال الإمام أبو حنيفة في سبب رده لبعض الأحاديث:
" ردى على كل رجل يحدث عن النبي بخلاف القرآن ليس ردا على النبي.
ولا تكذيبا له ولكنه رد على من يحدث عنه بالباطل. والتهمة دخلت عليه
ليس على نبي الله، وكل شئ تكلم به النبي فعلى الرأس والعين قد آمنا به وشهدنا
أنه كما قال: ونشهد أنه لم يأمر بشئ يخالف أمر الله، ولم يبتدع، ولم يتقول.
غير ما قال الله، ولا كان من المتكلفين " (3).
وثم قواعد وأصول كثيرة غير ذلك تجدها مبينة في كتابنا أضواء على السنة
(الطبعة الثالثة).
.

(1) ص 12.
(2) ص 549 ج 3 تفسير ابن كثير.
(3) ص 99 من مناقب أبي حنيفة للمكي.
272

هذا هو موقف الناس من الحديث يأخذون منه كل ما تطمئن به قلوبهم،
ويدعون ما تضيق به صدورهم وليس في ذلك أي حرج.
أما الذي يجب على المسلمين أن يؤمنوا به إيمانا جازما فهو (القرآن الكريم
وحده) الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه - ثم الحديث المبين له.
هذا وأرجوا أن أكون قد أديت حق العلم والتاريخ في وضع هذا الكتاب،
وأظهرت فيه شخصية أبي هريرة ليكون في تاريخ هذه الشخصية فصل
الخطاب.
والله ادعوا أن يهدينا جميعا إلى اتباع سبيل الحق، وأن يوفقنا دائما إلى
ما فيه نفع الخلق، إنه سميع الدعاء.
محمود أبو رية
عن جيزة الفسطاط بالقاهرة.
ليلة أول رمضان سنة 1381 ه‍
6 فبراير سنة 1962.
273

إلمامة عابرة
بكتاب (أبو هريرة) الذي خرج أخيرا
باسم الخطيب العجاج
قابلني ذات يوم صديق وقال: ارتقب هجوما جديدا عليك وعلى كتابك
(الأضواء) سيخرج في كتاب، ليس كالكتب التي سبقته في نقد كتابك
مما كان يصدر عن أفراد - إذ قد تعاون على تأليفه منذ سنين جمهرة من
شيوخ الدين مصريين وغير مصريين! وبذلت مساعي خفية لتتولى وزارة
الثقافة المصرية طبعه ونشره على نفقتها لكي يأخذ صفة رسمية تخلع عليه رداء
من الاعتبار، وتكسبه حظا من الانتشار!
ثم أشار إلى أمور تربط بين هذا الكتاب وبين كتاب آخر ألفه أحد
الشوام من قبل ونال عليه جائزة الدولة! (1) ولا نعرض هنا لسبب نوال هذه
الجائزة!.
أما صاحب الكتاب الجديد فهو ربيب الأول - وهو شامي كذلك -
وسينال جائزة سخية عليه.
وكأن صديقي هذا - وهو يلقى على مسمعي كل ذلك - يطلب منى أن
أستعد لملاقاة هذا الهجوم المرتقب، فقلت له: هون عليك يا صاح! فأنا
جد خبير بشيوخك هؤلاء وبعلمهم وبنقدهم سواء كانوا أفرادا أو جماعات
وقد بلوتهم من قبل فلم أجد بينهم عالما ولا باحثا ولا محققا! وستري إن شاء الله أن
كيدهم الأخير سيزيد من فضائحهم، ويرتد بالوبال عليهم. وهم بجمعهم
لا أباليهم ولا حساب لهم عندي، ثم انتظرت هذا الهجوم الذي أعدوا له كل

(1) هو كتاب ألفه شيخ سوري اسمه مصطفى السباعي وكان زعيما للاخوان المسلمين بسوريا
ولهذه الصفة نال ما نال ورحم الله أستاذنا الإمام محمد عبده حيث يقول: ما دخلت السياسة في شئ إلا
أفسدته.
274

ما استطاعوا من قوة، حتى بدت طلائعه في دعاية عريضة على صفحات الصحف
من قبل وزارة الارشاد تنبئ بظهور هذا المولود السعيد؟! وما كدت أتناوله
بين يدي وأتبين معارفه ومغابنه حتى رأيته مشوه الخلق هزيلا - يصدق عليه
المثل العربي القديم - تمخض الجبل فولد فأرة - وإن كان قد بدا للناس
في ثوب مزركش..
ولو أنت تدبرت هذا الكتاب في مجموعه وأحكمت ذلك بعقل راجح
وأمعنت فيه بنظر غير مدخول، لوجدت الحشد والاجتلاب قد شاعا فيه من
كل جانب وأنه قد ضم ما ضم " حبل الحاطب " مما لا يفيد العلم أو النقد في شئ!!
تناولت هذا الكاتب وأنا أظن أنه قد روعي فيه الأسلوب العلمي النزيه،
واتبع فيه أصول النقد الحديث، وأنه قد آن لمؤلفيه أن يتحرروا من إصر الجمود،
وأن يميطوا عن عقولهم غطاء التقليد، حتى يكون نقدهم أدنى إلى الصواب،
وأقرب إلى الحق - ولكن وا أسفا فإني ما كدت أقرأ مقدمته حتى ألفيته من
جنس ما سبقه من الكتب (شكلا وموضوعا.) وكأننا نكلف هؤلاء القوم
ضد طباعهم إذا نحن حاولنا أن نطلب منهم أن يلتزموا جادة البحث العلمي
الخالص، وأن يقرعوا الحجة بالحجة، ويدفعوا الدليل بالدليل، ذلك بأنهم
جميعا بين مقلد (1) ليس له رأى مستقل، ولا عقل مستدل، وإنما ينقل عن

(1) قال عبيد الله بن المعتز: لا فرق بين بهيمة تقاد، وإنسان يقلد. وقال حافظ المغرب ابن
عبد البر شرحا لهذه الحكمة الجليلة: وهذا لغير العامة الذين هم المرادون بقول الله عز وجل: " فاسألوا
أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون "، وإذا كانوا قد أجمعوا على أن الأعمى لابد له من تقليد غيره ممن
يثق بميزة القبلة، فكذلك من لا علم له ولا بصر بمعنى ما يدين به، لابد له من تقليد عالمه.
ولأن التقليد أمر خطير يضر بالدين والعلم معا فقد أنشأ فيه ابن عبد البر أبياتا من الشعر رجا
من ورائها جزيل الاجر لكي يحفظ الناس هذه الحكمة وقال: لان من الناس من يسرع إليه
حفظ المنظوم ويتعذر عليه المنثور. ونحن ننقل هنا من شعره هذين البيتين:
يا سائلي عن موضع التقليد خذ * عنى الجواب بفهم لب حاضر
لا فرق بين مقلد وبهيمة * تنقاد بين جنادل ودعاثر
ص 114 و 115 ج 2 جامع بيان العلم وفضله - (والجنادل الصخور العظيمة والدعاثر الحفر
العميقة).
وقال أحمد بن حنبل: انظروا في أمر دينكم فإن التقليد لغير المعصوم مذموم وفيه عمى للبصيرة.
ص 297 الاسلام الصحيح.
ومما قالوه: ما أضيع البرهان عند المقلد!
275

غيره بغير فهم، وبين مشتغل بالحديث. والمشتغلون بالحديث قوم قضوا
حياتهم متعبدين للأسانيد ومنصرفين عن دراسة المتون، ولا يهمهم إن كانت
هذه المتون صحيحة أو غير صحيحة، معقولة أو غير معقولة، ومن أجل
ذلك وصفوهم بالجمود وحق عليهم هذا النبز على مد العصور، لا يختلف
في ذلك أحد (1)
وقد جمع العجاج هذا بين الصفتين معا، فهو كما عرف عنه مقلد في
دينه، واعترف بعد ذلك بأنه مشتغل في السنة وعلومها (2).
ولقد كان أول شئ بدا من كتابه أنه يضرب على نغمة شيوخه التي
لا يملونها ولا ينزعون عنها، ولا يحسنون غيرها، حتى مجتها الاسماع، وأنفت منها
الطباع، وسئمتها النفوس، وذلك أنهم يرمون كل من يتصدى لدراسة حياة
الذين يتعبدون لهم ويجعلونهم من المعصومين، أو يمس شيئا مما ورثوه عن
شيوخهم من علم بغير إدراك ولا فهم - يرمون من يقدم على ذلك بالمروق
من الدين، وأنه متأثر بالمستشرقين أعداء الدين، لا يصدهم عن ذلك وازع
من خلق، ولا رادع من دين.
وما كدت أفرغ من تلاوة هذا الكتاب حتى وجدته (يعج) بالخرافات
والمتناقضات والمفتريات والمغالطات، وأن جامعه يتشبث بالأدلة الواهية،
والاخبار الباطلة ليغطي بها على الحقائق الثابتة، بله ما فيه من العبارات النابية التي
لا يخلو منها كتاب من كتبهم.
ومما أذهلني وأذهل كل مسلم غيور على دينه أن يجعلوا أبا هريرة
(راوية الاسلام (3).

(1) قال العلامة الصفدي في كتابه (نكت الهميان في نكت العميان) وهو يتكلم عن
شيخه الحافظ الذهبي ويبرئه من وصمة الجمود التي اختص بها المشتغلون بالحديث: " اجتمعت به،
وأخذت عنه، وقرأت عليه كثيرا من تصانيفه ولم أجد عنده جمود المحدثين، ولا كودنة النقلة ".
ص (242) وقال السيد رشيد رضا: إن النجديين والحشويين يأخذون بالايمان والتسليم كل ما يجدونه
في كتب الحديث من غير بحث في تعارض ولا إشكال (ص 474 ج 18 المنار).
(2) ص 5 من كتابه (أبو هريرة).
(3) لو أن أبا هريرة هذا الذي كشفت عن حقيقة تاريخه هنا كان كما يزعمون (راوية
الاسلام في عقائده وعباداته وأحكامه وآدابه بحيث لا يؤخذ في ذلك كله إلا بما يرويه، ولا يتبع إلا ما
يحكيه، وأن النبي صلى الله عليه وآله قد عهد إليه وحده أن يكون راوية الاسلام للناس كافة لكنت أول كافر به،
ولا أبالي! والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الصادق الأمين، وعلى آله الأطهار
الأكرمين، ورضى الله عن أصحابه الصادقين المخلصين، الذين اتبعوه بإحسان وظلوا على هديه سائرين
غير المنافقين الكاذبين، الذين ركبوا أهواءهم وغيرتهم الدنيا وزينتها فباءوا بالخسران المبين.
276

ومثل هذا الكتاب إنما يكون من الخطأ النظر فيه أو الرد عليه، وإنما يجب
أن يقابل بما يستحقه من الاهمال، وأن يوضع في مكانه من عدم الاعتبار،
وتلقاء ذلك رأيت من التدبير وصيانة لحرمة العلم وحفاظا على كرامة أهله، أن
أمر عليه كما مررت على غيره من قبل - مر الكرام بلغو القول، وإن أتبع
فيه ما اتخذته مع سائر الذين انتقدونا بجهل وبخاصة أن العجاج - الذي ظهر
باسمه هذا الكتاب - ليس بخير منهم. ولا هو بالذي يستأهل الرد عليه من
دونهم. وإنما الواجب أن نطرحه جانبا. ولا سيما بعد أن سبرنا علمه فوجدناه
لا يزال عجرا لم يستو بعد ولم يستحصد!
كان هذا هو الرأي. ولكن لما كان هذا الكتاب من حيث الشكل ليس
كالكتب التي نزهنا قلمنا عن التصدي لها. أو الرد عليها، ذلك، بما أتيح
له من حظ وعناية، وبما اجتمع له من قوى مختلفة تناصرت على تأليفه وإخراجه
ونشره وكان من هذه القوى من لهم مناصب كبيرة في كليات الجامعة المصرية (1).

(1) ذكر العجاج في مقدمة كتابه أنه يتوجه بالشكر العميق إلى أستاذه الشيخ على حسب الله
أستاذ الشريعة الاسلامية في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة على ما تفضل بقراءة بحثه قراءة دقيقة
وأنه أفاد من ملاحظاته - وقال في كلمة نشرها بمجلة الرسالة (العدد 1038 المؤرخ 5 / 12 / 1963)
بأنه دفع إلى هذا البحث العلمي " منذ سنوات ثلاث مضت، وقد طالعه أكثر من عالم (منتصف)
أنذاك وشجعوني على نشره إلخ "، ولو أنه كان عالما شجاعا لاستعلن بنقده منذ سبع سنين يوم أن ظهر
كتابنا في طبعته الأولى التي ظهرت في سنة 1958 - وإذا عجب الناس من سكوت العجاج هذا الزمن
الطويل فإنه هو قد أذهب هذا العجب بما اعترف به من أنه قد أنفق هذا الزمن الطويل وهو يتكفف
شيوخه لكي يعاونوه على تصنيف كتابه إلى أن انتهى به إلى الشيخ على حسب الله فقرأه وباركه وأيده، ثم
جاء بعد ذلك الشيخ محمد أبو زهرة أستاذ الشريعة بكلية الحقوق بجامعة القاهرة فأتم نعمته عليه
بأن راجعه بأجر سخي تناوله من وزارة الارشاد، وزاد من فضله على تلميذه فقرظ كتابه في مجلة الكتاب لقاء
أجر كبير كذلك ولعل هذا العجاج وهو يزج بنفسه في معمعان النقد ولما يستكمل أداته وعدته - إنما يريد
أن يتشبه بالعلماء ويتدسس إلى زمرة الذين تورطوا في نقد كتابنا (الأضواء) فيكون له بذلك شأن
بين الناس! ولكن هيهات هيهات فهو العجاج بنفسه، وشيوخه هم شيوخه بما هو معروف عنهم.
277

ومن وراء ذلك كله (دكاترة! بوزارة الثقافة) - قد ساعدوا بعلمهم الواسع
على إظهاره وزينوا لهذه الوزارة أن تجعل (أبا هريرة) في حلقة من سلسلة
(أعلام العرب!!) التي تنشرها لتفاخر بها سائر الأمم في الشرق والغرب!
وفى سبيل ذلك تنفق ما تنفق من جهد ومال (1).
فكتاب هذا شأنه، حشدت له كل هذه القوى، وظفر من العناية بما
لم يظفر به كتاب آخر، يصح أن نمنحه شيئا من العناية وأن نخالف معه السنة
التي اتخذناها مع جميع الذين انتقدونا من قبل حتى مع هذا العجاج في
كتاب آخر له قيل إنه انتقدنا فيه.
من أجل ذلك رأيت (برغمي) أن أخالف طريقتي التي اتبعتها مع سائر
الذين انتقدونا من قبل وأن ألقى على هذا الكتاب نظرة عابرة، أعرض فيها
لبعض ما فيه بالبحث العلمي النزيه لأكشف عن معارف هؤلاء الذين اشتركوا
في هذا الكتاب تأليفا ومراجعة وإخراجا، من غير أن أخشى في ذلك أحدا، إذ
ليس عندي كبير في العلم إلا بعلمه وفضله، ولا اعتبار لدى للألقاب الرسمية
ولا للمؤهلات الدراسية - وإنما قيمة المرء بما يحسن، وبما يعمل من عمل صالح.
وسأقتصر في كلامي على أمثلة قليلة من هذا الكتاب يستدل بها على غيرها،
حتى لا نقع في التطويل، والناس اليوم يؤثرون الايجاز، وخير الكلام ما قل ودل!
لقد طفح هذا الكتاب بأكاذيب وخرافات وأساطير، كان أهمها قصة
الطفيل بن عمرو الدوسي، التي أرادوا بها إثبات إسلام أبي هريرة من أول البعثة
وهو في بلاده اليمن رغم اعتراف أبي هريرة نفسه، وإطباق كل المؤرخين الثقات
على أن إسلامه كان بعد الانتهاء من موقعة خيبر سنة 7 ه‍.
وها نحن أولاء نذكر نبأ هذه الخرافة - كما نشروها - ثم نقف على ذلك ببيان
حقيقة أمرها ومن الذي وضعها.

(1) لم نعرض هنا إلى بيان ما جنته وزارة الثقافة على العلم والدين بإصدارها كتاب العجاج.
حتى لا نرمي بالتحامل عليها وقد وفاها حسابها العلامة الأستاذ عبد الله السبيتي في كتابه (أبو هريرة في التيار)
فيرجع إلى هذا الكتاب للاطلاع على ما قاله في هذا الشأن وفى غيره، فهو كتاب قيم يستحق أن يدرس.
278

خرافة الطفيل بن عمرو الدوسي
قال العجاج في كتابه:
كان الطفيل بن عمرو الدوسي رجلا شريفا شاعرا مليئا، وكانت قريش تعرف منزلته في قومه، وما إن عرفت قدومه إلى مكة بعد نبوة محمد صلى الله عليه وآله حتى
حذروه من أن يتصل بهذا النبي - ولكنه لما ذهب إلى الكعبة وجد رسول الله
فسمع كلامه فأعجب به، وما لبث أن أسلم، ثم طلب من النبي أن يدعو قومه
باليمن إلى الاسلام، وأن يجعل له آية. فوقع له نور بين عينيه، فقال يا رسول
الله: أخشى أن يقول قومي هذه مثلة. فرجع النور إلى طرف سوطه (1)!!!
وكان يضئ في الليل - ولما عاد إلى قومه ودعا إلى الاسلام أسلم أبوه ولم
تسلم أمه! ودعا قومه فأجابه أبو هريرة وحده. وعاد إلى النبي فأخبره بإبطاء
قومه، وطلب أن يدعو عليهم فقال النبي: (اللهم اهد دوسا). فعاد إلى قومه
ولم يزل بأرض دوس يدعوها حتى هاجر رسول الله إلى المدينة، ومضت غزوة
بدر وأحد والخندق، ثم قدم على رسول الله بمن أسلم من قومه ورسول الله بخيبر.
اه‍ باختصار (2)!!
هذه هي قصة أسطورة الطفيل بن عمرو الدوسي - كما جاءت في كتاب
العجاج وقبل أن نبحث في أمرها نذكر لك أن كل اليمنيين - الدوسيون منهم
والأشعريون، وفيهم الطفيل بن عمرو هذا - لم يسلموا إلا بعد موقعة خيبر،
أي عندما أرسى الاسلام قواعده على أسس متينة وأصبح في منعة تحمى من
يدخلون تحت رايته.

(1) هذه الخرافة من جنس الشعوذة التي يمثلها الحواة في الطرقات والميادين العامة ويجتمع
حولهم الصبية والمغفلون ليشهدوهم وهم يلعبون بالنار وينفخون في أبواقهم ويلوحون بأيديهم ويقولون:
جلا جلا. وسبحان واهب العقول.
ولم يذكر أحد من المؤرخين الثقات ولا أبو هريرة نفسه - هذه الفرية - وهي إسلام أبي هريرة
على يدي الطفيل بن عمرو - راجع ص 54 و 55 ج 3 من أسد الغابة.
(2) ص 84 و 85 من كتاب العجاج.
279

أورد العجاج هذه الخرافة وكأنه ظن - وشيوخه معه - أنها خبر صحيح لا يجوز
لاحد أن يدفعه أو يماري فيه، وهو في الحقيقة فضيحة مخزية، لا يصدقه إلا
مدخول العقل، أو جهول لا يفهم.
ومن الحق علينا أن نبحث عن أصل هذه الخرافة، وأن نعرف من الذي
وضعها. وكيف تلقفها أصحاب الاخبار والسير، فنشروها بين الناس في كتبهم،
ثم جاء العجاج فنقلها عنهم!.
وقد أمعنا في بحثنا حتى وصلنا إلى مصدرها الذي وضعها وأخرجها من
(كيسه) فإذا هو (الكلبي) الاخباري، صاغها فيما صاغه من الخرافات،
ثم نقلت عنه، وانتشرت بين الناس.
وعلى أننا قد أوضحنا من قبل بما لا يدع للشك سبيلا (1) أن أبا هريرة وعمرو بن
الطفيل لم يسلما إلا مع الدوسيين والأشعريين في سنة 7 ه‍ بعد انتهاء موقعة خيبر
فإنا نعيد هنا بعض الأدلة القوية التي استقيناها من أوثق المصادر التي تثبت
ذلك وتؤيده، لعل من لا يفهم يفهم!
قال ابن سعد في الطبقات الكبرى (ص 78 ج 1): وقدم الدوسيون فيهم
أبو هريرة وقدم الطفيل وقدم الأشعريون ورسول الله بخيبر فلحقوه بها فكلم رسول
الله أصحابه فيهم أن يشركوهم في الغنيمة ففعلوا.
وقال المقريزي في إمتاع الاسماع (ص 326 ج 1): وقدم الدسيون فيهم
أبو هريرة والطفيل بن عمرو وأصحابهم ونفر من الأشعريين فكلم رسول الله أصحابه
فيهم أن يشركوهم في الغنيمة، فقالوا: نعم يا رسول الله، وقال ابن أبي حاتم
في الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني ص 287 ج 3:
قدم الطفيل بن عمرو الدوسي على النبي صلى الله عليه وآله مع أبي هريرة بخيبر،
وروى ابن سعد في الطبقات الكبيرة عن الطفيل: قال: فلم أزل بأرض دوس
أدعوها - حتى هاجر رسول الله إلى المدينة، ومضى بدر وأحد والخندق
ثم قدمت على رسول الله بمن أسلم من قومي ورسول الله بخيبر حتى نزلت المدينة

(1) راجع ما ذكرناه في هذا الكتاب عن قدوم أبي هريرة إلى النبي.
280

بسبعين أو ثمانين بيتا من دوس، ثم لحقنا رسول الله صلى الله عليه وآله بخيبر، فأسهم لنا
مع المسلمين (1)
قصة الطفيل بن عمرو، وخرافاته
روى البخاري في بيان " قدوم الأشعريين وأهل اليمن - قصة دوس والطفيل
ابن عمرو الدوسي " عن أبي هريرة قال: جاء الطفيل بن عمرو إلى النبي صلى الله عليه وآله
فقال: إن دوسا قد هلكت، عصت وأبت فادع الله عليهم! فقال: اللهم
اهد دوسا وأت بهم.
هذا ما رواه البخاري ولم يعرض لخرافة الطفيل بشئ، ولا ورط نفسه
في حملها. وكان ذلك في الكلام على قدوم الدوسيين من أهل اليمن على النبي
في خيبر سنة 7 ه‍
وجاء الحافظ ابن حجر ليشرح هذا الخبر فقال - بعد أن ذكر نسب
الطفيل كان يقال له: ذو النور، لأنه لما أتى النبي صلى الله عليه وآله وأسلم، بعثه إلى قومه
فقال: اجعل لي آية، فقال: اللهم نور له، فسطح نور بين عينيه، فقال:
يا رب أخاف أن يقولوا إنه مثلة، فتحول إلى طرف سوطه، وكان يضئ في
الليلة المظلمة، ذكره هشام بن الكلبي في قصة طويلة، وفيها أنه دعا قومه
إلى الاسلام فأسلم أبوه ولم تسلم أمه، وأجابه أبو هريرة وحده (2)!
وقبل ابن حجر العسقلاني، روى ابن عبد البر حافظ المغرب، خبر هذه
الخرافة، ووصفه بأنه " خبر عجيب ذكره الأموي في مغازيه عن هشام
الكلبي " (3)
ومن ذلك يتبين أن الذي (وضع) هذه الخرافة وما جاء في رواية ابن
حجر من إسلام أبي هريرة على يدي الطفيل، وهو في بلاده! هو هشام
الكلبي!

(1) ص 176 ج 4 من الطبقات.
(2) ص 82 و 83 ج 8 فتح الباري.
(3) ص 758 و 759 - ق 2 من الاستيعاب (طبعة نهضة مصر).
281

من أجل ذلك يدعونا التحقيق العلمي إلى أن نتجه إلى هشام الكلبي هذا،
لنعرف من هو؟ وما مبلغه من الصدق، ورأى المحدثين والمؤرخين فيه وفى أخباره.
من هو هشام الكلبي هذا؟
هو هشام بن محمد بن السائب بن بشر الكلبي
قال فيه الذهبي في تذكرة الحفاظ (1): أحد المتروكين ليس بثقة، فلهذا لم
أدخله بين حفاظ الحديث. كان إخباريا علامة.
وقال فيه ابن العماد الحنبلي في شذرات الذهب (2): وفيها (أي في سنة
204 ه‍) توفى هشام بن محمد بن السائب الكلبي الاخباري النسابة كان
حافظا علامة إلا أنه كان متروك الحديث.
وقال فيه السمعاني في الأنساب، إنه يروى الغرائب والعجائب والاخبار
التي لا أصول لها! وأخباره في الأغلوطات أشهر من أن يحتاج إلى وضوحها.
وكان أحمد بن حنبل يقول فيه: " من يحدث عنه؟ إنما هو صاحب سمر
ونسب. وفى رواية سير ونسب " ما ظننت أن أحدا يحدث عنه، ومن قول الكلبي
عن نفسه، كان لي عم يعاتبني على حفظ القرآن، فدخلت بيتا وحلفت ألا
أخرج منه حتى أحفظ القرآن، فحفظته في ثلاثة أيام! ونظرت في المرآة وقبضت
على لحيتي لاخذ ما دون القبضة فأخذت ما فوق القبضة (3).
وقال فيه الجاحظ: كان علامة نسابة، وراوية للمثالب عيابة (4).
وقال فيه ياقوت في معجم الأدباء بعد أن أورد ما قاله فيه أحمد بن حنبل
الذي ذكره السمعاني آنفا في كتاب الأنساب: قال البلاذري في تاريخه إن

(1) ص 313 ج 1 طبع الهند.
(2) ص 13 ج 2.
(3) ص 486 من الأنساب طبع مارجوليوث الإنجليزي على الحجر بمدينة لندن سنة 1912.
وهو بدار الكتب المصرية برقم 56112 تاريخ.
(4) ص 131 ج 1 من البيان والتبيين.
282

الكلبي هذا حدث عن أبيه عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله تعالى: " وإذ
أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا " قال: أسر إلى حفصة أن أبا بكر ولى الامر
بعده وأن عمر وليه من بعد أبي بكر. فأخبرت بذلك عائشة. قال الدارقطني:
هشام متروك. وقال غيره: ليس بثقة (1).
وقد أخذ أبو الفرج الأصبهاني على ابن الكلبي أن الاخبار التي ذكرها
عن دريد بن الصمة " موضوعة كلها والتوليد بين فيها وفى أشعاره " ثم قال:
" وهذا من أكاذيب ابن الكلبي " وكان عندما يروى عنه بعض الاخبار يقول:
ولعل هذا من أكاذيب ابن الكلبي (2).
وقد اضطر ابن الكلبي أن يعترف بالكذب فقد روى عنه قوله: " أول
كذبة كذبتها في النسب أن خالد بن عبد الله القسري سألني عن جدته أم كريز
وكانت أمه بغيا لبني أسد يقال لها زينب، فقلت له هي زينب بنت عرعرة بن
جذيمة بن نصر بن قعين، فسر بذلك ووصلني " (3).
وروى كذلك عن نفسه ما نصه:
" حفظت ما لم يحفظه أحد، ونسيت ما لم ينسه أحد! كان لي عم يعاتبني
على حفظ القرآن، فدخلت بيتا وحلفت أن لا أخرج منه حتى أحفظ القرآن،
فحفظته في ثلاثة أيام! ونظرت يوما في المرآة فقبضت على لحيتي لاخذ ما دون
القبضة، فأخذت ما فوق القبضة (4).
وقال ابن حجر العسقلاني: والكلبي متروك ولا يعتمد عليه (5).
وما كان لنا أن نستكثر من الأدلة على كذب الكلبي فإن هذه الخرافة في
نفسها يدفعها العلم الصحيح، ويمجها العقل السليم، ولا يقبلها إلا من أصيب.
بخلل في عقله وسفه في تفكيره.

(1) 287 و 288 ج 19.
(2) راجع ص 19 و 20 ج 9 من الأغاني وص 155 ج 10 من هذا المصدر وص 15
من كتاب الأصنام تحقيق أحمد زكى (باشا).
(3) راجع صفحة 58 ج 19 من نفس المصدر.
(4) ص 16 من كتاب الأصنام وانظر ابن خلكان، والوافي بالوفيات
(5) ص 354 ج 8 فتح الباري.
283

هذه هي قصة الطفيل بن عمرو التي جعلها مشايخنا الكبار أساسا لكتاب
تلميذهم النجيب العجاج! وطبعته الدولة المصرية على حسابها، وأنفقت عليه
مئات الجنيهات من حر مالها!
ولنقف عند هذا الحد من إيراد الأدلة على كذب الكلبي الذي (وضع)
وحده خبر الطفيل بن عمرو بعد أن رأينا الاجماع على تكذيبه.
ولقد كانت شهادة واحدة من مثل الإمام أحمد بن حنبل أو الدارقطني
أو الذهبي كافية في إسقاط صفة العدالة عن هذا الكلبي، وإنما توسعنا في ذلك
لنرى الذين يظهرون بين الناس في ثياب العلماء، كيف يكون تمحيص الاخبار
والبحث عن حقيقة ما تحمله إلينا الروايات، ولا ندري بعد أن سطعت هذه
الأدلة ونسخت بنورها ظلمات أكاذيبهم، وأثبتت أن خبر الطفيل بن عمرو هذا
الذي اتكأوا عليه وأجمعوا على تصديقه إنما هو من اختراع أخباري كاذب!
حقا لا ندري بعد ذلك كيف حال من تصدى لتأليف كتاب " أبو هريرة راوية
الاسلام "، ولا حال الذين أعانوه وساعدوه بعلمهم على تأليفه وعلى نشره
ومنهم أساتذة في الجامعات (وا أسفا) بالخرافات فنقول:
الأسطورة تضع أفائك
لم يشأ العجاج وشيوخه أن يدعوا هذه الخرافة عقيما فزوجوها من ابن عمها
الإفك، وما لبثت أن أنجبت منه أفيكة (1) كانت أعجب مخلوقة في دنيا الخرافات،
خرج بها العجاج وشيوخه مزهوين فخورين أن لم يولد مثلها من قبل!
وذلك أنهم بعد أن استعلنوا بفرية إسلام أبي هريرة وهو في بلاد اليمن على
يدي الطفيل بن عمرو - والنبي صلى الله عليه وآله بمكة (2)، لم يقفوا عند هذا الحد من
الافتراء. بل زادوا على ذلك فقالوا: " إن أبا هريرة كان يتتبع أخبار
المسلمين " (3). ثم أمعنوا في الافتراء فقالوا: والصحيح أنه أسلم قبل الهجرة

(1) الأفيكة هي الكذبة العظيمة جمعها أفائك.
(2) ص 331 من كتاب العجاج.
(3) ص 331 من نفس المصدر.
284

النبوية وبقى في اليمن يتابع أخبار المسلمين ويحفظ ما ينزل من القرآن الكريم! (1).
حقا إنها أفيكة لا يرحضها ماء البحر!.
وإذا أنت عجبت من هذه المفتريات التي افتجرها العجاج وسألته وسألت
من على شاكلته في العقلية من شيوخه، وقلت لهم جميعا: كيف تسنى لأبي
هريرة أن يتابع أخبار المسلمين، ويحفظ ما ينزل من القرآن الكريم - وهم بمكة
وهو باليمن؟ وما هي الوسائل التي كان يتخذها في ذلك؟ أجابوك بأن هذا
وأكثر منه ليس بغريب ولا مستحيل على أبي هريرة! إنه ليس ببعيد عليه أن
يسمع كلام النبي، وما ينزل عليه وهو في مكان سحيق؟ وما يدريك لعل الملك
الذي كان يهبط بالوحي على النبي وهو بمكة والمدينة وكان ينتقل كذلك إلى
بلاد اليمن ويهبط على أبي هريرة فيبلغه ما يحمل إلى النبي من وحى، وما ينطق
به النبي من حديث!
وما على الذين وهبهم الله عقولا تزن، وأفكارا تفهم، إلا أن يلغوها ولا
يعترضوا عليها، حتى لا يرموا بالتفسيق أو يكون إيمانهم على حرف. كما قضى
بحكمه أخيرا الشيخ محمد أبو زهرة.
اللهم إن الزمن الذي كانت تروج فيه مثل هذه الخرافات والأساطير قد
ذهب إلى غير رجعة، وأصبحنا في زمن لا يصدق فيه حتى العامة إلا ما يسوغه
العقل الصريح، ويؤيده العلم الصحيح.
ولقد كان لنا بعد أن فضحنا العجاج في كتابه، بما كشفنا عن هاتين
الخرافتين، أن نكتفي بهما فلا نسترسل في البحث عن غيرهما، لأنهما ولا
جرم كافيتان في هدم هذا الكتاب والآتيان عليه من القواعد، ذلك بأن كتابا
مثل هذا تقوم دعائمه على الخرافات يكون من العبث العناية بنقده، أو بذل
أي جهد في مناقشته، وإنما الأجدر به أن ينبذ ويلقى في اليم.

(1) ص 19 من العدد 1038 من مجلة الرسالة المصرية الصادر في 5 ديسمبر سنة 1963 التي
تصدر عن وزارة الثقافة بمصر، وقد ظاهر العجاج في هذه الفرية وغيرها الشيخ محمد أبو زهرة في
تقريظه لكتاب العجاج، وسيأتيك ردنا على هذا الشيخ - (يلاحظ) أن أبا هريرة على طول عمره وأنه قضى
مسلما نحو نصف قرن فإنه لم يستطع أن يحفظ القرآن.. ولم يخرج عن أميته..
285

كان لنا ذلك ولكن رأينا من التدبير أن نستزيد شيئا من إظهار فضائح
هذا الكتاب الذي يموج بالخرافات والمتناقضات، بله الافتراضات البايخة،
والاحتمالات السخيفة - وذلك لكي نعطى القارئ نماذج يقاس عليها مما يحمل
الكتاب، ويتنور فيها قيمة هذا الكتاب في عالم التأليف، وأنه لا يساوى المداد
الذي كتب به، ومن وراء ذلك يستبين للناس جميعا مبلغ مصنفه - وشيوخه
معه - من العلم ومقدار حظهم من العقل والتفكير!
أما ما في سائر الكتاب، مما يستوجب النقد والتفنيد فيدحضه ويقضى عليه
ما فصلناه في كتابنا هذا، وسنبدأ كلامنا عن أهم صفة وصفوا أبا هريرة بها،
وهي صفة (علمه وفتواه) حتى إذا ما أثبتنا بالبراهين القوية أنه عار عنها،
انهارت سائر صفاته التي يتمسكون بها، ويصبح ولا ريب رجلا من عامة الناس
لا شأن له ولا قدر، وتبدو شخصيته على حقيقتها بغير تزوير ولا تلفيق.
علم أبي هريرة وفتواه (1):
من متناقضات العجاج التي فضح بها نفسه أنه أورد في كتابه صفحة 90
أن رسول الله بعث أبا هريرة إلى البحرين مع العلاء بن الحضرمي ووصاه
به فجعله العلاء (مؤذنا له) وأنه قال للعلاء (لا تسبقني بآمين).
وهذا يدل بداهة وقطعا أن عمل أبي هريرة في البحرين إنما كان (التأذين)
فحسب، إذ لم يعهد إليه النبي صلى الله عليه وآله بأي عمل ديني أو غير ديني مما كان
يعهد به إلى غيره عندما كان يرسله في أمر من الأمور إلى أي بلد من البلاد،
وكان كل ما قاله للعلاء أن أوصاه به، ولما سأله العلاء عما يريد أن يعمله
كان جوابه: (اجعلني مؤذنا لك) كان هذا هو عمل أبي هريرة في البحرين باعترافه
ولكن العجاج وهو السخي المعطاء لأبي هريرة قد خرق له مما تلقاه أعمالا
أخرى غير التأذين.. فقال في صفحة (107) من كتابه:! إن رسول الله
قد أرسل أبا هريرة إلى البحرين لينشر الاسلام! ويفقه المسلمين ويعلمهم
أمور دينهم "!

(1) قد فصلنا القول في ذلك في موضعه من كتابنا هذا.
286

وهذا لعمرك تناقض صارخ مشوب بالكذب والبهتان، لان أحدا لم يقل
بهذا أبدا، ولا ادعاه أبو هريرة فيما يدعيه لنفسه! ولم يكتف العجاج بذلك التخرص
بل زاد فقال " وحدث عن رسول الله وأفتى " أي أن إرساله إلى البحرين إنما كان
لينشر الاسلام، ويفقه المسلمين أو يعلمهم أمور دينهم! وإنه كان يحدث
الناس ويفتيهم! يا لها من مفتريات يدفع بعضها في قفا بعض!
وبينما يتورط العجاج في هذه المفتريات التي يفتجرها بغير حياء ولا خجل
إذ به ينقلب فيناقض نفسه مناقضة أخرى مخجلة حتى فيما افتجره وافتراه،
فيقول في صفحة 160: " إن أبا هريرة وابن عباس وابن عمر، وجماعة معهم كانوا
يفتون بالمدينة ويحدثون من لدن توفى عثمان إلى أن توفوا "، ومعنى ذلك أن أبا هريرة
لم يستطع أن يفتح فاه بكلمة في الفتوى والحديث إلى أن توفى عثمان، ثم يؤكد ذلك
باعتراف آخر ذكره في الصفحة 165 ومن كتابه، إذ يقول: " ولم ينقل
أن أحدا من الخلفاء أو الامراء ولى أبا هريرة قضاء المدينة أو غيرها ".
ولأن العجاج قد أصيب بداء الافتراض، غير داء التناقض والافتراء، فإنه بعد
ذلك كله يأتي بافتراض بايخ فيقول بغير خجل في صفحة 335: " إنا لم نعلم
أنه ولى القضاء لاحد، ومع هذا لابد أنه نظر في بعض القضايا حينما ولى
البحرين وإمارة المدينة " وفاته أن يبين أن إمارته للمدينة كانت بأمر من معاوية
عندما بحث بسر بن أرطأة لينكل بأهل المدينة ويستبيحها، ولما فعل فعلاته بها
وتركها استخلف عليها أبا هريرة، ولما أتاها جارية بن قدامة السعدي من قبل
الخليفة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ولى أبو هريرة هاربا من وجه جارية
فقال جارية كلمته المشهورة المحفوظة: " لو وجدت أبا سنور لقتلته ".
ولا أدرى ماذا يقول الذين يضللون التاريخ ويقولون: إن أبا هريرة اعتزل
السياسة، وقد صرح بذلك العجاج بصفحة 112.
ومن مفتريات العجاج أن يقول عن أبي هريرة " إنه شهد مع النبي جميع
غزواته " (ص 115 من كتابه)، ولم يكتف بذلك بل قال في صفحة 222
إنه اشترك في حروب الردة!!
وقد فندنا ذلك كله من قبل في كتابنا هذا وتحديناه هو وشيوخه
287

أن يثبتوا ذلك بالفعل والبرهان إن كانوا صادقين، هذا قليل من كثير مما جاء في
كتاب العجاج. ولو نحن ذهبنا ننقض كل ما فيه من مفتريات ومناقضات
مفضوحة ومزاعم وأباطيل صارخة لملأنا كتابا برأسه.
ولست أدرى والله بأي وجه يقابل العجاج وشيوخه الناس بمثل هذا الكتاب
الذي ختموه بهذه الفضيحة العالمية إذ يجعلون أبا هريرة (راوية الاسلام). تالله
إنها لقاصمة الظهور، ومحرجة الصدور.
جهل وجمود
إذا كان لأبي هريرة عجائب وغرائب فإن لمؤرخه العجاج سخافات عديدة
نأتى بشئ منها ليكون آية جديدة على مدى عقليته وعقلية شيوخه الأجلاء.
من هذه السخافات قوله إن:
الطعن في أبي هريرة - ذريعة للطعن في غيره من الصحابة.
جاء في الصفحة السادسة من كتاب العجاج قوله: " إن الطعن في
أبي هريرة ذريعة للطعن في غيره من الصحابة (1) "، والطعن كما يفهمه الحشوية
والجامدون هو البحث العلمي الذي يؤدى إلى إظهار الحقائق فيما لا يفهمون
ولا يعقلون! وهذه سخافة يزدريها كل عاقل عالم! بل يضحك منها!
ذلك أن الصحابة ليسوا كلهم سواء في الدرجة ولا في المنزلة، وقد قسموهم
إلى اثنتي عشرة طبقة ليس أبو هريرة في واحدة منها والحمد لله، ومن أجل
ذلك نجد البخاري لم يذكر له فضيلة مأثورة عن النبي صلى الله عليه وآله في كتابه عندما
ذكر فضائل كثير من الصحابة. والصحابة مهما بلغوا من علو القدر فما هم
بمعصومين، وإنما هم أناس من البشر معرضون للخطأ والصواب، والهدى والضلال
وما داموا كذلك فإنهم يخضعون لدرس حياتهم وتوجيه النقد إليهم وإقامة ميزان
الحساب لهم.

(1) راجع فصل عدالة الصحابة في الطبعة الثالثة من كتاب الأضواء.
288

وقد جاء نقد الصحابة في القرآن الكريم نفسه وذلك في سور كثيرة وبخاصة
في سورة التوبة التي سموها الفاضحة (1) وفى سور غيرها كثيرة كسورة (المنافقون)
والأحزاب وغيرهما، وجاءت أحاديث عديدة في البخاري وغيره أنه صلوات الله
عليه رأى قوما من أصحابه يذادون عن الحوض، ولما سأل في ذلك أجيب بأنه
لا يدرى ماذا أحدثوا بعده، فقال: سحقا سحقا! وقد اعترفوا هم أنفسهم
بأنهم قد أحدثوا بعده، كما أثبتناه في مكانه من هذا الكتاب.
على أن أبا هريرة خاصة ليس كغيره من سائر الصحابة كما بيناه في موضعه
من هذا الكتاب، فقد توجه الطعن إلى رواياته من لدن الصحابة إلى اليوم.
ومن أجل ذلك كان " أول راوية اتهم في الاسلام ".
ترهيب صبياني:
شاءت عقلية العجاج أن يمسك بيده سوطا كسوط الطفيل بن عمرو!
يلوح به في الهواء هاهنا وهاهنا، ليرهب به كل من يحاول أن يقترب من نقد أحد
الصحابة فنقل في الصفحة (40) من كتابه أن أبا زرعة (الذي لا ينطق عن
الهوى!) قد قال إن من ينتقص أحدا من الصحابة فهو زنديق، ولم يكفه ذلك
بل عزز ذلك بما يقذف الرعب في قلوب الذين تحدثهم أنفسهم بنقد أبي هريرة
خاصة، فنقل في الصفحتين 328 و 329 كلمة للمعصوم ابن خزيمة،
يصف الطاعنين فيه فجعلهم أربعة: إما معطل جهمي! وإما خارجي!
وإما قدري اعتزل الاسلام وأهله! أو جاهل!
ثم جاء أخيرا أستاذه الشيخ محمد أبو زهرة (2) وقضى بحكمه المبرم على من
ينتقد أبا هريرة بأنه إما أن يكون من الذين لا يؤمنون بالله، أو يكون مؤمنا
على حرف. ولا ندري والله أين مكاننا الذي وضعنا فيه (المجلس الكهنوتي
الاعلى) الذي انعقد من شيوخ العجاج برئاسة الشيخ محمد أبو زهرة الذي جعلوا
شعاره الآية المشهورة في الإنجيل وهي " إن ما تربطه على الأرض يكون مربوطا

(1) سميت الفاضحة لأنها فضحت كثيرا من الصحابة، ولها أسماء متعددة غير ذلك، راجع تفسير
الزمخشري لمعرفة هذه الأسماء وقد بيناها من قبل وفى كتابنا الأضواء، الطبعة الثالثة.
(2) ستجد كلمة لنا وجهناها إلى هذا الشيخ لنناقشه فيها الحساب.
289

في السماء! وإن ما تحله على الأرض يكون محلولا في السماء! "
وقد ظن العجاج بفكره الثاقب وعقله الحصيف أنه بما نقل عن شيوخه
قد أتى بدليل قاطع يسنده ويسند كتابه فقال إنه (مسك الختام!) وقد نسى
أن ما نقله عن ابن خزيمة إنما هو حجة عليه لا له، إذ معناه أن نقد العلماء
لأبي هريرة عريق في القدم، له جذور بعيدة، وليس هو بحادث ظهر في
الزمن القريب، وإذا كان نقاد أبي هريرة في هذا العصر قد تأثروا بالمستشرقين
أعداء الدين أو تأثر بهم المستشرقون، فبمن تأثر نقاده الذين حكم عليهم
ابن خزيمة حكمه الصارم، وقد كانوا بلا شك قبل ظهور المستشرقين بمئات
من السنين؟! وحقا ما قالوا: " عدو عاقل خير من صديق جاهل ".
على أننا نعود إلى العجاج وشيوخه فنقول لهم: ما قيمة أقوال هذين الرجلين
الذين استشهدتم بأقوالهم، هل هي من الوحي المنزل؟ أم من كلام المعصوم
صلوات الله عليه؟ ونسأل كذلك الشيخ محمد أبو زهرة عن قيمة حكمه الذي
أصدره أخيرا على من ينتقد أبا هريرة؟؟ اللهم عرفنا بأقدارنا، وطهرنا من
غرورنا، وجمودنا.
وليس لنا من رد على هذا الارهاب إلا أن نذكر ما قاله الأول: " أبشر بطول
سلامة يا مربع "!
غرور:
أدرك العجاج طيش الغرور، فادعى أن بحثه الذي قضى في تصنيفه بضع
سنين وظل يتسول به على شيوخه ثلاثها منها! ليستعين بهم على تأليفه " ستزول به
الشبهات التي أثيرت حول أبي هريرة وتم هذا بفضل الله وتوفيقه (1) "؟ وكأنه
تخيل وهو يطير في جو الخيال أن الناس جميعا قد حشروا في صعيد واحد،
وشهدوا بأن كتابه قد طهر أبا هريرة من جميع عيوبه، وأصبح برئ الساحة،
بما حمل من ترهاته وجهالاته!

(1) راجع العدد 1038 من مجلة الرسالة الصادر في 5 ديسمبر سنة 1963 وكذلك توهم
الشيخ محمد أبو زهرة فيما نشره تقريظا لكتاب العجاج.
290

وإني أطمئنه وشيوخه معه وأقول لهم: إن التهم التي صوبت إلى أبي هريرة
على مد التاريخ كله من عهد الصحابة إلى اليوم، ليست شبهات وإنما هي حقائق
ثابتة ثبوت الجبال، لا تزول ولن تزول، بل ستظل وتكثر يوما بعد يوم كلما
ازداد العقل نضجا، والعلم تقدما، وسيلبث رهينا في قفص الاتهام مكبلا
لا يخرج منه ولا يفرج عنه، ما دام الحديث النبوي يدرس في الأرض، ولو خرج
في تبرئته والدفاع عنه كل يوم بما اتهم به ألف كتاب مثل كتابه.
خاتمة تذروها الرياح:
أنهى العجاج كتابه (بخاتمة) أجمل فيها ما فصله فيه من خرافات ومفتريات
ومن فروض ومناقضات، ثم زادها بمحسنات (ورتوش) من نعوت وشمائل من
عنده، لكي يبدع منه شخصا آخر غير شخص أبي هريرة ويبدي له صورة
رائعة لم يظفر بمثلها أحد غيره، حتى لقد بلغ من إعلاء شأنه أن صيره وحده
من دون الصحابة جميعا (راوية الاسلام!) وجعل هذه الصورة الفخمة عنوانا
لكتابه.
ألا فليرح العجاج نفسه وشيوخه معه وليعلموا أن كل جهد أو عناء في
هذا السبيل مهما كان مصدره فإنه سيذهب هباء، والتاريخ الثابت الصحيح
لا يتأثر بمثل هذه الترهات، ولا يغير منه أن يغطى عليه مثل هذه التلفيقات،
وليستيقنوا جميعا أن أبا هريرة هو هو بأصباره وأعماله التي سجلها له التاريخ
على صفحاته، وسيبقى إلى ما شاء الله على صورته الصحيحة التي لا تزوير فيها
ولا تلفيق.
هذه الالمامة الوجيزة كتبناها على كره منا، إذ خرجنا بكتابتها عن السنن
الذي اتخذناه لأنفسنا تلقاء من ينتقدوننا، وكان ذلك بعد أن بلونا أسلوبهم في
النقد فوجدناه غير قائم على أصول النقد العلمي الحديث الذي يفيد العلم والعلماء،
وإنما يبنى على السباب والشتائم، فرأينا من الخير أن ننصرف عن مناقشتهم وأن نعرض
عن الرد عليهم، واستمساكا بهذه السنة لم نلتفت إلى كل ما ظهر من كتب
في نقد كتبنا غير كتاب العجاج هذا، فقد كتبنا هذه الالمامة فيه للضرورة
291

التي أوضحناها في مقدمة هذه الطبعة، ومن شاء أن يطلع على الرد المفصل الحكيم
على كتاب هذا العجاج فعليه بكتاب (أبو هريرة في التيار) للعلامة عبد الله
السبيتي فإنه لم يدع صغيرة ولا كبيرة مما جاء بكتاب العجاج إلا رد عليها ردا
بليغا مفحما، وإننا قبل أن نضع القلم من هذه الالمامة لا نرى بدا من أن نزجي
خالص الشكر إلى الخطيب العجاج على أن أتاح لنا فرصة طيبة لكي نعرف
كيف يكون تأليف كبار شيوخنا الأزهريين! وبخاصة من يتولى منهم التدريس
في كليات الجامعات، ونقف على مبلغهم من العلم في النقد، ومدى بصرهم
به، ثم كيف يصنعون من الخرافات والمتناقضات وما إليها صورا يخرجونها في كتب
تفسد عقول الناس وأفكارهم.
292

ردنا على الشيخ محمد أبو زهرة
كان الشيخ محمد أبو زهرة قد كتب تقريظا لكتاب العجاج نشره بمجلة
الكتاب العربي التي تصدر عن وزارة الثقافة، المصرية وكأن هذه المجلة قد عنيت
بنشر هذا التقريظ لتؤيد به عمل هذه الوزارة التي نشرت هذا الكتاب، وقد
رددنا على هذا التقريظ بهذه الكلمة في العدد الرابع من هذه المجلة الصادر في
شهر سبتمبر سنة 1964 وهاك نصها:
قالت هذه المجلة:
جاءنا من الأستاذ محمود أبو رية رد بعنوان " لمحة في تقريظ الشيخ أبى
زهرة لكتاب أبي هريرة " يقول فيه.
. وبعد أكثر من سبعة أشهر من ظهور هذا الكتاب الذي صنفه
العجاج عن أبي هريرة يخرج الشيخ محمد أبو زهرة على الناس بتقريظ له نشر
في العدد الأول من مجلة (الكتاب العربي)، الذي صدر في 10 يونية سنة
1964 (1)، ولم يكد يبدو هذا التقريظ للناس حتى تساءلوا: لم تأخر الشيخ
عن تقريظ كتاب (تلميذه) هذه الشهور الطويلة؟ ونحن لا يعنينا إن كان
هذا التقريظ قد تأخر صدوره أو جاء في أوانه، وإنما الذي يهمنا هو التقريظ
نفسه، وقد رأيناه، ثم أقبلنا على قراءته، وكان الظن - وبخاصة بعد أن جاء بعد
هذا الزمن الطويل من ظهور الكتاب - أننا سنجد فيه شيئا من ثقافة الشيخ
ينفع العلم، أو يؤيد الحق، أو يفيد النقد! ولكن خاب ظننا إذ لم نجد إلا
صفحات اسودت بكلمات ردد فيها الشيخ ما ذكره - ولده - أي تلميذه،
في كتاب (أبو هريرة)، وكأن الشيخ وهو يستعلن بذلك إنما يزدهي ويستعلى
أن أصبح من تلاميذه من يؤلف الكتب، وينشر في الصحف! ولكن ليعلم
أن الحقيقة تنادي من وراء ذلك، أن هذا التلميذ لم يبلغ بعد سن الرشد العلمي!
وآية ذلك أنه اعترف على نفسه بأنه قضى ثلاث سنوات! يحمل كتابه بين

(1) ظهر كتاب (أبو هريرة) في 7 / 11 / 1963.
293

يديه ويدور به على من سماهم (العلماء) ليستعين بهم على إخراجه (1) وأن
مطافه قد انتهى به إلى (أستاذه الجليل) الشيخ على حسب الله، فقرأه عليه،
وأمده بنصائحه (2). وبديهي أن الشيخ محمد أبو زهرة كان من الذين طاف
العجاج بهم، وانتفع بعلمهم - ومن يفعل ذلك لا يعد - ولا ريب - من
المؤلفين المحققين، وأولى به أن يواصل الدرس والتحصيل، إلى أن يستوى
ويستحصد، ثم يخرج إلى الناس بثمرات علمه ناضجة، بغير أن يستعين بأحد
أو يستند إلى إنسان (3)!
ونحن قبل كل شئ لا بد لنا من أن نصدق الشيخ في قوله إن (العجاج)
ولده ولا شك في صحة هذه القرابة العلمية، فإن القرائن كلها تؤيد ذلك وتؤكده،
وأنت إذا درست كتاب (التلميذ) حق الدرس، وقارنته بما أتى به أستاذه في
تقريظه، فإنك ترى أوجه الشبه بينهما بادبة - وبخاصة في أسلوب التعبير،
وطريقة التفكير، والتماثل في العلم، والتشابه في الفهم، ومن أجل ذلك نجد تقريظ
الشيخ مطابقا لما في الكتاب، أو هو الكتاب مصغرا!
وإذا كنا قد أشبعنا القول في نقد كتاب (أبو هريرة) وكشفنا عما يحمل
من جهالات ومفتريات ومغالطات وما إلى ذلك - وذلك في كتابنا (شيخ
المضيرة) الذي سيظهر في طبعته الثانية قريبا إن شاء الله - فإنا لا نتوسع هنا في
الكلام عما جاء في هذا التقريظ مما يستوجب النقد، ونكتفي بإلمامة وجيزة نشير
فيها إلى بعض أمثلة تبدو منها قيمته، وتظهر مقدار وزنه، وتوضح صدق ما قلنا.
قال الشيخ في تقريظه: إن أبا هريرة قد أسلم وهو في بلاده (اليمن) عندما
سمع بالدعوة الاسلامية! وأنه قضى في صحبة النبي أربع سنوات، وهذا عين
ما زعمه العجاج في كتابه وقد أثبتنا بالأدلة القاطعة - ومنها ما رواه البخاري عن

(1) راجع العدد 1038 من مجلة الرسالة الصادرة في 5 ديسمبر 1963.
(2) صفحة 7 من كتاب (أبو هريرة).
(3) يظن بعضهم أنه متى حصل على شهادة دراسية رسمية فإنه يصبح بها عالما من حقه أن يؤلف
الكتب وينشئ الرسائل، وهذا وهم لان هذه الشهادات ليست غاية يقف عندها المتعلم! وإنما
هي وسيلة للدأب في تحصيل العلم الذي تنقضي الأعمار ولا يبلغ الانسان منه غايته. وإذا كانت تآليف
أولاد الشيخ مثل ما رأينا فيا خيبة التأليف، ويا ضيعة العلم.
294

أبي هريرة نفسه - من أنه لم يسلم ولم يعرف الاسلام إلا بعد وقعة خيبر التي
كانت في صفر سنة 7 ه‍ وأنه بعد أن قضى في الصفة التي كان يسكنها سنة
وبضعة أشهر، أقصاه النبي صلى الله عليه وآله إلى البحرين مع العلاء بن الحضرمي في
سنة 8 ه‍ فجعله العلاء مؤذنا له، كما طلب هو منه ذلك، بأنه لم يكن
يحسن شيئا حينئذ غير التأذين، وقد اعترف العجاج بهذا الاقصاء صراحة في
كتاب (صفحة 90).
فإذا كان أبو هريرة قد اعترف - كما روى البخاري - أنه أسلم في صفر
سنة 7 ه‍ ثم أبعد إلى البحرين في سنة 8 ه‍ فمن أين جاءت هذه السنين الأربع
التي يزعم الشيخ وتلميذه أنه قضاها في صحبة النبي صلى الله عليه وآله!!
هذا مثل مما حمله كتاب (أبو هريرة) من الجهالات الفاضحة وجاء
الشيخ فأقره عليه في تقريظه.
وإليك مثلا آخر من تقريظ الشيخ ذلك أنه زعم أن أبا هريرة لا ينفرد
برواية حديث ويكون فيه ما يخالف القرآن. ونحن نسوق إلى الشيخ حديثا واحدا
من أحاديث كثيرة مثله انفرد أبو هريرة بروايته وخالف فيه القرآن مخالفة
صريحة - وهذا الحديث رواه مسلم (في صحيحه) ولم يستطع العلماء جميعا
على كثرة ما حاولوا أن يدافعوا عن أبي هريرة فيه، ولا أن يدرؤا عنه تهمة
الكذب على رسول الله، ولما أعياهم الدليل جزموا بأنه قد تلقاه عن شيخه كعب
الأحبار الكاهن اليهودي الكبير! ذلكم هو حديث (خلق الله التربة يوم
السبت) وهذا نصه:
" أخذ رسول الله بيدي! فقال: خلق الله عز وجل التربة يوم السبت!
وخلق فيها الجبال يوم الأحد! وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم
الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق
آدم عليه السلام بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من
ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل) فهذه سبعة أيام! والتوراة والقرآن
يقولان إن الله قد خلق الأرض في ستة أيام، وبذلك يكون أبو هريرة قد
خالف القرآن وكذب على الرسول صلوات الله عليه - ومن العجيب أنك ترى
295

هذا (الصحابي الجليل راوية الاسلام) قد صرح بسماع هذا الحديث من
النبي! بل بالغ فقال: إن النبي قد أخذ بيده وهو يحدثه به!!
وإذا كان مثل هذا الحديث الذي صرح (بسماعه) من النبي صلى الله عليه وآله
قد ثبت أنه قد كذب فيه، وأنه تلقاه عن أكبر أحبار اليهود في زمنه كما
قضى بذلك كبار رجال الجرح والتعديل - فترى ماذا يكون الامر في الأحاديث
التي تلقاها عنعنة من غير النبي صلى الله عليه وآله وهي تعد بالألوف.
ولعل مولانا الشيخ يسمح لي بأن أسأله - وأرجو أن لا يغضب - ذلك
أن يتفضل فيحل المشكل المعقد في هذا الحديث وينتشل راوية الاسلام من
الهوة التي تردى فيها! لان هذا الاشكال سيظل يسم أبا هريرة بميسم الكذب
على رسول الله إلى يوم القيامة!
ومما قرأناه في هذا التقريظ أن الشيخ يرمى كل من يمس أبا هريرة بأنه
(يطعن في السنة) - وهذا منطق عجيب استغربنا كيف بمصدر من مثله، لان
معنى ذلك أن السنة القولية كلها - وكل من حملوها عن النبي صلى الله عليه وآله وعملوا بها
ونشروها من كبار الصحابة وفضلائهم رضوان الله عليهم لا يعدلون كلهم
(أبا هريرة) وأنه وحده هو راويها، حتى إذا ناله نقد فإن هذا النقد يصيب
السنة كلها! وهذا القول لا يقره عليه عالم، ذلك بأن السنة المحمدية قائمة ثابتة
لا يضرها أن ينقص من رواتها أبو هريرة ولا غير أبي هريرة - وإذا لم يخلق
أبو هريرة فإنه لا ينقصها شئ، على أن هذا القول الذي ذكره الشيخ
لا يستقيم ولا يكون له معنى إلا إذا جاء الخبر المتواتر بأن النبي قد قال (خذوا
سنتي عن أبي هريرة).
وإذا كنت قد جئت في هذه العجالة ببعض ما يلاحظ على تقريظ
الشيخ ومسسته بالنقد مسا رقيقا رعاية لمكانته بين تلاميذه وإيثارا للايجاز، فإنه
لا يسعني إلا أن أعترف بأني قد أفدت من هذا التقريظ فائدة عظيمة لم يظفر
الناس بمثلها من قبل! ولعل هذه الفائدة هي التي ساقتني اليوم إلى كتابة
هذه الكلمة، بعد أن آليت على نفسي أن لا أرد على أحد من الذين
296

انتقدوني عندما ألفيتهم جميعا قد اتخذوا الشتم والقذف مذهبا لهم في جدالهم،
ذلك بأنه لا يصح لي أن أجاريهم في مضمارهم وقد قال الشاعر:
إذا جاريت في خلق سفيها * فأنت ومن تجاريه سواء
أما هذه الفائدة فهي أن مصنف كتاب (أبو هريرة) قد نقل في الصفحة
328 وما بعدها إلى كتابه كلمة عن ابن خزيمة وصف فيها من تكلموا في
أبي هريرة بأنهم إما (معطل جهمي) أو (خارجي) أو (قدري) أو (جاهل)!
فجاء مولانا الشيخ وابتدع بعلمه واجتهاده وصفا طريفا لهم فقال " إنهم
طائفتان طائفة إسلامية تؤمن بالله على حرف. وأخرى لا تؤمن بالله ولا برسوله "،
وقد قضى بذلك الحكم المبرم على كل من انتقدوا أبا هريرة - ونحن منهم طبعا -
ولا نعلم في أي الطائفتين قد سلكنا الشيخ غفر الله له.
هذه هي الفائدة التي عادت علينا من تقريظ مولانا الشيخ - ولا ندري
والله إذا كان من يقضى على طائفة من المسلمين بهذا الحكم الخطير مسلما!
فضلا عن أن يكون شيخا من شيوخ الدين! أو أنه غير ذلك؟ على أننا
لا نتورط فنقع فيما وقع فيه غيرنا، فنخرج الشيخ من إسلامه ونكون بذلك
من الجاهلين!
ولعل سائلا يسأل فيقول: من أين للشيخ أن يعرف درجات الناس في
الايمان، ومقدار وزنهم في الاسلام، ويقطع بأن هذا مسلم وهذا كافر؟
وبأي حق يتدسس إلى العقائد فيحكم فيها برأيه، وهذا من غيب الله الذي استأثر
بعلمه ولا يدركه أحد من خلقه، حتى الرسل صلوات عليهم إلا بوحي من
السماء؟؟
ونقف عند هذا الحد من الكلام عن تقريظ الشيخ لكتاب (أبو هريرة)،
وفيما بيناه في تاريخ (شيخ المضيرة) وما رددنا به على كتاب (أبو هريرة) في
آخر هذا التاريخ - وهو في الحقيقة رد على جميع من اشتركوا في تأليفه -
لبلاغ أي بلاغ.
وقبل أن نضع القلم نسر في أذن مولانا الشيخ كلمة نقول فيها: إن تقريظه
هذا لم يكن له أي أثر في تغيير شئ من حقيقة تاريخ أبي هريرة، لا من قريب
297

ولا من بعيد، ولا هو بدافع شيئا من التهم التي رمى بها على مد الزمن من لدن
الصحابة إلى اليوم وإلى أن يشاء الله.
وإذا كان مولانا الشيخ قد دفعه الغلو في تقدير عمل تلميذه حتى قال:
" إنه تتبع ما أثير من شبهات حول شخص أبي هريرة وعلمه فأزالها، وجلى
صفحته نقية طاهرة " فإنا نقول للشيخ في صراحة وصدق، كما قلنا لولده من
قبل، إن صفحة أبو هريرة لا ينقيها ولا يطهرها كتاب العجاج ولا ألف كتاب
مثله، وإنما الذي يطهرها وينقيها، هو أحد أمرين لا ثالث لهما، وأم المنطق
لم تلد غيرهما! فإما أن تجردوا كتب الحديث كلها مما فيها من الأحاديث التي
رواها أبو هريرة وفيها ما فيها من المشكلات والخرافات التي تفضحنا عند سائر
الأمم - مثل حديث (خلق الله التربة يوم السبت) الذي تكلمنا عنه آنفا -
وحديث لطمة موسى لملك الموت ففقأ عينه، فصعد الملك إلى الله ليشكو موسى!
وحديث نزول الأنهار الأربعة من الجنة سيحون وجيحون والنيل والفرات - وهي
أسطورة هندية قديمة، وحديث غمس الذباب في الاناء ثم يؤكل ما فيه بعد ذلك،
وغير ذلك مما ذكرنا منها أمثلة كثيرة في كتابنا (شيخ المضيرة) تلك الأحاديث
التي يعروني الخجل من الناس عندما أنقلها إليهم - إما ذلك، وإما أن تثبتوا أن
جميع من رووا عنه قد كذبوا عليه، وأن الرجل في نفسه برئ مما نسب إليه!
بذلك وحده لا بغيره يصبح شخص أبي هريرة نقيا طاهرا، أما مضغ الكلام
وعلك الحديث، وتأليف الكتب وتقريظها، فهذا كله لا ينفع ولا يفيد بل
يذهب كله هباء.
وإلى اللقاء يا مولانا الشيخ عندما تظهر الطبعة الثانية (1) من كتابنا (شيخ
المضيرة) إن شاء الله التي سأهدي إليك وإلى الشيخ على حسب الله نسخة منه
لكي تعرفا منه تاريخ هذا الصحابي على حقيقته، وترون كيف يكون التأليف
العلمي الصحيح، ومدى معاناة البحث عن الحقائق وتمحيص لاخبار،
مما لا يمكن احتماله أو الصبر عليه إلا بعد اطراح العواطف والأهواء، والتخلص
من الجمود وتقليد الآباء، والسلام على من اتبع الهدى.
القاهرة محمود أبو رية

(1) نشرنا هذه الكلمة قبل ظهور الطبعة الثانية من هذا الكتاب.
298

كلمتان نفيستان
وقفنا على هاتين الكلمتين النفسيتين فاستخرنا الله في أن ننشرهما هنا لان
المقام يستدعيهما!
إحداهما لحجة الاسلام الغزالي، والأخرى للامام المرتضى اليماني رضي الله عنهما:
قال الغزالي في خطبة كتاب (فيصل التفرقة) يخاطب بها من أبلغه أنهم
يرمونه بمختلف التهم، ومنها الكفر (1)! " هون أيها الأخ المشفق على نفسك،
لا يضق به صدرك، وفل من غربك قليلا، واصبر على ما يقولون واهجرهم
هجرا جميلا، واستحقر من لا يحسد، ولا يقذف، واستصغر من بالكفر
والضلال لا يعرف! فأي داع أكمل وأعقل من سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وقد قالوا:
إنه مجنون من المجانين، وأي كلام أجل وأصدق من كلام رب العالمين، وقد قالوا:
إنه أساطير الأولين! أما سمعت ما قيل:
كل العداوة قد يرجى سلامتها * إلا عداوة من عاداك عن حسد "
وقال الامام المرتضى اليماني في كتاب (إيثار الحق على الخلق) (2):
لا ينبغي أن يستوحش الظافر بالحق من كثرة المخالفين، كما لا يستوحش
الزاهد من كثرة الراغبين، ولا المتقى من كثرة العاصين، ولا الذاكر من
كثرة الغافلين. بل ينبغي منه أن يستعظم المنة باختصاصه بذلك مع كثرة

(1) لقد قذفونا في كتبهم التي بلغت أكثر من اثنى عشر كتابا بكل عوراء من القول، ورمونا
بالارتداد عن الدين وبالفسق والزندقة، أما الكفر فقد قرأناه مرارا وصارحنا به جهرة أحد صبيان
الأزهر الذين اتخذوهم ليتولوا الناس بالأذى، وكان ذلك أمام الأستاذ أحمد حسن الزيات رحمه الله محرر
مجلة الأزهر والأستاذ محمود الشرقاوي وأحد شيوخ الأزهر وكنا بدار مجلة الأزهر. وارجع إلى مقدمة الطبعة
الثانية من كتاب الأضواء لترى ما فعله الأزهر معنا.
(2) ص 26 وقد قرأنا في الصفحة 75 من هذا الكتاب القيم حديث حزام بن حكيم عن أمية،
ونحن نورده هنا لأنه مهم وهو:
إن العبادة في صدر الاسلام أفضل من العلم، وإن العلم في آخر الامر أفضل من العبادة.
299

الجاهلين له، الغافلين عنه، وليوطن نفسه على ذلك فقد صح عن رسول الله
أنه قال: " إن هذا الدين بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء "،
رواه مسلم في الصحيح والترمذي وابن ماجة وروى البخاري نحوه بغير لفظه،
وعن أمير المؤمنين على عن رسول الله أنه قال:
طلب " الحق " غربة - رواه الأنصاري في أول كتابه (منازل السائرين
إلى الله) من حديث جعفر بن محمد الصادق عن أبيه عن جده، ولذلك شواهد
قوية ذكرها الهيثمي في مجمع الزوائد
إلى علماء الاسلام في جميع الأقطار
رأيت فيما نقلناه إليك عن كتاب العجاج أنهم رفعوا فيه مقام أبي هريرة
إلى أفق لم يبلغه أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وآله فجعلوه دون غيره من الصحابة (راوية
الاسلام!) وأنه وحده الذي اختص بهذه المنزلة التي لا تطاول، فقدموه
على الصفوة المختارة من الصحابة رضوان الله عليهم، أمثال أبى بكر وعمر وعلى
وغيرهم! حقا إنها لإحدى الكبر، والذنب الذي لا يغتفر! ومن هو
أبو هريرة هذا حتى ينفرد بهذا الفضل العظيم، ويكون راوية الاسلام لجمع
المسلمين على مد الأحقاب وتطاول السنين!!
إنه لا يعدو أن يكون في الساقة من الصحابة وعامتهم الذين لا شأن لهم
ولا خطر! أو كما يقولون: لا في العير ولا في النفير! فلم يكن من السابقين الأولين،
ولا من المهاجرين، ولا من الأنصار، ولا من المجاهدين في سبيل الله بأموالهم
أو بأنفسهم. وكل ما عرف من تاريخه أنه انتقل من خدمة ابن عفان وبسرة
ابنة غزوان على ملء بطنه، إلى خدمة النبي صلى الله عليه وآله على ملء بطنه كذلك،
كما روى البخاري وغيره، ثم لزم الصفة يطعم مع إخوانه فيها لوجه الله فقضى
بها سنة وبعض سنة ثم أقصاه النبي صلى الله عليه وآله إلى البحرين، ولم يكن له عمل
فيها إلا التأذين بين يدي العلاء بن الحضرمي، ولما توسع في الرواية عن النبي صلى الله عليه وآله
بعد ما اتصل بأستاذه كعب الأحبار، وبعد موت عمر الذي كان ينهاه عنها،
300

اتهمه الصحابة وكذبوه فيما يروى حتى كان أول راوية اتهم في الاسلام،
ولا نتوسع في تفصيل تاريخه بعدما بيناه في كتابنا.
وبعد ذلك كله وغيره مما فصلناه في كتابنا يخرج أناس من آخر الزمان ويقولون
عنه (إنه راوية الاسلام)! لقد كان واجبا على علماء المسلمين كافة أن يهبوا في
وجه الذين قالوا بذلك فيبينوا لهم مبلغ ضرر ما وقعوا فيه ومقدار ما جنوا على
الدين وعلى الذي جاء به صلى الله عليه وآله! ولكن وا أسفا فإنا لم نجد من قام منهم بما
يوجبه عليه الدين والعلم، وبخاصة علماء مصر جميعا فقد سكتوا عما اقترف
العجاج وشيوخه (وأكلوا جميعا حلاوة سد الحنك) كأنهم راضون عنه! ولم
يخفف الامر علينا إلا أن رأينا عالما كبيرا من غير مصر قد انبرى لمؤلف هذا
الكتاب وشيوخه، فدحض كل ما سطروه وما افتروه بأدلة قاطعة، وبينات مسلمة،
لا تقبل الجدل، ولا يقف في سبيلها أي اعتراض أو مكابرة - ثم وجه اللوم
الشديد إلى وزارة الثقافة المصرية التي أعانت على طبع ونشر كتاب العجاج
على تفضلها ومنحه فوق ذلك منحة كبيرة.
وهذا العالم المفضال هو الشيخ عبد الله السبيتي في كتاب ألفه باسم
(أبو هريرة في التيار) جزاه الله عن الدين والعلم أحسن الجزاء.
معذرة
قد يلاحظ القراء على أسلوبنا في هذه الالمامة وفى مقدمة هذه الطبعة شيئا
من العنف والتهكم، ويقولون: أما كان الأجدر بنا أن نتخذ في ردنا غير
هذا الأسلوب سبيلا! ونحن لا ننكر ذلك ولا ندفعه، ونصرح بأننا لم نتخذ
هذا الأسلوب إلا مضطرين، ولا سلكنا هذه السبيل إلا مرغمين، ذلك بأن
هؤلاء القوم الذين نخاطبهم قد اتفقت كلمتهم على عداوتنا (1) وتظاهروا على

(1) كنت في زيارة العلامة الجليل الشيخ أحمد حسن الباقوري مدير جامعة الأزهر وكان ذلك
في يوم الأحد 26 يولية سنة 1964 فدخل المجلس شيخ ربعة أحمر، وما كاد الشيخ الباقوري يعرفه باسمي
حتى التفت إلى في غضب وخاطبني بهذه العبارة: " اسمع يا أستاذ جميع شيوخ الأزهر ضدك لما تكتب! "
ثم ولى وعيون الحاضرين تشيعه بالازدراء، وكان لي أن جيبه بقولي " أبشر بطول سلامة يا مربع "، أو أقول
كلمة أخرى أشد من ذلك ولكن فضلت السكوت محافظة على حرمة المجلس.
301

سبنا وشتمنا، وتمادوا في قذفنا بمنكر القول وزوره، ولم يشبع ذلك نهم
حقدهم وبغضهم بل تمادوا فطعنونا في ديننا، واتهمونا في إيماننا وجاء شيخ
منهم يسمى محمد أبو زهرة فوصف إيماننا بأنه (إيمان على حرف) ولا نعيد
الكلام في بيان ما وقع علينا من أحد مجرميهم بين جدران الأزهر بعد أن فصلناه
في مقدمة الطبعة الثانية من كتابنا الأضواء.
وعلى رغم كل ما أصابنا فقد آثرنا أن ندفع مع هؤلاء القوم بالتي هي أحسن،
وقلنا عفا الله عما سلف، وآية ذلك أننا عندما أردنا أن نخرج الطبعة الثالثة من
كتاب الأضواء حذفنا كل ما كتبناه عما وقع علينا (1) وخرج الكتاب خالصا للعلم
وحده، وظننا أن القوم كرام فيقدرون صنيعنا، ويحمدون لنا موقفنا، ولكن وا أسفا
خاب ظننا وغلبت عليهم شنشنتهم، وما لبثوا أن قابلونا أخيرا (بكتيب) رمونا
فيه بالفسق وغير الفسق حتى صدق فيهم قول الشاعر:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته * وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
من أجل ذلك لم نجد أسلوبا يليق بمخاطبة هؤلاء القوم غير هذا الأسلوب،
ولا تعبيرا يصلح للرد عليهم سوى هذا التعبير، ورحم الله المتنبي حيث
يقول:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا * مضر كوضع السيف في موضع الندى
ومن قول شاعر آخر: وحلم الفتى في غير موضعه جهل!
على أن كلامنا وإن كان قد بدا في هذا الأسلوب فإنا قد تجنبنا مجاراة
من انتقدونا في سفههم، وربأنا بأنفسنا عن أن نهبط إلى الدرك الذي هووا إليه،
وارتضوه لأنفسهم، حتى لا يوجد في كل كلامنا لفظة قذرة، أو تعبير
بذئ من جنس ما قالوا.
ولقد كان من حقنا أن نرد عليهم بمثل قولهم، ولكن عصمنا من ذلك قيد
ثقيل من أخلاقنا وديننا.
ولو أنهم كانوا ذوي أخلاق كريمة ونفوس مهذبة بحيث يجدى معهم دفع سيئاتهم

(1) يعرف ذلك الأستاذ العالم الكبير الدكتور السعيد مصطفى السعيد مدير جامعة القاهرة سابقا.
302

بالتي هي أحسن، واعتدائهم بما هو أقوم، لكان قولنا لهم لينا، وأسلوبنا معهم
هادئا، ولجرى قلمنا في مناقشتهم على سجيته الطبيعية التي يتبعها في
كل ما يخطه.
وإنا بعد ذلك لندعو الله مخلصين أن يهديهم إلى طريق الرشاد، وأن يطهر
نفوسهم من درن الأحقاد وأن يشفى عقولهم من داء التعصب والجمود، ويضع
عن أعناقهم أغلال التقليد، وعبادة الآباء والجدود إنه سميع مجيب. والسلام
على من اتبع الهدى.
للتاريخ
كنا قد ختمنا الطبعة الثانية من كتاب الأضواء بنشر طائفة من الكتب الخاصة
التي تفضل بإرسالها إلينا صفوة من العلماء في الأقطار الاسلامية، وبعض
المقالات التي نشرت في الصحف والمجلات العربية التي تشيد بقدر كتابنا
الأضواء وتضفي علينا أطيب الثناء مما لا نستحق منه شيئا. وقد فاتنا أن نثبت
ذلك في الطبعة الثالثة من الكتاب.
وقد رأينا حفظا لحق التاريخ أن نشير إلى هذا الامر هنا بأن نكتفي - لضيق
المجال - بنشر أسماء السادة الفضلاء الذين نشرنا كلماتهم من قبل، وهي كما
يلي بترتيب نشر هذه الكمات:
العلامة المفضال الشيخ عبد الله صالح الفارسي من كبار علماء زنجبار.
العالم المحدث الأستاذ عبد الحميد الخطيب المدرس بالحرم المكي وسفير
السعودية بالباكستان (سابقا) رحمه الله.
العلامة الكبير نعمة الله سلجوقي رئيس فخر المدارس بهرات (أفغانستان).
العلامة الجليل الأستاذ مرتضى العسكري عميد كلية أصول الدين ببغداد.
العراق.
الكاتب العالم المحقق الأستاذ إسماعيل مظهر رحمه الله.
الكاتب الكبير الأستاذ طاهر الطناحي محرر مجلة الهلال رحمه الله.
303

أما كلمة الدكتور طه حسين فقد جعلناها مقدمة للطبعة الثالثة من كتاب
أضواء على السنة.
وأما سائر من تفضلوا علينا برسائلهم الخاصة فنسدي لهم خالص الشكر
ونعتذر عن ذكر أسمائهم فيما ذكرنا.
تنبيه
أعرضنا هنا عن نشر أسماء أسانيد الكتاب ومصادره، اكتفاء بنشرها في
الطبعة الثالثة من كتابنا الأضواء. لان كتاب (شيخ المضيرة) هذا يعتبر
جزءا مكملا له وتماما عليه - وما زاد على هذه المصادر مما قرأناه لهذه الطبعة
الجديدة من كتاب (شيخ المضيرة) قد أغفلنا نشره هنا اكتفاء بذكره في
هوامش الكتاب.
304

المقدمة الفارسية
هذه ترجمة مقدمة كتاب شيخ المضيرة الذي ترجمت طبعته الأولى باللغة
الفارسية التي وعدنا بنشرها في مقدمة الكتاب (1).
باسمه العزيز:
الكتاب الذي بين يدي القارئ المحترم هو في شرح سيرة (2) أبي هريرة
أحد أصحاب الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم.
إن الإحاطة بتاريخ حياة أبي هريرة وخصوصياته كرجل عرف في
التاريخ الاسلامي بأنه أحد أصحاب النبي الأكرم صلى الله عليه وآله بل صحابي كبير
(مع بالغ الأسف) الذي غصت كتب أهل السنة بمروياته - والاطلاع على
دقائق سيرته وأقواله وأفعاله كشخص كان له فخر مصاحبة نبي الاسلام المعظم
صلى الله عليه وآله وإدراك مدرسته على غاية من الأهمية سواء من الناحية التاريخية والأخلاقية
أو من حيث الوقوف على النتائج المذهلة فيما يخص روايته لبعض الأحاديث التي
بين يدي المسلمين المنسوبة إلى النبي الأكرم، أو لنواح أخرى - إن هذه
الأمور كلها دفعتني إلى المبادرة بترجمة هذا الكتاب الذي يعتبر خير معرف
لشخصية (أبي هريرة) ورواياته لكي يوضع في متناول أهل التحقيق.
لا ريب في أن أبا هريرة بطل هذا الكتاب يتمتع باحترام شديد بين أهل
السنة بما له من شرف مصاحبته للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله. وبأنه ناقل وراو لكثير
من أحاديث النبي في مختلف المواضيع. ولذلك فإنه حينما تعرض مؤلف هذا
الكتاب، وكتابه الآخر (أضواء على السنة المحمدية) الذي احتوى حقائق هامة

(1) لقد تفضل بترجمة هذه المقدمة الأستاذان الفاضلان محمد إسحاق الفقيهي السكرتير الأول
بالسفارة الأفغانية بالقاهرة، وأسعد عبد الجبار الكبيبي المستشار الثقافي المساعد بسفارة الجمهورية العراقية
بالقاهرة فشكرا لهما شكرا جزيلا.
(2) حذفنا من هنا عبارة شديدة من عنوان الكتاب وإن كان لا تثريب علينا في إبقائها اتباعا
لسنة النقل وكذلك حذفنا بعض سطور من المقدمة، حتى لا نثير غضب ضيقي الصدر الذين ينفرون
من كل ما لا يرضيهم من القول ويلعنون قائله لعنا كبيرا..
305

مذهلة عن الحديث، وعن الوضاعين والمزيفين - ثار حوله جدل ونقاش مريران
سواء في مصر أو في سائر الأقطار الاسلامية العربية التي أغلب أهليها من أهل
السنة، وأصبح موضع هجوم ونقد وانتقاص وتجريح من ذوي العقول المتحجرة
والجمود الفكري من كل فئة وطائفة، لأنه قد تجرأ - وعلى غير المألوف - لنقد
واحد من صحابة الرسول الأكرم، وتجاسر على وضعه تحت منظار النقد والتحليل
الجرئ، وعلل وحقق ودقق جميع روايات أبي هريرة الغزيرة التي رواها عن
رسول الله صلى الله عليه وآله وعرض شخصيته ومروياته لموجة عاتية من النقد والتجريح
والاعتراض.
وبديهي أن إقدام المؤلف على مثل هذا العمل الذي قد يبدو لأول وهلة
في هذه البيئة أمرا غير صحيح! أو ليس بالسهل (على أقل تقدير) لأنه يعد
لطمة قاسية لعقائد أناس ظلوا زمنا طويلا يشيعون أبا هريرة بنظرات التقديس
والاحترام مؤمنين بصدق رواياته، ويتقبلونها قبولا حسنا، يضاف إلى ذلك أن
هذا العمل يعد هجوما مثيرا على واحد من أصحاب النبي الأكرم كان له شرف
صحبته ولو لمدة قليلة، ولكن المؤلف لم يكن ليغيب عن ذهنه ما أحدثه التقدم
العلمي والعقلي والفكري في عالمنا المعاصر من تطورات وانقلابات في شؤون الناس
وفى جميع الميادين خصوصا بعد أن عرضت لتغيرات واتجاهات جديدة في عقائدهم
وعاداتهم وآدابهم حفزت نتيجة لهذا الأسلوب في التفكير أكثر الناس لكي يهبوا
لتمحيص كل ما يقع تحت أنظارهم ولا سيما فيما يتعلق منها بالعقائد الدينية.
والموضوعات المذهبية، وليبحثوا عن أصل كل شئ ومنشئه، ويقفوا على سببه
وعلته، وليسألوا عن دليله وبرهانه ومستنده.
إن هذا الكتاب يدل على صدق معتقد المؤلف وأمثاله ممن يضمون بين حنايا
أضلعهم إحساس الغيرة على الدين الاسلامي ويتعلقون بأهداب شريعته، وأنهم
يقفون بالمرصاد للمعاندين والمغرضين والمنتقصين، خصوصا أن كثيرا منهم على
حق في بعض ما يأخذونه على الدين، مما لا ينطبق ومنطق العقل أو العلم مما
لا يصح أن يسكتوا أو يقفوا حياله مكتوفي الأيدي، ويكتفوا بالاستماع إلى
اعتراضات المعترضين، ومآخذ المغرضين، ويستمرئوا طعون الطاعنين من أعداء
306

الدين متقبلين سيول الشتائم بمستقبح الألفاظ، راضين لأنفسهم عار شماتة الأعداء
ممن حجبت عنهم سحب أوهامهم وأخيلتهم شمس الحق المشرقة عليهم.
وعلى هذا الأساس، ولأجل هذا الهدف، اقتحم المؤلف الفاضل هذا
الميدان ليمحص الحق المحض بمستمسكات رصينة، واستدلالات متينة، ليمزق الستر
عن وجه حقيقة هامة فيما يتصل بأبي هريرة وأحاديثه، ذلك الذي ظل طوال القرون
والعصور الاسلامية الماضية مغطى بغطاء من العقائد البالية تحكي قدسيته.
حقا نهض المؤلف ليدافع بهذا الكتاب عن الحرم المقدس للدين الاسلامي،
وعن شخصية عظيم الشأن رسول الله الأكرم صلى الله عليه وآله إذ لم يكن الحديث النبوي
إلا الرابطة المباشرة بين الرسول وحيثيته ودينه.
ونحن لنحمد للمؤلف هذا العمل البار في جهاده الديني، وصيانته لقدسية
سيد المرسلين، وتبيانه الحقيقة لكل من أخذوا على أنفسهم حمل مثل هذه الرسالة
الخطيرة، وإشارته إلى أن خير المسلمين وصلاح أمرهم لا يمكن أن يكون إلا بجهاد
الأعداء المتربصين في مثل عالمنا المتكالب بعد تجهيز المجاهدين بأسلحة العلم
والمنطق والعقل، وبأسلوب البحث والتحقيق والتتبع، لحماية تلك الفرق والمجموعات التي
تتهاوى زمرا متتالية لتسقط في غياهب انحراف العقيدة بسبب الخداع والتهويش
الماكر الذي تعرضت له أمدا طويلا، إذ لا ينحصر الجهاد في الانشغال فقط
بتلك الفئة من الناس التي اختارت العزلة وآثرت العافية ونأت عن الأعداء
الماكرين والتزمت الصمت ولم تعد تهتم بالتحولات والثورات الفكرية في عالمنا
المعاصر، ولم تتأثر بما جد فيه، وبقيت كما كانت وستبقى كذلك.
وخلاصة القول أن المؤلف المحترم قد أظهر في هذا الكتاب ما كانت عليه
شخصية أبي هريرة، مما يجب أن توصف به فعلا، وبين استهتاره في نقل الحديث،
وإفراطه في كثرة المرويات عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، وانتهى المؤلف إلى إثبات
الهدف المعين الذي قام من أجله أبو هريرة بانتحال بعض الأحاديث ونقلها،
لأغراض خاصة، كما أشار من طرف خفى إلى ما يجب على كل مسلم تلقاء
أعداء الدين الأذكياء من الأجانب، وكيف أنهم يحتالون لافساد الأخلاق
وتحريف الأفكار وزلزلة العقائد، لسلب القدرة المعنوية والمادية من المسلمين لكي
307

ينفذوا بعدها إلى أهدافهم المشؤومة عن غير الطرق التي قد يحس الانسان غرابتها
فينكر عليهم أقوالهم وأفعالهم، أو يفلت منها مرة واحدة بعد أن يطلع على أهدافهم
الآثمة، بل غالبا ما يتسللون كما يتسلل الميكروب عن طريق الطعام المستساغ أو
الشراب الطهور، ليستحيل دما يهاجم الجسد والروح دفعة واحدة، وهذا يقتضى
حنكة وكياسة يأنسها الناس، ومن هنا مزجوها بأقدس المعتقدات، وليس أقرب
ولا أسلم للوصول إلى ذلك من الدين والمعتقدات الروحية، إذ من المحال أن تقوم
نهضة دينية إصلاحية إلا على أساس من العقل الصحيح، والعلم النافع، أولا
وقبل كل شئ، إذ أن الدين بلا ريب هو دواء كل داء يمكن أن يصيب
المسلمين على أن يسلك به طريقا صحيحا وبأسلوب علمي مستدل بالمنطق متساوق
مع قانون العقل وطرق التحقيق. وبهذا وحده يمكن أن يؤمن الفلاح والصلاح.
فقد سجلوا مثلا أحاديث أبي هريرة وكل من لف لفه، وسجلوا جميع
الأحاديث أيا كان راويها مستهدفين من وراء ذلك أغراضا يقصدونها، لان مثل
هذه الأحاديث والآثار سواء منها تلك التي احتسبت من الإسرائيليات التي أخذت
عن كعب الأحبار ووهب بن منبه وأضرابهم من اليهود المخربين أو ناشري آثار
اليهود، تلك التي لا يقرها عقل حصيف أو منطق سليم، بله ما أثبته العلم والتجربة
من بطلان أغلبها، صراحة غير مؤيدة إلا من الأيدي الملوثة الحاقدة، وليس لها
من نتيجة سوى وضع سلاح بتار قاطع لمعتقداتنا بعد أن أخذوها من أيدينا نحن
ليلطخوا بها ديننا الاسلامي المقدس الذي احتوى أسمى التعاليم البشرية، وأروع المثل
العليا وأبقى الشرائع القانونية خلودا لبني الانسان، فيبدو بعدها لنا ولأعدائنا ضحلا
تافها ولتمتد بعدها ألسنة الفحاشين والمشتغلين بالقذف والسباب، أبعدنا الله عن
هاوية الجهل والضلال، وهدانا إلى الصراط المستقيم.
308

مؤلف هذا الكتاب
العلامة المبجل الشيخ محمود أبو رية مؤلف هذا الكتاب أحد علماء أهل
السنة (1) الاجلاء في مصر وأكثرهم شهرة بحرية الرأي وقوة الإرادة والشهامة في
مناصرة الحقيقة والذود عن الاسلام - وقد تعرض هذا الداعية المبشر بحقائق
الاسلام المحرض بشدة على التمسك بأسس الدين القويمة التي يقوم عليها وحدها
صرح السعادة - لحملة طعن ظالمة من السطحيين وقليلي التفكير، وزاد في هذه
الحملة مشايعته الصادقة واحترامه المؤكد لآل على (2) إلى جانب ما رماه به بعض
شيوخ الأزهر وعلمائه من التشيع والرافضية، حتى وصل الامر بينهم لأعنف صور المجادلة
والمهاترة والحقد، كما يذكر ذلك المؤلف ذاته في مقالة له نشرت في عددين من مجلة
(النهج) الشهرية التي تصدر في لبنان تحت عنوان (قضيتي مع الأزهر) بين
فيها دقائق هذا الخلاف وردوده عليه بقلم ساحر وبيان متين نحجم عن نقلها
مخافة الاطناب وحفظا لوحدة الكلمة (3). التي نحن أحوج ما يكون لمثلها عالمنا
الاسلامي في ظروفنا الراهنة، ولئلا نأتى بعكس المراد من ترجمتنا لهذا الكتاب
سائلين الله العلى ومتشفعين بالنبي الأمين وآله الطاهرين أولياء الاسلام عليه السلام
وحدة الكلمة والرفعة والنصر المبين لجميع المسلمين تحت راية الاسلام الخفاقة.

(1) نشكر للسيد المترجم المفضال ما أضفاه علينا بأدبه الكامل من ثناء طيب وأوصاف
لا نستحقها، ونذكر له وللناس جميعا أننا لا نعرف شيئا اسمه (أهل السنة) ولا شيئا آخر يقابلها من
سائر الفرق أو المذاهب التي استحدثت بين المسلمين لتعريفهم، وبخاصة فإن وصف أهل السنة هذا لم
يكن معروفا قبل معاوية بن أبي سفيان، وقد استحدثوه في عهده في العام الذين وصفوه بأنه (عام الجماعة)
نفاقا للسياسة لعنها الله، وما كان إلا عام الفرقة، وأصرح كذلك بأني وقد قضيت ما قضيت من عمري
في الدرس والتحصيل - ما زلت أطلب العلم ولا أعد نفسي من الذين يسميهم الناس علماء - أولئك الذين
يستغلون، لمأربهم الشخصية، هذا اللقب عند الدهماء.
(2) أن حب آل البيت والتشيع لهم لفرض على كل مسلم مؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
(3) من أجل هذه الرغبة الكريمة التي أبداها السيد المترجم حذفنا من الطبعة الثالثة من كتاب
الأضواء ما كنا نشرناه عن موقف الأزهر منا، وكنا نظن أن ذلك قد يذهب ما في صدورهم من ضغن
أو يخفف منه. ولو قليلا، ولكنا ما لبثنا أن وجدنا بعض أساتذة كلية أصول الدين بالأزهر يصدرون
كتبا يرموننا فيها بالجهل والفسوق، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
309

ونرى لزاما علينا في الختام أن نقدم غاية الامتنان للعالم الجليل والحبر النبيل
حجة الاسلام والمسلمين السيد آقا سيد رضا صدر دامت أفضاله، الذي تفضل
مشكورا - بعد مطالعة هذا الكتاب النافع وإدراك ما فيه محرضا لتعميم نفعه
بالترجمة - بإضافة ما وضعه بين أيدينا من التعريف بمؤلف هذا الكتاب،
سائلين له طول العمر والتأييد، إذ لو كتب لي شرف فضل في هذه الترجمة
فإنما هي له أولا:
ولكن بكت قبلي فهيج لي البكا * بكاها فقلت الفضل للمتقدم
هذه هي الترجمة البليغة لمقدمة كتاب (شيخ المضيرة) في طبعته الأولى التي
دبجها قلم العلامة المفضال محمد وحيد كلپايكاني ونشرتها مكتبة (كتابفروشى
محمدي) بطهران عاصمة بلاد فارس.
310