الكتاب: شرح السير الكبير
المؤلف: السرخسي
الجزء: ٢
الوفاة: ٤٨٣
المجموعة: أهم مصادر رجال الحديث عند السنة
تحقيق: الدكتور صلاح الدين المنجد
الطبعة:
سنة الطبع: ١٩٦٠ م
المطبعة: مطبعة مصر
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

شرح كتاب السير الكبير
لمحمد بن الحسن الشيباني
الجزء الثاني
408

51 - باب من الأمان الذي يشك فيه
563 - وإذا أحاط المسلمون بحصن من حصون أهل الحرب
فأشرف منهم أربعة نفر فقالوا: آمنونا على أن نخرج إليكم لنراوضكم
على الصلح. ففعل ذلك بهم، فخرج منهم عشرون رجلا معا، فإن عرفنا
الأربعة بأعيانهم كانوا آمنين، ومن سواهم فئ للمسلمين، إن شاءوا
قتلوهم وإن شاءوا جعلوهم فيئا.
لانهم حصلوا في أيدينا بغير أمان. فإن المحصور بمجرد الخروج لا يستفيد
الامن ما لم يعط له الأمان نصا. (آخر ص 136). وكيف يستفيد الامن
وإنما حصر ليخرج، وليس بين الأربعة وبين من سواهم سبب يوجب الامن
لهم بطريق التبعة.
وأما حكم الأربعة:
564 - فإن استقام بين المسلمين وبينهم صلح وإلا ردوهم إلى
حصنهم، كما هو موجب الأمان. وإن أبوا أن يرجعوا إلى الحصن
لم يكن للمسلمين أن يجبروهم على ذلك.
لانهم حصلوا آمنين فينا.
409

ولا يجوز التعرض لهم بحبس ولا أسر. ولكن يقال لهم اذهبوا
إلى أرض الحرب إن شئتم (1)، فإنا لا نتعرض لكم حتى تبلغوا مأمنكم.
لان الوفاء بالأمان والتحرز عن الغدر واجب.
565 - فإن قالوا: لا نفارق عسكركم. فالسبيل أن يتقدم
الامام إليهم ويؤجلهم في ذلك على حسب ما يراه، ويخبرهم أنهم إن لم
يذهبوا جعلهم ذمة وأخرجهم إلى دار الاسلام.
وقد تقدم بيان هذا الفصل.
وليس للامام أن يقول لهم: إن ذهبتم إلى وقت كذا وإلا جعلناكم
عبيدا، أو وإلا فدماؤكم حلال.
لانهم آمنون فينا، ومن ضرورة الأمان ثبوت العصمة عن الاسترقاق
والقتل. وكما لا يملك تنفيذ ذلك منهم في الحال لا يملك تعليقه بمضي الزمان،
بخلاف (2) تصييرهم ذمة على ذلك، فإن ذلك لا ينافي الأمان بل يقرره.
والكافر لا يمكن من إطالة المقام فينا بدون صغار الجزية والتزام أحكامنا في
المعاملات لما في ذلك من الاستخفاف بالمسلمين.
566 - ولو أن المسلمين قالوا لأربعة من أهل الحصن: أنزلوا،
فأنتم آمنون حتى نراوضكم على الصلح. فنزل عشرون رجلا فيهم أولئك

(1) ه‍ " إذهبوا إلى أي أرض الحرب شئتم ".
(2) ب " ويخلاف ".
410

الأربعة، ولكن لا نعلم الأربعة بأعيانهم، وكل واحد يقول: أنا من
الأربعة. فهم جميعا آمنون، لا يحل قتل أحد منهم ولا أسره.
لان كل واحد منهم تردد حاله بعدما حصل فينا بين أن يكون آمنا
معصوم الدم وبين أن يكون مباح الدم. فيترجح جانب العصمة عملا بقوله
صلى الله عليه وسلم " ما اجتمع الحلال والحرام في شئ إلا غلب الحرام
الحلال ". ولان الأمان يتوسع في إثبات حكمه لا في المنع من ثبوت حكمه،
ولان ترك (1) القتل والأسر، وهو حلال له، خير من أن يقدم على قتل
أو أسر في محل معصوم.
ثم هذا التجهيل من ناحية المسلمين حين لم يعلموا الأربعة بعلامة يتمكنون
من تمييزهم بتلك العلامة عن أغيارهم، فلا يؤثر ذلك في إبطال الأمان الثابت
بطريق الاحتمال لكل واحد منهم.
ولكنهم يبلغون مأمنهم بمنزلة ما لو أمنوا جميعا.
567 - ولو أن الأمير أمن أربعة نفر من أهل الحصن بأعيانهم
ولم يأمرهم بالنزول، ثم فتح الحصن، فقال كل واحد منهم: أنا من
الأربعة. فإن عرف المسلمون الذين أمنوهم وإلا كان القوم كلهم فيئا.
لانهم أخذوا (2) في منعة أهل الحرب، ومن كان في منعة أهل الحرب
فهو مباح الاخذ، إلا أن يعلم فيه مانع، ولم يعلم ذلك في واحد منهم، بخلاف
الأول، فهناك (3) الأربعة صاروا آمنين، وهم في منعة المسلمين. ومن في منعة

(1) ه‍ " يترك القتل به.. "، ب " يترك القتل لها ".
(2) ب " وجدوا ".
(3) ب، " فإن هناك ".
411

المسلمين لا يكون محاربا لهم، باعتبار الحال، فما لم يعلم أنه محارب باعتبار
الأصل وأنه لم يتناوله الأمان لا يجوز التعرض له.
ألا ترى أنه لو أسلم أربعة في الحصن، فأمرهم المسلمون بالنزول،
فنزل عشرون وادعى كل واحد منهم أنه هو الذي أسلم في الحصن، لم يحل
سبى أحد منهم.
568 - لو أسلم أربعة في الحصن ولم يخرجوا حتى ظهر المسلمون
على الحصن، فادعى كل واحد منهم أنه هو الذي أسلم، كانوا جميعا
فيئا، إلا من عرف بعينه أنه كان فيمن أسلم. فحينئذ يكون حرا هو
وأولاده (1) الصغار، ويسلم له ماله.
لأنه هو المحرز له.
فأما الكبار من أولاده فلا يتبعونه في الاسلام فكانوا فيئا
أجمعين (2).
إلا أنه ليس للامام أن يقتل أحدا منهم هاهنا.
لان كل واحد منهم قابل للاسلام أو راغب فيه (ص 137) وإسلام
الأسير يؤمنه عن القتل ولكنه لا يؤمنه عن الاسترقاق.
569 - قال: ولو لم أسب هؤلاء لم أسب أهل قسطنطينية إذا
علمت أن فيها مسلما واحدا أو ذميا ولا أعرفه بعينه. فهذا ليس بسبي،
وكل من وقع عليه الظهور في دار الحرب فهو فئ ما لم يعلم المانع فيه.
واستوضح هذا الفرق بما.

(1) ب، ه‍ " يكون هو حرا مع أولاده. "
(2) ب " أجمعون ".
412

لو دخل قوم من دار (1) الحرب بغير أمان قرية (2) من قرى أهل
الذمة فأتاهم المسلمون ليأخذوا أهل الحرب فادعى كل واحد في القرية
أنه من أهل الذمة، فهم آمنون كلهم.
لانهم في موضع الامن والعصمة.
فلا يحل التعرض لأحد منهم ما لم يعلم
أنه من أهل الحرب.
570 - ولو أن قوما من أهل الذمة دخلوا بعض حصون أهل
الحرب بمرأى (3) العين من المسلمين، ثم ظهرنا على أهل الحصن، فكل
من في الحصن فئ، إلا من عرف بالذمة بعينه.
لانهم وجدوا في موضع النهبة والإباحة فكانوا فيئا، ما لم يظهر المانع
في بعضهم. وتحكيم المكان في مثل هذا أصل في الشرع. ألا ترى أنه من رأى
شخصا في دار الحرب وهو لا يعلم حاله يباح له الرمي إليه ما لم يعلم أنه مسلم
أو ذمي. ولو رآه في دار (4) الاسلام لا يحل له ذلك ما لم يعلم أنه حربي.
571 - ولو أن ذميا دخل حصنا من حصونهم، فافتتح الحصن
حين دخل الرجل، ولم يقتل أحدا منهم حتى أخذوا، وقد أحاط العلم
بأن الذمي فيمن أخذ ولا يعلم أيهم هو، فإنه لا ينبغي للامام أن يقتل
أحدا منهم.

(1) ب " في دار ".
(2) ه‍، ب " في قرية ".
(3) ل " برأي ".
(4) قوله " في دار " ساقط من ه‍.
413

لأنه ليس بعضهم بأن يقتله أولى من البعض. ولو قتلهم جميعا كان متيقنا
بقتل من لا يحل قتله. ولا طريق له إلى التحرز عما لا يحل إلا بالكف عن قتلهم
جميعا. وهذا لان التحرز عن قتل الذمي فرض عليه، وقتل الحربي الأسير
مباح له. ولا معارضة بين المباح والفرض. وفى الموضع الذي تتحقق
المعارضة يترجح جانب الحرمة على الحل. فهنا أولى.
572 - فإن كان القوم قتل بعضهم، أو مات بعضهم، أو خرج
بعضهم، فلم يحط العلم بأن الذمي فيهم فلا بأس بقتل الرجال كلهم.
لانهم وجدوا في موضع الحرب، والمانع من قتلهم كون الذمي فيهم.
وذلك غير متيقن به، فلا بأس بقتلهم بناء على أن الذمي كان هو الذي مات
أو خرج منهم. وهذا لان الظاهر من حال كل واحد منهم أنه حربي مباح
الدم. وإنما يبنى على الظاهر فيما لا يمكن الوقوف على حقيقته، إلا أن يعارض
الظاهر يقين بخلافه. ففي الفصل الأول عارض الظاهر يقين وهو العلم بكون
الذمي فيهم، وفى هذا الفصل لم يعارض الظاهر يقين، فبنى الحكم عليه.
573 - فإن كان أكبر (1) ظن الامام أن الذمي فيهم وكلهم يقول:
أنا الذمي، فالمستحب له أن لا يقتل أحدا منهم.
لان أكبر (1) الرأي، وإن كان لا يعارض الظاهر، لكن يثبت به
استحباب الاحتياط. ألا ترى أن من وجد ماء وغلب على رأيه أنه نجس
ولكن لم يخبره أحد بنجاسته فالمستحب له أن يتوضأ بغيره، وإن توضأ به
أجراه. فهاهنا أيضا المستحب أن لا يقتل أحدا منهم.
574 - وإن كان لو قتلهم، جاز. باعتبار الظاهر. والأصل فيه قوله

(1) ل " أكثر ".
414

صلى الله عليه وسلم لوابصة بن معبد: " ضع يدك على صدرك واستفت
قلبك، فما حك في صدرك فدعه، وإن أفتاك الناس به ".
وإن كان لا رأى له في ذلك فلا بأس بأن يقتلهم باعتبار الظاهر.
وإن شك في اثنين أو ثلاثة منهم فلا بأس بأن يقتل الباقين
ويسبي الذين في أكبر رأيه أن الذمي فيهم.
575 - وكذلك لو أن رجلا منهم أشرف على الحصن فدلنا على
عورة من عوراتهم فآمنه الامام ثم افتتح الحصن من ساعته فهذا
والذمي سواء.
لان الذي آمناه معصوم عن القتل، فإن حرمة القتل بالأمان وبالذمة سواء.
576 - ولو وجدت المراوضة بين المسلمين وبين أهل الحصن
(ص 138) على الصلح فقال المسلمون: أخرجوا إلينا أربعة منكم، فهم
آمنون حتى نراوضهم. فخرج منهم عشرون معا، فهم آمنون.
لان أربعة من العشرين قد صاروا آمنين بإعطاء المسلمين لهم الأمان. فإن
إعطاء الأمان لمجهول صحيح.
فإذا حصلوا في عسكرنا وبعضهم آمنون ثبت الأمان لهم جميعا إذ ليس
بعضهم بأولى من بعض.
ولا يحل التعرض لواحد منهم لتردد حاله بين أن يكون آمنا معصوما
وبين أن يكون مباحا. ألا ترى أن المسلمين لو قالوا: ليخرج إلينا رجل
منكم فهو آمن. فإذا فتح الباب كان لكل واحد منهم أن يخرج ويكون آمنا.
415

فإذا خرج عشرة معا فكل واحد منهم في صورة من سلطة المسلمون على الخروج،
ولو خرج وحده كان آمنا.
فخروج غيره معه لا يبطل ما أوجب له المسلمون من الأمان.
ألا ترى أنهم لو قالوا: إن فتح رجل منكم الباب فهو آمن فوثب
عشرة منهم ففتحوه معا كانوا آمنين.
لان كل واحد منهم لو فتحه وحده كان آمنا، فلا يبطل أمانه بفتح
الغير معه.
577 - ولو قال: إن خرج رجل منكم إلينا لنراوضه على الصلح
فهو آمن. فخرج رجل، ثم تبعه آخر، ثم آخر. فإن كان الأول صار في
منعتنا قبل خروج الآخرين فالثاني والثالث فئ للمسلمين.
لان حكم الأمان تعين في الأول حين صار في منعتنا وحده، ثم خرج
الثاني والثالث بغير أمان، فان النكرة في موضع الاثبات يخص. فبعد ما تعين
الأول له لا يمس الثاني والثالث.
وإن لم يصل الأول إلى منعتنا حتى لحقه صاحباه فهذا وخروجهم
معا سواء.
لان المنصوص عليه خروجه إلينا. وإنما يتم ذلك بوصوله إلى منعتنا،
فقبل ذلك لم يتعين الأمان في الأول، فكان هذا وخروجهم معا سواء.
ألا ترى أن الأول لو رجع قبل أن يصل إلى منعتنا ثم خرج الآخر كان آمنا
إذا وصل إلى منعتنا.
ولو وصل الأول إلى منعتنا ثم مات أو رجع فخرج الآخر كان فيئا.
416

أرأيت لو أن الثاني عجل فوصل إلى منعتنا قبل أن يخرج الأول من منعة
المشركين ألم يكن آمنا؟
وهو أول رجل وصل إلى منعتنا، فعرفنا أن المعتبر حال الوصول إلى
منعتنا، وقد وصلوا إلينا معا فكأنهم خرجوا معا فكانوا آمنين.
فإن قيل: إذا خرجوا معا كيف يثبت الأمان لهم والنكرة في الاثبات
لا تعم؟
قلنا: هذه نكرة موصوفة بصفة عامة وهي الخروج إلينا، ومثل
هذه النكرة تعم، كالرجل يقول: لا أكلم إلا رجلا عالما. ولكن ينهى
شرط الأمان بوصول أحدهم إلينا قبل خروج الآخرين. فإذا خرجوا معا
كانوا آمنين لهذا.
578 - ولو كان قال: عشرة منكم آمنون على أن تفتحوا الباب.
فقال الامام: نعم. ففتحوا الباب. فعشرة منهم آمنون، والخيار في
تعيينهم إلى الامام.
لأنه ما أوجب الأمان للفاتحين بأعيانهم، وإنما أوجبه لعشرة منكرة
منهم. ولكن إيجاب الأمان للمجهول يصح منجزا، وكذلك معلقا بالشرط.
ثم البيان يكون إلى من أوجب في المجهول كما في الطلاق والعتاق.
وإنما يثبت الأمان لعشرة منهم بغير عيال ولا مال، إلا ما عليهم
من الكسوة والسلاح استحسانا.
لان ثبوت الأمان لهم بعد فتح الباب وتمام القهر. وقد بينا أن العيال
لا يدخلون في مثله.
417

579 - وإن كانوا قالوا: عشرة من أهل حصننا آمنون على أن
يفتح لكم الباب. فقال الامام: نعم. فله الخيار، إن شاء جعل العشرة
من نسائهم وصبيانهم وإن شاء جعلهم من رجالهم.
لان اللفظ الذي به طلب الأمان يتناول الكل، والكل (ص 139)
من أهل الحصن. وفى الأول إنما خاطب الرجال. فيثبت الأمان لعشرة
من الرجال يعينهم الامام.
850 - وينبغي أن يحتاط للمسلمين في ذلك، حتى لا يختار للأمان
من تكون منفعة المسلمين في استرقاقه أقل لأنه نصب ناظرا لهم.
وهذا بخلاف ما سبق من قوله ليخرج إلينا أربعة منكم. وقوله:
ليخرج إلينا أحد منكم. لان هناك الأمان إنما يثبت لهم بعد ما وصلوا إلى
منعتنا، وكل واحد منهم لو خرج وحده كان آمنا. فبانضمام غيره إليه
لا يبطل الأمان. وهذا الأمان لعشرة منهم بعد الفتح وهم في الحصن.
وحقيقة هذا الفرق ما ذكرنا أن النكرة هنا غير موصوفة، وهناك
النكرة موصوفة بالخروج إلينا.
ألا ترى أنه لو قال: إن رمى رجل منكم
بنفسه إلينا وحده كان آمنا (1). فرمى عشرة معا كانوا آمنين. لان النكرة
موصوفة، وكل واحد منهم لو رمى بنفسه وحده كان آمنا، فبانضمام غيره إليه
لا يبطل حقه.
581 - ولو قال: ليخرج إلينا هؤلاء الأربعة حتى نراوضهم على
الصلح. فخرجوا، فهم آمنون، سواء قال: وهم آمنون أو لم يقل.

(1) ب، ه‍ " بنفسه إلينا فهو آمن ".
418

لأنه دعاهم إلى الخروج لطلب السلم والموافقة، ولان المراوضة على
الصلح إنما تتأتى ممن كان آمنا على نفسه. فهذا دليل الأمان لهم.
بخلاف ما إذا قال لأربعة منهم: اخرجوا إلينا. فخرجوا. فإنه
يكون له أن يقتلهم.
لأنه ليس في لفظه ما يدل على الأمان أو على الخروج على سبيل الموافقة،
ولكن هذا طلب المبارزة. فكأنه قال: اخرجوا إلينا للقتال إن كنتم رجالا.
582 - ولو قال: اخرجوا إلينا فبيعوا واشتروا، كانوا آمنين.
لان في كلامه ما دل على الأمان والخروج إلى الموافقة. فالتجارة تكون
عن مراضاة، وإنما يتمكن منها من يكون آمنا.
583 - ولو قال: ليخرج إلينا هؤلاء الأربعة حتى نراوضهم على
الصلح. فخرج أربعة غير أولئك الأربعة، فهم فئ للمسلمين.
لان دلالة الأمان لا تكون فوق التصريح بعينه.
584 - ولو قال لأربعة بأعيانهم أمنتكم، فخرج غيرهم كانوا فيئا.
585 - وإن أشكل على المسلمين فلم يدروا أيهم أولئك الأربعة أم
غيرهم، فإن الامام يسألهم عن ذلك، فإن زعموا أنهم غيرهم، كانوا فيئا لاقرارهم
على أنفسهم بحق الاسترقاق. وإن زعموا أنهم أولئك الأربعة، فالقول قولهم. لان الظاهر شاهد لهم. والظاهر أنه لا يتجاسر أحد على الخروج إلا من
أو من بعينه.
419

فإن اتهمهم استحلفهم بالله على ذلك. فإن نكلوا عن اليمين كانوا فيئا،
ولكن لا يقتلون.
لان النكول بمنزلة الاقرار، ولكن فيه ضرب شبهة واحتمال، فلا يجب
القتل به. وقد تقدم بيانه.
586 - وإن خرج عشرون رجلا معا فقال كل واحد منهم:
أنا من الأربعة، وحلف على ذلك، فهم آمنون جميعا.
لان كل أربعة لو خرجوا وحدهم وحلفوا كان القول قولهم. فخروج (1)
غيرهم لا يبطل حكم الأمان في حقهم. أو لأنه اختلط المستأمن بغير المستأمن
في منعتنا. وفى مثل هذا يثبت الأمان لهم جميعا احتياطا. فعلى الامام أن يبلغهم
مأمنهم.

(1) ه‍ " فخرج "
420

52 باب الخيار في الأمان
587 - قال: وإذا حاصر المسلمون حصنا فأشرف عليهم رأس
الحصن فقال: آمنوني على عشرة من أهل هذا الحصن على أن أفتحه
لكم. فقالوا: لك ذلك. ففتح الحصن. فهو آمن وعشرة معه.
لأنه استأمن لنفسه نصا بقوله: آمنوني. فالياء والنون يكنى بهما المتكلم
عن نفسه (ص 140) وقوله على عشرة، كلمة عشرة للشرط. وقد شرط
أمان عشرة منكرة مع أمان نفسه، فعرفنا أن العشرة سواه.
ثم الخيار في تعيين العشرة إلى رأس الحصن.
لأنه جعل نفسه ذا حظ (1) من أمانهم وهو ليس بذي حظ، باعتبار
أنه داخل في أمانهم (2)، فقد استأمن لنفسه بلفظ على حدة، وليس بذي حظ
على أنه مباشر لأمانهم. فان ذلك لا يصح منه. فعرفنا أنه ذو حظ على أن
يكون معينا لمن تناوله الأمان منهم، باعتبار أن التعيين في المجهول كالايجاب (3)
المبتدأ من وجه.
588 - ولو كان قال: آمنوا لي (4) عشرة من أهل الحصن. فله

(1) ل " داخل ".
(2) ل " أما منهم ".
(3) ه‍ " لايجاب ".
(4) ب " أمنوني على عشرة " ه‍ " أمنوني إلى عشرة ".
421

عشرة يختار أي عشرة شاء. فإن اختار عشرة هو أحدهم فذلك جائز.
وإن اختار عشرة سواه فالعشرة آمنون وهو فئ.
لأنه ما استأمن لنفسه عينا، وإنما استأمن لعشرة منكرة، ولكن بقوله لي
شرط لنفسه أن يكون ذا حظ، ولا يمكن أن يجعل ذا حظ على وجه مباشرة
الأمان لهم، فإن ذلك لا يصح منه، فعرفنا أنه ذو حظ، على أن يكون هو
المعين للعشرة. ونفسه فيما وراء ذلك كنفس غيره إذا لم يتناوله الأمان نصا.
589 - فإن عين نفسه في جملة العشرة صار آمنا.
بمنزلة التسعة الذين عينهم مع نفسه.
590 - وإن عين عشرة سواه فقد تعين حكم الأمان فيهم وصار
هو فيئا.
كغيره من أهل الحصن.
وكان حقيقة كلامه: آمنوا لأجلي عشرة، وأوجبوا لي حق تعيين
عشرة تؤمنونهم. ولو قال ذلك كان الحكم فيه ما بينا.
قال: وبلغنا نحو ذلك عن الأشعث بن قيس أنه قال ذلك
يوم النجير (1).
وقد ذكر أهل الحديث نحو ذلك عن معاوية رضي الله عنه.
وكذلك لو كانت البداية من رأس الحصن بأن يقول: فأفتح لكم الحصن
على انى آمن على عشرة. أو قال: على أن لي عشرة آمنين من أهل الحصن،
فهذا وما تقدم سواء (2) في الفصلين جميعا.

(1) ه‍ " يوم خيبر " ل، ب " يوم التخيير "
(2) ل " لهذا وما تقدم سوا " ه‍ " فهذا وما تقدم سواء " ب " فهو على ما تقدم سواء "
422

591 - ولو قال: أفتح لكم على أن تؤمنوني في عشرة من أهل
الحصن، أو على أنى آمن في عشرة. فهو سواء (1)، وهو آمن
وتسعة معه.
لان حرف في للظرف. فقد جعل نفسه في جملة العشرة الذين التمس
الأمان لهم. فلا يتناول ذلك إلا تسعة معه، لأنه لو تناول عشرة سواه كان
هو آمنا في أحد عشرة، بخلاف الأول، فهناك ما جعل نفسه في جملة العشرة.
فان قيل: فقد جعل العشرة هنا ظرفا لنفسه والمظروف غير المظرف.
قلنا: هو كذلك فيما يتحقق فيه الظرف. ولا يتحقق ذلك في العدد
إلا بالطريق الذي قلنا. وهو أن يكون هو أحدهم ويجعل كأنه قال: اجعلوني
أحد العشرة الذين تؤمنونهم.
فان قيل: إذا لم يمكن حمله على معنى الظرف حقيقة فينبغي أن يجعل
بمعنى مع، كقوله تعالى (فادخلي في عبادي) (2) أو يجعل بمعنى على، كقوله
تعالى) (ولأصلبنكم في جذوع النخل) (3) وباعتبار الوجهين يثبت الأمان
لعشرة سواه.
قلنا: الكلمة للظرف حقيقة، فيجب حملها على ذلك بحسب الامكان.
وذلك أن يكون هو أحدهم داخلا في عددهم. فلهذا لا نحمله على المجاز.
ثم الخيار في التسعة الذين معه إلى الامام هاهنا، لا إلى رأس الحصن.
لأنه جعل نفسه أحد العشرة، فكما لا خيار له لمن سواه من العشرة
في التعيين لا خيار له. وهذا لأنه جعل نفسه ذا حظ من أمان العشرة على أن

(1) قوله " فهو سواء " ساقط من ه‍.
(2) سورة الفجر، 89، الآية 29.
(3) سورة طه، 20، الآية 71.
423

يتناوله حكم أمانهم، لا أن يكون هو معينا لهم. وقد نال ما سأل. وبقى
الامام موجبا الأمان لتسعة بغير أعيانهم فإليه بيانهم.
592 - ولو قال: آمنوني وعشرة، أو أفتح لكم على أنى آمن
أنا وعشرة. فالأمان له ولعشرة سواه.
لان حرف الواو للعطف. وإنما يعطف الشئ على غيره لا على نفسه.
ففي كلامه تنصيص على أن العشرة سواه ها هنا.
فإن لم يكن في الحصن إلا ذاك العدد (ص 141) أو أقل، فهم
آمنون كلهم.
لان الأمان بذكر العدد بمنزلة الأمان لهم بالإشارة إلى أعيانهم.
وإن كان أهل الحصن كثيرا فالخيار في تعيين العشرة
إلى الامام.
لان المتكلم ما جعل نفسه ذا حظ في أمان العشرة، وإنما عطف أمانهم
على أمان نفسه. فكان الامام هو الموجب للأمان لهم فإليه التعيين.
وإن رأى أن يجعل العشرة من النساء والولدان فله ذلك.
لانهم من أهل الحصن، إلا أن يكون المتكلم اشترط ذلك من الرجال.
593 - ولو قال: آمنوني بعشرة من أهل الحصن، كان هذا وقوله:
وعشرة سواء.
424

لان الباء للالصاق، فقد ألصق أمان العشرة بأمانه. وإنما يتحقق ذلك
إذا كانت العشرة سواه. ولكن هذا غلط زل به قلم الكاتب والصحيح
ما ذكر في بعض النسخ العتيقة (آمنوني فعشرة).
لان الفاء من حروف العطف وهو يقتضى الوصل والتعقيب، فيستقيم
عطفه على قوله أمنوني وعشرة. فأما الباء فتصحب الأعواض فيكون قوله:
أمنوني بعشرة بمعنى عشرة أعطيكم من أهل الحصن عوضا عن أماني. وهذا
لا معنى له في هذا الجنس من المسائل. فعرفنا أن الصحيح قوله: أمنوني فعشرة
594 - ولو قال: أمنوني ثم عشرة. كان هذا والأول سواء،
فالعشرة سواه.
لان كلمة ثم للتعقيب مع التراخي. وبهذا يتبين أيضا أن الصحيح في
الأول قوله فعشرة، لأنه بدأ بما هو للعطف مطلقا ثم بما هو للعطف على وجه
التعقيب بلا مهملة ثم لها هو للتعقيب مع التراخي.
595 - ولو قال: أمنوا لي (1) عشرة، فالخيار في تعيينهم إلى
الامام.
لان المتكلم لم يجعل نفسه ذا حظ، وإنما التمس الأمان بعشرة منكرة.
فكان الامام هو الذي ابتدأ فقال: عشرة منكم آمنوني على أن يفتحوا.
فالخيار في تعيينهم إلى الامام.
إن شاء جعل المتكلم أحدهم، وإن شاء لم يجعل.
596 - ولو قال: أمنوني مع عشرة، فالعشرة سواه.

(1) ه‍ " أمنوني عشرة ".
425

لان كلمة مع للضم والقران. وإنما يضم الشئ إلى غيره لا إلى نفسه.
فعرفنا أن العشرة سواه.
والخيار في تعيينهم إلى الامام.
لأنه هو الذي أبهم الايجاب والمتكلم ما جعل نفسه ذا حظ من أمان العشرة.
597 - ولو قال: أمنوني في عشرة من أهل حصني. فهذا وقوله
من أهل الحصن سواء. والأمان له ولتسعة يختارهم الامام.
فإن قيل: هو جعل نفسه معرفة بإضافة الحصن إلى نفسه والعشرة
منكرة فينبغي أن لا يدخل المعرفة في النكرة.
كما قال في " الجامع ": إن دخل داري هذه أحد فعبده حر فدخلها
هو لم يحنث
قلنا: هو معرفة هنا بإضافة الأمان إلى نفسه قبل إضافة الحصن إلى
نفسه بقوله آمنوني. وإنما الحاجة إلى معرفة حكم (في).
وقد بينا أنه للظرف. ولا يتحقق ذلك إلا بعد أن يكون هو في جملة
العشرة. والعمل بالحقيقة هاهنا ممكن لأنه من أهل الحصن كغيره.
598 - وكذلك لو قال: في عشرة من أهل بيتي، أو في عشرة
من بنى أبى، كان هو وتسعة سواه.
لأنه من جملة أهل بيته والمراد بيت النسب. وهو من جملة بنى أبيه.
فكان العمل بحقيقة الظرف هاهنا ممكنا، فلهذا كان الأمان بعشرة ممن سماهم
هو أحدهم، والبيان إلى الامام.
599 - ولو قال: في عشرة من إخواني، فهو آمن وعشرة سواه
من إخوانه.
426

لأنه صرح بما يمنع العمل بحقيقة الظرف هنا. والانسان لا يكون من
إخوانه، فوجب أن يجعل حرف " في " بمعنى مع، كما هو الأصل أنه متى
تعذر العمل بحقيقة الكلمة وله مجاز متعارف يحمل على ذلك المجاز لتصحيح
الكلام.
600 - وكذلك لو قال: في عشرة من ولدى.
لأنه لا يكون من ولد نفسه، فلا بد من أن يجعل العشرة سواه.
وعلى هذا لو قال: أمنوا عشرة من إخواني أنا فيهم، أو قال: عشرة
من أولادي أنا منهم فالأمان لعشرة سواه. (ص 142).
601 - ولو قال: عشرة من أهل بيتي أنا فيهم، أو عشرة من أهل
حصني أنا فيهم، فالأمان لعشرة وهو أحدهم.
لما بينا من الفرق.
602 - ولو قال: في عشرة من بنى، فهو على عشرة من بنيه
سواه يعينهم الامام.
لأنه لم يجعل نفسه ذا حظ من أمانهم.
603 - فإن كانوا ذكورا كلهم أو مختلطين فالامام يعين أي
عشرة شاء من ذكورهم أو إناثهم. فإن لم يكن فيهم ذكر فهم فئ كلهم،
سوى الرجل المستأمن.
لأنه إنما استأمن لبنيه. وقد بينا أن هذا الاسم لا يتناول الإناث المفردات.
427

فإن قيل: أليس انهم لو كانوا مختلطين فعين الامام عشرة من الإناث
كان له ذلك، وإذا لم يتناولهم اسم البنين فكيف يعينهم الامام؟
قلنا: لأنه ما آمن عشرة وهم بنوه، وإنما آمن عشرة هم من بنيه.
وعند الاختلاط البنات العشرة هم عشرة من بنيه. فلهذا كان له أن يعينهم.
فأما عند عدم الاختلاط فالإناث المفردات لسن من بنيه فكيف يتناولهن
الأمان؟
604 - ولو كانوا بنين وبنات، وبنى بنين وبنى بنات، فله أن
يختار عشرة، إن شاء من الولدان وإن شاء من ولد الولد.
وقد بينا أن هذا الاسم يتناول بنى البنين في الأمان كما يتناول البنين
استحسانا.
ذكر في الكتاب " بنى البنات " فمن أصحابنا من قال: هذا غلط من
الكاتب، والصحيح: بنات البنين. وقيل: بل هو صحيح، وهو إحدى
الروايتين اللتين ذكرنا فما سبق أنه يطلق اسم البنين على أولاد البنات كما يطلق
على أولاد البنين. والاخوة والأخوات في هذا بمنزلة البنين والبنات. إلا أنه
إذا قال: في عشرة من إخواني وله أخوات منفردات وبنى أخوة فهم فئ
كلهم لان اسم الاخوة لا يتناول الأخوات المنفردات ولا بنى الاخوة حقيقة
ولا مجازا، بخلاف بنى البنين. فالاسم هناك يتناولهم مجازا، فإذا اختلط ابن
الابن بالبنات المنفردات يتناولهم اسم البنين مجازا.
605 - ولو قال: آمنوني في عشرة من أصحابي. فالعشرة سواه.
لان أصحابه غيره، ولا وجه لأعمال حرف " في " هاهنا للظرف (1).
606 - وكذلك لو قال: في عشرة من رقيقي، أو في عشرة
من موالى.

(1) ب ". حرف " في " حقيقة الظرف هنا ".
428

607 - ولو نظر الامام إلى فارس منهم فقال: أنت آمن في
عشرة من فرسانكم. فهو آمن وتسعة سواه.
فان حرف " في " هاهنا للظرف. فإنه بصفة العشرة الذين آمنهم الامام،
فيمكن أن يجعل هو أحدهم.
608 - وإن قال: أنت آمن في عشرة من الرجالة. فالعشرة من
الرجالة سواه.
لأنه ليس بصفة العشرة، فإنه فارس، فعرفنا أن حرف " في " بمعنى
مع هنا.
وكذلك لو كان على عكس هذا.
قال: وإنما يؤخذ في هذا بما عليه كلام الناس.
يعنى الذي سبق إلى فهم كل أحد من هذه الألفاظ التي ذكرت.
609 - ولو قال: في عشر من بناتي، وله بنون، فالأمان
للبنات خاصة.
لان اسم البنات لا يتناول الذكور بحال.
610 - وكذلك لو كان له بنات بنين، فهو عليهن دون البنين.
لان اسم البنات لا يتناولهن مجازا.
وإن لم يكن له إلا بنات بنات، فليس يدخلن في الأمان.
429

وهذا بناء على أظهر الروايتين أن أولاد البنات ينسبون إلى آبائهم لا إلى
أبى أمهم. إلا أن يكون جرى مقدمة بأن يقول: لي بنات بنات، وقد ماتت
أمهاتهن، فأمنوني في بناتي. فحينئذ يعرف بتلك المقدمة أنه إنما استأمن لهن.
والرجوع إلى دلالة الحال لمعرفة المقصود بالكلام أصل صحيح في الشرع.
611 - ولو قال: آمنوني في موالى. وله موال (1) وموالي
موال (1)، كانوا آمنين استحسانا (2).
لان الاسم لمعتقه حقيقة، باعتبار أنه أحياهم بالاعتاق حكما. أو لمعتق
معتقه مجازا، باعتبار أنه حين جعل المعتقين أهلا لايجاب العتق لهم، فكأنه
سبب لاعتاقهم. وقد بينا أن الأمان مبنى على التوسع، وأن مجرد صورة
اللفظ يكفي لثبوت حقن الدم به احتياطا، وإنما لا يجمع بين الحقيقة والمجاز
في محل واحد، فأما في محلين فيجوز أن يجمع على وجه لا يكون (ص 143)
المجاز معارضا للحقيقة في إدخال الجنس على صاحب الحقيقة، وفى الأمان
لا يؤدى إلى هذه المعارضة بخلاف الوصية. وإنما هذا نظير قوله تعالى (حرمت
عليكم أمهاتكم) (3) حتى يتناول الام والجدات جميعا.
612 - ولو قال: آمنوني في موالى. وله موال أعتقوه وموال (4)
أعتقهم، فالأمان لا يتناول الفريقين بهذا اللفظ.
لان مقصوده من طلب الأمان للأعلى (5) مجازاته على ما أنعم عليه،
وللأسفل الترحم والزيادة في الانعام عليه. وهما معنيان متغايران. ولا عموم

(1) ل " موالى ".
(2) ل " استحبابا ".
(3) سورة النساء، 4، الآية 23.
(4) ل، ه‍ " موالى ".
(5) ل " الأعلى ".
430

للاسم المشترك، باعتبار أنه لا يتحقق اجتماع المعنيين المتغايرين في كلمة
واحدة. فلهذا كان الأمان لأحد الفريقين كالوصية، إلا أن (1) الوصية للمجهول
لا تصح، فكانت باطلة بهذا اللفظ. والأمان للمجهول صحيح.
فيكون ذلك على ما نواه الذي أمنهم، وهو مصدق في ذلك.
لأنه لا يعرف إلا من جهته.
فإن قال: ما نويت شيئا. فهم جميعا آمنون استحسانا (2).
لا باعتبار أن اللفظ المشترك عمهم فالمشترك لا عموم له، ولكن باعتبار
أن الأمان يتناول أحد الفريقين، ولا يعرفون بأعيانهم. وعند اختلاط
المستأمن بغير المستأمن يثبت الأمان لهم احتياطا كما بينا.
فان قيل: كان ينبغي أن يكون خيار التعيين إلى الامام، وإن لم ينو
شيئا في الابتداء، لأنه أوجب في المجهول، فإليه البيان.
قلنا: لا كذلك، فان المشترك غير المجمل. واللفظ الذي أوجب
الأمان هنا ليس بمجمل حتى يرجع في البيان إلى المجمل، وإنما هو مشترك.
باعتبار أنه يحتمل كل واحد من الفريقين على وجه الانفراد، كأنه ليس معه
غيره. وفى مثل هذا لا بيان للموجب، وإنما يطلب البيان بالتأمل في صفة
الكلام. فإذا تعذر الوقوف عليه كانوا جميعا آمنين، لاختلاط المستأمن بغير
المستأمن. وهذا لان بيان المشترك بما يكون مقارنا، فأما ما يكون طارئا فهو
نسخ، فلا جرم (3) إذا قال: نويت الأسفلين أو الأعلين، كان ذلك صحيحا.
لأنه بيان بما اقترن بالكلام. فأما إذا قال: اختار الآن، فهذا ليس ببيان،
إنما هو في معنى النسخ، وهو لا يملك ذلك.

(1) ه‍ " لان ".
(2) ل " استحبابا ".
(3) ب " حرمة ".
431

613 - وإن قال المتكلم: أنا نويت الأسفلين. وقال الامام:
أنا نويت الأعلين. فهو على ما عنى الامام.
لأنه هو الموجب بالصيغة المشتركة (1).
ألا ترى أنه لو قال: آمني على قريبي عباس بن عمر. فقال: آمنتك.
وله قريبان كل واحد منهما بهذا الاسم. فقال الامام: عنيت هذا. وقال
المستأمن: عنيت الآخر. كان ذلك على ما عنى الامام.
وإن قال الأمير: لم أعن واحدا منهما بعينه. وقال المستأمن: كذلك.
فهما آمنان. لاختلاط من صار آمنا بغيره على وجه لا يمكن تمييزه.
وإن قال المستأمن: عنيت هذا. وقال الأمير: لم أعن واحدا بعينه،
إنما أجبته إلى ما طلب. فالأمان الذي عناه المستأمن.
لان الامام بنى الايجاب على كلامه، وأحدهما في ذلك عين بإرادة
المستأمن إياه. فيجعل ذلك كالمعين في جواب الامام (2) أيضا.
614 - ولو قال: آمني على عشرة من موالى الأسفلين. فالخيار
في تعيينهم إلى المستأمن هنا، كما في قوله على عشرة من أهل حصني.
لأنه جعل نفسه ذا حظ من أمانهم، بذكر كلمة الشرط بعد أمان نفسه.
615 - وكذلك لو قال: على ابن عمى. فله أن يختار أيهما شاء
إذا كان له ابنا عم.
ولو قال: على ابن عمى زيد بن عمرو. فإذا كان له ابنا عم كل واحد

(1) ل، ب " المشترك ".
(2) ص " الأمان ".
432

منهما بهذا الاسم، وأجمع المستأمن والذي آمن لم يعينا واحدا
منهما، فهما آمنان.
لان التعريف بالاسم والنسب كالتعريف بالإشارة. وإنما وقع الأمان
بهذا اللفظ على أحدهما بعينه، ولكنا لا نعرفه (ص 144)، فاختلط المستأمن
بغير المستأمن. وفى الأول إنما أوجب الأمان في منكر مجهول. فكان له أن
يعين أيهما شاء. ألا ترى أنه لو أعتق عبدا بعينه من عبيده، ثم اختلط بغيره
على وجه لا يمكن تمييزه لم يكن له خيار التعيين. بخلاف ما لو أعتق أحد
عبديه (1) بغير عينه.
616 - ولو قال: آمنوني في عشرة أنفس من بنى. فقد يقدم
بيان هذا. إلا أن هنا ليس للامام أن يعين عشرة من بناته ليس
فيهن ذكر.
لأنه أوجب الأمان لعشرة هم بنوه. وهذا لا يتناول الإناث المفردات،
بخلاف الأول. فهناك أوجب الأمان لعشرة هم من بنيه، والإناث المفردات
من بنيه إذا كان له معهن ذكر.
617 - ولو قال: آمنوني على موالى. وليس له إلا مواليات
إناث لا ذكر فيهن. فهن آمنات معه استحسانا.
وفى القياس هذا وما تقدم من الاخوة والبنين سواء في أنه لا يتناول
الإناث المفردات ولكنه استحسن فقال:
618 - وأهل اللغة يستجيزون إطلاق اسم الموالى على الإناث

(1) ه‍ " عبيده ".
433

المفردات، ويعدون قول القائل مواليات من باب التكلف، بل يقولون
للمعتقات: هن موالي بنى فلان، كما يقولون للمتقين، وللعرف عبرة
في معرفة المراد بالاسم.
فلهذا تناول هذا اللفظ الإناث المفردات في الأمان والوصية بخلاف
اسم الاخوة والبنين. والله أعلم بالصواب (1).

(1) ه‍ " والله تعالى الموفق ".
434

53 باب الأمان على غيره
ما يدخل هو فيه وما لا يدخل
وما يكون فداء وما لا يكون
619 - قال: رجل من المحصورين قال للمسلمين: أفتح لكم
الحصن على أن تؤمنوني على فلان رأس الحصن. فقالوا: نعم. ففتح
الحصن. فهو والرأس آمنان.
لأنه صرح باشتراط الأمان لنفسه وللرأس على فتح الحصن. فإنه
أضاف الأمان إلى نفسه بالكناية، وإلى الرأس بالتصريح باسمه ووصل كلمة
على الذي هو للشرط به (1).
620 - وكذلك لو قال: أنا آمن على فلان رأس الحصن إن فتحت
الباب. فقالوا: نعم.
وهذا (2) لان نعم غير مفهوم المعنى بنفسه، فإذا ذكر في موضع
الجواب يصير الخطاب معادا فيه. فكأن المسلمين قالوا له: أمناك (3) على
فلان رأس الحصن على أن تفتح الباب. وفى هذا إيجاب الأمان لهما، بمنزلة

(1) ب " الذي هو للشرطية ".
(2) ق " فهذا ".
(3) من هنا إلى قوله أمناك على أهلك.. ساقط في ل.
435

ما لو قالوا: أمناك على أهلك وولدك، أو على أهلك ومالك، على أن تفتح
الحصن. ولو كان قال: اعقدوا لي الأمان على فلان فهما آمنان أيضا.
621 - وكذلك لو قال: اجعلوا لي الأمان على فلان.
لأنه صرح باشتراط الأمان لنفسه ولفلان. وهذا بخلاف ما قال في
الباب الأول آمنوا لي عشرة. فإنه لا يتناوله الأمان، لان تقدير كلامه هناك
آمنوا لأجلي، فلا يصير مضيفا الأمان إلى نفسه، بل يصير ملتمسا الأمان لعشرة
منكرة، متشفعا (1) في ذلك. وكم من شفيع لاحظ له فيما يشفع فيه.
ولا يتحقق هذا المعنى هنا، فان قوله: اعقدوا لي الأمان تصريح بإضافة
الأمان إلى نفسه. ولأنه قال على فلان. ولو حملنا قوله على معنى الشفاعة
لم يبق لقوله: (على) فائدة، بل يصير كلامه اعقدوا أو اجعلوا (2) لأجلي
وبشفاعتي الأمان لفلان. وكلمة على للشرط، فلا بد من إعمالها إذا صرح
بها. وذلك في أن يلتمس الأمان لنفسه ويشترط أمان فلان معه. وفى تلك
المسألة لم يذكر كلمة على، إنما قال: آمنوا لي عشرة.
622 - ولو قال: عاقدوني على أن (3) الأمان على رأس الحصن،
فالرأس آمن والمتكلم فئ.
لأنه أضاف العقد إلى نفسه دون الأمان. وكم من مباشر للعقد لاحظ له
من المقصود بالعقد، خصوصا في هذا العقد الذي لا تتعلق الحقوق فيه
بالعائد. ولابد من الإضافة (4) (ص 145) إلى من يقع العقد له.
ألا ترى أن المسلمين لو قالوا: عاقدناك الأمان (5) على الرأس إن

(1) ب " مستشفعا ".
(2) ه‍. ق " واجعلوا ".
(3) " أن " ساقطة من ق، ل.
(4) ل " إضافة ".
(5) ساقط من ل.
436

فتحت. فكان الأمان على الرأس دونه. لان المعاقدة على ميزان المفاعلة،
فيه (1) يصير العقد مضافا إليه دون ما يتناوله العقد وهو الأمان.
623 - ثم إنما يأمن الرأس وحده، ولا يدخل في الأمان عياله
ورقيقه في هذين الفصلين.
لان الأمان له بعد الفتح وتمام القهر. وفى مثله لا يدخل إلا ما عليه
من اللباس.
624 - ولو قال (2): عاقدوني (3) الأمان، أو اكتبوا إلى الأمان
على فلان. فقالوا: نعم. فالأمان لفلان دونه.
لأنه التمس أن يكتبوا إليه أمان فلان. والمكتوب إليه قد لا يكون ذا حظ
من المكتوب. فهذا وقوله: عاقدوا لي سواء.
ووقع في بعض النسخ: (اكتبوا لي الأمان على فلان). وهو غلط.
فان قوله: اكتبوا لي الأمان كقوله: اجعلوا لي الأمان. لان فيه تصريحا
بإضافة الأمان المكتوب إلى نفسه، فعرفنا أن الصحيح: اكتبوا إلى.
625 - ولو قال: اعقدوا لي الأمان، أو (4) عاقدوني على الأمان
على عيالي، أو قال: على ولدى، أو على مالي، أو على قرابتي. فهو آمن،
وجميع من اشترط عقد الأمان عليه.

(1) ه‍، ل " فيه ".
(2) " قال " ساقطة من ل.
(3) ه‍، ب " عاقدوا لي ".
(4) ه‍ " أو قال عاقدوني ".
437

أما في قوله: اعقدوا لي، فهو غير مشكل. وأما في قوله: عاقدوني
فهو لا يدخل في الأمان في القياس، كما في الفصل الأول. لأنه أضاف العقد
إلى نفسه دون الأمان، ولكنه استحسن هنا لوجهين:
أحدهما: أن في كلامه دلالة اشتراط الأمان لنفسه، لأنه شرط الأمان
لولده ولعياله. والمقصود به إبقاؤهم. وإنما بقاؤهم ببقائه على وجه يعولهم
بعد هذا، كما كان يعولهم من قبل. ولا يتحقق هذا إلا إذا تناوله الأمان،
فإنه إذا قتل أو استرق لا يعولهم بعد ذلك.
وهذا في قوله: على مالي، أظهر. لأنه لا غرض له في طلب الأمان
لما له سوى أن يبقى على ملكه، فيصرفه إلى حوائجه، ولا يكون ذلك إلا بعد
أن يثبت الأمان له. ولأنه ليس بسفير في هذا العقد. فالعاقد على مال نفسه
يكون عاملا لنفسه، ولا يكون سفيرا عن غيره.
وكذلك في حق العيال والولد، لان قصده إلى استنقاذهم لحاجته إلى
ذلك حتى يقوموا بمصالحه (1)، أو لاظهار الشفقة عليهم، وذلك في حق
نفسه أظهر. فعرفنا أنه طلب الأمان لنفسه دلالة بخلاف ما سبق.
626 - ولو قال: عاقدوني على الأمان على عيال فلان أو على ولد
فلان. فهو لا يدخل في الأمان.
لأنه ليس في كلامه دليل على طلب الأمان لنفسه، فان بقاء عيال فلان
غير متعلق ببقائه، وبقاؤه غير متعلق أيضا بقيامهم بمصالحه. فكان هذا وقوله
على رأس الحصن، سواء.
ولم يذكر أن فلانا المنسوب إليه العيال والولد هل يدخل في هذا الأمان
أم لا؟ وعلى أحد الطريقين الاستحسان ينبغي أن يدخل، لان بقاء عيال فلان
على ما كانوا عليه يتعلق بأمان فلان. وعلى الطريق الآخر لا يدخل، لان

(1) ب " لمصالحه ".
438

المتكلم أظهر الشفقة والترحم على ولد فلان وعياله، وذلك لا يكون دليلا
على شفقته على فلان.
ثم أوضح هذا بما:
627 - لو قال الرأس: عاقدوني الأمان على أهل مملكتي، أو على
بيتي، فإنه بهذا اللفظ يعلم كل واحد أن مراده إبقاء نفسه على ما كان
عليه متصرفا في مملكته، وذلك لا يكون إلا بعد ثبوت الأمان.
628 - ولو قال: اعقدوا لي الأمان على أهل حصني على أن أفتحه
لكم. فهو آمن وأهل الحصن من بني آدم. فأما الأموال والسلاح
والمتاع والكراع فهو فئ.
لان ثبوت الأمان بعد فتح الباب. وفى مثله لا تدخل الأموال تبعا.
ألا ترى أنهم شرطوا له ذلك جزاء على فتح الباب؟
629 - ولو تناول الأمان جميع ما في (1) الحصن من الأموال
والنفوس لم يبق للمسلمين فائدة في فتح الباب. (ص 146)
فبهذا يتبين أنهم قصدوا ذلك ليتوصلوا إلى استغنام الأموال، ولان
في اشتراط فتح الباب دليل على أن الذين تناولهم الأمان غير مقرين على السكنى
في الحصن، وإنما تدخل الأموال في الأمان لان التمكن من المقام بها يكون،
فإذا انعدم ذلك المعنى هنا لا يدخل المال.

(1) قوله " ما في " ساقط من ه‍.
439

630 - ولو قال: اعقدوا لي الأمان على أهل حصني على أن
أدلكم على الطريق إلى موضع كذا. ففعلوا، وفتح الحصن. فجميع
من في الحصن، وجميع ما فيه داخل في الأمان هنا.
لان شرط الأمان هنا جزاء على الدلالة لا على فتح الباب، ففي كلامه
بيان أنه يدلهم ليتمكن القرار في حصنه مع أهل الحصن على ما كانوا من قبل.
وفى مثل هذا الأمان تدخل الأموال.
631 - وكذلك لو قال: اعقدوا لي الأمان على أهل حصني على
أن تدخلوه فتصلوا فيه. فليس لهم قليل ولا كثير من النفوس ولا
من الأموال.
لان في كلامه تصريح بما هو فائدة فتح الباب، وهو الصلاة فيه دون
إزعاج أهله منه. وقد يرغب المسلمون في ذلك ليفشوا الخبر بأن المسلمين
صلوا بالجماعة في حصن كذا، فيقع به الرعب في قلوب المشركين،
أو ليعبد (1) الله في مكان لم يعبده في ذلك المكان أهله. ومكان العبادة شاهد
للمؤمن يوم القيامة كما ورد به الأثر.
632 - ولو قال: آمنوني على أهل الحصن على أن تدخلوه،
ولم يذكر غير ذلك. فهذا الأمان على الناس خاصة.
لان فائدة دخول الحصن الاستغنام، هو الظاهر وما سواه محتمل (2).
ولكن المحتمل لا يقابل الظاهر. فإذا انعدم التصريح بالوجه المحتمل كان الكلام
محمولا على الظاهر. إليه أشار بقوله.

(1) ه‍ " ليعبدوا ".
(2) ب " يحتمل ".
440

وبعض هذا قريب من بعض. ولكن هذا على ما يقع عليه
معاني الكلام.
633 - ولو قال: أفتح الحصن على أن تؤمنوني في أهل حصني،
أو مع أهل حصني، أو وأهل حصني، لم تدخل الأموال في شئ
من هذا.
لان اشتراط الأمان لهم جزاء على فتح الباب مطلقا.
634 - ولو قال: أفتح الحصن على أن تؤمنوني على ألف درهم.
فهو آمن. وماله كله فئ. إنما له ألف درهم يعطيه الامام من أي
موضع شاء.
لأنه شرط ألف درهم مطلقا مع أمان نفسه، جزاء على الفتح. وفى مثل
هذا الأمان لا يدخل ماله، ولكن يدخل ما شرط من الألف عوضا على
فتح الباب.
فإذا فتح أعطى ما شرط له من العوض.
635 - وكذلك لو قال: أفتح الحصن وتؤمنوني على ألف درهم.
فان الواو هنا بمعنى الحال، يعنى في حال ما تؤمنوني على ألف درهم.
فيكون شرطا. كقوله لا مرأته: أنت طالق وأنت مريضة.
636 - فإن قال: أفتح الحصن فتؤمنوني على ألف درهم من مالي،
أو على أن تؤمنوني. فإنما له ألف درهم من ماله والباقي كله فئ.
441

وإن لم يف ماله بألف درهم لم يكن زيادة على ماله.
لأنا علمنا أنه لم يجعل الألف لنفسه عوضا، فإنه أضاف الألف إلى
نفسه بقوله: من مالي. وماله لا يسلم له عوضا عن فتح الباب، بل يسلم له
بأن أعطى الأمان في ماله كما في نفسه. وبطريق الأمان لا يسلم له زيادة على
ماله، بخلاف الأول. فقد أطلق تسمية الألف بمقابلة (1) منفعة شرطها على نفسه
للمؤمنين، فيكون ذلك عوضا، بمنزلة الأجير يقول: أعمل لك هذا العمل
على درهم، ولو قال: أعمل لك هذا العمل على درهم من مالي لم يكن ذلك
إجارة. وإن لم يكن ماله دراهم ولكنه كان عروضا أعطى من ذلك ما يساوى
ألفا، لأنه قال: من مالي. فإنما جعل المشروط فيه الأمان جزء من ماله،
وبصفة المالية الأموال (2) جنس واحد، بخلاف ما إذا قال (ص 147)
على ألف درهم من دراهمي. لان المشروط فيه الأمان هناك جزء من دراهمه،
فإذا لم يكن له دراهم لم يصادف هذا الأمان محله، فكان لغوا. ونظيره الوصية
إذا قال: أوصيت لفلان بألف درهم من مالي. أعطى ألف درهم من ماله،
وإن لم يكن له دراهم. وإن قال: من دراهمي لم يعط شيئا.
ثم ذكر سؤالا فقال:
637 - إذا قال على ألف من مالي لماذا لا يجعل شرطا للألف على
نفسه للمسلمين عوضا عن الأمان، فيصير (3) كأنه شرط لهم فتح الحصن
وألف درهم عن نفسه عوضا عن أمانه.
قلنا: لان في هذا إلغاء هذا الشرط. فإنه لو فتح الباب ولم يذكر
هذه الزيادة كان ماله كله فيئا.
فعرفنا أنه ليس مراده - وتؤمنوني على ألف من مالي - أن تكون
الألف للمسلمين من ماله، وإنما مراده أن يكون الألف سالما له من ماله

(1) ق " في مقابلة ".
(2) ب " المال ".
(3) ه‍ " فتصير ".
442

بطريق الأمان، وما سواه فئ للمسلمين. ألا ترى أنه لو قال: افتح الحصن
على أن تؤمنوني على دقيقي أو على مالي أو على سلاحي كان ذلك محمولا على
طلب الأمان لهذه الأشياء مع نفسه. فكذلك قوله على ألف من مالي؟
638 - ولو قال: على عشرة أرؤس من الرقيق أو على عشرة
أفراس، كان ذلك عوضا، بمنزلة قوله: على ألف درهم مطلقا.
لان الرقيق يصلح عوضا عما ليس بمال كالدراهم، وفتح الباب بهذه
الصفة، فللمسلمين أن يعطوه الا رؤس من أي موضع أحبوا.
بخلاف ما إذا قال: رقيقي أو كراعي.
639 - ولو (1) لم يشترط فتح الحصن. ولكن قال: آمنوني حتى
أنزل إليكم على ألف درهم، أو قال: على ألف درهم من مالي، فأمنوه.
فعليه ألف درهم في الوجهين جميعا.
لأنه ما شرط في مقابلة ما التمس من الأمان منفعة للمسلمين. فعرفنا
أن مراده بذكر الألف أن يكون عوضا للمسلمين على أمانه سواء أطلق
أو قال: من ما؟؟. وهذا لان بنزوله يتوصل المسلمون إلى ماله الذي في
الحصن، ليكون ذلك دلالة التماس الأمان في هذا القدر من ماله. وإذا حملنا
على اشتراط العوض كان مفيدا للمسلمين بخلاف ما سبق.
640 - وكذلك لو قال: على عشرة أرؤس من الرقيق، أو من
رقيقي، فهذا عوض. وقد فدى به نفسه، فعليه أن يدفع ذلك إلى المسلمين.

(1) ه‍ " ولم يشترط ".
443

641 - ولو قال: على أهلي، أو ولدى، أو مالي، فهو آمن،
وجميع ما نزل به من ذلك، ولا شئ عليه.
لان أهله وولده ليس بمال، ولم تجر العادة بأن يجعلهم المرء فداء لنفسه،
بل يجعل نفسه وقاية دونهم. فعرفنا أن مراده التماس الأمان لهم مع نفسه.
وكذلك إذا ذكر المال مطلقا، لان ذلك مجهول الجنس والصفة والقدر،
فلا يصلح أن يكون فداء، ولأنه لا يفدى نفسه بجميع ماله عادة، إذا (1) يهلك جوعا.
642 - ولو قال: آمنوني على رقيقي على أن أنزل، فهو آمن
ورقيقه. ولو قال: على نصف رقيقي، كان هذا فداء.
وباعتبار حقيقة المعنى لا يتضح الفرق بينهما، ولكن باعتبار عرف
الناس. فان الانسان يفدى نفسه ببعض ما يأتي به معه ليتعيش آمنا بما بقى،
ولا يفدى بجميع ما ينزل به.
فإذا ذكر نصف المال أو نصف جنس من المال فالغالب أن مراده
الفداء. وإذا ذكر جميع المال أو جميع جنس من المال كالرقيق، فالغالب أن
مراده طلب الأمان لذلك الجنس مع نفسه.
فإذا ذكر ما ليس بمال كالزوجة والولد فالغالب أن مراده الاستئمان لهم
لا الفداء، سواء ذكر عددا منهم أو ذكر جماعتهم (ص 148)، وهو بمنزلة
ما لو ذكر إنسانا آخر بقوله: آمنوني على فلان. فإنه يكون ذلك طلب الأمان
لفلان لا جعله فداء لنفسه.
643 - فإن قال: آمنوني على عشرة من رقيقي حتى أنزل، فهذا فداء.

(1) ه‍ " إذ ".
444

فإن نزل معه بماله وزوجته فهم فئ أجمعون.
لما بينا أن في أمان النازل لا يدخل سوى ما عليه من اللباس. ألا ترى
أن في الأمان بغير فداء لا يدخل المال والعيال؟ فكذلك في الأمان بالفداء.
644 - ولكنه إن نزل معه بمثل ما اشترط في فدائه فقال:
جئت به للفداء الذي شرطتم على، فالقياس أن يكون ذلك فيئا، فيكون
عليه فداء آخر.
لان الأمان له بعد النزول، وذلك لا يتناول ما معه من المال، فصار
المال فيئا للمسلمين. وهو لا يتمكن من أداء ما التزمه من الفداء بفئ للمسلمين
ولكنه استحسن فقال:
يحسب (1) له هذا من الفداء.
لأنه يتمكن من أداء ما التزمه بماله، وهو ينزل إلينا ولا مال له عندنا.
وإذا لم ينزل بهذا القدر مع نفسه لا يتمكن من الفداء. فكان اشتراط الفداء عليه تسليطا له على أن يأتي به، كما أن اشتراط بدل الكتابة على المكاتب يكون
تسليطا له على الاكتساب وتمليكا لليد والكسب منه.
645 - فإن كان المشروط عليه عشرة أرؤس فجاء بأحد عشرة،
كان لنا أن نأخذ الكل: عشرة بالفداء والباقي لأنه فئ.
لان الاستحسان في مقدار حاجته إلى الفداء، وفيما زاد عليه يؤخذ
بالقياس.

(1) ه‍ " يجب ".
445

646 - وكذلك لو جاء بعشرين رأسا فقال: جئت بها
لتبيعوها (1)، فإنه يؤخذ الكل منه.
باعتبار القياس كما ذكرنا.
647 - وإن جاء بصنف غير الرقيق فقال: أردت أن أبيعه
وأعطيكم القيمة، فإنه يقبل ذلك منه مع يمينه استحسانا.
لان الرقيق في معاوضة ما ليس بمال مطلقا يثبت مترددا بين العين وبين
القيمة، وبأيهما جاء قبل منه. فكانت المجانسة بين الفداء وبين ما جاء به
ثابتة، باعتبار المالية، فلهذا يصدق في ذلك.
648 - وهذا إذا قال: على عشرة أرؤس من الرقيق. وأما إذا
قال: من رقيقي، ثم جاء بالدراهم، فذلك فئ، وهو مطالب بما التزمه
من الفداء.
لأنه بإضافة الرقيق إلى نفسه يصير معينا لهم. فكأنه عينهم بالإشارة،
وفى مثل هذا لا يؤخذ منه القيمة مكان العين.
649 - فإن قال: لم يدعنى أهل الحصن أنزل إليكم بذلك فجئت
بالقيمة. لم يصدق على ذلك.
لان ما جاء به من الدراهم صار (2) غنيمة للمسلمين، فلا يصدق على
أن يجعل ذلك محسوبا عليهم بالفداء. وذلك لأنه كان متمكنا من أن يبين

(1) مكان هذه الكلمة بياض في ه‍.
(2) ه‍ " صارت ".
446

للمسلمين قبل نزوله أنهم يمنعونه من النزول بالرقيق حتى يأذنوا له في النزول
بالقيمة. فإذا لم يفعل كان التقصير منه، وإن فعل ذلك فأذنوا له في النزول
بالقيمة كان ما يأتي به من الدراهم فداء ولا يكون فيئا.
650 - ولو أن صاحب القلعة قال: آمنوني على قلعتي، أو على
مدينتي على أن أفتحها لكم. فإن جرى كلام يدل على أن المراد عين
القلعة والمدينة بأن قال: إني أخاف إن فتحت لكم أن تهدموا قلعتي
أو تخربوا مدينتي، فقالوا له: أنت آمن على قلعتك ومدينتك. فهذا
عليهما خاصة دون ما فيهما من الأموال والنفوس.
لان مطلق الكلام يتقيد بما سبق من دلالة الحال. وإنما جعلوا له الأمان
جزاء على فتح الباب. ومقصودنا من ذلك الاستغنام، فعرفنا أن الأمان
يختص بما سمى له، إلا أنه يأمن بماله وولده وعياله، لأنه استأمن على قلعته
ليتمكن من القرار فيها، وتمكنه بهذه الأشياء. ففي هذا الحكم يشبه حاله حال
المستأمن إلى دارنا للتجارة.
فأما إذا لم يسبق كلام يكون دليلا على (ص 149) تخصيص ففي
القياس الجواب كذلك أيضا. لما بينا أن المقصود من فتح الباب هو الاستغنام والاسترقاق. ثم ليس
في لفظة القلعة والمدينة ما ينبئ عن أهلها أو عما فيها، ولعله إنما استأمن لهذه
الصفة لخوفه على القلعة أن تقلع وعلى المدينة أن تحرق أو تخرب. وقد كان
ذلك مسقط رأسه ومسكن آبائه، فقصد بالأمان إبقاؤها دون إبقاء من فيها.
وفى الاستحسان هذا أمان على القلعة والمدينة وعلى جميع ما فيها، لدلالة العرف.
447

فإنه إذا قيل هذه مدينة عامرة أو قلعة حصينة يفهم منه عمارتها بكثرة
أهلها لا بجدرانها. أرأيت لو قال: آمنوني على مملكتي على أن أفتح لكم القلعة
أليس يفهم من هذا اللفظ جميع ما في مملكته من النفوس والأموال؟ ولان
مقصوده أن تبقى له المدينة والقلعة على ما كانت من قبل، ويكون هو المتصرف
في أهلها كما كان. وإنما يحصل هذا المقصود إذا دخلوا في الأمان.
651 - ولو أشرف رجل من أهل الحصن فقال: أفتح لكم على
أن تؤمنوني من مالي على ألف درهم. فله ألف درهم من ماله بطريق
الأمان لا بطريق العوض. كما في قوله: على أن تؤمنوني على ألف
درهم من مالي.
إذ التقديم (1) والتأخير في هذا لا يوجب اختلاف المعنى.
وكذلك لو قال: على ألف درهم.
فلا فرق بين أن يقدم ذكر الألف على أمان نفسه أو يؤخره في أن يكون
عوضا شرطه عليهم بفتح الباب.
652 - ولو قال: أفتح لكم على أن تؤمنوني بألف درهم، كان آمنا
وحده. وكان عليه ألف درهم يكتسبها فيؤديها.
لان جميع ماله يصير فيئا بفتح الباب لو لم يقل بألف درهم فكذلك إذا
قال: بألف درهم.
وهذا لان حرف الباء يصحب الأعواض. فإذا وصل الألف بأمان
نفسه بحرف الباء كان ذلك تنصيصا على أن الألف عوض عن الأمان،

(1) ق " أو " وفى الهامش " إذ التقديم في هذا والتأخير. نسخة ".
448

والأمان حاصل له. فكان الألف عليه بمنزلة من يقول لغيره: وهبت هذه (1)
العين منك على أن تبيعني جاريتك هذه بمئة دينار كانت المئة عوضا عن الجارية.
653 - وكذلك لو قال: أفتح لكم وتؤمنوني بألف درهم.
654 - ولو قال: أفتح لكم على أن تؤمنوني من مالي بألف
درهم. فالألف عوض عن أمانه أيضا، إلا أنه يؤخذ منه من ماله
مقدار الألف وجد، مكان ما عليه عوضا من الأمان بخلاف الأول.
لان هاهنا عين لما (2) التزم من العوض محلا مخصوصا وهو ماله الذي
في يده، وعلى ذلك أعطيناه الأمان. ولا بد من أن يأخذ ذلك القدر منه
بطريق الفداء لا بطريق الاستغنام. وفى الأول التزم العوض في ذمته من غير
أن عين له محلا، فيبقى ماله فيئا كما هو موجب فتح الباب على وجه إتمام القهر.
وإن لم يجدوا له مالا هنا فعليه ألف درهم يؤديها إلى المسلمين.
لان الأمان قد سلم له فيلزمه العوض بمقابلته. ولكنه كان يعطى ذلك
العوض من المال الموجود في يده إن كان، فإذا لم يكن فقد عرفنا أن مراده
من المال الذي يكسبه.
655 - ولو لم يذكر فتح الباب ولكن قال: آمنوني حتى أنزل
إليكم بألف درهم من مالي، أو من مالي بألف درهم. فهذا فداء.
لان حرف الباء يصحب الأعواض. فإنما التمس أمانا بعوض. وقد
نال ذلك حين نزل فعليه إذا الألف.

(1) ق " هذا ".
(2) ق " عما ".
449

وكذلك لو كان بحرف على هنا.
لأنه لم يشترط على نفسه للمسلمين منفعة حتى يكون ذكر الألف شرطا
شرطه (1) لنفسه على المسلمين، عوضا، فتكون الألف عوضا عن أمانه
في الوجهين.
656 - ولو قال: أفتح لكم على أن تؤمنوني على أهلي وألف
درهم. أو قال: بأهلي وألف درهم، فهو سواء. وله ألف درهم من ماله
مع أهله، وما سوى ذلك فئ.
لان الاهل ليس بمال، فلا يكون ذكره الألف على سبيل البدل عن أمانه،
سواء (ص 150) ذكره بحرف على أو بحرف الباء ولكنه على وجه الاستئمان لهم.
ثم الواو للعطف، وحكم العطف حكم المعطوف عليه. فإذا كان
المعطوف عليه استيمانا كان المعطوف كذلك.
657 - ولو بدأ بالمال فقال: أفتح لكم وتؤمنوني على ألف درهم
وعلى أهلي وولدي، كان آمنا على ألف يعطونها إياه، وعلى أهله وولده،
وما سوى ذلك فئ.
لأنه شرط ذلك كله لنفسه جزاء على فتح الباب، فما يصلح عوضا
وهو الألف يعطو له إياه. وأهله وولده كنفسه في أنه شرط أمانهم جزاء
على الفتح.
658 - ولو قال: أفتح لكم على أن تؤمنوني بألف درهم وبأهلي
وولدي. فعليه الألف وأهله وولده كلهم فئ.

(1) ه‍ " وشرطه ".
450

لان حرف الباء محكم (1) في الأعواض. فقد قرنه بالألف فكان عوضا
عن أمانه، وقرنه بالأهل والولد أيضا، وعطفهما على العوض أيضا، فكان
تنصيصا على أن كل ذلك عوضا عن أمانه.
659 - فإذا بدأ بالأهل فقال: على أن تؤمنوني بأهلي وألف
درهم، فالقياس هكذا يقتضى. ولكن الاستحسان: الاهل ليس بمال
ليصلح أن يكون عوضا.
فاستدللنا بذلك على أن المراد الاستئمان للأهل جزاء على الفتح، وقد
عطف الألف عليه، فيكون ذلك استثناء الألف من ماله من جملة ما يكون
فيئا. ألا ترى أنه لو قال: أفتح لكم على أن تؤمنوني بجميع قرابتي وبأهلي
وولدي وبألف درهم، فالذي يسبق إلى وهم كل أحد أن هذا كله استثناء لا فداء.
660 - ولو قال: أنزل إليكم على أن تؤمنوني على أهلي وألف
درهم، أو بأهلي وألف درهم. فهو سواء. وله أهله وألف درهم من ماله
الذي نزل به. وما سوى ذلك فئ كما هو الحكم في أمان النازل.
لأنه عطف الألف على الاهل ومراده في حق الاهل الاستئمان دون
الفداء، فكذلك فيما عطف عليه.
661 - ولو قال: بألف درهم وأهلي. فهذا فداء. وعليه أن
يعطيهم ألف درهم وأهله.
لان الألف عوض حين قرن به حرف الباء ثم عطف الاهل عليه،
فكان ذلك تنصيصا على الفداء.

(1) ق " يحكم ".
451

قال: وبعض هذا أقرب من بعض. ولكن إنما يؤخذ بالغالب
من معاني كلام الناس في كل فصل، إلا أن يكون قبل ذلك مراوضة
تدل على فداء أو على أمان عليه، فيؤخذ بذلك.
لان الكلام يحتمل كل واحد من المعنيين. فإذا سبق ما يكون دليلا
على أحد المعنيين ترجح ذلك، وإذا لم يسبق حمل على أغلب الوجهين. كما هو
الحكم في المشترك إذا ترجح أحد المحتملين فيه بدليل في صيغته.
662 - ولو قال: أفتح لكم وأعطيكم مئة دينار على تؤمنوني على
عشرة آلاف (1) درهم من مالي. فعليه بعد فتح الباب أن يعطيهم مئة
دينار، وعليهم أن يسلموا له عشرة آلاف من ماله، كما استثناه لنفسه.
وهذا لا يكون فداء.
لأنه لو لم يذكر المئة الدينار كان ذلك استئمانا منه على عشرة آلاف
من ماله، فكذلك إذا ذكر المئة الدينار شرطا للمسلمين على نفسه مع فتح الباب.
663 - ولو قال: أفتح لكم وأعطيكم مئة دينار، على أن تؤمنوني
بألف درهم. فعليه مئة دينار وألف درهم.
لأنه صرح بكون الألف عوضا عن أمانه حين وصل حرف الباء بذكره، وصرح بكون الدنانير عوضا عن أمانه حين شرط على نفسه أن
يعطيها للمسلمين، إلا أن يقول بألف درهم آخذها، أو تعطونها، فحينئذ يكون
ذلك تنصيصا على اشتراط الألف على المسلمين لنفسه عوضا. وهذا تفسير
ما قال إن هذا الكلام يحتمل معنيين. يعنى بقوله ألف درهم. أي بألف درهم
التزمها، أو بألف أخذها منكم. فإذا جاء دليل أخذ به، وإذا لم يأت دليل أخذ
بما هو الغالب من معاني الكلام. والله أعلم (ص 151).

(1) في هامش ق " بعشرة آلاف. نسخة ".
452

54 باب الحربي يستأمن إلى معسكر المسلمين
664 - فإذا استأمن الحربي إلى العسكر من غير حصن ولا قلعة
ولا مطمورة فقال: استأمن لأخرج إليكم، ثم أرجع إلى أهلي، فآتيكم
بالتجارات، فذهب ثم جاء بتجارة أو سلاح أو غير ذلك، وقال: هذا
مالي. فالقول قوله وهو آمن على ما جاء به.
لأنه استأمن في حال لم يصر مقهورا، فهو بمنزلة من استأمن ليخرج
إلى دار الاسلام. وقد بينا أن هناك يدخل ماله في أمانه تبعا. وإن لم يذكر،
فكذلك الذي استأمن إلى العسكر إذا لم يكن محصورا، وقوله في المال مقبول
باعتبار أن اليد له. فالظاهر شاهد له.
665 - وكذلك لو جاء بامرأة فقال: هذه امرأتي، أو ابنتي،
أو أختي، أو جاء بصبيان فقال: هؤلاء ولدى. فهو مصدق على ذلك.
وهم آمنون معه، بمنزلة من استأمن إلى دار الاسلام.
وقد ذكرنا هناك أنه يتبعه عياله في الأمان كما يتبعه ماله.
ومن كذبه منهم فيما قال فهو فئ.
لاقراره على نفسه بالرق حين كذبه في سبب التبعية في الأمان.
453

وإن صدقوه ثم رجع المستأمن فقال: لا قرابة بيني وبينهم،
وكذبوه فهم آمنون.
لانهم بالتصادق استفادوا الأمان في الابتداء، فلا يبطل ذلك بقول
المستأمن. لان إقراره عليهم بالرق أو بما يبطل أمانهم مردود. وان اتهم
الأمير أحدا منهم حلفه، فان نكل أخذ مملوكا، ولكن لا يقتل بنكوله.
666 - ولو جاء معه رجال فقال: هؤلاء أولادي وإخواني.
فهم فئ أجمعون.
لما بينا أن المقاتلة لا يتبعونه في الأمان لو استأمن إلى دار الاسلام،
فكذلك إذا استأمن إلى العسكر (1) ولم يستأمن لهم نصا ولا استأمنوا لأنفسهم.
667 - ولو جاء بمتاع أو رقيق فقال: هذا مالي، أو بامرأة
فقال: هذه عيالي. فعلم أنه جاء بذلك من قرية أو مطمورة قريبة من
العسكر (1)، فإن كان لم يعلم (2) بها أهل العسكر فذلك كله سالم، سواء
كانت بحيث لو علموا بها كانوا قاهرين لأهلها أو لم يكونوا.
لان معنى القهر لا يتحقق إذا لم يعلموا بهم، والقريب كالبعيد في حق
من لا يعلم به. ألا ترى أن من تيمم والماء قريب منه وهو لا يعلم به صح
تيممه، بمنزلة ما لو كان الماء بعيدا؟
668 - وكذلك لو كان علم بهم، إلا أنهم لم يقاتلوهم ولم يتعرضوا
لهم وهم ممتنعون من المسلمين.

(1) ه‍ " المعسكر ".
(2) في هامش ق " لا يعلم. نسخة ".
454

لان أهل المنعة لا يصيرون مقهورين بمجرد العلم بهم ما لم يتعرض لهم
بالقتال. فإنما جاء بذلك من موضع لم يتناوله قهر المسلمين فيكون سالما له.
669 - وإن جاء به (1) من قرية قريبة من العسكر (2) ليست لهم
منعة وقد علم أهل العسكر بها وبما فيها، أولم يعلموا بما فيها إلا أنهم
لو دخلوها علموا ذلك، فليس له شئ مما جاء به.
لان العسكر دخلوا دار الحرب على قصد قهر المشركين، فإذا نزلوا
بساحة قوم غير ممتنعين منهم، وعلموا بحالهم، كانوا قاهرين لهم. ألا ترى
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قرب من خيبر قال: الله أكبر خربت
خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم (فساء صباح المنذرين) (3). وإذا ثبت القهر
بهذا الطريق عرفنا أنه إنما جاء بهذا مما كان في يد المسلمين وتحت قهرهم،
ولا يسلم له شئ منه، بمنزلة المحصور الذي يستأمن لينزل أو ليفتح الباب.
670 - وإن كان أخرجه من مطمورة في قرية قد عرف المسلمون
القرية ولكنهم لم يعلموا المطمورة، فجميع ذلك سالم.
لان ما في المطمورة لا يتناوله قهرهم إذا لم يعلموا بها، دخلوا القرية
أو لم يدخلوها، فإنهم عدموا آلة الوصول إليها.
671 - وإن جاء بذلك من (4) حصن قد قاتلهم المسلمون وهم
مقيمون عليه ليفتحوه (ص 152) فجميع ما جاء فيه فئ.

(1) ساقطة من ق.
(2) ه‍ " المعسكر ".
(3) سورة الصافات، 37، الآية 177.
(4) ه‍ " عن ".
455

لان قهر المسلمين يتناول ما في الحصن، بدليل أنه لو نزل رجل من
أهل الحصن مستأمنا لم يسلم شئ مما جاء به مع نفسه. فأي فرق بين أن يستأمن
وهو خارج، وبين أن يستأمن ليخرج في حق المال يخرجه من الحصن.
فكما أن هناك لا يسلم له شئ في المال والعيال بدون التصريح بالاستئمان
منه له، كذلك هذا (1). والله أعلم.

(1) ب " هاهنا ".
456

55 باب الحربي يستأمن إلينا ثم نجده في أيديهم
672 - وإذا استأمن الحربي إلى العسكر ليدلهم على عورات
المشركين ولقى المسلمون العدو ففقدوه. فلما هزموهم (1) وجدوه فيهم
وقال: أسروني من صف المسلمين، ولا يعرف كذبه من صدقه، فإنه
ينظر في حاله، فإن كانت هيأته (2) كهيأة (3) المأسور بأن كان مغلولا
أو مربوطا أو مضروبا لم يعرض له، وكان عندنا على أمانه الأول.
لأنه عند تعذر الوقوف على حقيقة الحال يصار إلى تحكيم الظاهر.
وإلى العلامة والزي.
فإذا تبين بذلك أنه كان مأسورا فيهم قلنا: أسرهم إياه لا يبطل
أمانه، كما لو أسروا ذميا لا يبطل ذلك عهده، ولكنه يستحلف على
ما يدعى من ذلك.
لان بما شاهدناه من دلالة الحال يصير الظاهر شاهدا له ولكن لا تنتفى
تهمة الكذب عن كلامه. فالقول قوله مع يمينه.

(1) ب " هزموا ".
(2) ل " حياته ".
(3) ه‍، ق " هيأة ".
457

673 - وإن لم يكن عليه شئ من علامات الأسر فهو فئ.
وللامام أن يقتله.
لان الظاهر أنه فارق عسكرنا باختياره، والتحق بمنعة أهل الحرب،
فانتهى به الأمان الذي بيننا وبينه، وحاله كحال غيره من أهل الحرب.
674 - وإن (1) أشكل أمره بأن دل بعض العلامات على أنه
أتاهم اختيارا وبعض العلامات على أنهم أسروه، فهو فئ. ولكن
لا ينبغي للامام أن يقتله.
لان عند تعارض العلامات يحكم الموضع الذي وجد فيه وإنما وجد
في منعة أهل الحرب، وفى موضع إباحة الاسترقاق. إلا أن تعارض العلامات
يمكن شبهة في أمره، فمنع القتل، إذ القتل مما يندرئ بالشبهات.
فان قيل: عند تعارض العلامات لماذا لا يتمسك بالأصل وهو الأمان
الذي كان ثابتا له منا؟.
قلنا: التمسك بالأصل المعلوم هو لانعدام الدليل المزيل له، لا لوجود
الدليل المبقي. وقد ظهر الدليل المزيل لأمانه، وهو كونه في منعة أهل الحرب.
فكان ينبغي على هذا القياس أن يكون فيئا على كل حال. إلا أنا تركنا هذا
القياس فيما إذا ظهر أنه كان أسيرا فيهم بدليل. فإذا انعدم ذلك أو جاء
ما عارضه وجب الاعتماد على ما هو معلوم في الحال، وهو أنه حربي وجد
في منعتهم.
675 - قال: ولو جالت خيل المسلمين جولة ثم إنهم عطفوا

(1) ب " ولو ".
458

فهزموهم، فوجدوه في أيديهم، فهذا والأول سواء. إذا علم أنه كان في
منعتهم قبل هزيمتهم.
وإن هزمهم المسلمون فوجدوه لا يدرون أكان معهم أو مع أهل
الحرب، إلا أنهم كانوا فقدوه. فلما وجدوه قال: لم أبرح (1)
عسكركم. فإن كان أهل العسكر قليلا وأحاط العلم بأنه لا يخفى مثله
إن كان في العسكر، فهو فئ.
لأنا تيقنا بأنه كاذب محتال، وأنا حين فقدناه قد التحق بمنعة أهل
الحرب، فانتهى حكم الأمان.
وإن كان العسكر عظيما قد يخفى مثله فيه ولا يدرى أصدق
أم كذب، فهو على أمانه.
لان الدليل المزيل للأصل المعلوم لم يظهر هنا، وهو وصوله إلى منعة
المشركين. ولكنا ندعى ذلك عليه وهو منكر، فالقول قوله مع يمينه.
676 - وإن كان قليلا ففقدوه، فلما هزموا العدو (ص 153)
إذا هم به لا يدرون أكان مع العدو أو كان معهم. فسئل عن ذلك فقال:
ذهبت أتعلف العلف (2)، أو ضللت الطريق ولم ألحق بالعدو. ففي القياس
هو فئ.

(1) ه‍، ب " لا أبرح في عسكركم ".
(2) ساقطة من ب، ق.
459

لأنا علمنا مفارقته العسكر في دار الحرب. ودار الحرب موضع أهل
الحرب. فكان ذلك بمنزلة وصوله إلى منعتهم في حكم انتهاء الأمان.
ولكنه استحسن وقال: هو مصدق مع يمينه.
لأنه أخبر بخبر محتمل. فإنه لم يجد بدا من أن يخرج من المعسكر ليقضى
حاجته أو ليأتي بالعلف. وربما يضل الطريق عند الخوف وكثرة الزحام،
كما أخبر به. وقد عرفنا ثبوت الأمان له. فيجب التمسك بذلك الأصل
ما لم يظهر مزيله بدليل. والله أعلم.
460

56 باب المراوضة (1) على الأمان بالجعل وغيره
677 - قال: ولو أن عسكر المسلمين أتوا حصنا من حصون
أهل الحرب فناهضوه، وقال لهم أهل الحصن: يخرج عشرة منا
يعاملونكم على الأمان، وقد رضينا بما صنعوا. فلما خرج العشرة سألوا
المسلمين أن يسلموا السبي ويأخذوا ما سوى ذلك. فأبى المسلمون
ذلك. وصالحهم العشرة على أن يؤمنوهم خاصة وعيالاتهم. فتراضوا على
ذلك. ثم دخلوا الحصن وفتحوا الباب. فدخل المسلمون يسبون. فقال
أهل الحصن: أخبرنا العشرة بأنكم آمنتم السبي، لم يلتفت إلى
كلامهم، سواء صدقهم العشرة في ذلك أو كذبوهم. وجميع ما في الحصن
فئ، سوى العشرة مع عيالاتهم.
لأنه لم يؤخذ من المسلمين أمان لغير العشرة صريحا ولا دلالة. وأهل
الحصن لا يدخلون في أمان العشرة تبعا. فان في أمان المحصور لا يدخل
من كان تبعا له حقيقة فكيف يدخل من لم يكن تبعا؟
والعشرة وإن أخبروهم بأمان السبي كما زعموا فقد كذبوا في ذلك.

(1) في هامش ق " في حديث طلحة: فتراوضنا حتى اصطرف منى. أي تجاذبنا في البيع
والشراء. وهو ما يجرى بين المتبايعين من الزيادة والنقصان، كأن كل واحد منهما يروض صاحبه
رياضته الدابة. نهاية ".
461

والمشركون إنما أتوا من قبل أنفسهم حين نصبوا الخائنين للسفارة بيننا وبينهم،
وصاروا مغترين لا مغرورين من جهة المسلمين.
678 - وعلى هذا لو شهد قوم من المسلمين كانوا في الحصن أن
العشرة أخبروهم بذلك لم تنفعهم هذه الشهادة.
لما بينا، فان الثابت بالبينة لا يكون أقوى من الثابت بالمعاينة.
679 - ولو عاينا أن العشرة أخبروهم بذلك حين دخلوا الحصن
لم يمنعنا ذلك من استرقاقهم.
لأنه لا أمان لهم منا.
680 - ولو كان أهل الحصن أخذوا الأمان من المسلمين على
ما في حصونهم حتى يرجع إليهم العشرة بصلح أو غير صلح، فهذا
والأول سواء.
لان ذلك الأمان قد انتهى برجوع العشرة إليهم، فكأنه لم يكن أصلا.
681 - ولو كانوا أخذوا الأمان حتى ترجع إليهم العشرة فيخبروهم
بما جرى على وجهه والمسألة بحالها، فقال العشرة: قد أخبرناهم بذلك.
وقال أهل الحصن: لم تخبرونا بشئ من ذلك. فهم على أمانهم.
لان العشرة يدعون انتهاء الأمان الذي كان منا لأهل الحصن، وأهل
الحصن منكرون لذلك، فالقول قولهم ولا شهادة للعشرة على ذلك. لانهم يشهدون على فعل أنفسهم، ولأنهم يشهدون على إجازة ما فعلوا، فإنهم
462

يقولون: قد أخبرنا أهل الحصن ورضوا بما فعلنا، ولا شهادة للمرء على
إجازة ما باشره.
682 - ولو شهد على مقالتهم قوم مسلمون، أو من أهل الذمة،
كانوا في الحصن، قبلت الشهادة وكانوا فيئا
لان شهادتهم حجة على أهل الحصن. فكان الثابت بشهادتهم كالثابت
بإقرار أهل الحصن (ص 154).
683 - فإن كان الشهود (1) من المسلمين على ذلك فساقا رد (2)
السبي إلى الحصن، وأعيد الامر كما كان، ثم ينبذ إليهم ويقاتلون.
لان الامر بالتوقف في خبر الفاسق منصوص عليه، ولا فرق بين
أن يكون المشهود عليه مسلما أو حربيا في أنه ليس للفاسق عليه شهادة مقبولة.
وما لم يثبت إخبار العشرة إياهم بالامر على وجهه كانوا آمنين فلا يحل سبيهم.
684 - وإن كانوا حين دخل المسلمون عليهم كسر حصنهم
فصاروا لا منعة لهم، فعليهم أن يلحقوهم بمأمنهم.
لانهم في أمان منا.
فلا يجوز النبذ إليهم حتى نبلغهم مأمنهم.
685 - ولو قالت العشرة ما أخبرناهم بالصلح على وجهه، ولكنا

(1) ه‍ " الشهود على ذلك من المسلمين ".
(2) ب " يرد ".
463

أخبرناهم أنكم آمنتم السبي. فهذا والأول سواء، ولا يجوز التعرض
بشئ مما في الحصن.
لانهم كانوا في أمان منا إلى غاية. وهو أن يخبرهم العشرة بالامر على
وجهه، ولم يفعلوا.
686 - فإن قال المسلمون: فنحن نسلم لكم السبي كما أخبركم به
العشرة ونأخذ ما سواه من المتاع، لأنكم رضيتم بذلك وفتحتم الحصن
عليه. وقال أهل الحصن: لا نرضى بهذا الآن. فذلك لأهل الحصن.
لان الأمان منا يتناول جميع ما في الحصن، فهم على ذلك الأمان،
وإن رضوا بغيره، ما لم ينبذ إليهم أو ينتهى بوجود غايته، وغايته الاخبار
بالامر على وجهه. فإذا لم يوجد كان علينا أن نعيدهم إلى منعتهم كما كانوا،
أو نبلغهم مأمنهم ثم ننبذ إليهم.
687 - ولو بعث الأمير مع العشرة رجلا من المسلمين. فقال
الرجل المسلم: قد أخبرهم العشرة كيف كان الصلح. وأنكر ذلك
أهل الحصن، فالقول قولهم.
لان شهادة الواحد في الالزام لا تكون حجة على المستأمنين (1) كما
لا تكون حجة على المسلمين.
688 - وإن كان بعث معهم رجلين مسلمين أو أكثر فشهدا
بذلك كانوا فيئا.

(1) ه‍ " المستأمن ".
464

لان شهادة المسلمين حجة تامة، فيثبت بشهادتهما (1) ما يوجب انتهاء
الأمان به.
فإن قيل: كيف تقبل شهادتهما وهما يجران بها نفعا إلى نفسهما (2) لان لهما نصيبا في الغنيمة؟
قلنا: نعم. لكن الحق في الغنيمة لا يتأكد قبل الاحراز. ولهذا من
مات منهم لا يورث نصيبه. ومثل هذا الحق الضعيف لا يورث تهمة مانعة
من قبول الشهادة.
ألا ترى أن مسلمين من الجند لو شهدا على ذمي أنه سرق من الغنيمة
شيئا بعينه، أو شهدا عليه أنه سرق شيئا من مال بيت المال. كانت شهادتهما
مقبولة ولا ينظر إلى مالهما فيه من المنفعة بناء على الشركة العامة.
689 - وإن كان الرجلان ممن تقبل شهادتهما بين المسلمين
فالقوم على أمانهم.
لان ما ينتهى به الأمان لم يثبت بهذه الشهادة، فان ثبوته بناء على قبول
شهادتهما.
690 - ولو كان بعث رجلين من أهل الذمة مع العشرة وهما ممن
تقبل شهادتهما على أهل الذمة، فهم فئ أيضا.
لانهم يشهدون على المستأمنين، ولأهل الذمة شهادة مقبولة على المستأمنين
فيما يندرئ بالشبهات وفيما لا يندرئ بالشبهات، فكانا بمنزلة المسلمين
في ذلك.

(1) في هامش ق " بشهادتهم. نسخة ".
(2) ب، ه‍ " أنفسهما ".
465

691 - فإن شهد على ذلك رجل وامرأتان، جازت الشهادة
وكانوا فيئا، إلا أنهم لا يقتلون.
لان شهادة الرجال مع النساء (1) حجة فيما يثبت مع الشبهات، وليس
بحجة فيما يندرئ بالشبهات. لتمكن شبهة الضلال والنسيان في شهادتهن.
692 - ولو كان بعث مع العشرة رجلين من أهل الحرب
مستأمنين، فشهدا عليهم، فإن كان من أهل تلك الدار جازت
شهادتهما، وإن كان من غير تلك الدار بأن كانا من الترك (2)، وأهل
الحصن نصارى لم تقبل شهادتهما، لتباين الدارين. فإن ذلك يقطع ولاية
الشهادة كما يقطع ولاية التوارث. (ص 155).
وهذا لان دار الحرب دار قهر، ليس (3) بدار حكم. فباعتبار
اختلاف المنعة يتباين الدار، حتى لا تقبل شهادة المستأمنين بعضهم على بعض،
إذا كانوا من أهل دور مختلفة، وإن كانوا مجتمعين في دارنا بخلاف أهل
الذمة فإنهم صاروا من أهل دارنا، ودار الاسلام دار حكم، فإذا جمعهم
حكم واحد قبلت شهادة بعضهم على بعض، وإن اختلفت مللهم، كما تقبل
شهادة المسلمين بعضهم على بعض، وإن اختلفت مذاهبهم (4).
693 - وكل شئ رددت فيه أهل الحصن مأمنهم فإني (5)
أرد فيه العشرة إلى مأمنهم أيضا.

(1) ه‍، ق " شهادة النساء مع الرجال ".
(2) ق " الشرك " وفى الهامش " الترك. نسخة ".
(3) ق " ليست ".
(4) ب، ق " أهواؤهم ".
(5) ل " فان ".
466

لان الأمان تناولهم يقينا، فلا يجوز التعرض لهم قبل النبذ إليهم.
694 - ولو شهد قوم من أهل الحصن سوى العشرة ممن يعدل
في دينه أن العشرة أخبروهم بالصلح لم تجز شهادتهم.
لانهم صاروا عبيدا للمسلمين بزعمهم. فان الشهود يزعمون (1) أن الأمان
قد انتهى بإخبار العشرة إياهم بالامر على وجهه، فهم أرقاء أو حالهم متردد
بين الرق والحرية، فيكونون (2) بمنزلة المكاتبين لا شهادة لهم.
695 - وإذا لم تقبل شهادتهم فأهل الحصن آمنون غير العشرة
وأموالهم ورقيقهم.
هكذا وقع في بعض النسخ وهو غلط والصحيح:
غير الشهود على العشرة.
فإنه لا إشكال في أمان العشرة، فكيف يستثنيهم من جملة الآمنين؟
ولكن هؤلاء الذين شهدوا هم مقرون بانتهاء الأمان، وإقرارهم صحيح على
أنفسهم، فكانوا فيئا مع أموالهم ورقيقهم ومن صدقهم من عيالهم وأولادهم
الصغار أيضا، لانهم في حجر الأمهات، وعند التكذيب هن آمنات،
فكذلك أولادهن.
ومن لم يكن له أم من أولادهم الصغار فهم مصدقون عليهم. وهذا
لانهم لما صاروا أرقاء والأمهات حرائر فباعتبار بقاء الأمان لهن كان المعتبر
في حق الأولاد حجر الأمهات. ومن لم يكن له أم فلا بد من اعتبار حجر

(1) ب، ق " فإنهم يزعمون ".
(2) ق " فيكون ".
467

الأب في حقه، فيصير رقيقا معه، ولا يصدقون على الكبار من أولادهم
إلا أن يصدقوهم فحينئذ يكونون أرقاء بإقرارهم.
696 - قال: ولو كتب الأمير كتابا إلى أمير الحصن يخبره بما
جرى، وختمه بخاتمه، وبعثه على يدي رسول من قبله مع العشرة.
فلما فتح الحصن قال أميرهم: لم يأت بالكتاب ولم يدفعه إلى
الرسول.
وقال الرسول: قد دفعته إليه وقرأه بمحضر منى.
فأهل الحصن على أمانهم الأول.
لان الرسول يدعى انتهاء الأمان بإيصال الكتاب إليه، وهو منكر
لذلك، فالقول قول المنكر.
وهذا لان الذي يتعلق بانتهاء الأمان إباحة قتلهم واسترقاقهم، وهذا
مما يندرئ بالشبهات، فخبر الواحد فيه لا يكون حجة تامة وإن كان مسلما.
697 - فإن كان بعث معه رجلين مسلمين فشهدا بأنه قرأ عليه
بمحضر منهما حتى سمعه وعلم ما فيه فهم فئ أجمعون.
لان الثابت بالبينة كالثابت بإقرار الخصم، وشهادة المسلمين حجة تامة.
698 - ولو شهدا أنه دفع الكتاب إليه، فقرأه عليه بالعربية،
وترجم له الترجمان، ولكنهما لا يدريان ما قاله الترجمان، فالقياس فيه
أنهم آمنون حتى نعلم أنه قد علم ما في الكتاب.
468

لأنا نعرف أنه لا يعرف العربية، (ص 156) والشهود لم يعرفوا
ما قال له الترجمان، فلا يثبت علمه بما في الكتاب بهذا القدر، وما لم يصر
ذلك معلوما له لا ينتهى الأمان ولا تنتفى الشبهة. فلا يجوز لهم الاقدام على القتل
والسبي، ولكنه استحسن.
699 - فقال: فئ، لأنه ليس في وسع المسلمين فوق ذلك إذا
أرادوا النبذ إليهم.
وإن خان الترجمان فذكر لهم غير ما في الكتاب فإنما أتوا من
قبل أنفسهم حين اتخذوا ترجمانا هو خائن.
وما لا يمكن الوقوف عليه حقيقة لا يجوز (1) تعلق (2) الحكم به،
وإنما يعلق بالسبب الظاهر، وقد تم ذلك كما شهد الشهود.
700 - ولو أن رسل المؤمنين لم يحضروا مجلس أميرهم إلا أن
الأمير رد جواب الكتاب بكتاب مختوم ثم فتح الحصن فجحد الأمير
الكتاب فقال: ما وصل إلى كتاب، ولا أخبرني العشرة بما جرى
على وجهه.
فهم على أمانهم.
لان الغالب أن الكتاب الذي جاء به إلى أمير العسكر محتمل. فلعله
افتعل ذلك مفتعل على لسان أميرهم. وانتهاء الأمان لا يثبت مبيحا للقتل
والاستغنام بمثل هذا الكتاب المفتعل.

(1) ه‍ " حقيقة يجوز تعليق ".
(2) ق " تعليق ".
469

701 - وكذلك إن كان هذا الكتاب من ملكهم الأعظم ثم
أنكره بعد ما وقع الاستيلاء على مملكته.
فإنه لا يبطل به الأمان الذي كان بين المسلمين وبينهم. لما بينا أن
الكتاب محتمل قد يفتعل على لسان الأعظم كما يفتعل على لسان من هو دونه.
702 - ولا يحل إراقة الدماء والاسترقاق باعتبار هذا الكتاب
الذي لا يدرون أحق هو أم باطل.
فإن قيل: أليس أن كتاب القاضي إلى القاضي يجعل حجة في الاحكام
وهذا الاحتمال فيه موجود.
قلنا: أما فيما يندرئ بالشبهات لا يجعل حجة، وفيما يثبت مع الشبهات
في القياس لا يكون حجة أيضا. وإنما جعل حجة فيما يثبت مع الشبهات
استحسانا، لتحقق الحاجة فيه بشرائط يقع بها الامن عن الافتعال ظاهرا،
وهو الختم، وشهادة الشهود عليه وعلى ما فيه، ومثل ذلك لا يوجد في كتاب
كبيرهم إلينا. والله أعلم.
470

57 باب أمان الرسول
703 - قال: فإذا أرسل أمير العسكر رسولا إلى أمير حصن في
حاجة له، فذهب الرسول وهو مسلم. فاما بلغ الرسالة قال: إنه أرسل
على لساني إليك الأمان، لك ولأهل مملكتك، فافتح الباب. وأتاه
بكتاب افتعله على لسان الأمير، أو قال ذلك قولا، وحضر المقالة ناس
من المسلمين. فلما فتح الباب دخل المسلمون وجعلوا يسبون. فقال
أمير الحصن: إن رسولكم أخبرنا أن أميركم أمننا وشهد أولئك
المسلمون على مقالتهم. فالقوم آمنون، يرد عليهم ما أخذ منهم.
لان عبارة الرسول كعبارة المرسل فكأن أمير العسكر أمنهم.
فان قيل: عبارة الرسول كعبارة المرسل فيما جعله رسولا فيه،
فأما فيما افتعله فلا.
قلنا: هذا التمييز غير معتبر في حق المبعوث إليه.
لأنه لا طريق له إلى ذلك. وإنما الذي في وسعه الاعتماد على ما يخبر به
الرسول، فلهذا يجعل ما أخبر به كأنه حق بعد ما ثبت أنه رسول. وهذا لان
الواجب على المرسل أن يختار لرسالته الأمين دون الخائن، والصادق دون
الكاذب. فلو لم يجعل ما يخبر الرسول به كأنه حق من حقهم أدى ذلك إلى
الغرور، وذلك حرام.
أرأيت لو ناداهم الأمير، إن هذا رسولي في كل ما يجرى بيني وبينكم.
471

ثم أتاهم بهذا لم يكن القوم آمنين. ومن تأمل قوله تعالى (ولو تقول علينا
بعض الأقاويل، لأخذنا منه باليمين، ثم لقطعنا منه الوتين) (1) يتضح عنده
هذا المعنى. وقد تقول عليه غيره بعض الأقاويل (ص 157) نحو مسيلمة
ونظرائه ممن ادعى الرسالة، ولم يصبهم في الدنيا. فعرفنا أن حال الرسل
فيما يخبرون به عمن أرسلهم لا يكون كحال غيرهم.
704 - وكذلك إن كان الرسول ذميا أو حربيا مستأمنا.
لان ثبوت هذا الأمان من جهة أمير العسكر لا من جهة الرسول. فان
الرسول في حصنهم غير ممتنع منهم. فلا يصح أمانه من جهة نفسه.
ثم هذا التقصير كان من جهة الأمير حين اختار لرسالته كافرا خائنا
وهو منهي عن ذلك.
ألا ترى إلى ما روى أن عمر رضي الله عنه قال لأبي موسى رضي الله عنه
: مر كاتبك فليدخل المسجد وليقرأ هذا الكتاب.
فقال: إن كاتبي لا يدخل المسجد.
قال: ولم؟ أجنب هو؟
قال: لا، ولكنه نصراني.
فقال: سبحان الله، اتخذت بطانة من دون المؤمنين؟ أما سمعت قوله
تعالى (لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا) (2).
أي. لا يقصرون في إفساد أموركم.
705 - فإن قال الرسول: إني قلت لهم هذا الذي ادعوا،
ولا نعلم ذلك إلا بقوله، وقد فتح الحصن وسباهم المسلمون، لم يصدق
على ذلك.

(1) سورة الحاقة، 69، الآية 45، 46.
(2) سورة آل عمران، 3، الآية 118.
472

لأنه أخبر بما لا يملك استئنافه، وادعى ما يبطل حق المسلمين بعد ما ظهر
سبب ثبوت حقهم، فلا يصدق فيه إلا بحجة.
706 - ولكن من وقع سهمه منهم صار حرا، لاقراره أنه
آمن، ولا يترك ليرجع إلى دار الحرب.
لان ذلك من حق المسلمين.
707 - وإن شهد على هذه المقالة قوم من أهل الذمة لا تقبل
شهادتهم.
لأنها تقوم على المسلمين.
708 - وإن كان الذي أتاهم بهذه الرسالة رجل ليس برسول،
ولكنه افتعل كتابا فيه أمانهم، فدخل به إليهم، أو قال لهم ذلك قولا،
وقال: إني رسول الأمير، أو رسل المسلمين، والمسألة بحالها، فهم فئ
كلهم. وللامام أن يقتل مقاتلتهم.
لأنه لا يمكن إثبات الأمان لهم من جهته. فإنه غير ممتنع منهم حين قال
لهم ذلك، بل هو بمنزلة الأسير فيهم. وأمان الأسير لا ينفذ على المسلمين.
فلا يمكن تصحيحه من جهة أمير العسكر، لأنه ما أرسله حتى تكون عبارته
قائمة (1) مقام عبادة الأمير. وهذا لان معنى الغرور لا يتحقق هنا لو أبطلنا
هذه المقالة، وإنما جاء التقصير من جهتهم حين اعتمدوا قول مجهول غير
معروف بالرسالة، ولا كان رسولا إليهم من جهة الأمير، في وقت من

(1) ه‍ " قائما ".
473

الأوقات. والأمير لا يمكنه أن يتحرر عن هذا، لأنه لا يعرف المفتعل ليمنعه
من الافتعال. وكما أنه يسقط عنهم الوقوف على ما ليس في وسعهم، يسقط
عن الامام التحرز عما ليس في وسعه.
709 - ولو قال لهم هذا الذي لم يكن رسولا، هذه المقالة وهو في
عسكر المسلمين، ناداهم ففتحوا الباب، كانوا آمنين حتى ينبذ (1) إليهم.
لأنه يجعل هذه المقالة أمانا من جهته حين كان في منعة المسلمين.
وقد بينا أن من يملك الأمان إذا أخبر عن من يملك الأمان فذلك أمان صحيح
لهم. سواء كان الخبر صدقا أم كذبا. إن كان صدقا فمن جهة المخبر عنه.
وإن كان كذبا فمن جهة المخبر، إلا أنه لا يثبت ذلك إلا بشهادة العدول من
المسلمين، لأنها تقوم (2) لابطال حقهم في الاستغنام.
710 - ولو أن رسول الأمير حين بلغ رسالة الأمير قال: إن
فلانا القائد قد أمنكم وأرسلني بذلك إليكم، أو إن المسلمين على باب الأمير
آمنوكم، أو إني كنت قد أمنتكم، قبل أن أدخل إليكم، وناديتكم
بذلك. وشهد على هذه المقالة قوم من المسلمين. فهم فئ أجمعون إذا
كان ما أخبر به كذبا.
لأنه ليس برسول (ص 158) القائد حتى يجعل عبادته كعبادة القائد،
ولا هو رسول المسلمين على باب الأمير حتى تكون عبارته كعبارتهم،
ولا يملك هو أمانهم (3) بنفسه في هذه الحالة لأنه في منعتهم، فلهذا بطل
حكم كلامه.

(1) ب " ننبذ ".
(2) ب " لا تقوم ".
(3) ه‍، ب، ق " وهو لا يملك أمانهم ".
474

711 - ولو كان رجل من المسلمين أرسل في حاجته فقضى حاجته ثم أخبرهم أن من أرسله آمنهم. فهذا أيضا باطل.
لان رسول الواحد من عرض العسكر (1)، في مثل هذا لا يشبه رسول
الأمير أو رسول جماعة المسلمين. فان ذلك المرسل لو كان في هذا الموضع
لا يصح أمانه، فكذلك رسوله إذا أخبر عنه.
وهذا هو القياس في رسول الأمير ورسول جماعة المسلمين أيضا،
غير أنا استحسانا (2) في هاتين الخصلتين.
لان جماعة المسلمين من أهل المنعة حيث ما كانوا، ورسولهم قائم مقامهم.
فإذا أضاف الأمان إليهم كان صحيحا. وكذلك الأمير أمانه صحيح حيث يكون
أميرا، لأنه لا يكون أميرا إلا باعتبار المنعة. فلسان رسوله كلسانه في الاخبار
بالأمان. وهذا لا يوجد في حق الواحد من عرض الناس، فلهذا لا يعتبر
إخبار رسوله إياهم بالأمان عنه.
712 - قال: ولو أن الأمير أرسل إليهم من يخبرهم أنه آمنهم،
ثم رجع إليه فأخبره أنه قد أتاهم برسالته، فهم آمنون، وإن كانوا
لا يعلمون أن الرسول قد بلغهم.
لان البناء على الظاهر واجب فيما لا يمكن الوقوف على حقيقته.
والظاهر أن الرسول بعد ما يدخل عليهم لا يخرج حتى يؤدى الرسالة. ولان
فيما يقوله الرسول احتمال الصدق، وإن لم يترجح جانب الصدق. وبهذا
القدر تثبت الشبهة. وقد بينا أن الأمان يثبت في موضع الشبهة.
فلا يجوز للمسلمين أن يغيروا عليهم حتى ينبذوا إليهم.

(1) في هامش ق " فلان من عرض العشيرة أي من شقها لا من صميمها. مغرب ".
(2) ب " استحسناها ".
475

- 713 ولو كان الأمير والمسلمون آمنوهم، ثم بعثوا رجلا ينبذ
إليهم ويخبرهم أنهم قد نقضوا العهد، فرجع الرسول وذكر أنه قد
أخبرهم بذلك. فليس ينبغي للمسلمين أن يغيروا عليهم حتى
يعلموا ذلك.
لأنه أتاهم بخبر (1) متميل بين الصدق والكذب. وذلك لا يكون حجة
تامة في نقض العهد، وإن كان حجة في الأمان بمعنى. وهو أن الذي يتعلق
بنبذ الأمان إباحة السبي، واستحلال الفرج (1) والدماء. وهذا مما لا يثبت
مع الشبهة. ومجرد الظاهر أو خبر الواحد لا ينفك عن الشبهة.
فأما الذي يتعلق بالأمان حرمة السبي، وذلك مما يثبت مع الشبهة.
ولان ما يتعلق بنبذ الأمان إذا وقع فيه الغلط لا يمكن تداركه، فلا يجوز
أن يعتمد فيه بمجرد الظاهر، وأما ما يتعلق بالأمان إذا وقع فيه غلط يمكن
تداركه فيجوز الاعتماد فيه على الخبر الواحد إذا كان رسولا.
714 - فإن أغار عليهم المسلمون قبل التثبت فقالوا: لم يبلغنا ما جاء
به رسولكم، فالقول قولهم.
لانهم أنكروا نبذ الأمان، وفيه تمسك بالأصل المعلوم. فيرد عليهم
المسلمون ما أخذوا من أموالهم، ويغرمون ديات من قتلوا منهم، لانهم كانوا
في أمان ما لم يعلموا بالنبذ.
فان قيل: فليس في وسع الأمير فوق هذا.
قلنا: لا كذلك، بل في وسعه أن يرسل إليهم رسولا ينبذ إليهم،
ويرسل لهم معه برجلين عدلين من أهل الشهادة، حتى يشهدا على تبليغه

(1) ق " محتمل " وفى الهامش " متميل. نسخة ".
(2) ه‍، ب " الفروج ".
476

النبذ. فهذا أدنى ما تتم به الرسالة في النبذ. حتى لو أرسل إليهم رجلين فرجعا
وشهدا على تبليغ النبذ إليهم لم يجز ذلك، لان أحدهما شهد على فعل نفسه،
وذلك لا يكون حجة في الاحكام. ولا (1) يقبل في مثل هذا إلا ما يكون
حجة في الاحكام.
715 - ولو جاء رسول أميرهم بكتاب مختوم إلى أمير العسكر:
إني قد ناقضتك العهد. (ص 159) فليس ينبغي للمسلمين أن يعجلوا حتى
يعلموا حقيقة ذلك.
لان الكتاب محتمل ولعله مفتعل.
716 - وإن كان الذي جاء بالكتاب رجلان من أهل الحرب
فشهدا أن هذا الكتاب كتاب الملك وخاتمه، جازت شهادتهما على
أهل الحرب.
لان الرسولين عندنا في أمان، والقوم كذلك، قبل أن يتم النبذ.
وشهادة أهل الحرب على أمثالهم من أهل دارهم حجة تامة. وبعد تمام النبذ
بشهادتهم لا بأس بقتلهم واسترقاقهم.
717 - إلا أن يكون اللذان شهدا بالكتاب ممن لا تجوز
شهادتهما منهم، أو من أهل الذمة، أو من المسلمين، فحينئذ لا يحل
للمسلمين أن يعجلوا بقتالهم.

(1) قوله: " ولا يقبل.. الاحكام " لا يوجد في أصلنا، وموجود في سائر النسخ.
477

لان شهادة هؤلاء ليس بحجة في الاحكام. ونبذ الأمان لا يثبت بمثل
هذه الشهادة.
فينبغي للأمير أن يبعث ليهم رجلين عدلين ممن يثق به من (1)
المسلمين ليسألوهم عن ذلك.
ألا ترى أنهم لو أسروهم فجحدوا الكتاب وحلفوا أنهم ما كتبوه، كان
القول قولهم شرعا، ولا يبطل إنكارهم بشهادة من لا شهادة له. فلا بد من أن
يبعث الأمير من تجوز شهادته، حتى إذا أنكروا الكتاب شهدوا به عليهم.
718 - ولو أن الأمير بعث إليهم عشرة معهم كتاب فيه نقض
العهد، وقال للرجل المسلم: أقرأه عليهم. وقال للآخرين: اشهدوا
عليهم بذلك. فاجتمع أميرهم مع القواد والبطارقة. فقرأ الرجل عليهم
بالعربية وترجم الترجمان بلسانهم. ثم رجع الرسل فأخبروا بما كان
فلا بأس بأن يغير المسلمون عليهم.
لأنه ليس في وسعهم فوق هذا، والتكليف يثبت بحسب الوسع فيما
يندرئ بالشبهات وفيما يثبت مع الشبهات.
719 - فإن أغاروا عليهم فقالوا: إن الترجمان لم يخبرنا بنقض
العهد، وإنما أخبرنا أن في الكتاب: قد زدناكم في مدة الأمان كذا.
فقولهم هذا باطل.

(1) ه‍ " عن ".
478

لما بينا أنهم أتوا من قبل أنفسهم حين اختاروا للترجمة خائنا، وليس
في وسعنا أن نعلم حقيقة ما يخبرهم به الترجمان، إلا أن يستقر عند المسلمين
الذين حضروهم أن الترجمان قال لهم غير ما في الكتاب. فان استيقن المسلمون
بذلك فالقوم على أمانهم.
أرأيت لو كان أهل الحرب الذين أمناهم لهم لغات مختلفة، وكانوا قوما
من العرب لهم لغة، فكلموهم بلغة غير لغتهم أو أعربوا في الكلام. فذكروا
الغريب من اللغات فقالوا: لم نفهم اللغة، أينبغي أن نصدقهم على هذا ونحن
نعلم أنهم من أهل المعرفة باللغة؟ لا نصدقهم على شئ من ذلك حتى نستيقن
أنهم لم يفهموا. فإذا تيقنا بذلك فقد سقط اعتبار الظاهر باليقين، وكانوا هم
على الأمان.
وكذلك إن كان أكبر الرأي منا أنهم لم يفهموا، لان أكبر الرأي
بمنزلة اليقين فيما يبتنى على الاحتياط.
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: لو أن مسلما جاء برجل من المشركين
إلى الأمير وهم في المفازة (1)، وكانوا على حصن، حاصروه وقال: إني
كنت أمنت هذا. فأتاني على أماني إياه، لم يصدق حتى يشهد شاهدان سواه
أنه قد أمنه.
لأنه صار فيئا للمسلمين حين جاء به إلى الأمير، فإنه غير ممتنع منهم.
وهذا المسلم لا يتمكن من أن يؤمنه ابتداء، فلا يصدق فيما يقر به من أمانه.
وفى القياس للامام أن يقتله إن شاء بمنزلة غيره من المأسورين.
ولكن في الاستحسان له أن (2) يجعله فيئا، ولا يقتله (ص 160) لان
احتمال الصدق في خبره يمكن شبهة مانعة من إراقة الدم.
وهذا لان حرمة قتل المستأمن من حق الله تعالى. وخبر الواحد فيما يرجع
إلى أمر الدين حجة شرعا، خصوصا فيما لا يكون فيه إلزام على شخص
بعينه، وهو منكر لذلك الخبر.

(1) ه‍ " الغازة " ب " المغارة "
(2) ساقطة من ق
479

720 - ولو أن مسلما غير الذي جاء به شهد أنه آمنه. لم تقبل
شهادته حتى يشهد على ذلك رجلان مسلمان.
واستدل بحديث الهرمزان، فإن عمر رضي الله عنه قال له: تكلم،
لا بأس عليك، أو تكلم بكلام حي. ثم اشتبه ذلك على عمر. فشهد له
أنس بن مالك. فأبى عمر أن يقبل ذلك حتى جاء معه رجل آخر
فشهد بذلك، فآمنه عمر.
ففي هذا بيان أنه لا بد من شهادة رجلين إذا شهدا على أمان غيرهما.
لان ذلك الغير منكر للأمان، ولو كان مقرا به لم تكن شهادته حجة على فعل
نفسه، فلا بد من أن يشهد به شاهدان سواه حتى يثبت الأمان، إلا في حق
الرسول خاصة إذا علم المسلمون أنه قد أخبرهم بالأمان، لان المسلمين ائتمنوا
على الرسالة. فان ظهر منه خيانة فذلك على المسلمين.
ألا ترى أن الامام إذا ولى قاضيا أمر المسلمين فأخطأ في إقامة حد من
رجم أو قطع في سرقة كان ذلك على بيت مال المسلمين (1). لانهم ولوه ذلك
على المسلمين، فخطؤه عليهم، كذلك الرسول حين ولوه الرسالة فخطؤه
وجنايته تكون عليهم دون أهل الحرب. والله أعلم.

(1) ق " كان ذلك في بيت المال " وفى الهامش " على بيت المسلمين ". نسخة ".
480

58 باب السرية تؤمن أهل الحصن
ثم تلحقها السرية الأخرى
721 - قال: ولو أن سرية صالحوا أهل حصن على خمس مئة
دينار على أن يؤمنوهم حتى يخرجوا إلى دار الاسلام صح ذلك.
لانهم لو أمنوهم بغير عوض إلى هذه الغاية جاز، فمع العوض أجوز.
لان في الأمان تحريم القتل والاسترقاق، وهو صحيح بعوض وبغير عوض.
بمنزلة الصلح ظن القصاص.
722 - ولا بأس بأن يغيروا بعد هذا الصلح على غيرهم من
أهل الحرب.
لانهم خصوا بالأمان أهل الحصن. ودخل في أمانهم أمتعتهم ومواشيهم
تبعا لانهم أمنوهم، ليقيموا في حصنهم. فلا يجوز أن يعرضوا لشئ من
أموالهم إلا ما كانوا أخذوه قبل الصلح، وليس عليهم رد شئ من ذلك.
لان المأخوذ صار غنيمة لهم، وما أمنوهم ليردوا عليهم الغنائم إنما أمنوهم
ليتركوا (1) التعرض لأموالهم، وقد خرج المأخوذ من أن يكون من جملة
أموالهم.

(1) ب " ليترك ".
481

723 - فإن مضت هذه السرية في أرض الحرب ودخلت سرية
أخرى من المسلمين، فلما انتهوا إلى الحصن أخبروهم بذلك الصلح،
وشهد على ذلك عدلان من المسلمين، فليس ينبغي لهم أن يتعرضوا
لأهل الحصن بشئ.
لان عقد السرية الأولى نافذ في حق المسلمين كافة. قال عليه السلام:
" المسلمون يد على من سواهم يسعى بذمتهم أدناهم يعقد عليهم أولاهم (1)،
ويرد عليهم أقصاهم ".
قيل المراد بعقد أول السرايا الأمان. فينفذ ذلك على المسلمين.
724 - وإذا ثبت أن حكم هذه السرية حكم السرية الأولى،
وهم لو رجعوا إليهم لم يحل لهم أن يتعرضوا (2) لأهل الحصن بشئ، إلا
أن ينبذوا إليهم برد الدنانير المقبوضة عليهم. فكذلك السرية الثانية
لا يجوز لهم قتالهم حتى يردوا عليهم الدنانير التي أخذها أصحابهم ثم ينبذوا
إليهم ويقاتلوهم.
وهذا لانهم أعطوا الدنانير ليأمنوا إلى وقت خروج السرية الأولى من
دار الحرب، فما لم يخرجوا كانوا في أمان (ص 161).
ولو قاتلناهم من غير رد الدنانير كان فيه أضرار وغرور وهو حرام.
وإن ردوا الدنانير فقاتلوهم حتى ظفروا بهم، ثم التقوا هم والسرية

(1) ق " أولهم ".
(2) ب " يعرضوا ".
482

الأولى فهم شركاء في أموال أهل الحصن والدنانير التي أخذتها السرية
الأولى.
لان كل ذلك غنيمة. وقد اشتركوا في إحرازها بدار الاسلام. وذلك
سبب الشركة بينهم فيها.
إلا أن السرية الثانية إن كانوا غرموا الدنانير من أموالهم
أخذوها من أموال أهل الحصن قبل القسمة.
لانهم توصلوا إلى هذه الأموال برد تلك الدنانير، وما كانوا متبرعين
فيما أدوا منها، وإنما كانوا متطرقين (1) بها إلى الوصول إلى هذه الغنيمة،
فيكون حقهم في ذلك القدر مقدما على حق الغانمين.
ثم الباقي مقسوم بين الكل على سهام الغنيمة. فإن كانوا غرموها
من غنيمة أصابوها لم يأخذوها، لان ما أدوا من جملة الغنيمة مشترك
بينهم، بمنزلة ما توصلوا به إلى أخذه.
وهو بمنزلة ما لو قضى بعض الورثة دينا به رهن (2)، وهو من جملة
التركة. فان قضاه من مال نفسه رجع به في التركة، وإن قضاه من التركة
لم يرجع بشئ منه.
725 - وإن لم تلتق السريتان في دار الحرب سلمت للسرية
الأولى الدنانير التي أخذوها وللسرية الثانية غنائمهم التي غنموا.

(1) ب " متطرفين ".
(2) ه‍، ق " بعض الورثة دين مورثه وهو من. ".
483

لان كل فريق اختص بإحراز ذلك بدارنا.
وليس للسرية الثانية أن يأخذوا الدنانير من السرية الأولى. وإن
غرموها من أموالهم.
لانهم اختصوا بمنفعة ما أدوا حين سلمت لهم غنائم أهل الحصن،
بخلاف الأول فقد اشتركت السريتان هناك في المنفعة وهو غنائم أهل الحصن
مع أنه لا فرق. فهناك رجوعهم في غنائم أهل الحصن خاصة، وهنا غنائم
أهل الحصن سالمة لهم.
726 - وإن لم تظفر السرية الثانية بالحصن فالتقوا مع السرية
الأولى في دار الحرب، لم يكن للسرية الثانية أن يأخذوا شيئا من
دنانيرهم من جملة ما أحرزوا بدارنا من الغنائم.
لأنه لا منفعة للسرية الأولى فيما ردوا من الدنانير حين لم يتوصلوا بها
إلى غنائم أهل الحصن، فكانوا متبرعين في حقهم، بخلاف الأول. وهذا
لان الغنم مقابل بالغرم. فإذا ظهرت المنفعة لهم جميعا بسبب ما ردوا من الدنانير،
نفذ الرد في حق الكل. وإذا لم تظهر المنفعة لا ينفذ ذلك في حق غير الذين ردوا.
727 - وإن كانت السرية الثانية غنمت من غير أموال أهل
الحصن فأرادوا أخذ دنانيرهم من ذلك لم يكن لهم ذلك:
لان هذه الغنائم كانوا يتوصلون (1) إليها بدون رد الدنانير، فلا يظهر
حكم رد الدنانير في حقها، كما لا يظهر في حق ما أصاب السرية الأولى،

(1) ب " يتواصلون ".
484

بخلاف ما إذا غنموا من أهل الحصن، فان وصولهم إلى تلك الغنائم باعتبار
رد الدنانير فيرفعون دنانيرهم منها قبل القسمة.
728 - وإن كان أهل الحصن أخبروا السرية الثانية بالأمان،
ولم يكن بينة على ذلك، فلم يصدقوهم. ولكن قاتلوهم وظفروا بهم،
ثم علموا بعد ذلك بالأمان فعليهم رد ما أخذوا وضمان ما استهلكوا من
أموالهم وديات من قتلوا منهم على عواقلهم (1).
لأنه ظهر أن القوم كانوا مستأمنين، وأن نفوسهم وأموالهم كانت
معصومة متقومة. فكل من قتل منهم رجلا فإنما قتله خطأ، فتجب الدية على
عاقلته.
بلغنا أن رجلين من المشركين جاءا إلى رسول الله (2) صلى الله عليه
وسلم مستأمنين فأجازهما (3) بحلتين، ثم خرجا من عنده فلقيهما قوم من
المسلمين (ص 162) فقتلوهما. ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم
فأخبروه، فعرفهما وعرف الحلتين، فوداهما بدية حرين مسلمين.
هكذا (4) ذكر محمد رحمه الله (5) الحديث.
وفى كتب المغازي أن الرجلين كانا من بنى عامر. قتلهما عمرو بن
أمية الضمري حين انصرف من بئر معونة، وقد فعل بنو عامر بأصحابه ما فعلوا.

(1) العواقل ج عاقلة.
(2) ب، ه‍ " النبي ".
(3) في هامش ق " أي أعطاهما جائزة. حصيري " وفى حاشية ص " أي أعطاهما حلتين ".
(4) ص " هكذى ". (5) قوله " رحمه الله " لا توجد في ب، ق، وفى ه‍ " رحمة الله عليه ".
485

729 - وكذلك لو كان أهل الحصن قالوا للسرية الأولى: آمنونا
أنتم. فهذا والأول سواء.
لانهم هم الذين يؤمنونهم، سواء صرحوا بقولهم أنتم أولم يصرحوا.
730 - ولو قالوا: على أن لا تعرضوا أنتم لنا حتى تخرجوا إلى
دار الاسلام. ففعلوا ذلك. ثم جاءت السرية الثانية، فلهم أن يقاتلوا
أهل الحصن من غير أن يردوا عليهم شيئا.
لانهم إنما استأمنوا منهم خاصة ليزيلوا تعرضهم عنهم. ومقصودهم
من أداء الدنانير هنا أن تنصرف عنهم السرية التي أحاطت بهم، وقد حصل
هذا المقصود لهم، بخلاف الأول. فهناك التمسوا أمانا عاما إلى مدة معلومة.
وكما أن الأمان يقبل التخصيص بالوقت، يقبل التخصيص من
حيث السرايا، إلا أن عند الاطلاق موجب اللفظ العموم، وعنه
التنصيص على ما يوجب الخصوص يثبت الحكم خاصة (1).
ثم فرع على الأمان العام فقال:
731 - إن خرجت السرية الأولى قبل وصول الثانية إلى أهل
الحصن. ثم وصلوا إليهم فلهم أن يقاتلوا أهل الحصن من غير نبذ ورد
الدنانير.

(1) ق، ب " خاصا ".
486

لان الأمان كان لهم إلى غاية، وهو خروج السرية الأولى إلى دار
الاسلام. فانتهى الأمان بوجود الغاية. ألا ترى أن السرية الأولى لو عادوا
إليهم بعد ما خرجوا كان لهم أن يقاتلوهم؟ فكذلك السرية الثانية.
732 - ولو كان خرج بعضهم دون بعض فالمعتبر فيه خروج
الأمير مع جماعة القوم الذين لهم المنعة.
لان الباعث لأهل الحصن على التماس الصلح وأداء الدنانير خوفهم
من السرية، وذلك كان باعتبار جماعتهم ومنعتهم.
وكان ينبغي في القياس على قول أبي حنيفة، رضي الله عنه (1)،
أنه وإن بقى واحد منهم في دار الحرب لا يحل قتالهم بدون رد الدنانير.
لان الحكم إذا ثبت بجملة يبقى ببقاء الواحد، كما قال في البلدة التي
ارتد أهلها وبقى فيها مسلم أو ذمي آمن (2) أنها لا تصير دار الحرب. ولكن
هذا القياس متروك هاهنا لأجل التعذر. أرأيت لو قتل رجل منهم أو مات
أو أسر أو فقد ألم (3) يحل قتال أهل الحصن أيضا بعد خروج الجماعة؟
733 ولو لم يخرج السرية الأولى ولكنهم قتلوا حل قتال
أهل الحصن أيضا.
لانهم إذا قتلوا فكأنهم خرجوا. يعنى أن أهل الحصن يأمنون جانبهم
إذا قتلوا فوق ما يأمنون جانبهم إذا خرجوا.

(1) ب، ه‍ " رحمه الله تعالى "، رحمه الله ".
(2) ه‍ " أمر ".
(3) ه‍ " لم ".
487

734 وإن قتل منهم ناس وبقى ناس فالمعتبر هو المنعة كما في
الخروج. فإن كان من بقى منهم لا منعة له فلا بأس بقتال أهل الحصن.
وإن كانوا أهل منعة لم يحل قتالهم ما لم يخرج هؤلاء إلى دارنا، ولو كانوا
صالحوهم على أن يؤمنوهم هذه السنة فهذا جائز.
لانهم وقتوا الأمان بما هو معلوم يقينا، ولو وقتوه بما هو غير معلوم
وهو خروجهم إلى دار الاسلام، جاز، ففيما هو معلوم أجوز.
ثم لما عرفوا للسنة بالألف واللام ينصرف إلى السنة المعهودة التي هم
فيها، ومضيها انقضاء ذي الحجة، حتى إذا كان الباقي منها شهرا فلهم ذلك
خاصة. (ص 163).
735 وإن قالوا: إنما صالحناكم على ما نحسب نحن عليه السنة
لم يلتفت إلى ذلك.
لان المسلمين هم الذين أعطوهم الأمان، والمدة المذكورة تنصرف إلى
ما يكون معلوما عند المسلمين دون ما يكون معلوما لهم. فان المسلمين لا يعرفون
ذلك. وقد أمرنا ببناء الاحكام على ما نعرفه. قال تعالى (وقدره منازل
لتعلموا عدد السنين والحساب) (1). إلا أن يكونوا بينوا ذلك في صلحهم
فحينئذ الشرط أملك.
736 وإن قالوا: لنا سنة كاملة من وقت الصلح اثنا عشر شهرا،
لم يلتفت إلى ذلك.

(1) سورة يونس، 10، الآية 5.
488

لانهم قالوا: هذه السنة، واثنا عشر شهرا مدة سنة منكرة لا سنة
معرفة. ألا ترى أنه لو قال: لله على صوم سنة ينصرف نذره إلى سنة كاملة؟
ولو قال: صوم السنة ينصرف إلى بقية السنة ومضيها انقضاء ذي الحجة.
737 وإن قالوا: عنينا هذه السنة إلى انصرافكم من صائفتكم،
لم يلتفت إلى ذلك.
لانهم ادعوا ما هو خلاف الظاهر (1). فان الظاهر ما يسبق إلى الافهام،
والذي يسبق إلى الافهام من ذكر السنة المدة دون الانصراف، إلا أن ذلك
محتمل أيضا.
738 فإن بينوا في الصلح فهو على ما بينوا. وإن قالوا: على
أن تؤمنونا سنة، فهذا على اثنا عشرا من وقت الصلح.
لانهم ذكروا سنة منكرة، وذلك اثنا عشر شهرا. قال الله تعالى (إن
عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا) (2) يعنى شهور السنة.
739 ولو قالوا: نصالحكم على أن تؤمنونا على ألف دينار،
ولم يوقتوا وقتا، فهذا على خروجهم إلى دار الاسلام.
لان مطلق الكلام يتقيد بدلالة الحال وبما يعلم من مقصود المتكلم،
وبعد ما أحاطت بهم السرية يعلم أن مقصودهم بهذا الصلح الامن من الخوف
الذي نزل بهم، وإنما يتم ذلك بخروج السرية إلى دار الاسلام. فكأنهم
صرحوا بهذا وقالوا: آمنونا حتى تخرجوا إلى دار الاسلام.

(1) ه‍ " ادعوا خلاف ما هو الظاهر ".
(2) سورة التوبة، 9، الآية 36.
489

740 فإن خرجوا ثم عادوا، هم أو غيرهم، فلهم أن يقاتلوا أهل
الحصن من غير رد الدنانير. ولكن لا ينبغي أن يقاتلوهم (1) حتى
ينبذوا إليهم.
لان الأمان لهم مطلق. والمقصود الذي ذكرنا يرجع إلى ما أدوا من
الدنانير. فباعتبار ذلك المقصود تتم سلامة الدنانير لهم إذا خرجوا، وباعتبار
كون الأمان مطلقا لا يحل قتالهم ما لم ينبذوا إليهم، كما لو أمنوهم بغير عوض،
بخلاف ما سبق: فهناك الأمان مؤقت نصا، فلا يبقى بعد مضى الوقت.
741 ولو أن الامام بعث إليهم من دار الاسلام من يدعوهم
إلى الصلح، فصالحوه على أن يؤمنوهم على مال مطلقا. ثم بدا للامام
أن ينبذ إليهم، فليس ينبغي أن يقاتلهم حتى يرد إليهم ما أخذوا منهم،
بخلاف الأول.
لان (2) هناك مقصودهم من بذل المال إزالة الخوف الذي حل بهم،
وهاهنا ما حل بهم خوف، وإنما مقصودهم من بذل المال ها هنا تحصيل
الامن لهم مطلقا، حتى لا يتعرض أحد من المسلمين لجانبهم. والمطلق فيما
يحتمل التأييد بمنزلة المصرح بذكر التأييد.
فكأنهم قالوا: آمنونا أبدا. فلهذا لا يحل قتالهم إلا بعد رد المال عليهم.
742 فإن كانت السرية التي أحاطت بالحصن صالحوهم على أن
يكفوا عنهم على ألف دينار ولم يزيدوا على هذا شيئا، فليس ينبغي لهم
أن يتعرضوا لهم ما داموا في تلك الغزاة.

(1) ه‍ " يقاتلوا أهل الحصن ".
(2) ب " فان ".
490

ولا بأس بأن يغير عليهم غير تلك السرية من المسلمين وإن
لم تخرج تلك السرية من دار الحرب.
لانهم عند بذل المال (ص 164) شرطوا عليهم أن يكفوا عنهم
وهذا اللفظ يخصهم دون سائر المسلمين.
743 ومن حيث المقصود يعلم أنهم أرادوا أن يأمنوا جانبهم،
وهذا المقصود يتم بخروجهم إلى دار الاسلام، فيتم سلامة الدنانير لهم
عند ذلك.
744 فإن عادوا إليهم بعد ذلك لم يكن عليهم رد الدنانير،
ولكن لا ينبغي لهم أن يغيروا عليهم حتى ينبذوا إليهم.
لان بينهم وبين أهل الحصن أمان خاص، ولكن (1) مطلق غير
مؤقت نصا. وقد قلنا إن مثل هذا الأمان لو كان بينهم وبين جماعة المسلمين
لم يحل قتالهم قبل النبذ إليهم للتحرز عن الغدر.
745 فكذلك إذا كان بينهم وبين السرية، حتى أغاروا عليهم
من غير نبذ وأخذوا منهم مالا ردوا عليهم ما أخذوا.
لانهم كانوا في أمان منهم حتى ينبذ (2) إليهم. وقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: " لا أحل لكم شيئا من أموال المعاهدين ".
746 ولو أن الخليفة بعث ثلاثة عساكر إلى دار الحرب.

(1) ب، ه‍ " لكنه ".
(2) ه‍ " ينبذوا ".
491

فبعث أهل حصن لم يأته المسلمون بعد إلى أمير عسكر من تلك
العساكر أن آمنوا أهل حصن كذا على أن تكفوا عنهم حتى
ترجعوا من غزاتكم هذه على ألف دينار. وتراضوا على هذا، فليس
للعسكرين الباقيين ولا لغيرهم ممن يدخل من دار الاسلام أن يغيروا
عليهم، حتى ترجع العسكر الثلاثة إلى دار الاسلام.
لان هذا الأمان نافذ في حق جماعة المسلمين. ولم يكن مقصود أهل
الحصن بهذا أن يأمنوا جانب العسكر المبعوث إليهم خاصة، فإنهم لم ينزلوا
بساحتهم بعد، بل (1) خوفهم منهم ومن العسكرين الآخرين ومن جميع
المسلمين بصفة واحدة، فعرفنا أن مقصودهم من بذل المال إزالة هذا الخوف
من أنفسهم إلى غاية، وهو خروج العسكر، وذلك إنما يحصل إذا علم الأمان
كافة المسلمين، فليس لأحد أن يغير عليهم إلا بعد النبذ ورد الدنانير.
747 بخلاف ما إذا دنا العسكر المبعوث إليهم من الحصن حتى
حاصروهم، أو كانوا قريبا منهم. فإن هناك مقصودهم الامن من
جانبهم (2) خاصة.
لانهم صاروا محصورين مقهورين من جهتهم. وقد بينا أن مطلق الكلام
يتقيد بالمقصود، فلهذا كان للعسكرين الباقيين أن يقاتلوهم من غير نبذ.
ألا ترى أنه لو كان أمير الشام أو الخليفة أو ولى العهد مع أحد العساكر
الثلاثة، فأرسلوا إليه أن آمنوا على أن تكفوا عنا حتى ترجعوا من غزاتكم
ففعل، أن ذلك على العساكر كلها، وعلى جميع أهل الحرب أيضا، حين

(1) ب " تعديل ".
(2) ب، ه‍ " من جانب هؤلاء ".
492

لم يذكروا أهل حصن خاصة. لان اللفظ عام، فيكون موجبا الحكم في كل
ما يتناوله، إلا أن يقوم دليل الخصوص بأن يبينوا فيقولوا: آمنوا أهل
حصن كذا.
748 ولو كان الخليفة مع عسكره (1) أحاط بذلك الحصن
فآمنهم (2)، والمسألة بحالها، كان الأمان لهم خاصة من العسكر الذين
أحاطوا بهم دون غيرهم، فكذلك ما سبق.
749 وكذلك لو كانوا بعثوا إلى أحد العساكر فقالوا: آمنونا
أنتم خاصة. فهذا والأول سواء.
لانهم هم الذين يؤمنونهم خاصة، وإن لم يذكروا هذه الزيادة، ولكن
حكم أمانهم يثبت في حق المسلمين كافة.
750 وإن قالوا: على أن تكفوا عنا أنتم خاصة، وذلك قبل أن
ينتهوا إليهم، فهذا على ذلك العسكر خاصة.
لوجود دليل للتخصيص.
وكذلك إن كانوا قالوا للخليفة: آمنونا نحن خاصة. فالأمان لهم
دون غيرهم من أهل الحرب.
للتصريح بما يوجب التخصيص في الكلام.

(1) ب " العسكر ".
(2) ب " فناهضهم ".
493

751 فإن لحق رجل (ص 165) من أهل هذا العسكر بغيره
من العساكر فليس ينبغي له أن يقاتل معهم أهل الحصن.
لانهم استفادوا الأمان من جانب أهل ذلك العسكر خاصة، وذلك
حكم ثابت في حق كل واحد منهم على الانفراد. فكما لا يكون له أن يقاتلهم
مع عسكره لا يكون لهم أن يقاتلهم مع عسكر آخر.
752 ولو أن سرية حاصروا (1) حصنا، فسألهم أهل الحصن
أن يؤمنوهم على أربعة أشهر، على أن يعطوهم خمس مئة دينار ففعلوا،
ثم دخلت سرية أخرى في دار الحرب وعلموا بذلك، ليس لهم يقاتلوهم
حتى يردوا عليهم الدنانير أو ينتهي الأمان بمضي المدة.
لنفوذ أمانهم على كافة المسلمين.
فإن ردوا الدنانير من أموالهم فقاتلوهم وظفروا بهم، ثم خرجوا
بالغنائم إلى دار الاسلام بالدنانير التي أدوا، فيعطون ذلك قبل الخمس وقبل
كل قسمة.
لانهم إنما توصلوا إلى هذه الغنايم بما أدوا، فلا يكونون متبرعين
فيما أدوا، بل يكونون أحق بما أصابوا من الحصن حتى يأخذوا دنانيرهم.
أرأيت لو وجدوا في الحصن تلك الدنانير بعينها ما كانوا أحق بها قبل الخمس
والقسمة؟ فكذلك إذا وجدوا في الحصن مثلها.
وهو نظير المرهون إذا أسره العدو، ثم اشتراه منهم مسلم فأخرجه،
وظفر به الراهن دون المرتهن فأخذه بالثمن، فإنه يسقط دين المرتهن، إلا أن

(1) ه‍ " حاصر ".
494

يرد على الراهن ما أعطى من الثمن، فحينئذ يأخذ العبد ويكون رهنا عنده،
لان الراهن ما تمكن من أخذه وإحياء ملكه فيه إلا بما أدى، فلم يكن متطوعا.
وكذلك العبد الموصى بخدمته لانسان مدة معلومة، وبرقبته لآخر،
فان الموصى له بالخدمة إذا فداه بالثمن من المشترى من العدو فهو أحق به،
ولا يكون متبرعا في هذا الفداء، لأنه ما كان يصل إلى خدمته إلا به، حتى
إذا انقضت مدة الخدمة بيع العبد له في الفداء. إلا أن يرد عليه صاحب الرقبة
مثل ما أدى فحينئذ يسلم العبد له.
وكذلك المبيع في يد البايع إذا أسره العدو فاشتراه رجل منهم، فللبائع
أن يأخذه بالثمن، ثم يقال للمشترى: إن شئت فخذه بالثمنين جميعا، وإن
شئت فدع.
لان البائع ما كان يتوصل إلى إحياء حقه إلا بأداء الفداء، فلا يكون
هو متبرعا فيما أدى، فكذلك حال السرية الثانية فيما أدوا من الدنانير،
فيسلم لهم هذا قبل الخمس. لان الخمس في الغنيمة (1)، وما أدوا لم يكن
من الغنيمة. فمثله المردود عليهم لا يكون من الغنيمة أيضا (2)، ولكن بمنزلة
النفل ينفلونه قبل الخمس على ما نبينه في آخر الباب.
753 ولو لم يظفروا بالحصن، وجعلوا يقاتلونهم، حتى مضت
أربعة أشهر، (3) ثم ظفروا بهم، فليس لهم أن يأخذوا بتلك الدنانير
ولا مثلها قبل الخمس، بل يخمس جميع ما أصابوا، والباقي بينهم على
سهام الغنيمة.

(1) قوله " لان الخمس في الغنيمة " ساقط من ه‍.
(2) في ه‍ " فكذلك مثل المردود عليهم لا يكون.. " وهذه العبارة ذكرت في هامش ق وأردفت
بقوله: نسخة ".
(3) ب، ق " الأربعة ".
495

لان تمكنهم من اغتنام ما في هذا (1) الحصن لم يكن برد الدنانير
فإنهم لو لم يردوا حتى مضت مدة الأمان كان لهم أن يغيروا عليهم من غير
نبذ، بخلاف المسألة الأولى، فإنهم ما كانوا يتمكنون من الاغتنام في المدة
قبل رد الدنانير، ولو فعلوا أمروا برد الأموال عليهم وإعادتهم إلى مأمنهم.
754 ولو أنهم لم يخرجوا إلى دارنا حتى التقوا، هم والسرية
الأولى، في دار الحرب، فإن كانوا ظفروا بأهل الحصن بعد الأربعة
الأشهر فهم شركاء (ص 166) فيما أصابوا، وليس لهم من دنانيرهم
شئ. ولو كانوا ظفروا بهم في الأربعة الأشهر أخذوا دنانيرهم أولا
ثم الشركة بينهم في الباقي.
لانهم اشتركوا في الاحراز بدارنا، وذلك سبب الشركة في الغنيمة.
وقد بينا أنهم إذا كانوا ظفروا بهم بعد مضى المدة فجميع ما أصابوا غنيمة،
وإن كان قبل مضى المدة بعد رد الدنانير عليهم. وقد قررنا هذا في الخمس
فكذلك في شركة السرية الأولى معهم.
755 ولو (2) أن السرية الثانية بعد رد الدنانير لم يقدروا فتح
الحصن، فدخلوا أرض الحرب ثم أتى أهل الحصن سرية ثالثة، فلا بأس
بأن يغيروا عليهم.
لان حكم أمانهم قد بطل برد السرية الثانية الدنانير عليهم. ألا ترى أنه
كان يجوز لهم أن يغيروا عليهم. فكذلك يجوز للسرية الثالثة.

(1) ساقطة من ه‍، ق، ب.
(2) ه‍ " فلو ".
496

756 فإن ظفروا بهم في المدة أو بعدها، ثم التقت السرايا في
أرض الحرب. فهم شركاء في جميع الغنائم.
لانهم اشتركوا في إحرازها
ولا سبيل للسرية الثانية على أخذ دنانيرهم وإن وجدوها بعينها.
لانهم ما ظفروا بالحصن.
فان قيل: السرية الثالثة إنما تمكنوا من فتح الحصن في المدة برد تلك
الدنانير، فينبغي أن يكون للسرية الثانية حق استرداد ذلك قبل القسمة.
قلنا: نعم. ولكن لم يكن لأهل السرية الثانية ولاية على أهل السرية
الثالثة. ألا ترى أنهم لو خرجوا إلى دار الاسلام قبل أن يلتقوا لم يكن لهم
سبيل على شئ مما أصابوا. وملاقاتهم إياهم في دار الحرب سبب لثبوت حق
الشركة لهم في الغنيمة لا في غيرها. فان لم يجعل هذه الدنانير من الغنيمة فلا حق
للسرية الثانية فيها. وإن جعلت من الغنيمة فليس لهم حق الاختصاص بشئ
منها، إلا أن يكون الامام أو من كان أميرا على السرايا هو الذي أمر السرية
الثانية برد الدنانير من أموالهم، فحينئذ له ولاية على السرايا كلها. فالذين أدوا
بأمره لا يكونون متبرعين في حق أحد
757 فإن ظفر السرية الثالثة بهم في المدة ردوا على السرية
الثانية دنانيرهم أولا.
لانهم ما تمكنوا من هذه الاغتنام إلا بذلك.
وإن ظفروا بهم بعد المدة، فليس عليهم رد شئ من ذلك، ولكن
على الامام أن يعطى الذين أدوا مالهم من بيت مال المسلمين.
497

لأنه أمرهم بأداء مال لأجل منفعة رجعت إلى المسلمين، فكان ذلك
دينا لهم على بيت المال.
ولان خمس تلك الغنيمة سلم لبيت المال، فيرد عليهم
ما غرموا من مال بيت المال أيضا ليكون الغرم بمقابلة الغنم.
758 ولو لم يأت أهل الحصن سرية أخرى حتى رجعت إليهم
السرية الأولى فردت عليهم الدنانير وظفروا بهم، فلا سبيل عليهم على
أخذ الدنانير من رأس الغنيمة.
لانهم أخذوا مثل ما أرادوا (1)، وفسخوا حكم فعلهم بالرد. فكأنهم
لم يأخذوا شيئا في الابتداء حتى ظفروا بالحصن، فيكون لجميع ما أصابوا
حكم الغنيمة.
759 وإن كان تلك الدنانير ضاعت منهم، وحين رجعوا أعطوا
مثلها من أموالهم، ليس مما غنموا، فهم أحق بالغنيمة حتى يستوفوا منها
مثل ما أعطوا إن كانوا ظفروا بهم في المدة.
لان حالهم عند الرجوع ورد الدنانير كحال سرية أخرى.
760 ولو أن الامام وادع قوما من أهل الحرب سنة على مال
دفعوه إليه، فذلك جائز (ص 167). إنما ينبغي له أن يوادع إذا كان
خيرا للمسلمين.
لما بينا أنه نصب ناظرا للمسلمين، ولا يجوز له ترك القتال والميل إلى
أخذ المال إلا أن يكون فيه نظر للمسلمين.

(1) ه‍ " لو فسخوا "، ب " أو فسخوا ".
498

ثم هذا المال ليس بفئ ولا غنيمة حتى لا يخمس، ولكنه
بمنزلة الخراج يوضع في بيت المال.
لان الغنيمة اسم لمال مصاب بايجاف الخيل والركاب، والفئ اسم
لما يرجع من أموالهم إلى أيدينا بطريق القهر. فأما هذا فمال رجع إلينا بطريق
المراضاة، فيكون بمنزلة الجزية والخراج يوضع في بيت مال المسلمين.
لان الامام إنما تمكن منه لمنعة جماعة المسلمين.
761 فإن نظر الامام فرأى هذه الموادعة شرا للمسلمين فليس
ينبغي له أن يقاتلهم حتى يرد عليهم ما أخذ.
لان الوفاء بالعهد والتحرز عن الغدر واجب.
762 فإن رد عليهم عينه أو مثله من بيت المال، ونبذ إليهم،
ثم بعث جندا حتى ظفروا بهم، فإنه يخمس جميع ما أصابوا، ويقسم
الباقي بين الغانمين على سهام الغنيمة، وليس له أن يرتجع شيئا مما أعطى
من الدنانير.
لأنه كان في الاخذ عاملا للمسلمين. فقد ردها أو مثلها من مال
المسلمين. فان مال بيت المال معد لنوائب المسلمين، وهذا كان من جملة
النوائب. بخلاف ما ذكرنا في السرية الأولى إذا ردوا من أموالهم بعد ما ضاعت
تلك الدنانير منهم. لان هناك المأخوذ الذي ضاع منهم كان من جملة الغنيمة،
والمردود لم يكن من الغنيمة، إنما كان من خاص أموالهم. وهاهنا (1) المأخوذ

(1) ق، ه‍ " هنا ".
499

كان لجماعة المسلمين، والمردود أيضا من مال جماعة المسلمين. فلهذا لا يرجع
في شئ من ذلك.
ثم عاد إلى مسألة السريتين فقال:
763 لو أن السرية الثانية ردوا الدنانير بأمر أميرهم خاصة
ثم أدركتهم سرية أخرى، فافتتحت السريتان الحصن وأخذوا
ما فيه، فإنه يقسم المصاب على رؤوس الرجال من السريتين أولا،
ثم ينظر إلى ما أصاب السرية التي ردت الدنانير فيبدأ بدنانيرهم
من ذلك.
لان أمر أميرهم غير نافذ على السرية الثالثة، وإنما ينفذ على أهل سريته
خاصة. وأموال أهل الحصن مصاب السريتين جميعا، فلا بد من قسمتها بينهم
ليتبين مصاب السرية الثانية، حتى يرفعوا (1) دنانيرهم منها قبل القسمة.
وإنما قسمت هذه الغنيمة على عدد الرؤوس.
لأنها ليست بقسمة الغنيمة حتى يعتبر فيها سهام الفرسان والرجالة. ألا ترى
انها قبل الخمس وقسمة الغنيمة بعد الخمس.
764 فإذا دفعوا دنانيرهم يضم ما بقى إلى ما أصاب السرية
الثالثة بالقسمة الأولى. فيخمس جميع ذلك، ثم يقسم الباقي بين السريتين
على سهام الغنيمة.
قال: وإنما مثل هذا مثل إمام بعث سريتين ونفل إحداهما بعينها

(1) ق " يرفعون ".
500

الرابع قبل الخمس. وهناك يقسم ما أصابوا أولا على رؤوس الرجال حتى
يتبين نصيب المنفلين فيعطون نفلهم من ذلك، ثم يضم ما بقى إلى
ما أصاب السرية الأخرى، فيخمس ويقسم ما بقى بينهم على سهام
الغنيمة.
وهذا بخلاف ما سبق في أول الكتاب في مسألة المئة العصاة
إذا كانوا بأعيانهم. فإن هناك القسمة بينهم وبين الثلاث مئة على سهام
الخيل الرجالة في أصح الروايات، حتى يتبين نصيب الثلاث مئة فيعطون
من ذلك نفلهم.
لان هناك إنما نفلهم الربع بعد الخمس، والقسمة التي تكون بعد
الخمس قسمة الغنيمة. وهذا إنما نفلهم الربع قبل الخمس. والقسمة الأولى
هاهنا ليست بقسمة الغنيمة. فلهذا قسم على عدد (ص 168) رؤوس الرجال.
765 فإن كان ما أصاب السرية الرادة لم يرد على دنانيرهم، سلم
لهم جميع ذلك، ويخمس ما أصاب السرية الأخرى، ثم يقسم ما بقى بين
السريتين جميعا على الغنيمة.
لان المغنوم هذا المقدار.
وإن لم يف ما أصابهم بدنانير فكذلك الجواب.
لأنه لا أمر لأميرهم فيما أصاب السرية الثالثة ليأخذوا أشياء منها بحساب
الدنانير. والله أعلم (1).

(1) ه‍، ق، ب زيادة " وبالله التوفيق ".
501

59 باب ما يتكلم به الرجل فيكون أمانا أولا يكون
766 فإذا أخذ المسلم أسيرا من المشركين وطلب الأسير منه
الأمان فآمنه، فهو آمن لا يحل له ولا للأمير ولا لغيره أن يقتله.
لان أمان الواحد من المسلمين نافذ على الجماعة. فكأن الأمير هو الذي
آمنه، ولكنه يكون فيئا لأنه مقهور مأخوذ. وقد ثبت فيه حق المسلمين
فلا يبطل بأمان الواحد الحق الثابت لجماعتهم. وأمنا من القتل بسبب الأمان
لا يكون فوق أمانه من القتل بالاسلام.
767 - ولو أسلم بعد ما أسر لم يقتل، ولكن يكون فيئا.
فكذلك إذا آمنه بعد الأسر.
وهذا لأنه صار بمنزلة الرقيق، وإن لم يتعين مالكه ما لم يقسم. وإسلام
الرقيق لا يزيل الرق عنه.
ثم الدليل على أن إسلامه بعد الاخذ لا يبطل الحق الثابت فيه
للمسلمين حديث العباس رضي الله عنه. فإنه أسلم يوم بدر بعد
ما أسر. وحسن إسلامه، على ما روي أن المسلمين قالوا فيما بينهم:
قد قتلنا الرجال وأسرناهم، فنتبع العير الآن. فلما عزموا على ذلك قال
502

العباس لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في وثاق الأسر: هذا
لا يصلح. قال: لم؟ قال: لان الله تعالى وعدك إحدى الطائفتين. وقد
أنجزها لك فارجع سالما.
فهذا دليل على حسن إسلامه في ذلك الوقت. ومع ذلك أمره رسول
الله صلى الله عليه وسلم بالفداء. وفيه نزل قوله تعالى:
(يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى: إن يعلم الله في قلوبكم
خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم) الآية (1).
768 فإن قال: لا أسلم، ولكن أكون ذمة لكم. فللامام
أن لا يعطيه ذلك ويقتله.
لأنه صار مأخوذا مقهورا. وقد بينا أنه لا يفترض الإجابة إلى إعطاء
الذمة في حق مثله.
769 فإن كان حين أخذه المسلمون خافوا أن يسلم فكعموه
- أي سدوا فمه، والكعام اسم لما يسد به الفم -.
أو ضربوه حتى يشتغل بالضرب فلا يسلم، فقد أساءوا في ذلك.
لان فعلهم في صورة المنع عن الاسلام لمن يريد الاسلام، وذلك
لا رخصة فيه. ولكنهم إن كعموه كي لا ينفلت ولم يريدوا به أن يمنعوه
من الاسلام فهذا لا بأس به، لقوله تعالى (حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق) (2)

(1) سورة الأنفال، 8، الآية 67.
(2) سورة محمد، 47، الآية 4.
503

فان قيل: إذا كعموه حتى لا يسلم ينبغي أن يكون ذلك كفرا منهم
لانهم رضوا بكفره، ومن رضى بكفر غيره يكفر.
قلنا: لفعلهم ذلك تأويلان:
أحدهما أنهم علموا أنه لا يسلم حقيقة، ولكن يظهر الاسلام تقية لينجو
من القتل. فلا يكون ذلك رضا منهم بكفره.
والثاني أن مقصودهم من ذلك الانتقام منه والتشديد عليه، لكثرة
ما آذاهم لا على وجه الرضى بكفره. ومن تأمل قوله تعالى (ربنا اطمس
على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم) (1)
يتضح له هذا المعنى.
وأيد هذا ما روى أن عثمان رضي الله عنه جاء بعبد الله بن سعيد (2)
(ص 169) بن أبي سرح يوم فتح مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال: بايع عبد الله، فأعرض عنه. حتى جاء إلى كل جانب هكذا،
فقال: بايعناه فلينصرف. فلما انصرف قال لأصحابه: أما كان فيكم من
يقوم إليه فيضرب عنقه قبل أن أبايعه؟ فقالوا: أهلا أومأت إلينا بعينك
يا رسول الله؟ فقال: ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين.
وأحد لا يظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرضى بكفره،
ولكن علم أنه كان يظهر في ذلك تقية. فلهذا أعرض عنه وقال ما قال.
770 - ولو أن الأسير قال للمسلم حين أراد قتله: الأمان الأمان.
فقال له المسلم: الأمان الأمان. وإنما أراد رد كلامه على وجه التغليظ
عليه: ولكنه لم يرد على هذا. فهذا في حقه حلال الدم لا بأس بأن
يقتله. ولكن من سمع منه هذه المقالة يمنعه من قتله، ولا يصدقه
فيما ادعى من مراده.

(1) سورة يونس، 10، الآية 88.
(2) " بن سعيد " لا توجد في ه‍، ب، ق.
504

لان سياق كلامه من حيث الظاهر أمان، ولكنه محتمل لما أراد. إلا أن
ذلك في ضميره فلا يقف عليه غيره. فأما الأمير والناس يتتبعون الظاهر
فلا يمكنونه من قتله بعد ما آمنه. وفيما بينه وبين ربه هو في سعة من قتله،
لان الله مطلع على ضميره.
771 - ولو كان قال له المسلم: الأمان الأمان تطلب؟ أو قال:
لا تعجل حتى تنظر ما تلقى. فهذا لا يكون أمانا. ولا بأس بقتله
له ولغيره.
لان في سياق كلامه تنصيصا (1) على معنى التهديد، وسياق النظم دليل
على ترك الحقيقة. ألا ترى إلى قوله تعالى (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.
إنا أعتدنا للظالمين نارا) (2) أنه زجر وتوبيخ لا تخيير باعتبار سياق الكلام؟
وكذلك قوله تعالى (اعملوا ما شئتم. إنه بما تعملون بصير) (3) تهديد
وليس بأمر.
وكذلك إذا قال الرجل لغيره: افعل في مالي ما شئت إن كنت رجلا،
أو افعل بي ما شئت إن كنت صادقا، لا يكون إذنا بل يكون زجرا وتقريعا.
فكذلك هاهنا إذا قال المسلم: الأمان، ستعلم أؤمنك أو لا تعلم، أنه أراد رد
كلامه.
772 - وإذا قال: الأمان وسكت. لا يعلم ما في ضميره. فجعل
ذلك أمانا باعتبار الظاهر.
بمنزلة من يقول لغيره: افعل في مالي كذا وكذا، يكون إذنا، وإن
قال: أردت به التهديد، لم يدن في القضاء.

(1) ه‍، ق " تنصيص ".
(2) سورة الكهف، 18، الآية 29.
(3) سورة فصلت، 41، الآية 40.
505

773 - ولو أن المشرك نادى من الحصن قبل أن يظفر به: الأمان
الأمان. فقال له المسلم: الأمان الأمان. فرمى بنفسه إلى المسلمين.
فقال الذي آمنه: إنما أردت التهديد، لا يلتفت إلى كلامه، وخلى
سبيله.، سواء كان الأمير قال له ذلك أو غيره.
لان ما في ضميره لا يعرفه المشرك. فلو اعتبر ذلك أدى إلى الغرور
وهذا حرام، وبهذا فارق الأسير لأنه صار مقهورا مأخوذا. فلا يتحقق
معنى الغرور بينه وبين المسلم فيعتبر ما في ضميره في حقه خاصة.
774 - ولو كان المسلم قال للمحصور: الأمان الأمان، ما أبعدك
عن ذلك! أو انزل إن كنت رجلا. فأسمعه الكلام كله بلسانه،
فرمى المشرك بنفسه، فهو فئ يجوز قتله.
لأنه لم يغره في شئ، فقد أسمعه ما هدده به، وبين له أن كلامه
تهديد وليس بإعطاء الأمان. ألا ترى أن الرجل يقول لآخر: لي عليكم
ألف درهم. فيقول الآخر: لك على ألف درهم؟ ما أبعدك من ذلك! فإنه
لا يكون كلامه إقرارا لهذا المعنى. فأما إذا أسمعه ذكر الأمان ولم يسمعه
ما وصل به فهو آمن، لا يعتبر في حقه ما أسمعه دون ما لم يسمعه. وما لم يسمعه
هو بمنزلة ما في ضميره لو اعتبر أدى إلى الغرور، والغرور حرام والله أعلم.
(ص 170).
506

60 باب ما يكون أمانا ممن يدخل دار الحرب
والأسرى، وما لا يكون أمانا
775 - ولو أن رهطا من المسلمين أتوا أول مسالح أهل الحرب
فقالوا: نحن رسل الخليفة. وأخرجوا كتابا يشبه كتاب الخليفة،
أو لم يخرجوا، وكان ذلك خديعة منهم للمشركين. فقالوا لهم: ادخلوا.
فدخلوا دار الحرب. فليس يحل لهم قتل أحد من أهل الحرب، ولا
أخذ شئ من أموالهم ما داموا في دارهم.
لان ما أظهروه لو كان حقا كانوا في أمان من أهل الحرب، وأهل
الحرب في أمان منهم أيضا لا يحل لهم أن يتعرضوا لهم بشئ، هو الحكم في الرسل
إذا دخلوا إليهم كما بينا.
776 - فكذلك إذا أظهروا ذلك من أنفسهم.
لأنه لا طريق لهم إلى الوقوف على ما في باطن الداخلين حقيقة، وإنما
يبنى الحكم على ما يظهرون لوجوب التحرز عن الغدر. وهذا لما بينا أن أمر
الأمان شديد والقليل منه يكفي.
فيجعل ما أظهروه بمنزلة الاستيمان منهم.
ولو استأمنوا فآمنوهم وجب عليهم أن يفوا لهم.
507

فكذلك إذا ظهر ما هو دليل الاستيمان.
777 - وكذلك لو قالوا: جئنا نريد التجارة. وقد كان قصدهم
أن يغتالوهم.
لانهم لو كانوا تجارا حقيقة كما أظهروا لم يحل لهم أن يغدروا بأهل الحرب،
فكذلك إذا أظهروا ذلك لهم.
778 - وكذلك لو لقوهم في وسط دار الحرب إلا أن ما كانوا
أخذوا قبل أن يلقوهم، فهو سالم لهم، ولا يحل أن يتعرضوا لشئ
بعد ذلك.
لانهم حين خلوا سبيلهم بناء على ما أظهروا فكأنهم آمنوهم الآن.
وذلك يحرم عليهم التعرض لهم في المستقبل، ولا يلزمهم رد شئ مما أصابوا
قبل ذلك.
779 - ولو كانوا تشبهوا بالروم ولبسوا لباسهم، فلما قالوا لهم:
من أنتم؟ قالوا: نحن قوم من الروم كنا في دار الاسلام بأمان.
وانتسبوا لهم إلى من يعرفونه من أهل الحرب، أو لم ينتسبوا، فخلوا (1)
سبيلهم. ولا بأس بأن يقتلوا من يقدرون عليه منهم ويأخذوا الأموال.
لان ما أظهروا لو كان حقيقة لم يكن بينهم وبين أهل الحرب أمان.
فان بعضهم ليس في أمان من بعض حتى لو استولى عليه أو على ماله بملكه،
وإذا أسلم عليه كان سالما له. يوضحه أنهم ما خلوا سبيلهم بناء على استئمان

(1) ق " فخلى ".
508

منهم صورة أو معنى، وإنما خلوا سبيلهم على بناء أنهم منهم. فهذا وقولهم:
نحن منكم، سواء.
780 - وكذلك لو أخبروهم أنهم قوم من أهل الذمة أتوهم
ناقضين للعهد مع المسلمين، فأذنوا لهم في الدخول. فهذا والأول سواء.
لانهم خلوا سبيلهم على أنهم منهم، وأن الدار تجمعهم، والانسان
في دار نفسه لا يكون مستأمنا.
واستدل عليه بحديث عبد الله بن أنيس المتخصر (1) في الجنة حين
قال لسفيان بن عبد الله: جئت لأنصرنك وأكثرك وأكون معك.
ثم قتله. فدل أن مثل هذا لا يكون أمانا.
وقد بينا تفسير المتخصر فيما سبق (2).
ومما يبين ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خير العاملين
في الدنيا بعد الأنبياء والمرسلين المتخصرون (3) ".
يعنى الذين يعملون في الدنيا من الطاعات ما يعتمدون عليها في الجنة
وينالون بها من الدرجات، كما يتوكأ الرجل على عصاه في الدنيا يضعه (4)
على خاصرته.

(1)
ب، ق " المحتضر " خطأ. وفى هامش ق " المختصر نسخة " " المتخصر. نسخة "
ثم ما يلي: " وقيل التخصر أخذ مخصرة أو عصا باليد يتكأ عليها. ومنه قوله عليه السلام لابن أنيس
وقد أعطاه عصا: " تخصر بها فان المتخصرين في الجنة قليل. " ولقب بذلك. ونقل عبد الله المختصر
الجنة.. مغرب ".
(2) انظر الجزء الأول ص 269.
(3) ب " المختصرون ".
(4) ه‍ " في الدنيا بعضه بعضا على خاصرته ".
509

781 - ولو أن رهطا من المسلمين كانوا أسراء في أيديهم، فخلوا
سبيلهم، لم أر بأسا أن يقتلوا من أحبوا منهم، ويأخذوا الأموال ويهربوا
إن قدروا على ذلك.
لانهم كانوا مقهورين في أيديهم، وقبل أن يخلوا سبيلهم، لو قدروا
على شئ من ذلك كانوا متمكنين منه. فكذلك بعد تخلية سبيلهم. لانهم
ما أظهروا من أنفسهم ما يكون دليل الاستئمان، وما خلوهم على سبيل إعطاء
الأمان بل على وجه قلة المبالاة بهم والالتفات إليهم.
782 - وكذلك لو قالوا لهم: قد آمنا كم فاذهبوا حيث شئتم.
ولم تقل الاسراء (ص 171) شيئا.
لأنه إنما يحرم عليهم التعرض لهم بالاستئمان صورة أو معنى، فبه
يلتزمون الوفاء ولم يوجد منهم ذلك. وقول أهل الحرب لا يلزمهم شيئا
لم يلتزموه.
783 - بخلاف ما إذا جاءوا من دار الاسلام فقال لهم أهل
الحرب: ادخلوا فأنتم آمنون.
لان هناك جاءوا عن اختيار مجئ المستأمنين، فإنهم حين ظهروا لأهل
الحرب في موضع لا يكونون ممتنعين منهم بالقوة. فكأنهم استأمنوهم وإن
لم يتكلموا به. وأما الاسراء فحصلوا في دارهم مقهورين لا عن اختيار منهم،
فلا بد للاستئمان من قول أو فعل يدل عليه.
784 - ولو أن قوما منهم لقوا الاسراء فقالوا: من أنتم؟ فقالوا:
510

نحن قوم تجار دخلنا بأمان أصحابكم. أو قالوا: نحن رسل الخليفة. فليس
ينبغي لهم بعد هذا أن يقتلوا أحدا منهم.
لانهم أظهروا ما هو دليل الاستئمان. فيجعل ذلك استيمانا منهم،
فلا يحل لهم أن يغدروا بهم بعد ذلك.
ما لم يتعرض لهم أهل الحرب.
785 - فإن علم أهل الحرب أنهم أسراء فأخذوهم ثم انفلتوا منهم
حل لهم قتالهم وأخذ أموالهم.
لان حكم الاستئمان إليهم يرتفع بما فعلوا. ألا ترى أن المستأمنين لو غدر
بهم ملك أهل الحرب فأخذ أموالهم وحبسهم، ثم انفلتوا، حل لهم قتل أهل
الحرب وأخذ أموالهم؟ باعتبار أن ذلك نقض للعهد من ملكهم.
786 - وكذلك لو فعل ذلك بهم رجل بأمر ملكه أو بعلمه ولم
يمنعه من ذلك. فإن السفيه إذا لم ينه مأمور.
فأما إذا فعلوا بغير علم الأمير أو علم جماعتهم لم يحل للمستأمنين أن
يستحلوا حريم القوم بما صنع هذا بهم.
لان فعل الواحد من عرضهم (1) لا يكون نقضا للعهد بينهم وبين
المستأمن، فإنه لا يملك ذلك وإنما هذا ظلم منه إياهم، فيحل لهم أن ينتصفوا منه
باسترداد عين ما أخذ منهم أو مثله إن قدروا على ذلك. ولا يحل لهم أن يتعرضوا
له بشئ سوى هذا، لان الظالم لا يظلم ولكن ينتصف منه بالمثل فقط.

(1) يقال هو من عرض الناس أي من عامتهم (القاموس).
511

787 - ولو كان الاسراء قالوا لهم حين أخذوهم: نحن قوم منكم:
فخلوا سبيلهم. حل لهم قتلهم وأخذ أموالهم.
لما بينا أن ما أظهروه ليس باستئمان.
788 - وكذلك لو كانوا أسلموا في دار الحرب فهم بمنزلة
الاسراء في جميع ما ذكرنا.
لان حصولهم في دار الحرب لم يكن على وجه الاستئمان.
789 - ولو كان الذين لقيهم أهل الحرب من المسلمين قالوا:
نحن قوم من برجان جئنا من أرض الاسلام بالأمان. آمننا بعض
مسالحكم لنلحق ببلادنا. فخلوا سبيلهم، لم يحل لهم أن يعرضوا بعد هذا
لأحد منهم.
وبرجان هذا اسم ناحية وراء الروم (1)، بين أهلها وبين أهل الروم
عداوة ظاهرة. ولا يتمكن بعضهم من الدخول على بعض إلا بالاستئمان.
فما أظهروه بمنزلة الاستئمان. ألا ترى أن ذلك لو كان حقا لم يحل لهم أن
يتعرضوا لهم؟
790 - فكذلك إذا أظهروا ذلك من أنفسهم. ما لم يرجعوا إلى
بلاد المسلمين. فإن. رجعوا فقد انتهى حكم ذلك الاستئمان وإذا دخلوا
دارهم بعد ذلك حل لهم أن يصنعوا بهم ما قدروا عليه.

(1) انظر معجم البلدان. قال: بلد من نواحي الخزر.
512

لانهم الآن بمنزلة المتلصصين فيهم، سواء علموا برجوعهم أو لم يعلموا. لان رجوعهم إنما يخفى على أهل الحرب لتقصير منهم في حفظ حريمهم،
بخلاف الوقوف على حقيقة الحال فيما سبق.
791 - ولو أن المسلمين أخذوا أسراء من أهل الحرب فأرادوا
قتلهم. فقال رجل منهم: أنا مسلم. فلا ينبغي لهم أن يقتلوه حتى يسألوه
عن الاسلام. لا لأنه سيصير (1) مسلما بهذا اللفظ، ولكن بظاهر
قوله تعالى (ص 172): (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست
مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا) (2).
ولأنه تكلم بكلام مبهم فيستفسر. وليس من الاحتياط المبادرة إلى قتله
قبل الاستفسار.
792 - فإن وصف الاسلام حين سألوه عنه فهو مسلم لا يحل
قتله. وهو فئ إلا أن يعلم أنه كان مسلما قبل ذلك.
لان هذا منه ابتداء الاسلام لما لم يعرف إسلامه قبل هذا. وذاك يؤمنه
من القتل دون الاسترقاق.
793 - فإن كان عليه سيماء المسلمين، وأكبر (3) الظن من
المسلمين أنه كان مسلما، فهذا منزلة العلم بإسلامه، حتى يجب تخلية سبيله

(1) ه‍، ق " يصير ".
(2) سورة النساء، 4، الآية 94.
(3) غير منقوطة في ص. ق " أكثر "، ه‍، ب " أكبر ".
513

لان أكبر الرأي بمنزلة اليقين فيما بنى أمره على الاحتياط، وفيما يتعذر
الوقوف فيه على حقيقة الحال.
794 - ولو قال: لست بمسلم، ولكن ادعوني إلى الاسلام حتى
أسلم، لم يحل قتله أيضا.
لان النبي صلى الله عليه وسلم قال: " فادعوهم إلى شهادة أن لا إله
إلا الله ". فكان لا يقاتل قوما حتى يدعوهم. ولو أردنا قتال قوم لم تبلغهم
الدعوة لا ينبغي (1) لنا أن نقاتلهم حتى ندعوهم. وربما يجيبون وربما يمتنعون.
فهذا الذي طلب منا أن ندعوه وأظهر من نفسه الإجابة إلى ذلك أولى
أن لا يحل قتله قبل الدعاء إلى الاسلام.
795 - ولو قال: أنا مسلم. فاستوصف الاسلام فأبى أن يصفه،
فإنه ينبغي للمسلمين أن يصفوا الاسلام، ثم يقولوا له: أنت على
هذا؟ فإن قال: نعم. فهو مسلم. وإن قال: لست على هذا، أو قال:
ما أعرف هذا الذي تقولون، فهو حلال الدم. إلا أن الأولى أن يقول
له الامام: أتدخل في هذا الذي دعوناك إليه؟ فإن قال: نعم. لم نقتله،
وكان فيئا. وإن قال: لا، فحينئذ يضرب عنقه.
وبهذا الفصل يتبين الجواب في مسألة الزوجة والجارية أنه إذا استوصفها
الاسلام فلم تحسن أن تصفه ينبغي له أن يصف الاسلام بين يديها ويقول:
أنا على هذا، وظني بك أنك على هذا. فان قالت: نعم. فذلك يكفي،
وتكون مسلمة يحل له وطئها بالنكاح والملك (2).

(1) ه‍ " لم لا ينبغي "، ب " لم ينبغي "، ق " لم ينبغ ".
(2) زيادة في ق " والله الموفق للصواب وعليه المستعين "، ب، ه‍ " والله أعلم ".
514

61 باب أمن الرسول والمستأمن
إذا خيف أن يدل على بعض عورات المسلمين
796 - ولو أن رسول ملك أهل الحرب جاء إلى عسكر المسلمين
فهو آمن حتى يبلغ رسالته بمنزلة مستأمن جاء للتجارة
لان في مجئ كل واحد منهما منفعة للمسلمين.
797 - فإن أرادا الرجوع فخاف الأمير أن يكونا قد رأيا
للمسلمين عورة فيدلان عليها العدو، فلا بأس بأن يحبسهما عنده حتى
يأمن من ذلك.
لان في حبسهما نظرا للمسلمين ودفع الفتنة عنهم. وإذا جاز حبس
الداعر (1) لدفع فتنته وإن لم نتحقق منه خيانة (2) فلان يجوز حبس هذين أولى.
798 - فإن قالا للامام: خل سبيلنا وإنا عندك بأمان. لم ينبغ له
أن يخلي سبيلهما.

(1) في هامش ق " الداعر الخبيث المفسد. مصدره الدعارة. مغرب " وفى ه‍، ب " الداعي "
خطأ.
(2) ب " جناية ".
515

لان الظاهر أنهما يدلان العدو على ما رأيا من العورة. فان اعتقادهما
يحملهما على ذلك. وأيد هذا الظاهر قوله تعالى (لا يألونكم خبالا) (1).
799 - وإن قالا: نحلف أن لا نخبر بشئ من ذلك. لم يصدقهما
في ذلك.
لان اليمين إنما تكون حجة لمن شهد الظاهر له. والظاهر هنا يشهد بخلاف
ما يقولان. فلا يلتفت إلى يمينهما. وأيد هذا قوله تعالى (إنهم لا أيمان لهم) (2)
أي لا أيمان يجوز الاعتماد عليها فيما يرجع إلى الاضرار (3) بالمسلمين. وهذه
اليمين بهذه الصفة فلا يجوز للامام أن يعتمدها، ولكنه يحبسهما عنده حتى يأمن.
إلا أنه لا ينبغي له أن يقيدهما ولا أن يغلهما.
لان فيه تعذيبا لهما، وهما في أمان منه، فلا يكون له أن يعذبهما ما لم
يتحقق منهما خيانة.
فان قيل: ففي الحبس (ص 173) تعذيب أيضا.
قلنا: لا نعنى بقولنا يحبسهما الحبس في السجن. فان ذلك تعذيب.
وإنما نعنى به أنه يمنعهما من الرجوع ويجعل معهما حرسا يحرسونهما. وليس
في هذا القدر تعذيب لهما بل فيه نظر للمسلمين. ولئن كان فيه نوع تعذيب
من حيث الحيلولة بينهما وبين وطنهما فالمقصود دفع ضرر هو أعظم من ذلك.
وإذا لم نجد بدا من إيصال الضرر إلى بعض الناس، ترجح أهون الضررين
على أعظمهما.
ثم هذا المقصود يحصل بحرس يجعله معهما. فليس له أن يعذبهما فوق
ذلك بالتقييد.

(1) سورة آل عمران، 3، الآية 118.
(2) سورة التوبة، 9، الآية 12.
(3) ب " الضرر ".
516

فان حضر قتال وشغل عنهما الحرس وخاف انفلاتهما فلا بأس بأن
يقيدهما حتى يذهب ذلك الشغل.
لان هذا موضع الضرر.
فإذا ذهب ذلك الشغل حل قيودهما لان الثابت بالضرورة يتقدر بقدرها.
800 - وإن سار الامام راجعا إلى دار الاسلام فله أن يذهب
بهما معه حتى يبلغ الموضع الذي يأمن فيه مما يخاف عنهما، ثم يخلى
سبيلهما.
لان النظر للمسلمين دفع الفتنة عنهم في ذلك. 801 - فإن لم يأمن منهما حتى يدخل أرض الاسلام لم يخل
سبيلهما حتى يدخل أرض الاسلام.
لان الفتنة في تخلية سبيلهما في دار الحرب تعظم عسى. وعلى الامام
أن يتحرز ويجتهد لدفع ذلك عن نفسه وعن العسكر.
فإن أبيا أن يبرحا مكانهما أكرههما على ذلك.
لان في موضع النظر للامام ولاية الاكراه. ألا ترى أنه إذا وقع النفير
عاما كان له أن يجبر الناس على الخروج؟ وفى نظيره قال عمر رضي الله عنه:
" لو تركتم لبعتم أولادكم ".
802 - فإن وصل إلى مأمنه من دار الاسلام ثم أمرهما
بالانصراف فسألاه أن يعطيهما ما لا يتجهزان به إلى بلادهما فإنه ينبغي
517

له أن يعطيهما من النفقة ما يبلغهما إلى المكان الذي أبيا أن
يصحباه منه (1).
لأنه جاء بهما مكرهين من ذلك الموضع، فعليه أن يردهما إليه. وكان
ذلك منه نظرا للمسلمين، فتكون تلك المؤنة من بيت مال المسلمين بمنزلة
نائبة تنوب المسلمين.
803 - وفيما يجاوز ذلك قد أتيا اختيارا منهما، فلا يعطيهما
للرجوع نفقة، وإنما يعطى هذه النفقة من بيت المال إذا لم تصب الجند
غنيمة، أو أصابوها واقتسموها. فأما إذا أصابوا غنيمة ولم تقسم بعد
فإنه يعطيهما النفقة من تلك الغنيمة.
لأنه أكرههما على ذلك نظرا منه للجند خاصة. فتكون المؤنة من مال
هو حق للجند، بمنزلة ما لو استأجر لحمل الغنايم أو سوقها أو حفظها.
804 - وكذلك إذا منعهما من الرجوع وأكرههما على
المقام معه.
فإنه ينبغي أن ينفق عليهما من غنايم المسلمين.
805 - وإذا حملهما من ذلك الموضع مع نفسه على الدواب من
غنايم المسلمين.
لأنهما آمنان عنده. والتحرز عن الغدر واجب. فإذا حبسهما لمنفعة
الغانمين أنفق عليهما من أموالهم بمنزلة العامل على الصدقات يعطى الكفاية من

(1) ه‍، ب " أن يصحبا معه " وفى هامش ق " يصحبا معه. نسخة ".
518

مال الصدقة. والمرأة إذا كانت محبوسة عند الزوج لحقه استوجبت (1)
النفقة عليه.
806 - فإن أراد تخلية سبيلهما بعد ما أمن، وكان هو في موضع
يخافان فيه، فينبغي له أن ينظر لهما ولا يخلى سبيلهما إلا في موضع
لا يخاف عليهما فيه.
لأنهما تحت ولايته وفى أمانه. وهو مأمور يدفع الظلم عنهما. فكما
ينظر للمسلمين بما يزيل الخوف عنهم فكذلك ينظر لهما.
أرأيت (ص 174) لو حملهما معه في البحر، فلما انتهى إلى جزيرة
أمن فيها، أينبغي له أن يتركهما في تلك الجزيرة؟ لا، ولكن يحملهما إلى
موضع لا يخاف عليهما فيه الضيعة (2)، ثم يعطيهما ما يكفيهما لجهازهما وحملانهما.
807 - وإن كانا لا يأمنان من اللصوص فينبغي له أن يرسل
معهما قوما يبلغونهما مأمنهما.
لان ذلك على الامام ولكنه ربما لا يقدر على مباشرته بنفسه فيستعين
عليه بقوم من المسلمين.
808 - فإن كانا لا يبلغان مأمنهما حتى يبلغا موضعا يخاف فيه
الذين أرسلوا معهما، فإنه ينبغي يرسل أن معهما إلى أبعد موضع يأمن
فيه أهل الاسلام، ثم يخلى سبيلهما. ليس عليه غير ذلك.

(1) فوق هذه الكلمة في ق " استحقت ".
(2) ق " الصنيعة " خطأ.
519

لان فيما وراء ذلك تعريض المسلمين للهلاك، وذلك لا يحل له لدفع
الخوف عن المشركين. ثم إن أجبر المسلمين على أن يذهبوا معهما إلى الموضع
الذي يخافون فيه فقتلوا كان هو الساعي في دمهم. وإن تركهما ليذهبا فأصيبا
لم يكن هو ساعيا في دمهما. فكان هذا أهون الامرين والله أعلم.
520

62 باب أهل الحصن يؤمنهم الرجل من المسلمين
على جعل أو غير جعل
809 - وإذا حاصر المسلمون حصنا وفيها أسير من المسلمين
فآمنهم، ثم جاء بهم ليلا حتى أدخلهم المعسكر فهم (1) فئ للمسلمين.
لان الذي أمنهم كان مقهورا غير ممتنع منهم، وأمان مثله باطل. ولأنه
ما قصد بهذا الأمان النظر للمسلمين، وإنما قصد تخليص نفسه ولو صححنا
أمان مثله لم يتوصل المسلمون إلى فتح الحصن من حصونهم قهرا، فقل ما يخلو
حصن عن أسير فإذا أيقنوا بالفتح أمروا الأسير حتى يؤمنهم، وإن لم يكن
فيهم أسير، أمروا رجلا منهم حتى يسلم ثم يؤمنهم فيكون حكمه وحكم
الأسير سواء فلأجل هذه المعاني قلنا: هم جميعا فئ (2) للمسلمين.
810 - وفى القياس لا بأس بقتل رجالهم.
لان الأمان الباطل لا يحرم القتل، كما لو حصل من صبي لا يعقل أو من
كافر، ولكنه استحسن وقال:
لا ينبغي للامام أن يقتل رجالهم.
لوجهين:

(1) ه‍ " فيهم " خطأ.
(2) ق " فيئا ".
521

أحدهما:
أن ظاهر قوله عليه السلام " يسعى بذمتهم أدناهم " الحديث يعم الأسير
وغيره وهذا الظاهر وإن ترك العمل به لقيام الدليل بنفي (1) شبهة فيما يندرئ
بالشبهات بمنزلة قوله: أنت ومالك لأبيك.
والثاني:
أن القوم إنما جاءوا إلى المعسكر للاستئمان لا للقتال فإنهم جاءوا باعتبار
أمان الأسير إياهم، وقد بينا أن المحصور إذا جاء على هيئة يعلم أنه تارك للقتال
بأن ألقى السلاح ونادى بالأمان وجاء فإنه يأمن القتل. فهؤلاء أيضا يأمنون
من القتل ولكنهم (2) لا يأمنون من الاسترقاق، فنخمسهم ونقسمهم بين
الغانمين.
وكذلك لو كان الذي أمنهم مستأمنا فيهم، أو كان رجلا منهم أسلم
فالمعنى يجمع الكل.
811 - ولو أمنهم مسلم من أهل العسكر فأمانه جائز.
لأنه آمن منهم، ممتنع في عسكره فأمانه كأمان جماعة المسلمين.
812 - فإن لم يخرجوا من حصنهم بعد نبذ الامام إليهم،
ثم قاتلهم كما لو كان هو الذي أمنهم بنفسه، ثم رأى النظر في قتالهم،
فإن خرجوا إلى المعسكر وقالوا: آمننا فلان، لم نصدقهم على ذلك حتى
يشهد عدلان من المسلمين (3).

(1) ق " يبقى ".
(2) ق " ولكن ".
(3) في ه‍ زيادة " على ذلك ".
522

لانهم صاروا فيئا باعتبار الظاهر، وقد ادعوا ما يسقط حق المسلمين
عنهم فلا بد من شاهدين (ص 175) عدلين من المسلمين على ذلك
ولا يقبل قول ذلك الرجل: إني آمنتهم.
لأنه يخبر بما لا يملك استئنافه (1)
وكذلك لو شهد هو مع رجل آخر.
لأنه يشهد على فعل نفسه (2) ولا شهادة للمرء على فعل نفسه (2)
813 - فإن شهد عدلان سواء، وجب تبليغهم مأمنهم.
لان الثابت بالبينة كالثابت معاينة
814 - وإن لم تكن لهم بينة إلا قول ذلك الرجل، كانوا فيئا.
إلا أنه لا يقتل رجالهم (3) استحسانا للشبهة التي تمكنت (4) فان ذلك
الرجل أخبر بحرمة قتلهم، وهو محتمل للصدق، وحرمة القتل من أمر الدين،
وخبر الواحد في أمر الدين حجة، وإن لم يكن حجة في إلزام الحكم فلهذا
لا يقتلون
815 - ولو كان المسلم آمنهم على ألف دينار أخذها منهم،
ثم علم بذلك الامام وهم في حصنهم، فهو بالخيار.

(1) ب " استيفاؤه ".
(2) في هامش ق " على فعله. نسخة " وهي كذا في ب.
(3) ساقطة من ق.
(4) في هامش ق " التي تمكنت. نسخة ".
523

إن شاء أجاز أمانه ولم يتعرض (1) لهم حتى يخرج من دار الحرب،
وأخذ الدنانير، فكانت فيئا للمسلمين.
لان الامام لو رأى النظر في إنشاء الأمان بهذه الصفة كان له أن يفعله.
فكذلك إذا رأى النظر في أن يجيز أمان غيره
ثم المال مأخوذ بقوة العسكر فيكون فيئا لهم
وإن شاء رد عليهم الدنانير للتحرز عن الغدر ثم نبذ إليهم وقاتلهم.
بمنزلة ما لو آمنهم بنفسه على هذا الوجه.
816 - وإن كانوا دخلوا عسكر المسلمين حين صالحهم الرجل
أو خربوا حصنهم فإن للامام أن يأخذ ألف دينار فيجعلها فيئا
للمسلمين.
لان معنى النظر ههنا متعين في إجازة ذلك الصلح، فإنهم آمنون في
العسكر ولا سبيل للامام عليهم حتى يبلغهم مأمنهم وإن رد الدنانير عليهم
فعرفنا أن في أخذ الدنانير منفعة للمسلمين. وهو نظير العبد المحجور عليه
يؤاجر نفسه ويسلم من العمل.
817 - وإذا قسم الدنانير بين الغانمين قال لهم: الحقوا حيث
شئتم من بلاد أهل الحرب. ولا يعرض لهم حتى يبلغوا مأمنهم.
فيتم به الوفاء لما شرط لهم في الصلح.
818 - وإذا فتح المسلمون الحصن فقال رجل منهم: إني كنت

(1) ب " يعرض ".
524

صالحت القوم قبل فتح الحصن على هذه الألف دينار. وصدقه أهل
الحصن بذلك، فإن الامام ينظر في ذلك، فإن كان خيرا للمسلمين أن
يصدقه صدقه وأخذ منه الدنانير وأمرهم أن يلحقوا بمأمنهم، وإن كان
خيرا للمسلمين أن يكذبه كذبه ولم يعرض للدنانير وجعلهم فيئا.
لأنه نصب ناظرا للمسلمين. فينظر ما يكون أنفع للمسلمين فيعمل به.
ألا ترى أنه لو رأى النظر للمسلمين في أن يمن عليهم، كان له أن يفعل
ذلك. فهذا مثله.
إلا أنه لا يقتل رجالهم على كل حال للشبهة التي دخلت باخبار الرجل
أنه آمنهم.
819 - وإن كان حين أخبر الرجل بهذا كانوا ممتنعين في حصنهم
فهم آمنون، والامام بالخيار.
كما بينا فيما إذا أنشأ لهم الأمان في هذه الحالة. فان الاخبار به في حق
المسلمين بمنزلة الانشاء. والله أعلم.
525

63 باب ما يكون أمانا وما لا يكون
على شرط يشترطه
820 - وإذا قال رجل من المحصورين: آمنوني حتى أنزل إليكم
على أن أدلكم على مئة رأس (1) من السبي في موضع. فآمنوه على ذلك.
فلما نزل أتى بهم ذلك الموضع فإذا ليس فيه أحد، فقال: قد كانوا هاهنا،
فذهبوا، ولا أدرى أين ذهبوا. (ص 176) فإنه ينبغي للمسلمين أن
يردوه إلى مأمنه إن لم يفتحوا الحصن. فإن افتتحوا الحصن (2) فعليهم
أن يبلغوه مأمنه من أرض الحرب.
لأنه حصل أمنا في المعسكر، فان الأمان شرط يثبت بوجود القبول
ولا يتأخر إلى أداء (3) المقبول، بمنزلة العتق بجعل (4). فإنه لو أعتق عبده
على أن يؤدى إليه ألف درهم فقبل كان العتق واقعا، وإن لم يؤد.
821 - فهاهنا الأمان يثبت له أيضا إذا نزل عن منعته، على أن

(1) ب " ارؤس ".
(2) ه‍، ق " وان افتحوا فعليهم ". ب " فان افتحوه فعليهم ".
(3) ه‍ " ولا يتأخر إذ المقبول ".
(4) ه‍ " يجعل فيه ".
526

يدل. فسواء وفى بما قال أو لم يف كان هو في أمان من المسلمين
فيبلغوه مأمنه.
فإن قال المسلمون: إنما آمناه على أن يدلنا ولم يف بالشرط، قيل
لهم: إنه لم يقل لكم إني إن لم أدلكم فلا أمان بيني وبينكم.
وهذا تنصيص من محمد، رحمه الله، على أن مفهوم الشرط ليس
بحجة، وهو المذهب عندنا. وقد حكاه الكرخي عن أبي يوسف رحمه الله
في قوله تعالى (ويدرأ عنها العذاب أن تشهد) (1) أنه لا يدل على أنه لا يدرأ
عنها العذاب إن لم تشهد. وقال تعالى (فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة) (2).
وهذا لا يدل على أنها إذا أتت بالفاحشة ولم تحصن أنه لا يلزمها ذلك
العذاب. وهذا لان مفهوم الشرط كمفهوم الصفة. وذلك ليس بحجة. قال
الله تعالى (وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك) (3) ثم لم يدل
على حرمة (4) اللاتي لم يهاجرن معه. وقال تعالى (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) (5)
وهذا لا يدل على إباحة الظلم في غير الأشهر (6) الحرم. فكذلك قولهم: آمناك
على أن تدلنا لا يكون دليلا على أنه لا أمان لك إن لم تدلنا، لان ذلك محتمل،
والمحتمل لا يعارض المنصوص ولا يدفع حكمه، إلا أن ينص فيقول: على
أنى إن لم أدلكم عليهم فلا أمان بيني وبينكم. فحينئذ هذا نص يصلح معارضا
لذلك النص. وفى النبذ حل القتل والاسترقاق وذلك من باب الاطلاق يحتمل التعليق

(1) سورة النور، 24، الآية 8
(2) سورة النساء، 4، الآية 25
(3) سورة الأحزاب، 33، الآية 50.
(4) ب " عدم حرمة ".
(5) سورة التوبة، 9، الآية 36.
(6) ب " أشهر ".
527

بالشرط، فإذا لم يدل لم يكن له أمان، وللامام الخيار إن شاء قتله وإن شاء
جعله فيئا.
ونظير هذا ما لو كفل بنفس رجل إلى شهر لم يبرأ بمضي الشهر ما لم يسلم
نفس الخصم إليه. وإن قال: على أنى برئ من الكفالة بعد شهر كان على ما قال.
822 - ولو كان هذا الرجل أسيرا في أيدينا وقال: تؤمنوني
على أن أدلكم على مئة رأس، والمسألة بحالها، ثم لم يدلهم، فللامام
أن يقتله.
لأنه صار مقهورا في أيدينا، وحل للامام قتله واسترقاقه. وإنما علق
على إزالة ذلك عنه بالدلالة ولم يفعل.
ففي الأول كان في منعته، وإن كان محصورا فإنما نزل على أمان فأخذه
من المسلمين والتزم لهم بمقابلة ذلك دلالة فيها منفعة للمسلمين. فإذا لم يف
بما التزم كان على الامام أن يبلغه مأمنه، وفى الحقيقة لا فرق بين الفصلين،
فإنه إذا لم يدل عاد إلى ما كان عليه قبل هذا الالتزام في الوجهين، إلا أن هذا
الأسير، قبل هذذ الالتزام، كان مباح القتل والاسترقاق في أيدينا، فيعود
كما كان. والمحصور قبل هذا الالتزام، كان في منعته، فإذا لم يف بما التزم
وجبت إعادته إلى منعته كما كان.
823 - وإن كان المحصور قال: إني إن لم أدلكم كنت لكم
فيئا. أو قال: رقيقا، لم يف بالشرط. فهو فئ للمسلمين، وليس للامام
أن يقتله.
لأنه لو لم يقل هذه الزيادة كان آمنا من القتل والاسترقاق (ص 167)
وإن لم يف بالشرط. فهذه الزيادة دليل معارض الكلام (1) الأول في رفع

(1) ب " دليل يعارض الكلام "، ق " دليل على معارض الكلام " وفى هامشها " دليل
معارض. نسخة ".
528

حكمه. وإنما يعمل المعارض بحسب الدليل. ولأنه شرط إزالة ذلك الأمان
في حكم الاسترقاق خاصة دون القتل، وفى هذا الشرط منفعة، فيجب مراعاتها.
824 - وكذلك لو قال: على أنى إن لم أف كنت ذمة لكم.
فهو كما قال. وإذا لم يف بالشرط فهو ذمة لا يقتلونه ولا يسترقونه.
لان الوفاء بالشرط واجب.
825 - ولو قال آمنونا حتى يفتح لكم الحصن فتدخلون (1)،
على أن تعرضوا علينا الاسلام فنسلم. ثم أبوا أن يسلموا، فهم آمنون.
وعلى المسلمين أن يخرجوا من حصنهم حتى يعودوا ممتنعين كما كانوا،
ثم ينبذون إليهم.
لانهم استفادوا الأمان بقبول الشرط قبل الوفاء به. ثم لا يبطل حكم
الأمان بالامتناع من الوفاء بما وعدوا (2)، وبحكم الأمان يجب إعادتهم إلى
مأمنهم، ثم النبذ إليهم.
826 - فإن شرط المسلمين عليهم: إنكم إن أبيتم الاسلام
فلا أمان بيننا وبينكم. فرضوا بذلك، والمسألة بحالها، فلا بأس
باسترقاقهم وقتل المقاتلة منهم إذا أبوا أن يسلموا.
لان الشرط هكذا كان، وفيما يجرى بيننا وبينهم الواجب الوفاء
بالشرط فقط. والدليل عليه حديث بنى (3) أبى الحقيق حيث قال رسول الله:

(1) ق " فتدخلوا ".
(2) ق " عما وعدوا " وفى هامش ق " بما وعدوا. نسخة حصيري ".
(3) ص، ه‍، ب " ابن " أثبتنا رواية ق، انظر الجزء الأول ص 278 - 281
529

" وبرئت منكم الذمة (1) إن كتمتموني شيئا " فقبلوا ذلك. ثم ظهر ذلك
عليهم فاستخار قتلهم واسترقاقهم.
وقد بينا قصة ذلك.
وقد روى أن رجلا من المشركين بعد وقعة أحد حين رجع الجيش
ضل الطريق، فدخل المدينة، وجاء إلى بيت عثمان بن عفان رضي الله عنه
سرا. وكان بينهما قرابة. فأتى عثمان النبي صلى الله عليه وسلم وسأل له الأمان.
فقال: " قد آمناه على أنا إن أدركناه بعد ثالثة فقد حل دمه ". فخرج الرجل.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " اطلبوه، فإني أرجو أن تجدوه ".
فوجدوه بعد ثالثة، قد (2) سلط الله عليه النوم. فأخذ فقتل.
فبهذا تبين أن الشرط المنصوص عليه في الأمان معتبر وإن كان ذلك
يرجع إلى النبذ وإباحة القتل.
827 - ولو أسلم بعضهم وأبى البعض كان من أسلم منهم حرا
لا سبيل عليه، ومن أبى الاسلام فهو فئ اعتبارا للبعض بالكل.
وهذا لان الجميع المضاف إلى جماعة يتناول كل واحد منهم على الانفراد (3)
بدليل قوله تعالى (جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم) (4) فكان
هذا بمنزلة ما لو شرطنا على كل واحد منهم: إنك إن أبيت الاسلام فلا أمان
بيننا وبينك.
828 - وكذلك لو أن واحدا من المحصورين قال: آمنوني على
أن أنزل إليكم فأسلم. ثم أبى أن يسلم، يرد إلى حصنه.

(1) في هامش ق " ذمة الله ".
(2) ص، ه‍ " فقد ".
(3) ق، ه‍ " على الانفراد ".
(4) سورة نوح، 71، الآية 7.
530

لأنه آمن عندنا. وفى مثل حاله قال (تعالى وإن أحد من المشركين
استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه) (1).
829 - وإن شرطوا عليه: إنك إن أبيت الاسلام فلا أمان بيننا
وبينك، ثم أبى الاسلام. فهو فئ للمسلمين.
لان الشرط هكذا جرى بيننا وبينه.
830 - فإن جعله الامام فيئا بعد ما عرض عليه الاسلام فأبى،
ثم أسلم، لم يقبله بعد إسلامه ولكنه يجعله فيئا.
لان حكم ذلك الأمان انتهى حين أبى الاسلام بعد ما عرض عليه، ويبقى
هو أسيرا في أيدينا.
831 - فإذا أسلم لم يقتل وكان فيئا، وهذا إذا حكم عليه بأنه فئ
بعد ما أبى الاسلام.
832 - فإن جعل الامام يدعوه إلى الاسلام وهو يأبى إلا أنه
لم يحكم عليه (ص 178) بأنه فئ حين أسلم ففي القياس هو فئ.
لان شرط انتباذ الأمان قد تحقق بإبائه الاسلام، والمتعلق بالشرط يثبت
بوجود الشرط، وبمنزلة الطلاق والعتاق إذا علق بالشرط.
وفى الاستحسان هو حر مسلم.
لان الاباء متردد (2) محتمل قد يكون لكراهة الاسلام فهو إباء حقيقة.

(1) سورة التوبة، 9، الآية 6.
(2) ق " مسترد " وفوقها " متردد. نسخة ".
531

وقد يكون للتأمل فيه إلى أن تزول (1) الشبهة عن قلبه فلا تعين جهة الاباء
إلا بحكم الحاكم.
ألا ترى أنه إذا أسلم أحد الزوجين في دارنا فان الفرقة تتوقف على إباء
الآخر الاسلام. ثم لا يتحقق ذلك إلا بقضاء القاضي (2)، وكذلك النكول
في باب الأموال بمنزلة الاقرار شرعا، ولا يثبت ذلك إلا بقضاء القاضي (3).
733 - ولو لم يأب الاسلام ولكن قال: دعوني حتى أنظر في
أمرى، فإن الامام يؤجله ثلاثة أيام، لا يزيد على ذلك.
لان التأمل وإزالة الشبهة يحتاج إلى مدة، فإذا طلب ذلك من الامام
أجله (4) ثلاثة أيام. فإنها مدة تامة للنظر بدليل خيار الشرط.
والأصل فيه المرتد، فإنه إذا استمهل النظر في أمره أمهله ثلاثة
أيام. ورد به حديث عن عمر حين قدم عليه رجل من قبل أبى موسى
فسأله عن الناس فأخبره، ثم قال: هل عندكم من مغربة خبر - يعنى
أمر حادث وخبر غريب - فقال: نعم. رجل كفر بعد إسلامه.
فقال: ماذا فعلتم به؟ فقال: قربناه فضربنا عنقه. قال: فهلا طينتم عليه
بيتا ثلاثا وأطعمتموه كل يوم رغيفا وأسقيتموه، فلعله أن يتوب
ويراجع أمر الله (5)! اللهم إني لم أحضر، ولم آمر، ولم أرض إذ بلغني.

(1) ه‍ " يزول ".
(2) في ق، ه‍ زيادة " محتملا في نفسه "، ب، لكونه محتملا في نفسه "، ولا توجد في الأصل.
(3) ب، ه‍، زيادة " بكونه محتملا بنفسه "، ق " محتملا في نفسه ".
(4) فوق هذه الكلمة في ق " جعل له. نسخة ".
(5) ق، ه‍ " ويرجع إلى أمر الله "، وفى هامش ق " يراجع أمر الله. نسخة ".
532

وبظاهره يأخذ الشافعي، رحمه الله، ويقول: يجب تأجيله شرعا،
طلب ذلك أو لم يطلبه. فتأويله عندنا أنه كان استمهلهم فأبوا، فلهذا أنكره
عمر رضي الله عنه. وإذا كان المرتد الذي وقف على محاسن الشريعة يؤجل
ثلاثة أيام فهذا الذي لم يقف عليها (1) أصلا أحرى أن يؤجل.
834 - فإن سكت حين عرض عليه الاسلام ولم يجب بقبول
أو برد (2) فإن الامام يعرض عليه الاسلام ثلاث مرات ويخبره في كل
مرة أنه إن لم يجبه، حكم عليه أنه فئ.
وهذا لان سكوته إباء منه للاسلام. إلا أنه محتمل في نفسه فيكرر عليه
العرض ثلاث مرات لابلاء (3) العذر، ويخبره في كل مرة على سبيل الانذار.
فان أبى حكم عليه بأنه فئ. وهو بمنزلة الخصم إذا سكت عن الجواب في
مجلس القاضي جعله منكرا، وإذا سكت عن اليمين بعد ما طلب منه جعله
ناكلا، وعرض عليه اليمين ثلاثا وأخبره في كل مرة أنه يحكم عليه إن لم يحلف،
ثم يحكم بعد الثالثة.
835 - ولو كان قال: حين أراد النزول: آمنوني على أن تعرضوا
على الاسلام. فإن أسلمت فيما بيني وبين ثلاثة أيام وإلا فلا أمان بيني
وبينكم. ثم عرضوا عليه الاسلام، فله مهلة ثلاثة أيام ولياليها من حين
عرضوا عليه الاسلام.
لأنه شرط ذلك لنفسه. فإنه بين أنه يسلم بعد ما يعرض عليه الاسلام

(1) ه‍، ب " عليه ".
(2) ه‍، ب، ق " برد ".
(3) في هامش ه‍ " حقيقته جعلته باليا لعذري، أي خابرا له، عالما بكنهه. من بلاه
إذا خبره وجربه. مغرب ".
533

واستمهل في ذلك ثلاثة أيام. فعرفنا أن ابتداء المدة من ساعة العرض. وذكر
أحد العددين من الأيام والليالي بعبارة الجمع يقتضى دخول ما بإزالة من العدد
الآخر.
836 - فإن مضت المدة قبل أن يسلم كان فيئا، ولا حاجة إلى
حكم الحاكم.
لان الشرط هكذا جرى، فاشتراط الحكم عند الاطلاق ليتميز به
التأمل من الاباء، وقد حصل ذلك بالمدة هنا. ثم التوقيت نصا (1) يمنع أن
يكون لما بعد مضى الوقت حكم ما قبله، كما في الإجارة.
837 - وإن كان لم يقل: وإلا فلا أمان بيني وبينكم، والمسألة
بحالها، فإنه يرد إلى مأمنه بعد مضى ثلاثة أيام. (ص 179)
لان مدة ثلاثة أيام شرطه للتروي والنظر (2) لا للأمان. فبعد مضيها
يتحقق الاباء. ولكنه أمن حين لم يشترط عليه نبذ الأمان بعد الاباء، فيجب
تبليغه مأمنه من حصنه.
838 - وإن كانوا قد افتتحوا حصنه، بلغوه أدنى (3) مأمن له من
أرض الحرب، ثم حل قتاله.
839 - وإن كان قال: فإن أسلمت فيما بيني وبين ثلاثة أيام

(1) ق " أيضا " وفى هامشها " نصا. نسخة ".
(2) ب " مدة ثلاثة أيام شرطها للتروي والنظر ".
(3) ق " بلغوه في مأمن ".
534

وإلا كنت عبدا لكم. فإن أسلم فهو حر لا سبيل عليه، وإن مضت
المدة قبل أن يسلم كان فيئا يقسم مع الغنيمة ولا يقتل.
لان الشرط هكذا كان.
840 - وكذلك لو قال: وإلا كنت ذمة لكم. أو قال ذلك جميع
أهل الحصن، ثم مضت المدة قبل أن يسلموا، فهم ذمة للمسلمين.
كما التزموه بالشرط.
841 - ولو قال المحصور للمسلمين: تؤمنوني على أن أنزل إليكم
فأدلكم على قرية فيها مئة رأس. فقال المسلمون: إن دللتنا على قرية
فيها مئة رأس فأنت آمن. ورضى بذلك ونزل (1). ثم جاء بهم إلى قرية
لا شئ فيها. فقال: قد كانوا هنا وذهبوا. فهو فئ للمسلمين، وليس
له أن يقول: ردوني إلى مأمني بخلاف ما سبق.
لان المسلمين علقوا الأمان له بالشرط، وهو الدلالة. والمتعلق بالشرط
معدوم قبل الشرط، وفى الأول أوجبوا له الأمان على أن يدل، وقد قبل
ذلك. فيكون آمنا دل أو لم يدل.
ألا ترى أن من قال لعبده (2): أنت إن أديت إلى ألفا فأنت حر.
فقبل ذلك. فإنه لا يعتق ما لم يؤد.
ولو قال: أنت حر على أن تعطيني ألف درهم. فقبل فهو حر، أدى
أو لم يؤد. فكذلك ها هنا.

(1) في هامش ق " ثم نزل. نسخة ".
(2) في هامش الأصل " بلغ قراءة عليه أبقاه الله ".
535

842 - وكذلك لو قال له: إن نزلت وأسلمت فأنت آمن.
ثم نزل ولم يسلم فهو فئ.
لان قولهم فأسلمت معطوف على الشرط، فيكون شرطا. وإنما علقوا
أمانه بشرط أن يسلم. فإذا لم يسلم لم يكن له أمان.
843 - وإذا قالوا: أنت آمن على أن تنزل فتسلم. فهو آمن
بعد النزول قبل أن يسلم (1). فيجب أن تبلغه مأمنه وإن أبى الاسلام.
وعلى هذا لو قالوا: أنت آمن على أن تنزل فتعطينا مئة دينار،
فقبل ذلك ونزل، ثم أبى أن يعطى الدنانير، فإنه يكون آمنا. بخلاف
ما لو قالوا: إن نزلت فأعطيتنا مئة دينار فأنت آمن.
لان هنا الأمان معلق بشرط أداء الدنانير، وفى الأول بشرط أداء القبول.
844 - فإذا نزل وقبل، كان آمنا وكانت الدنانير عليه.
845 - فإذا أبى أن يعطيها أو قال: ليست عندي، حبس حتى
يؤديها (2) ولا يكون فيئا لأجل الأمان الثابت له. فمتى ما أعطى الدنانير
وجب تخلية سبيله، حتى يلحق بمأمنه.
846 - وإن أبى أن يعطيه حتى يخرجه الامام مع نفسه إلى دار
الاسلام ثم أعطاها يخلى سبيله حتى يرجع إلى مأمنه.

(1) ق " فهو حر قبل أن يسلم " وفى هامشها " فهو آمن بعد النزول قبل ان يسلم. أصل
نسخة. صححه ".
(2) ق " حتى يعطيها "، وفى هامشها " حتى يؤديها. نسخة ".
536

لأنه في أمان، وقد كان محبوسا في دين عليه، فإذا قضى الدين لم يبق
لنا عليه سبيل.
846 - وإن طال مكثه في دارنا ولم يعط الدنانير جعله
الامام ذمة.
لان الكافر لا يتمكن من إطالة المقام في دارنا بدون صغار الجزية،
ولأنه احتبس عندنا إلى أداء الدنانير، وهو ممتنع عنه أو عاجز عن الأداء.
والكافر إذا احتبس في دارنا تضرب عليه الجزية، بمنزلة الرهن.
847 - فإذا (1) جعله الامام ذمة أخرجه من الحبس وأبطل عنه
الدنانير.
لان تلك الدنانير كان التزمها عوضا عن أمان نفسه، أو كان قد افتدى
بها (2) نفسه ليلحق بمأمنه.
فإذا (3) كان الأمان (ص 180) فقد استفاد ذلك بأقوى السببين
وهو عقد الذمة أو الاسلام.
إن أسلم فيسقط عنه أداؤها، بمنزلة المكاتب إذا أعتقه المولى، أو أم
الولد إذا أعتقت بموت المولى وهي مكاتبة، يسقط بدل الكتابة (4) لوقوع
الاستغناء عن أدائها.
وإن كان فداء فقد انعدم المعنى الذي لأجله كان يفدى بها نفسه،
لأنه حين أسلم أو صار ذميا فقد صار من أهل دارنا ممنوعا من الرجوع إلى

(1) ق " فان " وفوقها " فإذا. نسخة ".
(2) ق، ه‍، ب " به ".
(3) ب " فان كان ذلك الأمان "، ه‍ " فإذا كان للأمان "، ق " فإذا كان ذلك للأمان ".
(4) في هامش ق " بدل المكاتبة. نسخة ".
537

دار الحرب، وإن أعطى الدنانير كغيره من أهل الذمة، وإنما كان يفدى بها
نفسه ليلحق بمأمنه.
فإن قيل: لماذا لم يجعل المال عليه عوضا عن رقبته، حتى يطالب به
بعد عقد الذمة بسلامة رقبته له؟
قلنا: لأنه لم يكن عبدا للمسلمين قط، وإنما يكون المال عوضا عن
رقبته إذا كان عبدا في وقت، فعتق (1) بذلك المال.
848 - وكذلك لو صالحوه على أن يعطيهم رأسا، فعليه رأس
وسط أو قيمته دراهم أو دنانير.
لان ما يلزمه بطريق الفداء لا يكون عوضا عن مال. والرأس المطلق
في مثله يثبت مقيدا بالوسط مترددا بين القيمة والعين، كما في بدل الخلع،
والصلح عن دم العمد.
849 - فإذا (2) أعطى ما التزم ولم يفتح حصنه بعد، فأراد أن
يذهب إلى موضع آخر، لم يمنع (3) من ذلك. وله أن يذهب حيث شاء
من أرض الحرب.
لأنا عرفنا أنه نزل من الحصن وفدى نفسه بالمال لا ليعود إلى الحصن (4)
بل ليأمن مما كان خائفا منه في الحصن. وإنما يتم له ذلك إذا تمكن من الذهاب
إلى حيث شاء من أرض الحرب.

(1) ق " يعتق ".
(2) ب " فان ".
(3) ق " فلم يمنع " وتحتها " لم يمنع. نسخة. صححه ".
(4) في هامش ق " ليعود للحصن. نسخة ".
538

850 - فإذا (1) بلغ مأمنه منها حل قتاله.
لان مقصوده قد تم حين وصل إلى منعة أخرى. فينتهي الأمان الذي
كان بينه وبين المسلمين.
إلا أن يكون قد اشترط على المسلمين أنه آمن منهم حتى يخرجوا
إلى دار الاسلام، أو كذا كذا شهرا (2). فحينئذ يجب الوفاء له بذلك
الشرط.
لأنا إنما نجعل الأمان منتهيا بيننا وبينه إذا وصل إلى مأمنه لدلالة الحال
وهو أنه كان خائفا محصورا، وإنما قصد إزالة ذلك الخوف عن نفسه،
ويسقط اعتبار دلالة الحال إذا جاء التصريح بخلافها (3).
851 - وإذا لم يذكر شيئا من هذه الشروط، ثم اختار الرجوع
إلى حصنه، فرجع حتى صار فيه ممتنعا، فقد خرج من أمان
المسلمين أيضا.
لأنه وصل إلى منعته باختياره، وذلك سبب لانتهاء الأمان. إلا أن
يكون شرط أنه آمن كذا كذا شهرا، أو حتى ينصرف المسلمون إلى دار
الاسلام، فحينئذ هو آمن.
وإن دخل الحصن (4) لبقاء مدة الأمان، بمنزلة ما لو التحق بمنعة
أخرى.

(1) في هامش ق " فإنه إذا بلغ. نسخة ".
(2) في هامش ق " شهر. نسخة ".
(3) ب، ق " بخلافه ".
(4) في هامش ق " دخل على حصن. نسخة ".
539

852 - فإن ظهر المسلمون على الحصن خلوا سبيله لبقاء مدة الأمان.
إلا أن يكون قاتل المسلمين حين رجع إلى الحصن. فحينئذ يكون فيئا.
لأنه بمباشرة القتال في مأمنه يصير ناقضا للأمان (1) الذي كان له منا،
ولا حكم للأمان بعد النقض في حرمة القتل والاسترقاق.
853 - وإن قال (2) للمسلمين: آمنوني على أن أنزل إليكم
فأعطيكم مئة دينار، فإن لم أعطكم فلا أمان بيني وبينكم. أو قال: إن
نزلت إليكم فأعطيتكم مئة دينار فأنا آمن. ثم نزل فطالبوه فأبى أن
يعطيهم. فهو فئ في القياس.
لوجود شرط انتباذ الأمان في أحد الفصلين، وانعدام شرط الأمان
في الفصل الثاني (ص 181).
وفى الاستحسان لا يكون فيئا حتى يرفع (3) إلى الامام فيأمره (4)
بالأداء، وإن أبى حكم عليه بأن يجعله فيئا.
لما بينا أن في (5) امتناعه من الأداء لما (6) طلب منه (7) احتمال المعاني،
فلا تتعين جهة الاباء إلا بحكم الحاكم.
أرأيت لو قال لهم: لا أعطيكم وإنما أعطى الأمير. أو قال: لا أعطيكم
إلا بشهود. أكان فيئا بهذا الامتناع؟ ليعلم أن القول بالقياس في هذا قبيح.

(1) في هامش ق " ناقض الأمان ".
(2) ه‍، ق " فان قال " وفى هامشها " وإنه قال. نسخة ميرزا "، ب " وإن كان قال ".
(3) ق " يرجع ".
(4) ق " حتى يأمره "، وفى هامشها " إلى الامام فيأمره. نسخة ميرزا ".
(5) ساقطة من ق.
(6) ب، ق " كما ".
(7) ق " من ".
540

854 - ولو رفعوه إلى الامام فقال: هات (1) المئة الدينار: فقال:
أجلني فيها حتى أنحلها. (2) لها. فلا بأس للامام أن يؤجله يومين أو ثلاثة.
لأنه ليس في هذا القدر كثير ضرر على المسلمين، وفيه منفعة له،
والامام مأمور بالنظر في كل جانب.
ألا ترى أن من لزمه الدين إذا استمهل هذا القدر من المدة أمهله الحاكم
ولم يحبسه. فهذا الذي يفدى نفسه بالمال أولى بأن يمهله ولا يعجله.
855 - وإن كان قال (3): تؤمنوني على أن أنزل إليكم فأعطيكم رأسا أو مئة دينار ما بيني وبين ثلاثة أيام، فنزل فهو آمن، ولا سبيل
عليه حتى يمضى الوقت.
لأنه شرط هذه المدة (4) مهلة لنفسه. فلا يحبس قبل مضيها، كما
لا يحبس من عليه الدين المؤجل.
856 - فإن مضت (5) المدة فهو آمن لقبوله (6). ولكن يحبس
حتى يؤدى ما التزم به، إلا أن يسلم أو يصير ذمة، فحينئذ يبطل
المال عنه.
لما بينا من الطريقين فيه.

(1) في هامش ق " دفعوه. نسخة ميرزا ".
(2) ق، ه‍ " احتال " وفى هامش ق " أنحلها ". نسخة ميرزا ".
(3) ق " وإن قال ".
(4) ق، هذا الوقت أي المدة " وفى هامشها " هذه المدة. نسخة ".
(5) ه‍ " مضى المدة ".
(6) ق " بقبوله ".
541

857 - ولو قال: تؤمنوني على أن أعطيكم مئة دينار على أجل
كذا. فإن لم أعطكم فلا أمان بيني وبينكم. أو قال: إن أعطيتكم إلى
أجل كذا فأنا آمن. ثم لم يعطهم حتى مضى الاجل. فهو فئ، ولا حاجة
إلى قضاء القاضي هاهنا.
لأنه صرح باشتراط الوقت لنفسه (1)، فلا يزاد على الوقت الذي
صرح به. ولو (2) شرطنا قضاء القاضي بعد مضى الوقت كان زيادة على
الوقت. والزيادة على النص في معنى النسخ.
858 - ولو كان قال: تؤمنوني على أن أنزل فأدلكم على قرية
فيها مئة رأس (3)، على أنى إن لم أدلكم فلا أمان بيني وبينكم. ثم نزل
فدلهم على قرية فيها مئة رأس قد أصابها المسلمون قبل هذا الأمان
أو بعده، قبل نزوله أو بعد نزوله، قبل أن يدلهم. فليست هذه بدلالة.
فإن دلهم على غيرها وإلا كان فيئا.
وكذلك لو علم المسلمون بها قبل دلالته ولم يصيبوها.
لأنه التزم دلالة فيها منفعة للمسلمين. وذلك لا يوجد إذا دل على
ما كان معلوما للمسلمين.
ولان الدلالة إنما تتحقق إذا كان التوصل إلى المقصود بتلك الدلالة،
ووصول المسلمين إلى هذه القرية لم يكن بدلالته حين علموا بها قبل دلالته،
أصابوها أو لم يصيبوها.

(1) ه‍ " بنفسه ".
(2) ه‍ " لو " بلا واو قبلها.
(3) ه‍ زيادة " رأس من السبي ".
542

ألا ترى أن المحرم إذا دل على صيد كان (1) المدلول عالما بمكانه
لم يكن ملتزما للجزاء بهذه (2) الدلالة.
859 - ولو كانوا خرجوا (3) معه فدلهم على الطريق فجعلوا
يسيرون أمامه حتى عرفوا مكانها قبل (4) أن ينتهى إليها فيدلهم عليها.
فهذه دلالة، وهو آمن (5) لا سبيل لهم عليه.
لانهم إنما أخذوا في ذلك الطريق بدلالته. وإنما علموا بها حين أخذوا
في ذلك الطريق، فما يحصل لهم من العلم يكون مضافا إلى أصل السبب وهو دلالته.
ألا ترى أن دلالة المحرم على الصيد بهذا الطريق يتحقق حتى يلزمه جزاء
الصيد.
860 - وكذلك لو وصف لهم مكانها ولم يذهب معهم فذهبوا
بصفته حتى أصابوها فهو آمن.
لان الدلالة هكذا تكون. فان (ص 182) من يدل غيره على طريق
قد يذهب معه وقد لا يذهب (6)، ولكن يصف الطريق له فيصير معلوما
بدلالته، ويسمى دالا عليه في الوجهين.

(1) ب " قد كان ".
(2) ه‍ " بهذا ".
(3) ق " لو كا خرجوا " وفى هامشها " ولو كانوا خرجوا. نسخة ميرزا زاده ".
(4) ق " عرفوا مكانها، عرفوه قبل أن.. " وفى هامشها " عرفوا مكانها قبل أن. نسخة
ميرزا زاده.
(5) قوله " وهو آمن " لا يوجد في ق. وفى هامشها " وهو آمن لا سبيل لهم عليه. نسخة
ميرزا زاده. كذا من نسخة حصيري ".
(6) ق " وقد لا يكون يذهب " وفى هامشها " قد لا يذهب ولكن، نسخة ميرزا زاده ".
543

861 - وكذلك لو قال: آمنوني على أن أدلكم على بطريق
بأهله وولده، فإن لم أفعل فلا أمان لي عليكم. فلما نزل وجد المسلمين
قد أصابوا بطريقا فقال: هذا الذي أردت أن أدلكم عليه. فليس
هذا بشئ.
لأنه التزم الدلالة على بطريق منكر، حتى ينتفع المسلمون بدلالته.
ولا يحصل هذا المقصود بهذه الدلالة.
862 - وإن كان قال: على أن أدلكم على بطريق الحصن فإنه
قد نزل هاربا من الحصن. ثم لما نزل وجد المسلمين قد أصابوا ذلك
البطريق، فهو آمن لا سبيل عليه.
لأنه التزم الدلالة على معرف معلوم بعينه أو بنسبه، وقد دل عليه.
وهذا لان في المعين لا يعتبر الوصف وفى غير المعين يعتبر.
ألا ترى أن من قال: لا أكلم هذا الشاب، فكلمه بعد ما شاخ حنث
في يمينه. ولو قال: لا أكلم شابا، فكلم شيخا كان شابا وقت يمينه لم يحنث.
وحصول العلم للمسلمين بدلالته أو انتفاعهم بدلالته وصف معتبر في
المشروط. فإنما يعتبر في غير المعين، فأما في المعين فلا يعتبر شئ من ذلك.
863 - وعلى هذا لو التزم أن يدلهم على حصن أو مدينة فإن
لم يعينها لا تعتبر دلالته على ما يعلم المسلمون بها، وفى المعين يعتبر ذلك.
ثم في غير المعين لو دلهم على شئ من ذلك قد كانوا يعرفونه في دخلة
544

دخلوها أرض الحرب قبل هذه الدخلة إلا أن موضعها أشكل عليهم
في هذه المدة فهو آمن لا سبيل عليه.
لانهم توصلوا إليها بدلالته لا بما كان سبق من علمهم بها.
ألا ترى أن المحرم في مثل هذا يكون دالا على الصيد ملتزما للجزاء، ولان
المقصود دلالة فيها منفعة للمسلمين، وقد وجد، فإنهم انتفعوا بهذه الدلالة.
فأما علمهم الذي سبق فما كان يوصلهم إلى هذه المنفعة بعد ما اشتبه (1) عليهم
أو بعد ما نسوها. فيتحقق منه الوفاء بالشرط عند هذه الدلالة. والله أعلم (2).

(1) ق " اشتبهت " وفى هامشها " اشتبه. نسخة ميرزا زاده ".
(2) ق، ه‍، والله تعالى الموفق "، ب " والله الموفق ".
545

64 باب من يكون آمنا من غير أن يؤمنه أهل الاسلام
864 - ولو أن مسلما في دار الحرب تزوج منهم كتابية وأخرجها
لي دار الاسلام فهي حرة.
لا باعتبار أن النكاح أمان منه لها، فان أمان المسلم في دار الحرب باطل،
أسيرا كان أو تاجرا أو رجلا أسلم منهم، ولكن لأنها جاءت معه مجئ
المستأمنات. فإنها جاءت للمقام في دارنا مع زوجها، وهذه صفة المستأمنة.
فإن أرادت أن ترجع إلى دار الحرب لم يكن لها ذلك، لقيام النكاح بينها
وبين المسلم.
865 - ولو أن المستأمنة في دارنا تزوجت لمسلم صارت ذمية.
فكذلك إذا بقيت في دارنا بنكاح مسلم.
وهذا لأن المرأة تابعة للزوج في المقام، والزوج من أهل دارنا فتصير
هي من أهل دارنا تبعا.
866 - وإن قال الزوج: قهرتها في دار الحرب وأخرجتها قهرا.
وقالت المرأة: بل خرجت على النكاح ولم يقهرني. فهذا على ما يدل
عليه الظاهر. فإن جاء بها مربوطة فالظاهر شاهد للزوج. فيكون القول قوله
وهي له أمة.
546

وإن جاءت معه غير مربوطة فالظاهر يشهد لها فتكون حرة
ذمية، إلا أنه لا نكاح بينها وبين الزوج، لاقراره بما يبطل النكاح.
وهو الملك بطريق القهر. فإن إقرار الزوج بما ينافي النكاح يبطله.
كما لو زعم أن زوجته قد ارتدت وأنكرت هي، فإن أقام بينة
من المسلمين أو من أهل الذمة أنه قهرها في دار الحرب كانت أمة له.
لأنه أثبت سبب ملكه رقبتها بالحجة، وهي ذمية في الظاهر لاقرارها
إنها في نكاح مسلم في دار الاسلام (ص 183) وشهادة أهل الذمة على الذمية
تقبل.
867 - ثم إن كان المسلم مستأمنا في دار الحرب كره له ما صنع،
وأمر بأن يعتقها ويخلى سبيلها.
لأنه حين دخل عليهم بأمان فقد ضمن أن لا يغدر بهم، وأن لا يتعرض
لهم بشئ من ذلك (1). فيؤمر بالوفاء بما ضمن ولا يجبر عليه في الحكم،
لأنه غدر بأمان نفسه خاصة دون أمان المسلمين، وذلك أمر بينه وبين ربه.
868 - وإن كان أسيرا فيهم أو كان أسلم منهم، لم يؤمر بشئ
من ذلك.
لأنه متمكن (2) شرعا من استرقاقهم وأخذ مالهم إذا قدر عليهم وقد بينا
أن تزوجه إياها لا يكون أمانا منه لها.

(1) في هامش ق " في ذلك. نسخة ".
(2) ه‍ " يتمكن ".
547

ثم خمس فيها.
لأنه أخرجها على وجه التلصص.
ولا يقبل على قهره إياها شهادة أهل الحرب من المستأمنين.
لأنها ذمية في الظاهر، وقد تصادقا على أنها كانت زوجة له. وشهادة
المستأمن بالرق على الذمية لا تقبل.
869 - وإن قالت: ما تزوجني ولا قهرني، ولكنه آمنني
فخرجت معه. فهي حرة إن خرجت طائعة لدلالة الحال، ولا تكون
زوجة له.
لأنه يدعى عليها النكاح وهي تنكر.
870 - ولو ادعى أنه تزوجها في دار الاسلام لم يقبل قوله
إلا بحجة. فكذلك قولها إذا ادعت أنه تزوجها في دار الحرب.
فإن أرادت الرجوع إلى دار الحرب تمنع من ذلك.
لان النكاح لم يثبت حين أنكرت، وبه تصير ذمية تابعة للرجل.
871 - وإن أقام الزوج البينة من المستأمنين (1) في هذا الفصل
على أنه قهرها في دار الحرب تقبل البينة.
لأنها مستأمنة في الظاهر وشهادة المستأمنين على المستأمنة بالرق مقبولة.

(1) ب " للمستأمنين "، ق " وإن أقام الزوج من المستأمنين بينه.. " وفى هامشها
" وإن أقام الزوج البينة من المستأمنين.. " نسخة ميرزا زاده ".
548

872 - وإن أخرجها معه مقيدة فهي أمة له، ولا خمس فيها.
لان الظاهر شاهد له. فان لم يعلم أنه صنع بها هذا إلا في دار الاسلام
ففي قول أبي حنيفة رحمه الله (1) هي فئ لجماعة المسلمين. لأنها لما أنكرت
النكاح لم يثبت لها حكم الأمان في دارنا. فان (2) المستأمنة من تجئ للمقام
في دارنا. ولا نعلم لذلك سببا حين أنكرت النكاح فكانت حربية لا أمان لها
في دارنا.
ومن أصل أبي حنيفة رحمه الله: أن الحربي إذا دخل دارنا بغير (3)
أمان فأخذه مسلم يكون فيئا لجماعة المسلمين. وعندهما يكون للاخذ، وفى
إيجاب الخمس فيه روايتان.
873 - ولو أن ذميا دخل دار الحرب بأمان فتزوج منهم امرأة،
أخرجها مع نفسه بعد ما استأمن المسلمين عليها، فهي حرة.
لأنها جاءت مجئ المستأمنات، ولان المسلمين آمنوها حين استأمن عليها.
ثم تكون ذمية من أهل دارنا تبعا لزوجها. بمنزلة ما إذا تزوجت
المستأمنة ذميا في دارنا، فلا ترجع إلى دار الحرب.
وإن أذن الزوج لها في ذلك أو طلقها فالاستئمان عليها ليس بشرط
ولكنها إذا خرجت معه طائعة فهي آمنة.
لأنها جاءت للمقام مع زوجها، وهو من أهل دارنا.

(1) ه‍ " رضى الله تعالى عنه ".
(2) ق " لان "، وفى هامشها " فان المستأمنة. نسخة ميرزا زاده ".
(3) ق " دارنا اليوم بغير "، وتحتها " دارنا بغير أمان. أصل نسخة ".
549

874 - فإن استأمن هذا الذمي على ابنته أو أخته فهي
آمنة أيضا.
لان المسلمين آمنوها. ولأنها جاءت مجئ المستأمنات حين (1) استأمن
عليها.
ولها أن ترجع إلى دار الحرب متى شاءت.
لأنها ليست بتابعة لأبيها أو أخيها الذمي فإنها بالغة.
875 - وإن أخرجها مع نفسه ولم يستأمن لها فهي فئ للمسلمين
في قول أبي حنيفة.
لأنها جاءت مجئ المستأمنات، فإنها ليست بتابعة له في المقام، ولم
يستأمن لها نصا.
876 - وإن قال الذمي: قد كنت قهرتها في دار الحرب
وأخرجتها. وكذبته، ولا قرابة بينهما، فإنه لا يصدق.
لان ظاهر الحال يكذبه فيما قال. فإنها جاءت غير مربوطة معه. وقد
ثبت فيها حق جماعة المسلمين. فلا يصدق الذمي فيه في إبطال ذلك.
877 - وإن شهد له بذلك شهود من المسلمين كانت أمة له.
لأنه أثبت سبب الملك فيها بالحجة
ولا يقبل في ذلك شهادة أهل الذمة.

(1) في هامش ق " حيث. نسخة ".
550

لأنها تقوم (ص 184) على المسلمين وقد صارت هي أمة له في الظاهر.
878 - وإن أخرجها مغلولة قد علم ذلك فالقول قوله.
لان الظاهر شاهد له.
879 - وإن لم يعلم أنه قهرها إلا في دار الاسلام فعند أبي حنيفة
رحمه الله هي فئ لجماعة المسلمين.
وعندهما هي له. ولكن يؤخذ منه الخمس. بمنزلة ما لو أصاب الذمي
ركازا في دار الاسلام فإنه يخمس وما بقى يكون له.
880 - ولو خرج علج من أهل الحرب مع مسلم إلى المعسكر
فقال المسلم: أخذته أسيرا. وقال الحربي: جئت مستأمنا. فالقول
قول الحربي.
لأنه جاء مجئ المستأمنين، والظاهر شاهد له (1). فإنه غير مقهور
حين جاء معه لان الواحد ينتصف من الواحد.
ألا ترى أنه لو جاء وحده هكذا كان آمنا؟ فكذلك إذا جاء مع مسلم.
881 - ولو كان جاء به وهو مكتوف أو مغلول أو في عنقه حبل
يقوده، فالقول قول المسلم.
لان دلالة الحال تشهد (2) له. وقد بينا أن في مثل هذا يحكم بدلالة الحال.

(1) في هامش ق " يشهد له. نسخة ".
(2) ه‍ " شاهد ".
551

882 - ولو كان هذا الحربي جاء مع عدد من المسلمين وهو مخلي
عنه (1) فقالوا: هو أسيرنا. وقال الحربي: جئت مستأمنا معهم.
فالقول قول المسلمين.
لأنه مقهور لجماعتهم لا يقدر على الانتصاف والتخلص منهم لو أراد
ذلك. فهو بمنزلة المربوط.
ألا ترى أنهم لو كانوا مئة رجل قد أحدقوا به حتى صار لا يقدر على
التخلص منهم فإنه يسبق إلى وهم كل أحد أنه أسير لا مستأمن، فيكون فيئا
لجميع العسكر.
883 - وإن شهد مسلمان أنه جاء مستأمنا قبلت الشهادة.
لان شهادة المسلمين حجة تامة على جماعة (2) المسلمين.
884 - وإن لم يشهد به شاهدان ولكن أقر رجل واحد من
القوم أنه جاء مستأمنا لم يصدق في ذلك.
لان قول الواحد ليس بحجة في الحكم، وشركتهم فيه شركة عامة
فلا حكم لاقرار الواحد فيه، إلا أن يقع في سهمه بالقسمة.
885 - قال: ولو أن مسلما خرج من دار الحرب ومعه امرأة.
فقال: ليست لي بزوجة، ولكني آمنتها فأخرجتها على الأمان. فهي
في القياس فئ.

(1) ب " عنهم " وفى هامش ق " مخلى عنهم. نسخة ".
(2) فوق هذه الكلمة في ق " جميع. نسخة ".
552

لان أمانه إياها في دار الحرب باطل، لكونه مقهورا في منعة أهل الحرب.
وكما حصلت في دار الاسلام فقد صارت فيئا مأخوذة بالدار. فلا يعمل أمانه
في إبطال حق المسلمين عنها.
وفى الاستحسان هي حرة مستأمنة، ترجع إلى دار الحرب
متى شاءت.
لأنه لما خرج معها مستديما لذلك الأمان (1)، صار بمنزلة المنشئ
للأمان في أول جزء من أجزاء دار الاسلام. وإنما يثبت حق المسلمين فيها
إذا حصلت في دارنا غير آمنة. وهي ما حصلت في دارنا إلا آمنة. فأدنى
الدرجات أن يقترن أمان المسلم إياها بسبب ثبوت حق المسلمين فيها. وذلك (2)
يمنع ثبوت حقهم فيها.
يوضحه: أنهما لما وصلا إلى الموضع الذي لا يأمن فيه المسلمون
ولا أهل الحرب، فقد خرجا من منعة أهل الحرب، وصح أمان المسلم إياها
في هذا الموضع. وهي لا تصير مأخوذة بدار الاسلام ما لم تصل إلى الموضع
الذي يأمن (3) فيه المسلمون (4). وهذا بخلاف ما لو آمنها ثم خرجت هي
وحدها لان أمانه إياها في دار الحرب باطل. وهو ليس معها في الموضع
الذي يصح فيه الأمان حتى يجعل كالمنشئ للأمان في ذلك الموضع. فلهذا
كانت فيئا.
886 - ولو أن مسلما في دار الحرب آمن جندا عظيما فخرجوا معه
إلى دار الاسلام فظفر بهم المسلمون كانوا فيئا.
(

(1) ساقطة من ه‍.
(2) ه‍ " وتلك ".
(3) ق " يصل إليه المسلمون ويأمنون فيه ". وفى هامشها " ما لم تصر إلى الموضع الذي يأمن
فيه المسلمون. وهذا بخلاف. نسخة ميرزا زاده ".
(4) ه‍ " المسلم ".
553

لان هذا المسلم ليس ممتنعا منهم في دار الاسلام ولا في دار الحرب،
بل هو مقهور في الموضعين بمنعتهم. فيكون (ص 185) أمانه لهم باطلا.
ألا ترى أن هذا العسكر لو دخلوا دار الاسلام فدخل إليهم مسلم بأمان
ثم أمنهم كان ذلك باطلا؟ لأنه غير ممتنع منهم، فكذلك إذا خرج معهم
من دار الحرب مستديما لذلك الأمان، بخلاف ما لو آمن واحدا منهم وخرج
معه، لان الواحد لا يكون مقهورا بالواحد بل يمتنع منه وينتصف في الظاهر
فيصح أمانه له، كما لو دخلا (1) دار الاسلام.
887 - ولو كان آمن في دار الحرب عشرين رجلا منهم، ثم خرج
معهم إلى دار الاسلام فهم آمنون. بمنزلة ما لو أنشأ الأمان لهذا العدد
في دار الاسلام ابتداء.
فإن قيل:
هو غير ممتنع من هذا العدد أيضا، بل هو مقهور بهم في الظاهر،
فينبغي أن لا يصح أمانه.
قلنا: نعم هو مقهور باعتبار نفسه، ولكنه قاهر ممتنع بقوة المسلمين. لان
هؤلاء لا يمتنعون من جماعة المسلمين، والقوة للمسلم في دار الاسلام بجماعة (2)
المسلمين. فإذا لم يكونوا ممتنعين من جماعة المسلمين كأن هذا الرجل قاهرا لهم
في دار الاسلام حكما لا مقهورا بهم. فيصح أمانه لهم. بخلاف الجند، فإنهم
ممتنعون من أهل دار الاسلام بشوكتهم، فيكون هو مقهورا فيهم في دارنا
كما في دار الحرب.

(1) ق " كما لو دخل دار الاسلام ". وفى هامشها " كما لو دخلا دار الاسلام. نسخة
ميرزا زاده ".
(2) ق " من جماعة المسلمين " وفى هامشها " كجماعة المسلمين. نسخة ميرزا زاده ".
554

ألا ترى أن القوم الذين لا منعة لهم لو دخلوا دارنا بغير أمان وأخذهم
قوم من المسلمين كانوا فيئا لجماعة المسلمين؟
888 - ولو أن جندا عظيما منهم دخلوا دارنا، فقاتلهم (1) قوم
من المسلمين حتى قهروهم كانوا لهم خاصة.
وما كان الفرق إلا بهذا. إن الذين لهم منعة ما صاروا مقهورين بحصولهم
في دار الاسلام، بخلاف الذين لا منعة لهم.
ثم تحقق ما قلنا: إنهم إذا لم يكونوا ممتنعين من جماعة المسلمين، فلو لم
يجعل أمان الواحد الذي جاء معهم صحيحا أدى إلى الغرور، لانهم فارقوا
منعتهم بناء على ذلك الأمان. وفى الجند لا يؤدى إلى هذا. لانهم ما فارقوا
منعتهم بناء على أمانه بل هم ممتنعون بشوكتهم في دارنا، كما في دار الحرب.
وعلى هذا لو أخرجهم هذا المسلم إلى عسكر المسلمين في دار الحرب
فإن كانوا بحيث لا يمتنعون من العسكر فهم آمنون. لان قوة العسكر في هذا
الموضع بعسكر المسلمين، فيكون قاهرا لا مقهورا إذا وصل إلى عسكر
المسلمين. وإن كانوا بحيث يمتنعون من العسكر لكثرتهم فأمانه لهم باطل
وإن خرج معهم لما بينا (2).
889 - ولو كان المسلمون حاصروا حصنا وفيهم مسلم فآمن
قوما لا منعة لهم وأخرجهم معه إلى العسكر لم يكونوا آمنين،
بخلاف الأول.
لان المحصورين قد صاروا مقهورين من وجه، فحالهم كحال المأسورين (3)

(1) ق " وأخذهم قوم " وفى هامشها " دارنا فقاتلهم قوم من المسلمين. نسخة ميرزا زاده ".
(2) ق " وإن خرج كما بينا معهم " وفى هامشها " وإن خرج لما بينا معهم. نسخة ميرزا زاده "
(3) ق " المأسور "، ه‍ " الأسير ".
555

فلا يصح أمان المسلم لهم إذا كان فيهم، لما فيه من إبطال حق المسلمين عليهم
بخلاف الأول.
ولأنه لو جاز هذا الأمان لم يقدر المسلمون على قهرهم بحال، فإنهم إذا
أيقنوا بالقهر أسلم بعضهم، ثم آمنهم على أن يخرج مع كل نفر منهم، ولا يجوز
القول بما يؤدى إلى سد باب الاسترقاق على المسلمين.
يوضحه: أن يد المسلمين إلى المحصورين سابقة على قوة هذا المسلم
الخارج معهم، فلا يبطل، باعتبار هذه القوة، حكم اليد السابقة. بخلاف
جميع ما سبق.
890 - ولو أن حربية أسلمت وزوجها حربي، فهما على
نكاحهما حتى تحيض ثلاث حيض.
لان يد الامام لا تصل إلى الزوج لتعرض عليه الاسلام، فتجعل ثلاث
حيض قائمة مقام ثلاث عرضات، باعتبار أنها مؤثرة في الفرقة بينهما إذا صار
غير مريد لها، كما بعد الطلاق. وبإصراره على الكفر يعلم أنه غير مريد لها.
891 - فإن لم تحض حتى خرجا إلى دار الاسلام كان الرجل فيئا
للمسلمين (ص 186).
لأنه خرج لا على وجه الاستئمان.
ولكن يبقى النكاح بينهما.
لان الرق الذي ثبت فيه لا ينافي ابتداء النكاح فيما (1) بينهما، ولا ينافي
بقاء النكاح أيضا. وإنما الموجب للفرقة تباين الدارين، ولم يوجد ذلك،
فالرجل لما صار عبدا للمسلمين كان من أهل دارنا.

(1) لا توجد في ب، ق.
556

892 - ثم لا تقع الفرقة بينهما وإن حاضت ثلاث حيض (1)،
حتى يعرض عليه الاسلام.
لان الحيض كانت خلفا عن عرض الاسلام، باعتبار تعذر عرض
الاسلام عليه، وقد زال قبل حصول المقصود به. والقدرة على الأصل قبل
حصول المقصود بالخلف يسقط اعتبار الخلف. فلهذا يعرض عليه الاسلام.
893 - فإن أسلم فهي امرأته، وإن أبى فرق بينهما.
894 - ولو كان الزوج هو الذي أسلم وهي من غير أهل
الكتاب، ثم خرجا إلى دارنا قبل أن تحيض شيئا، فهي امرأة آمنة
حرة لا سبيل عليها.
لأنها جاءت مجئ المستأمنات. فإنها تابعة للزوج في المقام، ومن جاءت
للمقام في دارنا كانت مستأمنة. فأما الرجل فليس بتابع لا مرأته في المقام،
وهو إنما جاء مغترا (2) لا مستأمنا، إذ لم يطلب الأمان ولم يظهر منه علامة لذلك.
895 - ثم إن كانت من أهل الكتاب فهي ذمية.
لان النكاح بينهما مستقر، وذلك يلزمها المقام في دارنا مع زوجها.
896 - وإن كانت من غير أهل الكتاب فالنكاح بينهما غير
مستقر، فلا تصير ذمية، ولكن يعرض عليها الاسلام، فإن أسلمت
وإلا فرق بينهما، وكان لها أن ترجع إلى دار الحرب.

(1) ق " حيضات "، وفى هامشها " ثلاث حيض. نسخة ميرزا زاده ".
(2) ص، ه‍، ب " مغيرا "، أثبتنا رواية ق.
557

لأنها مستأمنة.
وقد بينا في " كتاب الطلاق " (1) اختلاف الروايات فيما إذا أسلم
أحد الزوجين المستأمنين في دارنا، أن في إحدى الروايتين تتوقف الفرقة
بينهما على مضى ثلاث حيض، كما لو كانا في دار الاسلام.
وفى الرواية الأخرى أي الامرين يسبق إما عرض الاسلام على المصر
منهما أو مضى ثلاث حيض تقع الفرقة به. وعليه نص هاهنا، لأنهما تحت
يد الامام في الحقيقة، فيتمكن من عرض الاسلام، والمصر من أهل دار
الحرب حكما، فتقع الفرقة بينهما بمضي ثلاث حيض.
897 - فإن لم تسلم ولكنها تحولت إلى دين أهل الكتاب فقد
تقرر النكاح بينهما، بمنزلة ما لو كانت كتابية في الأصل فتكون ذمية.
وأشار إلى الفرق بين إسلام الزوج وإسلام المرأة فقال محمد (2) رحمه الله:
898 - الزوج ليس من عيال امرأته إذا أسلمت، والمرأة من
عيال الزوج إذا أسلم، فتكون آمنة إذا خرجت معه.
ألا ترى أن حربيا لو استأمن إلى دار الاسلام فأخرج (3) معه امرأته
كانت آمنة؟ فكذلك إذا أسلم.
899 - ولو أن امرأة منهم استأمنت ثم أخرجت معها زوجها
لم يكن آمنا تبعا لها، فكذلك إذا أسلمت.

(1) في حاشية ه‍ " يعنى في المبسوط ".
(2) ه‍ " فقال: يعنى محمد رحمة الله عليه ".
(3) ق " وخرجت معه " وفوقها " وخرج معه. نسخة ميرزا زاده ".
558

900 - ولو كانت التي أسلمت آمنت زوجها على أن أخرجته
إلى دارنا فخرج معها كان آمنا.
لما بينا أن استدامة ذلك الأمان حين حصلا في دارنا بمنزلة الانشاء.
901 - فإن قالت هي: آمنته وأخرجته معي. وقال المسلمون:
خرج معك بغير أمان. فالقول قولها.
لان الظاهر شاهد لها. فقد علم أنه خرج معها، وهو لا يخرج معها
مصرا على الكفر إلا بأمانها. والبناء على الظاهر واجب فيما لا يمكن الوقوف
على حقيقة الحال فيه.
902 - ولو أسلم رجل من المحصورين وأخرج (1) معه امرأته،
وهي كافرة، كانت فيئا للمسلمين.
لأنه لو استأمن وهو محصور فخرج بأمان لم تتبعه زوجته، فكذلك إذا أسلم.
وكذلك (ص 187) لو أسلمت المرأة وآمنت زوجها
فخرج معها.
لان أمانها إياه في منفعة أهل الحرب باطل، وهو كما لا يأمن تبعا لها
في الأمان، لا يأمن بأيمانها (2) أيضا.
903 - بخلاف ما لو لم يكن محصورا فاستأمن إلى عسكر

(1) ب " وخرج "، ه‍ " فخرج ".
(2) ق ه‍ " بأمانها ".
559

المسلمين أو (1) إلى دار الاسلام، فإنه تتبعه زوجته والصغار من أولاده
والكبار من الإناث.
لان حكم القهر لم يتناولهم (2) هناك. وقد يتناول المحصورين، فيؤثر (3)
أمانه وايمانه في إزالة القهر عنه خاصة.
904 - ولو أن ذميا تزوج امرأة في دار الحرب وأخرجها مع
نفسه، فهي حرة ذمية.
لان عقد الذمية أقوى من عقد الأمان.
905 - ولو خرج مستأمنا مع زوجته كانت حرة آمنة.
906 - فإذا خرج وهو ذمي مع زوجته فأولى أن تكون آمنة،
ثم هي تابعة لمن هو من أهل دارنا في المقام، وهو الذمي، فتصير ذمية.
907 - ولو خرج الذمي بابنة له كبيرة، أو أخت من أهل
الحرب، كانت فيئا. إلا أن يكون استأمن عليها.
لأنها ليست بتابعة له في المقام في دار الاسلام (4)، فلا يكون خروجها
معه دليل الاستئمان، بخلاف الزوجة.
فإن قيل: أليس أن المستأمن لو أخرج مع نفسه ابنته أو أخته كانت
آمنة معه، وكان ينبغي أن يكون الحكم في الذمي هكذا؟

(1) ه‍ " والى ".
(2) في هامش ق " لا يتناولهم. نسخة ".
(3) ه‍، ق " فتأثير ".
(4) ق " في دارنا " وفى هامشها " في دار الاسلام. نسخة ميرزا زاده ".
560

قلنا: هناك الزوجة التي هي تابعة له لا تصير ممنوعة من الرجوع إلى
دار الحرب، بمنزلة المستأمن نفسه، ويمكن إثبات مثل هذا الحكم في الابنة
والأخت أيضا. وباعتبار الظاهر هو يعولهما كما يعول زوجته. فأما الذمي
فتصير زوجته ذمية ممنوعة من الرجوع إلى دار الحرب، ولا يمكن إثبات
مثل هذا الحكم في حق الابنة والأخت لانعدام التبعية في حق (1) الاحتباس
في دارنا. ولا يجوز أن يثبت في التابع حكم آخر سوى الثابت فيمن هو أصل.
908 - ولو أخرج الذمي معه امرأة وقال (2): هي امرأتي،
وصدقته. كانت امرأته حرة، وإن لم يعرف ذلك إلا بقولهما.
لأنهما تصادقا على ذلك، والظاهر أنهما لا يجدان في دار الاسلام
شهودا على نكاح كان بينهما في دار الحرب. فلأجل الضرورة يقبل قولهما
إذا لم يكن هناك (3) من ينازعهما.
ألا ترى أنه لو أخرج معه برجال (4) ونساء وقال: هم عبيدي وإمائي
وصدقوه. قبل قولهم في ذلك.
909 - وكذلك لو خرج مستأمنا فهو مصدق فيما يدعى من
ذلك إذا صدقه المدعى عليه لهذا المعنى.
910 - وإن كذبته المرأة وقالت: لا نكاح بيني وبينه
ولا قرابة، كانت فيئا.
لان السبب الموجب للتبعية لم يثبت عند تكذيبهما فتبقى حربية في دارنا
لا أمان لها فكانت فيئا.

(1) ق " في حكم الاقتباس "، وتحتها " في حق الاحتباس، نسخة ميرزا زاده ".
(2) فوقها في ق " فقال. نسخة ".
(3) ق " هنا " وبجانبها " هناك. نسخة ".
(4) ق " رجالا ".
561

911 - ولو أن مسلما خرج من دار الحرب ومعه رجل أو امرأة
وقال: هذا مملوكي أو هذه مملوكتي. وقال الآخر: ليس كذا (1)،
ولكنه آمننا فخرجنا معه. ففي القياس هما فئ.
لان ما ادعى هو من الملك قد انتفى بتكذيبهما، وما ادعيا من الأمان
قد انتفى بانكاره.
وفى الاستحسان هما حران مستأمنان يرجعان إذا أحبا.
لأنهما مع الاختلاف تصادقا على أنه (2) لا سبيل للمسلمين عليهما.
والأسباب مطلوبة لأحكامها لا لأعيانها (3)، فبعد الاتفاق على الحكم لا يعتبر
الاختلاف في السبب.
يوضحه أن اختلاف السبب في الصورة، فأما في المعنى فالسبب واحد
وهو الأمان الثابت لهما تبعا أو مقصودا. فهو بمنزلة ما لو أقر أن لفلان عليه
ألف درهم قرضا، وقال المقر له: هي غصب. فإن المال يلزمه لهذا المعنى.
912 - ولو كان الذي أخرجها ذمي أو حربي مستأمن وقال:
هي امرأتي. فقالت المرأة: لست بزوجة له، ولكنه آمنني فأخرجني.
كانت فيئا للمسلمين.
لان النكاح لم يثبت (4) لانكارها، وقد زعمت أنها خرجت بأمان الذمي
أو الحربي، وذلك باطل.

(1) ق، ب " وقال الآخر: كذب ".
(2) ق " تصادقا أنهما "، ه‍ " تصادقا أنه " وفى هامش ق " تصادقا على أنه لا سبيل.
نسخة ميرزا زاده ".
(3) ق " لا بأعيانها " وفوقها " لا لأعيانها. نسخة ".
(4) ه‍ " لا يثبت ".
562

913 - ولو خرج حربي مع مسلمين فقال: آمنني (ص 188)
هذان. وكذباه، فهو فئ.
لأنه يدعى عليهما ما لا يعرف سببه، فلا يصدق إلا بحجة. وقد ثبت
حق المسلمين فيه باعتبار الظاهر، لأنه حربي في دارنا لا أمان له، فلا يصدق
في إبطاله.
914 - فإن صدقه أحدهما فهو آمن يرجع إلى دار الحرب
إن أحب.
لان الأمان يثبت له من جهة من صدقه بتصادقهما، وإن لم يثبت من
جهة الآخر. فكأنه ما ادعى إلا على هذا. وفى أمان الواحد كفاية له.
915 - وإن قال: آمنني هذا. وكذبه (1). وقال الآخر:
أنا الذي آمنته. وكذبه الحربي، وثبت كل واحد على مقالته فهو فئ.
لان الأمان لم يثبت له من جهة من ادعاه حين كذبه (2)، ولا من جهة
من أقر له لتكذيب الحربي إياه. فكان فيئا. بمنزلة ما لو قال المسلم: أنا آمنتك.
وقال الحربي: أبطلت، بل كتب إلى من دار الاسلام رجل بالأمان.
لم يصدق وكان فيئا.
916 - وكذلك لو قال: آمني فلان المسلم. وهو غائب
أو ميت.

(1) في هامش ق " فكذبه. نسخة ".
(2) في هامش ق " من جهة ادعائه حين كذبه. نسخة حصيري ".
563

لان الأمان لم يثبت له بمجرد دعواه على الغائب والميت، ومن أقر
بالأمان. فقد كذبه الحربي في ذلك. وهذا بخلاف ما تقدم. فهناك الأمان
من جهة واحد بعينه، وإنما (1) الاختلاف بينهما في السبب، وههنا الاختلاف
بينهما فيمن كان الأمان من جهته، فلا يثبت واحد من الامرين مع التكذيب.
917 - ولو كان قال بعد هذا الذي أقر له بالأمان: صدقت
أنت آمنتني، وقد غلطت فيما قلت. ففي القياس هو فئ.
لان إقراره له قد بطل بالتكذيب، فلا يعمل التصديق بعد ذلك. إذ
الأمان عقد محتمل للفسخ والتصديق بعد التكذيب، إنما يعتبر فيما لا يكون
محتملا للفسخ كالنسب والولاء.
وفى الاستحسان هو آمن إذا لم يصر على ذلك التكذيب.
لان الغلط في هذا الباب قد يقع، فإنه ما رأى من آمنه قبل هذا الوقت،
وبالمرة الواحدة قل ما تثبت معرفته. فإذا تبين له الغلط وجب اعتبار تصديقه
لدفع الضرر، بخلاف ما إذا ثبت على التكذيب بعد الاستثبات. لان توهم
الغلط هناك قد انتفى.
وهو نظير ما لو قال الرجل لا مرأة جالسة إلى جنبه: هي أختي من
الرضاعة. ثم قال: غلطت، هي امرأتي. كان مصدقا في ذلك، ولم يفرق
بينهما. فإن ثبت على ذلك بعد الاستثبات ثم قال بعد ذلك قد غلطت لا يصدق.
وفرق بينهما للمعنى الذي قلنا.
918 - ولو قال الحربي: ما آمنني أحد من المسلمين، لكني
خرجت بغير أمان. بعد ما قال له المسلم: أنا آمنتك. ثم رجع إلى
تصديقه، لم يصدق، وكان فيئا

(1) ه‍، ق " فإنما " وفى هامش ق " وإنما. نسخة ".
564

لأنه ليس في هذا يوهم الغلط، فأهم الأشياء عند الحربي الذي يخرج
إلى دارنا هو الأمان. وبعد ما خرج بأمان مسلم لا يشتبه عليه أصل الأمان.
فبعد إنكار أصل الأمان لا يعتبر تصديقه، بخلاف الأول، فقد يقع (1)
الاشتباه له فيمن كان أمانه من جهته، فلهذا يعتبر رجوعه إلى التصديق
ويعذر بالغلط في ذلك.
919 - ولو خرج إلى دارنا رجل وامرأة من أهل الحرب،
فشهد مسلمان بأنهما خرجا بأمان بعض المسلمين، وهما يقولان كذبا:
ما آمننا أحد. ففي قياس قول أبي حنيفة رحمه الله المرأة آمنة
والرجل فئ.
لأنهما صارا رقيقين في الظاهر، والشهادة على عتق الامه مقبولة من
غير الدعوى بالاتفاق، وعلى عتق العبد كذلك في قولهما، ولا يقبل في قول
أبي حنيفة رحمه الله.
920 - فإن كانا ادعيا ذلك بعد الانكار ثم شهد المسلمان به
قبلت الشهادة.
لان هذا تناقض في الدعوى. والتناقض لا يمنع قبول البينة على الحرية.
921 - وإن شهد لهما ذميان (ص 189) أو مستأمنان بذلك
لم تقبل الشهادة.
لأنها تقوم على المسلمين.

(1) في هامش ق " وقع. نسخة ".
565

وبعد شهادة المسلمين لو أرادا الرجوع إلى دار الحرب لم يمنعا
من ذلك.
لأنه قد ثبت بالحجة أنهما مستأمنان.
فإن قيل: هما قد أقرا بالرق على أنفسهما في الابتداء، فكيف يتركان
ليرجعا حربيين؟
قلنا: لان الامام قد حكم بكذبهما فيما قالا بالحجة، والمقر إذا صار
مكذبا في إقراره يسقط حكم إقراره.
922 - ولو قالا: خرجنا بغير أمان. فشهد لهما شاهدان بأنهما
أسلما في دار الحرب قبل أن يخرجا، وصدقا الشاهدين بذلك، فإن كان
الشاهدان مسلمين فهما حران، وإن كانا من أهل الذمة فهما رقيقان
للمسلمين.
لان شهادة أهل الذمة لا تكون حجة على المسلمين، وإسلامهما إنما ظهر
بعد ما صارا فيئا، فلا يبطل الرق عنهما.
923 - ولو قالا للشاهدين المسلمين: كذبتما، ما أسلمنا قط.
أجبرا على الاسلام.
لان شهادة المسلمين عليهما بالاسلام عليهما حجة تامة.
924 - فإن أسلما فهما حران.
أما على قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله فهو غير مشكل، وأما عند
أبي حنيفة رحمه الله فلان في هذه الشهادة التزام حق على الرجل، والمسلمون
566

خصم في ذلك. فإنكاره لا يمنع قبوله البينة بمنزلة ما لو أنكر العتق وهناك
من يدعى حقا من حد قذف أو قصاص فيما دون النفس.
925 - وإن أبيا أن يسلما قتل الرجل وحبست المرأة
حتى تسلم.
لأنه ثبت بالحجة أنهما حران مرتدان. فلا يجرى عليهما شئ في دارنا
ولكن الحكم في المرتد والمرتدة ما بينا.
926 - وإن قالا ما أسلمنا قط. وشهد الشاهدان أنهما أسلما يوم
كذا في دار الحرب. فقالا: قد كنا على النصرانية في دار الحرب بعد
هذا الوقت (1). فإنهما يجبران على الاسلام.
فإن أسلما فالرجل حر والمرأة فئ للمسلمين.
لأنه ظهر بإقرارهما ارتدادهما في دار الحرب وخروجهما إلى دارنا
على ذلك. والمرتدة في دار الحرب تسترق، ولا يبطل الرق عنها بإسلامها.
وهذا بخلاف الأول فلم تظهر هناك الردة منهما بعد ما ثبت إسلامهما إلا في دارنا.
فان قيل: هناك قد أقرا أيضا أنهما كانا كافرين بعد الوقت الذي شهد
فيه المسلمان عليهما بالاسلام.
قلنا: نعم. ولكنهما ما أقرا بكفر متجدد منهما في تلك الحالة ليجعل
ذلك ردة، إنما أنكرا أصل الشهادة. فأما هنا فقد أقرا بأنهما أظهرا كفرا
حادثا بعد الوقت الذي ثبت فيه إسلامهما بالحجة في دار الحرب.
فان قيل مع هذا: في هذه الشهادة إثبات حرية المرأة فلماذا يعتبر قولهما
حتى تجعل أمة بعد ما شهد الشهود بحريتها؟

(1) ق " بعد هذا الوقت نظهرها ".
(2) ب " والأمة فئ " ه‍، ق " والمرأة أمة فئ ".
567

قلنا: لان هذا إقرار منها بالرق على نفسها. وإقرار المرأة بالرق مقبول،
بمنزلة اللقيط إذا كانت أنثى فأقرت بالرق.
927 - ولو أن حربية أسلمت في دار الحرب وعرف إسلامها،
ثم أخذت في الاسراء فقالت: قد ارتددت قبل أن تأخذوني. كانت
فيئا، وصدقت لاقرارها على نفسها بالرق.
928 - وكذلك لو كانت مسلمة لحقت بدار الحرب ثم أخذت
في الاسراء، فزعمت أنها لحقت بدار الحرب مرتدة، فهي أمة، وإن
كذبها أبوها فيما قالت.
لأنها أقرت على نفسها بالرق بسبب هو ظاهر. فإنها أخذت من دار
الحرب، وحكم الشرك ظاهر فيها.
929 - وكذلك لو أن ذميا أو ذمية لحقتا بدار الحرب، ثم أخذا
فقالا: خرجنا ناقضين للعهد. كان القول قولهما، وكانا فيئا.
لأنهما أقرا بالرق على أنفسهما.
وكل هذا يوضح ما سبق أن شهادة المسلمين بأنها أسلمت في دار الحرب
لا تمنع صحة إقرارها بالرق بعد ذلك بسبب ردتها في دار الحرب.
930 - ولو أن مسلمة في دار الاسلام حرة معروفة الأبوين
تعلق بها رجل وقال: هي أمة لي. فقالت: صدقت (1)، قد كنت

(1) في هامش ق " صدق. نسخة ".
568

ارتددت ولحقت بدار الحرب (ص 190) فسباني وأخرجني. فهي
أمة له في القياس.
لأنهما تصادقا على سبب يوجب الملك له فيها. فيجعل ما تصادقا (1) عليه
كالثابت بالمعاينة أو بالبينة.
يوضحه أنها تقر على نفسها بما يتلفها حكما وهو الرق. ولو أقرت
على نفسها بما يتلفها حقيقة من قصاص أو رجم وجب قبول قولها، لأنها
مخاطبة. فهنا أولى.
وفى الاستحسان لا تصدق، وهي حرة لا سبيل عليها.
لأنها تقر بما لا تملك إنشاءه. فإنه حرية الأصل تثبت لها لحرية الأبوين
على وجه لا تملك إبطاله. وهي متهمة فيما أقرت به من السبب، فان النساء جبلن
على الميل إلى الهوى، فلعلها أحبت هذا الرجل وهو لا يرغب فيها بالنكاح
فأقرت له بالرق بهذا السبب كاذبة ليحصل (2) مرادها.
وهذا بخلاف ما إذا عرف لحاقها (3) بدار الحرب.
لان هناك الظاهر يشهد لهما فيما قالا. فإن المسلمة لا تلحق بدار الحرب
ما دامت مصرة على الاسلام عادة.
يوضحه: أن اعتقادها باطن لا يمكن الوقوف عليه، فلا بد من قبول
قولها فيه. فأما لحوقها بدار الحرب فظاهر (4) يمكن الوقوف عليه، فلا حاجة
إلى قبول قولها في ذلك.

(1) ق " تصادق "، وفى هامشها " تصادقا. نسخة ".
(2) ه‍، ق " لتحيل مرادها " وفى هامشها " فتحصل مرادها. نسخة ".
(3) ه‍ " لحوقها ".
(4) ه‍، ق " ظاهر ".
569

تقريره: هو أن دار الحرب دار سبى واسترقاق. فإذا عرفت لحاقها
فإنما أصابها من موضع الاسترقاق، فتكون أمة له، ما لم يظهر المانع وهو
إسلامها عند الاخذ.
فأما دار الاسلام فليس بدار استرقاق بل دار حرية متأكدة، فلا تبطل
بمجرد قولها إذ لم يعلم صدقها في ذلك. والذمية في هذا كالمسلمة. فأما الحر
الذمي إذا قال ذلك ولم يعرف صدقه ولحوقه بدار الحرب ناقضا للعهد فعلى
قول أبى يوسف ومحمد رحمهم الله تعالى هو والمرأة في ذلك سواء. لان عندهما
معنى حق الله تعالى هو المعتبر في حرية الرجل كما في حرية المرأة، ولهذا قبلا
الشهادة فيه من غير دعوى. وفى قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى هو عبد سواء
عرف لحاقه أو لم يعرف. لان معنى حقه هو المعتبر في حريته عنده،
ولهذا تقبل الشهادة على عتق العبد من غير دعوى. ولان معنى الميل إلى الهوى
منعدم في حق الرجل، وليس في هذا الاقرار معنى حل الفرج بالملك بخلاف
إقرار المرأة.
931 - ولو خرج مسلم من دار الحرب ومعه حربي: رجل
أو امرأة. فقال: أمنته بالعربية وأخرجته. وقال الحربي: أبطل،
ولكنه آمنني بالفارسية، وثبتا على الاختلاف فهو آمن.
لأنهما اتفقا على السبب والحكم (1)، وإن اختلفا في العبارة، ولا معتبر
بهذا الاختلاف، خصوصا في الأمان. فقد ثبت من غير عبارة. وإذا كان
الاختلاف، في العبارة لا يمنع قبول الشهادة فكيف يمنع ثبوت الأمان؟
932 - وكذلك لو اختلفا في الوقت الذي آمنه فيه، أو في
المكان، أو في الكتاب والرسالة، والأمان باللسان.

(1) في هامش ق " اتفقا على سببية الحكم. نسخة م ".
570

لأنهما اتفقا على ما هو المقصود. والأمان مما يعاد ويكرر. فالاختلاف
في هذه الأشياء لا يمنع الحكم بما هو المقصود.
933 - ولو قال المسلم: أسلم فخرج معي. وقال الحربي: بل
آمنني. فهو فئ.
لان الاختلاف هنا بينهما في الحكم المطلوب بالسبب، فإن المسلم يستفيد
الأمان من قبل إيمانه، والمستأمن إنما يستفيد الأمان من جهة من آمنه، فمنع
اختلافهما لا يثبت واحد من الامرين.
934 - وإن قال: سألني أن يخرج معي ويكون ذميا فأعطيته
ذلك. وقال الحربي: بل آمنني. فهو آمن هنا.
لأنهما اتفقا على الحكم، وهو ثبوت الأمان له من جهة هذا المسلم وإن
اختلفا في سببه (ص 191) والمسلم يدعى عليه زيادة وهو احتباسه في دارنا
والتزامه (1) الجزية، فلا تثبت تلك الزيادة بمجرد قوله، ويبقى (2) أصل الأمان
له باتفاقهما عليه، فيرجع إلى دار الحرب إن شاء.
935 - ولو كان مع الحربي المستأمن في دارنا جارية له فأعتقها
كان لها أن ترجع إلى دار الحرب.
لأنها مستأمنة تبعا له، حتى لو أراد إعادتها إلى دار الحرب كان ممكنا من
ذلك، فبإعتاقه إياها لا يبطل ذلك الحكم.
936 - ولو باعها من مسلم أو ذمي صارت ذمية تبعا لمولاها.

(1) ق " إعطاؤه الجزية " وفى هامشها " التزامه الجزية. نسخة م ".
(2) فوقها في ق " وإبقاء. نسخة "
571

لأنه من أهل دارنا.
937 - فإن أعتقها لم يكن لها أن ترجع إلى دار الحرب.
لأنها بعد ما صارت ذمية لا تعود حربية بالعتق.
938 - ولو وجد بها عيبا فردها لم يكن له أن يعود بها إلى دار
الحرب، ولكن يجبر على بيعها.
لأنها صارت ذمية بالشراء، وثبت الملك لمسلم أو ذمي فيها، فكانت
بمنزلة أمة ذمية اشتراها المستأمن.
939 - فإن كان باعها من مستأمن مثله فأعتقها المشترى فإن كان
من أهل دار البائع، فلها أن تعود إلى دار الحرب كما لو كان البائع
أعتقها بنفسه.
لان حالهما (1) سواء (2).
وإن كان المشترى من أهل دار أخرى (3) لم يكن لها أن تعود إلى
واحدة من الدارين.
لان تبعية البائع انقطعت بالبيع، وما كان للمشترى أن يخرجها إلى دار
نفسه قبل أن يعتقها، فكذلك بعد العتق لا يكون لها أن ترجع إلى داره. وهذا
لان المستأمن إنما يتمكن من إعادة ما أخرجه من داره، وهو ما أخرج هذه الأمة

(1) ه‍ " لان لهما سواء ".
(2) إلى جانب هذه الكلمة في الأصل: بلغ قراءة عليه أبقاه الله تعالى ".
(3) ه‍ " دار الحرب ".
572

من داره. وإذا كان هذا الحكم ثابتا في السلاح ففي الآدمي أولى. وإذا ثبت أنها
احتبست في دارنا كانت بمنزلة الذمية بعد الاعتاق. وقبل الاعتاق يجبر على بيعها
من المسلمين أو من أهل الذمة كما هو الحكم في الذمية.
940 - وإن ردها بعيب على البائع فكذلك الجواب.
لأنها بعد ما صارت ذمية باعتبار المعنى الذي قلنا لا تعود حربية.
941 - ولو كان باعها (1) من مسلم فشهد مسلمان أن الحربي
كان أعتقها في دارنا قبل أن يبيعها قبلت هذه الشهادة لما فيها من معنى
حرمة الفرج، فيبطل البيع ويرد البائع الثمن على المشترى. فإن أرادت
أن تخرج إلى دار الحرب لم تمنع من ذلك.
لان البيع لها ظهر بطلانه، فقد تبين أنها حرة حربية.
فإن قيل: هي تقر بأنها أمة للمسلم، وانه لا سبيل لها إلى الرجوع إلى
دار الحرب.
قلنا: نعم. ولكن القاضي حكم ببطلان إقرارها بذلك، فلا يبقى
لاقرارها حكم.
الا ترى أن المشترى مقر أيضا بأن الثمن سالم للبايع لأنه كان قبضها،
وذلك لا يمنعه من الرجوع بالثمن على البائع لان الحاكم حكم بخلاف زعمه.
942 - ولو لم يبعها الذي أخرجها ولكنه قال: كانت زوجتي
فقهرتها (2) وأخرجتها، فهي أمة لي. فقالت: كنت زوجة له فخرجت
معه غير مقهورة. فالقول قولها.

(1) ب " ابتاعها ".
(2) ه‍ " قهرتها ".
573

لان الظاهر شاهد لها. فإنها خرجت وليس عليها أثر القهر.
ثم يفرق بينهما إن أسلما بإقراره. فقد أقر أنها صارت أمة له، وذلك
مناف للنكاح، وإقراره حجة عليه.
فإن قيل: فقد حكم الامام هنا بأنها حرة فلماذا يعتبر إقراره بعد ذلك
في التفريق بينهما؟
قلنا: لأنه حكم بذلك بمجرد قولها (1) ونوع من الظاهر. (ص 192)
وذلك لا يوجب (2) تكذيب المقر لا محالة.
ألا ترى أنه لو أقام البينة على ما ادعى قبلت بينته وقضى بها أمة له،
بخلاف ما سبق فقد حكم هناك بحريتها بحجة تامة.
ألا ترى أنه لا تقبل البينة على رقها بعد ذلك.
943 - واستوضح هذا بمسلم تحته مسلمة لم يدخل بها إذا زعم أنها
ارتدت من الاسلام وجحدت المرأة ذلك. فإنه يفرق بينهما بإقراره،
ولها نصف الصداق.
لأنه غير مصدق عليها في إبطال حقها، وإن كان مصدقا على نفسه،
وكذلك في مسألة الحربي.
فإن قال الامام: استحلفها ما كان الامر على ما قلت. فلا يمين عليها
في قياس أبي حنيفة رحمه الله تعالى.
لأنه يدعى عليها الرق، وأبو حنيفة لا يرى الاستحلاف في دعوى الرق.

(1) ق " قولهما ".
(2) ق " لا يجب " وفى هامشها " لا يوجب. نسخة م ".
574

وعندهما يستحلفها على ما ادعى من سبب الرق عليها، فإن نكلت
قضى بكونها أمة.
لان نكولها بمنزلة إقرارها. ومن أصلهما القضاء بالنكول في دعوى
الرق. والله أعلم بالصواب (1).

(1) ق " والله الموفق ".
575

65 باب من الأمان بغير إذن الإمام
وبعد نهي الامام
944 - وإذا حاصر المسلمون حصنا فليس ينبغي لأحد منهم أن
يؤمن (1) أهل الحصن ولا أحدا منهم إلا بإذن الامام.
لانهم أحاطوا بالحصن ليفتحوه، والأمان يحول بينهم وبين هذا المراد
في الظاهر. ولا ينبغي لأحد من المسلمين أن يكتسب سبب الحيلولة بين جماعة
المسلمين وبين مرادهم، خصوصا فيما فيه قهر العدو. ولان كل مسلم تجب
طاعة الأمير عليه (2). فلا ينبغي أن يعقد عقدا يلزم الأمير طاعته في ذلك
إلا برضاه. ولان ما يكون مرجعه إلى عامة المسلمين في النفع والضرر فالامام
هو المنصوب للنظر في ذلك. فالافتيات (3) عليه في ذلك يرجع إلى الاستخفاف
بالامام، ولا ينبغي للرعية أن يقدموا على ما فيه استخفاف بالامام.
945 - فإن فعل ذلك فهو جائز.
لأن علة (؟) صحة الأمان ثابت ومتكامل في حق كل مسلم، على ما أشار
إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله " يسعى بذمتهم (4) أدناهم "،
وعلى الامام أن يكف عن قتالهم حتى ينبذ إليهم بعد ما يرد هم إلى مأمنهم،
وإن كانوا أخرجوا.

(1) ق " أن يؤمنهم ولا أحد منهم " وفى هامشها " أن يؤمن أهل الحصن.. نسخة م ".
(2) في هامش ق " ولأنه يجب على كل مسلم طاعة الأمير.. نسخة حصيري ".
(3) ه‍ " الاقتداء عليه " خطأ، ب " الاقتياب عليه " خطأ، غير منقوطة في ص. أثبتنا رواية ق.
(4) ق " في ذمتهم " وفى هامشها " بذمتهم. نسخة م ".
576

946 - وإن رأى أن يؤدب الذي آمنهم فعل.
لأنه أساء الأدب حين (1) فعل ما يرجع إلى الاستخفاف بالامام،
ولو لم يؤدبه اجترأ غيره على مثله، وذلك يقدح في السياسية وتدبير الامارة.
إلا أنه إذا آمنهم على وجه النظر منه للمسلمين وظهر ذلك للامام
فإنه لا يؤدبه في ذلك.
لأنه قصد بفعله توفير المنفعة على المسلمين، فربما تفوتهم تلك المنفعة
لو أخره إلى استطلاع رأى الامام. وفى مثل هذه الحالة يباح له إعطاء الأمان.
فإن الواحد منهم إذا قال له سرا: آمني على أن أدلكم على عوراتهم،
أو على أن أفتح لك الحصن، وخاف إن لم يؤمنه أن يفوته ما وعده من
ذلك، فلا إشكال أن له أن يؤمنه من غير استئمان الامام.
لان الأمان في مثل هذه الحالة يرجع إلى تحصيل مقصود المسلمين، وهو يستوجب الشكر على ذلك لا التأديب، فلا يؤدبه في مثل ذلك الموضع.
947 - ولو أن مسلما آمن واحدا منهم على مئة دينار على أن
ينزل من حصنه إلى المعسكر. فلما قبض الدنانير وجاء به إلى عسكر
المسلمين علم به الامام، فقد أساء المسلم في ذلك وأمانه جائز، كما لو فعله
بغير عوض.
ثم ينظر الامام في ذلك.

(1) في هامش ق " حيث. نسخة ".
577

948 - فإن كان شرط له المسلم أنه آمن حتى يخرجوا من أرض
الحرب (1) فالامام بالخيار، إن شاء رد الدنانير عليه ورده إلى مأمنه،
(ص 193) وإن شاء وفى بما شرط له وأخذ الدنانير فجعلها غنيمة لأهل
العسكر.
لان المعطى للأمان إنما يمكن من أخذ الدنانير بقوة العسكر، فلا يختص
بها ولكن يجعل فعله لذلك كفعل الأمير أو فعل (2) جماعة المسلمين.
949 - وإن كان شرط له أن ينزل إلى العسكر فيلقى رجلا في
حاجة له، ثم يعود إلى حصنه، فإن الامام يمضى هذا الأمان ويجعل
الدنانير غنيمة لأهل العسكر.
لان معنى النظر هنا متعين في تنفيذ هذا الأمان. فإنه آمن فينا حتى يعود
إلى حصنه، فان رد عليه الدنانير فلا فائدة للمسلمين في ردها بخلاف الأول.
950 - فإن لم يعد إلى حصنه حتى فتح الحصن فهو آمن فينا حتى
يبلغ مأمنه من أرض الحرب.
ولا فائدة في رد الدنانير عليه، ولكن لا يتعرض (3) له حتى يصل
إلى مأمنه، والدنانير فئ لأهل العسكر.
951 - وكذلك لو كان المسلم آمن أهل الحصن شهرا على مئة

(1) في هامش ق " يخرجوا من أهل الحرب وأرضهم. نسخة حصر ".
(2) في هامش ق " في جماعة المسلمين. نسخة حصر ".
(3) ب " لا يعرض ".
578

دينار وأخذها منهم، فالامام بالخيار إن شاء رد الدنانير ونبذ إليهم،
وإن شاء أجاز أمانه ولم يتعرض لهم حتى يمضى شهر، وأخذ المئة
الدنانير (1) فجعلها فيئا للمسلمين.
لان في كل جانب توهم (2) المنفعة عسى، فإنه إن طمع في فتح
الحصن قبل مضى شهر فالمنفعة في رد الدنانير، وإن لم يطمع في ذلك فالمنفعة
في أخذ الدنانير وإمضاء الأمان. فلهذا يخير الامام في ذلك.
952 - ولو أن الأمير أمر مناديا فنادى في العسكر (3): إن من
آمن منكم أهل الحصن أو واحدا منهم فأمانه باطل، ثم آمنهم مسلم
بجعل أو بغير جعل فأمانه جائز.
لان العلة الموجبة لصحة الأمان من المسلم لم تنعدم بهذا النداء. وولاية
الأمان لكل مسلم ثابتة شرعا كولاية الشهادة، ولا تنعدم هذه الولاية بنهي
الامام.
ثم أهل الحرب لا يعلمون هذا النهى، فلو لم يصلح أمان هذا
المسلم بعد هذا النهى رجع إلى الغرور وهو حرام. إلا أن للأمير أن
يؤدب الذي آمن بالحبس والعقوبة إن كان لم يؤمنهم على وجه النظر
للمسلمين.
لان إساءة الأدب ههنا أبلغ منها في الفصل الأول، فإنه جاهر بمخالفة
الامام فيستوجب الحبس والعقوبة بهذا.

(1) ب " المئة الدينار ".
(2) ب " يوهم ".
(3) ب " المعسكر ".
579

953 - فإن أمر بأن ينادى أهل الحصن أو يكتب إليهم
أو يرسل إليهم رسولا: إن آمنكم واحد من المسلمين فلا تغتروا بأمانه،
فإن أمانه باطل. ثم آمنهم رجل فنزلوا على أمانه، فهم فئ.
لا باعتبار أن أمان المسلم لا يصح بعد هذا النهى ولكن لان هذا القول
من الامام بمنزلة النبذ إليهم، وكما يصح نبذه إليهم بعد الأمان يصح قبل الأمان
إذ المقصود بالنبذ دفع الغرور، وذلك ينتفى في الوجهين جميعا، إذا كان
النبذ لو طرأ على الأمان دفع (1) ثبوت حكمه، فإذا اقترن بالأمان منع ثبوت
حكمه. بخلاف الأول، فهناك لا علم لأهل الحرب بنهي الأمير، والنبذ إليهم
لم يتحقق ما لم يعلموا به. وإنما صح النبذ قبل الأمان دفعا (2) للضرر عن المسلمين.
فإنه لو لم يصح ذلك تمكن بعض فساق المسلمين أن يحول بينهم وبين فتح
حصونهم بأن يؤمنهم كلما نبذ الأمير إليهم مرة بعد مرة، فلا يظفرون (3)
بحصن أبدا. فلدفع هذا الضرر صح النبذ إليهم قبل الأمان للاعذار والانذار.
954 - ولو كان قال لهم: لا أمان لكم إن آمنكم رجل مسلم حتى
أؤمنكم أنا. ثم أتاهم مسلم فقال: إني (4) رسول (ص 194) الأمير
إليكم، قد آمنكم. فنزلوا على ذلك. فهم آمنون. وإن كان الرجل
كذب في ذلك.
لان عبارة الرسول كعبارة المرسل.
فإن قيل: هذا إذا ثبتت الرسالة، فأما إذا كذب فلا يمكن أن تجعل

(1) في هامش ق " منع. نسخة " وفى ه‍ " رفع ".
(2) ب " منعا ".
(3) في هامش ق " يظهرون. نسخة ".
(4) ق هامش قال لهم إني " وفى هامشها " وقال إني. نسخة م ".
580

عبارته كعبارة الأمير، لأنه لم يرسله، ولا يمكن تصحيح الأمان لهم من
جهته، لأنه لو قال آمنتكم لا يصح، فينبغي أن يكون أمانه باطلا.
قلنا: نعم. ولكن حين أخرج الكلام مخرج الرسالة فقد تحقق معنى
الغرور، إذ لا طريق لهم إلى الوقوف على حقيقة كلامه أنه صادق في ذلك
أو (1) كاذب. وإذا كان (2) عقله ودينه يدعوه إلى الصدق ويمنعه من الكذب
وسعهم أن يعتمدوا على هذا الظاهر، فلو لم يصحح (3) الأمان أدى إلى
الغرور، بخلاف ما إذا أضاف الأمان إلى نفسه.
955 - فإن كان الأمير قال لهم: لا أمان لكم إن آمنكم مسلم
وأتاكم برسالة منى، حتى آتيكم أنا فأؤمنكم بنفسي. والمسألة بحالها
فهم فئ.
لان هذا بمنزلة النبذ لكل أمان إليهم إلا أمانا يسمعونه من لسانه. ولان
دفع الضرر عن المسلمين واجب، ولا طريق للأمير في دفع الضرر عنهم
إلا ما فعله من التقدمة (4) إليهم، فلو لم يصحح ذلك (5) أدى إلى أن يتمكن
الفاسق من إفساد (6) الجهاد على المسلمين، وذلك لا يجوز. إلا أن في هذا
الفصل إن كان الأمير هو الذي أرسل إليهم ليبلغهم الأمان ففعل فهم آمنون.
لان عبارة الرسول كعبارة المرسل، فكأنه آمنهم بنفسه، وهو بما تقدم إليهم
قصد أن يمنعهم من الاعتماد على خبر من يزعم أنه رسول، كاذبا (7)، ولا يمنعهم
من الاعتماد على خبر من يرسله إليهم حقيقة، ولأنه إنما أبطلنا الخبر إذا كان

(1) ق " أم "
(2) ق هامش " وإنما عقله.. " وفى هامشها " وإذا كان عقله. نسخة ميرزا زاده ".
(3) ق " يصح ".
(4) ه‍ " التقديم "، ق " التقدم " وفى هامشها " التقدمة. نسخة ".
(5) في ه‍ وحدها " يصحح ذلك الفعل.. ".
(6) ه‍ " فساد ".
(7) ب " كاذب ".
581

الرسول كاذبا لدفع الضرر عن المسلمين، وهذا لا يوجد فيما إذا كان الرسول
صادقا.
يوضحه: أنه إذا أرسل إليهم بعد تلك المقالة، فذلك رجوع منه (1)
عن تلك المقالة، ورجوعه صحيح.
ألا ترى أنه لو قال لهم: إذا آمنتكم فأماني باطل. ثم (2) آمنهم بعد ذلك
كان ذلك أمانا صحيحا. باعتبار أن هذا رجوع عما قاله لهم (3)، وذلك القول
ما كان ملزما إياه شيئا فيصح رجوعه عنه.
956 - ولو أن مسلما وادع أهل الحرب سنة على ألف دينار
جازت موادعته، ولم يحل للمسلمين أن يغزوهم، وإن قتلوا واحدا منهم
غرموا ديته.
لان أمان الواحد من المسلمين بمنزلة أمان جماعتهم.
957 - وإن لم يعلم الامام بذلك حتى مضت سنة (4) أمضى
موادعته وأخذ المال فجعله في بيت المال.
لان منفعة المسلمين متعينة في إمضاء الموادعة بعد مضى المدة. فهو
بمنزلة العبد المحجور إذا أجر نفسه وسلم من العمل، فإنه ينفذ العقد وتكون (5)
الاجرة للمولى.
وإن كان لو علم به المولى قبل مضى المدة كان متمكنا من فسخ الإجارة.

(1) في هامش ق " منهم. نسخة ".
(2) ق " فآمنهم " وفى هامشها " ثم آمنهم بعد ذلك. نسخة م ".
(3) لا توجد في ق. وفى هامشها " قاله لهم. نسخة ".
(4) ق " السنة " وفى هامشها " سنة. نسخة ".
(5) ه‍ " يكون ".
582

ثم إنما أخذ هذا المال منهم بقوة المسلمين، فإن خوف أهل الحرب
من جماعة المسلمين لا من واحد منهم فلهذا يأخذ المال منهم فيجعله في بيت
المال معدا لنوائب المسلمين.
958 - وإن علم بموادعته قبل مضى السنة، فإنه ينظر في ذلك.
فإن كانت المصلحة في إمضاء تلك الموادعة أمضاها وأخذ المال فجعله
في بيت المال.
لان له أن ينشئ الموادعة بهذه الصفة إذا رأى المصلحة فيها، فلان
يمضيها كان أولى.
وإن رأى المصلحة في إبطالها رد المال إليهم ثم نبذ إليهم وقاتلهم.
لان أمان المسلم كان صحيحا والتحرز عن الغدر واجب.
959 - فإن كان مضى نصف السنة (ص 195)، ففي القياس يرد
نصف المال ويمسك النصف (1) للمسلمين.
اعتبارا للبعض بالكل وقياسا للموادعة، في مدة معلومة بعوض معلوم.
وقياسا على الإجارة. وهناك إذا انفسخ العقد في بعض المدة يسقط من الاجر
بحساب ما بقى، ويتقرر بحساب ما مضى.
وفى الاستحسان يرد المال كله.
لانهم ما التزموا المال إلا بشرط (2) أن يسلم لهم الموادعة في جميع المدة،

(1) ق " نصفه " وفى هامشها " النصف. نسخة ".
(2) ب " لانهم إنما التزموا المال بشرط.. ".
583

والجزاء إنما يثبت باعتبار الشرط جملة، ولا يتوزع على أجزائه. وكلمة على،
للشرط حقيقة (1). والموادعة في الأصل ليست من عقود المعاوضات،
فجعلنا هذه الكلمة فيها عاملة بحقيقتها. فإذا لم يسلم لهم الموادعة سنة كاملة
وجب رد المال كله عليهم. وهذا لأنه ربما يكون خوفهم من بعض المدة
دون البعض، فإنهم يأمنون في الشتاء أن يأتيهم العدو، وإنما يخافون ذلك
في الصيف. فإذا نبذ إليهم في وقت خوفهم، ومنعهم بعض المال، لم يحصل
شئ من مقصودهم بهذا الشرط، وذلك يؤدى إلى الغرور، فلهذا يرد المال
إن (2) نبذ إليهم قبل مضى المدة.
960 - وإن كانوا وادعوه ثلاث سنين، كل سنة بألف دينار،
وقبض المال كله، ثم أراد الامام نقض الموادعة بعد مضى سنة (3) فإنه
يرد عليهم الثلثين.
لان الموادعة كانت هاهنا بحرف الباء، وهو يصحب الأعواض،
فيكون المال عوضا، فينقسم على المعوض باعتبار الاجزاء، كيف وقد فرق
العقود ههنا بتفريق التسمية حيث قال: كل سنة بألف دينار. بخلاف الأول
فهناك العقد واحد في جميع السنة، والمال مذكور بحرف على، وهو حرف
الشرط.
فإن قيل: أليس أن في الإجارة بين أن يقرن بالبدل حرف الباء أو حرف
على في أنه يتوزع البدل على المدة، وكذلك في باب البيع، فلماذا فرق
بينهما هنا؟
قلنا: لان البيع والإجارة معاوضة باعتبار الأصل، ولا يحتمل التعليق
بالشرط، وأما الموادعة فليست بمعاوضة باعتبار الأصل، وإنما تصير معاوضة

(1) ق " للشرط في الحقيقة " وفى هامشها " على للشرط حقيقة. نسخة م ".
(2) ب " إذا ".
(3) ق " السنة " ه‍، ب وفى هامش ق " سنة. نسخة م ".
584

عند التصريح بحرف الباء الذي يصحب الأعواض، وهي تحتمل التعليق
بالشرط. فإذا ذكر فيها حرف الشرط كان محمولا على الشرط حقيقة.
وبهذا الفصل يستدل أبو حنيفة فيما إذا قالت المرأة لزوجها: طلقني
ثلاثا على ألف درهم. فطلقها واحدة، أنه لا يجب شئ من المال، بخلاف
ما إذا قالت بألف درهم.
لان الطلاق يحتمل التعليق بالشرط ليس بمعاوضة، باعتبار الأصل،
فيفصل فيه بين حرف الباء وعلى كما في الأمان. ولكنهما قالا: الخلع معاوضة.
وما هو المقصود لها - وهو زوال ملكه عنها - يحصل بالواحدة (1)، فرجحنا
معنى المعاوضة فيه بخلاف الأمان على ما قررنا.
961 - ولو حاصر المسلمون حصنا فقال أميرهم لأهل الحصن:
إني لعلى أن أؤمنكم، فمتى آمنتكم فأماني باطل. أو قال: فلا أمان لكم.
أو: فقد نبذت إليكم. ثم آمنهم. فأمانه باطل كما قال.
لأنه بين لهم على وجه انتفى شبهة الغرور من كل وجه. وهو بما تقدم
من الكلام يصير كأنه نبذ إليهم الأمان الذي يكون منه.
فإن قيل: لماذا لم يجعل إقدامه على الأمان رجوعا عن تلك المقالة كما
في المسألة المتقدمة؟
قلنا: هناك في الوضع زيادة هو أنه آمنهم بعد مقالته وقال: قد أبطلت
قولي لكم انه لا أمان لكم. فهذا البيان يظهر أنه رجوع. فأما هنا فليس في
كلامه ما يدل على الرجوع عن المقالة الأولى بل ما يدل على تحقيقها.
ألا ترى أنه لو قال لهم: إني أقاتل أهل هذا الحصن معكم، وقد دعوتهم
إلى أن أؤمنهم فلم يجيبوني. فأنا أريد أن أظهر لكم الأمان، لعلى (ص 196)

(1) ق، ب، ه‍ " بالواحدة هناك. ".
585

إذا دعوتهم أجابوني. وهذا الأمان الذي أظهره لكم باطل وزور فلا تغتروا
به. ثم آمنهم كان ذلك باطلا.
وهذا لان الأمان مما يحتمل النقض، فإذا أعلمهم أن تكلمه به باطل
ثم تكلم بعد ذلك فهو بمنزلة من لم يتكلم به.
ونظائر هذا في (1) فصول التلجئة (2) في البيع وغيره. وقد بيناه
في كتاب الاكراه والاقرار.
وذكر بعد هذا باب النزول على الحكم وقد بينا تمام الشرح هذا الباب
فيما أمليناه من شرح الزيادات.

(1) في هامش الأصل إلى جانب هذه الكلمة " بلغ قراءة عليه أبقاه الله تعالى ".
(2) في حاشية ه‍ " التلجئة أن يلجئك إلى أن تأتى أمرا باطنه خلاف ظاهره. مغرب ".
586

66 - باب الحكم في أهل الحرب إذا نزلوا على حكم
رجل من المسلمين (1)
962 - قال: وإذا نزل أهل الحصن (2) قد حوصروا فيه على حكم
رجل من المسلمين فذلك جائز لقوله عليه السلام: ولكن أنزلوهم
على حكمكم، ثم احكموا فيهم ". ولان الروايات اختلفت في نزول
بني قريظة على الحكم. فذكر بعض أهل المغازي أنهم نزلوا على حكم
سعد بن معاذ رضي الله عنه ابتداء - فإن النبي عليه السلام لما حاصرهم
خمس عشرة ليلة وكان قال لهم في الابتداء - حين أخبره على رضي الله عنه
إنهم يسبونه -: يا إخوة القردة والخنازير! أتسبونني؟ أنزلوا على
حكم الله وحكم رسوله.
فقالوا: لا يا أبا القاسم! ما كنت فحاشا.
ثم لما طال عليهم الامر (3) عرض عليهم أن ينزلوا على حكم من
شاءوا من المسلمين. وكانوا حلفاء (4) الأوس قبل مبعث رسول الله. (5)

(1) عنوان هذا الباب في ه‍ " باب من نزول أهل الحصن على حكم من شاءوا من المسلمين ".
(2) ق، ه‍ " الحصن " وفى هامش ق " أهل حصن. نسخة ".
(3) ه‍، ق " لما طال الامر " ب " لما طال الامر عليه ".
(4) ق " خلفاء " خطأ
(5) ق " مبعث النبي.. ".
587

وكان سعد بن معاذ سيد الأوس، فرضوا بالنزول على حكمه [(1) رجاء
أن يحسن إليهم لما كان بينه وبينهم في الجاهلية. فأنزلهم رسول الله
على حكمه].
فهذا يدل على أنه لا بأس بأن ينزلهم على حكم رجل من المسلمين.
والأشهر أنهم نزلوا على حكم رسول الله عليه السلام. ثم جعل
رسول الله عليه السلام الحكم فيهم إلى سعد بن معاذ برضاهم. فإنما فعل
ذلك لان الأنصار أحاطوا برسول الله فكلموه في شأنهم على سبيل
الشفاعة. فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم مراعاة قلوبهم فقال:
ألا ترضون أن يحكم فيكم رجل منكم؟ قالوا: نعم. قال: فذاك إلى سعد
ابن معاذ.
وإنما جعل ذلك إليه لأنه كان أصابه سهم يوم الخندق فقطع أكحله.
وكان لا يرقأ الدم. فدعا وقال: اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش
شيئا فأبقني لذلك. فلا شئ أحب إلى من قتال قوم أخرجوا رسولك
من بين أظهرهم. وإن لم تبق من ذلك شيئا فاجعل هذا سبب شهادتي،
ولا تمتني حتى تقر عيني في بني قريظة.
فلما دعا بذلك رقأ الدم.
وإنما تكلم بهذا الدعاء لأنه كان أتى بني قريظة بأمر رسول الله

(1) ما بين [] لا يوجد في الأصل. وهو في جميع النسخ.
588

صلى الله عليه وسلم مع جماعة من رؤوس الأنصار حين أخبر أنهم نقضوا
العهد ليدعوهم إلى تجديد العهد. فأغلظوا له القول وشتموه. فانصرف
عنهم وهو يقول: أتشتموني؟ بيننا وبينكم أهم من الشتم (1) وهو
السيف. فلما هزم الله الأحزاب وحاصر المسلمون بني قريظة دعا هو
بهذا الدعاء. فلما نزلت بنو قريظة على حكم رسول الله جعل الحكم فيهم
إلى سعد بن معاذ، وهو كان مريضا في مسجد رسول الله.
فأتاه الأنصار وحملوه على حمار ليأتوا به معسكر رسول الله. فجعلوا
يكلمونه في الطريق ويقولون: حلفاؤك ومواليك، أمكنك الله منهم
فأحسن إليهم. وقد علمت أن رسول الله عليه السلام يحب الاحسان
والابقاء (2). وقد علمت ما فعل عبد الله بن أبي في تخليص حلفائه من
بنى قينقاع، وأنت أحق بذلك منه.
فلما أكثروا من ذلك مسح لحيته بيده وقال: لقد آن لسعد
أن لا يأخذه في الله لومة لائم. فقالوا فيما بينهم: هلكت قريظة والله.
فانصرفوا عنه إلى مجلس رسول الله.
فلما أتى سعد إلى مجلس رسول الله قال للأنصار: قوموا لسيدكم
(ص 197)، فأنزلوه. فلما جلس بين يدي رسول الله قال: قد جعلت
الحكم فيهم إليك فاحكم فيهم.

(1) ق، ه‍ " أهم من هذا الشتم ".
(2) ق، ه‍، ب " الايفاء ".
589

فأقبل سعد عليهم وقال: عليكم عهد الله وميثاقه أن الحكم فيكم
ما حكمت. قالوا: نعم. ثم قال للناحية التي فيها رسول الله عليه السلام،
وهو معرض إجلالا لرسول الله،: وعلى من هنا بمثل ذلك. فقال
رسول الله ومن معه: نعم. قال سعد: فإني حكمت فيهم بأن تقتل
الرجال، وتسبى النساء والذرية، وتقسم الأموال.
فقال عليه السلام: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة
أرقعة، أي سبع سماوات. وهكذا روى في بعض الروايات.
ففي هذا دليل أنهم إذا نزلوا على حكم رجل فجعل الحكم إلى غيره
برضاهم انه يجوز، وليس له أن يجعل إلى غيره بغير رضاهم، لان سعدا
أخذ عليهم العهد بين يدي رسول الله عليه السلام ليسترضيهم بذلك، ولم ينكر
ذلك عليه رسول الله عليه السلام. وهذا لان الناس يتفاوتون في الرأي، وهذا
الحكم مما يحتاج فيه إلى الرأي. فرضاهم بحكم شخص لا يكون رضا بحكم
شخص آخر، حتى إذا جعله إلى غيره بغير رضاهم فحكم بشئ لم ينفذ حكمه،
إلا أن يجيزه المحكم (1) الأول بعد ما يعلم به، فحينئذ ينفذ. لان اجازته بمنزلة
انشائه. ولأنه إنما تم الحكم برأيه وقد رضوا بذلك. ثم إن حكم المحكم فيهم
بأن يقتل المقاتلة أو بأن يجعلوا ذمة أو بأن يجعلوا فيئا فذلك كله نافذ، استدلالا
بما حكم به سعد.
وذكر في بعض الروايات أن سعدا حكم يومئذ بأن يقتل من
جرت عليه الموسى. وبه يستدل من يقول بأن البلوغ باعتبار نبات
العانة. ولسنا نقول بهذا.

(1) ق " الحكم " وفى هامشها " المحكم. نسخة م ".
590

لان نبات العانة يختلف فيه أحوال الناس.
ألا ترى أن ذلك يبطئ في الأتراك ويسرع في الهنود. فلا يمكن أن
يجعل حكما. وتأويل هذا أنه علم باخبار رسول الله إياه من طريق الوحي
ان ذلك علامة بلوغ بني قريظة. وإنما حكم بذلك لان من جرت عليه الموسى
منهم كان مقاتلا. وإنما حكم بقتل مقاتلهم. والمقاتل يقتل بالغا كان أو غير
بالغ. ولكن الأول أصح لان غير البالغ إنما يقتل قبل الأسر إذا قاتل، فأما بعد
ما أسر فلا يقتل.
ثم ذكر:
أنه لما حكم فيهم سيقوا حتى حبسوا في دار بنت الحارث النجارية
وأمر بهم أن يكتفوا.
وهكذا ينبغي أن يصنع بالأسراء. قال الله تعالى (حتى إذا أثخنتموهم
فشدوا الوثاق) (1).
قال: ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم لبني قريظة حتى قتل
من قتل منهم في يوم صائف. وسمى ممن قتل منهم بين يدي رسول الله
في المغازي: حيى بن أخطب، وكعب بن أسيد، وجماعة. فلما انتصف
النهار قال النبي عليه السلام، لا تجمعوا عليهم حر الشمس وحر السلاح.
قيلوهم واسقوهم حتى يبردوا. ثم اقتلوا من بقى منهم.
وفى المغازي ذكر أن رسول الله عليه السلام قام وقال لسعد بن معاذ:
شأنك ومن بقى منهم. وكان الذين يلون قتلهم علي بن أبي طالب والزبير بن

(1) سورة محمد، 47، الآية 4.
591

العوام. فقتلوا عند موضع دار ابن أبي الجهم (1). فسالت دماؤهم حتى بلغ
أحجار الزيت (2).
ولم يبين في الكتاب عدد من قتل منهم. وقد اختلفت الروايات فيه.
فأظهر الروايتين أنهم قتلوا سبع مئة رجل منهم. وقال مقاتل: قتلوا أربع مئة
وخمسين. وكان عدد السبي ست مئة وخمسين. فكان كل من يشك في أمره
يكشف عن عانته، على ما قال عطية القرظي: شكوا في أمرى يومئذ فكشفوا
عن عانتي، فإذا أنا لم أنبت، فجعلوني (ص 198) في الذرية.
وذكر عن عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى أمراء الأجناد أن
اقتلوا من جرت عليه الموسى، ولا تسبوا إلينا من العلوج أحدا.
وإنما نهى عن ذلك على سبيل النظر للمسلمين حتى لا يقصدوهم بسوء.
ألا ترى أنهم حين لم يبالغوا في مراعاة نهيه ابتلى بمثل ذلك فقتله أبو لؤلؤة (3)
وكان نصرانيا وكان مجوسيا (4)؟
وذكر عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: عرضت على رسول الله
يوم أحد وأنا ابن ثلاث عشرة سنة، فردني. ثم عرضت عليه يوم
الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فقبلني في المقاتلة.
وإنما أورد هذا مستدلا به على أنه لا يحكم في البلوغ نبات العانة،
وإنما يعتبر فيه العلامة بالاحتلام، أو بأن يتم له خمس عشرة سنة، في قول
أبى يوسف ومحمد رحمهما الله. وفى قول أبي حنيفة رحمه الله ثمان عشرة سنة
في رواية وتسع عشرة سنة في رواية. وقد بينا هذه المسألة في كتاب الطلاق.
تم أبواب الأمان بحمد الله وتوفيقه. آمننا الله من النار وأسكننا دار القرار (5).

(1) ه‍، ق " عند موضع دار أبى الجهم " وفى هامش ق " عند دار أبى الجهم، نسخة م "
(2) موضع بالمدينة قريب من الزوراء. وهو موضع صلاة الاستسقاء (معجم البلدان).
(3) في هامش ص " قاتل عمر ".
(4) قوله " وكان نصرانيا " لا توجد في سائر النسخ.
(5) قوله " آمننا بالله.. " لا يوجد في ه‍، ب. وبهذا الباب ينتهى الجزء الأول من ه‍.
592

67 أبواب الأنفال (1)
963 الأنفال الغنائم في أصل الوضع. وأصلها نفل. ومنه
قول القائل.
إن تقوى ربنا خير نفل وبإذن الله ريثي والعجل (2)
وقال الله تعالى (يسألونك عن الأنفال) (3) أي الغنائم.
وسبب نزول الآية ما روى عن عبادة بن الصامت قال: ساءت أخلاقنا
يوم بدر فحرمنا.
فقيل: وكيف ساءت أخلاقكم؟
قال: لما هزم الله العدو افترقنا ثلاث فرق:
فرقة كانوا حول رسول الله، عليه السلام، يحرسونه.
وفرقة اتبعوا المنهزمين.
وفرقة جمعوا الأموال.
ثم ادعت كل فرقة أنها أحق بالغنائم. فاجتمعنا عند رسول الله، عليه
السلام، وارتفعت أصواتنا، ورسول الله ساكت. فأنزل الله تعالى في تلك
الحالة (يسئلونك عن الأنفال. قل: الأنفال لله والرسول. الآية) (3).

(1) ب، ق، ه‍، " باب الأنفال ".
(2) البيت للبيد. انظر اللسان.
(3) سورة الأنفال، 8، الآية 1.
593

والمراد في استعمال لفظ الأنفال في عبارة الفقهاء ما يخص به الامام بعض
الغانمين. فذلك الفعل يسمى منه تنفيلا، وذلك المحل (1) يسمى نفلا.
964 ولا خلاف أن التنفيل جائز قبل الإصابة، للتحريض على
القتال. فإن الامام مأمور بالتحريض. قال الله تعالى (يا أيها النبي
حرض المؤمنين على القتال) (2) فهذا الخطاب لرسول الله ولكل
من قام مقامه. والتحريض بالتنفيل. فإن الشجعان قل ما يخاطرون
بأنفسهم إذا لم يخصوا بشئ من المصاب. فإذا خصهم الامام بذلك
فذلك يغريهم على المخاطرة بأرواحهم وإيقاع أنفسهم في حلبة العدو (3).
وصورة هذا التنفيل أن يقول: من قتل قتيلا فله سلبه، ومن
أخذ أسيرا فهو له. كما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم المنادى
حين نادى يوم بدر ويوم حنين.
أو يبعث سرية فيقول: لكم الثلث مما تصيبون بعد الخمس.
أو يطلق بهذه الكلمة. فعند الاطلاق لهم ثلث المصاب قبل
أن يخمس يختصمون به، وهم شركاء الجيش فيما بقى بعد ما يرفع منه
الخمس. وعند التنفيل بهذه الزيادة يخمس ما أصابوا، ثم يكون لهم
الثلث مما بقى يختصون به، وهم شركاء الجيش فيما بقى. ولا يستحق القاتل
بدون تنفيل الامام عندنا.

(1) ه‍ " المال ".
(2) سورة الأنفال، 8، الآية 65.
(3) الحلبة بالفتح والتسكين خيل تجمع للسباق من كل أوب (الصحاح).
594

وعلى قول الشافعي من قتل مشركا على وجه المبارزة وهو مقبل غير
مدبر استحق سلبه، وإن لم يسبق التنفيل من الامام. لان قول رسول الله عليه
السلام من قتل قتيلا فله سلبه، لنصب الشرع. ومثل هذا الكلام في لسان
صاحب الشرع لبيان السبب كقوله " من بدل دينه (ص 199) فاقتلوه ".
965 ولكنا نقول هذا لو أن قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم هذه الكلمة بالمدينة بين يدي أصحابه. ولم ينقل أنه قال هذا
إلا بعد تحقق الحاجة إلى التحريض. فإن مالك بن أنس قال: لم يبلغنا
أن النبي عليه السلام قال في شئ من مغازيه " من قتل قتيلا فله سلبه "
إلا يوم (1) حنين. وذلك بعد ما انهزم المسلمون (2) ووقعت الحاجة إلى
تحريضهم ليكروا (3)، كما قال تعالى (ثم وليتم مدبرين) (4).
وذكر محمد بن إبراهيم التيمي أنه قال: ذلك يوم بدر أيضا. وقد
كانت الحاجة إلى التحريض يومئذ معلومة، فإنهم كانوا كما وصفهم الله
تعالى به في قوله (وأنتم أذلة) (5).
فعرفنا انه انما قال ذلك بطريق التنفيل للتحريض، لا بطريق نصب الشر
وأيد ما قلنا ما ذكره عبد الله بن شقيق قال: كان النبي صلى الله
عليه وسلم محاصرا وادى القرى (6)، فأتاه رجل فقال: ما تقول في الغنايم؟

(1) ه‍، ب، ق " الا في موضع يوم.. ".
(2) في هامش ق " بعد انهزام المسلمين، نسخة م ".
(3) ب " ليكثروا " وقد ضبطها في ق بضم الكاف وذكر في الهامش " وفى رواية بالكسر.
نسخة م ".
(4) سورة التوبة، 9، الآية 25
(5) سورة آل عمران، 3 الآية 123
(6) أنظر عنه معجم البلدان (أوربة) 4: 878
595

فقال: لله سهم ولهؤلاء أربعة.
قال: فالغنيمة يغنمها الرجل؟
قال: إن رميت في جنبك بسهم فاستخرجته فلست بأحق به من
من أخيك المسلم.
فهذا دليل ظاهر على أن القاتل لا يستحق السلب بدون التنفيل.
وعلى هذا القول اتفق أهل العراق وأهل الحجاز.
وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا نفل بعد إحراز الغنيمة. وهو
مذهب أهل العراق والحجاز. وأهل الشام يجوزون التنفيل بعد
الاحراز. وممن قال به الأوزاعي. وما قلنا دليل على فساد قولهم.
لان التنفيل للتحريض على القتال وذلك قبل الإصابة لا بعدها.
ولان التنفيل لاثبات الاختصاص (1) ابتداء، لا لابطال حق ثابت
للغانمين، أو لابطال حق ثابت في الخمس لأربابها. وفى التنفيل بعد الإصابة
إبطال الحق.
966 والدليل على أنه لا يجوز ذلك حديث الحسن أن رجلا سأل
رسول الله صلى الله عليه وسلم زماما من شعر من المغنم. فقال: ويلك!
سألتني زماما من نار مرتين أو ثلاثا (2) والله ما كان لك أن
تسألينه، وما كان لي أن أعطيكه (3).

(1) ق " التخصيص، أي الاختصاص ابتداء " وفى هامشها " الاختصاص ابتداءه نسخة حصر "
(2) ق " ثلاثة ".
(3) ه‍ " أعطيك ".
596

وعن مجاهد أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبة (1)
من شعر أخذه من المغنم فقال: هب لي هذه. فقال: أما نصيبي منها فلك.
وعن أبي الأشعث الصنعاني قال: جاء رجل إلى النبي عليه السلام
ومعه زمام من شعر. فقال: مر لي بهذا الزمام، فإنه ليس لراحلتي
زمام. فقال: سألتني زماما من نار. مالك أن تسألينه ومالي أن أعطيكه.
فرمى به في المغنم.
ولو جاز التنفيل بعد الإصابة لما حرمه رسول الله عليه السلام ذلك
مع صدق حاجته.
والذي روى (2) أن النبي صلى الله عليه وسلم نفل بعد الاحراز فإنما
يحمل على أنه أعطى ذلك من الخمس بعض المحتاجين باعتبار أنه من
المساكين.
أو أعطى ذلك من سهم نفسه من الخمس أو الصفي (3) الذي كان له
على ما قال: " لا يحل من غنائمكم إلا الخمس والخمس مردود فيكم ".
أو أعطى مما أفاء الله عليه لا بإيجاف الخيل والركاب، كأموال
بنى النضير. فقد كانت (4) خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. قال
الله تعالى (ما أفاء الله على رسوله. الآية) (5).

(1) ه‍، ق، ب، " بكثبة ". وفى هامش ق " بكبة. نسخة م ".
(2) ق، ب " يروى ".
(3) ق " الصفا " وفى هامشها " من الصفي. نسخة م ".
(4) في هامش ق " فإنها كانت. نسخة م ".
(5) سورة الحشر، 59، الآية 6.
597

أو أعطى ذلك من غنايم بدر. فقد كان الامر فيها مفوضا إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى (قل الأنفال لله والرسول) (1) ثم انتسخ
ذلك بقوله (واعلموا أن ما غنمتم من شئ فأن لله خمسه). الآية (2).
وذكر
967 عن موسى بن سعد (3) بن يزيد أو زيد (ص 200) قال:
نادى منادى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر: من قتل قتيلا فله
سلبه، وما أخذوا بغير قتال، قسمه بينهم عن فواق (4).
يعنى على سواء.
وهكذا ذكر عن ابن عباس رضي الله عنه قال: لما نزلت الآية (يسألونك عن الأنفال إلى قوله لكارهون) فقسمها بينهم
بالسواء.
وقد اتفقت الروايات على أنه أعطى كل قاتل سلب قتيله يومئذ
على ما ذكر عن عاصم بن عمرو بن قتادة قال: أخذ على سلب الوليد
ابن عتبة، وأخذ حمزة سلب عتبة، وأخذ عبيدة بن الحارث سلب شيبة

(1) سورة الأنفال، 8، الآية 1.
(2) سورة الأنفال، 8، الآية 41.
(3) ه‍، ب، ق ".. سعد بن زيد ". وفى التقريب " موسى بن سعد أو سعيد "
انظر حاشية ه‍.
(4) في هامش ق " قسم الغنائم يوم بدر عن فواق، أي قسمها في قدر من فواق الناقة وهو
قدر ما بين الحلبتين من الراحة. بضم الفاء وتفتح. وقيل أراد التفضيل في القسمة كأن جعل بعضهم
أفوق من بعض على قدر عنائهم وبلائهم. نهاية ".
598

فدفعه إلى ورثته. وكان عبيدة قد جرح فمات في ذات أجدال
بالصفراء (1) قبل أن ينتهى إلى المدينة.
وهو اسم موضع.
968 واختلفت الروايات في قاتل أبى جهل. فروى عن
عبد الرحمن بن عوف قال: كنت يوم بدر بين شابين حديث أسنانهما
أحدهما معوذ بن عفراء والآخر معاذ بن عمرو بن الجموح فقال لي أحدهما:
أي عم أتعرف أبا جهل؟ قلت: وما شأنك به؟ قال: بلغني أنه سب
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوالله لو لقيته لما فارق سوادي سواده،
حتى يموت الأعجل منا موتا، وغمزني الآخر إلى مثل ذلك.
ثم لقيت أبا جهل وهو يسوى صف المشركين. فقلت: ذاك
صاحبكما الذي تريدانه. فابتدراه بسيفيهما فقتلاه. وجاءا إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال كل واحد منهما: أنا قتلته فلي سلبه. فقال عليه
السلام: أمسحتما سيفكما؟ فقالا: لا. فقال: أرياني سيفكما. فأرياه
فقال: كلا كما قتله. ثم أعطى السلب معوذ بن عفراء.
وذكر في المغازي أنه انما خصه لأنه رأى أثر الطعان على سيفه فعلم أنه
هو القاتل وأنه أعانه الآخر.

(1) الصفراء: واد من ناحية المدينة كثير النخل والزرع، في طريق الحاج، بينه وبين
بدر مرحلة (معجم البلدان) وورد في حاشية ه‍ أن ذات أجدال، بالجيم والحاء، دار في طريق مكة
(المغرب).
599

وروى أنه بعث إلى عكرمة بن أبي جهل فسأله: من قتل أباك؟ فقال:
الذي قطعت أنا يده.
وإنما كان قطع يد معوذ بن عفراء من المنكب.
وأشهر الروايتين أنه أثخنه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأجهز
عليه ابن مسعود.
على ما روى عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنت أفتش القتلى
يوم بدر لأبشر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن أراه مقتولا منهم. فرأيت
أبا جهل صريعا وبه رمق، فجلست على صدره، ففتح عينيه وقال: يا رويعي
الغنم، لقد ارتقيت مرتقى عظيما.
فقلت: الحمد لله الذي مكنني من ذلك.
فقال: لمن الدبرة؟
فقلت: لله ولرسوله.
فقال: ماذا تريد أن تصنعه؟
فقلت: أحز رأسك.
فقال: خذ سيفي فهو أمضى لما تريد، واقطع رأسي من كاهلي ليكون
أهيب في عين الناظر. وإذا رجعت إلى محمد فأخبره أنى اليوم أشد بغضا له
مما كنت من قبل.
فقال: قطعت رأسه وأتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت:
هذا رأس عدو الله أبى جهل.
فقال عليه السلام: الله أكبر، هذا فرعوني وفرعون أمتي. كان شره
على وعلى أمتي أعظم من شر فرعون على موسى وأمته، ثم نفلني سيفه.
زاد في بعض الروايات: وأخبرته بما قال، فقال: إنه كفر في الدنيا
وعند موته، وسيكفر في النار أيضا.
قيل: وكيف يا رسول الله؟ قال: إذا دخل النار جعل ينظر ويقول
600

لأصحابه: أين محمد وأصحابه؟ فيقال له: هم في الجنة.
قال: كلا، إنما كان اليوم يوم زحمه (1) (ص 201) فهربوا.
والروايات متفقة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى ابن مسعود
سيفه. وفى بعض الروايات أيضا أعطاه سلبه.
فإن صح هذا فإنما يحمل على أن الذي جرحه ما أثخنه، فيكون قاتله
من قطع رأسه. وإن كان الصحيح أنه أعطى سلبه غير ابن مسعود فإنما يحمل
على أن الأول كان أثخنه وصيره بحال يعلم أنه لا يعيش ولا يتصور منه القتال،
فيكون السلب له دون من قطع رأسه. وإنما أعطى سيفه ابن مسعود لان
التدبير في غنايم بدر كان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما بينا.
وبهذا يستدل من يجوز التنفيل بعد الإصابة فإنه يقول: أعطاه سيفه
على طريق التنفيل. وهذا ضعيف لان ما كان مستحقا لغيره بالتنفيل لا يجوز
أن ينفله الامام لغيره، كيف وقد روى أنه كان على سيفه فضة؟ وعلى قول
أهل الشام لا نفل في ذهب ولا فضة، على ما بينه، وإن كان هذا تنفيلا، فهو
حجة لنا عليهم.
969 وذكر عن أبي قتادة رضي الله عنه قال قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم يوم حنين: من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه.
وتمام هذا الحديث أن أبا قتادة قال: كان للمسلمين جولة يوم حنين.
فلقيت رجلا من المشركين قد علا رجلا من المسلمين. فأتيته من ورائه وضربت
على حبل عاتقه ضربة، فتركه وأقبل على فضمني إلى نفسه ضمة شممت منها
ريح الموت. ثم أدركه الموت فأرسلني، فأتيت رسول الله صلى الله عليه
وسلم فسمعته يقول: من قتل قتيلا وله عليه بينة فله سلبه.
فقلت: من يشهد لي؟
فقال رجل: صدق يا رسول الله سلب ذلك القتيل عندي فأرضه عنى.

(1) في ص، ب، ه‍. " رحمه " أثبتنا رواية ق.
601

فقال أبو بكر لا ها الله! (1) أيعمد (2) أسد من أسد الله يقاتل عن الله وعن رسوله
ثم يعطيك سلبه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق أبو بكر.
وأعطاني سلبه.
970 وذكر عن ابن عباس رضي الله عنه قال: لا مغنم حتى
يخمس، ولا نفل حتى يقسم جفة.
أي جملة.
وإنما أراد بهذا نفى التنفيل بعد الإصابة، نفى اختصاص واحد من الغانمين
بشئ قبل الخمس بغير تنفيل. وهو مذهبنا.
971 وذكر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لا نفل
في أول الغنيمة، ولا بعد الغنيمة، ولا يعطى من الغنايم إذا اجتمعت
إلا راع أو سائق أو حارس (3) غير محابي.
ومعنى قوله لا نفل في أول الغنيمة أي بعد الإصابة: لا ينبغي للامام
أن ينفل أحدا شيئا قبل رفع الخمس ولا بعد رفع الخمس. وقيل معناه لا ينبغي
له أن ينفل في أول اللقاء قبل الحاجة إلى التحريض، لان الجيش في أول اللقاء
يكون لهم نشاط في القتال فلا تقع الحاجة إلى التحريض، فأما بعد ما طال
الامر وقل نشاطهم فتقع الحاجة إلى التحريض، فينبغي أن يكون التنفيل عند ذلك.
فلا ينبغي أن ينفل بعد الإصابة. وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفل

(1) في هامش ق " أي لا والله. حصيري ".
(2) ه‍ " إذا لا يعمد ".
(3) ه‍ " حارث ".
602

في البداءة الربع وفى الرجعة الثلث. فأهل الشام حملوا هذا على التنفيل
بعد الإصابة، وليس كما ظنوا، بل المراد به أنه كان ينفل أول السرايا
الربع، وآخر السرايا الثلث لزيادة الحاجة إلى التحريض.
فان أول السرايا يكونون ناشطين في القتال (ص 202) فلا يحتاجون
إلى الامعان في طلب العدو، وآخر السرايا قد قل نشاطهم ويحتاجون إلى الامعان
في الطلب. فلهذا زاد فيما نفل لهم. وأما الراعي والسائق والحارس فهم أجراء
يعطيهم الامام أجرهم باعتبار عملهم للمسلمين. وهو معنى قوله غير محابي،
فإنما يعطيهم الاجر بقدر عملهم، وليس ذلك من النفل في شئ.
972 وذكر عن خالد بن الوليد وعوف بن مالك أنها كانا
لا يخمسان الأسلاب.
وعن حبيب بن مسلمة ومكحول أن السلب مغنم وفيه الخمس.
وهكذا روى عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وإنما يؤخذ بقول هؤلاء لقوله تعالى (واعلموا أنما غنمتم من
شئ) (1). والسلب من الغنيمة. وتأويل ما نقل عن خالد وعوف إذا
تقدم التنفيل من الامام لقوله " من قتل قتيلا فله سلبه ".
وعندنا في هذا الموضع لا يخمس السلب.
فأما بدون التنفيل يخمس، على ما روى عن مكحول أن البراء

(1) سورة الأنفال، 8، الآية 41
603

ابن مالك أخو أنس بن مالك قتل مرزبان الزارة (1) وأخذ سلبه مذهبا
بالذهب مرصعا بالجواهر تبلغ قيمته أربعين ألفا. فكتب صاحب
الجيش ذلك إلى عمر رضي الله عنه. فكتب عمر أن يأخذ منه الخمس
ويدفع سائر ذلك إليه.
وهذا مشكل، فإنه إن كان سبق التنفيل فلا خمس في السلب. وإن كان
لم يسبق التنفيل فأعطى ما بقى إلى البراء فيكون تنفيلا بعد الإصابة. وذلك
لا يجوز عندنا. ولكن تأويله (2) أنه كان تقدم بتنفيل مقيد بأن كان الأمير
قال: من قتل قتيلا فله سلبه بعد الخمس. وفى هذا الموضع يخمس السلب
عندنا والباقي للقاتل.
وذكر عن ابن عباس رضي الله عنه قال: الفرس والسلب
من النفل.
والمراد أن القاتل بعد التنفيل يستحق الفرس، لان السلب اسم لما يسلب
منه بإظهار، الجزاء والعناء (3). وهذا يتحقق في الفرس كما يتحقق في السلب،
فيدخل الكل في التنفيل بقوله.
973 فإن جرح الكافر رجل بعد تنفيل الامام ثم قتله الآخر،

(1) في هامش ق " المرزبان معرب وهو الكبير من الفرس، والجمع المرازبة. يقال للأسد
مرزبان الزارة للاستعارة، لان الزارة الأجمة، وهي فعلة من زئير الأسد وهو صياحه، جعلت
الألف فيها همزة ساكنة، وقد تلين. وقد ذكره.. في باب فعل من المعتل العين.
وأما ما في السير من حديث البراء بن أنس أنه بارز مرزبان الزارة فهو إما لقب ذلك المبارز
كما يلقب الأسد، أو مضاف إلى الزارة قرية بالبحرين. والأول أصح. مغرب ".
(2) ق، ه‍ " ولكن تأويله عندنا.. ".
(3) ه‍، ب، ق، ص " الغناء " وفى ق " وقيل بالعين. نسخة " أما الجزاء فقد رجح
في هامش ه‍ أنها " الجرأة ".
604

فإن كان الأول صيره بحيث لا يستطيع قتالا ولا عونا بيد ويعلم أنه
لا يعيش مع مثل تلك الجراحة فالسلب للأول، وإلا فالسلب للثاني.
لان مقصود الامام من هذا التنفيل أن يظهر القاتل فضل جزاء وعناء
بقتل المشرك. وهذا إنما حصل من الأول دون الثاني. لأنه إذا صار بحيث
لا يتوهم القتال منه، فالثاني لا يحتاج إلى عناء وقوة في حز رأسه، وإن كان
يتحامل مع تلك الجراحة ويتوهم أن يعيش ويقاتل فقد أظهر الثاني بقتله العناء
والقوة فيكون السلب له.
ألا ترى أن الصيد إذا رماه إنسان فأثخنه، ثم رماه آخر فقتله كان
للأول. ولو كان يتحامل بعد رمى الأول حتى رماه الثاني فهو للثاني.
واستدل على هذا بحديث محمد بن إبراهيم التيمي.
974 قال: قطع محمد بن مسلمة رجلي (1) مرحب (2) وضرب على
عنقه. فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم سلبه محمد بن مسلمة.
وفى بعض الروايات أنهما اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فقال محمد: والله يا رسول الله ما قطعت رجليه إلا وأنا قادر على قتله،
ولكني أردت أن يذوق من الموت ما ذاق أخي محمود. وكان مرحب
قد دلى عليه حجر الرحاء. فمكث ثلاثا حيا ثم مات. فقضى رسول الله
عليه السلام (ص 203) بسلبه لمحمد بن مسلمة.
وروى أنه لما قطع محمد بن مسلمة رجليه قال مرحب: أجهز على

(1) ه‍ " رجل ".
(2) في هامش ق " مرحب اسم رجل. مغرب ".
605

يا محمد! فقال: لا، حتى تذوق ما ذاق أخي محمود. وجاوزه. فجاء على
ابن أبي طالب رضي الله عنه فذفف (1) عليه. أي حز رأسه وأخذ سلبه.
فجعل النبي صلى الله عليه وسلم سلبه لمحمد بن مسلمة.
قال الراوي من أولاده: وكان سيف مرحب عندنا، فيه كتاب كنا
لا نعرفه حتى جاء يهودي فقرأه، فإذا فيه: هذا سيف مرحب، من يذقه
يعطب.
975 وذكر عن عمر رضي الله عنه أنه قال: عانق رجل رجلا،
وجاء آخر فقتله. فأعطى سلبه للذي قتله.
وعن علي رضي الله عنه أنه قال: هو بينهما.
لان كل واحد منهما أظهر زيادة عناء وقوة أحدهما بإثباته والآخر بقتله.
وإنما نأخذ بقول عمر رضي الله عنه لان الأول بإمساكه لم يخرجه من
أن يكون مقاتلا، وإنما القاتل هو الثاني في الحقيقة. فيكون السلب له بالتنفيل.
وقد كان التنفيل من الامام للقاتل لا للممسك. والله أعلم بالصواب.

(1) في هامش ق " ذفف على الجريح بالدال والذال أسرع قتله. مغرب ".
606

68 باب النفل وما كان للنبي خالصا
976 قال: لا بأس بأن يعطى الامام الرجل المحتاج إذا أبلى (1)
من الخمس ما يعينه (2)، ويجعله نفلا له بعد الغنيمة.
لأنه مأمور بصرف الخمس إلى المحتاجين، وهذا محتاج.
وإذا جاز صرفه إلى محتاج لم يقاتل فلان يجوز صرفه إلى محتاج قاتل
وأبلى بلاء حسنا كان أولى.
وهذا لان بقتاله وقتال أمثاله حصل هذا الخمس.
وهو نظير من وجد ركازا فرآه الام محتاجا وصرف الخمس إليه.
فإن ذلك يجوز. ورد بنحوه أثر عن علي رضي الله عنه أنه قال للواجد:
خمسها لنا وأربعة أخماسها لك وسنتمها لك.
ثم هذا تأويل ما رواه سعيد بن المسيب عن (3) النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال: لا نفل إلا من الخمس.
وعن سعيد قال: كان النفل من الخمس.

(1) في هامش ق " أبلى في الحرب إذا أظهر بأسه. مغرب ". (2) فوق هذه الكلمة في ق " يغنيه. نسخة ".
(3) قوله " عن النبي صلى الله عليه وسلم " ساقطة من ه‍.
607

يعنى النفل بعد الإصابة للمحتاجين كان يكون من الخمس في عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فتبين بهذا أن من جوز التنفيل بعد الإصابة من جملة الغنيمة استدلالا
بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نفل بعد الغنيمة، فقد أخطأ. لأنه
ترك التأمل، ولم يدر أنه من أي محل نفل. وقد كان تنفيله مما كان له خاصة.
وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث حظوظ من الغنايم: الصفي،
وخمس الخمس، وسهم كسهم أحد الغانمين.
ومعنى الصفي أنه كان يصطفى لنفسه شيئا قبل القسمة من سيف أو درع أو جارية ونحو ذلك. وقد كان هذا لولي الجيش في الجاهلية مع حظوظ أخر.
وفيه يقول القائل: لك المرباع (1) منها والصفايا (2) وحكمك (3) والنشيطة (4) والفضول (5)
فانتسخ ذلك كله سوى الصفي. فإنه كان لرسول الله صلى الله عليه
وسلم، ولم يبق بعد موته بالاتفاق. حتى إنه ليس للامام الصفي بعد وفاة
الرسول عليه السلام، وإنما الخلاف في سهمه من الخمس أنه هل بقى للخلفاء
بعده. وقد بينا ذلك في السير الصغير.
977 - وذكر عن الزهري قال: كانت بنو النضير خالصة
لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقسمها بين المهاجرين ولم يعط أحدا

(1) كانت الغنيمة في الجاهلية تقسم أرباعا. فيكون للرئيس الربع. وقد ردها الاسلام خمسا.
(القاموس).
(2) في هامش ق " وقيل إنما سمى الصفية صفية لأنها صفاها رسول الله صلى الله عليه وسلم
لنفسه. حصيري ".
(3) في هامش ق " والحكم ما يحكم به الرئيس عليهم في الغنيمة فيأخذه. من تيسير المسير ".
4) النشيطة في الغنيمة ما أصاب الرئيس قبل أن تصير إلى بيضة القوم (القاموس).
(5) ما فضل من الغنيمة بعد القسمة.
608

من الأنصار منها شيئا، إلا سهل بن حنيف وسماك بن خرشة أبا دجانة
فإنهما كانا محتاجين فأعطاهما.
وبيانه أن ذلك كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة في قوله:
(فما أوجفتم عليه من خيل (ص 204) ولا ركاب) (1) فإنهم ما فتحوا
بنى النضير عنوة وقهرا، وإنما صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على
أن لهم ما حملت الإبل، إلا الحلقة (2). وما سوى ذلك فهو لرسول الله عليه
السلام. وإنما حملهم على ذلك ما ألقى الله من الرعب في قلوبهم.
فإن قيل: ففي زماننا لو حاصر الامام حصنا ثم صالحهم على مثل هذا
هل تكون الأموال له خاصة أم تكون غنيمة للجيش؟
قلنا: بل تكون غنيمة، لان خوفهم من منعة الامام لا من نفسه،
ومنعته بالجيش. فأما في ذلك الوقت فمنعه رسول الله ما كان بمن حوله من
الناس ولكنهم كانوا يأمنون به. قال الله تعالى (والله يعصمك من الناس) (3).
978 - وقد روى أنه فيما صنع استرضى الأنصار أيضا. فإن
المهاجرين كانوا نازلين مع الأنصار في بيوتهم وقال عليه السلام للأنصار:
" إما أن أقسم بنى النضير بين المهاجرين برضاكم ليتحولوا إليها فتسلم
لكم منازلكم، وإما أقسمها بين الكل وهم يسكنون معكم في منازلكم
على حالهم.

(1) سورة الحشر، 59، الآية 6.
(2) في هامش ق " الحلقة حلقة الدرع وغيرها. وفى حديث الزهري " وعلى ما حملت الإبل
إلا الحلقة " أي السلاح، وقيل الدروع خاصة. مغرب ".
(3) سورة المائدة، 5، الآية 67.
609

فقام سعد بن معاذ وقال: يا رسول الله! بل نرضى بأن تقسمها
بينهم، ويكونون معنا في منازلنا أيضا.
وفيه نزل قوله تعالى (والذين تبوء والدار والايمان) الآية (1).
وقد روى أن النبي عليه السلام أعطى يومئذ سعد بن معاذ سيف
ابن أبي الحقيق نفله إياه.
وإنما أعطاه تنفيلا بعد الإصابة لأنه كان له خاصة.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كانت لرسول الله صلى الله
عليه وسلم ثلاث صفايا: بنو النضير، وفدك، وخيبر. وكانت بنو النضير
حبسا لنوائبه.
أي محبوسة لذلك كالموقوفة.
وكانت فدك لابن السبيل.
والمراد بنوائبه جوائز الرسل والوفود الذين كانوا يأتونه.
وأما خيبر فجزأها ثلاثة أجزاء: جزءان للمهاجرين وجزء كان
ينفق على أهله منه. فإن فضل رده على فقراء المهاجرين.
وإنما أراد بهذا بعض خيبر لا كلها. فقد اتفقت الروايات على أنه قسم
الشق والنطاة (2) على ثمانية عشر سهما بين المسلمين. وقد بينا هذا في الأول
القسمة (3).

(1) سورة الحشر، 59، الآية 9
(2) ق " الشطر والنظأة " خطأ. وفى هامشها " الشق والنطاة. نسخة م " قلت: وهما حصنان
من حصون خيبر، كما ذكرنا في الجزء الأول.
(3) في حاشية ه‍ " أي من المبسوط ".
610

979 - وذكر عن عروة أن النبي عليه السلام أقطع الزبير عامرا
ومواتا (1) من أموال بنى النضير.
وعن الزهري أن النبي عليه السلام أقطع لأبي بكر وعمر وسهيل
وعبد الرحمن بن عوف أموالا من أموال بنى النضير عامرة.
وفى بعض الروايات غامرة وهي الخراب التي يبلغها الماء.
قال محمد رحمه الله: فمن يسمع هذه الآثار يتوهم أنه نفل بعد
الإصابة على وجه نصب الشرع، ولا نعلم أنه إنما فعل ذلك لأنه كان
خالص حقه. فإذا تأمل ما يروى عن عمر رضي الله عنه قال: يا رسول الله!
ألا تخمس ما أصبت من بنى النضير كما خمست ما أصبت من بدر؟
قال: لا أجعل شيئا جعله الله لي دون المؤمنين مثل ما هو لهم. وتلا
قوله تعالى (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى) (2).
ثم ذكر:
980 - عن سعيد بن المسيب أنه سئل عن الأنفال فقال: لا نفل
بعد رسول الله.
وإنما أراد به ما بينا أن ما كان خالصا لرسول الله عليه السلام فليس لأحد
بعده مثل تلك الخصوصية لينفل منه، كما كان ينفل رسول الله صلى الله
عليه وسلم.

(1) ه‍، ص " موات " وفوقها في ق " مواتا " وجاء في هامش ق " الموات الأرض الخراب،
وخلافه العامر. مغرب ".
(2) سورة الحشر، 59، الآية 7
611

981 - وذكر عن ابن الحنفية أن النبي عليه السلام نفل يوم بدر
سعد بن أبي وقاص سيف العاص بن سعيد.
982 - وإنما يحمل هذا على أنه إنما نفله من الخمس، لأنه كان
محتاجا، أو على أن غنايم بدر كانت مفوضة إليه، كما قال تعالى
(قل الأنفال لله والرسول) وعلى أنه اصطفى ذلك لنفسه ثم أعطاه
سعدا.
وهو نظير ما يروى أنه اصطفى يوم بدر ذا الفقار ثم أعطاه عليا وكان
يقاتل به، وقد كان سيف منبه بن الحجاج.
وفى رواية نبيه بن الحجاج، بخلاف ما يزعم الروافض أن ذا الفقار كان
نزل من السماء لعلى رضي الله عنه، وذلك كذب وزور. ومبنى مذهب الروافض
على الكذب. وإنما سمى ذا الفقار لكسر فيه.
983 - وعلى هذا أيضا يحمل حديث الزهري أن النبي عليه
السلام لما أمر يوم بدر أن يردوا ما في أيديهم من الغنايم ثم جاء أبو أسيد
الساعدي بسيف ابن عائذ المخزومي حتى ألقاه في الغنايم، وكان رسول
الله لا يسأل شيئا إلا أعطاه. فجاءه الأرقم بن أبي الأرقم وعرف ذلك
السيف، فسأل النبي عليه السلام فأعطاه إياه. 984 - وعليه يحمل أيضا حديث سلمة بن الأكوع قال: جاء
عين (1) من المشركين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم

(1) في هامش، ص " عين جاسوس ".
612

في سفر. فأكل معهم وخالطهم ثم ذهب. فقال رسول الله عليه السلام: الحقوه فاقتلوه. وكان سلمة سباقا يسبق الفرس عدوا. فلحقه
وأخذ بحطام ناقته فقتله. وأتى رسول الله عليه السلام بناقته وسلبه
فنفله إياه.
وكأنه جعل هذا من الخمس، ثم نفله إياه لحاجته. وللامام رأى في
مثل هذا.
985 - وذكر عن عكرمة قال: لما كان في حصار بني قريظة قال
رجل من اليهود: من يبارز؟ فقام إليه الزبير بن العوام. فقالت صفية:
واحدي! فقال رسول الله عليه السلام: أيهما علا صاحبه يقتله. فعلاه
الزبير فقتله. ونفله رسول الله عليه السلام سلبه.
وذكر الواقدي في المغازي أن من زعم أن هذا كان في بني قريظة فقد
أخطأ، وإنما كان هذا بخيبر. فقد كانت المبارزة والقتال يومئذ. فأما بنو
قريظة فلم يخرج أحد منهم للمبارزة والقتال. وصفية كانت أم الزبير ولم يكن
لها ولد سواه، فتأسفت عليه حين خرج للمبارزة وقالت: واحدي. أي
وا أسفا على واحد لي لا ولد لي سواه. فطيب رسول الله عليه السلام قلبها
بما قال. ثم نفل الزبير سلبه. وكان ذلك بالطريق الذي قلنا إنه جعله مما كان
له خاصة (1) ثم نفله إياه.
986 - وذكر عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله عليه

(1) ق " حاجة " وفى هامشها " خاصة. نسخة م ".
613

السلام بعث بعثا قبل نجد فغنموا إبلا كثيرة، فكانت سهامهم اثنى عشر
بعيرا، ونفلوا بعيرا بعيرا.
وتأويل هذا أنهم نفلوا ذلك من الخمس لحاجتهم، أو نفلوا ذلك
بينهم بالسوية. وقد كانوا رجالة كلهم، أو فرسانا كلهم. وعندنا مثل
هذا التنفيل بعد الإصابة يجوز.
لأنه في معنى القسمة. وإنما لا يجوز النفل بعد الإصابة إذا كان فيه
تخصيص بعضهم.
987 - قال (1): ولو أن إماما نفل من الغنيمة بعد الإصابة قبل
القسمة بعض من كان له جزاء أو عناء على وجه الاجتهاد والنظر منه،
ثم رفع إلى وال آخر لا يري التنفيل بعد الإصابة فإنه يمضى ما صنع
ولا يرده.
لأنه أمضى تنفيلا مجتهدا فيه (2)، وقضاء القاضي في المجتهدات نافذ،
بمنزلة ما لو قضى على الغائب بالبينة، فإنه ينفذ قضاؤه لكونه مجتهدا فيه.
988 - واستدل عليه بحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال:
بارزت دهقانا فقتلته، فنفلني أميري سلبه. فأجاز ذلك عمر رضي الله عنه.
وقد صح من مذهب عمر رضى الله أنه كان لا يجوز التنفيل بعد
الإصابة، على ما روينا من قوله: لا نفل بعد الغنيمة.

(1) ص، ب " يقول ".
(2) ق، ب " فعلا مختلفا فيه ".
614

فلو كان هو الوالي ما نفل إليه شيئا بعد الإصابة، ولكن لما نفله الأمير
وأمضاه أجاز ذلك عمر رضي الله عنه.
989 - وذكر عن شبر (1) بن علقمة قال: بارزت رجلا من
الأعاجم فقتلته. فنفلني سعد سلبه. ثم رفع ذلك إلى عمر فأمضاه.
990 - وإذا قال الأمير لأهل العسكر جميعا: ما أصبتم فهو لكم
نفلا بالسوية بعد الخمس، فهذا لا يجوز. (ص 206)
لان المقصود من التنفيل التحريض على القتال، وإنما يحصل ذلك إذا
خص البعض بالتنفيل، فأما إذا عمهم فلا يحصل به ما هو المقصود بالتنفيل،
وإنما في هذا إبطال السهمان التي أوجبها رسول الله عليه السلام، وإبطال
تفضيل الفارس على الراجل، وذلك لا يجوز.
991 - وكذلك إن قال: ما أصبتم فلكم، ولم يقل: بعد الخمس.
فهذا لا يجوز.
لان فيه إبطال الخمس التي أوجبها الله تعالى في الغنيمة.
992 - وذكر عن مكحول قال: لا يصلح للامام أن ينفل كل
شئ إلا الخمس. لأنه حق على قوى المسلمين أن يرده على ضعيفهم.
ومعنى هذا أنه لا ينبغي له أن يقول: من أصاب شيئا فهو له بعد
الخمس. لان التنفيل على هذا الوجه يكون إبطالا لحق ضعفاء المسلمين.
وذلك لا يجوز، على ما روى أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم:

(1) ه‍، ص " بشير " خطأ، ق " الشتير " خطأ. وفى هامش ق " الشبر. نسخة " وفيه:
الشبر بتحريك الباء وسكونها العطاء، وبه سمى شبر بن علقمة. مغرب ".
615

أرأيت الرجل يكون حامية القوم وآخر لا يقدر على حمل السلاح أيسوى (1)
بينهما في الغنيمة؟ فقال عليه السلام: وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم.
993 - قال: والنفل في الأموال كلها من الذهب والفضة وغير ذلك.
994 - وإذا قال الامام: من قتل قتيلا فله سلبه. فقتل رجل
قتيلا، وكان معه دراهم أو دنانير، أو فضة سيف، أو سوار من ذهب،
أو قرط ذهب، أو منطقة من فضة أو ذهب، فذلك كله له.
وعلى قول أهل الشام لا نفل في ذهب ولا فضة. وإنما النفل
فيما يكون من الأمتعة فأما في أعيان الأموال فلا. والذهب والفضة
عين مال، فيكون حكم الغنيمة مقررا فيها. وقاسوا هذا بإباحة التناول
لكل واحد من الغانمين بقدر الحاجة فإن ذلك يثبت في الطعام والعلف
دون الذهب والفضة، حتى لو أراد بعضهم أن يرفع الدراهم من الغنيمة
فيشترى بها طعاما لنفسه لم يكن له ذلك.
ولكنا نقول: التنفيل للتحريض على المخاطرة بالروح في قتال
العدو. وفى هذا المعنى يستوي الأموال، بل الذهب والفضة أولى. لأنه
إنما يخاطر بأعز الأشياء عنده، فإذا علم أنه لا يسلم له المال النفيس يمتنع
من هذه المخاطرة.
وقد بينا أن السلب اسم لما يسلب. فكل ما يكون مع الحربي إذا قتله
فقد استلبه منه. ويستحق كل ذلك بمطلق اسم السلب.

(1) ه‍، ب " أيستوي ".
616

ثم استدل عليه:
بحديث عمر رضي الله عنه في قصة البراء بن مالك حين قتل مرزبان
الزارة، وذكر أنه كان عليه منطقة ذهب فيها جوهر فقوم فبلغ
ثلاثين ألفا.
وقد ذكر قبل هذا أنه كان بلغ أربعين ألفا، فأما أن يقال ثلاثون ألفا
قيمة المنطقة فقط، وأربعون قيمة جميع السلب، أو يقال ما سبق، فوهم من
الراوي.
والصحيح ما ذكر هنا. فقد قال في الحديث عن أنس رضي الله عنه:
قال بعثنا إلى عمر بالخمس ستة آلاف درهم. فبهذا التفسير يتبين أن قيمة السلب
كان ثلاثين ألفا.
وقد روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم نفل ابن مسعود سيف
أبى جهل يوم بدر وكان عليه فضة.
فدل بهذا على أنه يجوز التنفيل في الذهب والفضة.
وذكر:
995 - عن مكحول قال: لا سلب إلا لمن أسر علجا أو قتله.
ولا يكون السلب في يوم هزيمة أو فتح. ويصلح في السلب الثياب
والسلاح والمنطقة والدابة، وما كان مع العلج بعد هذا فلا سلب فيه.
ولا سلب في السلعة.
أما قوله لا سلب إلا لمن أسر علجا أو قتله فهو كما قال.
617

لان التنفيل إنما يكون باعتبار الجزاء والعناء، وإنما يحصل ذلك بالأسر
والقتل.
وأما قوله: (ص 207) لا سلب في يوم هزيمة ولا فتح. فالمراد به أنه
لا ينبغي للامام أن ينفل الأسلاب من القتلى والأسرى في الهزيمة، ولكن ينبغي
أن يقول: من قتل قتيلا أو أسر قبل الهزيمة أو الفتح فله سلبه، ليتم النظر منه
للمسلمين. وهذا لأنه لا يحتاج في قتل المنهزم (1) إلى عظيم جزاء وعناء
وكذلك بعد الفتح.
فأما إذا أطلق وقال: من قتل قتيلا فله سلبه، ومن أسر أسيرا فهو له.
فلكل مسلم ما شرط الامام له، سواء كان ذلك منه في حالة الهزيمة أو غيرها،
لان اللفظ عام، وبمجرد المقصود لا يثبت تخصيص العام بل يجب إجراؤه
على عمومه.
ألا ترى أن المسلمين يوم بدر أسروا كثيرا منهم بعد الهزيمة؟ بل كانت
عامة الاسراء بعد الهزيمة. ثم سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسرى لمن
أسروهم، حتى أخذوا فداء هم.
وأما قوله: يصلح من السلب السلاح والثياب والمنطقة والدابة، فما كان مع العلج بعد هذا فلا سلب فيه فهو كما قال. والمراد أن ما معه مما خلفه في
المعسكر ليس عليه ولا على فرسه الذي خرج يقاتل عليه، فليس ذلك من
السلب، لان السلب اسم لما يسلب منه. فإنه يتناول ما معه خاصة مما إذا قتل
هو لا يبقى مانع يمنع ذلك من القاتل، وهذا غير موجود فيما خلفه في المعسكر،
فإنهم يمنعون ذلك من القاتل. فلا يتمكن هو من أخذه بقتل العلج. وكذلك
إن كان معه بغلة عليها متاعه فليس ذلك من سلبه. ويحتمل أن يكون هذا هو

(1) ب " المهزوم ".
618

المراد بقوله لا سلب في السلعة، يعنى أنه لا يقود هذا مع نفسه لحاجته إليه في
القتال، فيكون بمنزلة السلع التي يحملها للتجارة.
والأظهر أن المراد من قوله: لا سلب في السلعة ما يكون معه من المال
العين، وهذا مذهب أهل الشام لا نأخذ به. فأما عندنا ما معه في حقوه فهو
من السلب يسلم للقاتل.
619

69 باب النفل في دار الحرب (1)
996 - قال: كل أمير كان في أرض الحرب يلي سرية أو جندا
فله أن ينفل منها أصحابه قبل إصابة الغنيمة وهو في ذلك بمنزلة الامام.
لأنه فوض إليه تدبير القتال، والتنفيل من تدبير القتال، لما بينا أن
المقصود به التحريض على القتال. فكل أمير في ذلك بمنزلة الامام.
ألا ترى أنه إذا أمرهم بشئ في القتال كان عليهم طاعته في ذلك،
كما تجب طاعة الامام فيما يأمر به، فكذلك في التنفيل هو بمنزلة الامام.
997 - ولو أن أمير الشام بعث جندا إلى أرض الحرب وأمر
عليهم أميرا ولم يأذن لأميرهم أن ينفل ولم ينهه عن ذلك، فرأى أميرهم أن
ينفل جاز تنفيله، وإن كره ذلك بعض من تحت رايته.
لأنه ما أمر بأن يتبع رأيهم، وإنما أمروا أن لا يخالفوه فيما يراه صوابا.
ولأنه ولى القتال فيدخل فيه ما يحصل به التحريض على القتال.
998 - وإن نهاه الذي وجهه أن ينفل فليس له أن ينفل
أحدا شيئا.
لان سبب الامارة التقليد، وهو يقبل التخصيص، بمنزلة تقليد القضاء

(1) هذا عنوان الباب في النسخ جميعا، ما عدا ه‍ ففيها: " باب من تنفيل الأمير المفوض
إليه تدبير القتال من جانب الامام ".
620

فإنه يقبل التخصيص. ولانا إنما صححنا تنفيله قبل النهى بطريق الدلالة،
فيسقط اعتبارها عند التنصيص بخلافها.
999 - فإن رضى جميع من معه جاز تنفيله من أنصبائهم بعد
رفح الخمس.
لان لهم ولاية على أنفسهم، وإنما يعمل رضاه في حقهم. فأما الخمس
حق غيرهم، فلا يعمل فيه رضاهم بالتنفيل.
1000 - وإن كره ذلك بعضهم وأذن فيه بعضهم فله أن ينفل
من حصص الذين أذنوا له في ذلك.
لما بينا أن ولايتهم مقصورة على حصصهم دون حصص الباقين ممن
كره تنفيله.
1001 - قال: (ص 108) ولو أن أمير المصيصة (1) بعث سرية
لم يكن له أن ينفل بعضهم على بعض.
يريد به أنه لا ينبغي له أن ينفل السرية ما أصابوا.
1002 - بخلاف ما إذا دخل الامام مع الجيش دار الحرب، ثم
بعث سرية ونفل لهم ما أصابوا فإنه يجوز.
لان السرية المبعوثة من المصيصة يختصون بما أصابوا قبل تنفيل الامام،
وليس لأهل المصيصة معهم شركة في ذلك. فإن المصيصة من دار الاسلام،

(1) المصيصة مدينة كانت من الثغور في شمال أنطاكية من سورية، وهي اليوم في تركيا.
وانظر معجم البلدان.
621

ومن يتوطن في دار الاسلام لا يشارك الجيش فيما أصابوا، فليس في هذا
التنفيل إلا إبطال الخمس.
وأما السرية المبعوثة من الجيش في دار الحرب فلا يختصون بالمصاب
قبل تنفيل الامام، وإنما هذا التنفيل للتخصيص على وجه التحريض لهم، فكان
مستقيما.
1003 - ثم لا ينبغي للامام أن ينفل أحدا شيئا إلا ببلاء يبليه.
وذلك لا يحصل في التنفيل للسرية المبعوثة في دار الاسلام ويحصل في
السرية المبعوثة من الجيش في دار الحرب.
لانهم دخلوا جميعا للقتال، ثم اختصت السرية بالتقدم في نحو العدو (1)،
فيكون ذلك إظهار البلاء منهم، فإذا نفلهم على ذلك كان صحيحا، بمنزلة
التنفيل في السلب للقاتل.
ألا ترى أنه إذا برز علج من الصف ودعا إلى البراز فقال الأمير:
من برز إليه فقتله فله سلبه، فذلك تنفيل صحيح؟
لان الذي يبرز إليه يظهر فضل بلاء (2) بصنعه (3)، فيجوز للأمير
أن ينفله على ذلك.
1004 - وكذلك لو حاصروا حصنا فكره (4) القوم التقدم
فيقول الأمير: من تقدم إلى القتال، أو إلى الباب، أو إلى حصر (5)
الحصن فله كذا، فذلك تنفيل مستقيم لما فيه من معنى التحريض

(1) ق، ب " في عين العدو ".
(2) ه‍، ب " البلاء ".
(3) ه‍، ق " يصنعه " وفى هامش ق " فضل بلاء بصنعه. نسخة حصيري ".
(4) ق " وكره ".
(5) ه‍، ب " حفر ".
622

والمنفعة للمسلمين. وكل من فعل ذلك استحق ما سمى له من المصاب
قبل الخمس والقسمة. فأما ما ليس فيه منفعة للمسلمين فلا ينبغي فيه
التنفيل (1).
لأنه لا مقصود فيه سوى إبطال الخمس، أو تفضيل الفارس على
الراجل، وذلك غير صحيح.
1005 - ولو أن أمير العسكر في دار الحرب وجه سريتين بعد
الخمس إحداهما يمنة والأخرى يسرة، ونفل لإحداهما الثلث بعد الخمس
مما يصيبون ولأخرى الربع بعد الخمس، فهو جائز.
لان التنفيل للترغيب في الخروج، وذلك يختلف باختلاف الطريق في
القرب والبعد، والوعورة والسهولة، والخوف والامن، وباختلاف الطريق حال
المبعوث إليهم في المنعة والقوة، والأمير ناظر لهم فيجوز أن يفاوت في النفل
بحسب ذلك.
1006 - فإن جاءت كل سرية بمال أخذ الخمس من ذلك، ثم
أعطوا نفلهم بينهم بالسوية، لا يفضل فيه الفارس على الراجل.
لان الاستحقاق بالتسمية بخلاف الغنيمة، فاستحقاقها باعتبار العناء
والقوة، وهو بمنزلة تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث، والتسوية بين
الذكر والأنثى في الوصية.
1007 - ثم ما بقى بعد ذلك يقسم بين أصحاب السريتين والجيش
على سهام الغنيمة.

(1) في هامش ق " النفل نسخة م ".
623

لانهم اشتركوا في إحرازها بالدار.
1008 - فإن ذهب رجل ممن بعثه الأمير في سرية الربع مع
أصحاب سرية الثلث فأصابوا غنائم، ففي القياس لا شئ لهذا الرجل
من النفل.
لان استحقاق النفل بالتسمية، وما سمى الامام له شيئا في أصحاب سرية
الثلث، وهو لم يخرج مع الذين سمى له نفلا معهم، فهو قياس ما لو تخلف
مع العسكر ولم يخرج، أو خرج رجل من العسكر مع أصحاب سرية الثلث
ولم يؤمر بالخروج أصلا. فكما لا يستحق هناك النفل فكذلك هنا.
ولم يبين وجه الاستحسان هنا.
فقال بعض مشايخنا (ص 209): على طريقة الاستحسان يكون له
النفل مع أصحاب سرية الثلث. لان تسمية الامام لهم ما كان باعتبار أعيانهم
بل لتحريضهم على الخروج إلى الطريق (1) الذي وجهوا إليه، وقد وجد
هذا في حق الواحد.
والأصح أن للاستحسان فيه وجها آخر فسره في آخر الكتاب (2) فنبينه
عند ذلك.
1009 - ولو أن الإمام قال: من شاء فليخرج في هذه السرية،
ومن شاء في هذه، فلجميع من خرجوا النفل الذي نفلوا.
لانهم خرجوا باذن الامام. فبهذا تبين ضعف الاستحسان الذي ذكرنا
في المسألة الأولى، لان فيه تسوية، بين ما إذا عين الامام للخروج قوما في كل
جانب وبين ما إذا لم يعين وجعل الامر مفوضا إلى رأيهم.

(1) ق " إلى الموضع " وفى هامشها " إلى الطريق. نسخة ".
(2) ه‍ " الباب " وفى هامش ق " في آخر الباب. نسخة ".
624

1010 - ولو بعث سرية وعليهم أمير ونفلهم الثلث بعد الخمس،
ثم إن أمير السرية نفل قوما نفلا لفتح الحصن أو للمبارزة، ولم يكن
أمره (1) الأمير بذلك، فإن نفل أمير السرية يجوز من حصة السرية
من النفل، ومن سهامهم بعد النفل، ولا يجوز من سهام أهل العسكر
مما (2) أصابوا.
لأنه أمير على السرية. فهو في حق العسكر بمنزلة واحد من أصحاب
السرية، فلا ينفذ تنفيله عليهم. وهو في حق السرية بمنزلة أمير العسكر،
فيجوز تنفيله فيما هو حقهم، وحقهم ما نفل لهم وما يصيبهم من السهام
بالقسمة، فينفذ تنفيل أميرهم من ذلك خاصة.
1011 - ولو أن السرية لما بعدوا من العسكر مسيرة يوم فقدوا
رجلا منهم. فقالوا لبعضهم: أقيموا على صاحبنا هاهنا. وبعضهم
ذهبوا (3) حتى أصابوا غنائم ورجعوا إلى أصحابهم وقد وجدوا الرجل،
كانوا شركاء كلهم في النفل.
لانهم فارقوا المعسكر جملة، وأحرزوا المصاب بالمعسكر جملة، فكانوا
شركاء في النفل، بمنزلة ما لو باشر القتال بعضهم والبعض كانوا ردءا (4) لهم.
وهذا لان إحراز المصاب بالمعسكر في استحقاق النفل بمنزلة الاحراز بدار
الاسلام في استحقاق السهم.

(1) ق " نفله الأمير ".
(2) ق " ما ".
(3) ق، ب ".. ها هنا ومضوا حتى أصابوا.. ".
(4) ق " رداء " وفى هامشها " ردءا ".
625

1012 - ولو وقعت هذه الحادثة لبعض العسكر في دار الحرب،
ثم اجتمعوا عند إحراز الغنائم بدار الاسلام كانوا شركاء في الغنيمة.
فهذا مثله.
وعلى هذا لو أصاب الرجل المفقود غنائم، والذين قاموا لانتظاره غنائم،
والسرية كذلك، ثم التقوا قبل أن ينتهوا إلى المعسكر، فلهم النفل من جميع
ذلك بينهم بالسوية كما لو لم يتفرقوا.
لانهم اشتركوا في إحراز المصاب بالمعسكر.
1013 - ولم لم يلتقوا حتى أتى كل فريق المعسكر، فلكل فريق
النفل مما أصاب خاصة.
لأنه تفرد بإحراز ذلك بالمعسكر. والامام إنما نفل لهم الثلث مما أصابوا،
فذلك يتناول كل فريق منهم.
ثم الباقي يكون بينهم وبين أهل العسكر على سهام الغنيمة.
1014 - وعلى هذا لو أن السرية بعد ما بعدت من المعسكر تفرقوا
سريتين، وبعدت إحداهما عن الأخرى بحيث لا تقدر إحداهما على عون
الأخرى، فإن التقوا قبل أن ينتهوا إلى المعسكر كان لهم النفل في
جميع ذلك بينهم بالسوية.
بمنزلة ما لو كانوا مجتمعين حين أصابوا.
وإن لم يلتقوا حتى أتى كل فريق المعسكر، فلكل فريق النفل
مما أصابوا خاصة.
626

وكذلك لو التقوا في مكان دون المعسكر بحيث يراهم أهل
المعسكر، لو قوتلوا لنصروهم. فهذا وما لو التقوا في المعسكر سواء.
لان ما قرب من المعسكر بمنزلة جوف المعسكر، على معنى أن إحراز
المصاب (ص 210) بالمعسكر يحصل بالاتصال إلى ذلك الموضع، وقد تفرد به
كل فريق.
1015 قال: ولو أن هذه السرية حين بعدوا من المعسكر
وأصابوا غنائم لم يقدروا على الرجوع إلى المعسكر، فخرجوا إلى دار
الاسلام من موضع آخر، ولم يلتقوا مع أهل المعسكر. فالغنيمة كلها
لهم: يخمس ما أصابوا، والباقي بينهم على سهام الغنيمة دون أهل
العسكر.
لانهم تفردوا بالاحراز بدار الاسلام، وهو سبب تأكد الحق.
فان قالوا: سلم لنا نفلنا أولا، لم يسلم لهم ذلك.
لان الغنيمة لما صارت لهم كلها بطل التنفيل، بمنزلة ما لو كانوا دخلوا
من أرض الاسلام.
1016 ولو أن الامام بعث سرية من دار الاسلام فنفل لهم
الثلث بعد الخمس أو قبل الخمس كان هذا التنفيل باطلا.
لأنه ما خص بعضهم بالتنفيل، ولا مقصود من هذا التنفيل سوى إبطال
الخمس، وإبطال تفضيل الفارس على الراجل. وذلك لا يجوز،
بخلاف ما إذا التقوا في دار الحرب. ففي التنفيل هناك معنى
التخصيص لهم.
627

لان الجيش شركاؤهم (1) في الغنيمة، ففي التنفيل يخصهم ببعض
المصاب، وذلك مستقيم.
1017 ولو أن السرية أصابت الغنائم في موضع كان أهل
العسكر فيه ردأ لهم، يقدرون على أن يغيثوهم إذا استغاثوا، ثم خرجوا
بالغنيمة إلى دار الاسلام قبل أن يأتوا المعسكر، فأهل المعسكر شركاؤهم
في المصاب.
لانهم اشتركوا في الإصابة حكما حين كانوا ردءا لهم وقت الإصابة
بخلاف الأول.
1018 وإذا ثبتت الشركة بينهم فلأصحاب السرية نفلهم بمنزلة
ما لو رجعوا بالمصاب إلى العسكر وهو بمنزلة المدد يلحق الجيش بعد
الإصابة فإنهم يشتركون في المصاب.
وإن كان المدد لم يلحق الجيش ولم يقربوا منهم حتى خرجوا
فلا شركة لهم في المصاب.
وإن قربوا منهم بحيث لو استغاثوا بهم أغاثوهم، ثم خرج الجيش
قبل أن يجتمعوا، فلهم الشركة في المصاب.
لانهم حين قربوا منهم فكأنهم خالطوهم في الحكم، وإنما حصل الاحراز
بقوة الجماعة.
1019 قال: ولو أن أمير السرية المبعوثة من العسكر في دار

(1) ه‍ " شركاء ".
628

الحرب نفل قوما ما صعدوا الحصن بالسلاليم حتى فتحوه، فنفله جائز
في حصة أصحاب السرية كما بينا.
وإن لم ترجع السرية إلى المعسكر حتى خرجوا إلى دار الاسلام
جاز نفل أميرهم في جميع ما أصابوا.
لأنه لا شركة لأهل العسكر معهم في المصاب، وإنما الحق لهم خاصة.
ونفل الأمير جائز عليهم، وقد يبطل نفل أمير العسكر لهم لفوات ما هو المقصود
بالتنفيل، حتى اختصوا بالسرية في المصاب دون العسكر.
فإن قيل: كان ينبغي أن يجوز (1) تنفيل أمير السرية في جميع المصاب
وإن رجعوا إلى العسكر، لانهم لو لم يرجعوا كان المصاب لهم خاصة،
وإنما يثبت للعسكر الشركة معهم بالرجوع، وقد سبق تنفيله الرجوع إليهم
فلا يتضمن هذا التنفيل إبطال حق ثابت لهم.
قلنا: هم لا يستحقون الشركة بالرجوع إليهم خاصة، بل إذا رجعوا
إليهم كانوا بمنزلة الردء لهم، فكأنهم لم يزالوا معهم.
وبهذا يتبين أن الحق كان ثابتا لهم، ولو كان الاستحقاق بالرجوع
إليهم لما استحقوا، إلا أن يلقوا قتالا فيقاتلوا عن الغنيمة، بمنزلة التجار والأسراء
من المسلمين.
1020 والذين أسلموا في دار الحرب (ص 211) إذا التحقوا
بالجيش بعد الإصابة لم يستحقوا الشركة إلا أن يلقوا قتالا.
وها هنا لما استحقوا عرفنا أن الطريق فيه ما ذكرنا.
1021 وعلى هذا لو بعث الامام سرية من دار الاسلام ونفل

(1) ه‍ " يجور ".
629

لهم الثلث وقال: تقدموا حتى نلحقكم، فأصابوا غنائم، ثم تبعهم
العسكر، فإن التقوا في دار الحرب فلهم النفل. وإن لم يلتقوا بدار
الحرب بأن أخطأ العسكر الطريق أو بدا للامام أن لا يبعث أهل
العسكر فلا شئ لأصحاب السرية من النفل.
لان المصاب غنيمة لهم خاصة.
1022 وإذا التقوا في دار الحرب فالمصاب بينهم وبين العسكر،
فيحصل ما هو المقصود بالتنفيل، فلهذا استحقوا نفلهم. وهذا بناء على
مذهبنا.
وأما على قول أهل الشام فلا نفل للسرية الأولى المبعوثة من دار
الاسلام. ويروون فيه أثرا بهذه الصفة. وتأويله عندنا: لا نفل للسرية
المبعوثة من دار الاسلام إذا لم يلتحق بهم الجيش في دار الحرب.
لان في هذا التنفيل إبطال الخمس، وإبطال تفضيل الفارس على الراجل.
1023 ولو قال الامام لهم: لا خمس عليكم فيما أصبتم، أو الفارس
والراجل سواء. فيما أصبتم، كان ذلك باطلا منه، فكذلك كل تنفيل
لا يفيد إلا ذلك.
فان قيل: أليس أن في قول الأمير: من قتل قتيلا فله سلبه إبطال
الخمس عن الأسلاب ومع ذلك كان مستقيما؟
قلنا: هناك المقصود بالتنفيل التحريض على القتال، أو تخصيص
القاتلين بإبطال شركة أهل العسكر عن الأسلاب، ثم تثبيت إبطال حق أرباب
630

الخمس عن الخمس الأسلاب تبعا، وقد يثبت تبعا مالا يثبت مقصودا، بمنزلة
الشرب، والطريق في البيع، والوقوف في المنقول، يثبت تبعا للعقار وإن كان
لا يثبت مقصودا.
والذي يوضح هذا أن الامام لو ظهر على بلدة من بلاد أهل الحرب
كان له أن يجعلها خراجا، ويبطل منها سهام من أصابها والخمس.
1024 ولو أراد أن يقسم أربعة أخماسها بين الغانمين ويجعل
حصة الخمس خراجا للمقاتلة الأغنياء لم يكن له ذلك.
لأنه ليس في هذا الابطال الخمس مقصودا، وذلك لا يجوز. وفى الأول
إبطال الخمس بثبت تبعا لابطال حق الغانمين في الغنيمة، فيجوز، وإن كان
في الموضعين يخلص المنفعة للمقاتلة.
1025 ولو قال الامام للسرية المبعوثة من أرض الاسلام:
من قتل قتيلا فله سلبه، ومن أصاب منكم شيئا فهو له، دون من بقى
من أصحابه، كان هذا جائزا.
لان في هذا التنفيل معنى التخصيص. فان المقاتل والمصيب (1) يختص
بالنفل، ويحصل به معنى التحريض. بخلاف ما إذا نفل لهم الثلث، لأنه ليس
في ذلك التنفيل تخصيص البعض ولا إبطال حق أحد من الغانمين.
1026 ولو بعث الامام رجلا أو رجلين من أرض الاسلام
لقتال، وأصابوا غنائم، خمس ما أصابوا.
لانهم أصابوا على وجه إعزاز الدين، فإنهم حين خرجوا بإذن الامام

(1) في هامش ق " والمتلصص. نسخة ".
631

كانوا ظاهرين بقوة الامام، فعلى الامام أن يمدهم إذا حزبهم أمر. فلهذا
يخمس ما أصابوا، بخلاف ما يصيب المتلصص الخارج بغير إذن الإمام.
1027 ولو قال الامام لهم: ما أصبتم فهو لكم على سهامكم،
(ص 212) ولا خمس فيه، فهو جائز. بخلاف ما إذا كانوا أهل منعة
فقال لهم الامام ذلك فإنه لا يجوز.
لان الذين لا منعة لهم إنما يثبت الخمس فيما أصابوا باعتبار إذن الإمام.
فللامام أن يبطل بقوله ما كان وجوبه باعتبار قوله. فأما وجوب الخمس
فيما أصاب أهل المنعة فلم يكن بإذن الامام، فإنهم لو خرجوا مغيرين بغير إذنه
خمس ما أصابوا، لانهم إذا كانوا أهل منعة فمعنى إعزاز الدين يحصل بقتالهم.
فإن كانوا خرجوا بغير إذن الإمام (1) فلا يجوز أن يسقط حق أرباب الخمس
من مصابهم بإسقاط الامام أيضا. وهذا المعنى وهو أن الامام هناك كالمبين
لهم بقوله: لا خمس عليكم أنه لا يريد أن يمدهم وأن يغيثهم إذا استغاثوا به،
فالتحقوا في ذلك بالمتلصصين، وانعدم به السبب الذي كان يجب الخمس
لأجله في مصابهم. وفى حق أهل المنعة لم ينعدم السبب بقول الامام، لان
السبب قوتهم ومنعتهم، وذلك باق بعد قول الإمام: أبطلت الخمس عنكم.
1028 ولو بعث الامام سرية في دار الحرب ونفلهم الربع بعد
الخمس كان جائزا.
وكان ينبغي على قياس ما تقدم أن لا يجوز، لان في هذا التنفيل
تخصيص حق أهل العسكر بالابطال دون حق أرباب الخمس. وإذا كان
لا يجوز تخصيص حق أرباب الخمس بالابطال بسبب التنفيل فكذلك ينبغي

(1) ب، ق " وإن كان بغير إذن الإمام " وفى هامش ق " وإن كانوا خرجوا بغير إذن الإمام
. نسخة "
632

أن لا يجوز تخصيص حق أهل العسكر بالابطال، ولكن الفرق بينهما أن
أرباب الخمس يستحقون بغير قتال، ولا عناء من جهتهم، فلا يجوز إبطال
حقهم إلا تبعا لحق المقاتلة (2). وأما المقاتلة فإنما يستحقون أربعة أخماس
بالعناء والقتال، فيجوز أن يخص بعضهم بشئ قبل الاحراز لفضل عناء كان
منه، وإن كان فيه إبطال حق الباقين.
1029 ولو بعث الامام (2) سرية في دار الحرب وقال: لكم
مما أصبتم الربع بعد الخمس. وبعث سرية أخرى وقال: لكم الثلث بعد
الخمس. فضل رجل من كل سرية الطريق ووقع مع السرية الأخرى
فذهب معهم. وأصابت كل سرية الغنائم، ثم لم يلتقوا حتى انتهوا إلى
العسكر. فإن ما أصابت كل سرية يقسم على رؤوسهم، ويدخل فيهم
الرجل الذي التحق بهم، على قدر ما جعل لهم الامام في الاستحسان.
وهذا الذي بينا أنه الوجه الصحيح من الاستحسان فيما سبق.
فإن كان ممن جعل له الامام الثلث أخذ الثلث من حصته، وإن
كان ممن جعل له الربع أخذ الربع، وكان ما بين الربع إلى الثلث من نصيبه
غنيمة لجماعة المسلمين.
يعنى أهل العسكر (3) لان نفل كل واحد منهم في المصاب، فيجعل فيما يستحقه كل واحد

(1) ب " المقابلة ".
(2) ساقطة من ه‍، ب، ص.
(3) ب، ق " لجماعة أهل العسكر ".
633

منهم كان شركاؤه كانوا في مثل حاله في حكم النفل، حتى إذا كانت كل
سرية مئة رجل قسم مصاب كل سرية على مئة سهم ليتبين مصاب كل واحد
منهم، فيأخذ نفله من جزئه ثلثا كان أو ربعا، ثم الباقي يكون غنيمة.
1030 وإن لحق رجل من إحدى السريتين بالأخرى خاصة
قسم مصابهم على مئة سهم وسهم.
لان عددهم مئة وواحد. فتكون القسمة على عدد رؤوسهم.
1031 ثم يأخذ الرجل اللاحق بهم من جزئه ما كان سمى
الامام له من النفل.
لان استحقاقه بالتسمية، ولكن عند الإصابة إنما يستحق من جزئه
(ص 213) بالنفل مقدار ما سمى له، ولا يلتفت إلى نفل الذين كانوا معه،
لان الامام فرق بينهم في التسمية، ولا يجوز إثبات المساواة بينهم في المستحق
بالتسمية.
1032 فإن التقت السريتان قبل أن يقربوا من المعسكر
فالجواب فيه على ما بينا إلا في خصلة واحدة. وما أصاب اللاحق
بالسرية من النفل ضمه إلى نصيب أصحابه الذين كان أخرجه الامام معهم
فاقتسموا نفلهم بالسوية على ما كان جعل لهم الامام.
وإن لم تصب تلك السرية شيئا دخلت معه في نفله.
لما بينا أن الاحراز بالمعسكر هنا حصل بهم جميعا، فكأنهم اشتركوا
في الإصابة.
634

وهو نظير ما لو ضل رجل منهم الطريق، فذهب وحده فأصاب
غنيمة، ولم تصب السرية شيئا، ثم التقوا قبل أن ينتهوا إلى المعسكر، فإنهم
يدخلون معه في النفل.
بمنزلة ما لو أصابوه جميعا.
ولو لم يلقوه حتى انتهوا إلى المعسكر كان النفل له خاصة.
1033 ولو أن السريتين أصابتا الغنيمة وهما متقاربتان بحيث
يغيث بعضهم بعضا، إلا أن كل سرية أصابت غنيمة على حدة، لم
يدخل بعضهم في نفل بعض.
لان استحقاق النفل بالتسمية.
ألا ترى أن الامام لو سمى النفل لبعض السرية خاصة لم يكن للباقين
معهم شركة في ذلك وإن شاركوهم (1) في الإصابة حقيقة. فكذلك هاهنا.
1034 - وإن شاركت إحدى السريتين الأخرى في الإصابة حكما
باعتبار القرب لم يكن للبعض أن يدخل في نفل البعض
ألا ترى أن السريتين لو قاتلتا في موضع يقدر أهل العسكر على أن
يعينوهما، لم يكن لأهل العسكر معهم شركة في النفل، باعتبار هذا القرب،
فكذلك الحكم فيما بين أهل السريتين.
1035 - ولكنهم لو أصابوا جميعا غنيمة واحدة قسمت على عدد
رؤوسهم ليتبين محل النفل لكل سرية فإن محل النفل ما أصابت.

(1) في هامش ق " شاركهم. نسخة "
635

وإنما يتبين مصاب كل سرية بهذه القسمة. ثم تأخذ كل سرية نفلها
مما أصابها، والباقي بينهم وبين جميع أهل العسكر.
وقد بينا أن في النفل يستوي الفارس والراجل. إلا أن يكون
الأمير بين لهم بأن يقول: لكم الربع بعد الخمس، للفارس منكم سهم
الفارس (1) وللراجل سهم الراجل.
لان الاستحقاق باعتبار التسمية (2) فإذا فضل بعضهم على بعض في التسمية
ثبت الاستحقاق بتسميته (2) وإذا لم يفضل ثبت الاستحقاق لهم بالسوية.
ولا يقال
1036 - وإن لم يبين الامام فينبغي أن يكون الاستحقاق لهم على
هذا بناء على الاستحقاق الثابت لهم من الغنيمة.
لان كل واحد منهما يستحق بسبب القتال، وهذا لان النفل غير الغنيمة.
فان هذا شئ رضخ لهم الامام باعتبار جزائهم وعنائهم. ومن أصلنا أن المطلق
لا يحمل على المقيد في حكمين مختلفين، وإن كانا في حادثة (3) واحدة
فلا يجوز أن يجعل التقييد في الغنيمة بمنزلة التقييد في النفل، ولكن يعتبر في
النفل إطلاق التسمية فيكون بينهم بالسوية.
ألا نرى أنه لو قال: من قتل قتيلا فله سلبه، فاعتور القتيل فارس
وراجل حتى قتلاه، كان سلبه بينهما نصفين؟
1037 - ولو قال الأمير لقوم من أهل الذمة بعثهم سرية: لكم

(1) ه‍ " للفارس سهم الفارس منكم.. "
(2) ق " بحسبه " وصححت في الهامش " بتسميته "
(3) ق " مادة " وفى الهامش " حادثة. نسخة "
636

الربع مما أصبتم، فكان فيهم فرسان ورجالة، وكان الربع بينهم بالسوية
وكذلك في حق المسلمين. (ص 214)
1038 - فإن قال قائل: ليس لأهل الذمة سهام معروفة ليعتبر
النفل بها بخلاف المسلمين.
قلنا: أرأيتم لو بعث الامام سرية فيها مائتا رجل: مئة مسلمون
ومئة من أهل الذمة، ونفلهم الربع. فإن قسم النفل بينهم فجعل لأهل
الذمة نصفه بينهم بالسوية وللمسلمين نصفه، وفضل فيه الفارس على
الراجل، كأن الراجل من أهل الذمة قد أخذ أكثر مما يأخذ راجل
المسلمين، وقد عملا عملا واحدا، وأجزيا جزاء واحدا، فأي فعل
يكون أقبح (1) من هذا.
فكأنه أشار في هذا إلى مخالف له في هذه المسألة. ولكن لم يبق من
المخالف. والأشبه أن يكون المخالف له من يقول بأن المطلق يحمل على المقيد،
وإن كانا في حادثين. وقد بيناه في أصول الفقه، والله أعلم بالصواب.

(1) ب، ه‍ " بأقبح "
637

70 باب النفل الذي ينفله أمير العسكر
1039 - وإذا خرج أمير العسكر مع السرية وخلف الضعفة
في المعسكر، وأمر عليهم أميرا، فابتلوا بالقتال فنفل لهم أميرهم، فهو
جائز على ما يجوز عليه نفل أمير السرية.
لان الذين خلفهم في المعسكر بمنزلة سرية وجههم من المعسكر إلى
ناحية، فكما أن لأميرهم الولاية عليهم خاصة دون (1) الذين خرجوا مع
أمير العسكر (2)، فهنا (3) لأمير الضعفة الولاية عليهم خاصة دون الذين
خرجوا مع أمير العسكر في حكم التنفيل.
1040 - ولو أن أمير السرية الذين نفل لهم الامام الثلث بعد
الخمس بعد من المعسكر، ثم بعث سرية من سريته ونفلهم أقل من النفل
الأول وأكثر، فذلك جائز في حصة أصحاب سريته.
ثم المسألة على وجهين:
أحدهما أن نصيب السرية الثانية غنيمة، ثم يرجع إلى السرية الأولى، ثم
يلحقون جميعا بأهل المعسكر. وفى هذا يجوز النفل للسرية الأولى (4)، ويرفع
ذلك مما جاءوا به، ثم يقسم ما بقى حتى يتبين حصة السرية الأولى (5)، ثم ينفذ

(1) ب " دون العسكر الذين.. "
(2) ة " الولاية عليهم خاصة دون العسكر " وقوله " الذين خرجوا مع أمير " ساقط فيها.
(3) ه‍ ق " فها هنا "
(4) ب، ق " نفل السرية الأولى "
(5) ه‍ " لان تنفيل الأمير السرية الأولى "
638

من ذلك كله نفل السرية الثانية، لان تنفيل أمير السرية الأولى إنما يجوز في
حصة أصحابه خاصة من النفل والغنيمة جميعا دون حصة أهل العسكر.
فإذا تبين من ذلك حصتهم (1) يعطى من ذلك نفل السرية الثانية.
فان كان يأتي ذلك على جميع حصتهم ويفضل أيضا لم يكن لهم من الفضل
شئ، لأنه لا ولاية لأميرهم على حصة أهل العسكر، إلا أن يكون أمير
العسكر أذن له في التنفيل، فحينئذ هو نائب عن الأمير ينفذ تنفيله للسرية الثانية
في حق جميع أهل العسكر.
والفصل الثاني: فيما إذا لم يلقوا أهل العسكر حتى خرجوا إلى دار
الاسلام. فها هنا يبطل نفل السرية الأولى، لان الحق في المصاب لهم خاصة،
والنفل العام في مثله باطل. كما لو كانوا بعثوا (2) من دار الاسلام. وجاز
نفل السرية الثانية، لانهم بمنزلة سرية مبعوثة من جيش في دار الحرب.
وقد نفل لهم أميرهم. فيعطيهم النفل من المصاب أولا ثم يقسم الباقي بينهم وبين
جميع أهل السرية على قسمة الغنيمة.
1041 - ولو بعث الامام من المعسكر سرية ونفل لهم الربع قبل
الخمس، فهو تنفيل صحيح في جميع ما أصابوا من ذهب أو فضة أو.
رقيق أو متاع.
لأنه سمى لهم بلفظ عام.
1042 - فإن خص شيئا فهو على ما خص.
لان الوجوب لهم بالتسمية، فيراعى صفة التسمية.

(1) ب، ق " تبين بالقسمة حصتهم "
(2) ه‍ " خرجوا "
639

1043 - فإن جاءت السرية بغنائم فيها رجال ونساء وصبيان،
فأعتق واحد من أهل السرية بعض السبي فعتقه باطل.
لان الاستحقاق (ص 215) لهم بطريق الاغتنام، كاستحقاق أصل
الغنيمة للجيش. فكما أن (1) هناك الملك لا يثبت قبل القسمة حتى لا ينفذ
العتق من بعض الغانمين في شئ من الغنيمة، فكذلك هاهنا.
فإن قيل: لا كذلك، بل الاستحقاق للنفل بالتسمية. وقد صحت من
الامام فينبغي أن يثبت له الملك بنفس الإصابة.
قلنا: تسمية الامام لقطع شركة الجيش معهم في مقدار ما نفل لهم،
لا لاثبات الاستحقاق، وإنما يستحقون بعد هذه التسمية بالإصابة.
فإن قيل: أليس قد قلتم لا يفضل (2) في هذا الفارس على الراجل؟
ولو كان الاستحقاق بالإصابة لثبت التفضيل.
قلنا: الامام بهذه التسمية كما قطع شركة الجيش معهم قطع حق الفارس
في التفضيل، لضرورة انه سوى بينهم في النفل.
ثم من ضرورة انقطاع الشركة للغير واختصاصهم في النفل أن يتأكد
حقهم فيه، وليس من ضرورة ثبوت الملك لهم قبل القسمة، فيكون المنفل في
حقهم بمنزلة الغنائم المحرزة بدار الاسلام.
ولو أن الجيش بعد إحراز الغنائم بدار الاسلام أعتق واحد منهم بعض
السبي لم ينفذ عتقه، فكذلك ها هنا. وكان المعنى فيه أنه لا يدرى أين يقع
نصيبه منها بالقسمة، وأن للامام أن يبيع الغنائم ويقسم الثمن بينهم. وأن له أن
يقتل الرجال من السبي. فهذا موجود في النفل قبل الاحراز أيضا.
ثم خرج المسائل على هذا فقال:

(1) ه‍ " فكان " بدلا من فكما أن
(2) ه‍ " نفضل "
640

1044 - ولو كان في السبي قريب لبعض أهل السرية لم يعتق
عليه بالقرابة.
لأنه لم يملكه قبل القسمة.
1045 - ولو أراد الامام أن يقتل الرجال فليس لأصحاب السرية
أن يمنعوه من ذلك لأجل نفلهم.
كما لا يكون للجيش ذلك في الغنائم المحرزة بدار الاسلام.
1046 - ولو ظهر المشركون على الغنيمة التي جاءت بها السرية
فأحرزوها ثم إن المسلمين قاتلوهم حتى استنقذوا ذلك من أيديهم ردوا
النفل إلى أهله.
لان حقهم تأكد في المنفل، وهو بمنزلة الغنائم المحرزة بدار الاسلام
إذا استولى عليها المشركون فأحرزوها ثم استنقذها منهم جيش آخر فهناك
الرواية واحدة.
أن الأولين إن ظفروا بما قبل القسمة أخذوها بغير شئ.
لان حقهم تأكد فيها بالاحراز. والحق المتأكد في هذا الحكم بمنزلة الملك.
ألا ترى أن المرهون إذا أحرزه المشركون ثم وقع في الغنيمة فإنه يكون
للمرتهن أن يأخذ قبل القسمة بغير شئ لما له فيه من الحق المتأكد.
واختلفت الرواية فيما إذا وجدوها بعد القسمة فذكر هنا:
أنهم يأخذونها بالقيمة إن شاءوا على قياس المرهون.
641

فان المرتهن إذا وجده بعد القسمة أخذه بالقيمة لماله من الحق المتأكد فيه.
وذكر بعد هذا:
أنهم لا يأخذونها بعد القسمة وهو الأصح.
لان الحق للجيش الأول إنما تأكد في المالية دون العين.
ألا ترى أن للامام أن يبيع الغنائم ويقسم الثمن بينهم، فلا يكون الاخذ
بالقيمة مفيدا لهم شيئا بخلاف الاخذ قبل القسمة. ولصاحبه أن يأخذه قبل
القسمة. وهو بمنزلة ما لو أحرز الكفار شيئا من ذوات الأمثال لبعض المسلمين،
ثم وقع في الغنيمة، فلصاحبه أن يأخذه (1) قبل القسمة بغير شئ، وليس له
حق الاخذ بعد القسمة، لأنه لو أخذه أخذه بالمثل، فلا يكون مفيدا،
بخلاف المرهون، فان حق المرتهن في حبس العين ثابت، فيكون الاخذ
مفيدا في حقه.
وإذا ثبت هذا في الغنائم المحرزة فكذلك الحكم في المنفل (2) قبل الاحراز
(ص 216)، فإنهم أحق به قبل القسمة بغير شئ، وبعد القسمة فيه روايتان.
وهذا بخلاف الغنيمة التي لا نفل فيها قبل الاحراز، فإنه إذا ظهر عليها العدو
وأحرزوها ثم استنقذها منهم جيش آخر، فلا سبيل للجيش الأول عليها قبل
القسمة، وبعد القسمة. لان الثابت لهم كان حقا ضعيفا.
ألا ترى أن من مات منهم لم يورث نصيبه بخلاف ما بعد الاحراز.
وكذلك لو لحقهم مدد (3) شاركوهم في ذلك، بخلاف ما بعد الاحراز.
والحق الضعيف يبطل إحراز المشركين المال بدارهم فكأنها ما أخذت منهم
حتى الآن. وأما في المنفل فالحق متأكد لهم قبل الاحراز، حتى إن من مات منهم
يورث نصيبه، ولا يشركهم المدد في ذلك إذا لحقوهم. فلهذا وجب الرد
عليهم قبل القسمة.

(1) ه‍ " يأخذ "
(2) ه‍ " النفل "
(3) ه‍ " المدد "
642

1047 - ولو قسمت الغنائم في دار الحرب أو بيعت ولم يقسم
الثمن بعد القبض من المشترى حتى ظهر المشركون على الغنائم وعلى الثمن
فأحرزوها، ثم استنقذها منهم عسكر آخر، فإنهم يردون الغنائم على
المشترى قبل القسمة بغير شئ، وبعد القسمة بالقيمة.
لان المشترى ملك العين بالشراء، فيردون الثمن على الفريق الأول كما
يردون هذا الجيش من أموال سائر الناس. لان بيع الامام حين نفذ موجب
الملك للمشترى في المبيع، فهو موجب الملك في الثمن لمن وقع البيع لهم أيضا.
1048 - ولو أن السرية لما جاءت بالغنائم ولهم فيها النفل
استهلك رجل من أهل العسكر جميع تلك الغنائم. فهو ضامن لحصة
النفل خاصة، إلا من قتل من الرجال فإنه لا ضمان في ذلك.
لان النفل بمنزلة الغنائم المحرزة.
1049 - ولو أن واحدا من الغانمين استهلك الغنائم قبل الاحراز
لم يضمن شيئا لضعف حقهم فيها. ولو استهلك بعد الاحراز بالدار كان
ضامنا لتأكد الحق فيها بالاحراز، إلا من قتل من الرجال فإنه لا يكون
ضامنا لها.
لان الحق في الرجال لا يتأكد بالاحراز ما لم يضرب عليهم الامام الرق.
ألا ترى أن له أن لا يقتلهم، وأن يمن عليهم فيجعلهم ذمة، فكذلك
هذا الحكم في المنفل قبل الاحراز.
643

1050 - ولو أن السرية جاءت بغنائم فيها طعام وعلف فلأهل
العسكر أن يأكلوا ذلك بقدر حاجتهم
لانهم شركاء للسرية فيها بسهامهم.
فكما أن لكل واحد من أهل السرية أن يتناول فيها مقدار حاجته
فكذلك لأهل العسكر أن يتناولوا.
لان الشركة تقتضي المساواة.
فان قيل: فأين ذهب قولكم ان المنفل بمنزلة الغنائم المحرزة. فان بعد
الاحراز بالدار ليس لواحد من الغانمين أن يتناول من الطعام والعلف من غير
ضرورة ولا ضمان. فكان ينبغي أن يكون الجواب في المنفل قبل الاحراز كذلك.
قلنا: إنما افترقا في هذا الحكم، لان إباحة التناول من الطعام والعلف
قبل الاحراز، باعتبار أنه يصير مستثنى من شركة الغنيمة لضرورة الحاجة لكل
واحد منهم إلى ذلك، فإنهم لا يقدرون على أن يستصحبوا من دار الاسلام
ما يحتاجون إليه من الطعام والعلف للذهاب والرجوع، ولا يجدون ذلك في
دار الحرب شراء. وما يأخذونه يكون غنيمة. وهذه الضرورة لا تتحقق
في دار الاسلام. فإذا صار مستثنى من الشركة باعتبار هذه الضرورة بقى على
أصل الإباحة، بمنزلة شراء كل واحد من المتفاوضين الطعام والكسوة لنفسه
وعياله، فإنه يصير مستثنى من موجب المفاوضة لضرورة الحاجة إليه. ثم
هذه الضرورة تتحقق في الغنائم التي فيها نفل في دار الحرب كما تتحقق في
الغنائم التي لا نفل فيها فيصير (ص 217) مستثنى من حكم النفل أيضا.
ولهذا جاز لأصحاب السرية التناول منها، فكذلك لغيرهم.
فان قيل: لا كذلك، فإنهم إذا قسموا في دار الحرب أو في دار
الاسلام أعطوهم (1) النفل من الطعام والعلف كما أعطوهم من سائر الأموال،
ولو صار هذا مستثنى من التنفيل لما استحق النفل منه.

(1) ب " أعطوا "
644

قلنا: هذا الاستثناء باعتبار الضرورة والثابت بالضرورة، يتقدر بقدر (1) الضرورة.
ألا ترى أن الغنيمة التي لا نفل فيها إذا قسمت بين الغانمين فالطعام وغير
الطعام في ذلك سواء؟ ولم يدل ذلك على أن قبل القسمة لم تكن باقية على أصل
الإباحة، فكذلك حكم المنفل. ولهذا لا يباح التناول من الطعام والعلف للتجار
الذين لا يقاتلون، لان ثبوت هذه الأشياء باعتبار الضرورة. وإنما يتحقق
في حق الغزاة الذين لهم شركة في القسمة دون التجار. ولو تناول التجار شيئا
من ذلك أو علفوا دوابهم لم يغرموا شيئا، لان باعتبار (2) الاستثناء الذي قلنا
لا يتكأد الحق فيها، ما داموا في دار الحرب، فمن استهلك شيئا منها لم يكن
ضامنا المنفل، وغير المنفل فيه سواء، بمنزلة قتل الرجال على ما قررنا.
1051 - قال: ولو أن السرية أصابوا أراضي بما فيها. فلهم النفل
من ذلك كله، لتعميم التنفيل من الامام،
فإن رأى الامام أن يمن بها على أهلها ويجعلهم ذمة فلا بأس بذلك
لأنه نصب ناظرا، فربما رأى النظر في ذلك.
وليس لأصحاب النفل أن يأبوا ذلك عليه.
لان حقهم في النفل كحق الغانمين في الغنائم المحرزة. وللامام ولاية
المن هناك فكذلك هنا.
1052 - إلا أنه ينبغي له أن يسترضيهم بأن يعطيهم عوضا من
محل آخر واستدل عليه بفعل عمر رضي الله عنه فإنه حين بعث الناس إلى

(1) ب، ق " بقدرها " (2) ق " اعتبار "
645

العراق قال لجرير بن عبد الله البجلي: لك ولقومك ربع ما غلبتم عليه.
ففتحوا السواد. ثم جعل عمر رضي اله عنه الأرض بعد ذلك أرض
خراج. ولم يمنعه ما نفل جريرا وقومه من ذلك.
قال: وبلغنا أن امرأة أتته فقالت: إن ذا قرابة لي مات من الغزاة
فترك نصيبه من ذلك ميراثا، ولست، أسلم ما صنعت إلا أن تعطيني
دنانير. فأعطاها كفا من دنانير.
وفى المغازي يروى هذا الحديث أنها قالت: ليست أرضى حتى تملأ
كفى ذهبا وتحملني على ناقة حمراء. ففعل ذلك عمر رضي الله عنه.
فهذا دليل على أن من مات بعد الاحراز يورث نصيبه. وأنه ينبغي
للامام أن يسترضي أصحاب النفل بأن يعطيهم شيئا إذا أراد المن على أهل الأراضي
بها والله أعلم.
646

71 باب ما يبطل فيه النفل وما لا يبطل (1)
1053 - وإذا بعث الخليفة عسكرا إلى دار الحرب وعليهم أمير
فبعثت أميرهم سرية ونفل لها الربع. ثم بعث الخليفة عسكرا آخر من
ناحية أخرى، فلقوا السرية بعد ما غنمت الغنائم، ثم لحقوا جميعا
بالمعسكر الأول، وأخرجوا الغنائم (2) إلى دار الاسلام، فالنفل سالم
للسرية من جميع ما أصابوا على ما سمى أميرهم لهم.
لان أمير ذلك العسكر مبعوث الخليفة. فهو فيما ينفل كالخليفة، ينفذ
تنفيله في حق العسكرين وجماعة المسلمين. بخلاف ما سبق من نفل أمير السرية
لمن بعثه من سريته. لان ولايته هناك مقصورة على أهل سريته (ص 218).
ألا ترى أنه بعد الرجوع إلى المعسكر هو كسائر الرعايا؟ وهاهنا لأمير
العسكر ولاية كاملة، باعتبار تقليد الخليفة إياه. فينفذ تنفيله في حق الكل،
ثم ما يبقى بعد النفل والخمس يشترك فيه أهل العسكرين والسرية على سهام
الغنيمة، لانهم اشتركوا في إحراز ذلك بدار الاسلام.
1054 - ولو أن السرية والعسكرين لقوهم خرجوا إلى دار
الاسلام قبل أن يلقوا العسكر الأول فللسرية أيضا نفلها.
لان نفلهم قائم مقام الخليفة في التنفيل لهم، فيستحقون النفل بتسميته (3) لهم.

(1) اسم هذا الباب في ه‍ وحدها " باب مبعوث الخليفة أميرا كالخليفة ".
(2) ب " وخرجوا إلى دار الاسلام ".
(3) ب " بقسمته ".
647

سواء رجعوا إليه في دار الحرب أو لم يرجعوا، ثم الباقي بينهم
وبين العسكر الثاني دون العسكر الأول.
لانهم هم الذين أحرزوه.
1055 - ولو لم تلق السرية واحدا من العسكرين حتى خرجت
لي دار الاسلام فقد بطل نفلهم.
لانهم هم المختصون بالاحراز. وثبوت الحق في المصاب هنا. والنفل
العام في مثل هذا يكون باطلا، بمنزلة السرية المبعوثة من دار الاسلام.
1056 - ولو أن الإمام قال للسرية المبعوثة من دار الاسلام:
من أصاب منكم شيئا فهو له، دون أصحابه. كان هذا جائزا، بخلاف
ما إذا قال: لكم الربع.
لان التنفيل للتحريض، ومعنى التحريض على الإصابة يتحقق بهذا
التنفيل الأول، ولان هذا التنفيل قطع شركة غير المصيب مع المصيب، وذلك
جائز فيبطل فيه الخمس. ويفضل (1) الفارس على الراجل أيضا، تبعا. ومثل
هذا لا يوجد فيما إذا نفل لهم الربع.
أرأيت لو قال لهم: من دخل منكم فارسا فأصاب شيئا فهو له. أما كان
يصح هذا التنفيل وفيه تحريضهم على التزام مؤنة الفرس، ولو قال لهم ما أصبتم؟
فلو صح هذا التنفيل كان فيه تقليل نشاطهم في التزام مؤنة الفرس، لانهم
إذا علموا أنه لا يزداد نصيبهم بالتزام مؤنة الفرس فقل ما يرغبون في ذلك.
فبهذا وقع الفرق بينهما.

(1) ق " وتفضيل ".
648

1057 - ولو أن العسكر الثاني لحقوا السرية المبعوثة في دار
الحرب قبل أن يصيبوا شيئا، ثم قاتلوا جميعا فأصابوا غنائم، ثم لحقوا
بالعسكر الأول وخرجوا، فالغنائم تقسم بين السرية والعسكر الذين
لحقوهم (1) على قسمة الغنيمة. كأنه (2) لا نفل فيها. ثم ينظر إلى حصة
السرية فيخرج نفلهم من ذلك.
لان أميرهم إنما نفل لهم الربع مما أصابوهم دون ما أصابه عسكر آخر.
ولا يتبين مصابهم إلا بالقسمة، فلا بد من هذه القسمة ليتبين محل حقهم،
فيعطون النفل من ذلك.
ثم يجمع ما بقى إلى ما أصاب أهل العسكر، فيقسم بين السرية
والعسكرين على قسمة الغنيمة.
لانهم اشتركوا في الاحراز.
ولو لم يلقوا العسكر الأول حتى خرجوا قسم بينهم أولا ليتبين
حصة السرية، ثم يعطون نفلهم من ذلك.
لان تنفيل الأمير لهم صح مطلقا.
ثم يجمع ما بقى إلى حصة العسكر فيقسم بينهم على سهام الغنيمة
لا شئ فيه لأهل العسكر الأول.
لانهم لم يشاركوهم في الاحراز.

(1) ق " لحوقهم ".
(2) ه‍ " وكأنه ".
649

1058 - ولو أن أمير العسكر في دار الحرب بعث سرية وقال:
ما أصبتم فهو لكم. فهذا جائز.
لان المقصود قطع شركة الجيش معهم في المصاب إذا رجعوا إليهم،
بخلاف السرية المبعوثة من دار الاسلام.
1059 - فان افتتحوا حصنا متاخمة (1) لدار (2) الاسلام، ثم لحقهم
أهل العسكر بعد ذلك، فجميع ما أصابوا لهم دون أهل العسكر.
لان الامام قطع شركة أهل العسكر معهم (ص 219) بتنفيل صحيح.
1060 - لكن لو أعتق رجل منهم نصيبه من الرقيق، أو كان
فيهم ذات رحم (3) محرم من بعضهم، لم تعتق (4)
لأنها لم تصر (5) مملوكة لهم بالإصابة قبل القسمة. وان انقطعت شركة
الغير معهم، بمنزلة الغنائم المحرزة بالدار قبل القسمة.
ألا ترى أن الامام لو رأى أن يجعلهم ذمة، أو رأى أن يقتل الرجال
كان له ذلك.
1061 - قال: والنفل بمنزلة رضخ رضخ لهم (6) من الغنيمة. فإذا

(1) في هامش ق " تتاخم أرض كذا أي تحادها، ويتصل حدها بحدها. ومنه: افتتحوا
حصنا متاخما لأرض الاسلام. " مغرب ".
(2) في ه‍، ق، ب " بأرض ".
(3) ب " ذا رحم " ق، ه‍ " ذو رحم ".
(4) ه‍، ب، " عتق ".
(5) ه‍ " يصر ".
(6) رضح له أعطاه غير كثير (القاموس).
650

كان سهام الغنيمين لا يمنعه من هذا فالرضخ كيف يمنعه؟
1062 - ولو كان قال لهم: من أصاب منكم شيئا فهو له. ثم
أعتق رجل منهم أسيرا قد أصابه، فإنه ينفذ عتقه، ولو أصاب ذا رحم
محرم منه عتق عليه.
لأنه اختص بملكه هنا بنفس الإصابة. وهذا لأنه ليس هنا أمر آخر
منتظر (1) لوقوع الملك سوى الإصابة، حتى يتوقف الملك عليه، بخلاف
الأول. فان هناك أمرا آخر منتظرا وهو القسمة بينهم، فلا يثبت الملك قبل
وجودها.
وفى هذا الفصل ليس للأمير أن يقتل أحدا من رجال الاسراء، لان
الملك ثبت فيه للمصيب بنفس الإصابة. فكأن الامام ضرب عليه الرق.
وكذلك من استهلك شيئا على المصيب في هذا الموضع غرم له.
وليس لغير المصيب من أهل العسكر، ولا من أهل السرية أن يرد
أشياء من الطعام والعلف، بخلاف الأول. وهذا لان التنفيل من الامام
بمنزلة القسمة بعد الإصابة في دار الحرب.
ولو قسم بينهم ثبت هذه الأحكام فيما أصاب كل واحد منهم.
وكذلك إذا نفل لكل واحد منهم ما أصابه خاصة، بخلاف ما سبق،
فان قوله " ما أصبتم فلكم " قطع لشركة الجيش. فليس فيه معنى القسمة بينهم.
والملك في المصاب لا يثبت إلا بالقسمة.
1063 - ولو قال للسرية المبعوثة في دار الحرب: من أصاب
منكم أسيرا فهو له. فأصابوا جميعا أسيرا واحدا، فهو لهم.
لان " من " اسم مبهم. فهو عام فيما يتناوله. فكما يتناوله الفرد منهم

(1) ب " ينتظر ".
651

يتناول جماعتهم، بمنزلة قول الرجل لعبيده: من شاء منكم العتق فهو حر.
فشاءوا، عتقوا. بخلاف قول أبي حنيفة رحمه الله فيما إذا قال: من شئت
عتقه من عبيدي. لأنه أضاف المشيئة هناك إلى من لم يتناوله " من " وهاهنا
أضاف الإصابة إلى من تناوله " من ".
1064 - وإذا ثبت الاستحقاق لهم بالإصابة صار الأسير مملوكا
لهم. حتى إذا كان قريبا لبعضهم عتق حصته منه. ولو أعتقه أحدهم
عتق حصته.
لان الامام حين خص المصيب بالمصاب فذلك منه بمنزلة القسمة بعد
الإصابة، لا فرق بين أن يصيب الأسير جماعة وبين أن يصيب الواحد، في
ثبوت الملك به. فكذلك في الغنيمة (1) قبل الإصابة.
1065 - ولو كان قال لهم: ما أصبتم فهو لكم. والمسألة بحالها،
لم يعتق الأسير بإعتاق أحدهم إياه ولا بقرابته منه.
لان هذا التنفيل ليس في معنى القسمة من الامام.
ألا ترى أن المصيب لا يختص بالمصاب، ولكن ما يصيب الواحد منهم
يكون بين جماعتهم، وبدون القسمة وما في معناها لا يثبت الملك بنفس الإصابة.
يوضح الفراق أن في كل موضع يختص المصيب بالمصاب على وجه
لا يشاركه فيه غيره فتلك الإصابة في معنى الاصطياد. فكما أن الملك في الصيد
يثبت بنفس الإصابة، للواحد كان أو للجماعة، فكذلك الملك يثبت للسرية بمثل
هذه الإصابة، وفى كل موضع لا يختص المصيب بالمصاب ولكن يشاركه فيه
أصحابه. فتلك الإصابة في معنى إصابة الغنيمة. ومجرد الاخذ في الغنيمة لا يوجب
الملك قبل القسمة فكذلك ما يكون في معناه.

(1) ق، ه‍ " القسمة " وفوق هذه الكلمة في ق " الغنيمة. نسخة ".
652

1066 - ولو بعث الأمير في دار الحرب ثلاثة طليعة، ونفل
لهم الربع مما يصيبون، فأصابوا أسيرا، ثم أعتقه أحدهم أو كان (ص 220)
قريبا منه، لم يعتق.
لان أهل العسكر وأرباب الخمس شركاؤهم في المصاب، فلا يثبت
الملك لهم قبل القسمة قلوا أو كثروا.
ألا ترى أن للامام ولاية البيع وقسمة الثمن، وأن نصيبهم لا يدرى أين
يقع بالقسمة.
1067 - ولو كان قال لهم: لكم ما أصبتم. والمسألة بحالها، عتق
المصاب بإعتاق أحدهم أو بقرابته منه استحسانا. وفى القياس لا يعتق.
لان بهذا التنفيل لا يختص (1) المصيب بالمصاب، ولكن يشاركه فيه
أصحابه، فلا يثبت الملك لهم قبل القسمة. بمنزلة أهل السرية على ما بينا.
وفى الاستحسان نقول قد ثبت الاختصاص لهم بالمصاب بسبب تنفيل (2)
الامام. وقد بينا أن هذا وإن كان من الامام قبل الإصابة فهو في المعنى
كالموجود بعد الإصابة، فيكون بمنزلة القسمة، يثبت لهم الملك حتى ينفذ
العتق فيه من بعضهم.
وهو نظير ما لو قسم الامام الغنيمة على الرايات بين العرفاء، ثم أعتق
واحد منهم من أهل راية عبدا مما أصاب أهل تلك الراية، قبل أن يقسم العريف
بينهم، فإنه ينفذ عتقه.
والمعنى في الكل أن الشركاء متى قلوا فالشركة بينهم تكون شركة خاصة.
وهي لا تمنع الملك لهم في المشترك، بمنزلة الشركة بين الورثة في الميراث.

(1) ق " يخص ".
(2) ب " نفل ".
653

وعند الكثرة الشركة عامة، فيمنع ذلك ثبوت الملك. بمنزلة شركة المسلمين
في بيت المال وشركة الغانمين في الغنيمة.
فإن قيل: فما الحد الفاصل بين القليل والكثير في ذلك؟
قلنا: قد ذكر في ذلك وجوها كلها محتملة (1).
1068 - أحدها: أنهم إذا كانوا أقل من تسعة جاز عتقهم،
وإن كانوا تسعة فصاعدا لم يجز. لان النبي صلى الله عليه وسلم بعث
تسعة سرية.
ولان الجمع في حد الكثرة والقلة جمع متفق عليه. فالتسعة تكون
جمع الجمع.
والثاني: أنهم إذا كانوا أقل من أربعين جاز عتقهم.
لان رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أظهر الدعاء إلى الدين بمكة
حين تموا أربعين بإسلام عمر رضي الله عنه.
فتبين بهذا أن الأربعين أهل عزة ومنعة. فقد كان دعا رسول الله
عليه السلام فقال: اللهم أعز الاسلام (2) بأحب الرجلين إليك ". والعزة
والمنعة إنما تحصل بالعدد الكثير من المسلمين.
والثالث: أنهم إن كانوا أقل من مئة جاز عتقهم.
لان الله تعالى يقول (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا. فإن

(1) ق " وجوها مختلفة "، وفى هامشها " كلها محتملة " نسخة.
(2) ق " أعز الدين " وفى الهامش " أعز الاسلام ". نسخة.
654

تكن منكم مئة صابرة يغلبوا مائتين) (1) فكل هذا محتمل، إن قال به
قائل وسعه اجتهاد الرأي فيه. وأما أنا فلست أوقت في ذلك وقتا،
ولكني أقول: إن كانوا قوما لا منعة لهم جاز العتق، وإلا فلا.
لان نصب المقادير بالرأي لا يكون، وليس في هذا نص. والمنعة
تختلف باختلاف أحوال الناس، فالسبيل أن يفوض إلى رأى الامام ليحكم
برأيه فيه. هذا هو الأقرب إلى معاني الفقه.
وهذا نظير ما بينا في كتاب الشفعة في الفرق بين الشركة الخاصة في
النهر (2) والشركة العامة في استحقاق الشفعة. فكل فصل ذكرناه ثمة، فإنه
يستقيم القول به هنا.
ثم في كل فصل ذكرنا أنه ينفذ العتق فإنه لا يحل للامام أن يقتل الرجال
من الاسراء. لانهم قد ملكوا فصار ذلك بمنزلة الغنيمة المقسومة.
وكذلك بعد القسمة بين العرفاء ليس للامام أن يقتل أحدا من الرجال.
وهذا أظهر، لان الملك هنا يثبت بالقسمة الأولى، وهي قسمة الجمل. وإن لم
توجد القسمة بين الافراد بعد.
1069 - وإن كان العدد القليل بعثهم الامام من دار الاسلام
فأصابوا غنائم ثم أعتق بعضهم الرقيق فعتقه باطل في القياس.
لان المصاب هنا غنيمة.
ألا ترى (ص 221) أنهم لو لحقهم المدد (3) في دار الحرب شاركوهم،
فلا يثبت الملك لهم قبل القسمة. ولان أرباب الخمس شركاؤهم، والامام رأى

(1) سورة الأنفال، 8، الآية 66.
(2) ب " النهى ".
(3) ق، ب " مدد ".
655

باعتبار ذلك، فلا يدرى أين يقع نصيب من أعتق عند القسمة، فينبغي أن
لا ينفذ عتقه.
وفى الاستحسان ينفذ عتقه.
لان الشركة بينهم شركة خاصة، لقلة عددهم. وقد تأكد حقهم بالاحراز
حسب ما يتأكد حق الطليعة المبعوثة في دار الحرب بالإصابة، بعد تنفيل
الامام. فكما أن هناك ينفذ العتق فكذلك هاهنا ينفذ.
ألا ترى أن المبعوث لو كان رجلا واحدا فأعتق السبي، أو كانوا
أقرباءه بعد الاحراز، لم يشكل أنه ينفد عتقه.
1070 - وإن كان لو أعتقهم في دار الحرب لم ينفذ عتقه.
لان الحق لم يتأكد فيهم قبل الاحراز.
ثم بعد نفوذ العتق إن كان المبعوث رجلا واحدا فهو ضامن الخمس
لأرباب الخمس إن كان موسرا. وكذلك إن كانوا نفرا فهو ضامن
نصيب أصحابه ممن أعتقه. وإن كان معسرا سعى الرقيق في حصة
أصحابه.
كما هو الحكم في عتق العبد المشترك.
وأما في حصة الخمس فينبغي للامام أن لا يستسعيهم.
لان الخمس للمحتاجين، ولا حاجة أظهر من حاجة المعتقين فإنهم
لا يملكون شيئا حتى يلزمهم السعاية. فلهذا ينبغي للامام أن لا يسلم حصة
الخمس لهم.
656

وعلى هذا لو جاءوا برجال فليس للامام أن يقتلهم بعد
الاحراز.
لان الشركة في المصاب خاصة بين العدد القليل. وقد تأكد حقهم
بالاحراز.
وله أن يقتلهم قبل الاحراز.
لان الحق لم يتأكد بالإصابة قبل الاحراز، والمصاب غنيمة على الاطلاق.
657

72 باب النفل الذي يبطل بأمر الأمير
والذي لا يبطل
1071 - ولو أرسل الأمير في دار الحرب سرية (1) من المعسكر (2)
ونفلهم الربع، فلما بعدوا منه خاف عليهم فأرسل سرية أخرى وقال:
الحقوا بأصحابكم، فما أصبتم فأنتم شركاؤهم في ذلك كله من النفل وغيره.
فأدركوهم بعد ما أصابوا الغنيمة. ورجعوا إلى المعسكر (2) جملة، فلا شئ
للسرية الثانية من النفل.
لان أصحاب السرية الأولى قد تأكد حقهم في المنفل بنفس الإصابة
على وجه لا يشركهم في ذلك غيرهم. بمنزلة تأكد حق الغانمين بالاحراز.
ولو أراد الامام أن يثبت الشركة بين المدد والجيش بعد ما أحرزوا الغنيمة بالدار
لم يملك ذلك بقوله، فهذا مثله.
1072 - وإن غنموا جميعا بعد ما لحقوهم فلهم النفل في الغنيمة
الثانية.
لان ثبوت الحق للمنفلين (3) بالإصابة، وقد أشركوا جميعا في الإصابة.
والتنفيل من الامام لهم جميعا في الدفعتين.

(1) ه‍، ق " سرية في دار الحرب ".
(2) ب " العسكر ".
(3) ه‍، ق " للمشتغلين ".
658

1073 - قال: فإن كانت السرية الأولى مئة فارس والثانية خمسين
فارسا وخمسين راجلا فلما أتوهم لم يعلموهم بما جعل لهم الامام من النفل
حتى أصابوا غنائم، فإنها تقسم بين السريتين أولا على سهام الفرسان
والرجالة، ثم ينظر إلى ما أصاب السرية الأولى فيعطون من ذلك نفلهم
لا ينقصون منه شيئا، وإلى ما أصاب السرية الثانية فيعطون منه نفلهم
أيضا، ثم الباقي يخمس ويقسم بين السريتين وأهل العسكر على
قسمة الغنيمة.
لان السرية الأولى استحقوا ربع ما يصيبون بالتنفيل الأول. فكما لا يملك
الامام إبطال حقهم بالرجوع عن ذلك التنفيل بعد علمهم، فكذلك لا يملك
إدخال ضرر النقصان عليهم، باشتراك الغير معهم بدون علمهم. لان الاشتراك
والابطال كل واحد منهما خطاب من الامام إياهم، فلا يثبت حكمه في حقهم
ما لم يعلموا به، بمنزلة خطاب الشرع في حق المخاطبين.
1074 - ولو أخبرت السرية الثانية السرية الأولى (ص 222) بما
جعل لهم الأمير من الشركة معهم في النفل قبل أن يصيبوا الغنيمة
والمسألة بحالها، فالنفل بينهم بالسوية.
وهذا لان التنفيل الأول من الامام لم يكن لازما قبل الإصابة.
ألا ترى أنه لو رجع عنه بعلمهم كان صحيحا؟ فكذلك إذا نقص حقهم
بالاشتراك بعلمهم.
1075 - وكذلك إذا أعلموا بذلك أمير السرية الأولى.
فان إعلام أميرهم كإعلام جماعتهم، إذ الأمير نائب عنهم.
659

1076 - وكذلك أن أظهروا ذلك حتى علم به عامتهم.
لأنه يتعذر عليهم إعلام كل واحد من آحادهم، وإنما يمكنهم إظهار
ذلك الخبر في عامتهم. فإذا فعلوا ذلك فهو بمنزلة الواصل إلى كل واحد منهم،
كالخطاب الشائع في دار الاسلام يشترك في حكمه من علم به ومن لم يعلم ممن
أسلم من أهل المدينة، حتى يلزمه قضاء الصلوات المتروكة بعد الاسلام،
بخلاف من أسلم في دار الحرب والفرق باعتبار شيوع الخطاب.
1077 - ولو كان الأمير قال (1) للسرية الثانية: أنتم شركاؤهم في
النفل. لكم ثلثاه ولهم ثلثه. والمسألة بحالها. فإن كانوا لم يعلموهم حين
أدركوهم حتى أصابوا غنائم فللسرية الأولى نفلهم مما أصابوا كاملا.
لان حكم الخطاب (2) بالتفضيل لا يثبت في حقهم ما لم يعلموا، لما فيه
من الاضرار بهم. فإنه ينتقص حقهم بذلك.
1078 - وإن كانوا أعلموهم ذلك ثبت حكم الخطاب في حقهم،
فيكون النفل بينهم على الثلث والثلثين كما بين الامام.
1079 - قال: ولو جاز من الامام (3) أن ينقص (4) حق السرية
الأولى بغير علمهم لجاز أن يقول للسرية الثانية كله لكم دون
الأولى (5)، فلا ينبغي لأحد أن يجيز هذا.

(1) ب، ق، " ولو قال الأمير.. ".
(2) ب " بالتنفيل ".
(3) ه‍ " ولو جاز للامام ".
(4) ه‍ " تنقيص ".
(5) ه‍ " الأول ".
660

لان ما هو المقصود بالتنفيل - وهو التحريض - يفوت بتجويز هذا.
فان السرية لا يعتمدون ذلك التنفيل بعد ما بعدوا من الامام، إذ كان هو متمكنا
من إبطاله بغير علمهم.
أرأيت لو قال لأهل العسكر بعد ما مضت السرية الأولى: قد أبطلت
نفلها. كان يصح ذلك في حقهم قبل أن يعلموا به. فكما لا يصح منه الابطال
فكذلك لا يصح منه تحويله إلى السرية الثانية قبل علم السرية الأولى به. ولو
علموا به صح ذلك كله، إبطالا كان ذلك أو نفلا إلى غيره.
ألا ترى أنه لو قال لرجل: إن قتلت هذا القتيل فلك سلبه. فلما خرج
للمبارزة قال: قد أبطلت نفله، لم يبطل ذلك ما لم يعلم به المبارز، فكذلك ما سبق.
1080 - ولو بعث أمير المصيصة سرية منها.
وهي اسم بلدة من دار الاسلام في وسط الروم.
فنفل أصحاب الخيل دون الرجالة لم يجز.
لان هذه السرية مبعوثة من دار الاسلام، وهذا تنفيل عام. فان أهل السرية أصحاب الخيل كلهم.
وقد بينا أن التنفيل العام في مثل هذه السرية لا يجوز.
لأنه ليس فيه إلا إبطال الخمس وتفضيل الفارس على الراجل.
1081 - ولكنه لو أرسل معهم قوما من أصحاب المجانيق وقوما
يحضرون الحصن فنفلهم شيئا لجزائهم وعنائهم فهذا جائز.
661

لأنه تنفيل خاص لبعض أهل السرية. بمنزلة قوله: من قتل قتيلا فله
سلبه وهذا.
بخلاف السرية المبعوثة في دار الحرب لو نفل أصحاب الخيل جاز.
لان التعميم في حقهم لا يمنع صحة التنفيل، إذ (1) المقصود قطع شركة
الجيش معهم.
1082 - وكذلك إن نفل أصحاب الخيل العرب على
البراذين جاز.
والعراب أفراس العرب والبراذين أفراس العجم. وأفراس العرب أقوى
في الطلب والهرب، والبراذين أصبر على القتال وألين عند العطف. والتنفيل
بحسب العناء والجزاء، فلا بأس للامام أن يختص أحد الفريقين بالفعل على
حسب ما يرى فيه من النظر والله أعلم.

(1) ه‍ " إذا ".
662

73 باب نفل الأمير
1083 - وإذا قال الأمير: من قتل قتيلا فله سلبه، ثم لقي الأمير
رجلا فقتله، فله السلب استحسانا. وفى القياس لا يستحق.
لان الغير إنما يستحق بإيجابه، وهو لا يملك الايجاب لنفسه بولاية
الامارة. بمنزلة القاضي لا يملك أن يقضى لنفسه.
ألا ترى أنه لو خص نفسه فقال: إن قتلت قتيلا فلي سلبه، لم يصح
ذلك. ولو كان هو كغيره في هذا الحكم يصح إيجابه خاصا كان أو عاما،
كما في حق غيره. ولان التنفيل للتحريض، وإنما يحرض غيره على القتال
لا نفسه. فالإمارة تكفيه لذلك.
ووجه الاستحسان انه وجب النفل للجيش بهذا اللفظ، وهو رجل منهم
فيستحق كما يستحق غيره.
ألا ترى أن فيما يجب شرعا وهو السهم هو كواحد من الجيش، فارسا
أو راجلا؟ فكذلك فيما يستحق بالايجاب.
أرأيت لو برز علج ودعا إلى البراز. فقال الأمير: من قتله فله سلبه.
فلم يتجاسر أحد على الخروج، حتى خرج هو بنفسه فقتله، كان لا يستحق
سلبه. وهذا بخلاف ما إذا خص نفسه، لأنه متهم فيما يخص به نفسه من التنفيل،
بمنزلة القاضي يكون متهما فيما يقضى به لنفسه. فأما عند التعميم فتنتفى التهمة،
فيثبت الحكم في حقه كما يثبت في حق غيره.
ألا ترى أن إباحة التناول من الطعام والعلف يثبت في حق الامام كما
يثبت في حق المعسكر، باعتبار أنه لا تتمكن تهمته فيما لا يختص الأمير به.
663

وإذا خصص غيره بالتنفيل لا تتمكن التهمة في ذلك، ولا يخرج فعله من أن
يكون واقعا بصفة النظر.
1084 - ولو كان قال: من قتل منكم قتيلا فله سلبه. ثم قتل
الأمير قتيلا لم يكن له سلبه.
لأنه خصهم بقوله: منكم. فلا يتناوله حكم الكلام بخلاف الأول.
ألا ترى أن من قال لعبده: أعتق مماليكي. فقال العبد لسائر المماليك:
أنتم أحرار. لم يدخل هو في هذا الكلام.
ولو قال: مماليكي أحرار دخل هو في جملتهم لهذا المعنى.
1085 - ولو قال: إن قتلت قتيلا فلي سلبه. ثم لم يقتل أحدا.
حتى قال: ومن قتل منكم قتيلا فله سلبه. ثم قتل الأمير بعد ذلك
قتيلا استحق سلبه.
لان التنفيل صار عاما، باعتبار كلاميه. ولا فرق بين تنفيل العام
بكلامين وبينه (1) بكلام واحد. وهذا لان كلامه الأول لم يكن صحيحا
للتهمة المتمكنة بسبب التخصيص، وقد زال ذلك بكلامه الثاني. وبعد ما انعدم
المانع من صحة الايجاب يكون الايجاب صحيحا عاما في حقهم.
1086 - ولو كان قتل قتيلين: أحدهما قبل الكلام الثاني، والآخر
بعده، فله سلب القتيل الثاني دون الأول.
لان القتل الذي جعله سببا تم منه في الأول قبل صحة الايجاب. فصار
ذلك السبب غنيمة. ثم صح الايجاب بالكلام الثاني، فيجعل عند الكلام الثاني

(1) قوله " بينه " ساقطة من ه‍.
664

كأنه أنشأ تنفيلا عاما الآن، فإنما يستحق به سلب ما نفل بعد ذلك. لان التنفيل
لا يعمل فيما صار غنيمة قبله، باعتبار أن الكلام غير متناول له، ولو كان
متناولا له لم يصح أيضا، لأنه تنفيل بعد الإصابة.
1087 - ولو قال: إن قتلت قتيلا فلي سلبه. ومن قتل منكم قتيلا
فله سلبه. ثم قتل الأمير قتيلين، ورجل من القوم (ص 224) قتيلين.
فللأمير سلب الأول دون الثاني.
لأنه أوجب لنفسه بحرف لا يقتضى التكرار، وهو حرف الشرط.
ألا ترى أن من قال لزوجته: إن دخلت الدار فأنت طالق. فدخلت
دخلتين لم تطلق إلا واحدة. أوجب للقوم بكلمة (من) وهي عامة كما بينا.
فيتناول كل قتيل يقتله كل واحد منهم، حتى لو قتل رجل عشرين قتيلا
كان له أسلابهم جميعا.
1088 - ولو قال لرجل منهم: إن قتلت قتيلا فلك سلبه. فقتل
رجلين، كان له سلب الأول خاصة.
لما بينا أنه علق استحقاقه بالشرط، وذلك ينتهى بقتل الأول. وليس
في لفظه ما يدل على التكرار والعموم.
1089 - ولو قال لجميع أهل العسكر: إن قتل رجل منكم قتيلا فله
سلبه. فقتل رجل عشرة منهم، استحق أسلابهم جميعا، وهذا استحسان.
وفى القياس لا يستحق إلا القتيل الأول، كما لو خصه بالايجاب
بهذا اللفظ. ووجه الاستحسان انه لما لم يقصد لانسان بعينه. فقد خرج
الكلام منه عاما.
665

ألا ترى أنه يتناول جميع المخاطبين. فكما يعم جماعتهم يعم جماعة المقتولين
بخلاف الأول.
ألا ترى أن في هذا الفصل إن قتل عشرة من المسلمين عشرة منهم
استحق كل واحد منهم سلب قتيله؟
فكذلك إذا كان الواحد هو القاتل لعشرة. وحقيقة معنى الفرق أن
مقصود الامام هنا تحريضهم على المبالغة في النكاية فيه. وفى معنى النكاية
لا فرق بين أن يكون القاتل للعشرة عشرة من المسلمين أو واحدا منهم. وفى
الأول مقصوده معرفة ذلك الرجل وجلادته، وذلك يتم بدون إثبات معنى
العموم في المقتولين.
1090 - ولو قال لعشرة هو أحدهم: من قتل منا قتيلا فله سلبه.
أو إن قتل رجل منا قتيلا فله سلبه. ثم قتل بنفسه قتيلين أو ثلاثة،
استحق أسلابهم.
لان معنى التهمة قد انتفى باشتراك التسعة مع نفسه في الايجاب، وصار
كلامه عاما باعتبار المعنى الذي قلنا. فيستحق هو من سلب المقتولين ما يستحقه
تسعة معه إذا قتلوا.
1091 - ولو قال لرجل بعينه: إن قتلت قتيلا فلك سلبه. فقتل
قتيلين معا، فله سلب أحدهما.
لان هذا الايجاب لا يتناول إلا الواحد، ثم يختار أي السلبين شاء. لان
الحق ثابت له، فالخيار في البيان إليه. ولا يقال: كان ينبغي أن يكون الخيار
إلى الامام، لأنه هو الموجب له. وهذا لان مثل هذا الكلام من الامام على
وجه بيان السبب، وإنما يكون الخيار لمن باشر السبب. وأكثر ما فيه أنه يختار
أفضلهما سلبا، ولو لم يقتل إلا ذلك الرجل بضربته كان مستحقا لسلبه. فإن
قتل معه غيره لا يجوز أن يصير محروما، لأنه أظهر زيادة القوة بما صنع.
666

وكذلك لو قال: إن أصبت أسيرا فهو لك. فأخذ أسيرين
معا. فله أن يختار أرفعهما.
1093 - ولو خرج أمير العسكر في سرية ونفل لهم الربع فأصابوا
غنائم، كان للأمير النفل مع السرية.
لأنه أوجب النفل لأصحاب السرية. وهو واحد منهم. وبهذا الفصل
يتبين ما سبق أنه عند التعميم يكون الامام في استحقاق النفل كغيره. والكلام
في فصل السرية أظهر، فإن استحقاقهم للنفل على هيئة استحقاق الغنيمة.
ألا ترى أن المباشر منهم والردء في ذلك سواء. ثم في استحقاق (ص 225)
الغنيمة الامام بمنزلة الجيش. فكذلك في استحقاق السرية إذا خرج وهو معهم.
والله أعلم بالصواب.
667

74 باب من النفل الذي يصير لهم ولا يبطل
إذا نفل بعضهم دون بعض
1094 - ولو قال الأمير: إن قتل رجل منكم قتيلا فله سلبه. فقتل
رجلان قتيلا واحدا، فلهما سلبه.
لأنه حين أخرج الكلام مخرج العموم فقد قصد به التحريض على
النكاية.
1095 - وفى هذا لا فرق بين أن يكون القاتل واحدا أو جماعة
إلا أن يبين فيقول: إن قتل رجل منكم وحده قتيلا. فحينئذ لا شئ
للقاتلين من السلب.
لأنه تبين بهذه الزيادة أن مقصوده التحريض على إظهار الجلادة (1)
بالاستبداد (2) بالقتل وبالاشتراك لا يحصل ذلك.
1096 - ولو برز عشرة للقتال فقال الأمير لعشرة من المسلمين:
إن قتلتموهم فلكم أسلابهم. فقتل كل رجل رجلا منهم، استحق كل
قاتل سلب قتيله خاصة.

(1) ب " الجلاد ".
(2) استبد به تفرد (القاموس) من حاشية ه‍.
668

لان تعميم العشرة بالخطاب بمنزلة تعميم الكل بقوله: من قتل قتيلا فله سلبه.
وهذا لان ذا العدد إذا قوبل بذي عدد ينقسم الآحاد على الآحاد. كقول
الرجل: أعط هؤلاء العشرة هذه العشرة الدراهم. والفعل المضاف إلى جماعة
بعبارة الجمع يقتضى الانقسام على الافراد. كما يقال: ركب القوم دوابهم،
فإنه يفهم منه ركوب كل أحد دابته.
1097 - ولو قتل تسعة من المسلمين تسعة منهم، وقتل
المشرك المسلم العاشر أو هرب فلم يقدر عليه، فلكل واحد من
القاتلين سلب قتيله.
لان المقصود من هذا الكلام جعل القتل سببا لاستحقاق السلب
لا اشتراط قتلهم، حتى لا يبقى منهم أحد.
إلا أن يبين ذلك فيقول: لكم أسلابهم إن قتلتموهم كلهم، ولم
تغادروا منهم أحدا.
فحينئذ (1) يتبين بتنصيصه أنه علق الاستحقاق بشرط قتل الكل. والشرط
يقابل المشروط جملة ولا يقابله جزوا فجزوا. وما لم يتم الشرط لا يثبت شئ
من الجزاء. فأما إذا لم يبين فإنما يحمل مطلق كلامه على ما هو المفهوم عادة،
وهو التحريض على دفع شرهم عن المسلمين بقتلهم، فبقدر ما حصل من
المقصود يستحق السلب.
1098 - وكذلك لو قال لسرية: ائتوا حصن كذا، فإن قتلتم
مقاتلته وفتحتموه فلكم الربع. فقتلوا بعضهم أو قتلوا رأسهم وتفرق
جمعهم وفتحوا الحصن، فلهم النفل.

(1) وضعت مختصرة في ق " فح ".
669

لان ما هو المفهوم من كلامه قد حصل، وهو تفريق الجمع وفتح
الحصن بالقتال.
وإن فتحوا الحصن بغير قتال لم يكن لهم نفل.
لان ما جعله سبب الاستحقاق لهم وهو القتال لم يوجد.
ألا ترى لو قال: إن قتلتم مقاتلته وسبيتم ذريته فلكم كذا. فقتلوا البعض
وسبوا من بقى منهم، كان لهم النفل. ولو أخذوهم بغير قتال لم يكن لهم نفل لما قلنا.
1099 - ولو قال: إن قتل إنسان منكم قتيلا. فقتل رجلان من
المسلمين قتيلا، كان سلبه بينهما نصفين.
ولو قتل مسلم ومشرك مشركا أخطأ به فقتله مع المسلم كان نصف
السلب للمسلم ونصفه في الغنيمة.
لان في حق المسلم يجعل كأن القاتل معه مسلم. وفى حصة المشرك يجعل
كأن القاتل معه مشرك. وهذا لان الايجاب بالتنفيل من الامام كان للمسلمين.
فإنما يستحق المسلم بقدر ما باشر من السلب. وإنما باشر هو قتل نصف النفس
حين شارك غيره فيه.
ألا ترى أنه لو قتل مسلما خطأ مع غيره كان عليه نصف الدية. فإذا
كان فيما يجب من الغرم بالقتل يجعل هذا قاتلا نصف النفس فكذلك فيما
يستحق من الغنم (1) به.
1100 - ولو قال: من قتل بطريقا (ص 226) فله سلبه. فقتل
مشركا ليس ببطريق لم يستحق (2) السلب.

(1) ق " من الغنم " وفوقها " من المغنم. نسخة ".
(2) ق " لا يستحق ".
670

لان المقصود التحريض على قتل من تنكسر شوكتهم بقتله. ولم يحصل
هذا المقصود.
ألا ترى أنه لو قال: من قتل الملك فله سلبه. فقتل رجلا غير الملك
لم يستحق شيئا؟
1101 - ولو قال: من قتل بطريقا فله من الغنيمة ألف درهم.
فقتل رجل بطريقا استحق ما أوجب له الامام من الغنيمة ألف درهم،
لمباشرته سلبه، ولكن مما يغنمون بعد هذا، حتى لو لم يغنموا بعد هذا
شيئا لم يعطه مما كانوا غنموا قبل هذ شيئا.
لان سهام المسلمين قد وجبت فيه. وهذا التنفيل فيما كانوا غنموا،
لأنه يكون تنفيلا بعد الإصابة، وذلك لا يجوز.
1102 - ولو قال: من قتل منكم صعلوكا فله سلبه. فقتل رجل
بطريقا، أو قتل الملك، لم يستحق شيئا.
لأنه أوجب له سلب الصعلوك. وسلب الملك والبطريق أفضل من سلب
الصعلوك لا محالة. فبإيجاب الأدنى لا يستحق الأعلى.
بخلاف ما لو قال: من قتل صعلوكا فله مئة درهم، فقتل رجل
بطريقا فإنه يستحق المئة.
لأنه أتى بما شرط عليه وزيادة. فانكسار شوكتهم بقتل البطريق أظهر
منه بقتل الصعلوك. والمسمى بمقابلته (1) وهو المئة معلوم. والمسائل بعد هذا
إلى آخر الباب مبنية على أصل وهو أنه:

ق " لمقابلته. نسخة ".
671

1103 - إن أوجب له بالتنفيل شيئا بعينه لم يستحق شيئا آخر،
سواء أتى بأدون مما شرط عليه أو أعلى.
لان محل الاستحقاق لم يوجد، والايجاب لا يعمل بدون المحل.
1104 - وإن كان أوجب له مالا مسمى، فإن أتى بخلاف
ما شرط لم يستحق شيئا من المسمى.
لان مع مخالفة الجنس لا يحصل الامتثال.
1105 - وإن كان ما أتى به من جنس ما شرط عليه: فإن كان
أدون مما شرط عليه في المنفعة لم يستحق شيئا.
لأنه لم يمتثل الامر ولم يحصل المقصود بكماله.
1106 - فإن كان أعلى مما شرط عليه استحق المسمى.
لأنه أتى بالمشروط وزاد عليه.
1107 - فإذا قال: من قتل شيخا فله سلبه، فقتل شابا استحقه.
لأنه أتى بالمشروط وزيادة، فان النكاية وإظهار الجلادة في قتل الشاب
أكثر (1)، والسلب لا يتفاوت بالشباب والشيخوخة.
1108 - وإن قال: من قتل شابا فقتل شيخا لم يستحق. (2)

(1) في هامش ق " أظهر. نسخة ".
(2) ق " لم يستحق شيئا ".
672

لان ما أتى به أدنى (1) مما شرط عليه في معنى النكاية والجلادة.
1109 - ولو قال من جاء بأسير فهو له. فجاء بوصيف، أو على
عكس هذا لم يستحق شيئا
لان المحل الذي أوجب صفة النفل فيه لم يوجد، فان الأسير (2) غير
الوصيف.
1110 - وكذلك لو قال: من جاء بوصيف فهو له، فجاء برضيع،
أو على عكس هذا لم يكن له.
لان الوصيف غير الرضيع. فالمحل الذي أوجب حقه لم يوجد.
1111 - ولو قال: من جاء بألف درهم فله منها مئة. فجاء بألف
دينار، لم يكن له منها شيئا.
لأنه أوجب له بعض ما يأتي به من الدراهم، وبين الدراهم والدنانير
مخالفة في الجنس.
1112 - ولو قال: من جاء بوصيف فله مئة درهم فجاء بوصيفة
لم يستحق شيئا.
لان الذكور والإناث من بني آدم جنسان مختلفان لتباين المقصود.
ولهذا لو اشترى شخصا على أنه عبد فإذا هي أمة لم ينعقد البيع، ومع اختلاف
الجنس لا يتحقق الامتثال.

(1) ه‍، ق " دون ما ".
(2) في هامش ق " فالأسير مأخوذ من الأسر وهو الشد والضبط والذي فيه دفاع وذب.
وفى الوصيف لا يحتاج إلى شدهم لانهم اختاروا ذلك. وليس فيهم دفع ولا ذب ".
673

1113 - ولو قال: من جاء بشاب فله مئة درهم فجاء بشيخ،
لم يستحق شيئا. ولو كان على عكس هذا استحق.
لان الجنس واحد والشاب فيما هو المقصود هاهنا خير من الشيخ.
فإذا جاء بما هو أزيد من المشروط عليه استحق النفل. وإن جاء بأنقص منه
لم يستحق (ص 227) بمنزلة ما لو قال: من جاء بألف درهم غلة فله مئة
درهم. فجاء بألف درهم جياد أخذ مئة درهم غلة.
لان الجنس واحد وما جاء به أفضل، ولكن لا يستحق إلا قدر ما سمى
له وذلك مئة درهم غلة.
1114 - وكذلك لو قال: من جاء بألف درهم غلة فله عشرها.
فجاء بألف نقد بيت المال استحق عشرها من دراهم غلة.
لأنه ما أوجب له الفضل والاستحقاق بالتسمية، ولا يثبت إلا بقدر
المسمى.
1115 - ولو قال: من جاء بألف درهم جياد فله مئة. فجاء بألف
غلة، لم يكن له شئ.
لان ما جاء به دون ما شرط عليه.
1116 - ولو قال: من جاء بعشر شياه فله شاة. فجاء بعشر
بقرات، لم يستحق شيئا.
لاختلاف الجنس.
1117 - وكذلك لو قال: من جاء بعشرة أثواب ديباج فله
674

كذا (1)، فجاء بعشرة أثواب بزيون (2) لم يكن له شئ. وكذلك إن
كان على عكس هذا.
لان الجنس مختلف.
1118 - ولو قال: من جاء بعشرة أثواب بزيون أحمر، فجاء
بالأخضر أو الأصفر، فإن كان الأحمر أفضل مما جاء به لم يستحق شيئا.
وإن كان مثل ما جاء به أو دونه استحق ما سمى له.
لان الجنس واحد وإنما الاختلاف في الصفة هنا.
ألا ترى أن من اشترى ثوب بزيون على أنه أحمر فإذا هو أخضر فإن البيع يكون صحيحا.
1119 - وكذلك على هذا الأصل البغل والفرس والحمار.
ولو قال: من جاء بفرس فله مئة، فجاء ببرذون لم يستحق شيئا، وإن كان على عكس هذا استحق.
لان الجنس واحد والفرس أفضل من البرذون.
بخلاف ما إذا جاء بحمار أو بغل فإنه لا يستحق شيئا.
لان الجنس مختلف.

(1) ه‍ " كذلك ".
(2) في هامش ق " نوع من الثياب. وقيل سندس. حصيري " وتحتها " البزيون كجرد حل
وعصفور السندس. قاموس " وتحتها " مارق من الديباج ".
وفى هامش ه‍ " البزيون بالكسر وبوزن العرجون. وعن الجوهري بالضم. من ثياب
الروم. وقيل هو السندس. المغرب ".
675

1120 - ولو قال: من جاء بفرس فله مئة. فجاء رجل بفرس،
فإنما يعطى نفله مما يغنمون بعد هذا. حتى إذا لم يغنموا شيئا آخر فإن
نفله من الفرس خاصة دون ما غنموا قبل هذا.
فإن كان الفرس لا يساوى مئة لم يزد له على مقدار ثمنه شيئا.
وإن كان يساوى مئة أو أكثر فرأى الامام أن يجعل الفرس فيما
غنموا قبل هذا ويعطيه المئة منها، فذلك مستقيم.
لان له ولاية بيع الغنائم. وهذا التصرف منه بمنزلة بيع شئ من الغنائم
بمثل قيمته فيجوز.
وإن كانت المئة أكثر من قيمة الفرس لم يعطه من الغنيمة إلا
مقدار قيمة الفرس.
لان له ولاية المبادلة بشرط النظر لا بالمحاباة الفاحشة.
676

75 - باب ما يجب من السلب بالقتل وما لا يجب
1121 - ولو قال الأمير: من قتل قتيلا فله سلبه. فبرز علج
للقتال، وخرج إليه مسلم فضربه ضربة أبانه (1) عن فرسه وأخذ
فرسه (2) وجره إلى المسلمين حيا، فمات بعد أيام. وقد كان صاحب
فراش أو لم يكن، إلا أنه علم أنه مات من ضربته، فله السلب والفرس
والسلاح من جملة السلب.
لأنه صار قاتلا له حين مات من ضربته. وفيما يجب على القاتل بالقتل
لا فرق بين أن يموت المقتول بضربته في الحال وبين أن يموت منها بعد مدة،
فكذلك فيما يجب له بالقتل.
1122 - ويستوي إن كان مات قبل إحراز الغنيمة (3) بدار
الاسلام أو بعدها، ما لم يقسم. فأما إذا قسمت الغنايم أو بيعت
والرجل حي بعد فإن سلبه يقسم في الغنيمة بين الغانمين.
لان سبب الاستحقاق فيه للقاتل لم يتم بعد وهو القتل. فان تمام القتل
لا يكون بدون الموت (4)، والرجل حي بعد. وسبب ثبوت حق الغانمين

(1) ق " رماه به " ه‍، ب " رماه بها ".
(2) قوله " وأخذ فرسه " ساقط في ه‍، ب، ق.
(3) ب، ق " الغنائم ".
(4) ق، ب " المقتول ".
677

فيه قديم وهو الاغتنام، فيقسم بينهم. وبالقسمة يتعين الملك، فمن ضرورته
إبطال حق حكم التنفيل (ص 228) فيه. وبعد ما نفذ الحكم من الامام بإبطال
التنفيل فيه لا يستحقه بالتنفيل وإن تم السبب.
فإن قيل: لماذا لا تؤخر الغنيمة والبيع في السلب حتى ننظر إلى ماذا
يؤول حال الرجل؟
قلنا: لان السبب الموجب للقسمة وهو الاغتنام قديم فيه، فلا يؤخر
الحكم الذي يثبت بتقرر سببه لأجل سبب موهوم.
ألا ترى أن المضروب نفسه يقسم في الغنيمة، فكيف لا يقسم سلبه؟
فان قيل: لأنه ليس في نفسه حق منتظر لأحد، فأما في السلب فحق
منتظر للقاتل، فقد وجد سببه منه.
قلنا: قد بينا أن السبب لا يتم إلا بموت المضروب. ثم لا يتأخر قسمة
الغنيمة لحق أقوى (1) من هذا، وهو حق المالك القديم في المأسور، فإنه
حق ثابت لو جاء قبل القسمة أخذه بغير شئ. ثم لا تؤخر القسمة والبيع
لحقه، فلان لا يؤخرها ههنا لحق الضارب، وهو غير ثابت في الحال،
كان أولى.
فإن قيل: فعلى هذا ينبغي إذا مات المضروب بعد القسمة أن يكون
للقاتل حق أخذ السلب بالقيمة، كما في المأسور إذا جاء المولى بعد القسمة.
قلنا: هناك الملك كان ثابتا للمولى في الأصل فيتمكن من أخذه بالقيمة
على وجه الفداء لذلك الملك، وهاهنا (2) الملك للضارب في السلب لم يكن ثابتا
قط ليفديه بالقيمة، وإنما كان يثبت له الحق ابتداء بسبب التنفيل إن لو مات
المضروب قبل القسمة، فأما بعد القسمة فلا يمكن إثبات حقه لانعدام محله.
فإنما وزان هذا من المأسور ان لو خرج الحربي بالعبد إلينا بأمان ثم أسلم،
أو باعه من مسلم. وهناك لا يثبت للمولى حق الاخذ منه لانعدام محله، فكذلك
حكم السلب.

(1) ق، ه‍ " هو أقوى ".
(2) ب " وهنا ".
678

1123 - وعلى هذا لو أن المسلم حين رمى به عن فرسه اجتره (1)
المشركون فذهبوا به حيا فلا شئ للضارب من فرسه وسلبه ما لم يعلم
بموته (2) من ضربته.
لان تمام السبب به يكون، فالاستحقاق يثبت له ابتداء، فلا بد فيه
من التيقن بالسبب، ولا يكفي وجوده ظاهرا، بمنزلة الشرط الذي تعلق به عتق
أو طلاق، فإنه ما لم يتيقن به لا ينزل الجزاء.
وإنما طريق معرفة ذلك أن يشهد به عدلان من المسلمين.
لان السلب باعتبار الظاهر غنيمة المسلمين. وإنما الحاجة إلى الاستحقاق
عليهم. فلا يكون ذلك إلا ببينة تقوم من المسلمين على موته قبل القسمة.
1124 - فأما إذا مات المضروب بعد القسمة والبيع لم يكن للقاتل
من السلب شئ ولو قامت البينة به.
لفوات المحل بنفوذ القسمة والبيع من الامام فيه.
1125 - ولو كان قال: من قتل قتيلا فله مئة درهم. فهذا والأول
سواء، إلا في خصلة واحدة: وهو أنه إذا بيع الغنايم ثم مات المضروب
استحق المئة هاهنا، ما لم يقسم الثمن. أما إذا قسم الثمن أو قسمت
الغنيمة ثم مات المضروب فلا نفل له.
لان محل حقه الغنيمة هاهنا. وبالبيع لا يفوت هذا المحل. فإن الثمن غنيمة
باعتبار انه قائم مقام المبيع يقسم بين الغانمين. فأما بالقسمة يفوت محل حقه
فيبطل نفله. وفى الأول محل حقه السلب، وهو يفوت بالسلب. فإن الثمن
ليس من السلب في شئ، ففي هذا يقع الفرق بينهما والله أعلم.

(1) في هامش ق " اجتروا به المشركون " نسخة.
(2) ق، ه‍ " موته ".
679

76 باب من النفل لأهل الذمة والعبيد والنساء وغيرهم
1126 - وإذا قال الأمير: من قتل قتيلا فله سلبه. فقتل ذمي
ممن كان يقاتل مع المسلمين قتيلا استحق سلبه.
لان الامام أوجب السلب للقاتل بلفظ عام يتناول المسلم والذمي. والعام
كالنص في إثبات الحكم (ص 229) في كل ما يتناوله.
1127 - ولو خص الذمي بهذا استحق السلب بالقتل، فكذلك
إذا تناوله اللفظ العام.
وهذا لان الذمي إذا قاتل معنا استحق الرضخ (1) من الغنيمة كما يستحق
المسلم السهم. ومن استحق الرضخ فهو شريك في الغنيمة، بمنزلة من يستحق
السهم. ولهذا كان له أن يتناول من الطعام والعلف مقدار حاجته.
1128 - وكذلك لو قتل رجل من التجار قتيلا سواء كان يقاتل
قبل هذا أو كان لا يقاتل.
لأنه قاتل الآن، وبه يصير شريكا في الغنيمة فيتناوله حكم التنفيل.
1129 - وكذلك لو قتلت امرأة مسلمة أو ذمية قتيلا.

(1) الرضخ العطاء. وفى الحديث: أمرت له برضخ (الصحاح).
680

لأنها شريكة بما يستحق من الرضخ.
1130 - وكذلك لو قتل عبد كان يقاتل مع مولاه قبل هذا،
أو كان لا يقاتل حتى الآن.
لأنه شريك بما يستحق من الرضخ.
فليستحق السلب بالتنفيل، ويكون ذلك لمولاه.
لأنه كسب عبده.
إلا أن يكون الأمير خص فقال: من قتل من الأحرار قتيلا،
أو قال: من قتل من المسلمين قتيلا، فحينئذ يبنى (1) الامر على تخصيصه.
لان الاستحقاق بإيجابه. فكما يعتبر عموم كلامه يعتبر خصوصه.
1131 - وإذا لم يستحق الذمي السلب عند التخصيص يرضخ
له من الغنيمة على قدر ما يرى الامام.
لأنه تبع للمسلمين، ومن يكون تبعا في القتال يستحق الرضخ دون
السهم، كالعبيد والنساء.
وهذا لأنه لابد من أن يعطى شيئا ليكون ذلك تحريضا له على الخروج.
ولا وجه للتسوية بين التبع والمتبوع، ولهذا أعطيناه الرضخ، ولا يزاد رضخه
إن كان فارسا على سهم فارس من المسلمين، وإن كان راجلا على سهم راجل
منهم. لأنه لا يكون ذمي أبدا إلا وفى المسلمين من هو أعظم غناء منه. فإذا
كان لا يزاد للمسلم العظيم الغناء على السهم فكيف يزاد للذمي؟

(1) ب " يكون ".
681

وظاهر ما يقول في الكتاب يدل على أنه يجوز أن يبلغ برضخه سهم
المسلم إذا كان عظيم الغناء. والصحيح أنه لا يبلغ به أيضا ولكن ينقص بقدر
ما يراه الامام كما لا يبلغ بقيمة العبد دية الحر.
فإن قيل: أليس في التنفيل العام يسوى بينهما في السلب، وربما يكون
سلب قتيل الذمي أكثر قيمة من السهم المسلم فلماذا لا يجوز أن يسوى بينهما
أو يفضل الذمي فيما يرضخ له؟
قلنا: لان استحقاق السلب بعد التنفيل إما أن يكون بالقتل أو بالايجاب
من الامام. ولا تفاوت بينهما في ذلك. بخلاف استحقاق الغنيمة فإنه باعتبار
معنى الكرامة.
ألا ترى أن في الاستحقاق بالتنفيل يسوى بين الفارس والراجل، وذلك
لا يدل (1) على أنه يجوز التسوية بينهما في استحقاق الغنيمة.
1132 - ولو كان الأمير قال: من قتل قتيلا فله سلبه. فسمع
ذلك بعض الناس دون البعض. ثم قتل رجل قتيلا فله سلبه، وإن لم
؟؟ لامام (2).
لأنه ليس في وسع الامام إسماع كل واحد منهم. وإنما في وسعه أن يجعل
الخطاب شائعا (3) وقد فعل. فيكون هذا كالواصل إلى كل من تناوله الخطاب
حكما.
ألا ترى أن أبا قتادة رضي الله عنه كان قتل قتيلا يوم حنين قبل أن
يسمع التنفيل، ثم أعطاه رسول الله عليه السلام سلبه على ما روينا.
ولان سماع الخطاب إنما يشترط لدفع الضرر عن المخاطب وفى هذا
محض منفعة له.

(1) في هامش ق " ولا يدل ذلك. نسخة حصيري ".
(2) في حاشية ق " مقالته. نسخة ".
(3) فوق الكلمة في ق " سابقا. نسخة ".
682

1133 - وعلى هذا لو بعث سرية وقال لأميرهم. لكم نفل الربع
فإن إعلام أميرهم كإعلام جماعتهم.
1134 - وكذلك لو سمع بعضهم دون بعض فإن لم يسمع أحد
منهم ولا من غيرهم لم يكن له نفل.
لان المقصود بالتنفيل التحريض على القتال. ولا يحصل هذا إذا لم يسمع
كلامه أحد. فهو نظير ما لو تفكر (ص 230) هذا في نفسه ولم يتكلم به.
فأما إذا سمع أميرهم أو بعضهم فقد حصل المقصود وهو التحريض.
يوضحه أن كلام الأمير يفشوا إذا سمعه بعض الناس عادة. لان السامع
يبلغ من لم يسمع كما قال عليه السلام (ألا فليبلغ الشاهد الغايب). وأما ما لم
يسمع منه أحد فلا يتصور أن يفشو، فلا يكون ذلك منه إشاعة الخطاب.
1135 - ولو قال في أهل عسكره (1): قد جعلت لهذه السرية
نفل الربع. ولم يسمع ذلك أحد من السرية، ففي القياس لا نفل لهم.
لان المقصود وهو التحريض لا يحصل إذا لم يسمعه أحد منهم. فتكلمه
بذلك مع أهل العسكر وتكلمه به مع عياله ليلا أو في نفسه وحده سواء فيما هو
المقصود بالتنفيل.
وفى الاستحسان لهم النفل.
لما بينا أن ما يتكلم به الامام في أهل عسكره فإنه يفشوا. أو كأنه أمرهم
بتبليغ أهل السرية به دلالة. وليس في إثبات هذا الحكم في حقهم قبل التبليغ
إضرار بهم، وإن كان الأولى التبليغ لهم ليتم معنى التحريض. يوضحه أن أصحاب

(1) ب " لأهل عسكره ".
683

السرية قد يكونون قوما لا يخاطبهم الامام بنفسه عادة. ومن عادة الملوك أنهم
يتكلمون بين يدي خواصهم بما يريدون أن يظهر (1) للعامة، فبهذا الطريق
يصير هذا (2) منه بمنزلة إشاعة الخطاب والامر إياهم بالتبليغ.
1136 - ولو قال الأمير: من قتل قتيلا فله سلبه. ثم لحقهم مدد
من المسلمين، فقتل رجل من المسلمين منهم قتيلا، كان له سلبه.
لان المدد في استحقاق الشركة في الغنيمة يكون كالحاضر وقت التنفيل،
فله سلب قتيله، علم بمقالة الأمير أو لم يعلم.
1137 - ولو كان جاء مع المدد أمير آخر وعزل الأمير الأول،
بطل التنفيل فيما يستقبلون.
لان صحة تنفيله باعتبار ولايته، وقد زالت ولايته بالعزل. والعارض
قبل حصول المقصود بالشئ كالمقترن بأصل السبب.
1138 - ولو كان معزولا حين نفل لم يعتبر تنفيله. فكذلك
إذا صار معزولا بعد التنفيل قبل القتل، أو بعد بعث السرية قبل
إصابة الغنائم. فأما إذا أصابوا الغنائم قبل أن يصير الأول معزولا فلهم
النفل من ذلك.
لان المقصود قد تم بالتنفيل قبل العزل.
1139 - ثم إذا كان الأمير الأول قد أخبر بأن الأمير الثاني قادم

(1) ق " يظهروا " وفى هامشها " يظهر. نسخة حصير ".
(2) ه‍ " فهذا الطريق نظير هذا " خطأ.
684

بعزله فما دام بالبعد من (1) معسكره لا يصير هو معزولا. فإذا صار
قريبا من المعسكر بحيث يغيث أهل العسكر إن طلبوا منه فإنه يصير
معزولا ويبطل نفل الأول.
لأنه لما قرب منهم فكأنه خالطهم. وهذا لأنه بعد ما بعث الخليفة الثاني
بعزل الأول. إنما لا ينعزل الأول ما لم يقرب منهم، لحاجة أهل العسكر إلى
من يدبر أمورهم. والثاني عاجز عن ذلك لبعده عنه. فإذا قرب منهم فقد
ارتفع هذا المعنى.
1140 - ولو لم يقدم عليهم أمير آخر، ولكن مات أميرهم
فأمروا عليهم أميرا آخر، وكان الأول قد نفل لهم، لم يبطل
حكم تنفيله.
لان الثاني خليفة الأول قائم مقامه ولا يبطل شئ مما صنعه الأول.
إلا أن يبطل ذلك الأمير الثاني. فإن أبطله بعلم المخاطبين بطل.
لأنه بمنزلة الأول. ولو أبطل الأول ذلك بعلمهم بطل. فكذلك الثاني.
1141 - ولو كان الخليفة قال لهم: إن مات أميركم أو قتل
فأميركم فلان. فهذا صحيح.
لأنه تعليق الاطلاق بالشرط. فيصح، كالعتق والطلاق.
والأصل فيه ما روى أن النبي عليه السلام قال يوم مؤتة: إن قتل زيد
فجعفر أميركم، وإن قتل جعفر فابن رواحة أميركم. الحديث.

(1) ب " عن ".
685

ثم في هذا الفصل إذا مات الأول بطل تنفيله، لان الثاني (ص 231)
نائب الخليفة بتقليده من جهته، فكأنه قلده (1) ابتداء بعد (2) موت الأول،
بخلاف ما سبق. وهذا لان التنفيل رأى رآه الأول. وحكم رأيه ينقطع برأي
فوق رأيه، وهو تقليد الخليفة للثاني.
فأما في الفصل الأول فلم يعترض على رأيه رأى فوقه، إنما نظر الجند له
ولأنفسهم في نصب خليفة. فيبقى حكم رأيه باعتبار خليفته، كما لو استخلف
هو بنفسه.
ألا ترى أن في الاستخلاف في الصلاة لا فرق بين أن يفعله الامام الأول
وبين أن يفعله القوم. فهذا مثله.
1 - ولو قال لأهل العسكر: من قتل منكم قتيلا فله سلبه
ثم لحق بهم مدد أو تجار أو قوم أسلموا من أهل الحرب. فقتل رجل
منهم قتيلا، ففي القياس لا يستحق السلب.
لأنه خص الحاضرين بالخطاب بقوله: (منكم) بخلاف ما سبق،
فقد عم الخطاب هناك بقوله: من قتل قتيلا. وذلك يتناول الحاضر ومن يحضر.
وفى الاستحسان له السلب.
لأنه ما قصد الحاضرين لأعيانهم، بل لتحريضهم على القتال وفى هذا
المعنى من يحضر ومن حضر سواء.
ألا ترى أن الذين لحقوا بهم شركاؤهم فيما أصابوا قبل ذلك إذا قاتلوا
وجعلوا كالحاضرين وقت الإصابة، فكذلك هم شركاؤهم في حكم التنفيل،
وجعلوا كالحاضرين وقت التنفيل.

(1) في هامش ق " تقلده. نسخة ".
(2) ق " من بعد ".
686

1143 - ولو كان في العسكر قوم مستأمنون، فإن كانوا دخلوا
بإذن الامام فهم بمنزلة أهل الذمة في استحقاق الرضخ واستحقاق النفل
إذا قاتلوا.
1144 - وإن كانوا دخلوا بغير إذن الإمام فلا شئ لهم مما
يصيبون من السلب ولا من غيره، بل ذلك كله للمسلمين.
لان هذا الاستحقاق من المرافق الشرعية لمن هو من أهل دارنا. فلا يثبت
في حق من ليس من أهل دارنا، إلا أن يكون الامام استعان بهم، فباستعانته
بهم يلحقون (1) بمن هو من أهل دارنا حكما.
ونظيره الركاز والمعدن. فإن المستأمن إذا استخرج ذلك من (2) دارنا
بغير إذن الإمام أخذ كله منه، وإن استخرجه بإذن الامام فهو بمنزلة الذمي
يخمس ما أصاب والباقي له.
1145 - ولو أن قوما من المسلمين دخلوا دار حرب غير دارهم،
على إثر جيش من المسلمين، وكانوا أهل منعة، فأصابوا غنائم، وأصاب
المسلمون أيضا غنائم، ثم خرجوا، فما أصاب المسلمون يخمس، والباقي
بينهم على سهام الغنيمة.
وما أصاب المستأمنون فهو لهم لا خمس فيه.
لان إصابتهم لذلك لم تكن على وجه إعزاز الدين. وإنما يخمس المصاب
إذا أصيب بأشرف الجهات، وهذا لا يتحقق في مصاب المسلمين دون مصاب

(1) ه‍ " يلتحقون ".
(2) ه‍ " في ".
687

المستأمنين. وإنما كان ذلك منهم اكتسابا محضا، فيسلم لهم كسبهم. بخلاف
ما سبقه، فالإصابة هناك كانت بمنعة المسلمين، لان المستأمنين إنما قاتلوا
تحت رايتهم، والاستعانة بهم بمنزلة الاستعانة بالكلاب، فلهذا خمس جميع
المصاب.
1146 - ولو كان الذين فعلوا ذلك قوم من أهل الذمة، لهم
منعة جمع ما أصاب الفريقان. أخرج خمسه، والباقي غنيمة بينهم جميعا.
لان أهل الذمة من أهل دارنا، فإنما يقاتلون للذب عن دار الاسلام.
ألا ترى أنه يجب علينا نصرة أهل الذمة إن قهروا إن قوينا (1) على
نصرتهم. وليس علينا ذلك في حق المستأمنين بعد ما دخلوا دار الحرب.
يوضحه أن أهل الذمة تبع للمسلمين في السكنى حين صاروا من أهل
دارنا، فيكونون تبعا للمسلمين فيما يصيبون في دار الحرب أيضا. وقد تم
الاحراز بالكل. فلهذا يخمس جميع المصاب. فأما المستأمنون لا يكونون تبعا
للمسلمين (ص 232) في السكنى حتى يتمكنوا من الرجوع إلى دار الحرب
فكذلك في الإصابة.
1147 - ولو أن حربيا في دار الحرب أخذ مالا من مالهم، ثم
استأمن إلى أهل العسكر، فله ما جاء به.
لأنه بنفس الاخذ ملك المأخوذ لا بقوة المسلمين فالتحق بسائر أمواله.
وكذلك لو أسلم بعد الاخذ وصار ذميا وخرج إلى دارنا مع
العسكر فذلك المال له.

(1) ه‍ " وقوينا ".
688

لأنه ما أصاب بقوة المسلمين، فلا يثبت حقهم فيه، وروى أن المغيرة
ابن شعبة رضي الله عنه كان فعل ذلك فإنه قتل الذين صحبوه في السفر وأخذ
أموالهم وجاء إلى المدينة وأسلم، فلم يخمس رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك
المال، ولم يأخذ منه شيئا.
وروى أنه (1) قال له: أما إسلامك فمقبول، وأما مالك فمال غدر
لا حاجة لنا فيه.
وإنما قال ذلك لأنه كان غدر بهم. ولذلك قصة معروفة.
1148 - ولو كان أسلم قبل إصابة المال ثم قتل بعضهم وأخذ
ماله ولحق به العسكر فهو غنيمة بينه وبين أهل العسكر.
لأنه أصابه بقوة المسلمين، وقد تم الاحراز بمنعة المسلمين.
1149 - ولو فعل ذلك أحد من أهل العسكر سواه (2) كان
الحكم فيه هذا، فكذلك إذا فعله الذي أسلم منهم. وكذلك لو خرج
فصار ذمة للمسلمين ثم رجع فأصاب ذلك.
لأنه لما صار ذمة للمسلمين فهو بمنزلة الذمي الداخل مع الجيش من دار
الاسلام وانما تمكن من هذا المال بقوة المسلمين.
1150 - وكذلك لو استأمن إلى أهل العسكر ثم عاد بإذن الأمير
وفعل ذلك.
لما بينا أنه بعد إذن الأمير بمنزلة الذمي فيما يصيب.

(1) ه‍، ق " وروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه.. ".
(2) ه‍ " سواء " خطأ.
689

1151 - ولو فعل بغير إذن الأمير كان ذلك لأهل العسكر إذا
كان المستأمن غير أهل تلك الدار.
لأنه بمنزلة مستأمن دخل مع العسكر من دار الاسلام.
وهذا لأنه لا منعة له، فإنما ذلك بقوة المسلمين، فيكون لهم،
بخلاف ما إذا كان المستأمنون أهل منعة.
1152 - ولو أن العسكر أسروا الاسراء (1) من العدو، فقال
الأمير: من قتل قتيلا فله سلبه. فقتل أسير رجلا من العدو، فسلبه
من الغنيمة إن لم يقسم الأمير الاسراء، وإن كان قسمهم أو باعهم
فالسلب لمولى القاتل.
لان بالقسمة صار عبدا له. وسلب قتيله كسبه. فأما قبل القسمة
فالأسير من الغنيمة. فسلب قتيله يكون من الغنيمة أيضا. والله أعلم.

(1) ب " أسيرا ".
690

77 باب من الشركة في النفل
وما يؤخذ (1) بحساب
1153 - وإذا (2) قال الأمير: من أصاب أسيرا فهو له. فأصاب
رجل أسيرين أو ثلاثة فهم له.
لان صيغة كلامه عامة (3) في المصيب والمصاب جميعا.
1154 - وكذلك لو قال: إن أصاب إنسان منكم أسيرا فهو له.
لأنه صرح بما يدل على التعميم في المصيب والمصاب. وفى مثله لا فرق
بين حرف الشرط وحرف (4) من، وقوله إنسان. لما لم يصمد (5) عينا به
كان للجيش، حتى إذا أصاب جماعة أسيرا واحدا فهو لهم باعتبار هذا المعنى.
1155 - ولو قال: من أصاب منكم عشرة أرؤس فهم له. فأصاب
رجل منهم عشرين رأس فهم له كلهم.
للتصريح بما يوجب التعميم. وهذا كله بمنزلة قوله: من أصاب شيئا
فهو له.

(1) ه‍ " فيما نأخذ ".
(2) ب، ه‍ " ولو ".
(3) ه‍ " عام ".
(4) ق " وكلمة ".
(5) في حاشية ه‍ " الصمد العقد، من باب طلب. المغرب ".
691

1156 - ولو قال: من أصاب عشرة أرؤس فله عشرهم. فأصاب
رجل عشرين فله عشر ما أصاب.
وذلك رأسان. (ص 233).
1157 - وكذلك لو قال: من أصاب عشرة أرؤس فله رأس.
منهم، ثم أصاب رجل عشرين فله رأسان. وإن أصاب عشرة فله رأس
ونما يعطى الوسط مما أصاب، لا يعطى أرفعهم ولا أخسهم.
لان الأمير أوجب له ذلك بإزاء منفعة المسلمين بعمله، وذلك التسعة
التي تبقى لهم. وتسمية الرأس مطلقا بمقابلة ما ليس بمال ينصرف إلى الوسط،
كما في الخلع والصلح عن دم العمد.
ولان الامام مأمور بالنظر له وللمسلمين، وفى إعطاء أرفعهم إياه ترك
النظر للمسلمين. وفى إعطاء (1) الا خمس ترك النظر له، فيعطيه الوسط ليعتدل
النظر. وخير الأمور أوساطها.
1158 - وإن أصاب خمسة أرؤس أعطى نصف واحد من
أوساطها (2) اعتبارا للبعض بالكل.
فإن قيل: الامام شرط لاستحقاقه المجئ بعشرة أرؤس والشرط
لا ينقسم على المشروط باعتبار الاجزاء، فإذا أتى بما دون العشرة ينبغي أن
لا يستحق شيئا.
قلنا: لا كذلك، ولكنه أوجب له ذلك بمقابلة منفعة المسلمين بعمله،
فبقدر ما يحصل من المنفعة للمسلمين يعطيه من المسمى.

(1) ه‍ " عطاء ".
(2) ه‍، ق، ص " أوساطهم ".
692

وهذا لان المقصود من التنفيل (1) التحريض على الأخذ والأسر. وهذا
المقصود لا يحصل إذا اعتبرنا الشرط (2) صورة، لأنه إذا تمكن من أخذ تسعة
فعلم أنه لا يستحق شيئا لو جاء بهم لم يرغب في ذلك، لأنه يحتاج إلى معالجة
ومؤنة. فإذا علم أن نصيبه فيه كنصيب سائر الغانمين قل ما يرغب في التزام
ذلك. فإنما تمام معنى التحريض في اعتبار ما قلنا أنه يستحق بقدر ما جاء به.
أرأيت لو قال: من قتل منكم عشرة فله عشر أسلابهم. فقتل تسعة،
أما كان يستحق المسمى بحساب ما قتل؟ فكل أحد يعلم أنه لم يكن مقصود
الامام اشتراط العشرة، لان الواحد قل ما يتمكن من قتل عشرة منهم أو أخذ (3)
عشرة أرؤس (4).
1159 - ولو أصاب رجلان عشرة أرؤس فلهما واحد من
أوساطهم.
لان تمام المنفعة المشروطة للمسلمين كان بهما. فالمسمى يكون مشتركا
بينهما أيضا.
1160 - ولو قال لرجل من أهل العسكر: إن أصبت رأسا
فهو لك. فأصاب رأسين لم يكن له إلا واحد منهما.
لأنه أخرج الكلام مخرج الخصوص في المصيب والمصاب، فينتفى معنى
العموم عنه فيهما (5).

(1) ه‍ " بالتنفيل ".
(2) ه‍ " اعتبر بالشرط ".
(3) ه‍ " أحد " خطأ.
(4) ه‍ " رأسا ".
(5) ه‍ " عنهما ".
693

ثم إن أصابهما على الترتيب فله أولهما، وإن أصابهما معا فله أن
يختار أفضلهما.
لأنه لو لم يصب إلا الأفضل كان سالما له، فلا يحرم ذلك بإصابة
آخر معه.
1161 - ولو قال: إن أصبت عشرة أرؤس فلك منهم رأس.
فأصاب عشرين، لم يكن له إلا رأس واحد.
لاعتبار معنى الخصوص في كلامه.
1162 - فإن أصاب بعضهم قبل بعض فله واحد من العشرة
الأولى، من أوساطهم، وإن أصابهم معا فله واحد من أوساطهم.
فإن قيل: لماذا لم يكن له أن يختار الأفضل هنا كما في المسألة المتقدمة؟
قلنا: لان هناك ما شرط عليه منفعة المسلمين بمقابلة ما أوجب له،
وهنا قد شرط ذلك عليه حين سمى له جزاء مما يأتي به. فلهذا يعتبر الوسط هاهنا.
1163 - وإن أصاب خمسة فله نصف رأس من أوساطهم.
اعتبارا للبعض بالكل، وتحقيقا لمراعاة معنى التحريض.
1164 - ولو قال لعشرة من العسكر: إن أصبتم عشرة أرؤس
فلكم منها رأس. فهذا وقوله للواحد سواء (ص 234) في جميع
ما ذكرنا.
لأنه لما جمع بينهم في ذكر الإصابة فقد خصهم، والتخصيص في المصيب
يدل على التخصيص في المصاب، لكونه مبنيا عليه.
694

1165 - ولو قال لعشرة: إن أصاب رجل منكم عشرة أرؤس
فله منها واحد. فأصاب رجل عشرين رأسا فله رأسان من أوساطهم.
لأنه أفرد كل واحد بالإصابة وجعل خطابه عاما فيهم. فتعميم الخطاب
في المصيبين يثبت حكم العموم في المصاب، كما لو خاطب به جميع أهل العسكر.
ألا ترى أن هنا لو أصاب كل رجل منهم عشرة أرؤس كان لكل رجل منهم
رأس مما أصاب؟ فكذلك إذا أصاب المئة واحد منهم يكون له عشرة أرؤس.
1166 - ولو قال لرجل واحد. ما أصبت من عشرة أرؤس فلك
منهم واحد. فأصاب عشرين. فله رأسان من أوساطهم.
لان كلمة " ما " توجب العموم، ولا يمكن إثبات العموم به في المصيب،
لأنه خص الواحد به، فأثبتنا العموم به في المصاب، بخلاف قوله إن أصبت.
لأنه ليس في كلامه ما يوجب العموم صورة ولا معنى.
1167 - ولو قال لرجل من أهل العسكر: يا فلان! إن قتلت
هذا الذي برز من المشركين فلك سلبه. فسمع ذلك رجل آخر من
المسلمين، فبرز للمشرك وقتله، لم يكن له سلبه.
لان الأمير خص به من خاطبه، والاستحقاق باعتبار تنفيله.
والتنفيل قابل للتخصيص، فيجعل في حق غيره كأن التنفيل لم يوجد أصلا.
1168 - فلو قتله المخاطب بالتنفيل مع مسلم آخر كان للمخاطب
نصف السلب والنصف الآخر في الغنيمة.
لان كل واحد منهما قتل نصفه، والبعض يعتبر بالكل في حق كل واحد
من القاتلين.
695

78 باب من النفل (1) المجهول
1169 - ولو قال الأمير: من جاء منكم بشئ فله منه طائفة.
فجاء رجل بمتاع أو ثياب أو برؤوس، فذلك إلى الأمير يعطيه من ذلك
بقدر ما يرى، على وجه النظر منه لمن جاء به ولأهل العسكر.
لأنه عبر عما يأتي به بأعم ما يكون من أسماء الموجودات، وهو اسم
الشئ، فيتناول كل ما يأتي به. وقد أوجب له طائفة من ذلك. وذلك اسم
لجزء مجهول. إلا أن هذه الجهالة لا تمنع صحة الايجاب فيما كان مبنيا على
التوسع، وبعد صحة الايجاب البيان إلى الموجب أو إلى من يقوم مقامه. والموجب
الامام هنا. وهو مأمور بالنظر للكل. فينبغي أن يبين على وجه يراعى النظر
فيه، ويكون ذلك البيان مقبولا منه بمنزلة من أوصى لانسان بطائفة من ماله، فان الوارث يعطيه من ذلك ما يشاء، لأنه قائم مقام الموجب. فان لم يكن له
وارث فميراثه للمسلمين. ويكون ذلك إلى الامام يعطيه ما يشاء على وجه النظر
له وللمسلمين.
1170 - ولو قال: من جاء بشئ فله منه شئ، أو له منه قليل
أو يسير. فهو على قياس ما سبق. إلا أنه لا ينبغي للأمير هنا أن يبلغ
ما يعطيه نصف ما جاء به.

(1) ق " التنفيل ".
696

لأنه أوجب له يسيرا مما جاء به أو قليلا، أو شيئا منكرا. وذلك دليل
القلة أيضا، والقلة والكثرة من الأسماء المشتركة إنما تظهر بالمقاتلة. فالقليل
من الشئ دون نصفه، حتى إذا قوبل بما بقى منه كان ما بقى أكثر.
1171 - ولو قال: من جاء بشئ فله منه جزء، فذلك إلى
الأمير أيضا. إلا أنه لا يزيده على النصف هنا، وله أن يبلغ به
النصف.
لان أدنى ما يكون جزء من جزءين وذلك النصف.
1172 - ولو قال: بعضه. فهو بمنزلة قوله: وله طائفة.
لان الأقل والأكثر (ص 235) يكون بعض الشئ وطائفة منه.
فليس في اللفظ ما يدل على شئ من ذلك. فلهذا كان الرأي فيه إلى الامام.
1173 - ولو قال: من جاء بشئ فله منه سهم. ففي قياس قول
أبي حنيفة رضي الله عنه يعطيه سدس ما جاء به.
لان السهم عنده عبارة عن السدس، حتى قال: إذا أوصى رجل لرجل
بسهم من ماله لم ينقص حقه عن السدس. وذلك مروي عن ابن مسعود رضي الله عنه.
فأما على قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله في الوصية: له سهم كسهام
أحد الورثة. وهو قول شريح رحمه الله. وقد بينا هذا في الوصايا. وهنا على
قياس قولهم إذا قال فله سهم يعطيه قدر ما يرى بعد أن لا يزيده على النصف،
بمنزلة الجزء، لان الأدنى سهم من سهمين، كجزء من جزءين.
697

1174 - وإن قال: فله سهم رجل من القوم، كان له مقدار
سهم راجل. وإن كان في القوم فرسان ورجالة.
لأنه لا يعطى إلا القدر المتيقن، وهو الأقل، بمنزلة ما لو أوصى بسهم
من ماله وقد ترك خمس بنين وخمس بنات، فإنه يكون للموصى له سهم كسهم
إحدى البنات حتى تكون القسمة من ستة عشر سهما. ولا يعطى إلا الأقل
لكونه متيقنا به، فكذلك هنا.
ثم في جميع هذا إذا أخذ نفله فالباقي بينه وبين أهل العسكر على
سهام الغنيمة. ولا يحرم سهمه باعتبار ما أوجب له من النفل.
فإن قيل: فإذا كان هو شريكا بسهمه فيما يأتي به كيف يستحق النفل؟
قلنا: هذا إنما يمتنع إذا كان النفل عوضا، والغازي فيما ينكئ (1)
في العدو لا يستحق عوضا بالشرط، وإنما يستحق ذلك بطريق التنفيل للتحريض
ثم هو شريك القوم فيما بقى باعتبار معنى الكرامة.
1175 - ولو قال: من جاء بألف درهم فله ألفا درهم. فجاء رجل
بما قال لم يكن له غير ما جاء به.
لان معنى التحريض والنظر متعين (2) في إيجاب جميع ما يأتي به له
أو بعضه. فأما الزيادة على ذلك فليس فيه من معنى التحريض شئ فلا يستحق.
1176 - وكذلك هذا في كل ما يشترط عليه المجئ به مما
لا مقصود فيه سوى العالية كالدنانير والوصفاء والأفراس
وما أشبه ذلك.

(1) هامش ق " أي يؤثر فيه تأثيرا عظيم. حصيري ".
(2) ب " يتعين ".
698

فإنه إذا كان قيمة ما جاء به دون ما أوجب له لم يستحق إلا بقدر قيمة
ما جاء به.
1177 - ولو قال: من جاء بأسير فهو له وخمس مئة درهم. فهذا
صحيح ويعطى الخمس مئة مما يغنمون بعد هذا.
بخلاف ما سبق، لان المقصود هنا النكاية في العدو بأسر المبارزين منهم،
وفيما تقدم لا مقصود سوى المالية.
ألا ترى أنه لو قال: من جاء ببطريق فهو له وألف دينار؟ أو قال:
من جاء بالملك فهو له وعشرون رأسا. فجاء به رجل استحق من الغنيمة
ما سمى له، وإن كان أكثر مما جاء، لحصول معنى النكاية بفعله.
ألا ترى لو قال من قتل الملك فله عشرة آلاف دينار، فقتله رجل
أعطى ذلك، وإن لم يحصل للمسلمين بقتله شئ من المال؟
1178 - ولو نظر إلى مشرك على سور الحصن يقاتل، فقال:
من صعد السور فأخذه فهو له وخمس مئة درهم. ففعل ذلك رجل
استحق ما سمى له.
لان المقصود النكاية في العدو بفعله وقد حصل.
1179 - فإن وقع الرجل من فوق السور إلى الأرض خارجا من
الحصن في موضع يمتنع (1) فيه من المسلمين، فأخذه رجل من المسلمين
أو قتله لم يكن له شئ.

(1) قال المعلق على ه‍ " كذا في النسخ. والظاهر لا يمتنع كما يدل عليه الشرح ".
699

لان الأمير أوجب له ذلك إذا صعد السور فأخذه وقتله. وفى ذلك من
النكاية في العدو ما لا يحصل إذا قتله بعد ما وقع على الأرض خارجا من الحصن.
أرأيت لو وقع وسط (1) المسلمين حيث لا يمتنع منهم فقتله رجل أكان
يستحق شيئا؟
1180 - ولو وقع في داخل الحصن فصعد إليه رجل فأخذه أو
قتله استحق النفل.
لأنه أتى بالمشروط عليه وزيادة. فالصعود والنزول إلى داخل الحصن
في النكاية فيهم وفى إظهار الجلادة من المسلم فوق مجرد الصعود.
1181 - ولو كان على السور على حاله فطعنه حتى رمى به إلى
المسلمين في موضع يمتنع فيه من المسلمين، ثم أخذه فقتله كان له النفل.
لأنه أتى بالمشروط عليه معنى، فإنه سقط من الحصن بفعله، فكان
هذا والصعود إليه قريبا من السواء.
ألا ترى أنه لو توهقه (2) حتى جرده فألقاه من السور ثم قتله فإنه
يستحق نفله؟
1182 - ولو كان الأمير قال: من أخذه فهو له. ولم يذكر
صعودا إليه. فوقع من السور خارجا من الحصن. فإن كان في موضع
يمتنع فيه عن المسلمين فأخذه رجل كان له. وإلا فهو فئ لجماعة
المسلمين.

(1) ق " في وسط ".
(2) في هامش ق " توهقه جعل الوهق في عنقه وأعلقه بها. وهو الحبل الذي في طرفيه أنشوطة
تطرح في أعناق الدواب حتى تؤخذ. مغرب ".
700

لأنه إذا وقع في موضع لا يمتنع فيه من المسلمين فقد صار مأخوذا
بجماعتهم فلا يعتبر فيه فعل الآخذ بعد ذلك. وإذا كان في موضع يمتنع فيه
فإنما صار مأخوذا بالأخذ فيكون له.
1183 - ولو قال: من صعد الحصن ثم نزل عليهم فله خمس مئة
درهم. ففعل ذلك رجل استحق النفل.
لحصول النكاية.
وإن صعد فلم يستطع أن ينزل فرجع لم يكن له من النفل شئ.
لان ما أتى به دون المشروط عليه في النكاية.
1184 - ولو كان المسلمون على ثلمة في الحصن فقال الأمير:
من دخل فيها فله عشرة دنانير. فدخل رجل ولم يقتل أحدا
أخذ الدنانير.
لأنه أتى بما كان مشروطا عليه. والمقصود النكاية فيهم، وقد حصل.
1185 - وإن دخل من ثلمة أخرى أو صعد حائطا فنزل عليهم،
فإن كان فعل ذلك من موضع مثل هذا الموضع أو أشد فيما يرجع إلى
جرأة الداخل والنكاية فيهم والمنفعة للمسلمين فله نفله.
لأنه أتى بالمشروط معنى وزيادة.
1186 - وإن كان ذلك الموضع أيسر في الدخول من هذا الموضع
أو أشد، إلا أنه أقل منفعة للمسلمين لم يكن له النفل.
701

وهو الأصل فيما ذكر إلى آخر الباب.
1187 - أنه متى أتى بما هو أقل من المشروط عليه فيما يرجع إلى
المقصود لا يستحق شيئا. وإن كان مثله أو فوقه يستحق مقدار ما سمى
له، حتى إذا قال من جاء بألف درهم جياد فله منها مئة فجاء بألف غلة لم
يكن له شئ.
لان المقصود هنا منفعة المال، وما جاء به دون المشروط عليه.
1188 - ولو قال: من جاء بألف غلة فله منها مئة فجاء بألف
جيادا أخذ منها مئة غلة.
لأنه جاء بأنفع من المشروط عليه.
ولكن لا يستحق إلا المسمى.
لان الاستحقاق باعتبار التسمية.
1189 - ولو قال: من جاء بألف جياد فهي (1) له. فجاء بألف
غلة كانت له.
لأنه ما شرط للمسلمين عليه منفعة هاهنا. فإنما يعتبر الصفة فيما جاء به
لأجل منفعة المسلمين. فإذا كان المشروط له بعض ما جاء به اعتبر معنى
المنفعة. فإذا كان جميع ما جاء به فلا معتبر بالصفة فيه.

(1) ه‍ " فهو ".
702

1190 - ولو قال: من جاء بألف غلة فهي له فجاء بألف نقد
بيت المال كان له ألف غلة.
لان الاستحقاق باعتبار التسمية وهو ما أوجبه له أكثر من ألف غلة،
فما زاد على صفة ما أوجب له يكون في الغنيمة.
وعلى هذا ذكر هنا بعده من قوله:
من جاء بنقرة.
703

79 باب من النفل الذي يستحق بقتل القتيل
ولا يستحق إذا اختلف فيه
1191 - وإذا قال الأمير: من قتل قتيلا فله سلبه. فضرب
مسلم مشركا فصرعه، واجتز آخر رأسه (ص 237) فإن كان الذي
ضربه قتله، واجتز الآخر رأسه بعد الموت فالسلب للضارب.
لأنه هو القاتل. فإن تمام فعل القتل بالمقتول، وقد صار مقتولا بضربته.
1192 - وإن كان لم يقتله، وكان بحيث يقدر على التحامل مع
ضربته أو العون بالكلام أو غيره فالسلب للذي اجتز رأسه.
لأنه هو القاتل. فإنه بعد فعل الأول كان مضروبا مقتولا.
وإنما صار مقتولا بعد فعل الثاني. والامام لم يقل من صرعه أو
ضربه، وإنما قال من قتله.
فإن قيل: لولا فعل الأول لما تمكن الثاني من جز رأسه.
قلنا: ولولا خروجه إلى هذا الموضع ما تمكن القاتل من قتله فيه،
ثم بهذا لا يتبين أنه يكون قاتلا نفسه.
أرأيت لو توهقه إنسان فرمى به عن برذونه ولم يخرجه فوثب آخر فجز
704

رأسه أكان القاتل هو الأول؟ لا، ولكن القاتل من جز رأسه وإن كان
لولا ما سبق من فعل الآخر لم يتمكن منه.
1193 - وكذلك إن كان ضربه الأول بحيث يعلم أن آخره
يكون إلى الموت إلا أنه ربما عاش يوما أو يومين فاجتز آخر رأسه
فالسلب للثاني.
لأنه هو القاتل حقيقة.
ألا ترى أن في نظيره في قتل العمد يكون القود على الثاني، ويجعل فعل
الثاني في حق الأول كالبرء، لأنه قاطع لسراية فعل الأول.
واستدل عليه:
1194 - بحديث عمر رضي الله عنه. فإن الذي ضربه في المحراب
أصاب مقتله حتى سرب (1) اللبن فخرج من جرحه، وعلم أن آخر أمره
إلى الموت. ومع هذا كان حيا ما لم يمت. حتى لو مات له ولد ورثه
عمر ولم يرث ذلك الولد منه شيئا.
1195 - وإن كان الأول ضربه فنثر ما في بطنه فألقاه،
أو قطع أوداجه إلا أن فيه الروح بعد، فاجتز الآخر رأسه فالسلب
للذي ضربه.
لأنه صار بمنزلة الميت بفعل الأول، والذي بقى فيه بمنزلة اضطراب
المذبوح فلا يعتبر به.

(1) ه‍ " شرب " خطأ.
705

ألا ترى أن الذئب لو عدى على شاة فقطع أوداجها أو نثر ما في بطنها
ثم أدركها صاحبها فذبحها لم يحل أكلها، وإن كانت تضطرب عند الذبح.
ومثله لو عقرها الذئب عقرا يعلم أن آخر ذلك الموت إلا أنها تعيش يوما
أو يومين فذبحها صاحبها جاز أكلها. وهو معنى قوله تعالى " وما أكل السبع
إلا ما ذكيتم " (1).
وذلك مروي عن ابن عباس رضي الله عنه في شاة بقر الذئب بطنها
فخرج قصبها فأدركها صاحبها فذبحها. قال: لا بأس بأكلها.
وهذا لان المتيقن به لا يتبدل إلا بمثله. فالروح قبله كان متيقنا به
فلا يحكم بموته إلا بفعل يتيقن به بأنه لا يبقى فيه الروح بعده، وما يتوهم أن
يعيش بعده يوما أو أكثر ليس بهذه الصفة فلا يجعل مقتولا، بل إنما يجعل مقتولا
يحز الرأس.
1196 - فإن قال الذي اجتز رأسه: اجتززت رأسه قبل أن يموت،
وقال الضارب: بل اجتززت رأسه بعد ما مات. فإنه يجعل القول قول
من يشهد له الظاهر. فإن كان فعل الضارب على نحو ما ذكرنا من
قطع الأوداج أو إلقاء ما في البطن فالقول قوله.
لأنا نتيقن أن فعله قاتله وفعل الثاني كذلك.
وعند المساواة في الأثير يترجح الأول بالسبق.
وإن كان فعل الأول بحيث يعاش من مثله يوما أو أكثر فالقول
قول الثاني والسلب له.
لأنا نتيقن أن فعل الثاني قتل، ولا نتيقن به في فعل الأول. ولا معارضة

(1) سورة المائدة، 5، الآية 3.
706

بين الأضعف والأقوى. فإنما يحال بزهوق الروح على الأقوى (ص 238)
الذي نتيقن به.
1197 - وإن كانت جراحة الأول مشكلة، أو كان خفى عليه
موضعها من الجسد، أو أخذه أصحابه فاحتملوه فالسلب للذي
اجتز رأسه.
لأنا نتيقن بأن فعله قتل. وفى فعل الأول تردد إذا لم يوقف على صفته،
والمتردد لا يعارض المتيقن به، لان من علم حياته يقينا لا يجعل ميتا إلا بتيقن
مثله، وذلك بعد فعل الثاني.
1198 - ولو أن مسلما احتمل رجلا من المشركين عن فرسه
حتى جاء به إلى صف المسلمين ثم ذبحه لم يكن له سلبه، ولم يحل له
أن يقتله.
لأنه لما جاء به إلى الصف حيا فقد صار هذا أسيرا للمسلمين، ولا يحل
قتل الأسير بغير إذن الإمام. لان للامام في الأسير رأى بين أن يقتله وبين
أن يجعله فيئا. ولم يكن مقصود الامام من قوله من قتل قتيلا فله سلبه الأسير،
وكيف يكون قصده هذا وإنما نفل للتحريض. وقتل الأسير بغير إذن الإمام
لا يحل شرعا.
1199 - فلو كان حين احتمله أنزله عن دابته فقتله بين الصفين
كان له سلبه.
لأنه قتل مقاتلا على وجه المبارزة. فإنه لم يصر أسيرا بمجرد إنزاله عن دابته.
707

ألا ترى أنه لولا أخذه لكان ينتصف منه في ذلك الموضع، بخلاف
الأول فإنه بعد ما حصل في صف المسلمين فقد صار مقهورا لا ينتصف من
المسلمين. وإن لم يكن مأخوذ هذا الرجل.
والذي يوضح الفرق أنه لو أسلم بعد ما جاء به إلى صف المسلمين كان
عبدا للمسلمين.
1200 - ولو أسلم بين الصفين بعد ما أنزله عن دابته كان حرا
لا سبيل عليه.
1201 - وكذلك لو توهقه حتى أنزله عن دابته ثم قتله بين
الصفين فله سلبه.
1202 - فلو جره بوهقه إلى صف المسلمين ثم قتله لم يكن له
سلبه، إلا أن يكون المشرك ممتنعا مع ذلك يعالج نفسه ويقاتله بعد ما أتى
به صف المسلمين فقتله، فحينئذ يستحق سلبه.
لأنه لم يتم أسره بعد إذ كان ممتنعا مقاتلا.
ألا ترى أنه لو حمل فوقع في صف المسلمين وهو يقاتل مع ذلك فقتله
إنسان استحق سلبه؟
1203 - ولو أسلم حين وقع في الصف وألقى سلاحه ثم قتله
رجل لم يكن له سلبه.
لأنه صار أسيرا مقهورا بما صنعه.
1204 - ولو قال الأمير حين اصطفت الفريقان للقتال: من
708

جاء برأس فله مئة دينار. فهذا جائز، وهو على رؤوس الرجال ليس
على السبي.
لان المقصود في هذه الحالة التحريض على القتال. ومطلق الكلام يتقيد
بما هو المعلوم من دلالة الحال. فكل من قتل إنسانا وجاء برأسه استحق النفل
من الغنيمة كما سمى له الامام.
1205 - فإن جاء رجل برأس وقال: أنا قتلته. وقال آخر:
بل أنا قتلته، وهذا أخذ برأسه. فالقول قول الذي جاء بالرأس.
لان الظاهر شاهد له. فإن تمكنه من جز رأسه والمجئ به دليل على أنه
هو القاتل. فالقول قوله مع يمينه.
فإن قيل: بالظاهر يدفع الاستحقاق، وحاجته إلى إثبات الاستحقاق.
قلنا: نعم، ولكن التكليف بحسب الوسع، وهو عند قتل المشرك
لا يمكنه أن يشهد على ذلك شاهدين عادة، فلا بد من تحكيم العلامة لاستحقاقه.
وإن أقام الآخر البينة أنه هو الذي قتله فالسلب له.
لأنه علمنا أن مقصود الأمير التحريض على القتل وحث المبارزين على
ما لا يقدر عليه غير هم، وذلك فعل القتل دون جز رأس (1) المقتول. فكأنه
جعل قوله: من جاء برأس (2) كفاية عن هذا. واللفظ متى (3) صار مجازا
عن غيره بدليل سقط اعتبار حقيقته.
أرأيت (4) (ص 239) أنه لو قتل مشركا فاجتره (5) أصحابه إليهم

(1) ه‍ " رؤس " خطأ.
(2) ه‍ " برؤس ".
(3) ساقطة من ه‍.
(4) ب " ألا ترى ".
(5) ه‍ " فجره ".
709

فلم يقدر على رأسه، أو ضرب رأسه فأندره فوقع في نهر فذهب به الماء
أكان لا يستحق السلب بهذا.
أرأيت لو ضرب رأسه فأندره فوقع في كف آخر أكان السلب للذي
وقع في كفه؟ لا، ولكنه للقاتل.
1206 - ولو جاء برأس فقال بعض الناس: هذا رجل مات
فاجتز رأسه. وقال الذي جاء برأسه: بل قتلته. فالقول قوله مع يمينه.
لأنا وجدنا معه علامة يستدل بها على أنه هو القاتل، وتحكيم العلامة
في مثل هذا أصل.
1207 - ولو قال بعض الناس: هذا رأس مسلم. نظر (1) إلى
السيماء. فإن كانت عليه سيماء المشركين فله النفل، وإلا فلا.
لان تحكيم السيماء فيما يحكم فيه بالعلامة (2) أصل، بدليل ما إذا اختلط
موتى المسلمين بموتى المشركين. فإن تحكيم السيماء في الصلاة عليهم والدفن.
1208 - وإن أشكل فلم يدرأ رأس مسلم هو أو رأس مشرك
لم يعط شيئا حتى يعلم أنه رأس مشرك.
لان معه علامة يستدل بها على أنه مشرك. وبدونه لا يستحق القاتل.
فما لم يعلم بما هو المشروط لا يستحق شيئا.
1209 - وإن جاء برأس يزعم أنه قتله، ومعه آخر يزعم أنه قتله.

(1) ق " ينظر ".
(2) ه‍ " العلامة ".
710

فالقول قول الذي في يده الرأس مع يمينه. فإن حلف أخذ النفل، وإن
نكل ففي القياس لا نفل لكل واحد منهما.
لان الناكل قد صار مقرا أنه لاحق له. ولم يجد مع الآخر علامة يستدل
بها على أنه قاتل، إذا الرأس لم يكن في يده. وحاجته إلى الاستحقاق على
المسلمين. ونكول الناكل ليس بحجة عليهم.
1210 - وفى الاستحسان النفل للآخر.
لان نكول الناكل كإقراره.
1211 - ولو أقر أن القاتل هذا، بعد ما جحد، أو قبل أن
يجحد كان النفل له.
فكذلك إذا نكل عن اليمين. والمعنى في الكل أن الذي جاء بالرأس
مستحق للنفل بوجود العلامة معه. فهو بإقراره أو نكوله حول ما كان مستحقا
له إلى الثاني، وذلك صحيح. كمن أقر بعين لانسان، وقال المقر له ليس لي
ولكنه لفلان، فإنه يكون للمقر له الثاني، ويجعل محولا إليه ما صار مستحقا
له بإقراره.
1212 - وكذلك لو جاء رجلان برأس وهما يزعمان أنهما قتلاه.
فالنفل بينهما، سواء كان الرأس في أيديهما أو في يد أحدهما، وهو مقر أنهما قتلاه.
لان العلامة ظهرت في حقهما بتصادقهما، أو بكون الرأس في أيديهما.
1213 - وإن قال الذي في يده الرأس: قتلته أنا وهذا الرجل،
وقال الآخر: قتلته دونه. فالنفل لهما.
711

لان العلامة لمن في يده الرأس. وهو ما حول بإقراره إلى صاحبه،
إلا بنصف ما صار مستحقا له. فيبقى استحقاقه للنصف الآخر.
1214 - ولو جاء بالرأس وهما آخذان به، وكل واحد منهما
يقول أنا قتلته وحدي. استحلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه
لقطع المنازعة بينهما. فإن نكل أحدهما فالنفل لصاحبه خاصة. فإن
حلفا فالنفل بينهما نصفان.
لاستوائهما في العلامة وهو المجئ بالرأس والاستحقاق مبنى عليه.
1215 - ولو نظر المسلمون إلى رجل يجتز رأس مقتول فقال:
أنا قتلته. وحلف على ذلك أعطى نفله.
لوجود العلامة معه.
فإن كانوا رأوه جاء من موضع بعيد لا يقتله في مثل ذلك الموضع
حتى اجتز رأسه وهو مقتول فهذا لا نفل له.
لان تحكيم العلامة إنما يكون في موضع لا يعارضه دليل أقوى منه،
وقد عارضه دليل هاهنا، وهو علمنا بأنه مقتول (ص 240) حال ما كان
الرجل بالبعد منه على وجه لا يتمكن من ضربه. والذي سبق إلى وهم كل
واحد في هذه الحالة أنه كاذب.
1216 - فإن قال: إني كنت قتلته ثم قاتلت ثم رجعت إليه
فاجتززت رأسه لم يلتفت إلى قوله.
712

لأنه أخبر بما لا يشهد له الظاهر به، وبما ليس معه علامة يستدل به
على صدقه. فلو أعطى شيئا إنما يعطى بمجرد الدعوى. وذلك لا يجوز بالنص.
1217 - ولو كان الأمير قال حين انهزم: من جاء برأس فله مئة
درهم. فهذا أيضا على رؤوس الرجال.
لان في انهزام المسلمين في آثارهم يقتلونهم، فالظاهر أن المراد التحريض
على الاتباع والقتل.
ولو قال الامام: عنيت السبي لم يلتفت إلى قوله.
لأنه أضمر خلاف ما أظهر، ولا طريق لهم إلى معرفة ما في ضميره.
فإنما يبنى الحكم في حقهم على ما أظهر وعلى ما عليه الغالب من الأمور،
إلا أن يبين فيقول: من جاء برأس من السبي فله كذا.
1218 - وإن كانوا قد انهزموا وتفرقوا وكف المسلمون عن
القتل، وقال الأمير: من جاء برأس فله كذا فهذا على السبي.
لأنه قد انقضى وقت القتال. وإنما الآن وقت جمع الغنائم. فعرفنا أن
مراده التحريض على الطلب والجمع. وإن قال: عنيت به رأس القتيل لم يلتفت
إلى قوله، لما بينا أن الحكم يبنى على ما هو الغالب من المراد في كل فصل.
1219 - ولو قال في حالة القتال: من جاء برأسين فله أحدهما.
فهذا على السبي.
لأنه ملكه بعض ما يأتي به. وذلك إنما يتحقق في السبي لا في رأس
القتيل، فإنه جيفة لا يحتمل التمليك ولا يحصل به معنى التحريض. بخلاف
713

ما إذا قال: فله مئة درهم لان معنى التحريض على القتل هناك يحصل بما
أوجب له.
1220 - ولو قال: بطريق القوم قتل. فقال الأمير: من جاء
برأسه فله مئة. فإن كان في موضع لا يقدر عليه إلا بقتال فقاتل رجل
من المشركين عن رأسه حتى جاء به فله النفل.
وكذلك إن كان في موضع يخاف فيه أن يقاتل المشركون عنه فأخذه وجاء به ولم يقاتلهم فله النفل، لأنا نعلم أن مقصود الأمير
التحريض على أن يأتي برأسه، فقد أتى به، وفى هذا كبت
وغيظ للعدو
لأنه قصد أن ينصب رأس بطريقهم حتى يعلم أنه قتل فتنكسر شوكتهم.
وهذا نوع من الجهاد، فيستحق النفل عليه.
1221 - فإن تنحى العدو عن ذلك الموضع فذهب رجل حتى اجتز
رأسه وجاء به من موضع لا يخاف فيه العدو فليس له قليل ولا كثير.
لان فعله هذا ليس بجهاد، وإنما هذا من الأمير على وجه الاستئجار
بحمل الجيفة إليه، ولم يصمد لقوم بأعيانهم. إنما قال: من جاء برأسه.
وفى مثل هذا الاستئجار باطل.
1222 - فإن عمد لرجل بعينه فقال: إن جئتني برأس البطريق
فلك كذا. أو لقوم بأعيانهم فقال: أيكم جاء برأسه فله كذا. والمسألة
بحالها. فللذي جاء به أجر مثله لا يجاوز به ما سمى له.
714

لان هذا كان من الامام على وجه الاستئجار، ولكنه إجارة فاسدة.
فإن مقدار العمل كان مجهولا، لأنه ما كان يعلم موضعه حين استأجره.
والحكم في الإجارة الفاسدة وجوب أجر المثل عند إقامته العمل، ولا يجاوز
به ما يسمى له، لأنه قد رضى بالمسمى. وإنما يعطيه ذلك من الغنيمة، لأنه استأجره لمنفعة المسلمين. فإن مقصوده أن ينصب رأسه لتنكسر قلوبهم فلا يكروا
على المسلمين. فهو بمنزلة ما لو أستأجر رجلا ليدلهم على الطريق أو يسوق الغنم
أو الرمك (1)، أو ليحمل الأمتعة، ويعطيه ذلك مما غنموا قبل هذا، لان
استحقاقه على وجه الاجر لا على وجه النفل. وإنما الذي لا يجوز التنفيل بعد
إحراز الغنيمة، فأما الاستئجار لمنفعة المسلمين من غنائمهم بعد الاحراز فصحيح.
والله أعلم (ص 241).

(1) الرمك (بفتح الراء والميم) جمع رمكة (محركة) وهي الفرس والبرذونة تتخذ للنسل (القاموس)
715

80 - باب ما يجوز فيه السلب إذا قتله وما لا يجوز (1)
1223 - وإذا قال الأمير: من قتل قتيلا فله سلبه. فقتل رجل
أجيرا من المشركين لم يكن يقاتل معهم فله سلبه.
لان المقصود بهذا التنفيل التحريض على القتال. فيتناول كل من يباح
قتله منهم. وقتل الأجير منهم مباح، لان له بنية صالحة للقتال، وهو يقاتل
إذا احتيج إليه. وإنما يتمكن القاتل من القتال بعلمه لأنه يهيئ له أسباب ذلك.
1224 - وكذلك لو قتل تاجرا منهم، أو عبدا كان مع مولاه
يخدمه، أو رجلا كان ارتد ولحق بهم، أو ذميا نقض العهد
ولحق بهم.
لان قتل هؤلاء كلهم مباح.
1225 - ولو قتل امرأة منهم لم يكن له سلبها.
لان قتل النساء ممنوع منه شرعا. على ما روى أن النبي عليه السلام
حين رأى امرأة مقتولة استعظم ذلك فقال: هاه! ما كانت هذه تقاتل.
وقد علمنا أن الأمير لم يرد بكلامه التحريض على قتل من لا يحل قتله.
إلا إذا علم أنها كانت تقاتل فحينئذ له سلبها.

(1) إلى جانب العنوان في الأصل " بلغ قراءة عليه أبقاه الله ".
716

لان قتلها مباح في هذه الحالة.
ألا ترى أن النبي عليه السلام استعظم قتلها باعتبار أنها لا تقاتل.
1226 - وكذلك الغلام الذي لم يبلغ منهم إن قتله مسلم فليس
له سلبه.
لان قتل الصبيان منهم لا يحل. فعلمنا أن الأمير لم يرد ذلك بالتحريض.
إلا أن يعلم أنه كان يقاتل معهم. فحينئذ يباح قتله، وللقاتل سلبه.
1227 - ولو قتل مريضا أو مجروحا منهم فله سلبه. سواء كان
يستطيع القتال أو لا يستطيع.
لأنه مباح القتل في الوجهين. فإنه يقاتل برأيه، وإن كان عاجزا عن
القتال بنفسه في الحال لما به من المرض.
1228 - فإن قتل شيخا منهم. فإن كان شيخا فانيا لا يتوهم منه
قتال بنفسه ولا برأيه ولا يرجى له نسل لم يكن له سلبه.
لان مثل هذا لا يباح قتله.
وإن كان بحيث يرجى له نسل أو كان له في الحرب رأى فهذا يباح قتله
على ما روى أن دريد بن الصمة قتل وهو ابن مئة وستين سنة. ولكن كان
ذا رأى في الحرب. فإذا كان بهذه الصفة فلقاتله سلبه.
1229 - ولو قتل مسلما كان في صف المشركين يقاتل المسلمين
معهم لم يكن له سلبه.
717

لان هذا وإن كان مباح القتل ولكن سلبه ليس بغنيمة. لأنه مال المسلم،
ومال المسلم لا يكون غنيمة للمسلمين بحال كأموال أهل البغي.
1230 - فإن كان السلب الذي عليه للمشركين أعادوه إياه فذلك
للذي قتله.
لان ما عليه من السلب غنيمة. وهو مباح القتل في هذه الحالة، فيدخل
في تحريض الامام عليه.
ألا ترى أنه لو صمد له نفسه فقال: إن قتلته فك سلبه، استحق ذلك.
فكذلك إذا عم به.
1231 - ولو قتل صبيا أو امرأة، وسلبه لرجل من المشركين
لم يكن له سلبه.
لأنه لو كان السلب للقتيل لم يستحقه، لا باعتبار أنه ليس بمحل
الاغتنام، بل باعتبار أن كلام الامام لم يتناوله أصلا. وفى هذا المعنى لا فرق
بين أن يكون السلب الذي عليه ملكا أو عارية.
1232 - ولو قتل رجلا من المشركين يعلم أن سلبه لرجل آخر
منهم، أو امرأة، أو شيخ، أو صبي، فالسلب للقاتل.
لان الذي قتله مباح القتل. والسلب الذي عليه محل الاغتنام لمن كان
منهم، فيستحقه القاتل بالتنفيل.
1233 - ولو كان السلب الذي عليه لمسلم أو معاهد غير ناقض
للعهد لم له يكن سلبه.
718

لأنه ليس بمحل الاغتنام. وهذا إذا كان المسلم دخل إليهم بأمان.
1234 - فإن كان لرجل منهم أسلم ولم يهاجر، فالسلب للقاتل
في قول أبي حنيفة رضي الله عنه.
لان من أصله أن بمجرد الاسلام يصير ماله معصوما في الاثم دون الحكم
(ص 242)، بمنزلة نفسه. فأما التقوم والعصمة عن الاغتنام فإنما يكون
بالاحراز بالدار، ولم يوجد ذلك.
ألا ترى أنه لو خرج إلى دارنا وترك أمواله في دار الحرب، ثم ظهر
المسلمون على الدار، كان جميع ماله فيئا، ولو لم يخرج حتى ظهر المسلمون
على الدار فعقاره وعروضه فئ، إلا ما كان في يده منه. لأنه يصير محرز
السبق يده إليه، وهذا لا يوجد فيما أعاره من الحربي المقتول. فلهذا استحقه
القاتل بالتنفيل.
1235 - وكذلك إذا كان الحربي أخذ هذا السلب غصبا فقتله
هذا المسلم كان له سلبه.
لما بينا أنه لا يد للمسلم عليه، حتى يصير محرزا له بها فيكون محل
الاغتنام.
1236 - ولو أن عبدا من عبيد هذا الذي أسلم (1) قاتل المسلمين
فأخذ كان فيئا.
لأنه صار غاصبا نفسه من مولاه حتى قاتل المسلمين، فلم يبق له عليه
يد محرزة له، فيكون فيئا كغيره من أهل الحرب. وهذا وغاصب السلب
سواء.

(1) ه‍ " هذا المسلم ".
719

1237 - فإن كان الحربي إنما غصب السلب من مسلم دخل إليهم
بأمان والمسألة بحالها فالسلب للقاتل.
لان الحربي بالغصب صار محرزا لمال المسلم. وهم يملكون أموالنا
بالاحراز، فيصير للقاتل بالتنفيل. إلا أن لصاحب السلب أن يأخذه منهم
بالقيمة إن شاء، لان التنفيل بمنزلة القسمة حين (1) اختص المنفل له بملكه.
والمالك القديم إذا وجد عين ماله في الغنيمة بعد القسمة يكون أحق به بالقيمة
إن شاء فهذا قياسه. والله أعلم.

(1) تحت هذه الكلمة في ه‍ " حتى. نسخة حصيري ".
720

81 باب السلب الذي لا يحرزه المنفل له
1238 - ولو قال الأمير: من قتل قتيلا فله سلبه. فرمى مسلم
من صف المسلمين رجلا في صف المشركين فقتله فله سلبه.
لأنه قتل مقاتلا يحل له قتله. وهو السبب لاستحقاق السلب بتنفيل الامام.
1239 - فإن لم يعرض المشركون لسلبه حتى انهزموا فظفر
المسلمون به قتيلا عليه سلبه وعنده دابته فذلك كله للقاتل.
لان حقه تأكد فيه بمباشرة السبب، ولم يعترض عليه ما يبطله. إنما تأخر
أخذه لعدم تمكنه، أو لغفلة منه، وذلك غير مبطل لحقه.
1240 - وإن كان المشركون أخذوا دابته وسلاحه، والمسألة
بحالها، لم يكن للقاتل من سلبه شئ.
لأنه لم يحرزه حتى (1) أخذه المشركون. ولو كان محرزا له فأخذه
المشركون وأحرزوه بطل ملكه فكيف إذا لم يحرزه؟
وبهذا تبين أن سبب استحقاقه قد انفسخ لان الامام إنما جعل القتل (2)
سببا لاستحقاق السلب بالتنفيل. لان القاتل به يتمكن من الاخذ، وقد زال

(1) فوق هذه الكلمة في ق " حين. نسخة ".
(2) في هامش ق " القتال. نسخة حصيري ".
721

هذا التمكن بأخذ المشركين إياه. وبعد ما انفسخ السبب لا يكون له أثر في
الحكم، فيبقى هذا مالهم وقع في أيدي (1) المسلمين فهو غنيمة.
1241 - ولو لم يعلم أنهم أخذوا سلبه أو لم يأخذوه، فما وجد
عليه من سلبه فهو للقاتل، وما وجد وقد نزع عنه فهو فئ لاعتبار
الظاهر عند تعذر الوقوف على الحقيقة.
1242 - فإن كانوا جروه إليهم حين قتل وسلبه عليه، ثم انهزموا
فهو للذي قتله.
لانهم جروه لكيلا تطأه (2) الخيول، لا لاحراز سلبه.
ألا ترى أن المجروح من المسلمين إذا جر برجله من بين الصفين لكيلا
تطأه الخيول فمات كان شهيدا لا يغسل؟
1243 - وهذا إذا كان الذين جروه غير ورثته. فإن كان الوارث
هو الذي جره فسلبه غنيمة.
لان الظاهر أن الوارث إنما جره لاحراز سلبه. فإنه يخلفه فيما كان له.
وقد كان هو محرزا سلبه بلباسه، فكذلك من يخلفه يجره (3) إليهم. فأما
الأجنبي فما كان يخلفه في ملكه، وإنما يكون محرزا له إذا نزعه عنه. لأنه
يتملكه (4) ابتداء. والملبوس تبع اللابس. فإذا تركه عليه عرفنا أنه لم يقصد
تملكه ابتداء.

(1) في هامش ق " يدي. نسخة " وفى ب " يد ".
(2) ه‍ " يطأه ".
(3) ه‍ " بحره ".
(4) ب " يملكه ".
722

1244 - وإن لم يدر أن الذي جره كان وارثا أو وصيا أو أجنبيا
فالسلب للقاتل.
لان سبب استحقاقه معلوم. فما لم يعلم اعتراض، (ص 243) ما يبطله
يجب اعتباره في الحكم.
1245 - وكذلك إن وجدوا دابته عنده فهي للقاتل. وإن
وجدوها في يد رجل منهم كانت غنيمة.
لان باعتراض (1) يد أخرى عليها ينفسخ حكم السبب الأول.
1246 - ولو وجدت بعد ما سار العسكر منقلة أو منقلتين (2)
فهي للقاتل في القياس.
لأنه لا يظهر اعتراض يد أخرى مبطلة لحقه. ولعلها اتبعت (3) العسكر
عابرة (4) من غير أن يأخذها أحد.
وفى الاستحسان هي غنيمة.
لأنها لم توجد في يد القتيل، ولا في الموضع الذي كان يد القتيل عليها
ثابتة فيه.
ولو أخذنا فيها بالقياس لزمنا أن نقول: هي للقاتل.

(1) ه‍ " اعتراض ".
(2) ميلا أو ميلين ". وفى هامش ق " منقلة أو منقلتين. حصر، أي مرحلة ".
وفى حاشية ه‍ " المنقلة مثل المرحلة وزنا ومعنى. مغرب ".
(3) ه‍، ب " انبعث " خطأ. وهي غير منقوطة في ص. أثبتنا رواية ق.
(4) كذا في ه‍، ب. وهي غير منقوطة في ص. وفى ق " عائرة " وفى هامشها " حائرة
أي تفر على وجه لم يأخذه أحد. حصيري ".
723

1247 - وإن ساروا شهرا فرجعوا إلى مدائنهم، وهذا يقبح (1)،
فالظاهر إنها لا تمشى عابرة هكذا، ولكنها تقف للعلف أو تتحول يمنة
أو يسرة عن الطريق. فإذا سارت مستوية على الطريق عرفنا أن سائقا
ساقها، فكانت غنيمة. إلا أن نعلم أنها ذهبت عابرة فهي للقاتل حينئذ.
لأنه لم تعترض عليها يد أخرى. وفعلها جبار لا يصلح أن يكون
فاسخا (2) لسبب الاستحقاق الثابت للقاتل.
1248 - ولو أنهم أخذوا دابته (3) فحملوا عليها القتيل مع سلاحه
وساقوها منهزمين ثم (4) ظفرنا بهم فذلك كله للقاتل.
لانهم ما قصدوا إحراز ما عليه، وإنما حملوه على دابته ليردوه إلى أهله.
فلا يكون ذلك منهم إحراز لما عليه.
1249 - إلا أن يكون ابن القتيل هو الذي فعل ذلك، فحينئذ
يكون ذلك غنيمة.
لان الابن لا يفعل ذلك إلا محرزا له، باعتبار أنه خليفة القتيل. غيره
يرد عليه وهو لا يرد على أحد. وأحد الورثة في هذا المعنى كجماعتهم.
ألا ترى أنه يقوم مقام الميت في إثبات حقه وملكه؟
1250 - وكذلك لو أوصى إلى رجل ففعل الوصي ذلك.

(1) كذا في الأصل وق. وفى ب " يصح " وفى ه‍ " وهذا معهم " خطأ.
(2) ه‍ " ناسخا " خطأ. ب " فسخا ".
(3) ه‍ " دابة " خطأ. انظر الشرح.
(4) ساقطة من ه‍.
724

لان الوصي خليفته بعد موته. ففعله يكون إحرازا كفعل الوارث،
سواء نزع منه سلبه أو لم ينزعه.
1251 - فإن كان الأجانب حين حملوه عليها مع سلاحه حملوا
عليها أيضا أمتعة لأنفسهم وساقوها، فالدابة وما عليها غنيمة، إلا
ما على القتيل من السلب.
لانهم قصدوا إحراز الدابة حين استعملوها في حوائجهم، ولم يقصدوا
إحراز سلبه حين لم ينزعوه عنه.
1252 - فإن كانوا علقوا عليها إداوة (1) أو مخلاة (2) فقط،
فالدابة وما عليها من سلب القتيل كله للقاتل.
لان بهذا القدر لا يكونون محرزين لها. فالاحراز بثبوت يدهم عليها.
وإنما تثبت اليد على الدابة بحمل مقصود بتعليق إداوة.
ألا ترى أن رجلين لو تنازعا في دابة لأحدهما عليها حمل وللآخر إداوة
فإنه يقضى بها لصاحب الحمل المقصود؟
1253 - ولو غيروا سرجها باكاف، أو بسرج غيره، ولم يحملوا
عليها غير القتيل وسلبه فذلك كله للقاتل.
لان تغيير السرج بسرج آخر لا يكون دليلا على أنهم قصدوا إحرازها،
أو أثبتوا أيديهم عليها. وإنما يؤخذ (3) في هذا ونحوه بما يكون عليه أكثر (4)
الرأي، وما يكون فيه (5) العلامات من أخذهم ذلك لأنفسهم أو غير ذلك.
والله أعلم.

(1) في هامش ق " الإداوة المطهرة والجمع الأداوي. مغرب ".
(2) في هامش ق " المخلاة ما يوضع فيه الشعير ".
(3) ب، ه‍ " يوجد " خطأ.
(4) ه‍ " أكبر ".
(5) ب " عليه ".
725

82 باب الاستثناء في النفل والخاص منه
1254 - وإذا قال الأمير: من أصاب ذهبا أو فضة فله من
ذلك الربع. فهذا على التبر والمضروب، سواء كان من ضرب المسلمين
أو المشركين.
لان اسم الذهب والفضة يتناول الكل حقيقة. والاستحقاق بناء عليه.
ألا ترى أنه لو استثنى بهذا الاسم (1) وقال: من أصاب (ص 244)
شيئا فهو له، إلا ذهبا (2) أو فضة، كان الكل مستثنى بهذا الاسم. فكذلك
إذا بنى الايجاب عليه.
ألا ترى أن وجوب الزكاة في الذهب والفضة باعتبار العين؟ وكذلك
وجوب التقايض عند مبادلة البعض بالبعض، وحرمة الفضل عند اتحاد
الجنس. وكان التبر والمضروب في ذلك سواء.
وهذا بخلاف ما إذا حلف لا يشترى ذهبا أو فضة فاشترى دراهم
أو دنانير لم يحنث. لأنه عقد اليمين هناك على الشرى، وذلك لا يتم إلا بالبائع.
وبائع المضروب يسمى صبر فيا. وإنما يسمى بائع الذهب من يبيع غير المضروب
فأما هاهنا فعلق الاستحقاق بحقيقة الاسم، فعروضه من اليمين أن لو حلف
لا يمس ذهبا ولا فضة. وذلك يتناول المضروب وغير المضروب. ثم الايجاب
بطريق التنفيل بمنزلة الايجاب بالوصية.

(1) في هامش ق " بهذا اللفظ. نسخة "
(2) ب، ه‍ " ذهب " خطأ.
726

ولو أوصى لغيره بالذهب أو الفضة من ماله يتناول ذلك المضروب
وغيره.
1255 - ولو قال: من أصاب حديدا فهو له، ومن أصاب غير
ذلك فله نصفه. فما أصاب رجل من الحديد تبرا أو إناء من حديد،
أو سلاح، أو سكاكين، أو سيوف، فهو له كله.
لان اسم الحديد لذلك كله. فإن بالصنعة (1) لا يتبدل اسم العين،
لأنه لا ينعدم به ما هو المقصود بالعين، بل يتقرر، وهو معنى البأس. قال
الله تعالى " وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد " (2).
فأما جفون السيف وأنصبة (3) السكاكين وغلفها (4) فله نصفه.
لأنه ليس (5) بحديد. فإنما يستحق النفل بقوله: ومن أصاب غير ذلك
فله نصفه.
إلا أنه يؤخذ نصف ذلك منه، أو نصف قيمته إن كان نزع
ذلك يضربه.
لأنه صاحب الأصل. وحق الغانمين ثابت في نصف ما هو تبع. إلا
أن الضرر مدفوع عنه. فإذا احتبس عنده لوجوب دفع الضرر عنه كان

(1) ه‍، ب " الصيغة " خطأ. ق " بالصنع ".
(2) سورة الحديد، 57، الآية 25.
(3) في هامش ق " النصاب جزو السكين. قاموس " نصاب السكين هو ما يقبض عليه.
نصاب كل شئ أصله. وجمعه نصب وأنصبة، مثل حمار وحمر وأحمرة. مصباح منير ".
(4) ق " غلافها ".
(5) ب " لان هذا ليس ".
727

عليه قيمته، بمنزلة بناء مشترك بين اثنين في أرض أحدهما، فإن لصاحب
الأرض أن يتملك على شريكه نصيبه من البناء بالقيمة لهذا المعنى.
1256 - ولو قال: من أصاب بزا فهو له. فأصاب ثوب ديباج
أو بزيون أو أكسية صوف، لم يكن له.
لان اسم البز لا يتناول هذه الأشياء. إنما يتناول اسم القطن والكتان
خاصة.
ألا ترى أن البزاز في الناس من يبيع ثوب القطن والكتان. وسوق
البزازين الموضع الذي فيه ثوب القطن والكتان، دون الديباج والكساء.
فكأنه بنى على عادة أهل الكوفة.
فأما في ديارنا فمن يبيع ثوب القطن والكتان يسمى كرابيسيا.
فلو أصاب كتانا أو قطنا غير مغزول، أو مغزولا غير منسوج
لم يكن له من ذلك شئ، لان اسم البز يتناول الملبوس ولا يتناول الغزل عادة.
ألا ترى أن بائعه يسمى قطانا وغزالا ولا يسمى بزازا؟
1257 - ولو قال: من أصاب ثوبا فهو له. فأصاب ثوب ديباج
أو بزيون مما يلبسه الناس * أو فروا (1) أو كساء فهو له.
لان اسم الثوب عادة يطلق على ملبوس بني آدم. فكل ما يلبسه الناس
عادة فهو داخل في هذا الايجاب. ما خلا الخف والعمامة والقلنسوة. فإنه
لو أصاب ذلك لم يستحقه. لان الثوب اسم لما يلبس للاكتساء به، والعمامة
والقلنسوة لا يحصل بهما الاكتساء.
ألا ترى أن كفارة اليمين لا تتأدى بالكسوة إذا أعطى كل مسكين

(1) ه‍ " فردا " خطأ.
728

قلنسوة أو عمامة أو خفين، إلا أن يجعل ذلك مكان الطعام إذا كان يساوى
ذلك. ومن حلف لا يلبس ثوبا فلبس عمامة أو قلنسوة لم يحنث.
1258 - ولو أصاب مسحا (1) أو بساطا، (ص 245) أو سترا
أو فراشا، لم يكن ذلك له (2).
لان هذا لا يلبسه الناس عادة وإنما يتمتعون (3) به في البيوت. وإنما
يتناوله اسم المتاع لا اسم الثوب.
حتى لو قال: من أصاب متاعا فهو له، استحق ذلك كله، وملبوس
الناس أيضا.
لان ذلك كله من المتاع. فالمتاع اسم لما يستمتع به. وكذلك يستحق
الأواني عند اطلاق اسم المتاع وإن لم يذكره نصا لأنه لو قال: من أصاب
متاعا دون الآنية، فأصاب طاسا أو أباريق، وقماقم، وقدورا من نحاس،
لم يكن له من ذلك شئ. لان هذا من الآنية وقد استثناها من المتاع، فهو
دليل على أنه عند عدم الاستثناء يستحق ذلك كله.
1259 - ولو قال من أصاب فضة أو ذهبا فأصاب سيفا محلى
بفضة أو ذهب كان له الحلية.
لان الاسم يتناوله حقيقة.
ألا ترى أن حكم الصرف يثبت في حصة الحلية في البيع؟ وكذلك إن
أصاب سرجا مفضضا فله الفضة من ذلك كله خاصة.

(1) في هامش ق " المسح بالكسر واحد المسوح، البلاس. مغرب " و " المسح البلاس،
مصباح ".
(2) ه‍ " لم يكن له ذلك ".
(3) ه‍ " يستمتعون ".
729

1260 - ولو وجد أبوابا فيها مسامير فضة أو ذهب إن نزعت
تفككت الأبواب لم يكن له من ذلك شئ. قال: لان الغالب غير
الفضة والذهب.
يعنى أن المسامير في حكم المستهلكة حين كانت مغيبة. والمقصود من
الذهب والفضة التزين بها، وفى المسامير المقصود الانتفاع لا التزين، بخلاف
حلية السرج والسيف، فهو ظاهرا يقصد به التزين. ولان المسمار صار تبعا
محضا من حيث أنه إذا نزع لا يبقى اسم الباب، والمصاب باب. وفى العادة
لا يسمى هذا بابا من ذهب، وإن كان فيه مسامير ذهب، بخلاف السرج
واللجام، فإنه يقال إنه مفضض لما عليه من الفضة.
1261 - ولو وجد حلى فضة أو ذهب مرصعا (1) بفصوص،
أو خاتم فضة فيه فص، فالفصوص كلها غنيمة.
لان اسم الذهب والفضة لا يتناولها حقيقة.
والحلي له.
لان اسم الذهب والفضة يتناوله حقيقة، ولم يغلب عليه اسم آخر.
ألا ترى أنه يقال خاتم فضة وخاتم ذهب، ولا ينسب إلى الفص،
وإن كان الفص مرتفعا؟
1262 - وكذلك لو وجدنا صليبا من ذهب أو فضة فيه
فصوص.

(1) ص " مرصع ".
730

لأنه لم يغلب على اسم الذهب والفضة اسم آخر.
ألا ترى أن الصليب ينسب إلى ما صيغ منه من الذهب أو الفضة
دون ما فيه من الفصوص.
1263 - ولو قال: من أصاب ياقوتا أو زمردا فأصاب حليا
مفضضا فيه الياقوت والزمرد فإن ذلك ينزع ويدفع إليه.
لان الاسم باق له حقيقة، وإن ركب في الفضة أو الذهب، لأنه لم يعترض
عليه اسم آخر يزيله.
1264 - وكذلك لو أصاب خاتما فيه فص ياقوت أو زمرد فإن
ذلك يقلع ويدفع إليه.
لأنه ليس في نزعه ضرر على المسلمين فيما هو المقصود لهم وهو المالية.
1265 - ولو قال: من أصاب حديدا فهو له. فأصاب سرجه
ركاباه من حديد، نزع الركابان له.
لان الاسم فيهما باق حقيقة. يقال ركاب من حديد وركاب من خشب.
وليس في النزع ضرر.
1266 - ولو كان في السرج مسامير حديد، أو ضبة (1) حديد
إن نزعت تفكك السرج لم يكن له منه شئ.

(1) في هامش ق " الضبة من حديد أو صفر أو نحوه يشعب بها الاناء. وجمعها ضبات
كجنة وجنات. مصباح ".
731

لان هذا بمنزلة المستهلك فيه، على معنى أنه استعمل لمنفعة السرج،
لا للزينة بمنزلة المسامير في الأبواب.
ألا ترى أنه لو أصاب سفينة مضببة بالحديد إن نزعت تخلعت السفينة
لم يكن له من ذلك شئ.
وهذا هو الأصل في جنس هذه المسائل: إن كل شئ كان مستعملا
في عين آخر، لا للزينة بل لينتفع به، باسم غير الاسم الذي أوجب به النفل،
لم يتناوله الاسم. وإن كان مستعملا للزينة (ص 246) يتناوله الاسم. لان
الزينة صفة زائدة على ما هو المطلوب من الانتفاع بالعين. ثم إن كان ينزع
بغير ضرر فاحش نزع لحقه. وإن تفاحش الضرر في نزعه بيع، فيقسم الثمن
على قيمة ما يتناوله النفل، وقيمة ما لم يتناوله النفل، بمنزلة ما لو انصبغ ثوب
إنسان بصبغ غيره، وأبى صاحب الثوب أن يغرم قيمة الصبغ، فإنه يباع
الثوب، ويقسم الثمن بينهما على قيمة ملك كل واحد منهما.
1267 - ولو قال: من أصاب قزا فهو له. فأصاب قباء أو جبة
حشوها قز لم يكن له ذلك.
لان الحشو مغيب. وكان المقصود من اتخاذه في القباء والجبة الانتفاع به
دون الزينة. فيكون بمنزلة المستهلك فيه.
ألا ترى أنه لا بأس بمثل هذا القباء للرجال، وإن كان لبس القز حراما
للرجال في غير حالة الحرب. ولو قال قائل يستحق هذا لم يجد بدا من أن
يقول: إذا أصاب ثوبا سداه (1) قز ولحمته غير القز أليس انه يستحق السدى؟
وهو بعيد جدا.
1268 - ولو قال: من أصاب ثوب قز فهو له. فأصاب جبة

(1) في هامش ق " السدا وزن الحصا من الثوب خلاف اللحمة. وهو ما يمد طولا في النسج -
مصباح ".
732

ظهارتها أو بطانتها قز، فله الثوب الذي هو قز منهما، والآخر
في الغنيمة.
لان اسم الثوب يتناول كل واحد من الظهارة والبطانة على الانفراد.
وأحدهما غير غالب على صاحبه، بل كل واحد منهما ظاهر على الحقيقة.
ومن حيث الحكم يكره للرجال لبس هذا الثوب. فهو بمنزلة حلية السيف.
ثم يباع ويقسم الثمن كما بينا.
لان الضرر فاحش في نزع الظهارة من البطانة.
1269 - ولو قال: من أصاب جبة حرير فهي له. فأصاب جبة
ظهارتها أو بطانتها حرير، فالمعتبر الظهارة هاهنا.
لان الجبة منسوبة إلى الظهارة عادة، والبطانة في النسبة تبع للظهارة.
ثم الايجاب له كان باسم الجبة. وهذا الاسم لا يتناول الظهارة بدون البطانة.
فلهذا استحق الكل. بخلاف ما سبق، فالايجاب هناك باسم الثوب، والظهارة
بدون البطانة تسمى ثوبا.
1270 - ولو قال: من أصاب ذهبا فهو له. فأصاب ديباجا
منسوجا بالذهب. فإن كان الذهب مستعملا في سدى الثوب فليس له
منه شئ.
بمنزلة القز الذي هو سدى الثوب.
وإن كان الذهب فيه بينا يرى فإنه يستحق الذهب دون غيره.
والطريق فيه البيع كما ذكرنا، لان المعتبر هو اللحمة دون السدى.
733

ألا ترى أن ما يكون سداه قزا وإبريسما يحل لبسه للرجال كالعتابي (1)،
وما يكون لحمته إبريسما لا يحل لبسه للرجال.
يوضحه أنه باللحمة يصير ثوبا. فعرفنا أنه منسوب إلى اللحمة دون السدى.
1271 - ولو قال: من أصاب حريرا فأصاب جبة لبنتها (2)
من حرير، أو ثوبا عمله من حرير، لم يكن له منه شئ.
لان هذا تبع محض.
ألا ترى أنه لا بأس بلبس هذا الثوب للرجال؟
1272 - وكذلك لو قال: من أصاب ذهبا فأصاب ياقوتا فيه
مسمار ذهب، أو خاتم فضة في فصها مسمار ذهب، لم يكن له من
ذلك شئ.
لأنه مضبب وتبع محض.
ألا ترى أنه لو أصاب أسيرا مضبب الأسنان بالذهب لم يكن له ذلك
الذهب.
ولو أصاب أسيرا قد اتخذ أنفا من ذهب كان له الذهب.
لان الانف بائن من جسده فإنه يربطه بخيط وينزعه متى شاء فلم يكن
تبعا محضا. بخلاف الأسنان، وهذا كله استحسان. وفى القياس يستحق ذلك
كله لبقاء الاسم حقيقة.

(1) غير منقوطة في ص. وفى ه‍، ب " العناني " أثبتنا رواية ق.
(2) في هامش ق " ومنه الحديث: لبنتها ديباج. وهي رقعة تعمل موضع جيب القميص
والجبة. نهاية ".
734

1273 - ولو قال: من أصاب ثوب خز (1) فهو له. فأصاب
جبة خز بطانتها سمور أو فنك (2)، لم يكن له إلا الظهارة.
لأنه أوجب باسم الثوب.
وقد بينا في هذا أن (ص 247) البطانة لا تكون تبعا للظهارة في القز.
فكذلك في الخز. ولو كان التنفيل باسم الجبة كان الجواب كذلك ههنا.
لان السمور والفنك لا يكون تبعا للخز في النسبة بحال، فإنه يقال لهذه الجبة
إنها جبة سمور أو فنك، فبإيجاب الخز له لا يستحق ما لا يتبعه في النسبة بحال.
1274 - وكذلك لو قال: من أصاب ثوب فنك. فله الفنك
دون الظهارة.
لان اسم الثوب والجبة يتناول الفنك بدون الظهارة، والظهارة لا تتبع
البطانة في النسبة.
1275 - ولو قال: من أصاب شيئا من البزيون. فأصاب جبة
البدن منها بزيون، والكمان والدخاريص ديباج، فله البدن خاصة.
لان بعض هذا ليس يتبع للبعض.
فلو كانت كلها بزيونا إلا اللبنة فهي للمصيب كلها.

(1) في هامش ق " الخز اسم دابة، ثم أطلق على الثوب المتخذ من وبرها. والجمع خزوز
كالفلوس. مصباح ".
" الخز المعروف أو لا ثياب تنسج من صوف وإبريسم. وهي مباحة. وقد لبسها الصحابة
والتابعون. فيكون النهى عنها لأجل التشبه بالعجم وزي المسرفين. وإن أريد بالخز النوع الآخر،
وهو المعروف الآن، فهو حرام لان جميعه معمول من الإبريسم. نهاية ".
(2) دابة لها فراء من أجود أنواع الفراء (القاموس).
735

لان اللبنة تبع محض.
1276 - ولو قال: من أصاب جبة بزيون، فأصاب جبة
بدنها بزيون وما سوى البدن ديباج، أو على عكس ذلك، لم يكن له
منها شئ.
لان ما أصاب ليس بجبة بزيون.
ألا ترى أنه إذا نزع منها الديباج لا يسمى ما بقى جبة، وإنما جعل
الشرط إصابة جبة بزيون.
1277 - ولو قال: من أصاب فضة أو ذهبا. فأصاب قصعة
مضببة بهما. فإن كان جعل ذلك للزينة فله الذهب والفضة. وعلامة
ذلك أنها لو نزعت تبقى قصعة. وإن كانت الضبة جعلت لكسر
القصعة بحيث لو نزعت لم تكن قصعة، أو سقط منها كسرة، فهذا
بمنزلة المسامير.
لأنها استعملت فيها للمنفعة لا للزينة. فكانت تبعا محضا.
1278 - ولو قال: من أصاب شعرا فهو له، فأصاب جلود
معز عليها الشعر، أو أنماط (1) شعر، أو ستر شعر، أو مسوحا (2)، لم
يكن له ذلك.

(1) في هامش ق " النمط ثوب من صوف يطرح على الهودج. مغرب ".
(2) كذا في ق. وفى ه‍، ب، ص " منسوجا ".
736

لان اسم الشعر لا يتناول غير المحلوق من الجلد عادة، ولا يتناول الثوب
المتخذ من الشعر، بمنزلة اسم القطن والكتاب فإنه لا يتناول الثوب المتخذ منه.
ألا ترى أنه لا مجانسة بين مثل هذا الثوب وبين الأصل الذي اتخذ منه؟
فعرفنا أنه بالصنعة صار شيئا آخر.
1279 - ولو قال: من أصاب خزا، فأصاب جلود خز، أو
خزا قد حلق من الجلود، فله الخز في الوجهين جميعا.
لان اسم الخز يتناولهما حقيقة.
فإن قيل: بعد (1) الحلق أينسب الجلد إلى الخز؟
فيقال: هو خز، بخلاف جلود المعز والضأن. فإنها لا تنسب إلى
ما عليها من الشعر والصوف. لان أحدا لا يقول جلد الصوف.
1280 - ولو أصاب ثوب خز فهو له.
لان الثوب منسوب إلى الخز مطلقا، بخلاف ما لو قال: من أصاب
صوفا أو بزيونا، فأصاب ثوب بزيون أو ثوب صوف.
لان بعد النسج لا يسمى صوفا ولا بزيونا مطلقا، بل مقيدا بالثوب،
بمنزلة القطن والكتان.
ولو أصاب خزا مغزولا كان له.
لان بعد الغزل يسمى خزا مطلقا. بخلاف القطن والكتان. فصار الحاصل
في الخز أن الاسم ينطلق عليه على أي وجه كان.
1281 - ولو قال: من أصاب جبة خز (2) أو جبة مروية (3)

(1) ساقطة من ه‍، ق، ص. أثبتناها من ب.
(2) ب " حرير ".
(3) نسبة إلى مرو.
737

فهي له، فأصاب جبة بطانتها وظهارتها فنك أو سمور، فهي غنيمة.
وكذلك لو كانت ظهارتها مروية وبطانتها من فنك أو سمور.
لان هذه تنسب عادة إلى الفنك والسمور دون الخز والمروي. على معنى
أن الاسم ينطلق على الفنك والسمور مقصودا بدون الظهارة، فإنه يسمى جبة،
ولا ينطلق على الخز والمروي الذي هو ظهارة بدون البطانة. فإنما الأصل
في النسبة ما يتناوله الاسم وحده دون ما لا يتناوله الاسم وحده.
1282 - وإن أصاب جبة خز بطانتها (ص 248) مروية
أو قوهية (1)، كانت له الظهارة دون البطانة. من قبل أن هذه الجبة
لا تنتسب إلى البطانة، إذ البطانة بانفرادها لا تسمى جبة. وقد ينطلق اسم
الجبة على الظهارة من الخز بغير البطانة. فلهذا يستحق الظهارة دون البطانة.
وقد ذكر قبل هذا في الحرير أنه يستحق الظهارة والبطانة جميعا. فقيل
فيه روايتان. وقيل بينهما فرق، لان الظهارة من الحرير بدون البطانة لا تسمى
جبة حقيقة ولا مجازا، ومن الخز تسمى جبة، وإن كان مجازا.
فإذا كانت البطانة من سمور أو فنك يستعمل اللفظ حقيقة فيسقط اعتبار
المجاز. وإذا كان مرويا فقد تعذر استعمال اللفظ حقيقة فيستعمل بطريق المجاز
ويجعل له الظهارة خاصة.
ألا ترى أنه لو قال: من أصاب جبة خز أو سمور أو فنك، فأصاب
شيئا من ذلك ظهارته وشئ (2) أو حرير، لم يكن له الظهارة وكان له ما سوى
ذلك؟ لان اسم الحبة يتناول ما سوى الظهارة، إما حقيقة أو مجازا، والظهارة
لا تكون تبعا للبطانة بحال.

(1) ق " هروية " وفى هامشها " قوهية. نسخة ".
(2) في هامش ق " الوشي خلط لون بلون. ومنه وشى الثوب إذا رقمه ونقشه. والوشي
نوع من الثياب الموشية تسمية بالمصدر. يقال: فلان يلبس الوشي. مغرب ".
738

1283 - ولو قال من أصاب جبة مروية، فأصاب جبة ظهارتها
مروية وبطانتها من غيره، فله الكل. وهذا والحرير سواء.
ألا ترى أن الظهارة بدون البطانة هاهنا تسمى قميصا دون الجبة؟
والذي يوضح هذا.
لو قال من أصاب قلنسوة ظهارتها على ما قال وبطانتها وحشوها
من غير ذلك كان له الكل.
لأنها لا تكون قلنسوة بدون البطانة، والحشو.
1284 - ولو صمد الجبة على رجل بعينه فقال: من أصاب هذه
الجبة الخز فهي له. فأصابها إنسان، فإذ هي مبطنة بفنك أو سمور
فالكل للمصيب ههنا.
لأنه بنى الاستحقاق هنا على اليقين بالإشارة دون الاسم، والنسبة،
فكل واحد منهما للتعريف. إلا أن عند التعريف بالإشارة يسقط اعتبار النسبة،
لان الإشارة أبلغ، بخلاف جميع ما سبق.
واستوضح هذا بالوصية بجبة الخز والجواب فيه كالجواب في النفل.
1285 - ولو قال: من أصاب جبة مروية فهذا على الظهارة.
لما بينا أن النسبة إلى الظهارة، وهي لا تسمى جبة بدون البطانة، والحشو
يتبع لهما، فيستحق الكل.
1286 - ولو قال: من أصاب جبة خز، فأصاب جبة خز بطانتها
غير الخز، وهي محشوة بقز أو قطن، فله الظهارة خاصة.
739

لان الظهارة من الخز تسمى جبة بانفرادها مجازا. فلا يستحق البطانة
بهذا الاسم، وإذا لم يستحق البطانة لم يستحق الحشو.
1287 - ولو قال: من أصاب قباء مرويا، فأصاب قباء بطانته
غير مروي، وحشوه كذلك، فله الظهارة خاصة.
لان الظهارة وحدها تسمى قباء. يقال: قباء طاق، وقباء طاقين،
بخلاف الجبة، فالظهارة وحدها هناك تسمى قميصا لا جبة.
ولو كانت الظهارة والبطانة مرويتين والحشو من غيره
استحق الكل.
لأنه لما استحق الظهارة والبطانة استحق الحشو تبعا.
ألا ترى أنه لو قال: من أصاب قباء، استحق الحشو تبعا للظهارة
والبطانة. وإن لم يكن الحشو قباء. فكذلك عند التقييد يستحق الحشو وإن لم
يكن مرويا. والسراويل بمنزلة القباء في جميع ما قلنا، لأنه لا يسمى سراويل مبطنا
كان أو غير مبطن.
740

83 باب النفل من أسلاب الخوارج
وأهل الحرب يقاتلون معهم بأمان أو بغير أمان (ص 249)
1288 - قال: أمان الخوارج لأهل الحرب جائز كأمان أهل
العدل، لانهم مسلمون من أهل فئة ممتنعة وبيان هذا الوصف في قوله
تعالى (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) (1) وفى قول على رضي الله عنه
: إخواننا بغوا علينا. ثم أمان الواحد من المسلمين كأمان جماعتهم.
لان أهل الحرب لا يقفون على السبب الموجب للقتال بين أهل العدل
وأهل البغي، حتى يميزوا أهل العدل من أهل البغي فيستأمنوا منهم. فإذا
استأمنوا من أهل البغي فقد سالمونا على أن ينجزوا فينا وذلك أمان نافذ.
فلا ينبغي لأهل العدل أن يغيروا عليهم حتى ينبذوا إليهم.
إن كانوا في منعة، أو يبلغوهم مأمنهم إن كانوا في غير منعة.
1289 - ولو استعان الخوارج بأهل الحرب على قتال أهل العدل
فخرجوا إليهم فظهر عليهم أهل العدل، سبوا أهل الحرب، ولا يكون
استعانة الخوارج بهم أمانا لهم.
من أصحابنا من قال: كان ذلك أمانا لهم. ولكنهم حين قاتلوا أهل العدل

(1) سورة الحجرات، 49، الآية 9
741

صاروا ناقضين لذلك الأمان. وهذا غلط. فإنهم لو أمنوهم ثم قاتلوا معهم
أهل العدل لم يكن ذلك نقضا للأمان إذا كانوا تحت راية الخوارج على ما ذكره
بعد هذا ولكن.
الوجه فيه أنهم ما خرجوا مسالمين للمسلمين، إنما خرجوا
مقاتلين. أما في حق أهل العدل فغير مشكل، وأما في حق الخوارج
فلأنهم انضموا إليهم ليعينوهم لا ليكونوا في أمان منهم.
ألا ترى أن الجيش في دار الحرب يعين بعضهم بعضا من غير أن يكون
بعضهم في أمان من بعض.
1290 - فإذا ظفرنا بهم كانوا فيئا، سواء قاتلونا (1) مع الخوارج
أو لم يقاتلونا. ولكن إن أراد الخوارج قتلهم وأخذ أموالهم لم يحل
لهم ذلك.
لانهم ضمنوا لهم ترك التعرض حين دعوهم إلى أن يخرجوا مقاتلين
معهم أهل العدل، أو لا يتمكنون من ذلك إلا بهذا. ومن ضمن لغيره شيئا
فعليه الوفاء بذلك
1291 - فإن سبوهم وأخذوا أموالهم لم يحل لنا أن نشتري
شيئا من ذلك.
لأنها جعلت لهم بسبب حرام شرعا.
ولو اشتراها مشتر جاز شراؤه.

(1) في هامش ق " قاتلوا. نسخة ".
742

لان العصمة ليست لعصمة المحل بل لمعنى الغدر. فلا يمنع ذلك ثبوت
الملك وصحة الشراء من المتملك.
1292 - وهو بمنزلة مسلم (1) يدخل إليهم (2) بأمان كأنه لا يكون
معطيا لهم أمانا بهذا، ولكن يكره له أن يسبى بعضهم ويأخذ شيئا من مالهم، لما فيه من معنى الغدر. فإن فعل ذلك أمر برده ولم يجبر
عليه في الحكم، وإن اشترى رجل منه ذلك المال جاز الشراء (3) مع
الكراهية.
1293 - فإن قاتلوا فقال أمير أهل العدل: من قتل قتيلا فله سلبه.
فقتل رجل قتيلا من الخوارج لم يكن له سلبه.
لانهم مسلمون وأموالهم محرزة بدار الاسلام فلا تكون غنيمة.
1294 - وإن قتل حربيا فله سلبه.
لان ماله مباح الاغتنام إذا لم يكن له أمان من جهة أحد من المسلمين.
1295 - فإن أخذ أهل الحرب رقيقا وأموالا من أهل العدل
فأحرزوها بمنعة الخوارج ثم أسلموا فعليهم رد جميع ما أخذوا.
لانهم لم يحرزوها بدارهم، وإنما يملكون أموالنا بالاحراز بدارهم.

(1) في هامش ق " رجل. نسخة ".
(2) ق " عليهم " وفوقها " إليهم. نسخة ".
(3) ب " الشرى ".
743

1296 - ولو كانت المنعة لهم في دارنا فأحرزوا المال بها لم
يملكوها. فإذا كانت للخوارج فأولى أن لا يملكوها.
فإن كانوا أدخلوها (1) دارهم ثم أسلموا أو صاروا ذمة فهي لهم.
لانهم ملكوها بتمام الاحراز. وقال عليه السلام: " من أسلم على مال
فهو له.
1297 - ولو (2) أصابوا من نساء أهل العدل وصبيانهم لم يسع
الخوارج تركهم يذهبون بهم إلى دار الحرب (ص 250).
لانهم ظالمون في حبس أحرار المسلمين.
وليس عليهم الوفاء لهم بالتقرير على الظلم، ولكنهم يأمرونهم
بتخلية سبيلهم. فإن أبوا قاتلوهم لاستنقاذ ذراري المسلمين من أيديهم
لم يسعهم (3) غير ذلك.
ألا ترى أن المسلمين في دار الحرب إذا تمكنوا من استنقاذ ذراري
المسلمين من أيديهم لم يسعهم غير ذلك.
1298 - وكذلك لو أرادوا إدخال الأموال دارهم فالواجب على
الخوارج أخذ ذلك منهم ليردوها على أهلها.

(1) ق " دخلوا " وفى الهامش " ادخلوها. نسخة ".
(2) ق " وإن " وفوقها " ولو. نسخة ".
(3) في هامش ق " لا يسعهم. نسخة ".
744

لانهم لم يملكوها قبل الاحراز، فهم ظالمون في حملها، بخلاف المستأمن
في دار الحرب. لان هناك قد ملكوا المال بالاحراز، وهو قد ضمن أن
لا يتعرض لهم في أخذ أموالهم، فلا يسعه أن يأخذها. وإذا علم هذا الحكم
في الأموال في حق الخوارج ففي الاحراز أولى.
1299 - وإن كانوا استهلكوا ما أخذوا من أموال أهل العدل
ثم أسلموا لم يضمنوا شيئا من ذلك.
لأنه فعلوه وهم محاربون.
ولأنهم حين انضموا إلى أهل البغي كانوا بمنزلتهم في هذا الحكم.
وأهل البغي إذا (1) استهلكوا أموال أهل العدل ثم تابوا لم يضمنوا، فكذلك
أهل الحرب.
وعلى هذا لو كان الذين أعانوهم على المسلمين، لم يكونوا خوارج
ولكنهم لصوص غير متأولين.
لان في حق أهل الحرب حكم سقوط الضمان لا يختلف بالتأويل وعدم
التأويل، إنما ذلك فيما بين المسلمين. فأما أهل الحرب فلا يضمنون في
الوجهين لانهم فعلوه وهم محاربون.
1300 - ولو استعار بعضهم من بعض السلاح، ثم قال أمير
أهل العدل: من قتل قتيلا فله سلبه. فقتل خارجي عليه سلاح حربي
أو على عكس ذلك، لم يكن السلب للقاتل في الوجهين.

(1) ه‍ " لو ".
745

أما إذا كان سلاح الخارجي على الحربي فلان هذا المال ليس
بمحل للاغتنام.
وأما إذا كان سلاح الحربي على الخارجي فلأنه حين استعاره منه
وأثبت يده على ذلك المال فقد ثبت حكم الأمان فيه.
ألا ترى أنهم لو بعثوا إلى أهل الحرب فاستعاروا منهم سلاحا أو كراعا
فأخرجوه إليهم أنه يثبت حكم الأمان في ذلك المال، لحصوله (1) في يد الخوارج،
حتى لا يكون غنيمة، فكذلك ما سبق. إلا أن أهل العدل إذا ظفروا بذلك
لم يردوه على أهل الحرب، ولكنهم يبيعونه ويقفون ثمنه حتى يجئ أصحابه
من أهل الحرب فيأخذون الثمن.
1301 - ومن استهلك من أهل العدل شيئا لم يضمن، كما هو
الحكم في أموال أهل البغي إذا وقعت في يد أهل العدل.
وهذا لان ثبوت الأمان في هذا المال بثبوت يد أهل البغي عليه،
واليد لا تكون فوق الملك.
1302 - ولو ملكوها من أهل البغي كان الحكم فيه هذا،
ولو لم يبع ذلك أهل العدل حتى تفرق الخوارج ثم جاء أصحاب
السلاح والكراع من أهل الحرب يطلبون ذلك ففي القياس يرد عليهم
ذلك ليردوهم إلى دارهم.
لان حكم الأمان كان ثابتا في هذا المال من جهة بعض المسلمين،

(1) ب " بحصوله ".
746

ولأنه بمنزلة مال الخوارج وهو مردود عليهم بعد ما تفرق جمعهم ولم يبق
لهم فئة.
وفى الاستحسان يجبرون على بيعة في دار الاسلام وأخذ ثمنه.
لأنه صار محبوسا في يد أهل العدل. والكراع والسلاح بعد ما صار
محتبسا في دار الاسلام لا يمكن الكافر من رده إلى دار الحرب فيتقوى به
على المسلمين.
وهو قياس ما لو كانوا عبيدا فأسلموا.
يوضحه أن هذا المال لو كان للخوارج لم يجز رده عليهم مع بقاء توهم
الاستعانة على (ص 251) قتال المسلمين، إن كانت منعتهم باقية. فكذلك لا يجوز
رده على أهل الحرب ليستعينوا به على قتال المسلمين، فإن منعة أهل الحرب باقية.
1303 - ولو أن الخوارج آمنوا تجارا دخلوا عسكرهم من أهل
الحرب، ثم استعاروا منهم كراعا أو سلاحا، أو أخذوا منهم غصبا،
ثم قتل رجل من الخوارج عليه ذلك السلاح بعد تنفيل الامام، فإن
سلبه لا يكون للقاتل.
لان بأمانهم صار هذا المال معصوما من الاغتنام، فإن أمانهم في ذلك
كأمان أهل العدل يبيعون ما أصابوا من ذلك ويقفون ثمنه حتى يجيئوا فيأخذوه.
1304 - وإن احتاج أهل العدل إلى أن يقاتلوا بشئ من ذلك
فلا بأس للامام أن يدفع إليهم ليقاتلوا به عند الحاجة.
لان هذا المال لو كان عنده للمسلمين جاز له أن يفعل ذلك عند
747

الحاجة (1). فإذا كان للمستأمنين فأولى. ولان المستأمنين حين أعاروهم
هذا المال ليقاتلوا به أهل العدل فقد رضوا بأن يكون هذا بمنزلة أموال
الخوارج في حقنا. ولو ظفرنا بأموال الخوارج جاز أن نفعل به (2) هذا،
فكذلك في أموال المستأمنين إذا كانوا هم الذين أعاروهم.
1305 - وإن كانوا أخذوا ذلك منهم غصبا فليس ينبغي لامام
أهل العدل أن يدفعه إلى أحد من أهل العدل ليقاتل به عند عدم
الضرورة.
لأنه لم يوجد من المستأمنين الرضا بأن يقاتل أحد بمالهم. والعصمة ثابتة
في أموالهم بسبب الأمان، بخلاف الأول، فقد رضوا هنالك بأن يقاتل بمالهم.
1306 - وعلى هذا لو استهلك بعض أهل العدل ذلك المال
هنا ضمنه للمستأمنين، وفى الفصل الأول لم يضمنه، كما لا يضمن مال
الخوارج.
وكذلك لا ينبغي لأمير أهل العدل أن يبيع هذا المال هنا، إلا
أن يخاف التلف عليه فيبيعه حينئذ.
لان عين المال محفوظ على المستأمنين كما هو محفوظ على المسلم.
فهذا بمنزلة مال لبعض أهل العدل في يده وصاحبه غائب، فيحفظ
عينه. إلا أن يتعذر ذلك فيبيعه ويحفظ ثمنه عليه.

(1) ه‍ " الحجة " خطأ.
(2) ه‍، ق " فيه ".
748

فإن تفرق الخوارج قبل أن يبيع الامام ذلك فإنه يرد المال في
الفصلين على أصحابه ليردوه إلى دار الحرب.
لان هذا بمنزلة مال الخوارج، وهناك يرد عليهم عين مالهم بعد ما تفرقوا.
ولأنهم أعطوا المال هنا إلى الخوارج بعد ما ثبتت العصمة فيها بالأمان،
فلا يحبس في دارنا، بمنزلة ما لو كان الأمان لهم من أهل العدل ثم أعاروا
الخوارج كراعهم وسلاحهم.
1307 - ولو أن الخوارج آمنوا قوما من أهل الحرب على أن
يقاتلوا معهم أهل العدل، فخرجوا فقاتلوا، أو لم يقاتلوا، حتى ظهر
أهل العدل عليهم، فليس يقع على أهل الحرب سبى ولا تكون
أموالهم غنيمة.
لانهم حين أعطوهم الأمان فقد ثبتت لهم العصمة في نفوسهم وأموالهم،
وبسبب القتال لا ينبذ (1) ذلك الأمان، لانهم قاتلوا بمنعة الخوارج. فكما
أن القتال من الخوارج لا يكون نقضا لأمانهم، فكذلك القتال من المستأمنين
معهم لا يكون نقضا للأمان، ولكن حكمهم كحكم الخوارج فيما يحل منهم
وما يحرم، وفى حكم التنفيل في السلب.
وهذا بخلاف ما سبق إذا قالوا لهم: اخرجوا فقاتلوا معنا، ولم
يذكروا الأمان.
لان أولئك لم تثبت لهم العصمة في نفوسهم وأموالهم. فإن انضمامهم إلى
الخوارج للقتال معنا لا يوجب ذلك.

(1) ب " ينتبذ ".
749

1308 - ولو أن الخوارج كانوا هم الداخلين عليهم في دار الحرب
(ص 252) فأمن القوم بعضهم بعضا، ثم ظهر عليهم أهل العدل. فإن كان
أهل الحرب في عزهم ومنعتهم فهم فئ، ومن قتل منهم قتيلا فله سلبه.
لانهم في عزهم ومنعتهم لا يكونون مستأمنين. وإنما الخوارج هم
المستأمنون إليهم. ولأنهم حين قاتلوا في منعتهم ودارهم فقد انتبذ الأمان الذي
كان بينا وبينهم، فكانوا أهل الحرب ظفرنا بهم.
1309 - وإن كانوا خرجوا إلى عسكر الخوارج بأمان، وكانوا
غير ممتنعين إلا بمنعة الخوارج فإنه لا يقع على أحد منهم سبي.
لانهم مستأمنون في منعة الخوارج، والمستأمن في عسكر المسلمين في
دار الحرب كالمستأمن في دار الاسلام في حكم العصمة. ولان الأمان لم ينبذ
بقتالهم حين لم يكونوا أهل منعة بأنفسهم.
1310 - ولو أن الخوارج طلبوا إلى تجار أهل الحرب مستأمنين
فيهم أن يعينوهم على أهل العدل، فأنعموا لهم (1)، وعلم ذلك أهل العدل
لم يحل لهم التعرض لهم بقتل ولا أخذ مال حتى ينصبوا الحرب
لأهل العدل.
لانهم مستأمنون، فحكمهم كحكم أهل الذمة. ولو أن أهل الذمة
قصدوا أن يقاتلوا المسلمين فما لم يظهروا ذلك لا يحل التعرض لهم، ولأنهم حين
أنعموا للخوارج كانوا بمنزلة الخوارج، والخوارج ما لم ينصبوا لقتال أهل
العدل لا يحل التعرض لهم في نفس أو مال.

(1) في هامش ق " أنعمت له بالألف قلت له نعم. مصباح ".
750

فإن قاتلوا فحكمهم كحكم الخوارج فيما يحل ويحرم.
لانهم قاتلوا تحت راية الخوارج، فلا ينتبذ أمانهم بذلك.
1311 - ولو كان أهل الحرب قالوا لمسلم: أنت آمن فادخل
إلينا. فدخل، لم يحل له أن يتعرض لشئ من أموالهم إن كان من أهل
العدل أو من الخوارج.
لأنه ضمن أن لا يتعرض لهم، وعليه الوفاء بما ضمن، لقوله عليه
السلام " وفاء لا غدر فيه ".
1312 - وكذلك إن لم يدخل إليهم حتى آمنهم وآمنوه، وهذا
أظهر من الأول في حقه.
لانهم في أمان صحيح من جهته.
إلا أن في هذا الفصل ليس لإمام المسلمين أن يعرض لهم بشئ،
ولا أخذ مال، حتى ينبذ إليهم. فإن فعل ذلك كان ضامنا لجميع
ما استهلك بخلاف الأول.
لان القوم هنا في أمان صحيح من جهة واحدة من المسلمين. فإنه آمنهم
وهو في منعة المسلمين، فصح أمانه. وفى الأول للامام أن يقاتلهم من غير
نبذ لأنه ما آمنهم المسلم، ولكنهم آمنوه. إلا أن من ضرورة كونه في أمانهم
أن لا يعرض (1) لهم كما لا يعرضون (2) له، وليس من ضرورته أن يكونوا
في أمان من المسلمين.

(1) ه‍ " يتعرض ".
(2) ه‍ " لا يتعرضون ".
751

1313 - ولو سأل الخوارج من أهل الحرب أن يعينوهم على
أهل العدل فقالوا: لا نعينكم إلا أن يكون الأمير منا، ويكون حكمنا
هو الجاري. ففعلوا ذلك، ثم ظهر عليهم أهل العدل، فأهل الحرب
وأموالهم فئ.
أما إذا كانت الخوارج لم يؤمنوهم فالجواب ظاهر. لانهم أهل
حرب لا أمان لهم.
وأما إذا كانوا أمنوهم حتى خرجوا فلأنهم نقضوا ذلك الأمان
حين قاتلوا أهل العدل لمنعتهم وتحت رايتهم، بخلاف ما تقدم. فهناك إنما
قاتلوا تحت راية الخوارج، وكان حكم الخوارج هو الجاري، فلم يكن
ذلك نقضا لأمانهم.
وأما أموال أهل البغي فهي مردودة عليهم إذا وضعت الحرب
أوزارها.
لان مال المسلم لا يكون غنيمة في دار الاسلام للمسلمين بحال.
1314 - وحكم تنفيل السلب على هذا. حتى إذا قتل خارجي
وعليه سلاح حربي فهو للقاتل.
لأنه لا عصمة في أموال أهل الحرب هنا.
فإن قتل حربي وعليه سلاح خارجي لم يكن للقاتل.
752

لأنه مال معصوم عن الاغتنام.
واستوضح هذا بما:
1315 - لو اجتمع قوم من المستأمنين في دار الاسلام فأمروا
عليهم أميرا، أو امتنعوا وقاتلوا المسلمين، فإنه يكون ذلك نقضا لأمانهم.
بخلاف ما إذا لم يكونوا أهل منعة ففعلوا ذلك، وحكمهم في هذا كحكم
أهل الذمة.
1316 - وكذلك إن كان أهل الحرب الذين دخلوا لإعانة
الخوارج قاتلوا أهل العدل من ناحية، وقاتلهم الخوارج من ناحية
أخرى. فإن كان أهل الحرب أميرهم منهم وهم ممتنعون بغير منعة
الخوارج فهم فئ إذا ظهرنا عليهم.
لانهم صاروا ناقضين للأمان باعتبار منعتهم.
وإن كانت منعتهم بالخوارج فحكمهم حكم الخوارج، وإن كان
أميرهم منهم.
لان التمكن من القتال بالمنعة لا بالأمير.
1317 - ولو أن عشرة من الخوارج لا منعة لهم آمنوا عشرة
من أهل الحرب على أن يخرجوا فيغيرون معهم، فهؤلاء إذا وقع الظهور
عليهم لا يجرى عليهم السبي. ولا تكون أموالهم غنيمة.
753

لانهم في أمان قوم من المسلمين، وما نقضوا ذلك الأمان بالإغارة
والقتال حين لم يكونوا أهل منعة.
ولكنهم يؤخذون بجميع ما استهلكوا من الأموال، ويقتلون
بمن قتلوه عمدا.
لانهم بمنزلة اللصوص حين لم يكن لهم منعة.
ألا ترى أن في حق الخوارج يثبت هذا الحكم باعتبار أنه لا منعة لهم
فكذلك في حق المستأمنين معهم.
1318 - ولو كانوا لم يؤمنوهم وإنما قالوا لهم: أخرجوا فأغيروا
معنا، والمسألة بحالها، فالجواب في حق الخوارج في هذا
والأول سواء.
وأما أهل الحرب فهم فئ وجميع ما معهم، ولا يقتلون بمن
قتلوا، ولا يضمنون ما استهلكوا، لانهم لا أمان لهم من جهة أحد
من المسلمين ولكنهم لصوص من أهل الحرب، ولصوص أهل
الحرب لا فرق بين أن يقع الظهور عليهم في دار الاسلام وبين أن يقع
في دار الحرب في هذا الحكم.
وعلى هذا يبتنى حكم التنفيل في السلب، فإن أموالهم لما كانت فيئا
كان للقاتل منهم السلب بالتنفيل.
فصار الحاصل أن المستأمنين من جهة الخوارج والمستأمنين من جهة
754

أهل العدل سواء في حكم التلصص وقطع الطريق، وفيما يكون نقضا للعهد (1)
إذا كانوا أهل منعة حين قاتلوا.
1319 - ولو أن الخوارج صالحوا أهل الحرب ووادعوهم ثم
دخل رجل منهم إلى أهل العدل بغير أمان كان آمنا بتلك الموادعة.
لانهم بمنزلة أهل العدل في الموادعة مع أهل الحرب.
ألا ترى أن في عقد الذمة وإعطاء الأمان هم بمنزلتهم؟ فكذلك في
الموادعة.
1320 - ولا ينبغي لأهل العدل أن يقاتلوهم حتى ينبذوا إليهم.
كما لو كانت الموادعة من جهتهم. فإن استعان بهم الخوارج فخرجوا
وقاتلوا معهم أهل العدل فوقع الظهور عليهم لم يسب أحد منهم.
لان تلك الموادعة كانت بمنزلة إعطاء الأمان لهم. وقد بينا أن من يكون
في أمان من الخوارج إذا قاتل أهل العدل تحت راية الخوارج لم يكن ذلك
نقضا للأمان. فهؤلاء كذلك. وحالهم كحال الخوارج فيما يحل ويحرم منهم
ومن أموالهم.
1321 - وإن كانوا خرجوا على أن يكون (ص 254) الأمير
من أهل الحرب يحكم فيهم بحكم أهل الشرك، والمسألة بحالها، ثم وقع
الظهور عليهم فهم فئ.
لانهم صاروا ناقضين لتلك الموادعة حين قاتلوا بمنعتهم أهل العدل.
وحكم التنفيل في السلب على هذا يخرج في الفصلين.

(1) ق " وفيما كان نقضا للعهد " وفى الهامش " وفيما يكون نقضا منهم. نسخة حصيري ".
755

1322 - وكذلك إن كانوا خرجوا هم من ناحية ليقاتلوا أهل
العدل، والخوارج من ناحية أخرى. فإن كان أمير أهل الحرب منهم
فهم فئ.
لانهم قاتلوا تحت رايتهم بمنعتهم.
وإن كان الخوارج بعثوا إليهم أميرا منهم فحكمهم كحكم الخوارج (1).
لانهم قاتلوا تحت راية الخوارج.
1323 - ولو خرج من الموادعين قوم لا منعة لهم فأغاروا في
دار الاسلام، فوقع الظهور عليهم، فهم بمنزلة اللصوص في حكم الضمان
والقصاص.
لانهم ما قاتلوا عن منعة لهم، فلا يكون ذلك نقضا منهم للموادعة.
1324 - ولو أن قوما من أهل الحرب أمنهم واحد من
المسلمين، ثم نبذ الامام إليهم، فآمنهم ذلك المسلم أيضا فهم آمنون.
لان المعنى الذي لأجله صح أمان المسلم في المرة الأولى موجود في المرة
الثانية.
1325 - فإن قال لهم الأمير: إن هذا قد آمنكم غير مرة فلا
تلتفتوا إلى أمانه، فإنه كلما آمنكم فقد نبذنا إليكم، كان ذلك
صحيحا منه.

(1) ب " كحكمهم "
756

لان نبذ الأمان تأثيره في إطلاق الأمان والاستغنام، فيجوز تعليقه
بالشرط كالطلاق. ولان النبذ يحتاج إليه لنفى الغرور، وذلك يحصل بالنبذ
بهذه الصفة.
1326 - ولو أن مسلما آمن حربيا فكره الامام مقامه في دار
الاسلام فإنه يتقدم إليه في الخروج.
ولان للامام ولاية النبذ بعد صحة الأمان، فلا يكون ذلك إلا بعد أن
يبلغه مأمنه، فيتقدم إليه في الخروج، ويجعل له من المهلة ما يتمكن فيها من
الخروج بغير ضرر، بمنزلة المستأمن إذا طال المقام في دارنا. وقد تقدم
بيان الحكم فيه.
1327 - ولو قال الامام لحربي لا تدخل دارنا بأمان فلان فإنك
إن دخلت بأمانه فأنت فئ، ثم دخل بأمانه لم يكن فيئا.
لان حجر المسلم عن إعطاء الأمان باطل، فإنه لا تنعدم بحجره العلة
المصححة لأمانه، فيكون حجره إبطالا لحكم الشرع. ولا يمكن جعل كلامه
نبذا لأمان وهو في دارنا. لان نبذ الأمان بعد إعطاء الأمان لا يصح ما لم يبلغ
مأمنه، فكذلك قبل إعطاء الأمان. وبه فارق الموادعين، لان أولئك في
منعتهم، ونبذ الأمان صحيح لو حصل منه بعد الأمان، فكذلك قبله. فأما
هذا في دارنا فلا يملك أحد نبذ أمانه ما لم يبلغ مأمنه. والامام وغيره فيه سواء.
1328 - ولو قال الامام لأهل الحرب: من دخل منكم دارنا
بأمان فلان فهو ذمة لنا. فدخل رجل قد علم تلك المقالة بأمان فلان.
فهو ذمة، ولا يترك يرجع إلى دار الحرب.
757

لان دخوله بعد العلم بمقالة الأمير دلالة الرضا بقبول الذمة، والدلالة في
هذا كالصريح. بمنزلة مقام الذمي الذي يقدم إليه الامام في دارنا بعد مضى المدة.
وهذا بخلاف قوله فهو فئ.
لان ذلك نبذ الأمان، فلا يصح إذا لم يكن في منعته، وهذا تأكيد للأمن
الثابت بذلك الأمان وليس نبذ.
1329 - وعلى هذا لو قال للمحصورين: إن آمنكم فلان فقد
نبذت إليكم، فخذوا حذركم. ثم آمنهم فلان، كان ما تقدم نبذا صحيحا
وحل به قتالهم.
لانهم في منعتهم.
1330 - ولو قال: من خرج منكم بأمان فلان فهو فئ، أو فقد
حل دمه. فخرج (ص 255) رجل فهو آمن.
لان النبذ إليه وهو في منعتنا باطل.
1331 - ولو قال: من خرج منكم بأمان فلان فهو ذمة لنا.
فهذا صحيح.
لأنه ليس فيه نبذ الأمان، إنما فيه تقرير حكم الامن. فكونه في منعتنا
لا يمنع منه. والله أعلم (1).

(1 ه‍، ق " وال الموفق ".
758

84 باب من نفل الخيل ما يكون على العراب (1) دون البراذين
1332 - وإذا قال الأمير من قتل قتيلا فله فرسه، فقتل مسلم
رجلا من المشركين، وله فرس مع غلامه. فإنه لا يستحق فرسه.
لان إيجاب فرس القتيل له من أبين الدلائل على أن مراده قتل من هو
فارس في حال ما يقتله. وهذا لم يكن فارسا في حال ما قتله بالفرس الذي
مع غلامه. والغلام ليس بحاضر عنده.
ألا ترى لو قتل آخر الغلام وهو على ذلك الفرس استحق الفرس بقتله؟ فعرفنا أن الأول إنما قتل راجلا لا فارسا.
ولان الامام خص الفرس من بين سائر الأشياء الذي يعلم أن الحربي
حمله مع نفسه، ولا فائدة في هذا التخصص سوى أن يكون مراده الفرس
الذي بقاتل عليه، وأنه كان قصده التحريض على قتل فرسانهم لتنكسر به
شوكتهم.
1333 - وإن كان قد نزل عن فرسه وهو معه يقوده في القتال
فله فرسه.
لأنه فارس بما معه من الفرس. فإنه يتمكن من القتال عليه في الحال. وإنما كان نزوله لزيادة جد في الحرب، أو لضيق الطريق، أو كثرة الزحام.
فلا يخرج به من أن يكون فارسا حين قتل.

(1) ه‍ " الاعراب " ص " العرب ".
759

1334 - ولو قتل رجلا على برذون أو برذونة فله ذلك.
لأنه فارس، سواء كان على برذون أو فرس أو عربي.
ألا ترى أن مثله من المسلمين يستحق سهم الفرسان؟ فإن قيل: هذا فيما إذا كان الفرس مع غلامه في المعسكر موجودا.
قلنا: لا كذلك، فإن في حق المسلمين، غلامه بهذا الفرس، لا يستحق
سهم الفرسان، فيتمكن أن يجعل هو فارسا به. وهنا في حكم التنفيل غلامه
فارس بهذا الفرس فلا يكون هو فارسا به.
1335 - ولو قتل رجلا على بغل أو حمار أو بعير لم يكن له.
لأنه غير فارس بهذا المركوب، ولان اسم الفرس لا يتناوله بحال.
1336 - ولو قال: من قتل قتيلا فله فرسه. فقتل راجلا أو فارسا
فله من الغنيمة فرس عربي وسط، أو قيمته. ولا يكون له برذون.
لأنه أطلق اسم الفرس فيما أوجبه نفلا له. ومطلقه يتناول العربي
خاصة، وبمطلق التسمية يستحق الوسط عن عين المسمى، أو قيمته. بخلاف
ما سبق. فقد أضاف الفرس هنا إلى القتيل بحرف الهاء، وبه يتبين أن مراده
ما يكون القتيل فارسا به، وذلك يعم البرذون والفرس العربي.
1337 - وعلى هذا لو قال: من دخل من باب المدينة على فرسه
أو من قاتل على فرسه فله مئة درهم. فهذا على العراب (1) والبراذين
جميعا.

(1) ق " العربي " وفى الهامش " العراب. نسخة حصر ".
760

ولو قال: على فرس فهو على العراب خاصة. وكذلك لو قال: من نزل عن فرسه فقاتل راجلا فله مئة. فهذا
على العراب والبراذين.
ولو قال: على فرس، ففي القياس لا يستحق النفل إلا من نزل
عن فرس عربي.
لأنه أطلق اسم الفرس فلا يتناول إلا العربي، كما في الفصول المتقدمة
وفى الاستحسان كل من نزل عن برذون أو فرس عربي فقاتل
راجلا فله نفله.
لان مقصود الأمير هنا التحريص على مباشرة القتال راجلا.
ألا ترى أن من نزل عن فرس عربي ولم يقاتل (ص 256) لا يستحق
النفل؟ وفيما هو المقصود لا فرق بين أن ينزل عن برذون أو عن فرس عربي.
ولأنه وإن أطلق الفرس فقد علمنا أن المراد فرسه، إذ الانسان ينزل
عن فرسه لا عن فرس غيره. فكان هذا وقوله: عن فرسه، سواء. واسم
البرذون في التنفيل يتناول الذكر والأنثى، ولا يتناول الفرس العربي بحال.
لان هذا اسم نوع خاص من الخيل، فلا يتناول نوعا آخر. بمنزلة ما لو قال:
من قتل رجلا على فرس عربي. فإن ذلك على الذكر والأنثى من ذلك النوع
خاصة، دون البراذين. بخلاف الفرس، فإنه يستعمل في البراذين وفرس
العرب جميعا كالخيل.
وإن كان الاسم حقيقة في العربي فعند الاطلاق يحمل على الحقيقة،
761

وعند الإضافة يعتبر عرف الاستعمال. والفرس الشهري (1) من نوع البراذين
دون العراب.
1338 - ولو قال: من قتل قتيلا فله دابته. فاسم الدابة يتناول
الخيل والبغال والحمير كما قال تعالى (لتركبوها وزينة) (2).
ولهذا لو حلف لا يركب دابة يتناول الاسم هذه الأشياء الثلاثة.
1339 - وإن قتل رجلا على بعير أو ثور لم يكن له ذلك، إلا
أن يكونوا قوما دوابهم الإبل والثيران. فباعتبار الحال يصير معلوما
أن مراد الامام ذلك.
والكلام يتقيد بدلالة الحال. واسم البغل في التنفيل يتناول الذكر والأنثى،
وكذلك اسم البغلة. لان الهاء تستعمل فيه لعلامة الوحدان لا لعلامة التأنيث،
كاسم البقرة، يتناول الذكر والأنثى. واسم الحمار والبعير يتناول الذكر
والأنثى جميعا. فأما اسم الأتان فلا يتناول إلا الأنثى، وكذلك اسم حمارة،
لأنه لا تستعمل الهاء هنا إلا لعلامة التأنيث. واسم الجمل والبعير يتناول الذكر
والأنثى أيضا. فأما اسم الناقة فلا يتناول إلا الأنثى خاصة. وقد بينا هذا
في الجامع.
1340 - ولو قال: من قتل فارسا فله دابته. فقتل رجلا على
حمار أو بغل أو بعير لم يكن له شئ.

(1) في هامش ق " والشهرية (بكسر الشين) البراذين. وجمعها الشهاري. مغرب ".
(2) سورة النحل، 16، الآية 8. وفي ه‍ " كما قال تعالى: والخيل والبغال والحمير
لتركبوها وزينة ".
762

لأنه ما كان فارسا بدابته، وإنما شرط الاستحقاق أن يقتل فارسا.
1341 - ولو قتل رجلا على برذون ذكر أو أنثى، استحق
دابته.
لأنه فارس بدابته.
763

85 باب من يكون له النفل ومن لا يكون
1342 - وإذا قال: من قتل قتيلا فله سلبه. فالقياس أن يكون
السلب للقاتل، واحدا كان أو اثنين أو ثلاثة أو أكثر من ذلك.
لان " من " من أسماء العموم، فيتناول المخاطبين (1) على سبيل الاجتماع
والانفراد جميعا.
1343 - ولكن الاخذ بالقياس في هذا قبيح.
إذ يؤدى إلى القول بأن العسكر كلهم لو اجتمعوا على قتل رجل
واحد استحقوا سلبه. وقد علمنا أن الامام لم يرد ذلك بالتنفيل.
لان معنى التحريض يفوت به.
ولكن للاستحسان فيه وجوه.
أحدها أنه إن قتله رجل أو رجلان فلهما السلب. وإن قتله ثلاثة
لم يكن لهم سلبه.
لان الثلاثة أدنى الجمع المتفق عليه. فإن الكلام وحدان وتثنية وجمع.
فبه يبين أن الجمع غير التثنية. ثم أدنى الجمع المتفق عليه كأعلى الجمع. ومراد
الامام بهذا تحريض الآحاد على القتال لا تحريض الجماعة. ولأنه يجوز للمسلم

(1) في هامش ق " المخاطب. نسخة حصر ".
764

أن يفر من الثلاثة ولا يحل له أن يفر من الواحد ولا من الاثنين. قال تعالى
(وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله) (1) فبه تبين الفرق بين الاثنين
والثلاثة، وأن حكم الاثنين كحكم الواحد. ولكن هذا إذا كان معه السلاح،
وهو يطمع (ص 257) في أن ينتصف من اثنين. فأما إذا لم يكن معه سلاح
ولا يطمع في أن ينتصف منهما فلا بأس بأن ينحاز (2) إلى فئة ولا يلقى بيده
إلى التهلكة.
والوجه الثاني للاستحسان أنه إن قتله قوم لا منعة لهم من
المسلمين فلهم السلب. وإن قتله قوم لهم منعة لم يكن لهم السلب.
لان الذين لا منعة لهم حكمهم حكم الواحد.
ألا ترى أنهم لو دخلوا دار الحرب على وجه التلصص لم يخمس
ما أصابوا، بخلاف ما إذا كانوا أهل منعة في حكم التنفيل، لأنه بصحة
التنفيل فيه يبطل حق أرباب الخمس عنه.
والوجه الثالث أنه إن قتله قوم يرى الامام والمسلمون أن ذلك
القتيل كان ينتصف منهم لو خلى بينه وبينهم فلهم سلبه، وإن كان
لا ينتصف منهم لم يكن لهم سلبه.
لان المقصود التحريض وإنما يتحقق معنى التحريض على قتل من ينتصف
منهم دون من لا ينتصف.
قال: وكل هذا واسع إن أمضاه الامام ورآه عدلا.
وليس مراده أن كل هذا حق، وإنما مراده أن كل هذا طريق الاجتهاد.

(1) سورة الأنفال، 8، الآية 66.
(2) في حاشية ه‍ " من الحوز كما في القرآن " أو متحيزا إلى فئة " أي مائلا إلى جماعة مسلمين
سوى التي فر منها. المغرب ".
765

وهو نظير قول ابن مسعود رضي الله عنه، فيما صنع مسروق وجندب:
" كلا كما أصاب "، يعنى طريق الاجتهاد.
قال: وأحسن الوجوه عندي وأقربها من الحق الوجه الأخير.
لان فيه تحقيق ما هو المقصود بالتنفيل وهو التحريض.
ألا ترى أنهم لو انتهوا إلى مطمورة (1) فقال الأمير: من ناهضها
أي قام بأخذها فله ما فيها بعد الخمس. ففعل ذلك جماعة منهم فإن كان
ينتصف منهم أهل المطمورة استحقوا النفل، وإن اجتمع على المطمورة
من العسكر من يعلم أن أهل المطمورة لا ينتصفون منهم لم يكن
لهم النفل.
لمراعاة التحريض.
1344 - ولو قتل رجل قتيلين أو أكثر بضربة واحدة فله
سلبهم جميعا، كما لو قتلهم بضربات مختلفة.
لان كلمة " من " عامة، فيتعمم به المقتولون أيضا.
1345 - وإذا دخل الأمير مع العسكر أرض الحرب فقال لهم
قبل أن يلقوا قتالا: من قتل منكم قتيلا فله سلبه. فهذا جائز. ويبقى
حكم هذا التنفيل إلى أن يخرجوا من دار الحرب.

(1) في هامش ق " وعن ابن دريد: بنى فلان مطمورة إذا بنى دارا في الأرض أو بيتا. "
وهذا الذي أراده محمد رحمه الله في السير. مغرب ".
766

لان المقصود (1) تحريضهم على الامعان والطلب، فيتقيد مطلق كلامه
بهذا المقصود.
1346 - حتى إذا انتهى مسلم إلى مشرك نائم أو غافل في عمله
فقتله، فله سلبه. بمنزلة ما لو لقوا العدو فقتله في الصف أو بعد
ما انهزموا.
لان تنفيل الامام عم المقتولين على أي حال كانوا بعد أن يكونوا بحيث
يحل قتلهم.
1347 - وكذلك عم القاتلين ممن يكون لهم سهم في الغنيمة أو
رضخ، كالنساء والصبيان والعبيد.
فأما إذا قال الأمير هذه المقالة بعد ما اصطفوا للقتال فهذا على
ذلك القتال حتى ينقضي.
لان الحال دليل عليه. وهذا لأنه لما أخر الكلام إلى أن حضر القتال،
فقد علمنا أن مقصوده التحريض على ذلك القتال بخلاف الأول، فهناك إنما
تكلم به حين دخلوا دار الحرب، فعرفنا أن مراده التحريض على الجد في الدخول
والطلب.
ثم إن بقوا في ذلك القتال أياما فحكم ذلك التنفيل باق.
1348 - وكذلك إن دخل المنهزمون حصنهم فتحصنوا فيه
وأقام المسلمون يقاتلونهم فقتل رجل قتيلا فله سلبه.

(1) في هامش ق " مقصوده. نسخة ".
767

لان ذلك القتال باق إذا لم يتركوه حينا، ولا حصل مقصودهم به،
وهو تمام القهر.
1349 - وإن لم يتبعهم (ص 258) المسلمون بعد ما انهزموا
حتى لحقوا بحصونهم، ثم مروا بعد ذلك بحصونهم فقتل مسلم رجلا
ممن كان انهزم منهم أو من غيرهم لم يكن له سلبه.
لانهم حين تركوا أتباعهم فقد انقضت تلك الحرب حقيقة وحكما،
والتنفيل كان مقيدا بها.
1350 - ولو كانوا على إثرهم فمروا بحصن آخر، فقتل رجل منهم
قتيلا، لم يكن له سلبه.
1350 - لان النفل كان على الحرب الأولى (1)، وهي ما كان بينهم وبين
أهل هذا الحصن. إنما كانت بينهم وبين الذين حضروا. فهذا إنشاء حرب
أخرى (2) لم يكن التنفيل متناولا لها.
1351 - ولو أن أصحاب الحرب الأولى انهزموا، فدخلوا
حصنا آخر، والمسلمون في إثرهم. فإن كان الغالب في هذا الحصن غير
المنهزمين، والمنعة منعتهم، ثم قتل مسلم قتيلا، لم يستحق سلبه.
سواء كان المقتول من المنهزمين أو من غيرهم.
لان هذه حرب سوى الأولى.

(1) ه‍ الأول " خطأ.
(2) ه‍ " آخر " خطأ.
768

1352 - وإن كان عظم (1) القوم الذين انهزموا من المسلمين،
والمنعة لهم، فحكم ذلك التنفيل باق، وأهل الحصن الثاني بمنزلة
مدد لحقهم. فتبقى الحرب الأولى. ومن قتل من المنهزمين أو من غيرهم
فله سلبه.
وهذا لما بينا أن الحكم للمنعة والغلبة.
1353 - ولو جاء ملكهم الأعظم بجنده فانحاز إليه الذين كانوا
يقاتلون المسلمين ثم قتل مسلم منهم قتيلا لم يكن له سلبه.
لان هذه منعة أخرى، والتنفيل كان مقيدا بالحرب الأولى، فبعد ما حدث
لهم منعة أخرى تكون الحرب غير الأولى.
1354 - فإذا لم يجدد الامام تنفيلا لم يستحق القاتل السلب.
وإن جدد الامام التنفيل فسمعه بعض الناس دون البعض، فكل من
قتل قتيلا استحق سلبه. الذي سمع والذي لم يسمع فيه سواء.
لان هذا محض منفعة في حق القاتلين. ولان كلام الامام لما اشتهر
في الناس فذلك بمنزلة الواصل إلى جماعتهم في الحكم (2).

(1) أي معظمهم. وفى ه‍، ب " عظيم " خطأ.
(2) ب، ه‍ " والله الموفق " ق " والله أعلم ". ولا شئ في الأصل.
769

86 - باب من النفل (1) على الدلالة
من المسلمين وأهل الحرب الاسراء (2)
1355 - وإذا قال الأمير: من دلنا من المسلمين على عشرة من
الرقيق فله رأس. فدلهم رجل بكلام ولم يذهب معهم. فذهبوا إلى
ذلك الموضع وجاءوا بالرقيق كما قال. فلا شئ ء له من النفل.
وكان ينبغي في القياس أن يستحق النفل.
لأنه شرط عليه الدلالة وقد فعل.
ألا ترى أن الدلالة على الصيد من المحرم بهذه الصفة يلزمه الجزاء؟
ولكنه استحسن فقال:
1356 - استحقاق النفل يكون بالعمل لا بمجرد الكلام.
والمقصود به التحريض. وإنما يكون التحريض على عمل هو من جنس
الجهاد والقتال. وبمجرد وصف الموضع بكلامه لا يحصل ذلك العمل
إذا لم يذهب معهم، فلا يستحق النفل.

(1) ق " التنفيل ".
(2) ب " المسلم ".
770

ولو آمنوا حربيا على أن يدلهم على مثله، فدلهم بكلامه فهو دال. (1)
أرأيت لو كان المسلم في منزلة بالكوفة أو الشام فقال: إن
دللتكم على عشرة أرؤس في موضع من دار الحرب قد مررت بهم
أتجعلون لي رأسا؟ فقالوا: نعم. فدلهم ولم يذهب معهم، أكان يستحق
النفل؟ فكذلك إذا دلهم وهو في دار الحرب، فهو شريكهم بسهم
في الغنيمة، إلا أنه إذا ذهب معهم في دار الحرب فهو شريكهم بسهمة
في الغنيمة، بمنزلة ما لو لم تسبق الدلالة والتنفيل.
ولو ذهب معهم حتى دلهم على عشرة أرؤس فله منهم رأس.
لأنه باشر عملا يجوز أن يستحق النفل به وهو الذهاب. وإنما يعطيه رأسا
وسطا.
1357 - وكذلك لو دل على مئة رأس بهذه الصفة فله من كل
عشرة رأس وسط.
ولو دلهم على خمسة كان له نصف واحد من أوساطهم.
لأنه أوجب له ذلك بمقابلة عمل فيه منفعة للمسلمين، فيكون هذا بمنزلة
قوله: من جاء بعشرة أرؤس (ص 259) فله رأس. وقد تقدم بيان هذا
الفصل.
1358 - ولو أسر الأمير أسراء من أهل الحرب فقال: من

(1) الزيادة من ه‍، ق ولا توجد في أصلنا، ولا في ب.
771

دلنا منكم على عشرة أرؤس فهو حر. فدلهم رجل بكلام ولم يذهب
معهم، فوجدوا الامر كما وصف لهم، فهو حر.
لان هذا تعليق عتقه بالشرط، فيراعى وجود الشرط فيه حقيقة.
وبالدلالة بالوصف يتم الشرط (1) حقيقة. وهذا لان الامام ما أوجب له
هنا شيئا لا يستحق إلا بعمل، فلا حاجة بنا إلى ترك حقيقة الدلالة هنا،
بخلاف الأول فقد أوجب له هناك نفلا لا يستحق إلا بالعمل، فلأجله تركنا
حقيقة لفظ الدلالة، وحملناه على نوع من المجاز.
1359 - ثم لا يترك هذا الأسير يرجع إلى داره، ولكنه
يخرج إلى دارنا ليكون ذمة لنا.
لأنه بالأسر قد احتبس عندنا. وإنما أوجب له بالدلالة الحرية،
وليس من ضرورته التمكن من الرجوع إلى داره.
1360 - ويستوي في هذا الحكم إن ذهب معهم أو لم يذهب.
إلا أن يقول: إن دللتكم فأنا حر وتدعوني أرجع إلى بلادي.
فحينئذ يوفى له بالشرط، ويمكن من الرجوع إلى بلده إن أحب.
لان هذه بمنزلة صلح جرى بين الامام وبينه، وفى الصلح يجب الوفاء
بالشرط (2).
1361 - إلا أنه لا ينبغي للأمير أن يفعل هذا إلا أن يكون فيه
حظ للمسلمين.

(1) ه‍ " المشروط ".
(2) ه‍، ب " بالمشروط ".
(3) في هامش ق " نفع. نسخة ".
772

لأنه نصب ناظرا، فلا يدع الأسير ليعود حربا لنا إلا بمنفعة عظيمة للمسلمين.
نحو أن يقول: أدلكم على مئة من بطارقتهم، فذروني أرجع
إلى بلادي. فيعلم أن حظ المسلمين فيما يدل عليه أكثر من حظهم في
أسره. فحينئذ لا بأس بإجابته إلى ذلك. وإن دلهم الأسير على تسعة
وذهب معهم أو لم يذهب لم يكن له شئ من رقبته.
لان عتقه هنا باعتبار الشرط، والشرط يقابل المشروط جملة. فما لم يأت
بكمال الشرط لا يستحق العتق. أو هذا صلح من رقبته على شرط التزمه،
فما لم يأت بذلك الشرط بكماله لم يتم الصلح ولا يستحق شيئا مما وقع الصلح
عليه. بخلاف المسلم. فإن استحقاقه للنفل كان باعتبار عمل فيه منفعة للمسلمين.
فيقدر ما يحصل من المنفعة بعمله يستحق النفل.
1362 - وكذلك لو كان الأمير قال للأسير: إن دللتنا على عشرة
فأنت آمن من أن نقتلك. فدل على تسعة، كان له أن يقتله.
لأنه علق الأمان له بالشرط، فما لم يتم الشرط لا يستفيد الامن.
1363 - وكذلك لو أن أهل حصن نزل عليهم المسلمون قالوا:
إن دللناكم على عشرة من البطارقة أتؤمنوننا وترجعون عنا؟ فقالوا:
نعم. فدلوهم على خمسة أو على تسعة، فليسوا بآمنين. وليس على
المسلمين أن يرجعوا عنهم.
لان الشرط لم يتم، فلا (1) ينزل شئ من الجزاء.

(1) ص " فلم ".
773

1364 - ولو قالوا للمسلمين: نعطيكم مئة من الرؤس، أو ألف
دينار على أن تؤمنونا وترجعوا عنا عامكم هذا. ثم أعطوا بعض المال،
فللمسلمين أن يقاتلوهم.
لان الأمان تعلق بأداء جميع المال، فلا يثبت بأداء بعض المال.
ولكن إن أرادوا قتالهم فليردوا عليهم ما أخذوا، ثم ينابذوهم
للتحرز عن الغدر ودفع الضرر عنهم. فإنهم إنما أعطوا مالهم على سبيل
الدفع عن نفوسهم. وهذا بخلاف ما سبق من الدلالة على عشرة من
البطارقة. فإنه هناك إن دلوا على بعضهم فلنا أن نقاتلهم من غير رد
شئ عليهم.
لأنا ما تملكنا عليهم شيئا من المال بمقابلة ما وعدنا لهم من الأمان.
ولو قاتلناهم من غير رد شئ لا يؤدى إلى الاضرار بهم بطريق إهدار ملكهم.
وهاهنا تملكنا المال بمقابلة ما شرطنا لهم، فيجب الرد عليهم إذا لم يحصل لهم منفعة
الأمان به.
1365 - وإن أبى الامام أن يرد عليهم (ص 260) فليرجع عنهم
ولا يقاتلهم، إظهار للمسامحة وإتماما للوفاء بالشرط. وإن هلك
بعض السبي المأخوذ منهم ثم أردنا قتالهم فلا بد من رد ما بقى من السبي
وقيمة من هلك منهم.
لان المقصود بالرد دفع الضرر والخسران عنهم، والتحرز عن الغدر.
وذلك يحصل برد القيمة عند تعذر رد العين، كما يحصل برد العين.
774

1366 - ولو صالحوهم على مئة رأس على أن يؤمنوهم سنتهم هذه
وينصرفوا عنهم، ثم رأوا أن النظر لهم في قتالهم فليردوا المال ثم ينبذوا
إليهم وهم في منعتهم.
لأنه مع بقائهم حربا لنا لا يحرم قتالهم لاعزاز الدين، وإنما يحرم الغدر.
وبالنبذ إليهم، وهم في منعتهم، ينتفى معنى الغدر. ولكن المال مأخوذ منهم
بطريق الجعل. فإذا لم يسلم لهم المشروط وجب رده عليهم. بمنزلة العوض
يجب رده إذا لم يسلم المعوض.
1367 - فإن كان أسلم السبي فليرد عليهم قيمتهم لأنه تعذر رد
عينهم بعد ما أسلموا.
لان تمليك المسلم من الحربي لا يحل، فصار كما لو تعذر ردهم بالهلاك.
1368 - ولو كانوا لم يقبضوا منهم المال حتى بدا لهم أن ينبذوا
إليهم فلا بأس بذلك.
لانهم يختارون ما فيه النظر للمسلمين، والحال فيما يرجع إلى النظر
يتبدل ساعة فساعة. فكما أنه لو كان النظر في الابتداء في القتال لم يميلوا إلى
الصلح فكذلك إذا صار النظر في القتال كان لهم أن ينقضوا الصلح.
ألا ترى أنه لو وادعهم على أن يؤدوا إليه كل سنة مئة رأس من
رقيقهم، ثم بدا له بعد مضي سنة أو سنتين أن يقاتلهم لأنه رأى
بالمسلمين قوة فلا بأس بأن ينبذ إليهم.
1369 - ولو وادعهم على أن يعطوهم مئة من أسراء المسلمين
775

ليرجعوا عنهم عامهم هذا فأعطوهم تسعين، فلا بأس بالنبذ إليهم
وقتالهم، لانعدام تمام الشرط الذي علق الأمان به، ولا يرد عليهم
شئ من المأخوذ.
لان الأحرار من الاسراء ما كانوا في ملكهم قط، ولا تملكناهم عليهم
بطريق الجعل، فلا يكون في الامتناع من الرد معنى الاضرار بهم، وإنما فيه
كف عن الظلم.
1370 - وكذلك إن أعطوا ذلك من مدبرين، أو مكاتبين،
أو أمهات، أو أولاد كانوا للمسلمين أسرى في أيديهم.
لانهم لم يتملكوا شيئا من ذلك فإن ثبوت حق العتق في المحل، كثبوت
حقيقة العتق في إخراجه من أن يكون محلا للتملك بالقهر. ولكنا نردهم على
مواليهم بغير شئ.
1371 - وإن أعطوا ذلك من عبيد مسلمين كانوا أسرى في
أيديهم رد عليهم قيمتهم.
لانهم كانوا تملكوا العبيد بالاحراز، ثم تملكنا عليهم بطريق الجعل، فيجب ردهم إذا لم يسلم لهم المشروط. ولكن يتعذر رد عينهم لاسلامهم فيجب
رد قيمتهم.
1372 - وإن ردوا المئة كما شرطوا ممن لا يملكونهم من الاسراء
فللامام أن يقاتلهم بعد النبذ إليهم من غير رد شئ عليهم.
لانهم لم نتملك عليهم شيئا كانوا يملكونه
776

ولكن الأفضل له أن يفي لهم (1).
كما وفوا له بالمشروط، ليطمئنوا إليه فيما يستقبل. فإنه إن لم يفعل
لم يركنوا إلى مثل ذلك في المستقبل، بناء على ما عندهم أن هذا غدر في تخليص
الأسارى من أيديهم، وإن لم يكن غدرا في الحقيقة.
1373 - وإن انصرف عنهم بعد ما أخذ المشروط منهم، فإن
كانوا أحرارا خلى سبيلهم، وإن كانوا مدبرين ردهم على الموالى بغير
قيمة، وإن كان عبيدا فإن وجدهم الموالى قبل (ص 261) القسمة
والبيع أخذوهم بغير شئ، وإن وجدوهم بعد القسمة أو البيع أخذوهم
بالقيمة أو الثمن إن أحبوا.
لان التمليك عليهم بطريق الجعل بمنزلة التملك بطريق القهر، ألا ترى
أن المأخوذ فئ يجب قسمته بينهم في الوجهين.
1374 - ولو قال الأمير للأسراء: من دلنا على عشرة من المقاتلة
فهو حر. فدلهم أسير على عشرة ممتنعين في قلعة لا يقدر عليهم،
لم يكن حرا.
لأنا علمنا أنه لم يكن هذا مقصود الامام، وإنما كان مقصوده دلالة
فيها منفعة للمسلمين، ولم يحصل.
فإن قيل: إنما يعتبر ظاهر كلامه وهو قوله عشرة من المقاتلة، والمقاتل
من يكون ممتنعا.
قلنا: نعم. ولكن مقصوده دلالة يستفيد بها علما لم يكن حاصلا له

(1) ه‍ " يفئ ذلك لهم "
777

قبل الدلالة، وذلك لا يحصل بهذه الدلالة، فكم من عشرة مقاتلة لا يقدر
عليهم يعلمهم (1) الأمير والمسلمون في دار الحرب. فعرفنا بهذا أن مراده
الدلالة على عشرة يتمكنون من أخذهم.
1375 - فإن دلهم على عشرة غير ممتنعين إلا أنهم دروا بهم
فهربوا، فإن كانوا هربوا قبل وصول المسلمين إلى موضع يقدرون على
أخذهم فليست هذه أيضا بدلالة.
لان ما هو المقصود وهو التمكن من الاخذ لم يحصل بها.
1376 - وإن كانوا قد قدروا على أخذهم ففرطوا في ذلك حتى
هربوا فالأسير حر.
لأنه قد أتى بالمشروط عليه من الدلالة وهو التمكن (2) من أخذ العشرة.
فالتفريط الذي يكون منا بعد ذلك لا يكون محسوبا عليه.
1377 - وإن دل على العشرة في موضع فقاتلوا حتى نجوا فليست
هذه بدلالة.
لأنه إنما دل على قوم ممتنعين، إذ لا فرق بين أن يكون امتناعهم بقوة
أنفسهم أو بحصن كانوا فيه.
إلا أن يكونوا إنما نجوا لتفريط من المسلمين في أخذهم بعد
القدرة عليهم، فحينئذ يكون للدال ما شرط له.

(1) ه‍ " بعلمهم ".
(2) ه‍ " التمكين " وفى هامش ق " التمكين. نسخة ".
778

1378 - وإن قاتل العشرة التي دل عليهم المسلمون فقتلوا بعضهم
ثم ظفر المسلمون بهم فالأسير حر.
لانهم إنما تمكنوا من أخذهم وأسرهم بدلالته.
1379 - وإن لم يتمكن المسلمون من أسرهم ولكن قاتلوهم
حتى قتلوا فليست هذه بدلالة.
لان ما هو المقصود وهو التمكن من الأسر لم يحصل بهذه الدلالة.
وهذا لان مثل هذه العشرة كانوا يجدونهم قبل دلالته. فعرفنا أن
المقصود بالدلالة غير هذا.
1380 - ولو قتل المسلمون منهم واحدا وظفروا بالبقية، فإن
كانوا قتلوا ذلك الواحد وهم ممتنعون لم يكن الأسير حرا.
لان التمكن إنما حدث بعد قتله، والباقون بعد قتله تسعة. فكأنه دلهم
ابتداء على تسعة نفر.
وإن كانوا قتلوه بعد ما ظفروا بالعشرة فهو حر.
لانهم تمكنوا بدلالته من أخذ العشرة.
1381 - وكذلك إن كانوا قتلوا بعض المسلمين ثم ظفروا
بهم أحياء.
لانهم تمكنوا من أسر العشرة بدلالته، وإن كان ذلك بعد جهد وقتال.
779

1382 - فإن انتهى إليهم المسلمون ولا سلاح، ففرطوا
في أخذهم حتى تسلحوا أو امتنعوا فالأسير حر.
لأنه مكنهم بالدلالة من أخذ العشرة، وإنما جاء التقصير من المسلمين.
1383 - ولو كان الأسير قال: أدلكم على عشرة على أنى إن
دللتكم عليهم فامتنعوا أو لم يمتنعوا فأنا حر. فرضى المسلمون بذلك
فهو حر، إذا دل عليهم وإن امتنعوا (1).
لأنه أتى بما التزمه بالشرط نصا. وإنما تعتبر دلالة الحال والمقصود
بالكلام إذا لم يوجد التنصيص بخلافه.
1384 - ولو قال الأمير للأسراء: من دلنا على حصن كذا أو
على عسكر فلان البطريق، أو على عسكر الملك فهو حر. فدلهم رجل
ثم لم يظفروا بهم فالأسير حر (ص 262).
لأنه أتى بما شرط عليه من الدلالة. والمشروط عليه الدلالة على قوم
ممتنعين هنا، وقد أتى به، بخلاف ما تقدم. والغالب أن المراد هناك الدلالة
على عشرة غير ممتنعين. ألا ترى أنه لو قال: من دلنا على عشرة من السبي
من نساء أو صبيان فهو حر، فدلهم رجل على ذلك بين يدي جند يمنعونهم
أنه لا يعتق؟ لان الغالب أن المراد الدلالة عليهم في غير منعة، وإنما يحمل
مطلق الكلام في كل موضع على ما هو الغالب.
1385 - ولو تحير الأمير في رجوعه إلى دار الاسلام فقال
للمسلمين: من دلنا منكم على الطريق فله رأس، أو قال: فله مئة درهم.

(1) ه‍ " وإن كان امتنعوا ".
780

فدلهم رجل بوصف ذكره، فمضوا على دلالته حتى أصابوا الطريق.
ولم يذهب هو معهم، فلا شئ له.
لان ما أوجب كان على سبيل الاجرة لا على سبيل التنفيل. إذ التنفيل
بعد إحراز الغنيمة لا يجوز. وإرشاد المتحير إلى الطريق ليس من الجهاد
ليستحق عليه النفل. فعرفنا أنه إجارة. واستحقاق الاجر بعمل لا بقول.
فلهذا لا يستحق شيئا إذا لم يذهب معهم.
1386 - وإن ذهب معهم حتى دلهم على الطريق فله أجر مثله
في ذهابه معهم.
لأنه أتى بالعمل بحكم إجارة فاسدة. فإن المقصود عليه من العمل لم يكن
معلوما حين لم يتبين إلى أي موضع يذهب معهم. وربما يوصلهم إلى الطريق
بعشرة خطى (1)، وربما لا يوصلهم إلا بمسيرة عشرة أيام. وجهالة
المعقود عليه تفسد العقد.
1387 - ثم إن كان المشروط له مئة درهم فإنه يستحق به أجر
المثل لا يجاوز به مئة، كما هو الحكم في الإجارة الفاسدة إذا كان
المسمى معلوما. وإن كان المشروط له رأسا من السبي فله أجر مثله
بالغا ما بلغ.
لان تسمية الرأس مطلقا في باب الإجارة لا يكون تسمية صحيحة.
وهذا لأنه إنما لا يجاوزه المسمى لتمام الرضا به، وذلك يتحقق في المئة ولا يتحقق
في الرأس، لان الرؤوس تتفاضل في المالية.

(1) ه‍ " خطوات ".
781

1388 - ولو قال: من دلنا على الطريق حتى يبلغ بنا موضع
كذا فله مئة درهم، أو فله هذا الرأس بعينه. فذهب رجل معهم إلى
ذلك المكان فله المسمى.
لان المعقود عليه معلوم هنا، والبدل معلوم.
فإن قيل: المخاطب بالعقد مجهول فكيف ينعقد العقد صحيحا؟
قلنا: إنما ينعقد العقد حين يأخذ في الذهاب معهم، ويستوجب الاجر
بحسب ما يأتي به من العمل، وعند ذلك لا جهالة فيه.
1389 - ولو يتحير الامام ولكن قال: من ساق هذه
الا رماك (1) منكم حتى يبلغ الطريق فله مئة درهم. ففعل ذلك قوم،
استحقوا أجر المثل لا يجاوز به المئة.
لان المعقود عليه من العمل مجهول لجهالة المسافة.
1390 - ولو كان قال: إلى موضع كذا. فلهم المسمى.
لان المعقود عليه معلوم والبدل معلوم.
1391 - وإن خاطب قوما بأعيانهم فسمع قوم آخرون فساقوها
إلى ذلك المكان فلا شئ لهم.
لان العقد إنما كان بينه وبين من خاطبهم به، فغيرهم يكون متبرعا
في إقامة العمل.

(1) جمع رمكة (محركة)، وهي الفرس والبرذونة تتخذ للنسل (القاموس).
782

1392 - ولو نادى بذلك في جميع أهل العسكر فساقها قوم
سمعوا النداء فلهم الاجر.
لانهم أقاموا العمل على وجه الإجارة.
1393 - ولو ساقها قوم لم يسمعوا النداء فلا شئ لهم.
لانهم أقاموا العمل متطوعين لا على وجه الإجارة حين لم يسمعوا النداء،
وبهذا تبين أن الاستحقاق هنا ليس على وجه التنفيل.
1394 - ولو أن الأمير أخطأ الطريق فتحير. فقال لأسير في
يده: إن دللتنا على الطريق (ص 263) فلك أهلك وولدك. فدلهم
بصفة أو بذهاب معهم حتى أوقفهم على الطريق، كان على حاله فيئا
للمسلمين مع أهله وولده.
لان الأمير لم يذكر نفسه بشئ في الجزاء، فيبقى هو أسيرا على حاله.
وإذا كان هو عبدا للمسلمين فما يكون له يكون للمسلمين أيضا، أهله وولده
وغيرهم في ذلك سواء.
1395 - ولو كان قال: لك نفس وأهلك وولدك. والمسألة
بحالها فهو حر لا سبيل عليه.
لأنه جعل له نفسه جزاء على دلالته. وقد أتى بها فكان حرا، وله أهله
وولده أيضا، لأنه شرط له ذلك.
إلا أنه لا يدخل في اسم الاهل هنا إلا زوجته.
783

بخلاف ما تقدم في فصول الأمان. لانهم هنا قد صاروا مملوكين بالأسر،
فلا يزول الملك عنهم إلا بيقين، وهذا اليقين في زوجته خاصة.
1396 - وكذلك في اسم الولد لا يدخل هنا إلا ولد لصلبه.
وأما ولد ولده فهم فئ.
لان اليقين في ولد الصلب خاصة. وهذا الاستحقاق له يبتنى على.
المتيقن به.
1397 - وإن لم يكن في الاسراء ولد لصلبه فله أولاد بنيه.
لانهم قائمون مقام أبيهم في هذا الاسم، فيتناولهم عند عدم آبائهم.
1398 - ولا يكون ولد بناته من ذلك في شئ، إلا أن يسميهم.
لانهم ليسوا من أولاده.
1399 - ثم لا يترك يرجع إلى دار الحرب ولكنه يخرجهم
إلى دار الاسلام ليكونوا ذمة للمسلمين.
لأنه بعد تقرر الأسر لا يجوز تمكينهم من الرجوع إلى دار الحرب.
1400 - ويستوي إذا كان دلهم بكلام أو ذهب معهم.
بخلاف ما تقدم من دلالة المسلمين. فإن ذلك على وجه الإجارة،
فلا يثبت بالكلام. وهذا على وجه الصلح والأمان. فيعتبر فيه وجود الشرط
حقيقة.
1401 - فإن كان الأمير قسم السبي في دار الحرب أو باعهم ثم
784

تحير فقال للأسراء: من دلنا على الطريق فهو حر. أو قال: فله مئة
درهم، ففعل ذلك بعضهم، فإن كان شرط له مئة فله أجر لا يجاوز
به المئة ويكون ذلك لمولاه.
لان الملك قد تعين فيهم هنا. فما أوجبه يكون على وجه الإجارة دون
الصلح والأمان.
1402 - ولهذا لو دلهم بمجرد كلام ولم يذهب معهم لم يستحق
شيئا. وإن كان قال: فهو حر، فهذا باطل.
لان الأمير لا يملك أن يعتق أرقاء الملاك بعد ما تعين ملكهم فيهم.
1403 - ولو تحير قبل قسمتهم فقال: من دلنا منكم على الطريق
فهو حر. فدلهم أسير على طريق بين، إلا أنه طريق يأخذ إلى دار
الحرب لا إلى دار الاسلام. فإن كانوا تحيروا في الدخول فهده دلالة
والأسير حر. وإن كانوا تحيروا في الانصراف فليست هذه بدلالة.
وإن دلهم على طريق يأخذ إلى دار الاسلام لا إلى الحرب فالتقسيم
فيه على عكس هذا.
لان مطلق الكلام يتقيد بدلالة الحال، وقد علمنا أن مراده في حالة
الدخول الدلالة على طريق يوصله إلى مقصده (1) من دار الحرب. وفى
الانصراف مقصوده الدلالة على طريق يوصله إلى مفصده من دار الاسلام.

(1) ه‍ " مقصوده ".
785

1404 - وإن قال: إن دللتنا على طريق حصن كذا فأنت حر،
ولذلك الحصن من ذلك المكان طريق، فدلهم على طريق آخر هو أبعد
من الطريق المعهود، فله شرطه.
لان كل واحد من الطريقين طريق ذلك الحصن إذا كان بحيث يعتاد
الناس الذهاب إلى ذلك الحصن من ذلك الطريق. والأمير أطلق الفظ،
ولا يجوز تقييد المطلق إلا بدليل. وليس في كلامه ذلك.
1405 - وإن دلهم على طريق ليس بطريق إلى ذلك الحصن
ولكنه طريق إلى غيره، إلا أنهم يقدرون على أن يدوروا من ذلك
المكان حتى يأتوه، فليست هذه بدلالة.
لان الانسان قد يتمكن من أن يأتي (ص 264) من هذا الموضع كاشغر
ثم يدور حتى يأتي بخارى. ثم لا يعد أحد الطريق من هنا إلى كاشغر طريق
بخارى. فعرفنا أنه ما أتى بالمشروط عليه، فلا يكون حرا.
1406 - وإن قال: إن دللتنا على طريق حصن كذا، وهو
الطريق الذي كان يقال له كذا. فدلهم على طريق غيره حتى أقامهم على
الحصن. فإن كانت لهم منفعة في الطريق الذي عينوا له من حيث
قرب الطريق أو أمنه أو كثرة العلف أو كثرة القرى أو كثرة
ما يجدون من السبي فهو فئ على حاله.
لأنه ما وفى بالشرط. فإنهم عينوا له طريقا وكانت لهم فيه منفعة، والتعيين
متى كان مفيدا يجب اعتباره.
786

1407 - وإن كان الذي دلهم عليه أكثر منفعة من الذي عينوا
له فهو فئ في القياس أيضا.
لأنه ما أتى بالمشروط. وفي إيجاب العباد يعتبر اللفظ دون المعنى لجوازه
أن يخلو كلامهم عن حكمة وفائدة حميدة.
وفى الاستحسان هو حر.
لأنه أتى بمقصودهم وزيادة. وإنما يعتبر التعيين إذا كان مفيدا. فإذا
علم أن فائدتهم فيما أتى به أظهر، سقط اعتبار التعيين لكونه غير مفيد.
وإن لم يعلم أيهما أنفع فهو فئ على حاله.
لان التعيين كلام من عاقل. فيكون معتبرا في الأصل، ما لم يعلم بخلوه
عن الفائدة. ولم يعلم بذلك.
1408 - وعلى هذا لو قال: من دلنا على طريق درب الحدث (1)
فهو حر. فدلهم رجل على طريق المصيصة أو على طريق ملطية. فإن
كان ذلك أقرب وأكثر منفعة فهو حر. وإن كان ليس كذلك، أو
لا يدرى أهو كذلك أم لا فهو فئ.

(1) ه‍، ب " الحارث " وهو خطأ. وفى حاشية ه‍ " بلدة بناها سيف الدولة " وفى هامش ق
" الدرب المضيق من مضايق الروم. وعن الخليل الدرب الباب الواسع على السكة. وعلى كل مدخل
من مداخل الروم درب من دروبها. والمراد به في قوله زقاق أو درب غير نافذ السكة الواسعة نفعها.
مغرب ".
" والحدث الحادث. وبه سمى الحدث من قلاع الروم لحدوثه أو لكونه عدة لاحداث الزمان
وصروفه. مغرب ".
787

لأنه ما أتى بالمشروط عليه.
أرأيت لو ذهب بهم إلى طريق غير ما ذكروا له، فكان فيه الملك
وجنده. فقاتلهم وقتل منهم، أو ذهب بهم في طريق لا علف فيه فهلكت
دوابهم، أو ماتوا جوعا، أكان يوفى له بشرطه؟ وإنما قصد (1) بهذا بيان
أن التقييد متى ما كان مفيدا (2) يجب اعتباره.

(1) ه‍ " فصل " خطأ.
(2) ه‍ " مقيدا " خطأ.
788

87 باب ما يجوز من النفل في السلاح وغيره
1409 - وإذا رأى أمير العسكر دروع المسلمين قليلة عند
دخولهم دار الحرب فقال: من دخل بدرع فله من النفل كذا، أو فله
به سهم كسهمه في (1) الغنيمة. فهذا جائز لا بأس به.
لان هذا التنفيل يقع منه على وجه النظر، فالمسلم في حمل الدروع إلى
دار الحرب يحتاج إلى مؤنة، ويحصل به إرهاب العدو، فيجوز أن ينفل
على ذلك لتحريضهم على تحمل هذه المؤنة لإرهاب العدو.
ألا ترى أن الشرع أوجب للغازي السهم لفرسه لهذا المعنى؟
وهو أنه يحتمل (2) المؤنة فيما يحصل به إرهاب العدو، فللامام أن
يوجب ذلك بطريق النفل اعتبارا بما أوجبه الشرع.
1410 - وكذلك لو قال: من دخل بدرعين فله كذا.
لان المبارز قد يظاهر بين درعين (2) إذا أراد القتال، على ما روى
أن النبي عليه السلام ظاهر بين درعين (3) يوم أحد. فكان هذا منه على وجه
النظر والاجتهاد.

(1) ه‍، ب " من ".
(2) ه‍ " يلتزم ".
(3) ق، ه‍، ب " الدرعين ".
789

1411 - وإن قال: من دخل بدرع ومن دخل بدرعين فله
مئتان. ومن دخل بثلاثة دروع فله ثلاث مئة.
وساق الكلام هكذا:
فليس ينبغي له أن ينفل هكذا، ولا يجوز منه هذا التنفيل في
أكثر من درعين.
لان هذا لا يقع على وجه الاجتهاد والنظر، والمقاتل لا يمكنه أن يلبس
أكثر من درعين عند القتال. لان ذلك يثقل (1) عليه، ولا يمكنه أن يقاتل
معه. فعرفنا أنه ليس في التنفيل على أكثر من درعين منفعة.
فان قيل: معنى التزام المؤنة وإرهاب العدو يتحقق في الثالث والرابع
والخامس.
قلنا: ليس كذلك. فان الارهاب بالدارع لا بالدرع. يقال انفصل
(ص 265) كذا وكذا دارع، وكذا وكذا حارس. فيحصل به الارهاب.
والدارع هو وحده، لأنه ما حمل الدروع مع نفسه ليعطيها غيره، وإنما حمل
للبس عند القتال. وذلك لا يتأتى منه في أكثر من درعين.
1412 - وعلى هذا لو قال لأصحاب الخيل بتجاف (2) فله كذا.
فان معنى التزام المؤنة وإرهاب العدو يحصل بالتجفاف للخيل كما يحصل
بالدروع للفارس. فيجوز أن ينفل على تجفاف وتجفافين.
ولا يجوز أكثر من ذلك.

(1) ه‍ " ثقيل ".
(2) في هامش ق " تفعال بالكسر. مصباح " وهو شئ من سلاح يترك على الفرس يقيه
الأذى. وقد يلبسه الانسان. نهاية.
790

لان التجفاف للفرس، فالتنفيل عليه بمنزلة التنفيل على الفرس.
1413 - ولو كان الأمير ممن لا يرى أن يسهم إلا لفرس واحد
فقال: من دخل بفرسين فله كذا، كان ذلك تنفيلا صحيحا. ولا يجوز
أن ينفل على أكثر من فرسين.
لان المبارز قد يقاتل بفرسين ولا يقاتل بأكثر منهما. فإنما يجوز من
تنفيله ما يكون فيه منفعة دون ما لا منفعة فيه.
إلا أن يكون أمرا معروفا قد يحتاج الرجل فيه إلى ثلاثة
أفراس. فحينئذ يجوز تنفيله لثلاثة أفراس في ذلك، وكذلك لثلاثة
تجافيف.
لأنه يكون على كل فرس تجفاف، ومتى علم أن تنفيله كان على وجه
النظر يجب تنفيذه مما أصاب من الغنائم بعد التنفيل.
1414 - ولو لم يقل شيئا لهم حتى حاصروا حصنا فقال: من
تقدم إلى الباب دارعا فله كذا. أو قال: من تقدم متجففا فله كذا، أو
قال: من تقدم مظاهرا درعين فله كذا، فذلك تنفيل صحيح.
لان فيه منفعة للمسلمين من حيث إظهار الجلادة والقوة وإيقاع الرعب
في قلوب المشركين. والتنفيل على مثله يكون.
1415 - ولو لم يقل ذلك حتى فتحوا الحصن ثم أراد أن ينفل
منه للدارع والمتجفف على قدر العناء فليس له أن ينفله.
791

لان التنفيل ما يكون قبل الاحراز، فأما بعد الاحراز فيكون صلة
لا تنفيلا، وليس للامام أن يخص بعض الغانمين بالصلة من الغنيمة بعد ما ثبت
حقهم فيها.
1416 - فإن نفل الامام بعد الاحراز على قدر العناء والجزاء
فكان ذلك من رأيه فهو نافذ.
لأنه أمضى باجتهاده فصال مختلفا فيه، فليس لأحد من القضاة أن يبطل ذلك
1417 - ويحل للمنفل أن يأخذ ذلك وإن كان هو ممن لا يرى
التنفيل بعد الإصابة.
لان الرأي يسقط اعتباره إذا جاء الحكم بخلافه. فإن قضاء القاضي
ملزم غيره، ومجرد الاجتهاد غير ملزم غيره. وهو نظير ما لو قال لامرأته:
أنت طالق البتة. ومن رأيه أن ذلك تطليقة بائنة. فقضى القاضي بأنها تطليقة
رجعية كما هو قول عمر وابن مسعود رضي الله عنهما، فإنه ينفذ قضاؤه،
ويسعه أن يقيم عليها. ولكن هذا على قول محمد. وأما على قول أبى يوسف
فالمجتهد لا يدع رأيه إذا كان ذلك أشد عليه بقضاء القاضي بخلافه. وقد بينا
ذلك في شرح المختصر في آخر الاستحسان والله أعلم.
792

88 باب ما يجوز من النفل بعد إصابة الغنيمة
ومن يجوز ذلك منه (1)
1418 - قال: ولو أن سرية في دار الحرب أصابوا غنائم فعجزوا
عن حملها إلى دار الاسلام، وأراد الأمير إحراقها أو تركها، ثم بدا له
فقال للمسلمين: من أخذ منها شيئا فهو له. فهذا جائز. ومن تكلف
منهم فأخرج شيئا فهو له، ولا خمس فيه.
لان هذا تنفيل وقع على وجه النظر، وإنما كرهنا التنفيل بعد الإصابة
لما فيه من إبطال حق بعض الغانمين بعد ما ثبت حقهم في المصاب. والابطال
إنما يكون عند التمكن من الحفظ وتأكيد (2) حقهم بالاخراج. فأما بعد
تحقق العجز عن ذلك فهذا لا يكون إبطالا لحق أحد.
يوضحه أن له إحراق الجمادات (ص 266) منها، وذبح الحيوانات،
ثم الاحراق أو تركها في مضيعة. وفى ذلك إبطال حق الكل. فمن ضرورة
جواز ذلك جواز إبطال حق البعض بتخصيص البعض بطريق التنفيل.
ولان في الاحراق إبطال حق لا منفعة فيه لأحد من المسلمين، وفى
التنفيل توفير المنفعة على بعضهم. فكان الميل إلى هذا الجانب أولى.
1419 - فأما إذا كان قادرا على الاخراج أو البيع أو القسمة

(1) ه‍ " وما لا يجوز ذلك فيه ".
(2) ب " تأكيد ".
793

فهو متمكن من إيصال المنفعة إلى جماعتهم. فلا ينبغي له أن يبطل
حق بعضهم.
وكذلك لو قال عند العجز: من أخذ شيئا فهو له بعد الخمس. أو
قال: فله نصف ما أخذ قبل الخمس أو بعده. فذلك كله صحيح. ينبغي
له أن يفعل من ذلك ما يكون أقرب إلى النظر، ثم القسمة بعد
الاخراج، على ما أوجبه الأمير بالتنفيل.
وإن أحد وجد منهم شيئا كان المسلمون يقدرون على إخراجه،
ولم يكن للامام علم به من جوهر أو غير ذلك، فإن هذا يخمس،
والباقي بينهم على سهام الغنيمة.
لان صحة هذا التنفيل لضرورة العجز عن الاحراز. والثابت بالضرورة
لا يعدو مواضعها، فلا يتناول هذا التنفيل ما لم يتحقق فيه الضرورة.
1420 - وإذا ثبت هذا الحكم فيما أخذوا من أموالهم ثبت فيما
لم يأخذوه بطريق الأولى، حتى إذا مروا ببناء من بنائهم فيه السلاح
والرخام وماء الذهب ولم يقدروا على أخذه وإخراجه فقال الأمير:
من أخذ منه شيئا فهو له، فذلك صحيح. ومن خرب شيئا من ذلك
وأخرجه اختص به.
لانهم وإن كانوا قادرين على هدمه فقد كانوا عاجزين عن إخراجه.
794

ولهم أن يتركوه فيصح تنفيل أميرهم في ذلك أيضا، ويستوي
إن كان ذلك مما يقدر على حمله بعد الهدم أو لا يقدر عليه.
لان التنفيل من الأمير قبل الهدم، وإنما صار بحيث يقدر على حمله
بما أحدث فيه من الهدم بعد تنفيل الامام.
1421 - إلا أن يكون شيئا من ذلك موضوعا نائيا عن البناء
يقدرون على إخراجه حين نفل الامام ولم يعلم به، فإن ذلك يقسم بين
الجماعة، وإن أخرجه واحد منهم.
لان التنفيل لم يتناوله.
1422 - ولو أن الأمير لم ينفل أحدا ولكنه أمرهم بإحراق
ذلك، فتكلف بعضهم إخراجها على دوابهم إلى دار الاسلام، فذلك
يخمس ويقسم بين جميع السرية.
لان تخصيص البعض بتنفيل الامام، ولم يوجد، إنما الموجود الامر
بالاحراق، ولا تأثير له في تخصيص بعضهم بشئ، وأدنى الدرجات أن
الذي أخرج أحيا بفعله ما كان مشرفا على الهلاك مما كان مشتركا بينه وبين
غيره، فلا يكون ذلك سببا لقطع الشركة وتخصيصه به.
1423 - ولو قسم ما أصاب في أرض الحرب، أو باعه من
التجار، أو أخرجه إلى دار الاسلام، فلحقهم العدو، وابتلوا بالهرب،
فينبغي أن يحرقوا ذلك بالنار لينقطع منفعة العدو عنه. فإن في ذلك
795

معنى الكبت لهم. وإن كان يجوز للغزاة أن يفعلوا ذلك بما ثقل عليهم
من متاعهم وسلاحهم في دار الحرب، لئلا ينتفع به العدو، كما فعله
جعفر (1) فإنه حين أيس من نفسه عقر فرسه.
فلان يجوز ذلك فيما أخذوا من أمتعة أهل الحرب كان أولى.
1424 - فإن نبذوا ذلك ليحرقوه فقال الأمير، من أخذ شيئا
فهو له، فأخذ ذلك قوم وأخرجوه من المهلكة، فذلك كله مردود
إلى أهله.
لأنه بالقسمة والبيع قد تعين الملك فيه.
1425 - وليس للامام ولاية التنفيل في أملك الناس بحال،
وكذلك بالاخراج إلى دار الاسلام، وقد تأكد الحق فيه لهم على وجه
يورث عنهم، فلا يبقى للامام فيه ولاية التنفيل أصلا. بخلاف ما قبل
الاحراز. فالثابت هناك حق ضعيف (ص 267) ثبت بالاحراز باليد،
وذلك ينعدم بالالقاء للاحراق، فليلتحق هذا التنفيل بالتنفيل قبل الاحراز.
فأما بعد الاحراز بالدار فالحق قد يتأكد بتمام السبب بالاحراز بالدار،
فلا يبطل ذلك بالالقاء للاحراق. فلا يكون للامام فيه ولاية التنفيل.
وهذا بعد القسمة. والبيع أظهر.
لان الملك قد تعين فيه.

(1) أي جعفر بن أبي طالب. وفى حاشية ه‍ " يعنى في غزوة مؤتة التي استشهد فيها ".
796

ألا ترى أنهم لو طرحوا ذلك في دار الحرب فلم يفطن بها أهل
الحرب حتى دخلت سرية أخرى فأخرجوها، وأخذها أهل الحرب،
ثم دخلت سرية أخرى فأخذوها منهم، لم يكن للسرية الأولى حق،
بمنزلة سائر أموال أهل الحرب التي لم تؤخذ منهم.
ولو طرحوها للاحراق بعد القسمة والبيع ثم تركوها مخافة العدو،
ولم يعلم بها المشركون حتى جاءت سرية أخرى فأخذوها وأخرجوها
فهي مردودة على الملاك لبقاء ملكهم فيها.
1426 - وإن أخذها المشركون ثم استنقذها من أيديهم سرية
أخرى، فإن وجدها الملاك قبل القسمة أخذوها بغير شئ، وإن وجدوها
بعد القسمة أخذوها بالقيمة، بمنزلة سائر أموالهم إذا أصابها أهل
الحرب وأحرزوها. وكذلك بعد الاحراز بدار الاسلام. وإن طرحوها
ثم جاءت سرية أخرى فأخذوها ولم يعلم بها أهل الحرب فهي مردودة
على السرية الأولى، لتأكد حقهم فيها. وإن أحرزها أهل الحرب ثم أخذها
منهم سرية أخرى فإن وجدها السرية الأولى قبل القسمة أخذوها بغير
شئ. وإن وجدوها بعد القسمة فلا سبيل لهم عليها. وهذه هي الرواية
الثانية (1) التي بينا أنها أصح في هذه المسألة.
لانهم لو أخذوها أخذوها بالقيمة، وحقهم قبل القسمة في المالية،

(1) ه‍ " الثابتة ".
797

إذ لا ملك لأحد في العين، ولهذا كان للامام أن يبيعها ويقسم الثمن، فلا يكون
الاخذ بالقيمة مفيدا لهم شيئا، وإنما يثبت حق الاخذ إذا كان مفيدا.
1427 - ولو أن المشترين، أو الذين وقع ذلك في سهامهم، أو
الذين رموا بمتاعهم قالوا حين رموا به: من أخذ شيئا فهو له. فأخذ
ذلك قوم من المسلمين فهو لهم، أخرجوه أو لم يخرجوه.
لان هذا هبة من الملاك للآخذين. وقد تمت الهبة بقبضهم. فإن أرادوا
الرجوع فيه فلهم ذلك قبل أن يخرجه الآخذون إلى دار الاسلام كما هو الحكم
في الهبة.
1428 - وإن أخرجوه أو بلغوه موضعا يقدر فيه على حمله لم
يكن لهم أن يرجعوا فيه.
لأنه حدث (1) فيه زيادة بصنع الموهوب له. فإنه كان مشرفا على
الهلاك في مضيعة، وقد أحياه بالاخراج من ذلك الموضع، فالزيادة في عين
الموهوب تمنع الواهب من الرجوع، ولكن هذا الحكم فيما إذا أخذه من سمع
مقالة المالك منه، أو ممن بلغه، فأما من لم يسمع ذلك أصلا إذا أخذ شيئا فأخرجه كان عليه أن يرده إلى مالكه. لان من علم بمقالته فإنما أخذه على
وجه الهبة. فيكون ذلك قبضا متمما للهبة، ومن لم يعلم ذلك فهو إنما أخذه
لا على وجه الهبة بل على وجه الإعانة لمالكه في الرد عليه، فلا يثبت الملك له
بهذا الاخذ.
فإن قيل: هذا إيجاب لمجهول، فكيف يصح بطريق الهبة؟
قلنا: لان هذه جهالة لا تفضي إلى المنازعة. فالملك إنما يثبت عند

(1) ب " حصل ".
798

الاخذ، وعند ذلك، الاخذ متعين معلوم. وكان المالك بهذا اللفظ أباح
أخذه على وجه الهبة منه، وهذه الإباحة تثبت مع الجهالة.
أصله: ما رواه عبد الله بن قرط الثمالي أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: أفضل الأيام يوم النحر، ثم يوم القر.
يعنى الثاني من أيام النحر - لان الحاج يقرون فيه بمعنى.
قال: وقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدنات خمسا أو
ستا، فطفقن يزدلفن إليه بأيتهن يبدأ. فلما وجبت جنوبها قال كلمة
لا أفهمها. فسألت بعض من يليه: ماذا قال رسول الله؟ فقال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: من شاء اقتطع.
فهذه إباحة الآخذ على (ص 268) وجه التمليك، والانتفاع بالمأخوذ،
أوجبها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الجهالة. فما يكون من هذا
الجنس يتعدى إليه حكم هذا النص.
يقرره أن مجرد الالقاء بغير كلام يفيد هذا الحكم. فإن الانسان ينثر
السكر والدراهم في العرس وغيره، وكل من أخذ شيئا من ذلك يصير مملوكا
له، ويجوز له أن ينتفع به من غير أن يتكلم الناثر بشئ.
وقيل: بأن الحال دليل على الاذن في الاخذ. فإذا وجد التصريح
بالاذن في الاخذ، فلان يثبت هذا الحكم كان أولى.
وعلى هذا لو وضع الانسان الماء والحمد (1) على باب داره فإنه يباح

(1) ص، ق " الجمد " وفى حاشية ه‍ " هو نوع من الأشربة وأنه محمود عندهم. المغرب ".
799

الشرب منه لكل من مر به من غنى أو فقير لوجود الاذن دلالة.
وإذا غرس شجرة في موضع لا ملك فيه لأحد وأباح للناس الإصابة
من ثمارها فإنه يجوز لكل من مر بها أن يأخذ من ثمارها فيتناوله. وكل ذلك
مأخوذ من الحديث الذي روينا.
1429 - ولو أن الأمير بعد انهزام المشركين نظر إلى قتلى
منهم، عليهم أسلابهم، وهو لا يدرى من قتلهم، فقال: من أخذ
سلب قتيل فهو له. فأخذها قوم، فذلك لهم نفل (1).
لان المسلمين لم يأخذوها، فيكون هذا في معنى التنفيل قبل الإصابة.
والأصح أن تقول: هذا تنفيل بعد الإصابة. ولكن الامام أمضاه باجتهاده
والمختلف فيه بامضاء الامام باجتهاده يصير كالمتفق عليه، حتى إذا مات
أو عزل وولى غيره لم يسترد من الآخرين شيئا من ذلك.
1430 - وإن لم يأخذوا حتى عزل الأول وجاء أمير آخر ثم
أخذوا ذلك قبل أن يعلموا بعزله أو بعد ذلك فإن الثاني يأخذ كله منهم
فيرده في الغنيمة.
لان التنفيل الأول قد بطل بعزله قبل حصول المقصود. فالمقصود
هو الاخذ، فإذا بطل تنفيله قبل حصول هذا المقصود صار كأن لم يكن.
وقد تقدم نظيره فيما إذا نفل قبل الاحراز ثم مات أو عزل قبل الإصابة
واستعمل غيره، فإنه يبطل حكم ذلك التنفيل. ففي التنفيل بعد الإصابة هذا
أولى. وهو بمنزلة قضاء لم ينفذه قاض حتى عزل واستقضى غيره ممن يرى
خلاف ذلك.

(1) ه‍ " قيل ".
800

ثم فرع على الأصل الذي بينا أن التنفيل عند حضرة القتال يكون على
ذلك القتال خاصة، وعند دخول دار الحرب قبل أن يلقوا قتالا يكون باقيا
إلى أن يخرجوا إلى دار الاسلام.
يقول:
1431 - فإن خرجوا إلى دار الاسلام ثم قفلوا إلى دار الحرب
فقتل رجل قتيلا من المشركين فلا سلب له.
لان حكم ذلك التنفيل قد انتهى بخروجهم إلى دار الاسلام. وهذه
دخلة أخرى، فإن لم يجدد الامام تنفيلا غيرها (1) لم يكن للقاتل السلب.
ألا ترى أنهم لو أقاموا سنة ثم رجعوا لم يكن للقاتل السلب بالتنفيل
الأول؟
1432 - ولو بلغهم أن العدو دخلوا دار الاسلام فخرجوا
يريدونهم، فقال الأمير: من قتل قتيلا فله سلبه. فهذا على ما أصابوا
في وجههم ذلك، في دار الاسلام ودار الحرب، إلى أن يرجعوا
إلى منازلهم.
وإن لقوا العدو في دار الاسلام ثم قال الأمير ذلك فهذا على
ذلك القتال خاصة.
لما بينا أن المطلق من الكلام يتقيد بما هو الغالب من دلالة الحال في
كل فصل.

(1) ق، ه‍ " عندها " وفى هامش ق " غيرها. نسخة ".
801

1433 - ولو أن الأمير بعث في دار الحرب سرية إلى حصن
وقال: ما أصبتم منه فلكم الربع من ذلك. فأقاموا عليه أياما يقاتلون،
ثم لحقهم العسكر فقاتلوا معهم حتى فتحوا الحصن فلا نفل للأولين.
لأنه إنما أوجب لهم النفل فيما يصيبون من قتالهم دون من بقى من العسكر.
والمقصود كان تحريضهم (ص 269) على فتح الحصن والإصابة، ولم يحصل ذلك بهم.
ألا ترى أن العسكر لو فتحوا الحصن دون أهل السرية لم يكن لأهل
السرية من النفل شئ، وإن كان الفتح بمحضر منهم، فكذلك إذا كان الفتح
بقتال جميع أهل العسكر.
1434 - قال: ولو بعث الامام سرية من دار الاسلام وعليهم
أمير ثم عزل أميرهم وبعث أميرا آخر. وقد نفل الأول قوما نفلا
فأخذوه. فإن كانوا أخذوا ذلك قبل علمه بعزله فذلك سالم لهم.
وكذلك إن كان ابتداء التنفيل منه قبل أن يعلم بالعزل.
لأنه أمير ما لم يعلم بعزله أو يأتيه من هو صارفه ويخبره بعزله.
1435 - فأما إذا نفل الأول بعدما جاء الثاني وأخبره بعزله
فتنفيله باطل.
لأنه التحق بسائر الرعايا.
1436 - وإن جاءه الكتاب بأن الامام قد بعث فلانا أميرا على
السرية، فما لم يقدم عليه فلان فهو أمير على حاله يجوز تنفيله.
802

ألا ترى أنه لو كان أمير مصر كان له أن يصلى الجمعة إلى أن يقدم
صارفه.
وهذا لأنه لا يجوز ترك المسلمين سدى ليس عليهم من يدبر
أمورهم في دار الاسلام ولا في دار الحرب. فما لم يقدم الثاني كان التدبير
إلى الأول، فيصح منه التنفيل. إلا أن يكون الامام كتب إليه: إنا
قد عزلناك واستعملنا فلانا، أو لم يذكر هذه الزيادة، فحينئذ يصير هو
معزولا لا يجوز تنفيله بعد ذلك.
لأنه صار أميرا بخطاب الأمير إياه، عند التقليد. فيصير معزولا
بخطابه إياه بالعزل. والخطاب ممن نأى كالخطاب ممن دنا.
1437 - ولو كان الأمير الأول حين استعمل أمر بأن يدخل
بالقوم أرض الحرب فلم يدخل بهم حتى جاءه كتاب الامام: إنا قد
أمرنا فلانا، فلا يبرح حتى يأتيك. فعجل فدخل بهم أرض الحرب
ونفل لهم نفلا، فذلك باطل.
لان نهى الامام إياه عن دخول أرض الحرب قد وصل إليه بكتابه،
فصار كما لو واجهه به.
1438 - ولو واجهه بذلك فدخل بهم دار الحرب بغير أمره،
ولم يكن أميرا، فلا يجوز تنفيله.
ولو كان الكتاب أتاه: إنك الأمير فادخل بهم. فإذا أدركك
803

فلان فهو الأمير دونك، فجميع ما صنع الأول من النفل جائز حتى
يلقاه الأمير الآخر.
لأنه علق عزله بالتقائه مع الثاني، فما لم يلتقيا فهو الأمير على حاله.
وبعد ما التقيا صار الأمير هو الثاني، إن نفل جاز تنفيله دون الأول.
1439 - ولو كتب إليه: أنت الأمير حتى يلقاك فلان. فهذا
والأول سواء.
لأنه جعل لولايته غاية، ومن حكم الغاية أن يكون ما بعده بخلاف ما قبله.
ويستوي إن كان قلده قبل هذا مطلقا أو لم يقلده.
لان بعد التقليد مطلقا له ولاية العزل، فله ولاية التوقيت في ذلك التقليد
أيضا. وإذا ثبت التوقيت بهذا الكتاب صار كأنه هو صرح بقوله: فإذا
أتاك فلان فهو الأمير دونك.
1440 - ولو أن قوما من المسلمين لهم منعة أمروا أميرا ودخلوا
دار الحرب مغيرين بغير إذن الإمام فأصابوا غنائم خمس ما أصابوا وكان
ما بقى بينهم على سهام الغنيمة.
لأنه باعتبار منعتهم يكون المال مأخوذا على وجه اعزاز الدين فيكون
حكمه حكم الغنيمة.
1441 - فإن نفل أميرهم فذلك جائز منه، على الوجه الذي كان
يجوز من أمير سرية قلده الامام وبعثه.
804

لانهم رضوا به أميرا عليهم ورضاهم معتبر في حقهم، فصار أميرهم
باتفاقهم عليه.
ألا ترى أن الإمامة العظمى، كما تثبت باستخلاف الامام الأعظم تثبت
باجتماع المسلمين على واحد؟
والأصل فيه إمامة الصديق رضي الله عنه (ص 270) فكذلك
الامارة على أهل السرية تثبت باتفاقهم كما تثبت بتقليد الامام.
ألا ترى أن أهل البغي لو أمروا عليهم أميرا ودخلوا دار الحرب فنفل
أميرهم شيئا ثم تابوا جاز ما نفله أميرهم؟
باعتبار المعنى الذي ذكرنا.
1442 - ولو أن الخليفة غزا بجند فمات في دار الحرب أو قتل،
فقالت طائفة من الجند: نؤمر فلانا. فأمروه واعتزلوا. وقالت طائفة
أخرى: نؤمر فلانا فأمروه واعتزلوا. فأخذت كل طائفة وجها في
أرض العدو، فأصابوا غنائم، ونفل كل أمير نفلا لقومه قبل الخمس
أو بعد الخمس، ثم التقوا في أرض الحرب واصطلحوا، فالخليفة الذي
قام مقام الأول ينفذ تنفيل كل أمير. باعتبار أن قومه قد رضوا به
أميرا عليهم، وهم الذين أصابوا ما أصابوا من الغنيمة. فيجوز تنفيل
كل أمير سواء التقوا في دار الحرب أو بعد ما خرجوا إلى دار
الاسلام. إلا أنهم إذا التقوا في دار الحرب فما بقى بعد النفل يقسم بين
الفريقين على سهام الغنيمة.
805

لانهم اشتركوا في الاحراز.
1443 - ولو بعث الخليفة عاملا على الثغور ولم يذكر له النفل
بشئ، فله أن ينفل قبل الخمس وبعد الخمس.
لأنه إنما استعمل على الثغور ليحفظها ويغزو أهل الحرب حتى ينقطع
طمعهم عنها. والنفل من أمر الحرب، فإنه تحريض على القتال. فمن ضرورة
تفويض أمر الحرب إليه، وجعل التدبير في ذلك إلى رأيه، أن يكون أمر
التنفيل مفوضا إليه.
1444 - إلا أن ينهاه الخليفة عن النفل، فحينئذ لا يجوز له
أن ينفل.
لان الدلالة يسقط اعتبارها إذا جاء التصريح بخلافها. بمنزلة تقديم
المائدة بين يدي الانسان، فإنه أذن في التناول دلالة، إلا أن ينهاه عن ذلك.
1445 - فإن استعمل هذه العامل عاملا آخر فنفل الثاني فإن كان
الخليفة لم ينه الأول عن التنفيل جاز التنفيل من الثاني. وإن كان نهى
الأول عن ذلك لم يجز التنفيل من الثاني.
لأنه عامل للعامل الأول فيقوم مقام الأول.
ألا ترى أن القاضي إذا استخلف وقد نهى عن القضاء في الحدود
لم يكن لخليفته (1) أن يقضى فيها، وإن لم ينه عن ذلك كان لخليفته أن يقضى
فيها فكذلك فيما سبق.

(1) ه‍ " للخليفة " وفى حاشية ه‍ " أي خليفة القاضي ".
806

1446 - ولو أن هذا العامل بعث سرية من الثغور وأمر عليهم
أميرا فنفل أميرهم في دار الحرب للسرية سلب القتلى، فذلك جائز منه،
كما يجوز من العامل لو غزا بنفسه.
لأنه فوض إليه أمر الحرب وجعله نافذ الامر على أهل السرية. وإنما
بعثهم من دار الاسلام. فكان أميرهم كأمير العسكر، وتنفيل أمير العسكر
جائز، وإن لم يؤمر به نصا. لان الحق في المصاب لمن تجب ولايته خاصة،
فكذلك تنفيل أمير السرية.
1447 - ولو نهاه العامل أن ينفل أحدا شيئا فنفل لم يجز تنفيله.
لان من قلده صرح بالنهي عن التنفيل، فيكون حاله في التنفيل كحال
العامل إذا نهاه الخليفة عن التنفيل. ولأنه ليس بأمير عليهم فيما لم يوله العامل،
فكان تنفيله كتنفيل سائر الرعايا.
1448 - ويستوي إن رضي الجند بذلك أو لم يرضوا. وكان
ينبغي أن يجوز تنفيله إذا رضوا به، كما تثبت الامارة له عليهم بعد
موت أميرهم إذا رضوا به. ولكن الفرق بينهما أن هناك رضاهم لم
يحصل على مخالفة أمر العامل، بل حصل فيما لم يأمر العامل فيه بشئ،
فكان معتبرا. وهاهنا حصل رضاهم على مخالفة ما أمر به العامل فلا
يكون معتبرا.
كما لو أرادوا عزل أميرهم وتقليد غيره.
1449 - فإن نفل أميرهم ثم لم يقسموا الغنائم حتى أخرجوها،
807

(ص 271) وأخبر أميرهم العامل بما نفل فرأى أن يجيز دلك فليس
ينبغي له أن يفعله.
لان إجازته بمنزلة تنفيله بعد الإصابة.
1450 - فإن أجاز ذلك جاز النفل وحل لمن أصابه أن يأخذ
ما أصاب.
لان هذا حكم من جهته في فصل مجتهد فيه، وهو التنفيل بعد الإصابة،
فيكون نافذا.
فإن قيل: أصل التنفيل كان باطلا، وإجازة ما كان باطلا يلغو، وإن حصل ممن يملك الانشاء. كما لو طلق رجل امرأة الصبى، ثم بلغ الصبى
فأجاز ذلك كانت إجازته لغوا. وإن كان هو يملك إنشاء الطلاق الآن.
وعن هذا الكلام جوابان.
أحدهما: أن هناك أصل الايقاع لم يكن موقوفا، لأنه لا (1) مجيز له عند ذلك
وهاهنا أصل التنفيل حين وقع كان موقوفا، حتى لو أجازه العامل قبل أن يصيبوا
الغنايم كان صحيحا. فان أراد أن يجيزه بعد الإصابة قلنا بأنه يجوز أيضا.
والثاني: أن إجازته هاهنا إنما تتم بالتسليم إلى من نفل له الأمير، فيجعل
هذا التسليم بمنزلة الانشاء، لا قوله أجزت. ووزانه من الطلاق أن لو قال
الصبى بعد البلوغ: جعلت ذلك تطليقة واقعة، فإنه يجعل ذلك إنشاء للطلاق
منه. وأوضح هذا لمن اشترى شيئا إلى العطاء. فان الشراء فاسد. فإن رأى
القاضي أن يجيز هذا البيع حين خوصم فيه إليه نفذ البيع بإجازته وحل للمشترى
إمساكه، وإن كان أصل البيع فاسدا عندنا.
1451 - ولو كان العامل دخل دار الحربي مع العسكر ثم بعث

(1) ساقطة من ه‍.
808

سرية ولم يأمر أميرهم بالتنفيل ولم ينهه عن ذلك، فنفل أصحاب السرية
نفلا، ثم جاءوا بالغنيمة إلى العسكر، فإن تنفيل أمير السرية يجوز في
نصيب أصحاب السرية خاصة.
لان الجيش شركاء أصحاب السرية في المصاب هنا، وليس لأمير السرية
ولاية على الجيش، إنما ولايته على أهل السرية خاصة، فيجوز تنفيله في
نصيبهم خاصة.
1452 - وإن كان العامل حين بعثهم نفل لهم نفلا، ثم نفل
أميرهم أيضا نفلا، فجاؤوا بالغنائم، فما نفل لهم العامل يرفع يرفع من رأس
الغنيمة، ويقسم ما بقى حين تبين حصة أصحاب السرية، ثم ينفذ ما نفل
أمير السرية من حصتهم من الغنيمة ومما نفل لهم العامل.
لان ذلك كله لهم خاصة، ولأميرهم ولاية عليهم. فينفذ تنفيله فيما لهم خاصة.
بخلاف الأول فهناك السرية مبعوثة من دار الاسلام ولا شركة
لغيرهم معهم في المصاب، حتى لو أن هذه السرية لم ترجع إلى العسكر
ولكنهم خرجوا إلى دار الاسلام من جانب آخر فإنه يكون الحكم
كالحكم في السرية المبعوثة من دار الاسلام.
لأنه لا شريك لهم في المصاب. وفى الوجهين لو أصابوا طعاما كان لهم أن يأكلوا من ذلك
ما أحبوا.
809

ألا ترى أنهم بعدما رجعوا إلى العسكر يباح لهم التناول من الطعام
كما يباح لأهل العسكر؟ وفى إباحة تناول الطعام المصاب كالباقي على أصل
الإباحة بخلاف حكم التنفيل.
1453 - ولو أنهم أصابوا غنما أو بقرا أو رمكا، فاستأجر
الأمير من يسوقها إلى العسكر فذلك جائز في حق أصحاب السرية
وحق أهل العسكر.
لأنه نظر لهم فيما صنع. ومنفعة فعله يرجع إليهم جميعا، بخلاف النفل
فالمنفعة فيه للمنفلين خاصة. فلهذا لا يجوز تنفيله في حصة أهل العسكر.
1454 - ولو أن العامل كان نفلهم الربع، ثم نفلهم أميرهم حين
لقوا العدو على وجه الاجتهاد منه، ثم لم يرجعوا إلى العسكر حتى
رجعوا إلى دار الاسلام، فإن نفل العامل لهم (ص 272) باطل، ونفل
أميرهم لهم جائز.
لانهم حين خرجوا إلى دار الاسلام قبل أن يلقوا العسكر منهم في
المصاب بمنزلة السرية المبعوثة من دار الاسلام. وإنما نفل العامل لجماعتهم
بالسرية. وهذا التنفيل باطل على ما ورد به الأثر. ولا نفل للسرية الأولى.
فأما نفل أميرهم لهم فحصل على وجه الاجتهاد لبعض الخواص، فيكون ذلك
صحيحا لاختصاصهم بالحق في المصاب.
1455 - وإن رجعوا إلى العسكر جاز نفل العامل لهم.
لان العسكر شركاؤهم في المصاب. فكان في هذا التنفيل إبطال شركة
العسكر معهم، فيصح، وإن كان يتعدى إلى إبطال الخمس وتفضيل الفارس
على الراجل.
810

وأما نفل أميرهم فإنما يجوز فيما هو حقهم خاصة دون ما يكون حصة
أهل العسكر على ما بينا.
1456 - وإن كان العامل نهى أمير السرية عن التنفيل فنفله
باطل لنهي العامل إياه عن ذلك. ونفل الامام لهم جائز إن رجعوا لي
العسكر. وإن خرجوا من جانب آخر إلى دار السلام، فذلك أيضا
باطل. ويخمس جميع ما أصابوا، والباقي بينهم على سهام الغنيمة. لان الحق في المصاب لهم خاصة، فليس في هذا التنفيل إلا إبطال الخمس
وتفضيل الفارس على الراجل وذلك باطل. والله أعلم.
811

89 باب من النفل الذي يكون للرجل في الشئ الخاص
ولا يدرى ما هو
1457 - وإذا قال الأمير من جاء بعشرة أثواب فله ثوب. فجاء
رجل بعشرة أثواب مختلفة الأجناس فله عشر كل ثوب منها.
لأنه أوجب له بالتنفيل عشر ما يأتي به.
فإن معنى كلامه فله ثوب منها. وإن لم ينص عليه.
وهذا لأنه لا وجه لتصحيح كلامه إلا هذا. فإن إيجاب الثوب مطلقا
لا يصح في شئ من العقود لاختلاف أجناس الثياب. ثم ليس بعض الأثواب
بأن يجعل له نفلا بأولى من البعض. والثياب إذا كانت مختلفة الأجناس لا تقسم
قسمة واحدة. فلهذا كان له عشر كل ثوب منها.
1458 - وكذلك لو قال: من جاء بثلاثة من الدواب فله دابة.
لان هذا الاسم يتناول الأجناس المختلفة كالثياب.
1459 - ولو جاء بالكل من جنس واحد فله واحد منها وسط.
لان الجنس الواحد محتمل للقسمة. وعلى الأمير أن يراعى النظر للغانمين
ولمن جاء به. وتمام النظر في أن يعطيه الوسط مما جاء به.
812

1460 - ولو قال: من جاء بدابة فله ثلثها. فجاء ببقرة أو
جاموس أو بعير، لم يكن من ذلك شئ. لان اسم الدابة لا يتناول إلا الحمار والفرس والبغل استحسانا.
ألا ترى أنه لو حلف لا يركب دابة لا يتناول يمينه غير هذه الأنواع
الثلاثة؟ وحقيقة اللفظ هاهنا غير معتبر بلا شبهة. فإن أحدا لا يقول لوجاء
بجارية يستحق النفل منها. واسم الدابة يتناولها في قوله (وما من دابة في الأرض
إلا على الله رزقها) (1) فعرفنا أنه إنما يبنى هذا على معاني كلام الناس.
1461 - فإن كان القوم في موضع دوابهم الجواميس أو البقر،
إياها يركبون وإياها يسمون الدواب فهو على ما يتعارفونه.
فأما في ديارنا فالدواب هي الخيل والبغال والحمير.
1462 - ولو قال الأمير: من أصاب جزورة فهي له. فجاء رجل
بجزور أو بقرة لم يكن له من ذلك شئ. وإن جاء بشاة ماعز أو
ضأن فهي له.
لان هذا الاسم وإن كان حقيقة في كل ما يجزر، لكن الناس اعتادوا
استعماله في الغنم خاصة. فان الواحد منهم إذا قال لغيره: " اجزرني من نعمك " فإنما يفهم منه سؤال الشاة دون الإبل والبقر.
1463 - ولو قال: من جاء بجزور فهو له، لم يستحق بهذا اللفظ
البقر والغنم، وإنما يستحق الإبل خاصة. وإن كان كل ذلك مما يجزر
ولكن اسم الجزور لا يستعمل إلا في الإبل.

(1) سورة هود، 11، الآية 6
813

ثم في القياس إذا جاء ببعير قد ركب أو ناقة قد ركبت لم
يستحق منها شيئا.
لان الجزور اسم لما يكون معدا من هذا النوع للكر دون الركوب. وإنما
ذلك قبل أن يركب. فأما ما ركب فهو لا ينحر للاكل عادة بعد ذلك.
وفى الاستحسان له النفل إذا جاء بذلك كله.
لان الاسم يطلق استعمالا على ذلك كله في العرف.
1464 - ولو قال: من جاء ببعير أو جمل فهو له، فجاء ببختي فهو له.
لان الاسم يتناول الكل.
بخلاف ما لو قال: من جاء ببختي أو بختية، فجاء بجمل عربي أو ناقة.
لان البختي اسم خاص لجمال العجم فلا يتناول العربي.
كما أن اسم العجمي في التنفيل لا يتناول العربي، واسم البختي يتناول
الذكر والأنثى. كما أن اسم الجمل يتناول الذكر والأنثى من الإبل العربي.
واسم البقر في التنفيل لا يتناول الجاموس. فكان ينبغي على هذا القياس أن
يتناوله لأنه اسم جنس.
ألا ترى أنه يكمل نصاب البقر به في الزكاة، وأنه يتناول قوله عليه
الصلاة والسلام " في ثلاثين من البقر تبيع أو تبيعه ". لكنه اعتبر العرف.
وفى العرف ينفى عن الجاموس اسم البقر، ولا يطلق عليه هذا الاسم إلا مقيدا
كما يقال بالفارسية كاؤميش (1) بخلاف اسم البعير والجمل فإنه يطلق على
البختي في كل لسان.

(1) هي أنثى الجاموس. أفادني ذلك صديقي الدكتور يحيى الخشاب.
814

1465 - ولو قال من جاء بشاة فهي له. فذلك يتناول الذكر
والأنثى معزا كان أو ضأنا. وكان ينبغي على هذا القياس أن لا يدخل
فيه الماعز.
لأنه يختص باسم آخر. وينفى عنه اسم الشاة كما في الجاموس. ولكن
اعتبر فيه معنى آخر وهو أنه يخلط البعض بالبعض عادة. ويعد الكل شيئا
واحدا، فيطلق اسم الشاة والغنم على الكل. وهذا الوجه بخلاف الجواميس.
واسم الكبش والتيس لا يتناول النعجة لأنه اسم نوع خاص. واسم
الدجاج يتناول الديك والدجاجة جميعا.
ألا ترى إلى قول لبيد:
باكرت حاجتها الدجاج بسحرة
لأعل منها حين هب نيامها
وقال آخر:
لما مررت بدير الهند أرقني
صوت الدجاج وضرب بالنواقيس (1)
فأما اسم الدجاجة فلا يتناول الديك. واسم الديك لا يتناول الدجاجة أيضا
وقد بينا هذا في أيمان الجامع (2) فيما إذا قال: لا آكل لحم دجاج.
فأكل لحم ديك حنث (3) ولو عقد اليمين باسم الدجاجة لم يحنث. ولو عقد
اليمين باسم الديك لم يحنث إذا أكل دجاجة. فحكم التنفيل في ذلك حكم قياس
اليمين. والله أعلم.

(1) البيت لجرير. وقد ورد عند ياقوت في مادة " دير الوليد " برواية ثانية هي:
لما تذكرت بالديرين أرقني
(2) في حاشية ه‍ " أي الجامع الصغير ".
(3) ه‍ " يحنث ".
815

90 باب من التنفيل في العسكرين يلتقيان
1466 - وإذا دخل العسكران من المسلمين أرض الحرب من
طريقين، فبعث أمير كل عسكر سرية ونفل لهم الثلث أو الربع.
فالتقت السريتان عند حصن وأصابوا الغنائم، ثم أرادوا أن يتفرقوا
حتى ترجع كل سرية إلى عسكرهم. فإن الغنيمة تقسم بينهم على سهام
الغنيمة. كأنه لا نفل فيها ولا مستحق لها سواهم.
لان كل أمير إنما نفل سريته مما أصابت، ولا يتبين مصاب كل سرية
إلا بالقسمة. فلهذا يقسم بين السريتين على سهام الخيل والرجالة من غير أن
يرفع الخمس أولا.
إذ ليست إحدى السريتين بأن تذهب بالخمس بأولى من الأخرى،
ثم ترجع كل سرية بما أصابها من القسمة إلى العسكر، فيعطيهم أميرهم
النفل من ذلك ويضم ما بقى إلى غنائمهم، فيخرج الخمس منها ويقسم
ما بقى بين السرية وأهل العسكر. حتى إذا كانت إحدى السريتين
ثمان مئة: أربع مئة فرسان وأربع مئة رجالة، والسرية الأخرى
أربع مئة: مئة فرسان وثلاث مئة (ص 274) رجالة.
فإنما يقسم المصاب في الابتداء على خمس مئة فرسان وسبع مئة رجالة.
816

ثم ما أصاب الفرسان يقسم أخماسا: خمس ذلك للسرية التي هي
قليلة العدد وأربعة أخماسه للسرية الأخرى. وما أصاب الرجالة يقسم
أسباعا: ثلاثة أسباعه للقليلة وأربعة أسباعه للأخرى.
فبهذا الطريق يتبين حصة كل سرية من المصاب.
1470 - ويستوي في هذا الحكم إن كان الأميران كل واحد
منهما نفل السرية أو لم ينفل واحد منهما أو نفل أحدهما دون الآخر.
لان تنفيل كل أمير لا يجوز فيما هو حصة السرية الأخرى. فإنهم من
أهل العسكر لا ولاية له عليهم. والله أعلم
817