الكتاب: الأخبار الطوال
المؤلف: الدينوري
الجزء:
الوفاة: ٢٨٢
المجموعة: أهم مصادر رجال الحديث عند السنة
تحقيق: تحقيق : عبد المنعم عامر / مراجعة : الدكتور جمال الدين الشيال
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٩٦٠
المطبعة:
الناشر: دار إحياء الكتب العربي - عيسى البابي الحلبي وشركاه / منشورات شريف الرضي
ردمك:
ملاحظات: الطبعة الأولى ١٩٦٠ القاهرة

الأخبار الطوال
تأليف
أبي حنيفة
أحمد بن داوود الدينوري
(282 ه‍)
بسم الله الرحمن الرحيم
فوضت أمري إلى الله
(أولاد آدم)
قال أبو حنيفة أحمد بن داود الدينوري رحمه الله، وجدت فيما كتب أهل العلم
بالأخبار الأولى، أن آدم عليه السلام كان مسكنه الحرم، وأن ولده كثروا
في زمان مهليل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم، وكان سيد ولد آدم في دهره
، والقائم بأمره، وكذلك كان آباؤه إلى آدم عليهم السلام أجمعين، ووقع بينهم
التنازع في الأوطان، ففرقهم مهليل في مهب الرياح الأربع، وخص ولد شيث
بأفضل الأرض، فأسكنهم العراق
. (إدريس ونوح)
وكان أول نبي بعد شيث إدريس، واسمه أخنوخ بن يرد بن مهليل، وسمي
إدريس، لكثرة دراسته، ثم بعث الله نوحا عليه السلام إلى أهل عصره، وكان
مسكنه بأرض العراق، وهو نوح بن لمك بن متوشلح، فكذبوه، فأغرقهم الله،
ونجى نوحا ومن كان معه في السفينة، وكان جنوح السفينة واستقرارها على رأس
الجودي، جبل بقردى وبازبدى (1) من أرض الجزيرة فلما مات نوح استخلف
ابنه ساما، فكان أول من وطد السلطان، وأقام منار الملك بعد سام جم
ابن ويرنجهان بن إيران، وهو أرفخشذ بن سام بن نوح، وأعقم الله جميع من نجى
مع نوح في السفينة إلا بنيه الثلاثة، ساما وحاما ويافثا وكان لنوح ابن رابع
اسمه يام، وهو الغريق، ولم يكن له عقب، وأما الثلاثة فكلهم أعقب.

(1) كورتان متقابلتان أولاهما شرق نهر دجلة والأخرى غربية وفى نسخة نقرداى وبازبدى.
1

وكان سام هو المتولي لأمر نوح من بعده، وكان يشتو بأرض (جوخى)
ويصيف بالموصل، وكان طريقه في مبدئه ومنصرفه على شط دجلة من الجانب
الشرقي، فسمي لذلك سام رآه (1)، وهو الذي تسميه العجم (إيران). وقد كان
تبوأ أرض العراق، واختصها لنفسه، فسمي إيران شهر، وقام بالأمر بعده ابنة
(شالخ)، فلما حضرته الوفاة أسند الأمر إلى ابن أخيه جم بن ويرنجهان بن أرفخشذ
فثبت أساس الملك، ووطد أركانه وبنى معالمه، واتخذ يوم النيروز عيدا (2)
.. (اختلاف الألسن)
قالوا: وفي زمان جم تبلبلت الألسن ببابل. وذلك أن ولد نوح كثروا بها
، فشحنت بهم، وكان كلام الجميع السريانية، وهي لغة نوح، فأصبحوا ذات يوم،
وقد تبلبلت ألسنتهم، وتغيرت ألفاظهم، وماج بعضهم في بعض، فتكلمت كل
فرقة منهم باللسان الذي عليه أعقابهم إلى اليوم، فخرجوا من أرض بابل، وتفرقت
كل فرقة جهة، وكان أول من خرج منهم ولد يافث بن نوح، كانوا سبعة إخوة:
الترك، والخزر، وصقلاب، وتاريس، ومنسك، وكمارى والصين. فأخذوا
ما بين المشرق والشمال، ثم سار بعدهم ولد حام بن نوح، وكانوا أيضا سبعة إخوة:
السند والهند والزنج والقبط وحبش ونوبة وكنعان، فأخذوا ما بين الجنوب
والدبور (3) وأقام ولد سام بن نوح مع ابن عمهم جم الملك بأرض بابل على تغير
ألفاظهم.

(1) أي طريق سام، وكلمة رآه RAH فارسية معناها طريق.
(2) كلمة فارسية مركبة من: نو، بمعنى جديد، وروز بمعنى يوم، ويوم النوروز عند
الفرس هو أول يوم من أيام السنة الشمسية حيث يفرح الناس به ستة أيام، وقد كتب الحكيم
عمر الخيام النيسابوري رسالة عن النيروز بالفارسية، عنوانها (نيروز نامه) طبعت وطبعت سنة 1330
بطهران
(3) المراد الغرب، فالدبور بفتح الدار ريح تهب من نحو المغرب تقابل ريح صبا
2

(الساميون)
وكان لسام بن نوح خمسة بنين: إرم أكبرهم سنا، وأرفخشذ، وعالم،
وأليفر، والأسور، فخص ولد إرم باللسان العربي عند تبلبل الألسن، وكانوا
أيضا سبعة إخوة: عاد، وثمود، وصحار، وطسم، وجديس، وجاسم، ووبار.
فارتحل عاد مع من تبعه حتى حل بأرض اليمن. ونزل ثمود بن إرم ما بين الحجاز
إلى الشام. ونزل طسم بن إرم عمان والبحرين، ونزل جديس بن إرم اليمامة،
ونزل صحار ما بين الطائف إلى جبلي طيئ، ونزل جاسم ما بين الحرم إلى سفوان (1)،
ونزل وبار بن إرم ما وراء الرمل بالبلاد التي تعرف بوبار، وهؤلاء العرب الأولى
انقرضوا عن آخرهم.
قالوا: ولما خرج هؤلاء تحركت قلوب سائر ولد نوح للخروج من بابل، فخرج
خراسان بن عالم بن سام، فاتخذ خراسان خطة، وفارس بن الأسور بن سام،
والروم بن أليفر بن سام، وإرمين بن نورج بن سام، وهو صاحب أرمينية،
وكرمان بن تارح بن سام، وهيطل بن عالم بن سام، وولده من وراء نهر بلخ (2)،
وتسمى بلاد الهياطلة، ونزل كل رجل منهم مع ولده في الأرض التي سميت به،
ونسبت إليه، فلم يبق مع الملك جم بأرض بابل إلا ولد أرفخشذ بن سام.
قالوا: ولما كثرت عاد باليمن تجبروا وعتوا، وعليهم شديد بن عمليق بن عاد
بن إرم بن سام بن نوح، فوجه إلى ولد سام ابن أخيه الضحاك بن علوان بن عمليق
ابن عاد، وهو الذي تسميه العجم بيوراسف، فصار إلى أرض بابل، وهرب
منه جم الملك، فطلبه الضحاك حتى ظفر به، فأخذه، وأشر بميشار (3)،

(1) سفوان واد من ناحية بدر.
(2) نهر في شمالي أفغانستان تقع عليه مدينة بلخ عاصمة دولة آل سبكتين وقد دمدت
مدينة بلخ على يد جنكيزخان، وكانت محاطة بسور وفيها قلعة وجوامع ومدارس.
(3) المئشار بالهمز هو المنشار بالنون، وأشرت الخشبة أشرا إذا شققتها مثل نشرتها
نشرا
3

فاستولى على ملكه. وكان الذي وجه إلى ولد حام بن نوح ابن عمه الوليد بن الريان
ابن عاد بن إرم، وكان ملكهم يومئذ مصر بن القبط بن حام الذي تبوأ أرض
مصر، فسار إليه الوليد بن الريان حتى قتله، واستولى على ملكه.
ومن ولد الوليد بن الريان الريان بن الوليد عزيز مصر، صاحب يوسف عليه
السلام، ومن ولدهما الوليد بن مصعب فرعون موسى عليه السلام، وكان جالوت
الجبار الذي قتله داود النبي من ولد الوليد بن الريان.
وكان الذي وجه شديد بن عمليق إلى ولد يافث بن نوح ابن أخيه غانم بن علوان
أخو الضحاك بن علوان، وكان ملك ولد يافث بن نوح يومئذ فراسياب بن توذل
ابن الترك بن يافث بن نوح، فغلب على ملكه أيضا، واستولى على أرضه، ومن
ولد غانم بن علوان فيما يقال فؤر ملك الهند الذي قتله الإسكندر مبارزة، ويقال
إن رستم الشديد من ولد غانم.
(الضحاك)
قالوا: وإن الضحاك الذي تسميه العجم بيوراسف عندما كان من غلبته
جم الملك وقتله إياه واطمئنانه في الملك وفراغه أخذ يجمع إليه السحرة من آفاق
مملكته، ويتعلم السحر حتى صار فيه إماما، وبنى مدينة بابل (1) وجعلها أربعة
فراسخ في أربعة، وشحنها بجنود من الجبابرة وسماها (خوب)، وسام أولاد
أرفخشذ الخسف، ونبتت في منكبيه سلعتان كهيئة الحيتين، تؤذيانه حتى يطعمهما
أدمغة الناس فتسكنان. قالوا: فكان يؤتى كل يوم بأربعة رجال جسام فيذبحون

(1) بابل عاصمة الكلدانيين القدماء، ومكانها يبعد عن بغداد بمقدار 93 ك. م إلى الجنوب
على الشاطئ نهر الفرات، وقد بناها نمرود وشيد بها معبدا كبيرا لعبدة الشمس وقد زادت
شهرتها في التاريخ القديم بعد خراب نينوى وعظم عمرانها حتى إن حدائقها المعلقة اعتبرت من عجائب
الدنيا السبع، وقد استعملت أنقاض أنقاض بابل في تعمير بغداد في عهد أبي جعفر المنصور، وتقوم الآن
بعثات أوربية بالتنقيب عن آثرها بجواز قرية (حلة) فعثر على بعض الآثار وعلى كتيبها
من عهد بخت نصر والملوك القدماء.
4

وتؤخذ أدمغتهم فيغذى بها تانك الحيتان. وكان له وزير من قومه، فولى وزارته
رجلا من ولد أرفخشذ يسمى إرمياييل، فكان إذا أتي بالرجال ليذبحوا استحيا
منهم اثنين، وجعل مكانهما كبشين من الغنم، وأمر الرجلين أن يذهبا حيث
لا يوجد أثرهما، فكانوا يصيرون إلى الجبال، فيكونون فيها، ولا يقربون القرى
والأمصار، فيقال إنهم أصل الأكراد (1)
.. (بعثه هود)
وملك بعد شديد بن عمليق أخوه شداد بن عمليق بن عاد بن إرم، فعتا، وتجبر، فبعث الله إليه هودا عليه السلام رسولا، وكان من صميم قومه وأشرافهم، وهو
هود بن خالد بن الخلود بن العيص بن عمليق بن عاد، فلم يحفل به، فأهلكه،
ومن كفر معه من عاد، كما قد قصة الله تبارك وتعالى في كتابه، وهو أصدق
الحديث. (2)
قال: ونشأ في ذلك الدهر عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح، فولد له
فالغ بن عابر، ثم ولد له بعد ذلك قحطان بن عابر، قال: وإنما سمي قحطان لقحطه
القحوط، وطرده بالسخاء والجود، ثم ولد له لأم بن عابر، فكان أعبد أهل
عصره، وكانت أسفار آدم وشيث ونوح وقعت إليه، فدرسها، وعلمها.
ثم إن الضحاك البيوراسف طلبه ليفتنه عن دينه، فهرب منه بأهله وولده
من مدينة بابل حتى حل بمفازة من أرض الروم، فقبره بها، ويقال: إن مكان
قبره معروف حتى الآن.

(1) جمع كرد، وهم قوم يسكنون الحدود الغربية لإيران وما يجاورها، ويتكلمون لغة
شبيهة باللغة الفارسية.
(2) الآيات من 21 - 26 من سورة الأحقاف.
5

(نمروذ بن كنعان)
ولما أهلك الله عادا مع شداد ضعف ركن الضحاك، ووهى أمره، واجترأ عليه
ولد أرفخشذ بن سام، وكان الوباء وقع في جنده، ومن كان معه من الجبابرة،
فخرج يريد أخاه غانم بن علوان الذي ملكه شديد على ولد يافث، ويستعين به
على أمره، فاستغنم ولد أرفخشذ بن سام خروجه، فأرسلوا إلى نمروذ بن كنعان
ابن جم الملك، وكان مستترا هو وأبوه في طول ملك الضحاك، بجبل دنباوند (1)،
فأتاهم، فملكوه عليهم، فصمد (و) صمد من كان بأرض بابل من أهل بيت
الضحاك، فقتلهم أجمعين، واستولى على ملك الضحاك، وبلغ ذلك الضحاك
فأقبل نحوه، فظفر به نمروذ وضربه على هامته بجرز (2) حديد، فأثخنه، ثم شده
وثاقا، وأقبل به إلى غار في جبل دنباوند، فأدخله فيه وسد عليه، واستدف (3)
الملك لنمروذ واستوسق، وهو الذي يسميه العجم فريدون.
قالوا: ولما توفي هود عليه السلام اجتمع ولد إرم بن سام من أقطار الأرض،
فملكوا مرثد بن شداد، وذلك في أول ملك نمروذ بن كنعان، فغزاهم نمروذ في
آخر ملكه، وقد وهى أمرهم، فقدر عليهم. وقالوا: فالغ وقحطان أخوان،
وهما ابنا عابر، ففالغ جد إبراهيم عليه السلام، وأما قحطان فأبو اليمن، ويروى
أن ابن المقفع كان يقول: (يزعم جهال العجم ومن لا علم له أن جم الملك هو سليمان
ابن داود، وهذا غلط، فبين سليمان وبين جم أكثر من ثلاثة آلاف (4) سنة)،
ويقال: إن نمروذ بن كنعان فرعون إبراهيم من ولد جم. وكان ابن عم آزر بن تارح
أبي إبراهيم، وهو إبراهيم بن آزر بن تارح بن ناخور بن أرغوا بن شالخ بن أرفخشذ

(1) جبل في نواحي الري.
(2) عمود من الحديد وجمع جرز أجراز وجرزة وفي بعض النسخ الأوربية جرد حديد
والصواب ما ذكرناه
(3) استتب واستقام
. (4) ثلاث آلاف. في الأصل ثلثة آلف.
6

الذي سمته العجم، إيران، ومن ولد أرفخشذ جميع العرب، ومنهم أيضا ملوك العجم
وأشرافهم من أهل العراق وغيرهم.
(قحطان)
قالوا: ولما انقرضت عاد من أرض اليمن وبادوا، وذلك في عصر نمروذ
ابن كنعان، أقطعها نمروذ ابن عمه قحطان بن عابر، فسار إليها في ولده، حتى
نزلها، وبها بقايا قليلة ممن آمن بهود عليه السلام من عاد، فجاورهم قحطان بها،
فلم يكن إلا قليل حتى انقرضوا وبادوا، وصفت الأرض لقحطان.
ويقال: إن السائر إليها يعرب بن قحطان بعد وفاة أبيه، فسار إليها في إخوته
وأولادهم، فقطنها، فكانت أم يعرب دون إخوته من عاد، فتكلم بلسان أمه.
وذكر عن ابن الكيس النمري (1) أنه قال: إن قحطان تزوج امرأة من العماليق،
فولدت يعرب، وجرهم، والمعتمر، والمتلمس، وعاصما، ومنيعا، والقطامي،
وعاصيا، وحمير، فتكلموا جميعا بلسان أمهم بالعربية، وكان قحطان في عصر
نمروذ. وذكر عن ابن الشرية (2) إنه قال: كان الذي خرج إليها يعرب بن قحطان
في ولده، وكان أكبرهم سنا، وأعظمهم قدرا.
(ثمود)
قالوا: وإن ثمودا قفت ما كانت عليه عاد من الكفر بالله، والعتو عليه،
فأرسل الله إليهم صالحا رسولا، فكان من أشرفهم منصبا، وأكرمهم حسبا،
فدعاهم إلى توحيد الله، فلم يقبلوا منه، ولم يرعووا، فأهلكهم الله عز وجل،
كما نص في كتابه، وهو أصدق الحديث (3) ويقال: إنه كان بين مهلك عاد
ومهلك ثمود خمسمائة عام، وكان ذلك في عصر إبراهيم عليه السلام.

(1) وكان من أعلم الناس بالنسب (الاشتقاق الابن دريد)، وابن الكيس النسابة هو مالك
ابن عبيد بن شراحيل بن الكيس (جمهرة الأنساب).
(2) كذا في الأصل، وهو عبيد بن شرية الجرهمي، من صنعاء، وقد استقدمه معاوية
ابن سفيان، ليدون له التاريخ في كتاب، فكتب له كتاب الملوك وأخبار الماضي.
(3) الآيات: من 45 إلى 53 من سورة النمل.
7

(إبراهيم)
وفي آخر ملك نمروذ، وتسميه العجم (فريدون) تجبر نمروذ، وعتا، ولهج
بعلم النجوم، واجتلب المنجمين من آفاق الأرض، وحباهم بالأموال، واختار
سبعة نفر من أهل بيته، فسماهم (الكوهبارين) (1) فولاهم أموره، ووكل كل
رجل منهم بعمل أفرده به.
وكان آزر أبو إبراهيم أحد السبعة الذين اختار (هم). وقد كان دان له الشرق
والغرب، فكان من أمر مولد إبراهيم ما قد جاءت به الآثار، وكان أول من آمن
بإبراهيم امرأته سارة، وكانت من أجمل أهل عصرها. ولوط كان ابن أخته،
فأقام إبراهيم مع أبيه ما شاء الله، ثم خرج مهاجرا له، وخرجت معه سارة،
وكان أبو لوط من أهل مدينة (سدوم) (2) وكانت أمه بنت آزر، وإنما كان قدم
إلى بابل زائرا لجده آزر، فامن بإبراهيم، فأقام معه ببابل مؤازرا له على أمره،
فلما خرج إبراهيم عليه السلام مهاجرا خرج معه لوط، فلحق بأبيه وأهل بيته
بمدينة سدوم، وهي فيما بين أرض الأردن وتخوم أرض العرب، وسار إبراهيم
حتى أتى أرض مصر.
هجرة جرهم والمعتمر
قالوا: وإن ولد قحطان كثروا بأرض اليمن، فوقع بينهم التباغي والتحاسد،
فاجتمع ولد يعرب بن قحطان على جرهم بن قحطان وولد المعتمر بن قحطان، فنفوهم
عن اليمن وأرضه، فسارت جرهم نحو الحرم، وسار بنو المعتمر نحو الحجاز،
ورئيس جرهم مصاص بن عمر بن عبد الله بن جرهم بن قحطان، وأرادوا نزول الحرم،

(1) في بعض النسخ الأوربية القوهيارتين. والصحيح ما ذكر، والمعنى (المختارون)
(2) سدوم مدينة قديمة في فلسطين أحرقت بنار سماوية لارتكاب أهلها الفحشاء وعدم
طاعتهم نبيهم لوطا، ويقال إنها سميت باسم قاضيها الذي كان يضرب به المثل في الجور والظلم.
8

فمنعهم العماليق من ذلك، فاقتتلوا، فغلبتهم جرهم على الحرم، ونفوهم منه، ونزلت
جرهم الحرم.
فلما قطنوه بلغ ذلك بني المعتمر بن قحطان، فأقبلوا من أرض الحجاز حتى أتوا
الحرم، وسألوا جرهم السكنى معهم، فأبت عليهم جرهم، ورئيس بني المعتمر
السميدع بن عمرو بن قنطور بن المعتمر بن قحطان، فتداعى الفريقان للحرب،
فبحربهم هذه سميت قعيقعان والمطابخ وأجياد وفاضح، لأن به فضحت بنو المعتمر،
وقتل السميدع، وكان الظفر لجرهم.
(نمروذ وأولاده)
قالوا: وكان لنمروذ ثلاثة بنين: إيرج، وسلم، وطوس، ففوض إلى إيرج
ملكه، وجعل سلما على ولد حام، وطوسا على ولد يافث، فحسد إيرج أخواه،
إذ خصه أبوه بالأمر دونهما، وهو أصغر سنا منهما، فاغتالاه، فقتلاه، فصير الملك
إلى ابن ابنة منوشهر بن إيرج، وصرفه عن ابنيه: سلم، وطوس، ثم مات.
فملك منوشهر بن إيرج، وفي عصر منوشهر كثرت قحطان باليمن، فملكوا عليهم
سبا بن يشجب، واسم سبا عبد شمس.
(أولاد إسماعيل)
قالوا: وفي ذلك العصر توفي إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام، وخلف ثلاثة
بنين، قيذر بن إسماعيل، ونابت بن إسماعيل، وهو كان القيم بأمر مكة والحرم
بعد إبراهيم، ومدين بن إسماعيل، وهو الذي صار إلى أرض مدين، فنزلها
ومن ولده شعيب النبي عليه السلام، وقومه الذين أرسل إليهم.
(غلبة جرهم على الحرم)
قالوا: ولما توفي نابت بن إسماعيل غلبت جرهم على البيت والحرم، فخرج قيذر
بن إسماعيل بأهله وماله يتبع مواقع القطر فيما بين كاظمة، وغمر ذي كندة،
9

والشعثمين، وما والى تلك الأرضين حتى كثر ولده، وانتشروا في جميع أرض
تهامة، والحجاز، ونجد.
(بنو قحطان)
فملك سبا بن يشجب بن يعرب بن قحطان أرض اليمن طول ملك منوشهر مائة
وعشرين سنة، ثم مات، وملك بعده ابنه حمير بن سبا، وجعل ابنه كهلان
وزير حمير.
(نهاية ملك منوشهر)
قالوا: ولما أتى لملك منوشهر مائة سنة وعشرون سنة سار إليه فراسياب
ابن فأيش بن نوذسف بن الترك بن يافث بن نوح. وذلك حين ملك حمير أرض
اليمن. وكان مسيرة من ناحية المشرق في جموع من ولد يافث بن نوح، حتى انتهى
إلى أرض بابل، وخرج إليه منوشهر الملك في جنوده، ففضت جموع منوشهر،
وقفا فراسياب إثر منوشهر حتى لحقه، فقتله، واستولى على ملكه، و جلس
على سريره.
وسام ولد أرفخشذ الخسف، وهدم ما كان بأرض بابل من الحصون، وعور (1)
ما كان فيها من العيون، وطم (2) ما كان فيها من الأنهار، وقحط الناس في ملكه
قحطا شديدا، وكان أهل إيران شهر في ملكه في أعظم بلاء.
(زاب بن بودكان)
فلما تم لملك فراسياب تسع سنين ظهر زاب بن بودكان بن منوشهر بن إيرج
ابن نمروذ بأرض فارس، فخلع فراسياب، ودعا لنفسه، فمال إليه جميع ولد سام
ابن نوح للجهد الذي نالهم في ملك فراسياب، فسار إلى فراسياب حتى نفاه عن

(1) أتلف عيون الماء.
(2) طم: جف
10

مملكته، وعمد إلى المدن والحصون التي هدمها فراسياب، فأعاد بناءها، وحفر
الأنهار والقنى التي كان طمها، وأصلح كل ما كان فراسياب أفسده، وكرى
بالعراق أنهارا عظيمة سماها الزوابي، اشتق اسمها من اسمه، وهي الزابي الأعلى،
والزابي الأوسط، والزابي الأسفل، وابتنى المدينة العتيقة، وسماها طيسفون،
(1) ثم سار في أثر فراسياب، وقد أقام بخراسان في جموعه، وعساكره، فزحف إليه
فراسياب فاقتتلوا، وأقبل أرسناس الذي كان منوشهر أمره بتعليم الناس الرمي
بالنشاب، وقد وتر قوسه وفوق. (2) فيها نشابة، فأقبل حتى دنا من فراسياب،
فلما تمكن رماه رمية خالطت فؤاده،
وخر ميتا، وانصرف ولد يافث حين قتل
ملكهم حتى لحقوا بأرضهم، وكان زاب قد أصابته جراحات كثيرة، فمات منها
بعد مهلك فراسياب بشهر. وفي ذلك العام مات حمير بن سبأ
. قالوا: كان ملك الوليد بن مصعب فرعون موسى عليه السلام (3) على جميع
أرض ولد حام، وهي المملكة التي تعرف بملك مصر بن حام.
وقالوا: (ولما توفي يوسف بن يعقوب وإخوته بأرض مصر بقى أعقابهم بها،
وكثروا فيها، وكانوا في زمان موسى عليه السلام ستمائة ألف رجل، وكان ملك اليمن
في زمن موسى الملطاط بن عمرو بن حمير بن سبا).
كيقباذ بن زاب
وكان ملك أرض بابل كيقباذ بن زاب، وكان الملطاط يلقب بالرائش، لأنه راش
قومه وأغناهم، وكانت ملوك الأرض كلها قد دانوا لكيقباذ، واتقوه بالإتاوة (4)،

(1) يذكرها الجغرافيون العرب باسم طيسفون أو طيسفونج أو طوسفون، والأوربيون
باسم Atcsibhon، وكانت مدينة بها قصر لكسرى وتبعد من بغداد مقدار ثلاثة فراسخ.
(2) فوق النشابة: وضعها في وتر قوس.
(3) عليه السلام: عم، والمعروف بعد الكشوف الفرعونية أن فرعون موسى هو منفتاح
- - - - - - الثاني، أحد ملوك الأسرة التاسعة عشرة
(4) الإتاوة: كل ما أخذ بالإكراه من رشوة أو خراج.
11

وكان له ثلاثة بنين: قابوس، وهو الذي ملك من بعده، وكيابنة، وهو جد
لهراسف الذي ملك بعد سليمان بن داود ع، وقيوس، وهو جد الأشغانيين
الذين كانوا ملوك الجبل في زمان الطوائف.
وفي عصره خرج موسى بن عمران من مصر هاربا من فرعون حتى أتى أرض
مدين (1) ونزل على شعيب، فآجره نفسه ثماني حجج، كما ذكر الله جل ثناؤه
في الكتاب الناطق (2)، ثم خرج من عند شعيب لما قضى الأجل، وسار بأهله،
فكان من أمره وإكرام الله إياه بتكليمه ورسالته ما قد قصة علينا في كتابه،
وانصرف إلى شعيب، ورد أهله إليه، ومضى حتى بلغ رسالة ربه، وفي هذا العصر
بعث شعيب إلى قومه، فكان منهم ما حكاه الله في كتابه.
(أبرهة)
قالوا: ثم ملك أرض اليمن أبرهة بن الملطاط، وهو أبرهة ذو المنار، سمي بذلك،
لأنه أمر بعمل المنار وا لإيقاد عليها بالليل، ليهتدي بها جنوده، وتوفي موسى
ابن عمران عليه السلام، وتولى أمر إسرائيل من بعده يوشع بن نون، فخرج
ببني إسرائيل من أرض مصر إلى أرض الشام، فأسكنهم بفلسطين.
قالوا: وإن أبرهة تجهز وسار في بشر كثير يؤم أرض المغرب، واستخلف
على ملكه ابنه إفريقيس، فأوغل في أرض السودان، فأعطوه الطاعة، فجاز
أرضهم، وسار حتى انتهى إلى أمة من الناس، أعينهم و أفواههم في صدورهم،
ويقال إنهم أمة من ولد نوح عليه السلام، غضب الله عليهم، فبدل خلقهم،
فأعطوه الطاعة، وانصرف، راجعا، فمر بأمة من الناس، يقال لهم النسناس، للرجل
والمرأة منهم نصف رأس، ونصف وجه، وعين واحدة، ونصف بدن، ويد واحدة،

(1) قرية النبي شعيب.
(2) الآيات 23، 24، 25، 26، من سورة القصص.
(3) الآيات من رقم 176 إلى 190 من سورة الشعراء
12

ورجل واحدة، يقفزون قفزا في أسرع من حضر (1) الفرس الجواد، وهم يهيمون
في الغياض التي على شاطئ البحر، خلف رمل عالج (2) يعني رمل بلاد اليمن،
فسأل عنهم، فأخبر انهم أمة من ولد وبار بن إرم بن سام بن نوح.
(كيكاوس بن كيقباذ)
قالوا: وكان ملك العجم في عصر أبرهة بن الملطاطكيكاوس بن كيقباذ،
وكان متشددا على الأقوياء (3) رحيما بالضعفاء، وكان منصورا محمودا إلى أن خطرت
منه خطرة ضلال، فيما كان هم به من الصعود إلى السماء، فهو صاحب التابوت
والنسور، وكان قد وجد على ابنه سياوش، ولم يكن له ولد غيره، فأراد قتله،
فهرب منه، فلحق بملك الترك، فحل منه محلا لطيفا لما بلاه واختبره، ورأى
عقله وآدابه وبأسه ونجدته، ففوض إليه أمره، فلما رأى ذلك أهل بيت الملك
حسدوه، وخافوا أن يبزهم الأمر، فدسوا إليه الغوائل (4) عند الملك حتى أقدم
عليه، فقتله، وقد كان زوجه ابنته، وحملت منه، فأراد أن يبقر بطنها عن
جنينها، فناشده برايان الوزير فيها، وفي ولدها ألا يقتلها من غير جرم، فقال له:
(دونك، فخذها إليك، فإذا ولدت فاقتل ولدها). فكانت عنده حتى ولدت
غلاما، وهو كيخسرو والذي ملك بعده، فأخرجه من المصر، واسترضع له في سكان
الجبال من الأكراد، فنشأ عندهم، وقال للملك: (إنها ولدت جارية وقد قتلتها)
فصدقه.
(ملك كيخسرو)
وإن أهل فارس شنئوا كيكاوس لما أظهر من الجبروت والعتو والجرأة على الله،

(1) الحضر بضم الحاء وسكون الضاد ارتفاع الفرس في عدوه.
(2) عالج: موضع بالبادية به رمل.
(3) الأقوياء في الأصل: الأقرباء
(4) الغوائل جمع غائلة وهي الداهية والمصيبة.
13

وتأمروا على خلعه، وفشا ذلك حتى بلغ أم الغلام، وقد أتى له سبع عشرة سنة،
فدست رسولا إلى أهل فارس، تعلمهم مقتل سياوش، وأمر الغلام، فاختاروا رجلا
من أفاضلهم، يسمى (زو)، فوجهوه إلى أبريان الوزير في الإقبال بالغلام،
فقدم عليه، وأعلمه ما أجمعت عليه أهل فارس، فسلم إليه الغلام، وحمله على فرس
أبيه سياوش الذي قدم عليه من العراق، فسار به زو، يكمن النهار، ويسير الليل،
حتى ورد يم جيحون (1) وهو نهر بلخ مما يلي خوارزم، فعبره سباحة على فرسه،
وأقبل به، حتى أورده دار الملك، فخلعوا كيكاوس، وملكوا الغلام، وسموه
كيخسرو، ومنحوه الطاعة، فأمر بجدة فحبس، فلم يزل محبوسا حتى هلك.
(إفريقيس واليمن)
قالوا: وكان ملك كيخسرو وملك إفريقيس بن أبرهة في عصر واحد، وإن
إفريقيس تجهز يريد المغرب، حتى أوغل في أرض طنجة والأندلس، فرأى بلادا
واسعة، فابتنى هناك مدينة، وسماها إفريقية اشتق اسمها من اسمه، ونقل إليها
سكانا، وهي المدينة التي ينزلها اليوم سلطان ذلك البلد وعظماؤها، ثم انصرف إلى
وطنه، وفي ذلك العصر نشأ معد بن عدنان، وفيه انقرض ولد إرم من جميع
أرض العرب إلا بقايا من طسم وجديس، غبروا بعمان والبحرين واليمامة.
ملك ابن إفريقيس وهلال طسم وجديس
ولما مات إفريقيس بن أبرهة ملك ابنه ذو جيشان بن إفريقيس، فتجهز لغزو
كيخسرو ملك فارس، وجمع جنوده، وسار حتى نزل بنجران (2) وكان بعمان

(1) جيحون: نهر من أكبر أنهار آسيا ينبع من جبال بأمر ويجرى نحو الغرب حتى يصب
في بحيرة أوال، وفيضانه بين شهري مايو واكتوبر، وهو الان قد فاصل بين أفغانيتان
وجمهوريان آسيا الوفياتية، ويطلق المؤرخون العرب على البلاد الواقعة شمال جيحون بلاد
ما وراء النهر.
(2) نجران: موضع بالبحرين
14

والبحرين واليمامة بشر كثير من ولد طسم، وجديس، ابني إرم بن سام، وكانوا من
العرب العاربة، وكان ملكهم رجلا من طسم، يسمى عمليقا، وكان جائرا ظلوما،
وبلغ من عتوه أن أمر ألا تزف امرأة من جديس إلى زوجها إلا بدءوه بها، فمكثوا
بذلك دهرا طويلا.
وأن رجلا من جديس تزوج عفيرة بنت غفار أخت الأسود بن غفار عظيم
جديس وسيدها، فلما أرادوا إهداءها أدخلت على الملك، فافترعها، ثم خلى سبيلها،
فخرجت إلى قومها في دمائها رافعة ثوبها عن عورتها، وهي تقول:
أيصلح ما يؤتى إلى فتياتكم * وأنتم رجال ثورة عدد النمل
فلو أننا كنا رجالا وكنتم * نساء لكنا لا نقر على الذل
فبعدا لبعل ليس فيه حمية * ويختال يمشي مشية الرجل الفحل
فحميت من ذلك جديس، فاغتالوا عمليقا، فقتلوه على غرة، وأمامهم الأسود
ابن غفار يرتجز، ويقول:
يا ليلة ماليلة العروس * جاءت تمشي بدم جميس (1)
يا طسم ما لاقيت من جديس * إحدى لياليك فهيس هيس (2)
فأبادوا طسما، فلم يفلت منهم إلا رجل يقال له، رياح بن مرة، فإنه مضى
على وجهه حتى أتى ذا جيشان، وهو معسكر في جنوده بنجران، فمثل بين يديه،
ثم قال:
إنك لم تسمع بيوم ولا ترى * كيوم أباد الحي طسما به المكر
أتيناهم في أزرنا ونعالنا * علينا الملاء الحمر والحلل الخضر
فصرنا لحوما بالعراء وطعمة * تنازعها ذيب الوشيمة والنمر (3)

(1) الدم الجميس: هو الدم المتجمد
(2) هيش هيس: كلمتان تقالان للحض عند إمكان الأمر والاغراء به
(3) الوشيمة: الشر والعداوة والضراوة
15

فدونك قوما ليس لله فيهم * ولا لهم منه حجاب ولا ستر
فقال الملك: كم بيننا وبينهم؟، قال: ثلاث. فقال من حضره: كذب،
أيها الملك، بينك وبين القوم عشرون ليلة، فأمر جنوده بالمسير نحو اليمامة، ففي
مسيرهم، وقصة الزرقاء (1) يقول الأعشى بعد ذلك بدهر طويل:
قالت أرى رجلا في كفه كتف * أو يخصف النعل، لهفي أية صنعا
فكذبوها بما قالت، فصبحهم * ذو آل جيشان، يزجي الموت والشرعا
فاستنزلوا أهل جو من مساكنهم * وهدموا مشرف البنيان، فاتضعا
فأم جديسا، واستأصلهم، ثم رحل نحو العراق يريد كيخسرو، وزحف
إليه كيخسرو، فالتقوا، فقتل ذو جيشان، وانفضت جموعه.
(ملك الفند ذي الأذعار)
فملكت اليمن ابنه الفند ذا الأذعار، وإنما لقب ذا الأذعار لرعب الناس منه،
فلم تكن له همة إلا الطلب بثأر أبيه
. هجره ربيعة إلى اليمامة البحرين
قال: وبقيت اليمامة والبحرين بعد قتل جديس ليس بها أحد إلى أن كثرت
ربيعة، وانتشرت، وتفرقت في البلاد، فسارت عترة (2) بن أسد بن ربيعة،
تتبع مواقع الغيث، وتقدمها عبد العزى بن عمرو العنزي حتى هجم على اليمامة، فرأى
بلادا واسعة، ونخلا وقصورا، وإذا هو بشيخ قاعد تحت نخلة سحوق،
(3) يرتجز، ويقول: تقاصري، أجن جناك قاعدا
إني أرى حملك ينمي (4) صاعدا

(1) امرأ من قبيلة جديس تبصر السئ من مسيرة ثلاثة أيام، وقد حذرت قومها
من هجوم حمير فلم يصدقوها حتى صبحهم حسان فاجتاحهم وأخذ الزرقاء فشق عينيها.
(2) العترة بالكسر: نسل ورهطه وعشيرته الأذنون.
(3) النخلة الطويلة الجراد التي بعد ثمرها على المجتنى
(4) ينمى: يرتفع.
16

فقال له عبد العزى: من أنت أيها الشيخ؟ قال: أنا من هزان، الضراغمة
الأقران، غزانا ذو جيشان، الملك القرم (1) اليمان، فأعمل فيها المران (2) فلم يبق
بهذا المكان غيري، وإني لفان. فقال عبد العزى: ومن هزان؟ قال:
هزان بن طسم أخو النهى والحزم، وابن الشجاع القرم.
فأقام عبد العزى أياما، ثم تبرم بمكانه، فمضى سائرا حتى سقط إلى البحرين،
فرأى بلادا أوسع من اليمامة، وبها من وقع إليها من ولد كهلان، حين هربوا من
سيل العرم (3) فأقام معهم، وسارت بنو حنيفة على ذلك السمت، يتبعون
مواقع الغيث، وتقدمهم عبيد بن يربوع، وكان سيدهم، فنزل قريبا منها،
فمضى غلام له ذات يوم حتى هجم على اليمامة، فرأى نخلا وريفا، وإذا هو بشئ
من تمر قد تناثر
تحت النخل، فأخذه، وأتى به عبيدا، فأكل منه، فقال:
وأبيك إن هذا الطعام طيب. فارتفع حتى أتى اليمامة، فدفع فرسه، فخط على
ثلاثين دارا وثلاثين حديقة، فسمي ذلك المكان حجرا، فهو اليوم قصبة اليمامة،
وموضع ولاتها، وسوقها، وتسامعت بنو حنيفة بما أصاب عبيد بن يربوع،
فأقبلوا حتى أتوا اليمامة، فقطنوها، فعقبهم بها إلى اليوم. قال: وكان داود النبي
عليه السلام في عصر ذي الأذعار، وكان ملك العجم كيخسرو بن سياوش.
داود الملك
وكان سلطان بني إسرائيل قد وهى، فكان من حولهم من الأمم يغزونهم،
فيقتلون، ويأسرون، فأتوا نبيهم شعيبا، فقالوا: (ابعث لنا ملكا، نقاتل في
سبيل الله) (4) فملك عليهم طالوت، وكان من سبط يوسف صلى الله عليه وسلم (5)

(1) السيد، والرئيس، فهو يشبه المقرم من الإبل في عظم شأنه. (2) الرماح الصلبة اللدنة.
(3) العرم: السبل الذي لا يطاق، وكان قوم سبأ في نعمة وجنان كثيرة، فلم يشكروا نعمة
الله فبعث الله عليهم جرذا نقبت سدالهم، فيه أبواب، فانبثق الماء، فغرت جنانهم
(4) الآية رقم 246 من سورة البقرة.
(5) كذا في الأصل
17

وكان الملك في بيت يهوذا، وقد كان بقي في ذلك العصر من ولد عاد
جالوت الجبار، فسار غازيا لبني إسرائيل في جنوده، فجمع طالوت بني إسرائيل،
وخرج لمحاربته، فمروا بالنهر الذي نهاهم طالوت عن شربه، وشربوا منه إلا
ثلاثمائة رجل وسبعة عشر رجلا، عدد أهل بدر مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وكان داود النبي حينئذ حدث السن، فلما تواقف الفريقان وضع داود - عليه
السلام - حجرا في قذافه، ثم فتلها، ورماه، فصك بين عيني جالوت، فكانت
نفسه فيه، وانهزم جنوده، وغنم بنو إسرائيل أموالهم فاجتمع بنو إسرائيل
عند ذلك على تمليك داود صلى الله عليه وسلم، وخلع طالوت برضى منه، وداود
من سبط يهوذا بن يعقوب. قالوا: وكان ملك الروم في ذلك العصر (دقينوس)
صاحب الفتية أصحاب الكهف.
وذكر عن عبد الله بن الصامت، قال: وجهني أبو بكر الصديق رضي الله
عنه - (1) سنة استخلف إلى ملك الروم، لأدعوه إلى الإسلام أو آذنه بحرب، قال،
فسرت حتى أتيت القسطنطينية، فأذن لنا عظيم الروم، فدخلنا عليه، فجلسنا،
ولم نسلم، ثم سألنا عن أشياء من أمر الإسلام، ثم صرفنا يومنا ذلك، ثم دعا
بنا يوما آخر، ودعا خادما له، فكلمه بشئ، فانطلق، فأتاه بعتيده (2)، فيها
بيوت كثيرة، وعلى كل بيت باب صغير، ففتح بابا، فاستخرج خرقة سوداء،
فيها صورة بيضاء، كهيئة رجل أجمل ما يكون من الناس وجها، مثل دارة القمر
ليلة البدر، فقال: أتعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا أبونا آدم عليه السلام،
ثم رده. وفتح بابا آخر، فاستخرج خرقة سوداء، فيها صورة بيضاء، كهيئة
شيخ جميل الوجه، في وجهه تقطيب، كهيئة المحزون المهموم، فقال: أتدرون
من هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا نوح، ثم فتح بابا آخر، فاستخرج خرقة سوداء،
فيها صورة بيضاء (3) على صورة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى جميع الأنبياء،

(1) رضي الله عنه: رضه
(2) نموذج مهيا.
(3) خرم في الأصل، مقداره ورقة.
18

فلما نظرنا إليه بكينا، فقال: ما لكم؟ فقلنا: هذه صورة نبينا محمد صلى الله عليه
وسلم، فقال: أ بدينكم، إنها صورة نبيكم؟ قلنا: نعم، هي صورة نبينا، كأنا نراه
حيا، فطواها، وردها، وقال: أما إنها آخر البيوت إلا إني أحببت أن أعلم
ما عندكم، ثم فتح بابا آخر، فاستخرج منه خرقة سوداء، فيها صورة بيضاء،
أجمل ما يكون من الرجال، وأشبههم بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ثم قال:
وهذا إبراهيم، ثم فتح بيتا آخر، فاستخرج صورة رجل آدم، (1) كهيئة المحزون
المفكر، ثم قال: هذا موسى بن عمران، ثم فتح بيتا آخر، فاستخرج صورة
رجل، له ضفيرتان، كان وجهه دارة القمر، ثم قال: وهذا داود، ثم فتح بيتا
آخر، فاستخرج صورة رجل جميل على فرس، له جناحان، ثم قال: وهذا
سليمان (2)، وهذه الريح تحمله، ثم فتح بيتا آخر، فاستخرج صورة شاب
جميل الوجه، في يده عكازة، وعليه مدرعة (3) صوف، ثم قال: وهذا عيسى،
روح الله، وكلمته، ثم قال: إن هذه الصورة وقعت إلى الإسكندر، فتوارثها
الملوك
من بعده حتى أفضت إلي.
قالوا: وإن ذا الأذعار خرج في جنوده، يطلب بثأر أبيه ذي جيشان الذي
صار إلى أرض فارس، فحارب كيخسرو، فقتل في المعركة، فمات ذو الأذعار
في طريقه قبل أن يدرك ما أراد.
ملك بلقيس
فملكت اليمن عليهم الهدهاد بن شرحبيل بن عمرو بن مالك بن الرائش، وكان
الهدهاد يلقب بذي شرخ، فأمر بجسم ذي الأذعار، فحمل، ورجع بقومه إلى
أرض اليمن، فأمر به، فدفن بصنعاء (4) في مقبرة الملوك. قالوا: وإن الهدهاد

(1) أسمر، والأدمية، في الناس، السمرة، وفى الضباء، لون مشرب بياضا، وفي الإبل، لون مشرب سوادا.
(2) سليمان: سليمن.
(3) جبة مشقوقة من المقدم، تلبس ولا تكون إلا من الصوف.
(4) العاصمة الحالية لمملكة اليمن.
19

تزوج ابنة ملك الجن بأرض اليمن، فولدت له بلقيس، وهذا حديث منتشر،
قد حملته الرواة.
قالوا: فلما أتى لها ثلاثون سنة حضر الهدهاد الموت، فجمع وجوه حمير،
فقال: يا قوم، إني قد عجمت الناس، واختبرت أهل الرأي والعقل، فلم أر مثل
بلقيس، وإني قد وليتها أمركم، لتقيم لكم الملك إلى أن يبلغ ابن أخي ياسر ينعم بن
عمرو، فرضوا بذلك، فملكت بلقيس.
(ملك سليمان)
وفي أول ملكها توفي داود، عليه السلام، وورث سليمان ملكه، وذلك كله
في عصر كيخسرو بن سياوش، فلما ملك سليمان سار من أرض الشام إلى أرض
العراق بأهله وخزائنه، فلحق بخراسان، فنزل مدينة بلخ (1)، وكان هو الذي بناها
قبل ذلك، وأقبل سليمان حتى نزل العراق، فبلغ كيخسرو نزول سليمان بأرض
العراق، وما أعطي من عظيم السلطان، فدخله فزع، وأسف خامره، فنهكه
، فلم يلبث إلا قليلا حتى مات.
وإن سليمان سار من العراق إلى مرو، ثم سار (2) ثم سار منها إلى بلخ، ثم سار من
بلخ إلى بلاد الترك، فوغل فيها، وجاوزها إلى بلاد الصين، ثم عطف متيامنا
عن مطلع الشمس على ساحل البحر حتى أتى القندهار (3)، ثم سار منها إلى
كسكر (4)، ثم عاد إلى الشام، فوافى تدمر، وكانت موطنه.
قالوا: ووجد في صخر بكسكر:
غدونا طلوع الشمس من أرض فارس * فها نحن قد قلنا ببلدة كسكر

(1) مدينة مشهورة بخراسان، من أجل المدين بها، وأكثرها غلة، وقد افتتحها الأحنف
ابن قيس في أيام عثمان بن عفان، وينسب إليها خلق كثير، منهم الحسن بن شجاع، المحدث المشهور
(2) مدينة فارس. (3) القندهار: بلد على بعد 300 ك. م من كابل عاصمة أفغانستان، ولها أهمية تجارية
كبيرة لوقوعها بين الهند وإيران.
(4) كسكر: كورة بين البصرة والكوفة، عاصمتها واسط
20

ونحن ولا حول سوى حول ربنا * نروح إلى الأوطان من أرض تدمر (1)
وكان داود عليه السلام ابتدأ بناء مسجد بيت المقدس، فتوفي قبل استتمامه،
فاستتمه سليمان، وأتم بناء مدينة إيليا (2)، وقد كان أبوه ابتدأها قبله، فبنى
مسجدها بناء لم ير الناس مثله، وكان يضئ في ظلمة الليل الحندس إضاءة السراج
الزاهر، لكثرة ما كان جعل فيه من الجواهر والذهب، وجعل اليوم الذي فرغ
فيه منه عيدا في كل سنة، فلم يكن في الأرض عيد أبهى ولا أعظم خطرا منه،
ولا أحسن منظرا، فلم يزل المسجد على ما بناه سليمان حتى غزا (بخت نصر)
بيت المقدس، فأخر بها، ونقض المسجد، وأخذ ما كان فيه من الذهب
والفضة والجوهر، فنقله إلى العراق.
قالوا: وكان سليمان مطعاما للطعام، فكان يذبح في مطابخة كل غداة ستة
آلاف ثور، وعشرون ألف شاة. قالوا: ولما فرغ سليمان من بناء مسجد إيليا (3)
تجهز سائرا إلى تهامة (4)، يريد بيت الله الحرام، فطاف به، وكساه، وذبح
عنده، وأقام سبعا، ثم سار إلى صنعاء، وتفقد الطير، فلم ير الهدهد،
فكان من حديثه وحديث صاحبه سبأ - وهي بلقيس - ما قد قصة الله تبارك وتعالى
في كتابه (5)، إلى أن تزوجها وبنى بأرض اليمن ثلاثة حصون، لم ير الناس
مثلها، وهي سلحين، وبينون، وغمدان، وانصرف سليمان إلى الشام، فكان
يزورها في كل شهر، فيقيم عندها ثلاثا
. وإنه غزا بلاد المغرب: الأندلس، وطنجة، وفرنجة، وإفريقية، ونواحيها من أرض

(1) تدمر: مدينة بأرض الشام.
(2) اسم قديم لمدينة القدس.
(3) إلى هنا ينتهي الخرم في الأصل.
(4) تهامة: أرض بالجزيرة العربية ما بين ذات عرق إلى مرحلتين من مكة، وذات عرق أول
تهامة إلى البحر وجدة، وتذكر بعض الكتب العربية، أنها مكة.
(5) سورة النمل الآيات من رقم 20 إلى رقم 44
21

بني كنعان بن حام بن نوح، وعليهم ملك جبار عات، عظيم الملك، فدعاه إلى
الإيمان بالله، وخلع الأنداد، فتمرد عليه، فقتله، وأصاب ابنة له من أجمل
الناس، فتسراها، ووقعت منه موقعا لطيفا.
وقفل إلى الشام، فأمر بمقصورة، فبنيت لها، وأفردها فيها مع ظئورتها (1)
وخدمها، وكان سليمان لا يدخل عليها إلا وجدها باكية حزينة، فكدر ذلك عليه
حبه لها، وعجبه بها، وهي المرأة التي نال سليمان في أمرها ما ناله من سلب ملكه،
وزوال سلطانه وبهائه، حين اتخذت تلك المرأة تمثال أبيها في داره، وعبدته سرا
من سليمان، إلا أن اتخاذها التمثال كان عن علم من سليمان، وأذن لها، أراد
بذلك أن تسكن إذا نظرت إليه، فتتسلى.
ويقال: إن سليمان بنى في أقاصي بلاد المغرب مدينة من نحاس في مفاوز
الأندلس، وأودعها خزائن من خزائنه، وإن عبد الملك بن مروان كتب إلى عامله
على بلاد المغرب، موسى بن نصير - وكان من أبناء العجم، غير أن ولاءه كان لقيس -
يأمره بالمسير إلى هذه المدينة ليعلم له علم خبرها، ويكتب إليه، وإن موسى بن نصير
سار إليها، وانصرف راجعا حتى سار إلى القيروان، وكتب بالخبر إلى عبد الملك،
يصف له المدينة، وما لقي في سفره إليها، وما رآه عند مصيره نحوها.
(أرخبعم بن سليمان)
قالوا: ولما توفي سليمان قام بالأمر بعده أرخبعم بن سليمان، فتفرقت
بنو إسرائيل، ووهى أمره، فمكث بذلك إلى أن سار (بخت نصر) - وهو
(بوخت نرسى) عند العجم إلى بيت المقدس، فهدمه.
(انقسام إمبراطورية سليمان)
قالوا: وقام باليمن بعد بلقيس ياسر ينعم بن عمر بن شرحبيل بن عمرو، وكان

(1) الظئر مهموز، الأنثى العاطفة على غير ولدها، المرضعة له.
22

ابن أخي الهدهاد، وإنما سمي ياسر ينعم لأنعامه على قومه. قالوا: وإن ياسر ينعم
تجهز غازيا لأرض المغرب، حتى بلغ وادي الرمل، ولم يبلغه ملك قبله، فأراد
أن يعبره، فلم يجد مجازا، لأنه رمل فيما زعموا، يجري كما يجري الماء، فعسكر
على حافته، ونصب عليه صنما، وكتب على جبهته (ليس ورائي مذهب، فانصرف)،
وانصرف إلى بلاده.
(هدم مدينة (إيليا)) قالوا: وإن فارس لما مات سليمان بن داود اجتمع عظماؤها وأشرافها ليختاروا
رجلا من ولد كيقباذ الملك، فيملكوه عليهم، فوقعت خيرتهم على لهراسف
بن كيميس بن كيابنة بن كيقباذ الملك، فملكوه عليهم، وإن لهراسف عقد
لابن عمه، بخت نصر بن كانجار بن كيابنة بن كيقباذ في اثني عشر ألف رجل
من خيله، وأمره أن يأتي الشام فيحارب أرخبعم بن سليمان، فإن كان الظفر له
قتل من قدر عليه من عظماء إسرائيل، وهدم مدينة إيليا، فسار بخت نصر حتى أتى الشام، فشن فيها الغارات، وعاث، فانهزم ملوك الشام منه، وهرب
أرخبعم من بيت المقدس، فنزل فلسطين، فتوفي بها.
وأقبل بخت نصر حتى ورد مدينة بيت المقدس، فدخلها لا يمتنع منه أحد،
فوضع في بني إسرائيل السيف، وسبى أبناء الملوك والعظماء، وهدم مدينة إيليا،
فلم يدع فيها بيتا قائما، ونقض المسجد، وحمل ما كان فيه من الذهب والفضة
والجوهر، وحمل كرسي سليمان، وقفل راجعا إلى العراق، وكان في السبي
دانيال النبي عليه السلام، فسار حتى قدم على لهراسف الملك، وهو نازل
بالسوس (1)، فمات دانيال عنده بالسوس.
(ملك العجم واليمن) قالوا: ولما حضر لهراسف الموت أسند الملك إلى ابنه بشتاسف، وفي ذلك

(1) مدينة قديمة بأرض فارس، تقع بإيالة خوزستان، وقد اتخذها ملوك الفرس مشتى لهم
23

العصر مات ياسر ينعم صاحب اليمن، وقام بالأمر بعده شمر بن إفريقيس بن أبرهة
بن الرائش، وهو الذي يزعمون أنه أتى الصين وهدم مدينة سمرقند (1)، فيزعمون
أن وزير صاحب الصين مكر به، وذلك أنه أمر الملك أن يجدعه ويخلي سبيله،
فسار الأجدع إلى شمر، فأخبره أنه نصح لصاحبه، يعني ملك الصين، وأمره
بالنجوع (2) لشمر، وإعطائه الطاعة والإتاوة، فغضب عليه، و جدعه، وإنه سار
إلى شمر ليدله على عورة صاحب الصين جزاء بما فعل به، فاغتر شمر بذلك، وسأله
عن الرأي، فقال: إن بينك وبينه مفازة، تقطع في ثلاثة أيام، ومأتاه منها قريب،
فاحمل الماء لثلاثة أيام، وسر حتى أفاجئه بك من كثب، فتستبيح بلده، وتأخذه
سلما، وأهله، وماله. ففعل، فسلك به مفازة لا ترام، فلما ساروا ثلاثة،
ونفد الماء، ولم يروا علما، ولا انتهوا إلى ماء، قالوا له: أين ما زعمت؟،
فأعلمه أنه مكر به، ووقى أهل بيته بنفسه، لأنه قد علم أنه سيقتله، وقال
قد أهلكتك، فاصنع ما أنت صانع، فمالك ولمن تبعك في الحياة (3) مطمع. فوضع شمر درعه (4) تحت رأسه، وترس (5) حديد كان معه فوق رأسه، يستكن به
من الشمس.
قالوا: وقد كان المنجمون قالوا له، إنك تموت بين جبلي حديد، فمات بين
درعه وترسه عطشا، فلم يبق من جنوده أحد إلا هلك، وقد سمعنا نحن بهذا
الحديث في غير قصة شمر.

(1) بلد في ارض كسكر فيها وراء نهر جيحون، وهي من بلاد المشهورة في التاريخ القديم،
ويقال انها سميت باسم الذي بناه، شمر أبو كرب، ثم عربها العرب في كلامهم إلى سمرقند.
(2) النجوع: الإتيان، ونجع فلانا إذا أتاه طالبا معروفة.
(3) الحيات: الحياة.
(4) الدرع: قميص من حديد يتدرع به في الحرب.
(5) الترس من السلاح: ما يتوقى به.
24

(زرادشت ودعوته)
قالوا: وكان زراذشت صاحب المجوس أتى بشتاسف الملك، فقال: إني
رسول الله إليك، وأتاه بالكتاب الذي في أيدي المجوس، فآمن له بشتاسف،
ودان بدين المجوسية، وحمل عليه أهل مملكته، فأجابوه طوعا وكرها.
وكان رستم (1) الشديد عامله على سجستان (2) وخراسان، وكان جبارا
مديد القامة، شديد القوة، عظيم الجسم، وكان ينتمي إلى كيقباذ الملك
، ولما بلغه دخول بشتاسف في المجوسية، وتركه دين آبائه غضب من ذلك غضبا
شديدا، وقال: ترك دين آبائنا الذي توارثوه آخرا عن أول، وصبا إلى دين
محدث.
ثم جمع أهل سجستان، فزين لهم خلع بشتاسف، وأظهروا عصيانه، فدعا
بشتاسف ابنه (إسفندياذ) وكان أشد أهل عصره، فقال له: يا بني، إن الملك
مفض إليك وشيكا، ولا تصلح أمورك كلها إلا بقتل رستم، وقد عرفت شدته
وقوته، وأنت نظيره في الشدة والقوة، فانتخب من الجنود ما أحببت، ثم
سر إليه.
فانتخب إسفندياذ من جنود أبيه اثني عشر ألف رجل من إبطال العجم،
وسار نحو رستم، وزحف إليه رستم، فالتقيا ما بين بلاد سجستان وخراسان،
فدعاه إسفندياذ إلى إعفاء الجيشين من القتال، وأن يبرز كل واحد منهما لصاحبه،
فأيهما قتل صاحبه استولى على أصحابه، فرضى رستم بذلك، وعاهده عليه

(1) رستم: بطل فارسي مشهور، أفرد لبطولته في الشهنامة فصول تعتبر من أروع فصول
الكتاب
(2) سجستان: ولاية واسعة، مدينتها ذرنج، وبينها وبين هراه ثمانون فرسخا إلى الجنوب،
وأرضها رملة، والرياح فيها لا تسكن، وهي واقعة الآن بين إيران وأفغانستان وعاصمتها نصر تاباد،
وفيها نشأ رستم بطل إيران الأسطوري، وإليها ينسب أبو حاتم السجستاني اللغوي المعروف.
25

وحالفه، فوقف العسكران، وخرج كل واحد منهما إلى صاحبه، فاقتتلا بين
الصفين، فيقول العجم في ذلك قولا كثيرا، إلا أن رستم هو الذي قتل إسفندياذ،
وانصرف جنوده إلى أبيه بشتاسف، فأخبروه بمصاب ابنه إسفندياذ، فخامره
حزن أنهكه، فمرض من ذلك، فمات، وأسند الملك إلى ابن ابنه بهمن
بن إسفندياذ.
قالوا: ولما رجع رستم إلى مستقره من أرض سجستان لم يلبث أن هلك.
(ملك اليمن)
قالوا: وإن أهل اليمن لما بلغهم مهلك شمر وجنوده بأرض الصين اجتمعوا،
فملكوا عليهم أبا مالك بن شمر، وهو الذي ذكره الأعشى في قوله:
وخان النعيم أبا مالك
وأي امرئ صالح لم يخن
وهو الذي يزعمون أنه هلك في طرف الظلمة (1) التي في ناحية الشمال، فدفن
على طرفها.
قالوا: وذلك، أنه بلغه مسير ذي القرنين إليها، وأنه أخرج منها جوهرا
كثيرا، فتجهز يريد الدخول فيها، فقطع إليها أرض الروم، وجاوزها حتى
انتهى إلى طرف الظلمة، وتهيأ لاقتحامها، فمات قبل أن يدخلها، فدفن
في طرفها، فانصرف من كان معه إلى أرض اليمن.
(ملك العجم، وخلاص بني إسرائيل) قالوا: وملك بهمن بن إسفندياذ، فأمر ببقايا ذلك السبي الذي سباهم
بخت نصر من بني إسرائيل، أن يردوا إلى أوطانهم من أرض الشام، وقد كان
تزوج قبل أن يفضي الملك إليه أبراخت بنت سامال بن أرخبعم بن سليمان بن داود،
وملك (روبيل) أخا امرأته أرض الشام، وأمره أن يخرج معه من بقي من ذلك
السبي، وأن يعيد بناء إيليا، ويسكنهم فيه، كما لم يزالوا، ويرد كرسي سليمان،

(1) الأرض التي في شمال البحر الأسود.
26

فينصبه مكانه، فخرج روبيل بذلك السبي، حتى ورد بهم إيليا، وأعاد بناءها،
وبنى المسجد. وسار بهمن إلى سجستان، وقتل من قدر عليه من ولد رستم
وأهل بيته، وأخرب قريته.
قالوا: وقد كان بهمن دخل في دين بني إسرائيل، فرفضه أخيرا، ورجع
إلى المجوسية، وتزوج ابنته (خماني) وكانت أجمل أهل عصرها، فأدركه الموت
وهي حامل منه، فأمر بالتاج فوضع على بطنها، وأوعز إلى عظماء أهل المملكة
أن ينقادوا لأمرها حتى تضع ما في بطنها، فإن كان غلاما أقروا الملك في يدها
إلى أن يشب ويدرك، ويبلغ ثلاثين سنة، فيسلم له الملك.
قالوا: وكان ساسان بن بهمن يومئذ رجلا ذا رواء وعقل وأدب وفضل،
وهو أبو ملوك الفرس من الأكاسرة، ولذلك يقال لهم الساسانية، فلم يشك الناس
أن الملك يفضي إليه بعد أبيه، فلما جعل أبوه الملك لابنته خماني أنف من ذلك
أنفا شديدا، فانطلق، فاقتنى غنما، وصار مع الأكراد في الجبل، يقوم عليها
بنفسه، وفارق الحاضرة غيظا من تقصير أبيه.
قالوا: فمن ثم يعير ولد ساسان إلى اليوم برعي الغنم، فيقال ساسان الكردي،
وساسان الراعي.
(خماني زوج بهمن)
فملكت خماني، فلما تم حملها وضعت غلاما، وهو دارا بن بهمن، ثم إنها
تجهزت غازية لأرض الروم، فسارت حتى أوغلت في بلاد الروم، وخرج إليها
ملك الروم في جنوده، فالتقوا، واقتتلوا، فكان الظفر لخماني، فقتلت، وأسرت،
وغنمت، فقفلت وقد حملت معها بناءين من بنائي الروم، فبنوا لها بأرض فارس
ثلاثة إيوانات (1): أحدها وسط مدينة إصطخر (2)، والثاني على المدرجة

(1) جمع إيوان، وهو البناء ذو الصفة العظيمة
(2) عاصمة إيالة فارس، وفيها نشأ بعض علماء المسلمين.
27

التي يسلك فيها من إصطخر إلى خراسان، والثالث على طريق (دارابجرد)
على فرسخين من إصطخر.
(دارا بن بهمن)
فلما أتى لابنها دارا ثلاثون سنة جمعت عظماء المملكة، ودعت بابنها دارا،
فأقعدته على سرير الملك، وتوجته بالتاج، وولته الأمر.
(ملك تبع بن أبي مالك)
قالوا: ولما هلك أبو مالك بطرف الظلمة اجتمع أشراف أهل اليمن، فملكوا
أمرهم ابنه تبع الأقران وإنما سمي لنجدته تبع الأقران، وقد قيل: بل هو
تبع الأقرن. كل ذلك يقال.
فلما ملك تجهز يريد بلاد الصين طالبا بثأر أبيه وجده، فسار إليها، فمر
بسمرقند، وهي خراب، فأمر ببنائها، فأعيد، ثم ركب المفازة حتى انتهى إلى
بلاد التبت (1)، فرأى مكانا واسعا ظاهر المياه مكتلئا، فابتنى هناك مدينة،
فأسكن فيها ثلاثين ألف رجل من أصحابه، فهم التبعيون، وزيهم إلى اليوم
زي العرب، وهيئتهم هيئة العرب، ثم سار إلى أرض الصين، فقتل، وأخرب
مدينة الملك، فهي خراب إلى اليوم، ثم قفل راجعا إلى اليمن، وامتد ملكه، إلى
أن ملك الإسكندر، فخرج الملك عنه، فصار في المقاول. قالوا، وفي ذلك
العصر نشأ النضر بن كنانة.
(دارا والروم)
قالوا: وإن دارا بن بهمن لما ملك تجهز غازيا إلى أرض الروم، فسار حتى
أوغل في أرضهم، فخرج إليه الفيلفوس ملك الروم في جنوده، فالتقوا،

(1) التبت: سطح مرتفع في آسيا الوسطى تقع بين خطى عرض 527، 537 شمالا، وبين
خطى طول 596576 شرقا، وعاصمتها لهاسة.
28

فاقتتلوا، فكان الظفر لدارا، فصالحه الفيلفوس على إتاوة يؤديها إليه كل عام،
وهي مائة ألف بيضة ذهب، في كل بيضة أربعون مثقالا (1)، وتزوج ابنته، ثم
انصرف إلى فارس.
(ملك داريوش)
فلما تم لدارا اثنتا عشرة سنة في الملك حضرته الوفاة، فأسند الملك إلى ابنه
دارا بن دارا، وهو الذي يعرف بداريوش، مقارع الإسكندر، فلما أفضى
الملك إلى دارا بن دارا تجبر، واستكبر، وطغى. وكانت نسخة كتبه إلى عماله:
من دارا بن دارا المضئ لأهل مملكته كالشمس إلى فلان. وكان عظيم السلطان،
كثير الجنود، لم يبق في عصره ملك من ملوك الأرض إلا بخع له بالطاعة،
واتقاه بالإتاوة.
(نشأة الإسكندر)
ونشأ الإسكندر، وقد اختلف العلماء في نسبه، فأما أهل فارس فيزعمون أنه
لم يكن ابن الفيلفوس، ولكن كان ابن ابنته، وإن أباه دارا بن بهمن.
قالوا: وذلك أن دارا بن بهمن لما غزا أرض الروم صالح الفيلفوس
ملك الروم على الإتاوة، فخطب إليه دارا ابنته، وحملها بعد تزويجها إياه إلى وطنه،
فلما أراد مباشرتها وجد منها ذفرا (2)، فعافها، وردها إلى قيمة نسائه، وأمرها
أن تحتال لذلك الذفر، فعالجتها القيمة بحشيشة، تسمى السندر، فذهب عنها بعض
تلك الرائحة، ودعا بها دارا، فوجد منها رائحة السندر، فقال: آل سندر.
أي ما أشد رائحة السندر، وآل، كلمة في لغة فارس يراد بها الشدة، وواقعها،
فعلقت منه، ونبأ قلبه عنها لتلك الذفرة التي كانت بها، فردها إلى أبيها

(1) المثقال: درهم وثلاثة أسباع الدرهم
(2) الذفر: الريح النتنة الكريهة.
29

الفيلفوس، فولدت الإسكندر، فاشتقت له اسما من اسم تلك العشبة التي عولجت
بها، على ما سمعت دارا قاله ليلة واقعها، فنشأ الإسكندر غلاما لبيبا أديبا ذهنا،
فولاه جده الفيلفوس جميع أمره لما رأى من حزمه وضبطه ما رأى. ولما حضر
الفيلفوس الوفاة أسند الملك إليه، وأوعز إلى عظماء المملكة بالسمع والطاعة له.
(غلبه الإسكندر)
فلما ملك الإسكندر لم تكن له همة إلا ملك أبيه دارا بن بهمن، فسار إلى
أخيه دارا بن دارا، فحاربه على الملك. وأما علماء الروم فيأبون هذا، ويزعمون
أنه ابن الفيلفوس لصلبه، وأنه لما مات الفيلفوس وأفضى الملك إلى الإسكندر
امتنع على دارا بن دارا بتلك الضريبة التي كان يؤديها أبوه إليه.
فكتب إليه دارا بن دارا يأمره بحمل تلك الإتاوة، ويعلمه ما كان بين أبيه وبينه
من الموادعة عليها، فكتب إليه الإسكندر (إن الدجاجة التي كانت تبيض ذلك
البيض ماتت) فغضب دارا من ذلك، وآلى ليغزون أرض الروم بنفسه
حتى يخربها، فلم يحفل الإسكندر بذلك، ولم يعبأ به، وكان الإسكندر جبارا
معجبا، وقد كان عتا في بدء أمره عتوا شديدا، واستكبر.
وكان بأرض الروم رجل من بقايا الصالحين في ذلك العصر، حكيم
فيلسوف، يسمى (أرسطاطاليس)، يوحد الله، ويؤمن به، ولا يشرك به شيئا،
فلما بلغه عتو الإسكندر وفظاظته وسوء سيرته أقبل من أقاصي أرض الروم حتى انتهى
إلى مدينة الإسكندر، فدخل عليه، وعنده بطارقته (1)، ورؤساء أهل مملكته،
فمثل قائما بين يديه غير هائب له، فقال له: أيها الجبار العاتي، ألا تخاف ربك
الذي خلقك، فسواك وأنعم عليك، ولا تعتبر بالجبابرة الذين كانوا قبلك،
كيف أهلكهم الله حين قل شكر هم، واشتد عتوهم...؟!. في موعظة طويلة.

البطارقة: جمع بطريق، وهو الحاذق بالحرب وأمورها.
30

فلما سمع الإسكندر ذلك غضب غضبا شديدا، وهم به، ثم أمر بحبسه ليجعله
عظة لأهل مملكته. ثم إن الإسكندر راجع نفسه، وتدبر كلامه لما أراد الله به
من الخير، فوقع منه في نفسه ما غير قلبه، فبعث إليه على خلاء، فأصغى إليه،
واستمع لموعظته وأمثاله وعبره، وعلم أن ما قال هو الحق، وأن ما خلا الله من
معبود باطل، فارعوى واستجاب للحق، وصح يقينه، فقال لذلك العابد: فإني
أسألك أن تلزمني، لأقتبس من علمك، وأستضئ بنور معرفتك. فقال له:
إن كنت تريد ذلك فاحسم اتباعك من الغشم والظلم وارتكاب المحارم.
فتقدم الإسكندر بذلك، وأوعد فيه، وجمع أهل مملكته ورؤساء
جنوده، فقال لهم: اعلموا أنا إنما كنا نعبد إلى هذا اليوم أصناما،
لم تكن تنفعنا ولا تضرنا. وإني آمركم، فلا تردوا على أمري، وأرضى لكم
ما أرضاه لنفسي، من عبادة الله وحده لا شريك له، وخلع ما كنا نعبده من دونه،
فقالوا بأجمعهم: قد قبلنا قولك، وعلمنا أن ما قلت الحق، وآمنا بإلهك وإلهنا.
فلما صحت له نيات خاصته، واستقامت له طريقتهم، وطابقوه
على الحق أمر أن يعلن للعامة، أنا قد أمرنا بالأصنام التي كنتم تعبدونها أن
تكسر، فإن ظننتم أنها تنفعكم أو تضركم فلتدفع عن أنفسها ما يحل بها،
واعلموا أنه ليس لأحد عندي هوادة في مخالفة أمري، وعبادة غير إلهي، وهو
الإله الذي خلقنا جميعا. ثم أمر بتفريق الكتب بذلك في شرق الأرض، وغربها،
ليعامل الناس على قدر القبول والآباء، فمضت رسله بكتبه بذلك إلى ملوك الأرض.
فلما انتهى كتابه إلى دارا بن دارا غضب من ذلك غضبا شديدا، وكتب إليه:
(من دارا بن دارا المضئ لأهل مملكته كالشمس إلى الإسكندر بن الفيلفوس،
أنه قد كان بيننا وبين الفيلفوس عهد ومهادنة على ضريبة، لم يزل يؤديها إلينا
أيام حياته، فإذا أتاك كتابي هذا فلا أعلمن ما بطأت بها، فأذيقك وبال أمرك،
ثم لا أقبل عذرك، والسلام).
31

(دارا والإسكندر) فلما ورد كتابه على الإسكندر جمع إليه جنوده، وخرج متوجها نحو أرض
العراق، وبلغ ذلك دارا بن دارا، فأحرز خزائنه وحرمه وأولاده في حصن
همذان، وكان من بنائه، ثم لقي الإسكندر جادا مستنفرا، فواقعه وقائع كثيرة،
لم يجد الإسكندر مطمعا فيه، ولا في شئ منها، ثم إنه دس إلى رجلين من أهل
همذان، كانا من بطانته وخاصة حرسه، وأرغبهما، فرغبا، وغدرا بدارا:
أتياه من ورائه حين صاف الإسكندر في بعض أيامه، ففتكا به، وانفضت جموع
دارا، وأقبل الإسكندر حتى وقف على دارا صريعا، فنزل، فجعل رأسه
في حجره، وبه رمق، فجزع عليه، وقال: (يا أخي، إن سلمت من مصرعك
خليت بينك وبين ملكك، فاعهد إلي بما أحببت، أف لك به).
فقال دارا: (اعتبر بي (1)، كيف كنت أمس، وكيف أنا اليوم، الست
الذي كان بها بني الملوك، ويذعنون لي بالطاعة، ويتقونني بالأتاوة؟ وها أنا (ذا)
اليوم صريع فريد بعد الجنود الكثيرة والسلطان العظيم).
فقال الإسكندر: (إن المقادير لا تهاب ملكا لثروته، ولا تحقر فقيرا
لفاقته، وإنما الدنيا ظل يزول وشيكا، وينصرم سريعا).
قال دارا: (قد علمت أن كل شئ بقضاء الله وقدره، وأن كل شئ
سواه فإن، وأنا موصيك لمن خلفت من أهلي وولدي، وسائلك أن تتزوج
(روشنك) ابنتي، فقد كانت قرة عيني وثمرة قلبي)
فقال الإسكندر: (أنا فاعل ذلك، فأخبرني من فعل هذا بك، لأنتقم منه. فلم)
يحر في ذلك جوابا دارا، واعتقل لسانه بعد ذلك، ثم قضى، فأمر
الإسكندر بقاتليه، فصلبا على قبر دارا، فقالا: أيها الملك، ألم تزعم أنك ترفعنا
على جنودك؟! قال: قد فعلت.

(1) اعتبر بي: اعتبرني.
32

ثم أمر بهما، فرجما حتى ماتا. ثم كتب إلى أم دارا وامرأته بالتعزية،
وهما بمدينة همذان، وكتب إلى أمه وهي بالإسكندرية أن تسير إلى أرض بابل،
فتجهز روشنك بنت دارا بأحسن جهاز، وتوجهها إليه إلى أرض فارس،
ففعلت.
(فتوح الإسكندر)
ثم شخص الإسكندر نحو (فؤر) ملك الهند، فالتقيا على تخوم (1) أرض
الهند، وأن الإسكندر دعا فؤرا إلى البراز، وإلا يقتل الجمعان، بعضهم بعضا
بينهما، فاهتبلها (2) منه فؤر، وكان رجلا مديدا عظيما أيدا قويا، فرأى الإسكندر
قليلا قضيفا (3)، وبرز إليه، فأجلى النقع عن فؤر قتيلا، واستسلم له جنوده،
فقبل سلمهم.
وسار حتى دخل أرض السودان، فرأى ناسا كالغربان، عراة، حفاة،
يهيمون في الغياض، ويأكلون من الثمار، فإن استنوا (4) وأجدبوا أكل بعضهم
بعضا، فجاوزهم حتى انتهى إلى البحر، فقطع إلى ساحل عدن من أرض اليمن،
فخرج إليه تبع الأقرن ملك اليمن، فأذعن له بالطاعة، وأقر بالإتاوة، وأدخله
مدينة صنعاء، فأنزله، وألطف له (5) من ألطاف اليمن، فأقام شهرا.
(الإسكندر في مكة)
ثم سار إلى تهامة، وسكان مكة يومئذ خزاعة، قد غلبوا عليها، فدخل عليه
النضر بن كنانة، فقال له الإسكندر: ما بال هذا الحي من خزاعة نزولا بهذا

(1) التخوم: الفصل بين الأرضين من الحدود والمعالم.
(2) الاهتبال: الأغنام.
(3) القضف: النحافة
(4) أصابتهم سنتهم بالجفاف وقلة الغلة.
(5) الطف له، وألطفه، أحسن إليه وبره.
33

الحرم؟، ثم أخرج خزاعة عن مكة، وأخلصه للنضر، ولبني أبيه، وحج
الإسكندر بيت الله الحرام، وفرق في ولد معد بن عدنان، القاطنين بالحرم، صلات
وجوائز. ثم قطع البحر من جدة يؤم بلاد المغرب.
(الإسكندر في بلاد المغرب)
وروي عن ابن عباس: أن نوحا عليه السلام قسم الأرض بين ولده الثلاثة،
فخص ساما بوسط الأرض التي تسقيه الأنهار الخمسة: الفرات، ودجلة، وسيحان،
وجيحان (1)، وقيسون، وهو نهر بلخ، وجعل لحام ما وراء النيل إلى منفح
الدبور، وجعل ليافث ما وراء قيسون إلى منفح الصبا.
وقالوا: الأرض أربعة وعشرون ألف فرسخ، فبلاد الأتراك من ذلك
ثلاثة آلاف فرسخ، وأرض الخزر (2) ثلاثة آلاف فرسخ، وأرض الصين ألفا
فرسخ، وأرض الهند والسند والحبشة وسائر السودان ستة آلاف فرسخ،
وأرض الروم ثلاثة آلاف فرسخ، وأرض الصقالبة ثلاثة آلاف فرسخ، وأرض
كنعان، وهي مصر، وما وراءها مثل إفريقية، وطنجة، وفرنجة، والأندلس ثلاثة
آلاف فرسخ، وجزيرة العرب وما والاها ألف فرسخ
. قالوا: وبلغ الإسكندر أمر قنداقة ملكة المغرب، وسعة بلادها، وخصب أرضها
وعظم ملكها، وأن مدينتها أربعة فراسخ، وأن طول الحجر الواحد من سور
مدينتها ستون ذراعا. وأخبر عن حال قنداقة وعقلها وحزمها، فكتب إليها:
(من الإسكندر بن الفيلفوس الملك المسلط على ملوك الأرض إلى قنداقة ملكة
سمرة، أما بعد، فقد بلغك ما أفاء الله علي به من البلاد، وأعطاني من العد

(1) سيحان وجيحان: نهران بأرض الأناضول قرب طرسوس.
(2) الأرض المحيطة ببحر قزوين.
34

والنصرة، فإن سمعت، وأطعت، وآمنت بالله، وخلعت الأنداد التي تعبد من
دون الله، وحملت إلى وظيفة الخراج، قبلت منك وكففت عنك، وتنكبت
أرضك، وإن أبيت ذلك سرت إليك، ولا قوة إلا بالله).
فكتبت إليه: (أن الذي حملك على ما كتبت به فرط بغيك، وعجبك بنفسك،
فإذا شئت أن تسير فسر، تذق غير ما ذقت من غيري، والسلام).
فلما رجع جواب كتابه أرسل إليها بملك مصر، وكان في طاعته، ليدعوها
إلى الطاعة، وينذرها وبال المعصية، فسار إليها في مائة رجل من خاصته، فلم يجد
عندها ما يحب، فرجع إلى الإسكندر، فأعلمه، فتجهز الإسكندر إليها،
ومضى في جنوده، حتى انتهى إلى مدينة القيروان (1) - وهي من مصر على شهر -
فافتتحها بالمجانيق (2)، ثم سار إلى القنداقة،
فكانت له ولها قصص وأنباء،
فعاهدها على الموادعة و المسالمة، وألا يطور بسلطانها وشئ مما في مملكتها.
ثم سار من هناك قاصدا الظلمة التي في الشمال، حتى دخلها، فسار فيها ما شاء
الله، ثم انكفأ راجعا حتى إذا صار في تخوم أرض الروم ابتنى هناك مدينتين،
يقال لإحداهما، قافونية، وللأخرى سورية.
(الإسكندر وبلاد الشرق الأقصى) ثم هم بالاجتياز إلى أرض المشرق، فقال له وزراؤه: (كيف يمكنك
الاجتياز إلى مطلع الشمس من هذه الجهة، ودون ذلك البحر الأخضر،
ولا تعمل فيه السفن، لأن ماءه شبيه بالقيح، ولا يصبر على نتن ريحه أحد؟) فقال: (لا بد من المسير، ولو لم أسر إلا وحدي) قالوا: (نحن معك حيث
سرت). فسار حتى قطع أرض الروم، يؤم مشرق الشمس، ثم جاوزهم

(1) مدينة بتنوس بناها عقبة بن نافع سنة 55 ه‍. واتخذت عاصمة لبلاد المغرب، وبها
جوامع كثيرة
(2) جمع منجنيق، لفظة معربة من الفارسية، وهو آلة للحرب، ترمى بها الحجارة.
35

إلى أرض الصقالبة، فأذعنوا له بالطاعة، فجازهم إلى أرض الخزر، فأذعنوا له
، فجازهم إلى أرض الترك، فأذعنوا له، فسار في أرضهم حتى بلغ المفازة التي بينهم
وبين بلاد الصين، فركبها، وسار، حتى إذا قرب من أرض الصين أجلس
وزيرا له يقال له (فيناوس) في مجلسه، وأمره أن يتسمى باسمه، وتسمى هو
فيناوس، وقصد الملك حتى وصل إليه، فلما دخل عليه قال له: (من أنت؟)
قال: (أنا رسول الإسكندر، المسلط على ملوك الأرض،) قال: (وأين
خلفته؟)، قال: (على تخوم أرضك)، قال: (وبماذا أرسلك؟)
، قال: (أرسلني لأنطلق بك إليه، فإن أجبت أقرك في أرضك، وأحسن
حباءك (1)، وإن أبيت قتلك، وأخرب أرضك، فإن كنت جاهلا بما أقول
، فسل عن دارا بن دارا ملك إيران شهر، هل كان في الأرض ملك أعظم ملكا
منه، وأكثر جنودا، وأقوى سلطانا، وكيف سار إليه، واغتصبه نفسه، وسلبه
ملكه، وسل عن فؤر ملك الهند إلى ما آل أمره).
قال ملك الصين: (يافيناوس، إنه قد بلغني أمر هذا الرجل، وما أعطي
من النصر والظفر، وكنت على توجيه وفد إليه، أسأله الموادعة، وأصالحه على
الهدنة، فأبلغه، أني له على السمع والطاعة، وأداء الإتاوة في كل عام، فليست به
حاجة إلى دخول أرضي)
. ثم بعث إليه بتاجه، وبهدايا من تحف أرضه، من السمور (2) والقاقم، والخز
، والحرير الصيني، والسيوف الهندية، والسروج الصينية، والمسك، والعنبر، وصحاف
الذهب والفضة، والدروع، والسواعد، والبيض (3)، فقبض ذلك الإسكندر.

(1) الحباء: العطاء.
(2) السمور: حيوان يشبه الثعلب يتخذ من فروه بعض اللباس.
(3) البيض جمع بيضة، نوع من السلاح، وابتاض الرجل: لبس البيضة.
36

(يأجوج ومأجوج)
وسار راجعا إلى عسكره، وتنكب أرض الصين، وسار إلى الأمة التي
قص الله جل ثناؤه قصتها ف‍ (قالوا: يا ذا القرنين، إن يأجوج ومأجوج
مفسدون في الأرض) فكان من قصته وبنائه الردم ما قد أخبر الله به
في كتابه (1)، فسألهم عن أجناس تلك الأمم، فقالوا: نحن نسمي لك من
بالقرب منا منهم، فأما ما سوى ذلك، فلا نعرفه، هم يأجوج ومأجوج، وتأويل
وتاريس، ومنسك وكمارى
. فلما فرغ من بناء السد بينهم وبين تلك الأمم رحل عنهم، فوقع إلى أمه من الناس
، حمر الألوان، صهب الشعور، رجالهم معتزلون عن نسائهم، لا يجتمعون
إلا ثلاثة أيام في كل عام، فمن أراد منهم التزويج، فإنما يتزوج في تلك الثلاثة
الأيام، وإذا ولدت المرأة ذكرا، وفطمته دفعته إلى أبيه في تلك الثلاثة الأيام
، وإن كانت أنثى حبستها عندها، فارتحل عنهم، وسار حتى صار إلى فرغانة (3)
(فرأى قوما لهم أجسام وجمال، فأعطوه الطاعة، فسار من فرغانة إلى سمرقند،
فنزلها وأقام شهرا، ثم رحل، فسلك على بخارى (3)، حتى انتهى إلى النهر العظيم،
فعبره في السفن إلى مدينة آمويه، وهي آمل خراسان، ثم سلك المفازة حتى
خرج إلى أرض قد غلب عليها الماء، فصارت آجاما ومروجا، فأمر بتلك المياه،
فسدت عنها حتى جفت الأرض، فابتنى هناك مدينة، وأسكنها قطانا، وجعل
لها رساتيق، وقرى، وحصونا، وسماها (مر خانوس)، وهي مدينة مرو (4)، وتسمى

(1) سورة الكهف، الآية رقم 94
(2) إيالة كبيرة في تركستان، وصلت فيها العلوم والمعارف إلى أقصى حد من الرقي، إبان العهد
الإسلامي بها، وظهر منها علماء وأدباء كثيرون، وقد احتلتها الروس 1876 م.
(3) مدينة من أعظم المدن في آسيا الوسطى، وهي مركز هام للتجارة بين الصين والهند والأفغان
وروسيا، ولها نشاط كبير في العلم والصناعة والأسلحة، وقد فتحها العرب في عهد معاوية سنة 5 ه‍
(4) أشهر مدن خراسان، بينها وبين نيسابور سبعون فرسخا، ومعنى لفظ مرو الحجارة
البيض التي يقتدح بها.
37

أيضا ميلانوس، ثم اجتاز بنيسابور، وطوس حتى وافى الري (1)، ولم تكن
أيامئذ، وإنما بنيت بعد ذلك في ملك فيروز بن يزدجرد بن بهرام جور،
ثم اجتاز من هناك على الجبل، وحلوان (2)، حتى وافى العراق، فنزل المدينة العتيقة
التي تسمى طيسفون (3)، فأقام حولا، ثم سار يريد الشام حتى أتى بيت المقدس
. (ملوك الطوائف)
فلما اطمأن بها، قال لمؤدبه أرسطاطاليس: (إني قد وترت أهل الأرض جميعا
لقتلى ملوكهم، واحتوائي على بلدانهم وأخذي أموالهم، وقد خفت أن يتضافروا
على أهل أرضي من بعدي، فيقتلونهم ويبيدونهم لحنقهم علي، وقد رأيت أن
أرسل إلى كل نبيه وشريف، ومن كان من أهل الرياسة في كل أرض، وإلى أبناء
الملوك فأقتلهم)
. فقال له مؤدبه: ليس ذاك رأي أهل الورع والدين، مع أنك إن قتلت
أبناء الملوك وأهل النباهة والرياسة كان الناس عليك، وعلى أهل أرضك أشد
حنقا من بعدك، ولكن لو بعثت إلى أبناء الملوك وأهل النباهة فتجمعهم إليك،
فتتوجهم بالتيجان، وتملك كل رجل منهم كورة (4) واحدة، وبلدا واحدا،
فإنك تشغلهم بذلك، بتنافسهم في الملك، وحرص كل واحد على أخذ ما في

(1) الري: مدينة من أشهر مدن إيران، وأقدمها، وهي واقعة في أقصى شمال عراق العجم،
وقد كانت عاصمة السلجوقيين، وفتحها عروة بن زيد الخيل أيام الخليفة عمر بن الخطاب سنة 20
بأمر والى الكوفة عمار بن ياسر، وقد نشأ فيها علماء كثيرون.
(2) حلوان من المدن المشهورة بالعراق، وتقع على بعد 160 ك. م. شمال شرقي بغداد،
وقد حلوان معمورة أيام الأكاسرة، وفتحها هاشم بن عتبة بن أبي وقاص في عهد عمر بن الخطاب،
وهي مسقط رأس بعض العلماء
(3) ذكر الجغرافيون أنها كانت تقع على بعد ثلاثة فراسخ من بغداد، وقد كان بها قصر
لكسرى، ويذكرها الأوربيون باسم اكتسيفون.
(4) الكورة: الصقع والمدينة.
38

يدي صاحبه، عن إهلاك بلادك، فتلقى بأسهم بينهم، وتجعل شغلهم بأنفسهم،
فقبل الإسكندر ذلك منه، وفعله، وهم الذين يقال لهم ملوك الطوائف.
(نهاية الإسكندر)
ثم هلك الإسكندر ببيت المقدس، وقد ملك ثلاثين سنة، جال الأرض منها
أربعا وعشرين سنة، وأقام بالإسكندرية في مبتدأ أمره ثلاث سنين، وبالشام
عند انصرافه ثلاث سنين، فجعل في تابوت من ذهب، وحمل إلى الإسكندرية.
وبنى (الإسكندر) (1) اثنتي عشرة مدينة، الإسكندرية بأرض مصر، ومدينة
نجران بأرض العرب، ومدينة مرو بأرض خراسان، ومدينة جي بأرض أصبهان
، ومدينة على شاطئ البحر تدعى صيدودا، ومدينة بأرض الهند تدعى جروين،
ومدينة بأرض الصين تدعى (قرنيه)، وسائر ذلك بأرض الروم.
قالوا: ولما توفي الإسكندر حمى كل رجل من أولئك الذين ملكهم
حيزه (2)، ودفعوا الحرب، فلم يكن يغلب أحدهم صاحبه إلا بالحكمة والآداب،
يتراسلون بالمسائل، فإن أصاب المسؤول حمل إليه السائل، وإن بغى أحد منهم
على الآخر، وانتقصه شيئا من حيزه أنكروا جميعا ذلك عليه، فإن تمادى
أجمعوا على حربه، فسموا بذلك ملوك الطوائف.
(ملوك اليمن)
وزعموا أن الملوك الأربعة (4)، الذين لعنهم النبي صلى الله عليه وسلم، ولعن
أختهم أبضعة، لما هموا بنقل الحجر الأسود إلى صنعاء ليقطعوا حج العرب عن البيت
الحرام إلى صنعاء، وتوجهوا لذلك إلى مكة، فاجتمعت كنانة إلى فهر بن مالك
ابن النضر، فلقيهم، فقاتلهم، فقتل ابن لفهر، يسمى الحارثة، لم يعقب،

(1) بياض في الأصل.
(2) نواحي بلاده.
(3) ملوك كندة.
39

وقتل من الملوك الأربعة ثلاثة، وأسر الرابع، فلم يزل مأسورا عند فهر بن مالك
حتى مات. وأما أبضعة، فهي التي يقال لها (العنقفير)، ملكت بعد إخوتها بأخبث
سيرة، كانت تتخير الرجال على عينها، فمن أعجبها دعته إلى نفسها، فوقع بها،
لا يقدر أحد أن ينكر عليها، وإنها أبصرت فتى من قيس، فأعجبها، فدعته
إلى نفسها، فوقع بها، فألقحها غلامين في بطن، فسمت أحدهما سهلا،
والآخر عوفا، وفي ذلك يقول شاعر من شعراء قيس:
وذي تومة في أذنة وضفيرة
وسيم جميل لا يخيل مخايله
إذا ما رأته قيلة حميرية
تجر له حبل الشموس تهازله
قالوا: وكان ذو الشنائر ملك عنس ويحاير (1)، وكان عظيم الملك، كثير
الجنود، وكان ملكه على عمان، والبحرين، واليمامة، وسواحل البحر.
(ملك أردوان بن أشه)
قالوا: ولم يكن في ملوك الطوائف الذين كانوا بأرض العجم ملك أعظم ملكا،
ولا أكثر جنودا من أردوان بن أشه بن أشغان ملك الجبل، كان إليه الماهان
وهمذان، وماسيذان، ومهر جانقذق، وحلوان، (2) وسائر الملوك إنما كان يكون
إلى الرجل منهم كورة واحدة وبلد واحد. وكان الملك منهم إذا مات قام بالملك
بعده ابنه أو حميمه، وكان جميع ملوك الطوائف يقرون لأردوان ملك الجبل
بفضله، لاختصاص الإسكندر إياه دونهم بفضل الملك، وكان مسكنه بمدينة
نهاوند (3) العتيقة.
قالوا: وفي ذلك العصر بعث المسيح عيسى بن مريم عليه السلام.

(1) قبيلتان يمنيتان.
(2) مدن بأرض فارس، وبالعراق العجمي.
(3) بلد من بلاد الجبل، جنوبي همذان.
40

(أسعد بن عمرو) قالوا: وإن أسعد بن عمرو بن ربيعة بن مالك بن صبح بن عبد الله بن زيد بن
ياسر ينعم الملك الذي ملك بعد سليمان بن داود، صلى الله عليه وسلم (1)، لما نشأ وبلغ، أنف
من ابتزاز قبائل ولد كهلان بن سبا بن يشجب بن يعرب الملك حمير، وكان
الملك لهم، وفي عصرهم، فجمع إليه حمير، وذلك بعد أن ملكت المقاول بأرض اليمن،
فكانوا سبعة ملوك، توارثوا الملك مائتين وخمسين سنة، فسار إلى ملك همذان،
فحاربه، فظفر به، ثم سار إلى ملك عنس ويحاير، ففعل به مثل ذلك، وأتى
ملك كندة، وأعطي الظفر حتى اجتمع له ملك جميع أرض اليمن.
فلما اجتمع لأسعد الملك وجه ابن عمه القيطون بن سعد إلى تهامة والحجاز،
وجعله ملكا عليها، فنزل يثرب، فاعتدى وتجبر، حتى أمر أن لا تهدى امرأة
إلى زوجها حتى يبدؤوه بها، وسلك في ذلك مسلك عمليق، ملك طسم وجديس،
إلى أن زوجت أخت لمالك بن العجلان من الرضاعة، فلما أرادوا أن يذهبوا بها
إلى القيطون اندس معها مالك بن العجلان متنكرا، فلما خلا له البيت عدا عليه
بسيفه، فقتله، وعدوا على أصحابه، فقتلوا أجمعين، وبلغ ذلك أسعد الملك، فسار
إليهم، فنزل بالمدينة على نهر يسمى، بئر الملك، فكان من قصته ما هو مشهور،
قد كتبناه في غير هذا الموضع.
(بعثه عيسى الرسول)
قالوا: ولما ابتعث الله عيسى بن مريم، فأقبلت اليهود لتقتله، فرفعه الله إليه،
أتوا يحيى بن زكرياء، فقتلوه، فسلط الله عليهم ملكا من ملوك الطوائف من ولد
بخت نصر الأول (2)، فقتل بني إسرائيل، وضربت عليهم الذلة والمسكنة.

(1) كذا في الأصل.
(2) بخت نصر هو ملك الكلدانيين، وقد ملك عرش بابل من عام (747 - 733) ق. م
، ويبدأ به تقويم بطليموس، ويذكر البيروني أن الصيغة الفارسية لاسم بخت نصر هي (بخت نرس)،
ومعناه كثرة البكاء والأنين.
41

(أردشير بن بابك) قالوا: فلما تم لملوك الطوائف مائتا سنة، وست وستون سنة ظهر أردشير
ابن بابكان، وهو أردشير بن بابك بن ساسان الأصغر بن فافك بن مهريس
ابن ساسان الأكبر بن بهمن الملك بن إسفندياذ بن بشتاسف، فظهر بمدينة
إصطخر، فدب في رد ملك فارس في نصابه، واتسقت له الأمور، فلم يزل
يغلب ملكا، ويقتل ملكا، ويحتوي على ما تحت يده، حتى انتهى إلى فرخان
ملك الجبل، وكان آخر ملك من ولد أردوان، فكتب إليه أردشير، بالدخول
في طاعته، فلما أتاه كتابه امتلأ غيظا، وقال لرسله: لقد ارتقى ابن ساسان
الراعي مرتقى وعرا، ولم يحفل به، وكتب إليه: أن الميعاد بيني وبينك صحراء
الهرمز دجان في سلخ مهر ماه (1)، فسبق أردشير إلى المكان، فوافاه فرخان في سلخ
مهر ماه، فاقتتلوا، فقتله أردشير، وسار من فوره حتى ورد مدينة نهاوند،
فنزل قصر الفرخان، فأقام شهرا، ثم سار إلى الري، ثم إلى خراسان، لا يأتي
حيزا إلا أذعن له ملكه بالطاعة، ثم سار إلى سجستان، ثم إلى كرمان (2)،
ثم سار إلى فارس (3)، فنزل مدينة إصطخر، فأقام حولا، ثم سار نحو
العراق، فتلقاه من كان بها من ملوك الطوائف بالأهواز، فقاتلهم، فقتلهم،

(1) شهر من شهور السنة الشمسية الجلالية، ووقته من 21 سبتمبر إلى 21 أكتوبر.
(2) كرمان: ولاية مشهور وناحية كبيرة معمورة ذات بلاد وقرى ومدن واسعة بين
فارس وسجستان وخراسان
(3) فارس: إيالة من إيالات إيران، وهي أكثرها عمارة، يحدها من الجنوب الغربي بحر
فارس ومن الغرب خوزستان (الأهواز) ومن شمال عراق العجم ومن الشرق والجنوب الشرقي
منذ عهد كيخسرو، وبعد فتوح الإسكندر فقدت فارس مركزها كعاصمة، ولكنها عادت
ثانية إلى مركزها الأول بعد تأسيس الدولة الساسانية، إذ اختار أردشير مؤسس الدولة
الساسانية مدينة إصطخر، وهي عاصمة فارس، عاصمة له ولدولته. وقد فتح المسلمون فارس أيام
عمر بن الخطاب، واستمرت فتوحاتهم بها إلى عهد عثمان بن عفان، ولما أصيب مدينة إصطخر
بالخراب، صارت عاصمة فارس مدينة شيروز إلى أن انتقلت العاصمة إلى مدينة طهران.
42

ثم سار حتى عسكر بموضع المدائن اليوم، فاختطها، وبناها، فلما استوثق له
الملك دعا بابنة أخ الفرخان، التي أخذها من قصر الفرخان بنهاوند،، وكانت
ذات جمال ولب، وقد كان أفضى إليها، وسألها من نسبها، فأخبرته، فقال
لها: قد أسأت حين أعلمتني، لأني أعطيت الله عهدا، أن أظهرني الله بالفرخان
ألا أدع من أهل بيته أحدا، ثم دعا أبرسام وزيره، فقال: انطلق بهذه
الجارية فاقتلها.
فأخذ أبر سام بيد الجارية، فأخرجها لينفذ فيها أمره، فلما خرجت قالت
لأبرسام: إني حامل لأشهر، فلما قالت له ذلك انطلق بها إلى منزله، وأمر
بالإحسان إليها، وقال لأردشير: قد قتلتها
وزعموا أنه جب نفسه (1)، وأخذ مذاكيره، فجعلها في حق (2) وختم عليه
، وأتى به أردشير، وسأله أن يأمر بعض ثقاته بإحرازه، فإنه سيحتاج إليه يوما،
فأمر أردشير بالحق، فأحرز.
ثم إن الجارية ولدت غلاما كأجمل ما يكون من الغلمان، وهو سابور بن
أردشير الذي ملك بعده، وإن أردشير أقام بالعراق حولا، ثم سار إلى الموصل،
فقتل ملكها، ثم انصرف، وجعل يسير، فسار إلى عمان والبحرين واليمامة،
فخرج إليه (سنطرق) ملك البحرين، فحاربه، فقتله أردشير، وأمر بمدينته،
فأخربت.
قالوا: وإن أبرسام دخل على أردشير يوما، وهو مستخل وحده، مفكر
مهموم، فقال: أيها الملك، عمرك الله، ما لي أراك مهموما حزينا، وقد أعطاك
الله أمنيتك، ورد الله إليك ملك آبائك، فأنت اليوم (شاهان شاه). قال أردشير: ذاك الذي أحزنني، إني قد استحوذت على الأرض، ودان لي
جميع الملوك، وليس لي ولد، يرث ملكي الذي أنصبت فيه نفسي. فلما سمع

(1) استأصل خصيتيه.
(2) الحق والحقة بالضم: وعاء من خشب، والجمع حقق وأحاق.
43

ذلك أبرسام قال في نفسه: هذا وقت إظهار أمر تلك المرأة الأشغانية، وقد كان
أتى على ابنها خمس سنين، فقال: أيها الملك، إني كنت استودعتك يوم أمرتني
بقتل المرأة الأشغانية حقا مختوما، وقد احتجت إليه، فمر بإخراجه، فأمر به
أردشير، فأخرج إليه، ففتحه، وأراه أردشير، فإذا فيه مذاكيره، قد يبست
في جوف الحق.
فقال له أردشير: ما هذا؟ فأخبره الخبر، وأعلمه حال الغلام، ففرح أردشير
بذلك، ثم قال لأبرسام: ائتني بالغلام، واجعله ما بين مائة غلام من أقرانه،
ففعل أبرسام ذلك.
فلما أدخلهم عليه تأملهم غلاما غلاما، حتى إذا بلغ إلى سابور رأى تشابه
ما بينه وبينه، فتحرك له قلبه، فأمسك نفسه، ولم يكمله، وأمر بأن يعطي الغلمان
جميعا صوالجة (1)، ويطرح لهم كره في الرحبة ليلعبوا بين يديه مقابل الإيوان،
وقال لأبرسام: احتل أن تقع الكرة عندي في الإيوان، ففعل.
ووقعت الكرة على بساطه، فوقف جميع أولئك الغلمان على باب الإيوان،
ولم يجترئ واحد منهم أن يدخل، فيتناول الكرة من بين يديه إلا الغلام، فإنه
اقتحم من بينهم على أبيه، فتناول الكرة من بين يديه.
فلما رأى ذلك أردشير مد يده، فتناول الغلام، وضمه إليه، وقبله،
وأمر به وبأمه أن ترد إليه، وهو سابور الذي ملك بعده، وأكرم أبرسام،
وأقطعه القطائع الكثيرة، وأمر بأن تصور صورة أبرسام على الدراهم والبسط
حتى انقضى ملكهم.
قالوا: وفي ملك أردشير بعث الله عيسى عليه السلام، ويزعمون أنه بعث
بأحد حوارييه إلى أردشير، وأنه جاء إلى مدينة طيسفون، فنزل على أبرسام

(1) جمع صولجان: وهو العصا معقوفة الرأس مثل المضرب تقذف به الكرة، وكان ملوك
الفرس يتخذونه من الذهب شعارا لهم
44

فكان إذا أمسى استسرج له سراج، فيصلي طول ليلة، ويتلو الإنجيل،
فسأله أبرسام عن قصته ودينه، فأخبره أنه رسول المسيح عيسى بن مريم،
فأفضى أبرسام الخبر إلى أردشير، فدعا به، فنظر إلى سمته وهدوئه، وأراه
الشيخ آيات من آيات المسيح، فلم يبعد عند أردشير، ولا هاجه بسوء.
(ملك الموصل وجرجيس)
قالوا: وفي زمان ملوك الطوائف كانت قصة جرجيس، وإتيانه ملك
الموصل، وكان جبارا متمردا، يعبد الأصنام، ويحمل الناس على عبادتها،
وكان جرجيس من أهل الجزيرة، وكان من أمره وأمر ذلك الملك ما قد
أتت به الأخبار.
وكان أردشير هو الذي أكمل آيين (1) الملوك ورتب المراتب، وأحكم
السير، وتفقد صغير الأمر وكبيرة، حتى وضع كل شئ من ذلك على موضعه،
عهد عهده المعروف إلى الملوك، فكانوا يمتثلونه، ويلزمونه، ويتبركون
بحفظه والعمل به، ويجعلونه درسهم ونصب أعينهم، وبنى من المدن ست
مدائن، منها بأرض فارس مدينة أردشير خره، ومدينة رام أردشير ومدينة
هرمزدان أردشير، وهي قصده الأهواز، ومدينة أستاذ أردشير، وهي
كرخ ميسان، ومدينة فوران أردشير، وهي التي بالبحرين، ومدينة بالموصل،
تسمى خرزاد أردشير.
(ملكيكرب ملك اليمن)
قالوا: وملك بعد أسعد ملك اليمن، الذي كسا البيت ونحر عنده وطاف به
وعظمه ابن عمه ملكيكرب بن عمرو بن مالك بن زيد بن سهل بن عمرو ذي الأذعار،
فملك عشرين سنة لا يبرح بيته، ولا يغزو كما كانت الملوك قبله تفعله تحرجا من الدماء.

(1) آبين الملوك: دستورهم ونظامهم.
45

(ملك التبابعة)
ثم ملك بعده ابنه تبع بن ملكيكرب، وهو تبع الأخير، وكانت التبابعة
ثلاثة، أولهم: شمر أبو كرب الذي غزا الصين، وأخرب مدينة سمرقند،
والثاني تبع أسعد الذي ذبح للبيت الحرام الذبائح، وعلق عليه باب ذهب،
والثالث تبع بن ملكيكرب، ولم يسم غير هؤلاء الثلاثة من ملوك اليمن تبعا،
وكان تبع هذا الأخير في عصر سابور بن أردشير، وفي عصر هرمز بن سابور،
وكان تبع بن ملكيكرب كبير الشأن عظيم السلطان، وهو الذي غزا بلاد الهند،
فقتل ملكها، وهو من أولاد فؤر الملك الذي قتله الإسكندر، ثم انصرف إلى اليمن،
ومات في ملك بهرام بن هرمز بن سابور بن أردشير.
ثم ملك من بعد تبع ابنه حسان بن تبع بن ملكيكرب، وهو الذي غزا
أرض فارس فيما يزعمون، وهو الذي ضجرت الحميرية لكثرة غزوة بها، وقلة
مقامه بأرض اليمن، فزينوا لأخيه عمرو بن تبع قتله ليملكوه عليهم، فطابقوه
جميعا على ذلك إلا ذارعين فإنه أبى ذلك، ولم يدخل فيه مع القوم، فعدا عمرو
على أخيه، فقتله، وملك من بعده، وانصرف بقومه إلى اليمن، فسلط الله عليهم
السهر.
(سابور)
فلما ملك سابور بن أردشير غزا أرض الروم، فافتتح مدينة قالوقية، ومدينة
قبدوقية، وأثخن في الروم، ثم انصرف إلى العراق، وسار إلى أرض الأهواز
ليرتاد مكانا يبني فيه مدينة، يسكنها السبي الذي قدم بهم من أرض الروم، فبنى
مدينة جنديسابور، واسمها بالخوزية نيلاط، وأهلها يسمونها نيلاب، فكان سابور
قد أسر (اليريانوس) خليفة صاحب الروم، فأمره ببناء قنطرة على نهر تستر
على أن يخليه، فوجه إليه ملك الروم ناسا من أرض الروم والأموال، فبناها،
فلما فرغ منها أعتقه.
46

(ماني)
وفي زمان سابور ظهر ماني الزنديق (1)، وأغوى الناس، ومات سابور
قبل أن يظفر به، وملك سابور إحدى وثلاثين سنة.
(هرمز)
وأفضى الملك بعده إلى ابنه هرمز بن سابور، فأخذ ماني، فأمر به، فسلخ
جلده، وحشاه بالتبن، وعلقه على باب مدينة جنديسابور، فهو إلى اليوم يدعى
باب ماني، وتتبع أصحابه ومن استجاب له، فقتلهم جميعا، فملك ثلاثين سنة.
(أولاد هرمز)
وأسند الملك إلى ابنه بهرام بن هرمز، فملك سبع عشرة سنة، ثم ملك
ابنه بهرام بن بهرام، ثم ملك ابنه نرسى بن بهرام بن بهرام، فملك
سبع سنين، ومات. فملك ابنه هرمزدان بن نرسى، فملك سبع سنين،
ومات، ولم يكن له ولد يرثه الملك، غير أن امرأته كانت حاملا لأشهر، فأمر
بالتاج، فوضع على بطنها، وتقدم إلى عظماء أهل فارس ألا يملكوا عليهم
أحدا حتى ينظروا ما يولد له، فإن كان ذكرا سموه سابور، وأقروه على
الملك، ووكلوا به من يحضنه، ويقوم بأمر الملك إلى إدراكه، وإن كان
أنثى اختاروا رجلا لأنفسهم من أهل بيته، فملكوه عليهم، فولدت المرأة
ذكرا، وسموه سابور، وهو المنبوز (2) بذي الأكتاف.

(1) ولد حوالي 240 م، وادعى انه النبي الموعود الذي جاء اسمه في الإنجيل (ياراقليت)،
ودعا الناس إلى مذهب جديد بين المسيحية والزردشت، وقد قتل بأمر الملك بهرام سنة 274 م،
ويطلق عليه بعض المؤرخين اسم مانى النقاش، وقد زعم مانى أن العالم مصنوع من أصلين:
أحدهما نور، ولآخر ظلمة وهما أزليان.
(2) النبز بالتحريك: اللقب.
47

(سابور ذو الأكتاف) فشاع لما مات هرمزدان في أطراف الأرضين أنه ليس لأرض فارس ملك،
وانهم يلوذون بصبي في مهد، فطمعوا في مملكة فارس، فورد جمع عظيم
من الأعراب من ناحية البحرين وكاظمة (1) إلى أبرشهر وسواحل أردشير خره،
فشنوا بها الغارة، وأتى بعض ملوك غسان على الجزيرة في جموع عظيمة
حتى أغار على السواد، فمكثت مملكة فارس حينا لا يمتنعون من عدو لوهى
أمر الملك.
فلما ترعرع الغلام كان أول ما ظهر من حزمه أنه استيقظ ليله وهو
نائم في قصره بمدينة طيسفون بضوضاء الناس لازدحامهم على جسر دجلة
مقبلين ومدبرين، فقال: ما هذه الضوضاء؟، فأخبر، فقال: ليعقد لهم جسر
آخر، يكون أحدهما لمن يقبل، والآخر لمن يدبر، ففعلوا، وتباشروا بما ظهر
من فطنته مع طفوليته.
فلما أتت له خمس عشرة سنة تجرد لضبط الملك، ونفي العدو عنه،
فتأهب، وسار إلى أبرشهر، فطرد من كان صار إليها من الأعراب،
وقتلهم أخبث قتله.
وكذلك فعل بالجزيرة، فصار إلى الضيزن الغساني، فحاصره في مدينته
التي على شاطئ الفرات مما يلي الرقة (2)، فزعموا أن ابنه الضيزن، واسمها
(مليكة)، وزعموا أن أمها عمة سابور دختنوس ابنة نرسى، وأن الضيزن
كان سباها لما أغار على مدينة طيسفون، فأشرفت مليكة على عسكر سابور،
وهو محاصر لأبيها، فرأت سابور، فعشقته، فراسلته، على أن تدله على
عورة أبيها، على أن يتزوجها، فوعدها سابور ذلك، ففعلت.

(1) موضع على البحر بينه وبين البصرة مرحلتان.
(2) اسم بلد، ومعناه كل أرض إلى جنب واد ينبسط فيها الماء المد، ثم ينسجر عنها
فتعد للنبات.
48

فأسكرت بالحص (1) حرس أحد الأبواب حتى ناموا، وأمرت بفتح الباب،
فدخل سابور وجنوده، فأخذ الضيزن، فقتله، وخلع أكتاف أصحابه، وخلاهم،
وكذا كان يفعل بمن أسر من الأعداء، فبذلك سمي ذا الأكتاف.
ووفى لابنته بما وعدها، ثم قتلها بعد: ربطها بين فرسين، وأجراهما، فقطعاها،
وقال لها: أنت إذا لم تصلحي لأبيك لا تصلحين لي.
وأمر سابور فبنيت له مدينة الأنبار (2)، وسماها فيروز سابور، وكورها
كورة، وبنى بالسوس (3) مدينة، وهي التي إلى جانب الحصن، الذي يسمى
(سادانيال) الذي كان فيه جسد دانيال عليه السلام.
(الروم وسابور)
قالوا: وكان ملك الروم في ذلك العصر (مانوس) وكان يدين فيما ذكروا
قبل أن يملك دين النصرانية، فلما ملك أظهر ملة الروم الأولى، وأحياها، وأمر
بتحريق الإنجيل، وهدم البيع، وقتل الأساقفة، فلما قتل سابور الضيزن
الغساني غضب لذلك، فجمع من كان بالشام من غسان، وأقبل فيهم، ومعه
جيوش الروم، حتى ورد العراق.
ووجه سابور عيونا ليأتوه بخبرهم، فانصرف إليه عيونه، وقد اختلفوا عليه،
فخرج ليلا في ثلاثين فرسا، ليشرف على عسكر الروم، وقدم أمامه عشرة منهم،
فأخذتهم الروم، فأتوا بهم اليوبيانوس خليفة الملك وابن عمه، فسألهم عن أمرهم،
وتوعدهم القتل، فقام إليه رجل منهم مسرا عن أصحابه، فقال له: إن سابور
منك بالقرب، فضم إلى خيلا حتى آتيك به أسيرا.

(1) يقال إنه الزعفران.
(2) مدينة قرب بلخ، وهي قصبة ناحية جوزجان.
(3) مدينة في إيران، وقد فتحها العرب سنة 638 م، وظلت مزدهرة على أيامهم، ثم خربت
في القرون الوسطى.
49

وكانت بين اليوبيانوس وسابور مودة وخلة، فأرسل إلى سابور ينذره،
فانصرف راجعا، وسار الملك الرومي إلى باب مدينة طيسفون، وخرج إليه سابور
في جنوده، فهزمه الرومي حتى بلغوا قنطرة جازر، واحتوى الرومي على مدينة
طيسفون، ولم يقدروا على القصر لحصانته، ومن فيه من الحماة عنه،
وثاب الناس إلى سابور، فزحف إلى جمع الروم، فنحاهم عن المدينة،
وعسكر ببابها، وراسل ملك الروم، فبينما هم في ذلك إذ أتى ملك الروم سهم
عائر، وهو في مضربه، وحوله بطارقته، فأصاب مقتله، فسقط في أيدي الروم
لمكانهم الذي هم به، وأشراف عدوهم عليهم، فطلبوا إلى اليوبيانوس أن يتملك
عليهم، فأبى، وقال: لست أتملك على قوم مخالفين لي في ديني، لأني على
دين النصرانية، وأنتم على دين الروم الأول، فقال له البطارقة والعظماء:
فإنا نحن جميعا على مثل ما أنتم عليه، غير أنا كنا نكاتم بذلك خوفا من الملك،
فتملك عليهم اليوبيانوس، ولبس التاج.
وبلغ سابور أمرهم، فأرسل إليهم: أصبحتم اليوم في قبضتي وقدرتي،
ولأقتلنكم بمكانكم هذا جوعا وهزلا، فأجمع اليوبيانوس على إتيان سابور،
لما كان بينهم من المودة، فأبى عليه البطارقة والرؤساء، فخالفهم، وأتاه،
فعرف له سابور يده عنده في إنذاره إياه تلك الليلة وجعل له اليوبيانوس نصيبين (1)
، وحيزها عوضا مما أفسدت الروم من مملكته، وكتب له بذلك.
وبلغ أهل نصيبين ذلك، فانتقلوا عنها ضنا بالنصرانية، وكراهية لتمليك
الفرس عليهم، فنقل سابور إليها اثنى عشر ألف أهل بيت من إصطخر، فأسكنهم
فيها، فعقبهم بها إلى اليوم، وانصرفت الروم إلى أرضها، فلما تم لسابور
اثنتان وسبعون سنة حضره الموت، فجعل الأمر من بعده لابنه سابور بن سابور.
فلما تم لملكه خمس سنين خرج يوما متصيدا، فنزل بمكان، وضربت

(1) انظر الخريطة، وهي مدينة فيما بين النهرين، وقد اشتهرت قديما بمدرستها السريانية
50

قبته، فجلس فيها، فأقبل قوم من الفتاك ليلا، فقطعوا أطناب (1) القبة، فسقطت
عليه، فمات.
(بهرام بن سابور)
فملك بعده ابنه بهرام بن سابور، وكان على كرمان (2)، فلما قتل أبوه قدم،
فقام بالملك، فلما تم لملكه ثلاث عشرة سنة خرج يوما متصيدا، فرمى
بنشابة (3) فأصابته، فلما أحس بالموت أوصى إلى ابن أخيه يزدجرد بن سابور
ابن سابور، وكان أصغر سنا منه.
(يزدجرد بن سابور) فقام بالملك بعده، وهو يزدجرد الذي يلقب بالأثيم، وكان غلقا سيئ الخلق،
لا يكافئ على حسن بلاء، وكان منانا، لا يتجاوز عن زلة وإن صغرت، ويعاقب
على الصغيرة كما يعاقب على الكبيرة، وما كان أحد يقدر على كلامه لفظاظته
وغلظته، إلا أن وزراءه كانوا أخيارا مترفقين متعاونين.
فولد له بهرام الذي يقال له بهرام جور، فدفعه إلى المنذر أبي النعمان
ليحضنه، فسار المنذر ببهرام إلى الحيرة (4) - وكانت داره واختار له المنذر
المراضع، وأحسن حضانته، فلما بلغ التأديب بعث إليه أبوه بمؤدبين من الفرس،
وأحضره المنذر مؤدبين من العرب، فأحكم الأدبين، وكمل فيهما، ونشأ
نشأ محمودا، وبرع في الأدب والفروسية، وخرج عاقلا لبيبا جميلا بهيا،

(1) أطناب جمع طنب بضمتين، وهو حبل طويل يشد به السرادق والقباب.
(2) إقليم بين فارس وسنجستان.
(3) النشاب هو النبل.
(4) الحيرة: مدينة كبيرة بعراق العرب على الضفة اليمنى لنهر الفرات، يقال إن الذي بناها
هو بخت نصر، وجددت في عهد الإسكندر، وقد ظلت الحيرة عاصمة لدولة عربية قبل الفتح
الإسلامي، وفى عهد الإمام على بتن أبى طالب بنى بجوارها مدينة الكوفة واتخذت مقرا للخلافة
الإسلامية، وبقيت الحيرة خرابا إلى أن عثر فيها على قبر (على المرتضى) فعادت إليها حياتها قرية
صغيرة وتعرف الحيرة اليوم باسمي نجف، ومشهد، وتقع على بعد 77 ك. م جنوب شرقي كربلاء.
51

ومكنه المنذر من اللهو والقيان، فكان يركب النجائب، وتركب وراءه
الصناجات (1) يلهينه ويطربنه، وتجرد لطرد الوحش على تلك الحال، فضرب به
المثل، فتوة ورخاء بال.
(مقتل عمرو بن تبع) قالوا: ولما قتل عمرو بن تبع أخاه حسان بن تبع وأشراف قومه تضعضع
أمر الحميرية فوثب رجل منهم لم يكن من أهل بيت الملك يقال له صهبان
ابن ذي خرب على عمرو بن تبع، فقتله، واستولى على الملك.
(صهبان والعدنانيون بتهامة)
قال: وهو الذي سار إلى تهامة لمحاربة ولد معد بن عدنان، وكان سبب ذلك
أن معدا لما انتشرت تباغت وتظالمت، فبعثوا إلى صهبان يسألونه أن يملك عليهم
رجلا يأخذ لضعيفهم من قويهم، مخافة التعدي في الحروب، فوجه إليهم
الحارث بن عمرو الكندي، واختاره لهم، لأن معدا أخواله، أمه امرأة من
بني عامر بن صعصعة، فسار الحارث إليهم بأهله وولده، فلما استقر فيهم ولى ابنه
حجر بن عمرو، وهو أبو امرئ القيس الشاعر، على أسد وكنانة، وولى ابنه
شرحبيل على قيس وتميم، وولى ابنه معدى كرب، وهو جد الأشعث بن قيس،
على ربيعة.
فمكثوا كذلك إلى أن مات الحارث بن عمرو، فأقر صهبان كل واحد منهم
في ملكه، فلبثوا بذلك ما لبثوا، ثم إن بنى أسد وثبوا على ملكهم حجر
ابن عمرو، فقتلوه، فلما بلغ ذلك صهبان وجه إلى مضر عمرو بن نابل اللخمي
وإلى ربيعة لبيد بن النعمان الغساني، وبعث برجل من حمير يسمى أوفى بن عنق
الحية، وأمره أن يقتل بني أسد أبرح القتل، فلما بلغ ذلك أسدا وكنانة

جمع صناجة: وهن المغنيات ضاربات الدفوف.
52

استعدوا، فلما بلغه ذلك انصرف نحو صهبان، واجتمعت قيس وتميم، فأخرجوا
ملكهم عمرو بن نابل عنهم، فلحق بصهبان، وبقي معدى كرب جد الأشعث،
ملكا على ربيعة، فلما بلغ صهبان ما فعلت مضر بعماله آلى ليغزون مضر
بنفسه.
وبلغ ذلك مضر، فاجتمع أشرافها، فتشاوروا في أمرهم، فعلموا أن لا طاقة
لهم بالملك إلا بمطابقة ربيعة إياهم، فأوفدوا وفودهم إلى ربيعة، منهم عوف بن منقذ
التميمي، وسويد بن عمرو الأسدي جد عبيد بن الأبرص، والأحوص بن جعفر
العامري، وعدس بن زيد الحنظلي، فساروا حتى قدموا على ربيعة، وسيدهم
يومئذ كليب بن ربيعة التغلبي، وهو كليب وائل، فأجابتهم ربيعة إلى نصرهم،
وولوا الأمر كليبا، فدخل على ملكهم لبيد بن النعمان، فقتله، ثم اجتمعوا،
وساروا فلقيهم الملك بالسلان، فاقتتلوا، ففلت جموع اليمن، وفي ذلك يقول
الفرزدق لجرير:
لولا فوارس تغلب ابنة وائل
نزل العدو عليك كل مكان
وانصرف الملك إلى أرضه مفلولا، فمكث حولا، ثم تجهز لمعاودة الحرب،
وسار، فاجتمعت معد، وعليها كليب فتوافوا بخزازي (1)، فوجه كليب
السفاح بن عمرو أمامه، وأمره إذا التقى بالقوم، أن يوقدوا نارا، علامة جعلها
بينه وبينه، فسار السفاح ليلا حتى وافى معسكر الملك بخزازي، فأوقد النار،
فأقبل كليب في الجموع نحو النار، فوافاهم صباحا، فاقتتلوا، فقتل الملك صهبان،
وانفضت جموعه، وفي ذلك يقول عمرو بن كلثوم:
ونحن غداة أوقد في خزازى * رفدنا فوق رفد الرافدينا
فلما قتل صهبان زاد حمير قتله اتضاعا ووهنا.

(1) جبل، كانوا يوقدون عليه غداة الغارات.
53

(ملك ربيعة بن نصر اللخمي اليمن)
فجمع ربيعة بن نصر اللخمي جد النعمان بن المنذر قومه ومن أطاعه من ولد
كهلان بن سبا، فاغتصب حمير الملك، فاجتمعت له أرض اليمن، فملكها
زمانا، وهو ربيعة بن نصر بن الحارث بن عمرو بن لخم بن عدي بن مرة بن زيد
ابن كهلان بن سبا بن يعرب بن قحطان. فلما استجمع لربيعة بن نصر أمر اليمن
رأى في منامه رؤيا هالته، ووجل منها، فبعث إلى شق وسطيح الكاهنين،
فأخبرهما بما رأى، فأخبراه في تأويلها بما يكون من غلبة السودان على أرض اليمن،
وبغلبة فارس بعدهم، ثم بمخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فلما سمع ذلك أوجس
في نفسه خيفة، فأحب أن يخرج ولده وخاصة أهله من أرض اليمن
(مسير عمرو اللخمي إلى الحيرة) فوجه ابنه عمرا إلى يزدجرد بن سابور، ويقال بل كان ذلك في عصر سابور
ذي الأكتاف، فأنزله الحيرة، فيومئذ بنيت الحيرة، فضم عمرو إليه إخوته
وأهل بيته، فمن هناك وقع آل لخم إلى الحيرة، واتصلوا بالأكاسرة، فجعلوا لهم
على العرب سلطانا.
(جذيمة والحيرة)
فلما مات خلفه من بعده ابنه جذيمة بن عمرو، فزوج جذيمة أخته من ابن عمه
عدي بن ربيعة بن نصر، فولدت له عمرو بن عدي الذي استطار به الجن،
وله حديث، فلم يزل جذيمة ملكا بالخورنق (1) زمانا حتى دعته نفسه إلى تزويج مارية ابنة الزباء الغسانية، وكانت ملكة الجزيرة، ملكت بعد عمها الضيزن

(1) الخورنق بلد في بلخ، وأما الخورنق قصر النعمان الأكبر فهو معرب اللفظ الفارسي
(خورنكاه) أي موضع الاكل.
54

الذي قتله سابور، وكان له ولها حديث مشهور، (1) فقتلت جذيمة، ثم قتلها
قصير مولاه.
(عمرو بن عدي)
فلما هلك خلفه ابن أخته وابن ابن عمه عمرو بن عدي وهو جد النعمان بن المنذر
ابن عمرو بن عدي بن ربيعة، قالوا: وكان ذلك في عصر يزدجرد بن سابور
ابن بهرام جور.
قالوا: وفي ذلك العصر توفي عبد مناف بن قصي، وخلفه في سؤدده ابنه هاشم
ابن عبد مناف. قالوا: وهلك يزدجرد الأثيم، وقد ملك إحدى وعشرين سنة
ونصفا، وبهرام جور ابنه غائب بالحيرة عند المنذر بالخورنق، فتعاهدت عظماء
فارس ألا يملكوا أحدا من ولد يزدجرد لما نالهم من سوء سيرته، منهم بسطام
أصبهبذ السواد، الذي تدعى مرتبته (2) هزرافت، ويزدجشنس فاذوسفان
الزوابي، وفيرك الذي تدعى مرتبته مهران، وجودرز كاتب الجند،
وجشن ساذر بيش كاتب الخراج، وفناخسرو صاحب صدقات المملكة، وغير
هؤلاء من أهل الشرف والبيت، فاجتمعوا، واختاروا رجلا من عترة (3)
أردشير بن بابكان، يقال له خسرو، فملكوه عليهم، وبلغ ذلك بهرام جور،
وهو عند المنذر، فأمر منذر بهرام بالخروج، والطلب بتراث أبيه، ووجه معه ابنه
النعمان، فسار بهرام حتى قدم مدينة طيسفون، فنزل قريبا منها في الأبنية

(1) ملخص الحديث أن الزباء كانت قد دعت جذيمة إلى أن يفد إليها ويتزوج بها، ويضم
ملكها إلى ملكه، فاستشار قومه فشجعوه على المسير إليها إلا قصير بن سعد اللخمي، فقد نصحه
بأن لا يذهب لأن جذيمة كان قد وتر الزباء بقتل أبيها، وأدرك قصير أن هذه الدعوة تخفى
وراءها سرا، ولكن جذيمة عزم على المسير مخالفا امر قصير، ولما ذهب إليها قتلته، فقال قصير،
لا يطاع لقصير أمر، وقد صار قوله مثلا يضربه من لا يطاع أمره.
(2) في الأصل مدينة.
(3) عترة الرجل بكسر العين وسكون التاء: رهطه وعشيرته الأدنون.
55

والفساطيط والقباب، فلم يزل النعمان يسفر بينه وبين عظماء فارس وأشرافهم إلى أن
أنابوا وتابوا إلى بهرام.
(ملك بهرام جور) وبسط بهرام من آمالهم، وشرط لهم المعدلة وحسن السير، فخلوا بينه وبين
الملك، وسمعوا وأطاعوا، وحبا (1) بهرام المنذر والنعمان، وأكرمهما، وكافأه
بيده عنده في تربيته ومعاضدته، ففوض إليه جميع أرض العرب، وصرفه إلى
مستقره من الحيرة.
ولما استتب لبهرام الملك آثر اللهو على ما سواه، حتى عتب عليه رعيته،
وطمع فيه من كان حوله من الملوك، فكان أول من شخص صاحب الترك،
فإنه نهض في جموعه من الأتراك حتى أوغل في خراسان، فشن فيها الغارات،
وانتهى النبأ إلى بهرام، فترك ما كان فيه من الاستهتار باللهو، وقصد عدوه،
فأظهر أنه يريد آذربيجان ليتصيد هناك، ويلهو في مسيرة إليها، فانتخب من
إبطال رجاله سبعة آلاف رجل، فحملهم على الإبل، وجنبوا الخيل، واستخلف
على ملكه أخاه نرسى، ثم سار نحو آذربيجان، وأمر كل رجل من أصحابه
الذين انتخبهم أن يكون معه باز وكلب، فلم يشك الناس أن مسيرة ذلك هزيمة
من عدوه، وإسلام لملكه، فاجتمع العظماء والأشراف، فتأمروا بينهم،
فاتفق رأيهم على توجيه وفد منهم إلى خاقان (2) صاحب الترك بأموال، يبعثون بها
إليه ليصدوه عن استباحة البلاد.
وبلغ خاقان أن بهرام مضى هاربا، وأن أهل المملكة مجمعون على الخضوع
له، فاغتر، وأمن هو وجنوده، وأقام بمكانه ينتظر الوفود والأموال.

(1) أعطاه بلا جزاء ولا من.
(2) خاقان: اسم لكل ملك من ملوك الترك، وخقنوه على أنفسهم: رأسوه.
56

قالوا: وإن بهرام أمر بذبح سبعة آلاف ثور وحمل جلودها، وساق معه
سبعة آلاف مهر حولي، وجعل يسير الليل ويكمن النهار، وأخذ على طبرستان،
ثم تبطن ضفة البحر حتى خرج إلى جرجان، ثم صار إلى (نسا) ثم إلى مرو.
وكان خاقان معسكرا بها بكشميهن (1) حتى إذا صار بهرام من مرو على
منقلة (2)، وخاقان لا يعلم شيئا من علمه أمر بتلك الجلود، فنفخت، وألقي فيها
الحصى، وجففت، ثم علقها في أعناق تلك المهارة، حتى دنا من عسكر خاقان،
وكانوا نزولا على طرف المفازة، على ستة فراسخ من مدينة مرو، فخلوا عن تلك
المهارة ليلا، وطردوها من ورائها، فارتفع لتلك الجلود، والحجارة التي فيها،
وعدو المهارة بها، وضربها إياها بأيديها أصوات هائلة أشد من هدة الجبال
والصواعق.
وسمعت الترك تلك الأصوات، فلما سمعوها راعتهم، ولا يدرون ما هي،
وجعلت تزداد منهم قربا، فأجلوا عن معسكرهم، وخرجوا هربا، وبهرام في
الطلب، فتقطرت (3) دابة خاقان بخاقان، وأدركه بهرام، فقتله بيده، وغنم
عسكره، وكل ما كان فيه من الأموال، وأخذ خاتون امرأة خاقان.
ومضى بهرام على آثار الترك ليلته ويومه كله، يقتل ويأسر، حتى انتهى
إلى آموية، ثم عبر نهر بلخ، يتبع آثارهم، حتى إذا صار إلى القرب فأذعن له
الترك، وسألوه أن يعلم حدا بينه وبينهم، لا يجاوزونه، فحد لهم مكانا
واغلا في أرضهم، وأمر بمنارة، فبنيت هناك، وجعلها حدا، ثم انصرف إلى
دار الملك، ووضع عن الناس خراج تلك السنة، وقسم في أهل الضعف والمسكنة
شطر ما غنم، وقسم الشطر الآخر بين جنده الذين كانوا معه، فعم السرور
أهل مملكته، فلهوا جذلا وابتهاجا، فبلغ أجر اللعاب (4) في اليوم عشرين درهما،
وصار إكليل الريحان بدرهم

(1) قربة بمرو
(2) المنقلة مرحلة السفر زنة ومعنى.
(3) تقطرت الدابة عثرت براكبها فألقته على قطره.
(4) فرس اللعب.
57

فلما أتى له في الملك ثلاث وعشرون سنة خرج متصيدا، فوقعت له عانة (1)
من الوحش، فدفع فرسه في طلبها، فذهبت به فرسه في جرف مفض إلى غمر
من الماء، فارتطم فيه، فغرق.
وبلغ ذلك أمه، فجاءت إلى ذلك المكان، وأمرت بطلبه في ذلك الهور (2)
فاستخرجوا تلالا من الحصى والرمل، فلم يدركوه، ويقال إن ذلك المكان
بموضع من الماء يسمى داي مرج، سمي بأمه، لأن الأم بلسان الفرس تسمى
داي، وهو مرج معروف، وهذا الحديث مشهور في الموضع، هو كما وصفوا في الحديث
هناك، كواء تنفتح في الأرض إلى ماء لا يدرك له غور، و ذلك بقرب آجام
وماء راكد.
(يزدجرد بن بهرام)
فلما هلك بهرام ملكوا ابنه يزدجرد بن بهرام، فسار بسيرة أبيه سبع عشرة
سنة، وحضره الموت وله ابنان: فيروز وهرمزد، وكان فيروز أكبر سنا.
(النزاع بين الأخوين)
فاستأثر هرمزد بالملك دون أخيه فيروز، فهرب فيروز منه حتى لحق ببلاد
الهياطلة (3) وهي تخارستان والصغانيان (4) وكابلستان (5) والأرضون التي خلف

(1) العانة: القطيع من حمر الوحش.
(2) الهور هو البحيرة تفيض بها مياه الغياض
والآجام فتتسع
(3) جنس من الترك أو الهند، وكانت لهم شوكة وبلاء، والهيطل: الجماعة القليلة يغزى بها.
(4) الصغانيان: إيالة كبيرة وراء نهر جيحون وكانت مسقط رأس علماء كثيرين: منهم
رضى الدين أبو الفضائل حسن بن محمد الصغاني من أئمة اللغة، ووصفها الجغرافيون العرب بأنها
معمورة، وتحوى ستة ألف قرية، وتكثر بها الحيوانات والأشجار والمراعى والطيور الكثيرة،
وتوجد الآن في تركستان الروسية.
(5) كابلستان: إيالة واسعة في شمال شرقي أفغانستان، وكانت عاصمتها مدينة كابل الواقعة في
حوض نهر كابل، وتقع زابلستان في جنوب غربيها، ويروى بعض الجغرافيين أنهما إيالة واحدة، ولكن الشاهنامة تذكرهما على اختلاف.
58

النهر الأعظم بما يلي أرض بلخ، فدخل على ملك تلك الأرض، فأخبره بظلم أخيه
إياه، واحتوائه على الملك دونه، وهو أصغر سنا منه، وسأله أن يمده بجيش
حتى يسترجع الملك. فقال: لن أجيبك إلى ما تسأل حتى تحلف أنك أكبر
سنا منه، فحلف فيروز، فأمده بثلاثين ألف رجل، على أن يجعل له حدا
لترمذ (1)، فسار فيروز بالجيش، واتبعه جل أهل المملكة، ورأوا أنه أحق
بالملك من هرمزد لفظاظة هرمزد وشرارته، فحاربه حتى استرجع الملك، وأقال
أخاه عثرته، ولم يؤاخذه بما كان منه.
(فيروز بن يزدجرد) قالوا: وكان فيروز ملكا محدودا، وكل جل قوله وفعله فيما لا يجدى
عليه نفعه، وأن الناس قحطوا في سلطانه سبع سنين متواليات، فغارت الأنهار،
وغاضت المياه والعيون، وقحلت الأرض، وجف الشجر، وموتت البهائم والطير،
وهلكت الأنعام، وقل ماء دجلة والفرات وسائر الأنهار.
فرفع فيروز الخراج عن الرعية، وكتب إلى عماله أن يسوسوا الناس
سياسة، وتوعدهم أنه إن هلك أحد في أرض واحد منهم جوعا يقيد العامل
والوالي به، فساس الناس في تلك الأزمنة سياسة لم يعطب فيها أحد من الناس
جوعا، ونادى في الناس بالخروج إلى فضاء من الأرض، فخرج جميع الناس
من الرجال والنساء والصبيان، فاستسقى الله، فأغاثهم، فأرسل السماء، وعادت
الأرض إلى حسن الحال، وجرت الأنهار، وجاشت العيون، ورجع الناس إلى أحسن
عادة الله عندهم في الرفاغة والرفاهة والخصب.
وبنى فيروز مدينة الري، وسماها رام فيروز، وابتنى بآذربيجان مدينة

(1) بلد معروف بخراسان على الضفة الشمالية لنهر جيحون شمالي إيران، وقد فتحها موسى
ابن عبد الله بن خازم سنة 690 م، وفيها آثار يرجع تاريخها إلى العصر البوذي، وإليها ينسب كثير
من العلماء، منهم أبو عبد الله الترمذي المحدث الفقيه الحنفي.
59

أردبيل، وسماها باذ فيروز، ثم استعد وتأهب لغزو الترك، وأخرج معه
الموبذ وسائر وزرائه، وحمل معه ابنته فيروزدخت، وحمل معه خزائن وأموالا
كثيرة، وخلف على ملكه رجلا من عظماء وزرائه، يسمى شوخر، وتدعى مرتبته
قارن، وسار حتى جاوز المنارة التي كان بهرام بناها حدا بينه وبين الترك،
وأخربها، ووغل في أرضهم.
وملك الأتراك يومئذ أخشوان خاقان، فأرسل ملك الترك إلى فيروز يعلمه أنه
قد تعدى، ويحذره عاقبة الظلم، فلم يحفل فيروز بذلك، فجعل خاقان يظهر
كراهة للحرب، ويدافع إلى أن هيأ خندقا، عمقه في الأرض عشرون ذراعا،
وعرضه عشرة أذرع، وبعد ما بين طرفيه، ثم غماه بأعواد ضعاف، وألقى عليه
قصبا، وأخفاه بالتراب، ثم خرج لمحاربة فيروز، فواقفه ساعة، ثم انهزم
عنه
. وطلبه فيروز في جنوده، فسلك خاقان مسالك قد فهمها بين ظهري ذلك
الخندق، وعطف عليه أخشوان وطراخنته، فقتلوهم بالحجارة، واحتوى أخشوان
على معسكر فيروز وكل ما كان فيه من الأموال والحرم، وأخذ الموبذ أسيرا،
وأخذ فيروزدخت ابنة فيروز، ولحق الفل بشوخر، فأعلموه بمصاب فيروز
وجنوده، فاستنهض شوخر الناس للطلب بثأر ملكهم، فخف له جميع الناس
من الجنود وأهل البلاد، فسار في جموع كثيرة حتى وغل في بلاد الترك،
وهاب أخشوان ملك الترك الإقدام على شوخر لكثرة جموعه وعدته، فأرسل
إليه يسأله الموادعة على أن يرد عليه الموبذ وفيروز دخت وكل أسير في يده، وجميع
ما أخذ من أموال فيروز وخزائنه وآلاته، فأجابه شوخر إلى ذلك، وقبضه،
وانصرف إلى بلاده وأرضه.

(1) المنهزمون.
60

(أبناء فيروز)
فملك بعد فيروز ابنه بلاس بن فيروز، فملك أربع سنين، ثم مات، فجعل
شوخر الملك من بعده لأخيه قباذ بن فيروز. قالوا: وفي ملك قباذ بن فيروز
مات ربيعة بن نصر اللخمي، ورجع الملك إلى حمير.
(ذو نواس واليمن) فوليهم ذو نواس، واسمه زرعة بن زيد بن كعب كهف الظلم بن زيد بن
سهل بن عمرو بن قيس بن جشم بن وائل بن عبد شمس بن الغوث بن جدار بن قطن
ابن عريب بن الرائش بن حمير بن سبا بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وإنما
سمي ذا نواس لذؤابه (1) كانت تنوس (2) على رأسه.
قالوا: وكان لذي نواس بأرض اليمن نار يعبدها هو وقومه، وكان يخرج
من تلك النار عنق يمتد فيبلغ مقدار ثلاثة فراسخ، ثم ترجع إلى مكانها،
ثم إن من كان باليمن من اليهود قالوا لذي نواس: أيها الملك، إن عبادتك هذه
النار باطلة، وإن أنت دنت بديننا أطفأناها بإذن الله تعالى، لتعلم أنك على غرر
من دينك، فأجابهم إلى الدخول في دينهم إن هم أطفئوها، فلما خرجت تلك العنق
أتوا بالتوراة، ففتحوها، وجعلوا يقرؤونها، والنار تتأخر حتى انتهوا إلى البيت
الذي هي فيه، فما زالوا يتلون التوراة حتى انطفأت، فتهود ذو نواس، ودعا
أهل اليمن إلى الدخول فيها، فمن أبي قتله.
ثم سار إلى مدينة نجران (3) ليهود من فيها من النصارى، وكان بها قوم
على دين المسيح الذي لم يبدل، فدعاهم إلى ترك دينهم والدخول في اليهودية، فأبوا،
فأمر بملكهم، وكان اسمه عبد الله بن التامر، فضربت هامته بالسيف، ثم أدخل

(1) الذؤابة: شعر في أعلى الناصية.
(2) تتذبذب.
(2) نجران بالفتح، ثم السكون، مدينة بينها وبين الكوفة مسيرة يومين فيما بينها وبين واسط.
61

في سور المدينة، فضم عليه، وخد للباقين أخاديد (1)، فأحرقهم فيها، فهم
أصحاب الأخدود الذين ذكرهم الله عز اسمه في القرآن (2)
. (الحبش واليمن) وأفلت دوس ذو ثعلبان، فسار إلى ملك الروم، فأعلمه ما صنع ذو نواس
بأهل دينه من قتل الأساقفة، وإحراق الإنجيل، وهدمه البيع، فكتب إلى
النجاشي ملك الحبشة، فبعث بأرياط في جنود عظيمة، وركب البحر حتى خرج
على ساحل عدن، وسار إليه ذو نواس، فحاربه، فقتل ذو نواس، ودخل أرياط
صنعاء، واسمها (دمار)، وإنما صنعاء كلمة حبشية، أي وثيق حصين، فبذلك سميت
صنعاء.
فلما اطمأن أرياط وقتل اليهود وضبط اليمن، درت عليه الأموال، فجعل
يؤثر بها من يحب، فغضب حاشية الحبشة من ذلك، فأتوا أبا يكسوم أبرهة
، وكان أحد قادتهم، فشكوا إليه الذي يصنع أرياط، وبايعوه.
وانصرفت الحبشة فرقتين، إحداهما مع أرياط، والأخرى مع أبرهة، واصطفوا
للحرب، فدعاه أبرهة للبراز، فبرز إليه، فدفع أرياط عليه حربته، فوقعت
في وجه أبرهة، فشرمته، ولذلك سمي الأشرم، وضرب أبرهة أرياط
بالسيف على مفرق رأسه، فقتله، وانحازت الحبشة إليه، فملكهم، وأقره النجاشي
على سلطان اليمن، فمكث على ذلك أربعين عاما.
وبنى بصنعاء بيعة لم ير الناس مثلها، وآذن في جميع أرض اليمن أن تحجها،
فاستفظعت العرب ذلك، فدخل رجل من أهل تهامة ليلا، فأحدث فيها، فلما
أصبح القوم نظروا إلى السوأة السوآء في الكنيسة، فقال أبرهة: من تظنونه
فعل هذا؟ قالوا: لم يفعله إلا بعض من غضب للبيت الذي بمكة، لما أمرت بحج

(1) الأخاديد: هي الحفر المستطيلة في الأرض كالخدة بالضم، والمفرد أخدود.
(2) الآيات: 4، 5، 6، من سورة البروج
62

هذه البيعة، فغضب أبرهة عند ذلك غضبا شديدا، وتجهز للمسير إلى مكة ليهدم
الكعبة، فأرسل إلى النجاشي، فبعث إليه بفيل كالجبل الراسي، يقال له محمود،
فسار إلى مكة، فكان من أمره ما قد قصة الله في سورة الفيل.
(الحبشان وهدم الكعبة) قالوا: ولما أهلك الله أبرهة خلفه في ملكه بأرض اليمن ابنه يكسوم بن
أبرهة، فكان شرا من أبيه وأخبث سيرة، فلبث على اليمن تسع عشرة سنة
ثم مات. فملك من بعده أخوه مسروق، وكان شرا من أخيه، وأخبث
سيرة.
(سيف بن ذي يزن)
فلما طال ذلك على أهل اليمن خرج سيف بن ذي يزن الحميري من ولد
ذي نواس حتى أتى قيصر، وهو بأنطاكية (1)، فشكى إليه ما هم فيه من السودان،
وسأله أن ينصرهم وينفيهم عن أرضهم، ويكون ملك اليمن له، فقال قيصر:
أولئك هم على ديني، وأنتم عبدة أوثان، فلم أكن لأنصركم عليهم.
فلما يئس منه توجه إلى كسرى، فقدم الحيرة على النعمان بن المنذر،
فشكى إليه أمره، فقال له النعمان: ما كان سبب إخراج جدنا ربيعة بن نصر
إيانا عن أرض اليمن، وإسكاننا بهذا المكان إلا لهذا الشأن فأقم، فإن لي
وفادة في كل عام إلى الملك كسرى بن قباذ، وقد حان ذلك، فإذا خرجت
أخرجتك معي، واستأذنت لك، وتشفعت لك إليه فيما قصدت له، ففعل
واستأذن، وتشفع، فوجه كسرى بجيش ممن كان في السجون، وأمر

(1) أنطاكية: مدينة غربي مدينة حلب بالإقليم الشمالي للجمهورية العربية المتحدة، تبعد عنها
بحولى 95 ك. م، وقد كانت مدينة عظيمة بنيت سنة 301 ق. م. وتأثرت على مرور الزمن
بالغزوات والحروب، ولا تزال آثارها القديمة باقية.
63

عليهم رجلا منهم، يقال له وهرز بن الكامجار، وكان شيخا كبيرا، قد أناف
على المائة، وكان من فرسان العجم، وإبطالها، ومن أهل البيوتات والشرف،
وكان أخاف السبيل، فحبسه كسرى.
فسار وهرز بأصحابه إلى الأبلة (1)، فركب منها البحر، ومعه سيف بن ذي
يزن، حتى خرجوا بساحل عدن، وبلغ الخبر مسروقا، فسار إليهم، فلما التقوا
وتواقفوا للحرب أسرع له وهرز بنشابة، فرماه، فلم يخطئ بين عينيه،
وخرجت من قفاه، وخر ميتا، وانفض جيشه، ودخل وهرز صنعاء، وضبط
اليمن، وكتب إلى كسرى بالفتح، فكتب إليه كسرى، يأمره بقتل كل أسود
باليمن، وبتمليك سيف عليها، وبالإقبال إليه، ففعل. وإن بقايا من السودان
قد كان سيف استبقاهم، وضمهم إلى نفسه، يجمزون (2) بين يديه إذا ركب، شدوا
على سيف يوما، وهم بين يديه في موكبه، فضربوه بحرابهم حتى قتلوه.
(الفرس واليمن) فرد كسرى وهرز إلى أرض اليمن، وأمره ألا يدع بها أسود ولا من ضربت
فيه السودان إلا قتله، فأقام بها خمسة أحوال، فلما أدركه الموت دعا بقوسه
ونشابة، ثم قال: أسندوني، ثم تناول قوسه، فرمى، وقال: انظروا
حيث وقعت نشابتي، فابنوا لي هناك ناووسا، واجعلوني فيه، فوقعت نشابته
من وراء الكنيسة، وسمي ذلك المكان إلى اليوم (مقبرة وهرز)، ثم وجه
كسرى إلى أرض اليمن بادان، فلم يزل ملكا عليها إلى أن قام الإسلام.
قالوا: وكان قباذ عندما أفضى إليه الملك حدث السن من أبناء خمس عشرة
سنة، غير أنه كان حسن المعرفة، ذكي الفؤاد، رحيب الذراع، بعيد الغور،
فولى شوخر أمر المملكة، فاستخف الناس بقباذ، وتهاونوا به لاستيلاء شوخر

(1) الأبلة: بلدة في زاوية الخليج العربي على شاطئ نهر دجلة.
(2) يعدون.
64

على الأمر دونه، فأغضي قباذ على ذلك خمس سنين من ملكه، ثم أنف من ذلك،
فكتب إلى سابور الرازي من ولد مهران الأكبر، وكان عامله على بابل
وخطرنية (1)، أن يقدم عليه فيمن معه من الجنود، فلما قدم أفشى إليه ما في
نفسه، وأمره بقتل شوخر، فغدا سابور على قباذ، فوجد شوخر عنده جالسا،
فمشى نحو قباذ مجاوزا لشوخر، فلم يأبه له شوخر حتى أوهقه سابور، فوقع
الوهق (2) في عنقه، ثم اجتره حتى أخرجه من المجلس، فأثقله حديدا، واستودعه
السجن، ثم أمر به قباذ، فقتل.
(الديانة المزدكية)
فلما مضى لملك قباذ عشر سنين أتاه رجل من أهل إصطخر، يقال له مزدك،
فدعاه إلى دين المزدكية، فمال قباذ إليها، فغضبت الفرس من ذلك غضبا شديدا،
وهموا بقتل قباذ، فاعتذر إليهم، فلم يقبلوا عذره، وخلعوه من الملك، وحبسوه
في محبس، ووكلوا به، وملكوا عليهم جاماسف بن فيروز أخا قباذ.
وإن أخت قباذ اندست لقباذ حتى أخرجته بحيلة، فمكث أياما مستخفيا إلى
أن أمن الطلب، ثم خرج في خمس نفر من ثقاته، فيهم زرمهر بن شوخر نحو
الهياطلة (3)، يستنصر ملكها، فأخذ طريق الأهواز، فانتهى إلى أرمشير،
ثم صار إلى قرية في حد الأهواز وأصبهان، فنزلها متنكرا، وكان نزوله عند
دهقانها (4)، فنظر قباذ إلى بنت لصاحب منزله، ذات جمال، فوقعت بقلبه،
فقال لزرمهر بن شوخر: (إني قد هويت هذه الجارية، ووقعت بقلبي، فانطلق
إلى أبيها، فاخطبها علي، ففعل.

(1) خطرنية: بلد كانت بأرض بابل
(2) الحبل يرمى في أنشوطة فتؤخذ به الدابة أو الإنسان، والأنشوطة كأنبوبة: عقدة يسهل
انحلالها
(3) هياطلة Houyatila اسم لبلاد ما وراء النهر.
(4) الدهقان بالكسر والضم زعيم فلاحى العجم ورئيس الإقليم، وهو لفظ معرب.
65

فأرسل قباذ إلى الجارية بخاتمه، وجعل ذلك مهرها، فهيئت وأدخلت عليه، فخلا
بها قباذ، وسر بها سرورا شديدا لما ألفاها ذات عقل وجمال وأدب وهيئة، فأقام
عندها ثلاثا، ثم أمرها بحفظ نفسها، وخرج سائرا حتى ورد على صاحب
الهياطلة، فشكا إليه صنيع رعيته به، وسأله أن يمده بجيش ليسترجع ملكه،
فأجابه إلى ذلك، وشرط عليه أن يسلم له حيز الصغانيان، ووجه معه ثلاثين
ألف رجل.
فأقبل بهم يريد أخاه، فأخذ على طريقه الذي شخص فيه بديئا حتى نزل القرية
التي تزوج فيها بتلك المرأة، فنزل على أبيها، وسأله عنها، فأخبره أنها ولدت غلاما،
فأمر بإدخالها عليه مع ابنها، فدخلت ومعها الغلام، فابتهج به، ورآه كأجمل
ما يكون من الغلمان، فسماه كسرى، وهو كسرى أنوشروان الذي تولى الملك
من بعده، فقال لزرمهر: (اخرج، فسل لي عن هذا الرجل أبي الجارية
هل له قديم شرف؟)، فسأل عنه، فأخبر انهم من ولد فريدون الملك،
ففرح بذلك قباذ، وأمر بالجارية وابنها، فحملا معه.
ولما انتهى إلى مدينة طيسفون تلاومت العجم فيما بينها، وقالوا: (إن قباذ
تنصل إلينا من شأن مزدك، ورجع عما كنا اتهمناه، فلم نقبل ذلك منه، وظلمناه
حقه، وأسأنا إليه)، فخرجوا إليه جميعا، وفيهم (جاماسف) أخوه الذي ملكوه،
فاعتذروا إليه، فقبل ذلك منهم، وصفح عن أخيه جاماسف، وعنهم، وأقبل
فدخل قصر المملكة، ووصل الجيش الذي أقبل بهم، وأجازهم، وأحسن
إليهم، وردهم إلى ملكهم، وأمر بالجارية، فأنزلت في أفضل مساكنه.
ثم إن قباذ تجهز وسار في جنوده، غازيا بلاد الروم، فافتتح مدينة آمد
وميافارقين، وسبى أهلها، وأمر فبنيت لهم مدينة فيما بين فارس والأهواز،
فأسكنهم فيها، وسماها إيرقباذ، وهي أستان الأعلى، وجعل لها أربعة طساسيج:
طسوج (1) الأنبار، وكان منها هيت وعانات (2)، فضمها يزيد بن معاوية حين ملك

(1) الطسوج: هو الناحية.
(2) بلدان بأرض العراق.
66

إلى الجزيرة، وطسوج بادوريا، وطسوج مسكن، وكور كورة بهقباذ
الأوسط، وبهقباذ الأسفل، وضم إليها ثمانية طساسيج، لكل كورة أربعة
طساسيج، وهي الأستانات (1)، وشق كورة (2) أصبهان كورتين، شق جى
، وشق التيمرة (3) وكان لقباذ عدة من الأولاد، لم يكن فيهم آثر عنده من كسرى، لاجتماع
الشرف فيه، غير أنه كان به ظنة، أي سيئ الظن، فلم يكن قباذ يحمده عليها،
فقال له ذات يوم: (يا بني قد كملت فيك الخصال التي هي جماع أمور الملك،
غير أن بك ظنة، وأن الظنة في غير موضعها داعية الأوزار، ومحبطة للأعمال)
فاعتذر كسرى إلى أبيه مما وقع في قلبه من ذلك، واستصلح نفسه عنده.
(كسرى أنو شروان)
فلما أتى للملك قباذ ثلاث وأربعون سنة حضره الموت، ففوض الأمر إلى
ابنه، وهو أنوشروان (4)، فملك بعد أبيه، وأمر بطلب (مزدك بن مازيار) الذي زين للناس ركوب المحارم، فحرض بذلك السفل على ارتكاب السيئات،
وسهل للغصبة الغصب، وللظلمة الظلم، فطلب حتى وجد، فأمر بقتله وصلبه،
وقتل من كان في ملته.
ثم قسم كسرى أنوشروان المملكة أربعة أرباع، وولى كل ربع رجلا من
ثقاته، فأحد الأرباع: خراسان، وسجستان، وكرمان، والثاني: أصبهان،
وقم، والجبل، وآذربيجان، وأرمينية، والثالث: فارس، والأهواز إلى
البحرين، والرابع: العراق إلى حد مملكة الروم. وبلغ كل رجل من هؤلاء الأربعة
غاية الشرف والكرامة.

(1) جمع أستان وهو أربع الكور.
(2) الكورة: هي المدينة الكبيرة أو الصقع.
(3) جى وتيمرة قريتان بأصبهان.
(4) Nouschirwan
67

ووجه الجيوش إلى بلاد الهياطلة، وافتتح تخارستان وزابلستان (1)، وكابلستان والصغانيان.
وإن ملك الترك سنجبو خاقان جمع إليه أهل المملكة، واستعد، وسار نحو أرض
خراسان حتى غلبا على الشاش (2)، وفرغانة، وسمرقند، وكش (3) ونسف (4)
، وانتهى إلى بخارى
. وبلغ ذلك كسرى، فعقد لابنه هرمز، الذي ملك من بعده، على جيش
كثيف، ووجهه لمحاربة خاقان التركي، فسار حتى إذا قرب منه خلى ما كان غلب
عليه، ولحق ببلاده، فكتب كسرى إلى ابنه هرمز بالانصراف.
(دولتا الفرس والروم في عهد كسرى)
قالوا: وإن خالد بن جبلة الغساني غزا النعمان بن المنذر، وهو المنذر الأخير،
وكانا منذرين، ونعمانين، فالمنذر الأول هو الذي قام بأمر بهرام جور، والمنذر
الثاني الذي كان في زمان كسرى أنوشروان، وكانوا عمال كسرى على تخوم أرض
العرب، فقتل من أصحاب المنذر مقتلة عظيمة، واستاق إبل المنذر وخيله،
فكتب المنذر إلى كسرى أنوشروان يخبره بما ارتكب منه خالد بن جبلة.
فكتب كسرى إلى قيصر: أن يأمر خالدا بإقادة المنذر و (من) (5) قتل من أصحابه،
ورد ما أخذ من أمواله، فلم يحفل قيصر بكتابة، فتجهز كسرى لمحاربته، فسار
حتى أوغل في بلاد الجزيرة، وكانت إذ ذاك في يد الروم، فاحتوى على مدينة

(1) زابلستان: خطة واقعة جنوب أفغانستان وشمال بلوجستان، وكانت محاطة بكابلستان
وخراسان وسيستان وسند، ومن مدنها غزنة، وهي إقليم جميل كثير المياه، وأهله مشهورون
بالشجاعة.
(2) مدينة بالقرب من فرغانة، وتقع على مجرى نهر سيحون.
(3) قرية على ثلاثة فراسخ من جرجان، تقع على جبل، وهي مسقط رأس تيمورلنك.
(4) نسف: مدينة كبيرة بين جيحون وسمر قند، لها أربعة أبواب، وهي على مدرج بخارى،
وبلخ، والجبال منها على مرحلتين فيما يلي كش، وبينها وبين جيحون مفازة لا جبل فيها، ولها
نهر واحد يجرى في وسط المدينة.
(5) في الأصل: ما.
68

دارا (1) ومدينة الرها (2) ومدينة قنسرين (3) ومدينة منبج (4) ومدينة حلب حتى
انتهى إلى أنطاكية، فأخذها، وكانت أعظم مدينة في الشام والجزيرة، وسبى
أهل أنطاكية، وحملهم إلى العراق، وأمر، فبنيت لهم مدينة إلى جانب طيسفون، على
بناء مدينة أنطاكية، بأزقتها، وشوارعها، ودورها، لا يغادر منها شيئا، وسماها
(زبر خسرو) وهي المدينة التي إلى جانب المدائن، تسمى الرومية، ثم سرحوا فيها،
فانطلق كل إنسان منها إلى مثل داره بمدينة أنطاكية، وولي القيام بأمرهم رجلا من
نصارى الأهواز، يقال له يزدفنا.
وإن قيصر كتب إلى كسرى يسأله الصلح، ورد ما احتوى عليه من هذه المدن،
على أن يؤدي إليه ضريبة موظفة عليه في كل عام وكره كسرى البغي، فأجابه
إلى ما بذل، ووكل بقبضه وتوجيهه إليه في كل عام شروين الدستباى، فأقام
مع ملك الروم هناك ومعه (خزين) مملوكه المشهور الخبر، وكان نجدا فارسا بطلا.
ولما قفل كسرى منصرفا من أرض الشام أصابه مرض شديد، فمال إلى مدينة
حمص، فأقام بها في جنوده إلى أن تماثل، فكان قيصر يحمل إليه كفاية عسكره
إلى أن شخص.
قالوا: وكان لكسرى أنوشروان ابن يسمى أنوش زاذ، كانت أمه نصرانية،
ذات جمال، وكان كسرى معجبا بها، وأرادها على ترك النصرانية ولدخول

(1) كان موقعها في أرض الجزيرة بين نصيبين وماردين، ويقال إنها بنيت بعد غلبة دارا على
الإسكندر، وقد فتحها الروم واتخذها مركزا هاما ضد الإيران، ويذكر ابن بطوطة في رحلته
(أنه رآها، وهي تحوي منازل بيضاء وبها قلعة) ويوجد بجوار خرابها وآثارها اليوم قرية صغيرة.
(2) مدينة ذات مياه جارية كثيرة، تقع على بعد 190 ك. م شمال شرقي حلب، 145 ك. م
جنوب غرب ديار بكر.
(3) مدينة قديمة على بعد 25 ك. م جنوب غربي الشام، وقد فتحت على يد أبى عبيدة الجراح
سنة 17 ه‍، وخربت أيام سيف الدولة بن الحمدان في القرآن الرابع.
(3) مدينة في الإقليم الشمالي (سوريا) شمال شرقي حلب، حكمها الشاعر أبو فراس الحمداني،
وفيها أسرة الروم.
69

في المجوسية، فأبت، فورث ذلك منها ابنها أنوش زاذ وخالف أباه في الديانة، فغضب
عليه، وأمر بحبسه في مدينة جنديسابور.
فلما غزا كسرى بلاد الشام بلغ أنوش زاذ مرضه ومقامه بحمص، استغوى
أهل الحبس، وبث رسله في نصارى جنديسابور، وسائر كور الأهواز، وكسر
السجن، وخرج، واجتمع إليه أولئك النصارى، فطرد عمال أبيه من كور
الأهواز، واحتوى على الأموال، وأشاع بموت أبيه، وتهيأ للمسير نحو العراق.
وكتب خليفته بمدينة طيسفون يعلمه خبر ابنه، وما خرج إليه، فكتب إليه
كسرى: (وجه إليه الجنود، وأكمش في حربه، واحتل لأخذه، فإن يأت القضاء
عليه، فيقتل، فأهون دم، وأضيع نفس، واللبيب يعلم أن الدنيا لا يخلص
صفوها، ولا يدوم عفوها، ولو كان شئ يسلم من شائبة إذن لكان الغيث الذي
يحيي الأرض الميتة، ولكان النهار الذي يأتي الناس رقودا فيبعهم، وعميا
فيضئ لهم، فكم مع ذلك من متأذ بالغيث ومتداع عليه من البنيان، وكم
في سيوله وبروقه من هالك، وكم في هواجر النهار من ضرر وفساد، فاستأصل
الثؤلول (1) الذي نجم بحدك، ولا يهولنك كثرة القوم، فليست لهم شوكة
تبقى، وكيف تبقى النصارى وفي دينهم: أن الرجل منهم إن لطم خده الأيسر
أمكن من الأيمن؟!، فإن استسلم أنوش زاذ وأصحابه فرد من كان منهم في
المحابس إلى محابسهم، ولا تزدهم على ما كانوا فيه من ضيق ونقص المطعم والملبس،
ومن كان منهم من الأساورة (2) فاضرب عنقه، ولا يكن منك عليهم رأفة،
ومن كان منهم من سفل الناس وأوغادهم، فخل سبيلهم، ولا تعرض لهم،
وقد فهمت ما ذكرت مما كان منك في نكال القوم الذين أظهروا شتم أنوش زاذ،
وذكروا أمه، فاعلم أن أولئك ذوو أحقاد كامنة وعداوة باطنة، فجعلوا شتم

(1) الثؤلول بالضم: حملة الثدي، وقد استعير للدلالة على ضآلة الشأن وصغر الهمة.
(2) القادة والرماة.
70

أنوش زاذ ذريعة لشتمنا، ومرقاة إلى ذكرنا، وقد وفقت في تأديبك إياهم،
فلا ترخص لأحد في مثل مقالتهم، والسلام)
. ثم إن كسرى عوفي من مرضه، فانصرف في جنوده إلى دار ملكه، وقد
أخذ ابنه أنوش زاذ أسير، وانتهى فيه إلى ما أمر به.
(الخراج في عهد كسرى)
قالوا: وكانت ملوك الأعاجم يضعون على غلات الأرضين شيئا معروفا من
المقاسمات: النصف، والثلث، والربع، والخمس إلى العشر، على قدر قرب الضياع
من المدن، وعلى حسب الزكاء والريع، فهم قباذ بإسقاط ذلك، ووضع الخراج،
فمات قبل أن يستتم المساحة، فأمر كسرى أنوشروان باستتمامها.
فلما فرغ منها أمر الكتاب ففصلوها، ووضعوا عليها الوضائع، ووظف
الجزية على أربع طبقات، وأسقطها عن أهل البيوتات والمرازبة (1) والأساورة (2)
والكتاب، ومن كان في خدمة الملك، ولم يلزم أحدا لم يأت له عشرون سنة،
أو جاز الخمسين. وكتب تلك الوضائع في ثلاث نسخ، نسخة خلدها ديوانه،
ونسخة بعث بها إلى ديوان الخراج، ونسخة دفعت إلى القضاء في الكور،
ليمنعوا العمال من اعتداء ما في الدستور الذي عندهم، وأمر أن يجبي الخراج
في ثلاثة أنجم، وسمي الدار التي يجبى فيها ذلك (سراي شمرة)، وتفسيره
دار الثلاثة الأنجم، وهي التي تعرف بالشمرج اليوم، وقد قيل في تفسير ذلك
غير هذا، أي إنما هي دار الحساب، والحساب شمرة، وهذا كلام معروف
في لغة فارس إلى اليوم، يسمون الخراج الشمرة بالشين على معنى الحساب، ورفع
خراج الرؤوس عن الفقراء وألزمني، وكذلك خراج الغلات، ورفعه عما نالته

(1) رؤساء الفرس.
(2) قواد الفرس ومجيدو الرمي بالسهام.
(3) أوقات مضروبة، والمفرد نجم.
71

الآفة على قدر ما أصاب منها، ووكل بكل ذلك قوما ثقاتا، ذوي عدالة،
ينفذونه، ويحملون الناس منه على النصفة.
ولم يكن في ملوك العجم ملك كان أجمع لفنون الأدب والحكم، ولا أطلب
للعلم منه، وكان يقرب أهل الآداب والحكمة، ويعرف لهم فضلهم، وكان أكبر
علماء عصره بزرجمهر بن البختكان، وكان من حكماء العجم وعقلائهم، وكان
كسرى يفضله على وزرائه وعلماء دهره.
وكان كسرى ولى رجلا من الكتاب نبيها معروفا بالعقل والكفاية، يقال له
بابك بن النهروان، ديوان الجند، فقال لكسرى: (أيها الملك، إنك قد قلدتني أمرا، من صلاحه أن تحتمل لي بعض الغلظة في الأمور: عرض الجنود في كل
أربعة أشهر، وأخذ كل طبقة بكمال آلاتها، ومحاسبة المؤدبين على ما يأخذون
على تأديب الرجال بالفروسية والرمي، والنظر في مبالغتهم في ذلك وتقصيرهم،
فإن ذلك ذريعة إلى إجراء السياسة مجاريها.
فقال كسرى: ما المجاب بما قال بأحظى من المجيب، لاشتراكهما في
فضله، وانفراد المجيب بعد بالراحة، فحقق مقالتك، وأمر، فبنيت له في موضع
العرض مصطبة (1)، وبسط له عليها الفرش الفاخرة، ثم جلس، ونادى
مناديه: لا يبقين أحد من المقاتلة إلا حضر العرض، فاجتمعوا، ولم ير كسرى
فيهم، فأمرهم، فانصرفوا. وفعل ذلك في اليوم الثاني، ولم ير كسرى
فانصرفوا، فنادى في اليوم الثالث: أيها الناس، لا يتخلفن من المقاتلة أحد،
ولا من أكرم بالتاج والسرير، فإنه عرض لا رخصة فيه ولا محاباة.
وبلغ كسرى ذلك، فتسلح سلاحه، ثم ركب فاعترض على بابك، وكان

(1) مرتفع يقعد عليه.
72

الذي يؤخذ به الفارس تجفافا (1)، ودرعا وجوشنا (2)، وبيضة، ومغفرا (3) وساعدين، وساقين، ورمحا، وترسا، وجرزا (4)، يلزمه منطقته، وطبرزينا
وعمودا، وجعبة فيها قوسان بوتريهما، وثلاثين نشابة، ووترين ملفوفين، يعلقهما
الفارس في مغفره ظهريا، فاعترض كسرى على بابك بسلاح تام، خلا الوترين
اللذين يستظهر بهما، فلم يجز بابك على اسمه، فذكر كسرى الوترين، فعلقهما في
مغفره، واعترض على بابك فأجاز على اسمه، وقال: لسيد الكماة أربعة آلاف درهم
ودرهم. وكان أكثر من له من الرزق، أربعة آلاف درهم، ففضل كسرى بدرهم،
فلما قام بابك من مجلسه دخل على كسرى، فقال: أيها الملك، لا تلمني
على ما كان من إغلاظي، فما أردت به إلا الدربة للمعدلة والإنصاف، وحسم
المحاباة.
قال كسرى: (ما غلظ علينا أحد فيما يريد به إقامة أودنا أو صلاح ملكنا
إلا احتملنا له غلظته كاحتمال الرجل شرب الدواء الكريه لما يرجو من منفعته). قالوا: وكانت كسكر كورة صغيرة، فزاد كسرى أنوشروان فيها من
كورة بهرسير وكورة هرمزدخره، وكورة ميسان، فوسعها بذلك، وجعلها
طسوجين (5)، طسوج جنديسابور، وطسوج الزندورد، وكور بجوخى
كورة خسروماه، وجعل لها ستة طساسيج، طسوج طيسفون، وهي المدائن،
وطيسفون قرية على دجلة أسفل من قباب حميد بثلاثة فراسخ، يقال لها بالنبطية
طيسفونج، وطسوج جازر، وطسوج كلواذى، وطسوج نهر بوق،
وطسوج جلولاء، وطسوج نهر الملك.

(1) التجفاف بالكسر: آلة للحرب، يلبسه الفرس والإنسان ليقيه.
(2) الصدر يدرع به في الحرب.
(3) المغفر - كمنبر - زرد من الدرع يلبس تحت القلنسوة أو حلق يتقنع بها المتسلح.
(4) عمود من حديد.
(5) الطسوج لفظ فارسي معرب، معناه الناحية.
73

(تاريخ العجم والتاريخ النبوي)
وولد رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر ملك أنوشروان، فأقام بمكة
إلى أن بعث بعد أربعين سنة، منها سبع سنين بقيت من ملك أنوشروان،
وتسع عشرة سنة ملكها هرمز بن كسرى أنوشروان، وبعث وقد مضى من
ملك كسرى أبرويز ست عشرة سنة، فأقام بمكة في نبوته صلى الله عليه وسلم
وعلى عترته (1) ثلاث عشرة سنة، وهاجر إلى المدينة، وقد مضى من ملك أبرويز
تسع وعشرون سنة، فأقام بالمدينة عشر سنين، وتوفى صلى الله عليه وعلى آله
وسلم تسليما بعد موت كسرى أبرويز، فكان عمره صلى الله عليه وسلم ثلاثا
وستين سنة.
وزعموا أن بنات آوى ظهرت بالعراق في آخر ملك أنوشروان، وكانت
سقطت إليها من بلاد الأتراك، واستفظع الناس ذلك، وتعجبوا منه، وبلغ
ذلك كسرى فقال للموبذ (2): (قد كثر تعجبي من هذه السباع التي غزت أرضنا)
فقال الموبذ: (بلغني أيها الملك فيما يؤثر من أخبار الأولين، أن كل أرض
يغلب جورها عدلها تغزوها السباع). فلما سمع ذلك ارتاب بسيرة عماله، فوجه
ثلاثة عشر رجلا من أمنائه الذين لا يكتمونه شيئا إلى آفاق مملكته متنكرين،
لا يعرفون، فانصرفوا، فأخبروه عن سوء سيرة عماله ما غمه، فأرسل إلى
تسعين رجلا منهم، ذكروا بسوء السيرة، فضرب أعناقهم، فضبط عماله
أنفسهم، ولزموا عدل السيرة.
(ملك هرمزد) وكان لكسرى أنوشروان عدة بنين، وكانوا جميعا أولاد سوقة وإماء إلا ابنه
هرمزد بن كسرى الذي ملك بعده، فإن أمه كانت ابنة خاقان الترك، وأم أمه

(1) العترة: نسل الرجل ورهطه، وعشيرته الأدنون ممن مضى وغبر.
(2) الموبذ أو الموبذان هو الحكيم من الفرس.
74

خاتون الملكة، فعزم أبوه على تمليكه من بعده، فوضع عليه عيونا، يأتونه
بأخباره، فكان يأتيه عنه ما يحبه، فكتب له عهدا، واستودعه رئيس نساكهم
في دينهم، فلما تم لملكه ثمان وأربعون سنة مات.
فلما مات أنوشروان ملك ابنه هرمزد بن كسرى، فقال يوم ملك: (الحلم عماد الملك، والعقل عماد الدين، والرفق ملاك الأمر، والفطنة ملاك الفكرة،
أيها الناس، إن الله خصنا بالملك، وعمكم بالعبودية، وكرم ملكتنا فأعتقكم بها،
وأعزنا، وأعزكم بعزنا، وقلدنا الحكومة فيكم، وألزمكم الانقياد لأمرنا، وقد
أصبحتم فرقتين: إحداهما أهل قوة، والأخرى أهل ضعة، فلا يستأكلن منكم
قوي ضعيفا، ولا يغشن ضعيف قويا، ولا تتوقن نفس أحد من الغلبة إلى ضيم
أحد من أهل الضعة، فإن في ذلك وهنا لملكنا، ولا يرو من أهل من أهل
الضعة الآخذ بمأخذ الغلبة، فإن في ذلك انتثار ما نحب نظامه وزوال ما نحاول
قوامه، وفوت ما نحاول دركه، واعلموا أيها الناس، أن من سوسنا العطف على
الأقوياء من الغلبة، ورفع مراتبهم، والرحمة على الضعفاء، والذب عنهم، وحسم
الأقوياء عن ظلمهم والتعدي عليهم، واعلموا أيها الناس أن حاجتكم إلينا في نفس
حاجتنا إليكم، وحاجتنا إليكم هي مسد لحاجتكم إلينا، وأن الثقيل مما أنتم منزلوه
بنا من أموركم عندنا خفيف، والخفيف مما نحن مجشموكم ثقيل لعجزكم عما نحن
مضطلعون به، واضطلاعنا لما أنتم عنه عاجزون، وإنما تحمدون حسن ملكتنا
إياكم، وفضل سيرتنا فيكم إذا حسمتم أنفسكم عما نهيناكم عنه، ولزمتم ما
أمرناكم به.
أيها الناس، ميلوا بين الأمور المتشابهات، ولا تسموا النسك رياء، ولا الرياء
مراقبة، ولا الشرارة شجاعة، ولا الظلم حزما، ولا رحمة الله نقمة، ولا
مخوف الفوت هوينا، ولا البر بالقربى ملقا، ولا العقوق موجدة، ولا الشك
براء، ولا الإنصاف ضعفا، ولا الكرم معجزة، ولا التبرم عادة، ولا الأخذ
75

بالفضل ذلا، ولا الأدب عقلا، ولا العماية غفلة، ولا الغدر ضرورة، ولا
النزاهة تضييعا، ولا التصنع عفافا، ولا الورع رهبة، ولا الحذر جبنا، ولا
الشره اجتهادا، ولا الجناية غنما، ولا القصد تقتيرا، ولا البخل اقتصادا،
ولا السرف توسعا، ولا السخاء سرفا، ولا الصلف بعد همة، ولا النبل صلفا،
ولا البذخ تجلدا، ولا الحرمان استحقاقا، ولا رفع الأنذال صنيعة، ولا المجون
ظرفا، ولا التخلف تثبتا، ولا التثبت بلاده، ولا النميمة وسيلة، ولا السعاية
دركا، ولا اللين ضعفا، ولا الفحش انتصافا، ولا الهذر (1) بلاغة، ولا البلاغة
تفقيعا (2)، ولا الميل في هوى الأشرار شكرا، ولا المداهنة مواتاة، ولا الإعانة
على الظلم حفاظا. ولا الزهو مروءة، ولا اللهو فكاهة، ولا الحيف استقصاء،
ولا الاستطالة عزا، ولا حسن الظن تفريطا، ولا إيطاء العشوة نصيحة، ولا
الغش كيسا، ولا الرياء تعطفا، ولا التواني تؤدة، ولا الحياء مهابة، ولا السفه
صرامة، ولا الدغل (3) استقامة، ولا البغي استعاذة، ولا الحسد شفاء، ولا
العجب كمالا، ولا الفتك حمية، ولا الحقد مكرمة، ولا الضيق احتياطا، ولا التعسف
انكماشا، ولا النزق تيقظا، ولا الأدب حرفة، ولا المعاتبة مفاسدة، ولا بعد القدر
سموا، ولا مجاري التقادير أسباب الذنوب، ولا ما لا يكون كائنا، ولا كائنا ما لا يكون.
اجتنبوا المرذولات من هذه الأمور المتشابهات، وثابروا على ما تحظون به
عندنا، فإن وقوفكم عند أمرنا منجاة لكم من سخطنا، وتنكبكم معصيتنا
سلامة لكم من عقابنا، فأما العدل الذي نحن عليه مقتصرون، وبه نصلح
وتصلحون، فأنتم فيه عندنا مستوون، ستعرفون ذلك إذا قمعنا أهل القوة عن
أهل الضعف، وتولينا بأنفسنا أمر المضطهدين الملهوفين، وأخضعنا أهل الضعة
لأهل العلا بإنزالنا إياهم منازلهم، ورددنا من رام من أهل الضعة مرتبة
لا يستوجبها إلا المستحقون منهم الحباء والشرف لنجدة توجد عنده، أو
بلاء حسن يظهر منه.

(1) سقط الكلام.
(2) التشدق في الكلام.
(3) الدخول في الأمور بما يفسدها.
76

واعلموا أيها الناس، أنا فارقون بين سوطنا وسيفنا، ومستعملوهما بتثبت
وحسن روية، فمن غمط نعمتنا وخالف أمرنا، وحاول ما نهيناه عنه، فإنا
لا نكاد نصلح رعايانا، ونضبط أمورنا إلا بتنكيل من خالف أمرنا، وتعدى
سيرتنا، وسعى في فساد سلطاننا، ولا يطمعن أحد في رخصة منا، ولا
يرجون هوادة عندنا، فإنا غير مداهنين في حق الله الذي قلدنا، فوطنوا
أنفسكم على إحدى خلتين: إما استقامة بما تصلحون، وإما مخافة على ما
تتلفون، فإن الصلاح حجتان معتدان لكم عندنا من تدبير ملكنا، وضبطنا
سلطاننا، فلا تستصغروا وعيدنا، وتهددنا، ولا تحسبوا أن فعلنا يقصر
عن قولنا، وإنما أحببنا أن نعلمكم رأينا في اجتناب الرخص والمحاباة،
وحرصنا على الاعتذار قبل الإيقاع، والأخذ بقصد السيرة والعدل في الرعية،
واختيار طاعتكم التي بها تكون ألفتكم واستقامتكم، فثقوا بما بدأنا به من
وعد، وخافوا ما أظهرنا من وعيد، ونحن نسأل الله أن يعصمكم من
استدراج الشيطان وضلاله، وأن يسددكم لما يقرب من طاعته، وبلوغ
مرضاته، والسلام عليكم)
فلما سمع الناس ذلك تباشر به الضعفاء وأهل الضعة، وفت ذلك في
أعضاد العلية وساءهم، فتنكبوا ما كانوا فيه من الاستطالة على الضعفاء،
والقهر لأهل الضعة،
وكان هرمزد ملكا متحريا لحسن السيرة، مثابرا على استصلاح الرعية،
رحيما بالضعفاء، شديدا على الأقوياء، وبلغ من عدله وتحريه الحق أنه كان يسير
في كل عام إلى أرض الماهين (1) فيصيف بها، وكان يأمر عند مسيرة إليها
مناديه، فينادي في عسكره أن يتحاموا الإضرار بالدهاقين (2)، ويوكل بتعهد
ذلك ومعاقبة من تعدى أمره فيه رجلا من ثقاته.

(1) الماهان: الدينور ونهاوند، إحداهما ماه الكوفة، والأخرى ماه البصرة.
(2) الدهاقين جمع دهقان وهو المزارع أو الفلاح.
77

وكان ابنه كسرى الذي ملك من بعده، ويسمى أبرويز، معه في مسيرة،
فعار (1) ذات يوم مركب من مراكبه، فوقع في زرع على طريقه، فرتع فيه،
وأفسد، فأخذ صاحب الزرع ذلك المركب، فدفعه إلى الموكل بذلك الأمر،
فلم يمكنه معاقبة كسرى، فرقى أمره إلى أبيه، فأمر أن يجدع إذنا الفرس
، ويحذف ذنبه، ويغرم ابنه مقدار مائة ضعف مما أفسد الفرس من ذلك الزرع.
فخرج الموكل بذلك من عند الملك لينفذ أمر الملك، فوجه كسرى رهطا
من المرازبة والأشراف إلى الموكل بذلك، ليسألوه التغييب عن ذلك ويدفع ألف
ضعف مما أفسد مركبه، لما في جدع أذن الفرس وتبتير ذنبه من الطيرة،
فلم يجبهم الموكل إلى ذلك، وأمر بالمركب فجدعت أذناه، وبتر ذنبه، وغرم
كسرى ما أصاب صاحب الزرع كنحو ما كان يغرم سائر الناس، فلم يكن للملك
هرمزد بن كسرى همة ولا نهمة إلا استصلاح الضعفاء، وإنصافهم من الأقوياء،
فاستوى في ملكه القوي والضعيف.
وكان هرمزد منصورا مظفرا لا يروم تناول شئ إلا ناله، لم يهزم له جيش
قط، وكان أكثر دهره غائبا عن المدائن. إما بالسواد متشتيا، وإما بالماه متصيفا.
فلما كانت سنة إحدى عشرة من ملكه حدق به الأعداء من كل وجه
فاكتنفوه اكتناف الوتر سيتي (2) القوس، أما من ناحية الشرق فإن شاهنشاه
الترك أقبل حتى صار إلى هراة (3)، وطرد عمال هرمزد، وأما من قبل المغرب
فإن ملك الروم أقبل حتى شارف (نصيبين) ليسترد آمد (4) وميافارقين (5)

(1) عار الفرس يعير ذهب كأنه منفلت.
(2) سيتا القوس طرفاه
(3) مدينة في أفغانستان سكانها سنيون وبينهم طائفة من الشيعة، وينسب بناؤها إلى
الإسكندر، وهي مشهورة بجامعها القديم وفيها تصنع الطنافس.
(4) آمد وهي ديار بكر، مدينة على الشاطئ الأيسر لنهر دجلة، فتحها عياض بن غنام النهري.
(5) ميافارقين: قاعدة بلاد ديار بكر بين الجزيرة وأرمينية، وقد سميت قديما مارتير وپوليس
أو مدينة الشهداء لما جمع فيها من عظام الفرس المسيحيين.
78

ودارا ونصيبين (1)، وأما من قبل أرمينية فإن ملك الخزر أقبل حتى أوغل
في آذربيجان، فبث الغارات فيها.
فلما انتهى ذلك إلى هرمزد بدأ بقيصر، فرد عليه المدن التي كان أبوه
اغتصبه إياها، وسأله الصلح والموادعة، فأجابه قيصر إلى ذلك، فانصرف،
ثم كتب إلى عماله بأرمينية وآذربيجان، فاجتمعوا وصمدوا صمد صاحب
الخزر، حتى نفوه عن أرضه.
فلما فرغ من ذلك كله صرف همه إلى صاحب الترك، وكان أشد الأعداء
عليه، فكتب إلى بهرام بن بهرام جشنش، عامله على ثغر آذربيجان
وأرمينية، وهو الملقب ببهرام شوبين، يأمره بالقدوم عليه، فما لبث أن قدم،
فأذن له، فدخل عليه، فرفع مجلسه، وأظهر كرامته، وخلا به، وأخبره
بالأمر الذي أراده له، من التوجه إلى شاهنشاه الترك.
فسارع بهرام إلى طاعته واتباع أمره، فأمر هرمزد أن يسلط بهرام على
بيوت الأموال والسلاح، وأن يسلم إليه ديوان الجند، ليختار من أحب على
عينه، فأحضر بهرام الديوان، وجمع إليه المرازبة والأشراف، فانتخب
اثني عشر ألف رجل من الفرسان، ليس فيهم إلا من أناف الأربعين.
وبلغ ذلك الملك، فقال له: (لم لم تنتخب إلا هذا المقدار، وإنما تريد
أن تسير بهم إلى ثلاثمائة ألف رجل؟). فقال بهرام: (ألم تعلم أيها الملك أن
قابوس حين أسر فحبس في حصن ما سفري إنما سار إليه رستم في اثني عشر ألفا،
فاستنقذه من أيدي مائتي ألف، وأن إسفندياد إنما سار إلى ارجاسف ليطلب منه
الوتر الذي كان له عنده في اثني عشر ألفا، وإن (كيخسرو) إنما أرسل
(جودرز) ليطلب بدم أبيه سياوش في اثني عشر ألفا، فظهر على ثلاثمائة ألف؟
فأي جيش لا يفل باثني عشر ألفا لا يفل بشئ أبدا).

(1) نصيبين مدينة فيما بين النهرين، اشتهرت قديما بمدرستها السريانية.
79

فلما فصل بهرام بالجنود من المدائن ودعه الملك، وقال له: (إياك والبغي،
فإن البغي مصرعة بصاحبه، وعليك بالوفاء، فإن فيه نجاة لمحاوله، وإياك
أن تسير إلا على تعبية الحرب، فإذا نزلت فاحرس عسكرك بنفسك، وامنع
جنودك من العيث والفساد، وإياك أن تعزم حتى تروى، ولا تروى حتى
تستشير أهل النصح والأمانة)، ثم انصرف الملك، ومضى بهرام، فأخذ على
طريق الأهواز.
وبلغ ملك الترك قدوم الجيش لمحاربته، وقد كان الملك هرمزد وجه إلى ملك
الترك رجلا من مرازبته يسمى هرمزد جرابزين، وكان من أدهى العجم، وأشدهم
خلابة وكيدا، وأمره أن يعلمه أنه رسول الملك، أرسله لمصالحته، وإعطائه
الرضا، فأتاه هرمزد جرابزين، فاستعمل فيها الخديعة، وكفه بها عن الفساد
في أرض خراسان، فلما علم هرمزد أن بهرام قد دنا من هراة خرج ليلا، فلحق
ببهرام.
ولما بلغ ملك الأتراك ورود الجيش قال لصاحب حرسه: انطلق فائتني بهذا
الفارس الخداع، فطلبوه، فوجدوه قد هرب في جوف الليل.
وخرج خاقان من مدينة هراة للقاء بهرام، وعلى مقدمته أربعون ألفا.
فلما التقوا أرسل إلى بهرام: أن انضم إلي حتى أملكك على إيران شهر،
وأجعلك أخص الناس بي.
فأرسل إليه بهرام كيف تملكني على إيران شهر، وإنما ملكها لأهل
بيت فينا لا يجوز أن يعدوهم إلى غيرهم، ولكن هلم إلى الحرب.
فغضب ملك الترك من ذلك، وأمر، فضرب بوق الحرب، وتزاحف
الفريقان، وملك الترك على سرير من ذهب فوق رابية، يشرف على
الفريقين.
فلما استمرت الحرب قصد بهرام للتل في مائة فارس من إبطال جنوده، فانفض
عنه من حول ملك الترك، فلما رأى الملك ذلك دعا بمركبه، واستبان لبهرام،
80

فرماه بنشابة نفذته، فخر صريعا، وانهزم الأتراك، وقد كان شاهنشاه خلف
على ملكه ابنه (يلتكين) فلما أتاه مقتل أبيه استجاش (1) الترك، وأقبل
في دهم داهم من أمم الأتراك، وانضم إليه الفل.
وبلغ بهرام الخبر، فأرسل في أقطار خراسان، فاجتمع إليه بشر كثير
فسار مستقبلا ليلتكين، فالتقوا على شاطئ النهر الأعظم مما يلي الترمذ، وهاب
كل واحد منهما صاحبه، وجرت بينهما السفراء في الصلح.
وأرسل بهرام إليه (إنكم معاشر الخاقانية قتلتم ملكنا فيروز، فأهدرنا
دمه، وقبلنا الصلح منكم، فكذلك، فافعلوا بنا). فأجابه يلتكين إلى الصلح على حكم هرمزد الملك، وأقاما بمكانهما.
فكتب بهرام إلى هرمزد بذلك، فكتب إليه هرمزد: أن توجه إلى
يلتكين مكرما في خاصة طراخنته (2) وعظماء جنوده.
فتوجه يلتكين إلى العراق، فلما دنا من المدائن خرج هرمزد ملتقيا له،
وترجل كل واحد منهما لصاحبه، وأظهر هرمزد إكرام يلتكين، وأنزله معه
في قصره، وأخذ كل واحد منهما عهدا وكيدا على صاحبه بالمسالمة ما بقيا،
ثم أذن له، فانصرف إلى مملكته.
ولما وغل في خراسان استقبله بهرام في جنوده، وسار معه إلى حد مملكته،
وانصرف بهرام حتى أتى مدينة بلخ، فنزلها، ووجه إلى الملك هرمزد ما كان غنمه
من عسكر شاهنشاه، ووجه إليه بذلك السرير الذهب، فبلغ ما وجه إليه
وقر (3) ثلاثمائة بعير.
فلما وصلت الغنائم إلى هرمزد، وعرضت عليه، وحوله وزراؤه وعظماء

(1) طلب الجيوش منهم.
(2) جمع طرخان وهو الرئيس، ويلقب به الأعيان في خراسان.
(3) الوقر بالكسر: الحمل الثقيل.
81

مرازبته، قال يزدان جشنس رئيس وزرائه: (أيها الملك، ما كان أعظم
المائدة التي منها هذه اللقمة)، فوقعت هذه الكلمة في قلب هرمزد، وارتاب
بأمانة بهرام، وظن أن الأمر كما قال يزدان جشنس، فانظر كم داهية دهياء
وحروب وبلاء جرت هذه الكلمة.
ودخل هرمزد منها الغضب والغيظ على بهرام ما أنساه حسن بلائه، فأرسل
إلى بهرام بجامعة ومنطق امرأة ومغزل، وكتب إليه (أنه قد صح عندي
أنك لم تبعث إلي من تلك الغنائم إلا قليلا من كثير، والذنب لي في تشريفي
إياك، وقد بعثت إليك بجامعة، فضمها في عنقك، ومنطق امرأة، فتنطق
بها، ومغزل، فليكن في يدك، فإن الغدر والكفران من أخلاق
النساء)
. فلما وصل ذلك إلى بهرام كظم غيظه، وعلم أنه إنما أتى من الوشاة،
فوضع الجامعة في عنقه، وصير المنطق في وسطه، وأخذ المغزل في يده، ثم
أذن لعظماء أصحابه، فدخلوا عليه، ثم أقرأهم كتاب الملك إليه، فلما سمع أصحابه
ذلك يئسوا من خير الملك، وعملوا أنه لم يشكر لهم حسن بلائهم، فقالوا:
نقول كما قال أولوا خوارجنا لأردشير: (ملك ولا يزدان). ونحن نقول: لا هرمزد
ملك، ولا يزدان جشنس وزير)
. وكانت قصة أولي خوارجهم: أن أردشير بابكان كان صار إليه بعض
الحواريين، فاستجاب له، ودخل في دين المسيح صلى الله عليه وسلم،
وكان في عصره، وشايعه على ذلك وزيره يزدان، فغضب العجم لذلك،
وهموا بخلع أردشير حتى أظهر لهم الرجوع عما هم به من ذلك، فأقروه
على الملك.
فقال أصحاب بهرام لبهرام: (إن أنت تابعتنا على خلع هرمزد والخروج
عليه، وإلا خلعناك، ورأسنا غيرك، فلما رأى اجتماعهم على ذلك أجابهم
على أسف وهم وكراهية.
82

وخرج هرمزد جرابزين ويزدك الكاتب من معسكر بهرام ليلا حتى قدما
المدائن، وأخبرا هرمزد الخبر.
ثم إن بهرام سار في جنوده نحو العراق لمحاربة هرمزد الملك حتى ورد
مدينة الري فأقام، واتخذ سكة للدراهم بتمثال كسرى أبرويز ابن الملك،
وصورته، واسمه، وضرب عليه عشرة آلاف درهم، وأمر بالدراهم، فحملت
سرا حتى ألقيت بالمدائن، ففشت في أيدي الناس.
وبلغ ذلك الملك هرمزد، فلم يشك أن ابنه كسرى يحاول الملك، وأنه
الذي أمر بضرب تلك الدراهم، وذلك الذي أراد بهرام بما فعل، فهم الملك
بقتل ابنه كسرى، فهرب كسرى من المدائن ليلا نحو آذربيجان حتى أتاها،
وأقام بها، ودعا الملك بندوية وبسطاما، وكانا خالي كسرى، فسألهما عن
كسرى، فقالا (لاعلم لنا به)، فارتاب بهما، فأمر بحبسهما.
ثم إن الملك جمع نصحاءه، فاستشارهم، فقالوا: (أيها الملك، إنك
عجلت في أمر بهرام، وقد رأينا أن توجه إلى بهرام بيزدان جشنس، فليس
بهرام بقاتله، إذا أتاه فاعتذر إليه، وباء بذنبه عنده، وتكون قد
طيبت نفس بهرام، ورددته إلى الطاعة، وحقنت بذلك الدماء، فقبل الملك
ذلك.
وبعث بيزدان جشنس الوزير، فلما تهيأ للمسير أرسل إليه ابن له كان
محبوسا في حبس الملك ببعض الجرائم، يسأله أن يستوهبه من الملك، ويخرجه
معه، فإن عنده غناء ومعونة في الأمور، ففعل يزدان جشنس وأخرجه معه.
فلما صار بمدينة همذان ارتاب بابن عمه ذلك، وكتب كتابا إلى الملك يعلمه:
أنه قد رده إليه، ليأمر بقتله، أو يرده إلى محبسه، فإنه فاجر فتاك، وقال له:
(إني قد كتبت إلى الملك كتابا في بعض الأمور، فأغذ السير به حتى تدفعه
إليه، ولا تطلعن على ذلك أحدا.
83

فارتاب الرجل بذلك، فلما تغيب عن يزدان جشنس، وفك الكتاب، وقرأه
فإذا فيه حتفه، فرجع إلى يزدان جشنس، وهو مستخل، فضربه حتى
قتله، وأخذ رأسه، فانطلق به إلى بهرام، وهو بالري، فألقاه بين يديه
، وقال: هذا رأس عدوك يزدان جشنس الذي وشى بك إلى الملك، وأفسد
قلبه عليك، فقال له بهرام: (يا فاسق، أقتلت يزدان جشنس في شرفه
وفضله، وقد كان خرج نحوي ليعتذر إلى مما كان منه، ويصلح بيني وبين الملك؟.
ثم أمر به، فضربت عنقه.
وبلغ من بباب الملك من العظماء والأشراف والمرازبة مقتل يزدان جشنس،
وكان عظيما فيهم، فمشى بعضهم إلى بعض، وعزموا على خلع الملك، وتمليك
ابنه كسرى، وكان الذي زين لهم ذلك، وحملهم عليه (بندوية وبسطام) خالا
كسرى. وكانا محتبسين، فأرسلا إلى العظماء، أن أريحوا أنفسكم من ابن
التركية، يعنيان الملك هرمزد، وقد قتل خيارنا، وأباد سراتنا، وذلك أنه كان
مولعا بالعلية من أجل استطالتهم على أهل الضعف، فقتل منهم خلقا كثيرا،
فاتفقوا على يوم يجتمعون فيه لذلك، فأقبلوا جميعا حتى أخرجوا بندويه وبسطاما
من الحبس، وجميع من كان فيه.
(تولية كسرى أبرويز)
ثم أقبلوا إلى الملك هرمزد فنكسوه عن سريره، وأخذوا تاجه ومنطقته
وسيفه وقباءه، فأرسلوا بها إلى كسرى، وهو بآذربيجان.
فلما انتهى ذلك إليه سار مقبلا حتى ورد المدائن، ودخل الإيوان، واجتمع
إليه العظماء، فقام فيهم خطيبا، فكان مما قال: المقادير ترى المرء ما لا يخطر
بباله، والأسباب تأتي على خلاف الهوى، والبغي مصرعة لأهله، والخائب
من أورطته رغبته، والحازم من قنع بما قضى له ولم تتق نفسه إلى أكثر
منه. أيها الناس: ثابروا على ما يقربكم إلينا من طاعتنا ومناصحتنا، وإياكم
84

ومخالفة أمرنا، والبغي علينا، فإنا لكم بمنزلة العرى والأركان.
فلما تفرق الناس عنه قام يمشي حتى دخل على أبيه، وهو في بيت من
بيوت القصر، فقبل يديه ورجليه، وقال: (يا أبت، ما أحببت هذا الأمر
في حياتك، ولا أردته، ولو لم أقبله لصرف منا، وأزيل عنا إلى غيرنا).
فقال له أبوه: (صدقت وقد قبلت عذرك، فدونك الأمر، فقم به،
وقد عرضت لي إليك حاجة).
قال: (يا أبت، وما عسى أن يعرض لك إلي؟).
قال: (تنظر الذين تولوا نكسى عن السرير، وأخذوا التاج عن رأسي،
واستخفوا بي، وهم فلان وفلان، وسماهم، فعجل قتلهم، واطلب لأبيك
بثأره منهم.
قال كسرى: (هذا لا يمكن يومنا هذا حتى يقتل الله عدونا بهرام،
ويستدف (1) لنا الأمر، فتنظر عند ذلك كيف أبيرهم (2) وأنتقم لك منهم).
فرضي أبوه بذلك منه، وخرج كسرى من عنده، فجلس مجلس الملك.
وبلغ بهرام ما جرى، وهو بالري، وما كان من الأمر، فغضب لهرمزد
غضبا شديدا، وأدركته له حمية ورقة، وذهب عنه الحقد، فسار في جنوده
جادا مجدا ليقتل كسرى ومن والاه على أمره، ويرد هرمزد إلى ملكه.
وبلغ كسرى فصوله من الري، وما يهم به، فكتم ذلك عن أبيه،
وسار ملتقيا لبهرام في جنوده، وقدم رجلا من ثقاته، وأمره أن يأتي عسكر
بهرام متنكرا، فينظر سيرته، ويعرف له كنه أمره.
فسار الرجل، فاستقبل بهرام بهمذان، فأقام في عسكره حتى عرف جميع
أمره، ثم انصرف إلى كسرى، فأخبره: أن بهرام إذا سار كان عن يمينه
مردان سينه الرويدشتي، وعن يساره يزدجشنس بن الحلبان، وأن أحدا

(1) يستدف = يستقيم.
(2) أبيرهم - أهلكهم.
85

من جنوده لا يطمع نفسه في اغتصاب أحد من الرعية مقدار حبة فما فوقها،
وإنه إذا نزل المنزل دعا بكتاب كليلة ودمنة، فلا يزال منكبا عليه طول نهاره.
فقال كسرى لخاليه بندوية وبسطام: (ما خفت بهرام قط كخوفي منه
الساعة، حين أخبرت بإدمانه النظر في كتاب كليلة ودمنة، لأن كتاب
كليلة ودمنة يفتح للمرء رأيا أفضل من رأيه، وحزما أكثر من حزمه، لما فيه
من الآداب والفطن.
وأن كسرى وبهرام توقفا بالنهروان، فعسكر كل منهما بأصحابه في ناحية،
وخندق على نفسه، ثم إن بهرام عقد جسرا، وعبر إلى كسرى، فلما تواقف
الجمعان بدر بهرام حتى دنا من صفوف كسرى، ثم صاح بأعلى صوته (تبا لكم يا معشر العجم، في خلعكم ملككم، أيها الناس: توبوا إلى ربكم مما
فعلتم، وانحازوا إلي بجماعتكم حتى نرد السلطان على ملككم قبل أن ينزل
الله نقمته عليكم).
فلما سمع أصحاب كسرى ذلك قال بعضهم لبعض (قد والله صدق بهرام،
وأن الأمر لعلى ما قال، فهلموا بنا نتلاف أمرنا، ونصلح ما كان منا بإجابة
بهرام إلى ما رأى). وانحازوا جميعا، فانضموا إلى بهرام، ولم يبق مع كسرى إلا خالاه، بندوية
وبسطام، وهرمزد جرابزين، والنخارجان، وسابور بن أبركان، ويزدك كاتب
الجند، وباد بن فيروز، وشروين بن كامجار، وكردي بن بهرام جشنس
أخو بهرام شوبين لأبيه وأمه، وكان من ثقات كسرى وأحبائه.
فقال (1) هؤلاء لكسرى: (أيها الملك، ما تفعل؟ ألا ترى إلى جميع
الناس قد فارقوك، وانحازوا إلى عدوك). فمضى نحو المدائن حتى إذا انتهى إلى
قنطرة (جوذرز) التفت وراءه، فإذا هو ببهرام وحده، قد ترك الناس خلفه حتى

(1) في الأصل: فقالوا.
86

دنا منه ومن أصحابه، فوقف له كسرى على طرف القنطرة، ووتر قوسه، وكان من
رماة الناس، فوضع فيها نشابة، وخاف أن يعمد برميته بهرام، فلا يعمل السهم
فيه لجودة درعه، فأراد أن يعمد وجهه، فلم يأمن أن يتترس بدرقته (1) أو يميل وجهه
عن سهمه، فرمى جبهة فرسه، فلم يخطئ وسط جبهته، واستدار الفرس من شدة
الرمية، ثم سقط.
وبقي بهرام راجلا، فأمعن كسرى ركضا حتى دخل المدائن، وأتى أباه، ولم
يعلمه أن بهرام إنما يحاول رد الملك إليه غير أنه قال له: (إن أصحابي جميعا مالوا إليه
ثم قال (ما الذي ترى؟) قال (أرى لك أن تلحق بقيصر، فإنه سينجدك،
وينصرك حتى يسترجع لك ملكك). فقبل كسرى يدي أبيه ورجليه، وودعه، وسار نحو البحر في أصحابه
، وكانوا تسعة، هو عاشرهم، فقال بعضهم لبعض: (إن بهرام يوافي المدائن اليوم
أو غدا، فيملك هرمزد، فيكون ملكا كما لم يزل، ثم يكتب هرمزد إلى
قيصر، فيردنا إليه، فيقتلنا جميعا، وليس كسرى بملك ما دام أبوه حيا). فقال
بندونيه وبسطام خالا كسرى (نحن نكفيكم ذلك)
. فانصرفا على المقبض، ثم أقبلا حتى دخلا قصر المملكة، وولجا على هرمزد
البيت الذي كان فيه، وقد شغل الحشم بالبكاء والعويل، لهرب كسرى من
عدوه، فألقيا عمامة في عنقه، فخنقاه حتى مات.
ثم لحقا بكسرى، ولم يخبراه بذلك، وساروا بالركض الشديد يومهم، مخافة الطلب،
ومن الغد حتى شارفوا مدينة هيت (2)، وانتهوا إلى دير رهبان، فنزلوه، فأتوهم
بخبز شعير، فبلوه بالماء، وأكلوه، وأتوهم بخل، فمزجوه بماء، وشربوا منه،
واتكأ كسرى على خاله بسطام، فنام لشدة ما أصابه من التعب، فبينا هم كذلك إذ
ناداهم الراهب من صومعته: أيها النفر، قد أتتكم الخيل، وهم بالبعد.

(1) الدرقة معدب دريجة، والدرق بالفتح الصلب من كل شئ،. الدرقة كالدرع يتخذها
المحارب ليحمي نفسه من النشابة والسهام.
(2) بلدة على الفرات، فوق الأنبار على جهة البرية وقد سميت باسم بانيها.
87

وقد كان بهرام، حين وافى المدائن، فصادف هرمزد الملك قتيلا، ازداد غيظا
على كسرى وحنقا، فوجه بهرام بن سياوشان في ألف فارس على الخيل
العتاق. فلما نظر كسرى وأصحابه إلى الخيل سقط في أيديهم، وأيسوا من
أنفسهم، فقال بندوية لكسرى: أنا أخلصك بحيلتي، غير أني أغرر بنفسي.
قال له كسرى: يا خال، إنك إن وقيتني بنفسك سلمت أو قتلت، فكفاك
بذلك ذكرا باقيا وشرفا عاليا، فقد خاطر أرسناس بنفسه في أمر منوشهر، وأتى
فراسياب ملك الأتراك، وهو في وسط جنوده، فرماه بسهم فقتله، وأراح زاب
الملك منه، فأصاب بثأر منوشهر، فقتل، فبعد صيته في الناس، وعظم ذكره،
وقد خاطر جوذرز بنفسه بسبب سابور ذي الأكتاف حين قام بتدبير ملكه،
وضبط سلطانه، فحسده الناس لذلك، فلما أدرك سابور ملكه على جميع أموره،
وفوض إليه سلطانه.
قال له بندويه (قم، فألق عنك قباءك، ومنطقتك، وحل عنك سيفك، وضع
تاجك، واركب في سائر أصحابك، فتبطنوا هذا الوادي، فأغذوا فيه السير،
ودعوني والقوم)
. ففعل كسرى ما أمره، وتبطن الوادي، وسار في بقية أصحابه، وعمد بندوية إلى
قباء كسرى فلبسه، وتنطق بمنطقته، ووضع التاج على رأسه. ثم قال للرهبان
(عليكم بالجبل، فألحقوا به إلى أن ينصرف هذا الخيل، وإلا لم آمن أن يقتلوكم.
عن آخركم). فتركوا الصومعة جميعا، وخرجوا عن الدير.
وصعد بندويه، فصار على سطح الدير، وقد أغلق عليه الباب، وهو لابس
بزة كسرى، فقام على رجليه قائما، حتى علم أن القوم قد رأوه جميعا، ثم نزل إلى
الدير، فخلع بزة كسرى، ولبس بزة نفسه، ثم عاد إلى سطح الدير، وقد حدقت به
الخيل، فقال (يا قوم، من أميركم؟) فأتى بهرام بن سياوشيان وقال (أنا
أميرهم، ما تشاء يا بندوية؟)
88

قال: إن الملك يقرئك السلام، ويقول، إنا إنما نزلنا آنفا (1)، وقد كللنا، وتعبنا،
وليس عليك منا فوت، فدعنا على حالنا في هذا الدير إلى العشاء، لنخرج إليك،
وننطلق معك إلى بهرام، فيحكم فينا بما يرى.
قال بهرام بن سياوشان (ذلك له، وعزازه).
ثم نزل بندويه، والقوم محدقون بالدير، فلما أمسوا عاد بندويه إلى سطح الدير،
وقال لبهرام بن سياوشان: (إن الملك يقول لك: هذا المساء، وليست لنا أجنحة
نطير بها، وقد حدقتم بالدير، فدعنا ليلتنا هذه لنستريح، وامتن علينا بذلك، فإذا
أصبحنا خرجنا إليك، ومضينا معك.
قال بهرام (وذلك له، وحبا وكرامة). ثم أمر أصحابه أن يكونوا فرقتين،
فرقة تنام، وأخرى تحرس نوائب.
فلما أصبح بندويه فتح الباب وخرج إلى القوم وقال: (إن كسرى قد فارقني لمنذ
أمس، هذا الوقت، ولو كنتم على نجائب كالريح ما لحقتموه، وإنما كان ما سمعتم مني
مكيدة وحيلة. فلم يصدقوه، ودخلوا الدير، ففتشوه بيتا بيتا، فسقط في يد بهرام بن
سياوشان، ولم يدر ما يعتذر به إلى بهرام شوبين. فحمل بندوية، وانصرف حتى دخل
على بهرام شوبين، وأخبره بالحيلة التي احتالها بندوية، فدعا به بهرام، وقال: (لم ترض بما كان منك من قتل الملك هرمزد، حتى خلصت الفاسق كسرى، فنجا مني؟
قال بندوية (أما قتلي هرمزد فلست أعتذر منه، إذ طغى وبغى، وقتل صناديد
العجم، وألقى بأسهم بينهم، وفرق كلمتهم، وأما حيلتي في تخليص ابن أختي كسرى
فلا لوم علي في ذلك، إذ كان ولدي.
قال بهرام: (أما إنه ليس يمنعني من تعجيل قتلك إلا ما أرجو من ظفري
بالفاسق كسرى، فأقتله، وأقتلك على أثره، ثم قال لبهرام بن سياوشان (احبسه
عندك مقيدا إلى أن أدعوك به).

(1) أي منذ ساعة.
89

ثم إن بهرام جمع إليه وجوه المملكة، فقال: (قد علمتم ما ارتكب كسرى
من الوزر العظيم بقتل أبيه، وقد مضى هاربا، فهل ترضون أن أقوم بتدبير هذا
الملك حتى يدرك شهريار بن هرمزد مدرك الرجال، فأسلمه إليه). فرضي بذلك
فريق، وأباه فريق. فممن أبي موسيل الأرمني، وكان من عظماء المرازبة، وقال لبهرام:
(أيها (الإسبهبد) (1)، ليس لك أن تقوم بشئ من ذلك، وكسرى صاحب الملك ووراثه
في الأحياء)، فقال بهرام: من لم يرض فليرتحل عن المدائن، فإني إن صادفت
بعد ثالثة أحدا ممن لم يرض ثاويا بالمدائن ضربت عنقه.
فارتحل موسيل الأرمني فيمن كان على رأيه، وكانوا زهاء عشرين ألف
رجل، فساروا إلى آذربيجان، فنزلوها ينتظرون قدوم كسرى من الروم،
ولم يزل بندوية محتبسا عند بهرام بن سياوشان، فكان بهرام بن سياوشان
يحسن إليه في المطعم والمشرب ليتخذ بذلك زلفة عنده، لما ظن أن كسرى
سينصرف، ويرجع إليه الملك، وكان إذا جن عليه الليل أخرجه من محبسه،
فأجلسه معه على شرابه، فقال بندوية ذات ليلة لبهرام: يا بهرام، إن ما أنتم
فيه سيضمحل، ويذهب لظلم بهرام شوبين واعتدائه. فقال بهرام: والله لأعرف
ما تقول، وإني لأهم بأمر. قال بندوية: وما هو؟ قال: (أقتل غدا بهرام
شوبين، وأريح الناس منه، ليرجع الملك إلى نظامه وعنصره) قال بندوية:
أما إذ كان رأيك، فأطلقني من قيدي، ورد على دابتي وسلاحي)، ففعل.
ولما أصبح بهرام بن سياوشان تدرع تحت ثيابه درعا، واشتمل على السيف،
فأبصرت ذلك امرأته، وكانت بنت أخت بهرام شوبين، فاسترابت به، وبعثت
إلى بهرام تعلمه ذلك.
وابتكر بهرام إلى الميدان، فكان لا يمر به أحد من أصحابه إلا ضرب
جنبه بالصولجان، فلم يسمع حس (2) الدرع من أحد منهم، حتى مر به بهرام

(1) كلمة فارسية lspehbed معناها قائد، وفى الأصل إصبهبذ، وهي تحريف، فإصبهبذ
مدينة في بلاد الدير.
(2) الحسن بالكسر: الحركة والصوت.
90

ابن سياوشان فضرب جنبه بالصولجان، فلما سمع حس الدرع استل سيفه وضربه
حتى قتله.
وتنادى الناس: قتل بهرام في الميدان،
فظن بندوية أن بهرام شوبين المقتول،
فركب دابته، ومضى نحو الميدان، فلما علم أن المقتول صاحبه خرج متنكرا،
يسير الليل، ويكمن النهار، حتى أتى آذربيجان، فأقام مع موسيل وأصحابه
هناك.
ولما سار كسرى من الدير سار يوما وليلة، وتلقاهم أعرابي، فوقفوا عليه،
فسأله كسرى، وكان يحسن بالعربية شيئا، من هو؟ فأخبر أنه من طيئ،
وأن اسمه إياس بن قبيصة، فقال له: (أين الحي؟)، فقال: (قريب)،
قال: (فهل من قرى، فقد بلغ منا الجوع؟)، قال: (نعم)، فعدلوا
معه إلى الحي، فنزلوا به، وسرحوا خيلهم ترتع، وأقاموا عنده يومهم،
فأحسن قراهم، وزودهم، وخرج بهم حين أمسوا يدلهم الطريق، حتى أخرجهم
لثلاث بيالس (1) من شاطئ الفرات. ثم انصرف.
وسار كسرى حتى انتهى إلى اليرموك، فخرج إليه خالد بن جبلة الغساني،
فقرأه، ووجه معه خيلا حتى بلغ قيصر، فدخل عليه، وأبثه شأنه،
وما توجه له، فوجده بحيث أمل من نصره، ومعونته.
فقال له بطارقته: (أيها الملك قد علمت ما لقي من كان قبلك من آبائك
من هؤلاء، منذ زمان الإسكندر، وكان آخر ما لقينا منهم اغتصاب جد هذا إيانا
مدن الشام التي لم تزل في أيدينا إرثا من آبائنا منذ ألف عام، فردها عليك أبو هذا
حين أجلبت بخيلك ورجلك، فدع القوم يشتغل بعضهم ببعض، فإن حرب
العدو بعضهم بعضا فتح عظيم). فقال قيصر لعظيم الأساقفة: ما تقول أنت يا كبيرنا؟). فقال: (لا يحل لك خذلانه، إذ كان مبغيا عليه، والرأي أن تنصره،
ليكون لك سلما ما بقيت وبقي).

(1) مراحل السفر.
91

قال قيصر: (وهل يجوز للملوك أن يستجار بهم فلا يجيروا؟).
فأخذ على كسرى العهود والمواثيق بالمسالمة، وزوجه ابنته مريم، ثم عقد
لابنه ثيادوس في إبطال جنوده، وفيهم عشرة رجال من الهزار مردين (1)، وقواهم
بالأموال والعتاد، وأمرهم بالمسير معه، وشيعهم ثلاثة أيام.
فسار كسرى بالجيش، فأخذ على أرمينية حتى إذا صار بآذربيجان انضم إليه
خاله بندوية وموسيل الأرمني ومن معه من مرازبته ومرازبة فارس.
وبلغ خبره بهرام شوبين، فسار جادا بالجنود حتى وافاه بآذربيجان،
فعسكر على فرسخ من معسكر كسرى. ثم تزاحفوا، ونصب لكسرى
وثيادوس سرير من ذهب فوق رابية تشرف بهما على مجتلد القوم، ولما تواقفت
الخيلان أقبل رجل من الهزار مردين حتى دنا من كسرى، فقال: (أرني
هذا الذي غلبك على ملكك). فدخلت كسرى أنفة من تعييره إياه بذلك
، فكظمها، غير أنه أراه بهرام شوبين، فقال: (هو صاحب الفرس الأبلق
المعتجر (2) بالعمامة الحمراء، الواقف أمام أصحابه)
. فمضى الرومي نحو بهرام شوبين، فناداه: أن هلم إلى المبارزة، فخرج إليه
بهرام، فاختلفا ضربتين، فلم يصنع سيف الرومي شيئا في بهرام، لجودة درعه،
وضربه بهرام على مفرق رأسه، وعليه البيضة، فقد البيضة، وأفضى السيف
إلى صدر الرومي، فقده حتى وقع نصفين، عن يمين وشمال.
وأبصر ذلك كسرى، فاستغرب ضحكا، فغضب ثيادوس، وقال:
(ترى رجلا من أصحابي يعد بألف رجل قد قتل فتضحك، كأنك مسرور بقتل
الروم)، فقال كسرى: (إن ضحكي لم يكن سرورا مني بقتله، غير أنه عيرني
بما قد سمعت، فأحببت أن يعلم أن الذي غلبني على ملكي، وهربت منه إليكم،
هذه ضربته).

(1) جماعة من المحاربين المختارين، وكانت عدتهم ألفا.
(2) الاعتجار: لف العمامة دون التلحي.
92

وأن القوم اقتتلوا يومين، فلما كان في اليوم الثالث دعا بهرام كسرى إلى
المبارزة، فهم كسرى أن يفعل، فمنعه ثيادوس، وأبى كسرى، فخرج إلى بهرام،
فتطاردا ساعة.
ثم إن كسرى ولى منهزما، وعارضه بهرام فاقتطعه عن أصحابه، ومضى
كسرى نحو جبل، وبهرام في أثره يهتف به، وبيده السيف، وهو يقول:
(إلى أين يا فاسق؟). فجمع كسرى نفسه، فساعدته القوة على تسنم الجبل،
فلما نظر بهرام إلى كسرى قد علا ذروة الجبل علم أنه قد نصر عليه، فانصرف
خاسئا، وهبط كسرى من جانب آخر حتى أتى أصحابه، ثم ابتكر (1) الفريقان
على مصافهم في اليوم الرابع، فاقتتلوا، فكان الظفر لكسرى.
وانصرف بهرام في جنوده منهزما إلى معسكره، فقال بندوية لكسرى:
(أيها الملك، إن الجنود الذين مع بهرام لو قد أمنوك على أنفسهم انحازوا إليك،
فائذن لي أن أعطيهم الأمان عنك)، فأذن له.
فلما أمسى بندوية أقبل حتى وقف على رابية مشرفة على معسكر بهرام،
ثم نادى بأعلى صوته: (أيها الناس، أنا بندوية بن سابور، وقد أمرني
الملك كسرى أن أعطيكم الأمان، فمن انحاز إلينا منكم في هذه الليلة فهو آمن
على نفسه وأهله وماله). ثم انصرف.
فلما أظلم الليل على أصحاب بهرام تحملوا حتى لحقوا بمعسكر كسرى إلا
مقدار أربعة آلاف رجل، فإنهم أقاموا مع بهرام.
ولما أصبح بهرام نظر إلى معسكره خاليا قال: (الآن حسن الفرار).
فارتحل في أصحابه الذين أقاموا معه، وفيهم مردان سينه ويزدجشنس، وكانا
من فرسان العجم.
فوجه كسرى في طلبه سابور بن أبركان في عشرة آلاف فارس، فلحقه،

(1) ابتكر وبكر وباكره بمعنى أي أتاه بكرة.
93

وعطف عليه بهرام في أصحابه، فاقتتلوا، فانهزم سابور، ومضى بهرام على وجهه،
فمر في طريقه بقرية، فنزلها، ونزل هو ومردان سينه ويزدجشنس بيت عجوز،
فأخرجوا طعاما لهم، فتعشوا وأطعموا فضلته العجوز، ثم أخرجوا شرابا،
فقال بهرام للعجوز: (أما عندك شئ نشرب فيه؟)، قالت: (عندي
قرعة صغيرة)، فأتتهم بها، فجبوا رأسها، وجعلوا يشربون فيها، ثم أخرجوا
نقلا (1)، وقالوا للعجوز: (أما عندك شئ يجعل عليه النقل؟) فأتتهم
بمنسف (2)، فألقوا فيه ذلك النقل، فأمر بهرام، فسقيت العجوز، ثم قال لها:
(ما عندك من الخبر أيتها العجوز؟)، قالت: (الخبر عندنا أن كسرى أقبل
بجيش من الروم، فحارب بهرام، فغلبه، واسترد منه ملكه)، قال بهرام:
(فما قولك في بهرام؟)، قالت: (جاهل، أحمق، يدعي الملك، وليس
من أهل بيت المملكة).
قال بهرام: (فمن أجل ذلك يشرب في القرع، ويتنقل من المنسف).
فجرى مثلا في العجم يتمثلون به.
وسار بهرام حتى انتهى إلى أرض قومس (3)، وبها قارن الجبلي النهاوندي
وكان والي خراسان على حربها وخراجها، وعلى قومس وجرجان، وكان
شيخا كبيرا قد أناف على المائة، وكان على تلك الناحية من قبل كسرى أنو
شروان. ثم أقره هرمزد بن كسرى، فلما أفضى الأمر إلى بهرام عرف له
قدره في العجم، وفضله، فأقره مكانه.
فلما انتهى بهرام إليه وجه قارن ابنه في عشرة آلاف فارس، فحالوا بين
بهرام وبين النفوذ، فأرسل إليه بهرام (ما هذا جزائي منك، إذ أقررتك
على عملك؟) فأرسل إليه قارن: (أن ما على من حق الملك كسرى وحق

(1) النقل بفتح النون وقد تضم وسكون القاف ما يتنقل به على الشراب.
(2) المنسف كمنبر ما ينفض به الحب، وهو شئ طويل منصوب الصدر، أعلاه مرتفع
(3) قومس، تعريب كومس وهي كورة كبيرة واسعة قرب جبل طبرستان.
94

آبائه أعظم مما على من حقك، وكذلك عليك، لو عرفت، إذ شرفك،
فكافأته، إن خلعت طاعته، وسعرت مملكة العجم نارا وحربا، فكان قصاراك
أن رجعت خائبا حسيرا، وصرت أحدوثة لجميع الأمم).
فأرسل إليه بهرام: أن العنز يساوي درهمين مرتين: إذا كان عناقا صغيرا،
وإذا هرم وسقطت أسنانه لم يساو أيضا إلا درهمين، وكذلك أنت في هرمك
ونقصان عقلك.
فلما أتت قارن هذه الرسالة، غضب وخرج في ثلاثين ألف فارس ورجل
من جنوده، وتهيأ الفريقان للحرب. فلما التقوا قتل ابن قارن، فانهزم أصحابه،
حتى لحقوا بمدينة قومس. ومضى بهرام على خوارزم، فعبر النهر، ووغل
في بلاد الترك من ذلك الوجه يؤم خاقان ليستجير به فيجيره، ويمنع عنه.
وبلغ خاقان قدوم بهرام عليه، فأمر طراخنته، فاستقبلوه، وأقبل حتى
دخل على خاقان، فحياه بتحية الملك، وقال: (إني أتيتك أيها الملك مستجيرا
بك من كسرى وأهل مملكته لتمنعني وأصحابي)، فقال له خاقان: (لك ولأصحابك
عندي الحماية والجوار والمواساة).
ثم ابتنى له مدينة، وبنى في وسطها قصرا، فأنزله وأصحابه فيها، ودون لهم،
وفرض الأعطيات، فكان بهرام يدخل على خاقان كل يوم، فيجلس منه
مجلس إخوته، وخاص أقاربه.
وكان لخاقان أخ يسمى (بغاوير) وكانت له نجدة وفروسية، فرآه بهرام
يتذرع في منطقته غير هائب من الملك، ولا موقرا لمجلسه، فقال ذات يوم
لخاقان: (أيها الملك، إني أرى أخاك بغاوير يتذرع في الكلام، ولا يرعى
لمجلسك ما يجب أن يرعى لمجلس الملوك، وعهدنا بالملوك لا يتكلم إخوتهم وأولادهم
عندهم إلا بما يسألون عنه). فقال خاقان: (إن بغاوير قد أعطي نجدة في
الحروب وفروسية، فهو يدل بذلك، على أنه يتربص بي الدوائر، ويضمر لي
الحسد والعداوة). قال له بهرام: (أفتحب أيها الملك أن أريحك منه).
95

قال: (بما ذا؟). قال: (بقتله). قال: (نعم، إن أمكنك ذلك من وجه
لا يكون علي فيه مسبة). قال بهرام: (سآتي من ذلك مالا يلزمك فيه عار
ولا عيب).
فلما أصبحوا من غد أقبل بهرام، فجلس عند خاقان مجلسه الذي كان يجلس
فيه، فأقبل بغاوير، فجلس وجعل يتذرع في كلامه.
فقال له بهرام: يا أخي، لم لا توفى الملك حقه، وتظهر للناس هيبته
وإجلاله.
فقال له بغاوير: وما أنت وذلك أيها الفارس الطريد الشريد؟!
قال له بهرام: كأنك تصول بفروسية لست فيها بأكثر مني.
قال له بغاوير: فهل لك إلى مبارزتي، فأعرفك نفسك.
قال له بهرام: أما أنا فلا أحب ذلك، فإني متى غلبتك لم أقتلك لمكانك
من الملك.
قال بغاوير: لكني إن غلبتك قتلتك، فاخرج بنا إلى الصحراء.
قال بهرام: على النصفة إذا قال الملك ذلك، وعلى أن لا قود على إن قتلتك،
ولا لائمة من الملك وطراخنته.
قال: نعم.
فقال خاقان: مالك ولهذا الرجل المستجير بنا، العائذ بجوارنا؟
قال بغاوير: أدعوه إلى النصفة.
قال: وأي نصفة؟
قال: يقف لي وأقف له على مائتي ذراع، فارميه، ويرميني، فأينا قتل
صاحبه لم يكن عليه لوم ولا عقل (1).
قال له خاقان: أربع (2) على نفسك، لا أم لك.

(1) دية.
(2) كف وارفق.
96

قال: والله ليفعلن أو لأفتكن به بين يديك.
قال: فدونك إذن.
* * *
فخرج بغاوير وبهرام في نفر من الطراخنة ينظرون، ووقف بغاوير من بهرام
على مائتي ذراع، فقال بهرام للطراخنة: لا تلوموني إن أنا قتلته، فقد بغى علي
كما ترون.
فقالوا: ليس عليك لوم.
فصاح بغاوير ببهرام، أتبدأ أنت، أم أبدأ أنا؟
فناداه بهرام: بل ابدأ أنت،
فارم، فأنت الباغي الظالم
. فوتر بغاوير قوسه، ووضع فيها نشابة، ثم نزع حتى أغرقها، ثم أرسلها،
فصكت بهرام أسفل من سرته في وسط منطقته، فنفذت المنطقة والدرع
وسائر اللباس حتى انتهت إلى صفاق (1) بطنه الظاهر، وأثرت فيه.
وبادر بهرام فنزعها، ووقف هنيهة لا يضرب بيده إلى قوسه من شدة ما أصابه
من ألم الرمية، وظن بغاوير بأن قد قتله،
فركض نحوه، فصاح بهرام: أن ارجع
إلى مكانك، فقف لي كما وقفت لك، فانصرف إلى مكانه، فوقف، وأخرج
بهرام قوسه، فوترها (2)، وكان لا يوترها سواه، ثم وضع فيها نشابة،
ونزع حتى أغرقها، ثم أرسلها، فوقعت من بغاوير في مثل الموضع الذي وقعت
نشابته من بهرام، في وسط المنطقة والدرع وسائر اللباس، ومرقت من الجانب
الآخر، لم يذهب شئ من ريشها ولا عقبها، وسقط بغاوير ميتا.
وبلغ ذلك خاقان، فقال: لا يبعد الله غيره، قد نهيته عن البغي، فأبى،
ثم تقدم إلى طراخنته وأهل بيته، فقال: لا أعلمن أحدا منكم نوى لبهرام
سوءا ولا مكروها.

(1) جلد.
(2) أي جعل لها وترا، والوتر محرك شرعة القوس ومعلقها.
97

فلما خلا بهرام بخاقان شكر له ما كان منه، وقال: (لقد أرحتني
ممن كان يتمنى موتي، ليستبد بالملك دون ولدي، ثم زاده إكراما ومنزله
وبرا، وعظم قدر بهرام بأرض الترك، واتخذ ميدانا على باب قصره،
واتخذ الجواري والقيان والجوارح. وكان من أكرم الناس على
خاقان.
وإن كسرى عند انهزام بهرام وهربه أكرم ثيادوس، ومن معه،
فأحسن جوائزهم وصلاتهم، وسرحهم إلى بلادهم، وولى خاله بندوية دواوينه
وبيوت أمواله، ونفذ أمره في جميع المملكة، وولى خاله بسطام أرض
خراسان وقومس وجرجان وطبرستان، ووجه عماله في الآفاق، ووضع عن
الناس نصف الخراج.
ولما بلغ كسرى عظيم قدر بهرام عند خاقان وجسيم منزلته ببلاد الترك
خافه أن يستجيش ويعود إلى محاربته، فوجه هرمزد جرابزين إلى خاقان وافدا
في تجديد العهد، ووجه معه بألطاف وطرف، وأمره أن يتلطف بخاقان حتى
يفسد قلبه على بهرام.
فسار هرمزد جرابزين حتى دخل على خاقان، ومعه كتاب كسرى،
وأوصل إليه هدايا كسرى وألطافه، فقبلها خاقان، وأمره بالمقام ليقضي
حوائجه، فكان هرمزد يدخل على خاقان مع وفود الملوك، فيحييه بتحية
الملك. ثم إنه دخل ذات يوم، فرآه جالسا، فقال: أيها الملك، إني أراك
قد استصفيت بهرام وأسنيت منزلته، ولم تفعل به من ذلك شيئا إلا وما
كان فعل به ملكنا أكثر منه، فكان جزاؤه منه أن خلعه، وأراد سفك دمه

(1) القينة: هي الجارية بيضاء مغنية كانت أو غير مغنية، وقيل تختص بالمغنية.
(2) جمع جارحة وهي الطير والسباع الكواسب التي تتخذ في الصيد، وتطلق الجارحة على
الذكر والأنثى.
98

وخرج على ابنه كسرى حتى نفاه من مملكته، وما أحسب قصارى أمرك منه
إلا الغدر ونكث العهد، فاحذره أيها الملك، لا يفسد عليك ملكك.
فلما سمع خاقان منه ذلك غضب غضبا شديدا، وقال: (لولا أنك
وافد ورسول لمنعتك من الدخول إلي لما استبان لي من خرقك وعيبك بحضرتي
أخي وصفيي، فلا تعودن لمثل هذا).
فقال هرمزد جرابزين: أما إذ كان أيها الملك هذا رأيك فيه، فأسألك
أن تكتم علي، لا يبلغه ذلك، فيقتلني، فقال: (هذا لك).
فخرج هرمزد آيسا منه، فاندس إلى امرأته خاتون - ومن النساء
السخافة وكفران النعم - فدخل عليها ذات يوم، فلم يصادف عندها أحدا
يخافه، فقال لها: (أيتها الملكة، إنكم قد اصطفيتم بهرام، ورفعتموه
فوق قدره، وليس بمأمون أن يفسد عليكم ملككم كما أفسده على هرمزد
ملكنا، ثم قص عليها ما كان منه، وقال: أيتها الملكة، أقد نسيت
قتله عمك شاهان شاه واحتواءه على سريره وخزائنه؟ فلم يزل يذكرها هذا،
وأشباهه حتى أوقع في قلبها بغض بهرام والخوف منه على زوجها
وولدها.
قالت: (ويحك، وما الذي يمكنني في أمره، ومنزلته من الملك منزلته؟).
قال: (الرأي أن تدسي إليه من يقتله، فتأمني على زوجك وولدك).
فأمرت غلاما لها قد عرفته بالفتك والإقدام، فقالت له: (انطلق الساعة
حتى تدخل على بهرام وتتلطف لتقتله، ولا تأتني إلا بعد الفراغ منه).
فانطلق الغلام حتى استأذن على بهرام، وفي حجزته خنجر، قد ستره،
وكان ذلك اليوم يوم ورهام روز.
قالوا: وقد كان المنجمون قالوا في مولده، إن منيته في ورهام روز (1)،

(1) روز بالفارسية بمعنى يوم. ويوم ورهام واحد من الأيام المعروفة عند الفرس.
99

فكان لا يخرج ذلك اليوم من منزله، ولا يأذن لأحد إلا لثقاته وخاصته، فدخل
الإذن، فأعلمه أن رسول الملكة يطلب الإذن، فأذن له، فدخل، فحيا بهرام
وقال: (إن الملكة قد وجهتني إليك برسالة، فأخلني).
فقام من عند بهرام، فخرجوا. ودنا التركي منه، كأنه يريد أن يساره،
ثم استل الخنجر فبعجه (1) به، وخرج، فركب دابته، ومضى.
ودخل أصحاب بهرام عليه، فصادفوه يستدمي، وبيده ثوب ينشف به الدم،
فلما رأوه بتلك الحال بهتوا، وقالوا: (كيف لم تهتف بنا، فنأخذه؟)،
فقال: (إنما كان كلبا أمر بشئ فنفذ له)، وقال لهم: (إذا جاء القدر
لم يغن الحذر، وقد خلفت عليكم أخي مردان سينه، فأطيعوا أمره).
وأرسل إلى خاقان يعلمه أمره، فأقبل خاقان نحوه والها (2) فصادفه
قد مات فواراه في ناووس (3)، وهم بقتل خاتون، فحجز عن ذلك لمكان
ولده منها.
وإن أصحاب بهرام تناظروا فيما بينهم، فقالوا: (مالنا عند هؤلاء خير،
وما الرأي إلا الخروج عن أرضهم، فإنهم غدرة بالعهد، كفرة للإحسان،
والانتقال إلى بلاد الديلم، فإنها أقرب إلى بلادنا، وأمكن للطلب بثأرنا من
ملوكنا الذين شردونا)، فسألوا خاقان الإذن لهم في الانصراف، فأذن لهم،
وأحسن إليهم، وقواهم، وبذرقهم (4) إلى حدود أرضه.
وكان مع بهرام أخته (كردية)، وكانت من أجمل نساء العجم، وأبرعهن
براعة، وأكملهن خلقا، وأفرسهن فروسية، فخرج أصحاب بهرام و
كردية
أمامهم على دابة بهرام متسلحة بسلاحه، حتى انتهوا إلى نهر جيحون مما يلي
خوارزم، فعبروا هناك، وانصرف عنهم الطراخنة، وأخذ أصحاب بهرام

(1) بعجه: شق بطنة.
(2) غضبان قد ذهب عقله من شدة الحزن (3) الناووس: مقابر النصارى.
(4) خفرهم والمبذرق الخفير.
100

على شاطئ النهر، ثم انحطوا إلى جرجان، وسلكوا طبرستان، ثم لزموا
ساحل البحر حتى انتهوا إلى بلاد الديلم، فسألوهم السكنى معهم في بلادهم،
فأجابوهم إليه، وكتبوا بينهم كتابا: (ألا يتأذى أحد بأحد)، فأقاموا
آمنين، واتخذوا المعايش والقرى والمزارع، وأيديهم مع أيدي الديلم
في كل أمر.
فلما قتل بهرام رأى كسرى أن قد صفا له الملك، فلم يكن له همة إلا الطلب
بثأر أبيه هرمزد، وأحب أن يبدأ بخاليه بندوية وبسطام، ونسي أيادي
بندوية عنده، فمكث كسرى يكاشرهما (1) عشر سنين، وإنه خرج في أيام
الربيع كعادته، يريد الجبل ليصيف فيه، فنزل حلوان (2) وبندوية معه،
فأمر أن يضرب له قبة على الميدان، لينظر إلى المرازبة إذا لعبوا الكرة.
فجلس على تلك القبة، فرأى شيرزاد بن البهبوذان يضرب بالكرة ويجيد،
فكان كلما ضرب، فأجاد، قال له كسرى (زه سوار) (3)، فأحصى الموكل
ذلك مائة مرة قالها.
فكتب له إلى بندوية بأربعمائة ألف درهم، لكل مرة أربعة آلاف درهم،
فلما وصل الصك إلى بندوية قذفه من يده، وقال: (إن بيوت الأموال
لا تقوم لهذا التبذير). وبلغ كسرى قوله، فجعل ذلك ذريعة إلى الوثوب به، فأمر صاحب
حرسه أن يأتيه، فيقطع يديه ورجليه، فأقبل صاحب الحرس لينفذ فيه أمر
كسرى، فاستقبله بندوية يريد الميدان، فأمر به، فنكس عن دابته، وقطع
يديه ورجليه، وتركه متشحطا في دمه بمكانه.

(1) يظهر لهما الرضى، والكشر بسكون الشين: التبسم، وكشر عن أسنانه أبداها،
ويكون في الضحك وغيره
(2) قرية بالعراق.
(3) زه كلمة للاستحسان بمعنى مرحبا أو بارك الله، وسوار معناها فارس وهو تعبير فارسي
101

فجعل بندوية يشتم كسرى، ويشتم أباه، ويذكر غدر آل ساسان، ونكثهم،
ويقال كل ذلك لكسرى، فقال لمن حوله من وزرائه: يزعم بندوية أن
آل ساسان غدرة نكثة، وينسى نفسه في غدره بالملك، أبينا، حين دخل عليه
مع أخيه بسطام، فألقيا العمامة في عنقه، ثم خنقاه بها ظلما وعدوا، ليتقربا بذلك
إلي، كأنه ليس لي بوالد.
ثم ركب إلى الميدان، فمر ببندوية، وهو ملقى على قارعة الطريق، فأمر
الناس أن يرجموه بالحجارة، فرجموه حتى مات. وقال: هذه، حتى تأتي أختها.
يعني ما أراد من إلحاق بسطام بأخيه بندوية، ثم أمر كاتب السر أن يكتب
إلى بسطام ليخلف على عمله ثقة، ويقدم مستخفيا ليناظره في بعض الأمر،
ففعل بسطام ذلك، وأقبل على البريد، فلما انتهى إلى حد قومس استقبله
مردان به قهرمان أخيه بندوية، فلما نظر إليه من بعيد رفع صوته بالبكاء
والعويل، فقال له بسطام: (ما وراءك؟) فأخبره بمقتل أخيه، فلم يجد
مذهبا في الأرض، فعدل إلى من بالديلم من أصحاب بهرام.
وبلغ مردان سينه رئيس أصحاب بهرام قدوم بسطام عليه، ففرح بذلك،
وخرج متلقيا له في جميع أصحابه، لشرف بسطام في العجم، وفضله،
ثم أقبلوا به حتى أنزلوه منزلا بهيا، وركب إليه أشراف تلك البلاد، فأقام عندهم
آمنا، ثم إن مردان سينه ويزدجشنس والعظماء قالوا لبسطام: ما بال كسرى
أحق بالملك منك، وأنت ابن سابور بن خربنداد من صميم ولد بهمن بن
إسفندياذ، وإنكم لإخوة بني ساسان وشركاؤهم، فهلم نبايعك ونزوجك) كردية أخت بهرام، ومعنا سرير ذهب قد كان حمله بهرام من المدائن، فاجلس
عليه، وادع لنفسك، فإن أهل بيتك من ولد دارا بن بهمن سينحلبون إليك،
وإذا قويت شوكتك، وكثر جندك، سرت إلى الغادر كسرى، فحاربته،
وحاولت ملكه، فإن نلت ما تريد فذاك الذي نحب وتحب، وإن قتلت قتلت
وأنت تحاول ملكا، وإن ذلك أبعد لصوتك، وأنبه لذكرك.
102

فلما سمع بسطام ذلك الكلام أصغى إليه، وأجابهم إلى ما عرضوا عليه،
فزوجوه كردية، وأجلسوه على سرير الذهب، وعقدوا على رأسه التاج،
وبايعوه عن آخرهم، ودعوه ملكا، وتابعه أشراف البلاد، وانحلب إليه
جيلان والبير والطيلسان (1)، وقوم كثير من أهل بيته من ناحية العراق ممن كان
يهواه ويهوى أخاه، حتى صار في مائة ألف رجل.
فخرج إلى الدستبي (2) وأقام بها، وبث السرايا في أرض الجبل، حتى بلغوا
حلوان والصيمرة (3) وماسبذان، وهرب عمال كسرى، وتحصن الدهاقين
في الحصون ورؤوس الجبال.
وبلغ ذلك كسرى، فسقط في يده، وعلم أنه لم يأخذ وجه الأمر في قتله
بندوية، فأخذ الأمر من قبل الخديعة، فكتب إلى بسطام: (أنه قد بلغني
مصيرك إلى الغدرة الفسقة، أصحاب الفاسق بهرام، وتزيينهم لك مالا يليق بك،
ثم حملوك على الخروج على المملكة والعيث فيها والفساد من غير أن تعلم ما أنوى
لك، وما انطوى عليه في بابك، فدع التمادي في الغي وأقبل إلي آمنا،
ولا يوحشنك قتل أخيك بندوية).
. فأجابه بسطام: (أن قد أتاني كتابك بما خبرت به من خديعتك،
وسطرت من مكيدتك، فمت بغيظك، وذق وبال أمرك، واعلم أنك لست
بأحق بهذا الأمر مني، بل أنا أحق به منك، لأني ابن دارا مقارع الإسكندر،
غير إنكم يا بني ساسان غلبتمونا على حقنا وظلمتمونا، وإنما كان أبوكم ساسان راعي
غنم، ولو علم أبوه بهمن فيه خيرا ما زوى (4) عنه الملك إلى أخته (خماني)
. فلما ورد كتابه على كسرى علم ألا طمع فيه، فوجه إليه ثلاثة قواد في ثلاثة
عساكر، كل عسكر اثنا عشر ألف رجل، فنفذ العسكر الأول، وعليه سابور

(1) أقوام من سكان نواحي الديلم والخزر.
(2) كورة كبيرة في دنباوند مقسومة بين الري وهمذان.
(3) بلد بين ديار الجبل وديار خوزستان.
(4) نحاه وأزاله.
103

ابن أبركان، ثم أردفه بالعسكر الثاني، وعليه النخارجان، ثم أردفهما بالثالث، وعليه
هرمزد جرابزين، فلما اتصل ببسطام فصول العساكر نحوه سار حتى أتى همذان،
فأقام بها، ووجه الرجالة إلى رؤوس العقاب (1)، ليمنعوا الناس من الصعود
والنفوذ.
قال: فأقامت العساكر دون الجبل بمكان يدعى قلوص، وكتبوا إلى
كسرى يعلمونه ذلك، فخرج كسرى بنفسه في خمسين ألف فارس، حتى وافى
جنوده وهم معسكرون بقلوص، فأقام عندهم ريثما أراح، ثم سار على رستاق (2) يسمى شراه (3)، فنفذ منه إلى همذان في طريق لا جبل فيه ولا عقبة،
حتى أفضى إلى بطن همذان، فعسكر هناك، وخندق على نفسه.
وسار إليه بسطام في جنوده، فاقتتلوا قتالا شديدا ثلاثة أيام، لا ينهزم أحد
من الفريقين عن صاحبه، فلما رأى كسرى ذلك، قال لكردي بن بهرام جشنس
أخي بهرام شوبين لأبيه وأمه، وكان من أنصح المرازبة لكسرى، وأشدهم له ودا
، وأسرعهم في طاعته نهوضا، فقال: (قد ترى ما نحن فيه من شدة هذه الحروب
، وإني قد رجوت الراحة مما نحن فيه بباب لطيف). قال: (وما هو أيها الملك؟)
قال: إن أختك كردية امرأة بسطام متشوقة (4) لا محالة إلى الرجوع إلى
أهلها ووطنها، وأنا أعرف أنها إن آثرت قتل بسطام قدرت لطمأنينته إليها، ولما بلغني من صرامتها وإقدامها، وإن هي قتلته فلها على ذمة الله: أن أتزوجها
وأجعلها سيدة نسائي، وأجعل الملك من بعدي لولد، إن كان لي منها، وأنا كاتب
على ذلك بخطي، فأرسل إليها حتى تعرض ذلك عليها، وتنظر ما عندها فيه)
. قال له كردي: (أيها الملك، فاكتب لها بخطك ما تطمئن إليه، وتعرف صدق

(1) جمع عقب وهو المرقى الصعب من الجبال. (2) معرب رستا بضم الراء وسكون السين، وهو السواد والقرى.
(3) في الأصل: شرا، (4) في نسخة أخرى متشوفة، والتشوف: التطلع والشوق.
104

قولك فيه، لأوجه إليها بالكتاب مع امرأتي، فإنني لا أثق بسواها في كتمان
السر).
فكتب لها كسرى بذلك، وأكد، فأخذ كردي الكتاب، ووجهه
مع امرأته إلى كردية. وقد كان بسطام خرج بها معه لشدة وجده بها.
فلما قرأت كردية كتاب كسرى عرفت وثاقته، فأفضت بسرها إلى
ظئورتها وثقاتها، فزين لها ذلك لتشوقهن إلى أوطانهن. ولم ينكر بسطام
مجئ المرأة إلى كردية لما عرف من إلف النساء وتزاورهن.
وأن بسطام انصرف ذات عشاء إلى مضربه الذي فيه كردية تعبأ قد مسه
الكلال لشدة الحرب، فدعا بطعام، فنال منه، ثم دعا بشرابه، فجعلت
كردية تسقيه صرفا حتى غلبه السكر، فنام، فقامت إلى سيفه، فوضعت
ظبته (2) في ثندوته (3)، وتحاملت عليه حتى خرج من ظهره، ثم خرجت
من ساعتها، فتحملت في حشمها وظئورتها، وقد كان أخوها كردي وقف
لها على الطريق في خيل، فلما انتهت إليه انطلق بها، فأنزلها في رحله.
ولما أصبح أصحاب بسطام ووجدوه قتيلا ارتحلوا هاربين نحو بلاد الديلم،
فوجه كسرى سابور بن أبركان في عشرة آلاف فارس، وأمره أن يقيم بقزوين،
فتكون مسلحة هناك، وتمنع من أراد النفوذ من أرض الديلم إلى مملكته،
ثم تزوج كردية، وضمها إليه، وانصرف إلى المدائن، ونزلت كردية من قلبه بموضع
محبة شديدة، وشكر لها ما كان منها، وزاح عن كسرى ما يجد في نفسه من
الغضاضة بانتقامه من قتله أبيه، واطمأن له ملكه وهدأ واستقر.

(1) المراد مربيتها الحانية عليها والظئورة والظئر: المرضعة غير ولدها.
(2) الظبة: حد السيف والسنان والخنجر وما أشبه ذلك. (3) لحم الثدي أو أصله.
105

(حرب أبرويز مع الروم)
قالوا: ثم إن ابن قيصر ملك الروم قدم على كسرى أبرويز، فأخبره بأن بطارقة
الروم وعظماءها وثبوا على أبيه قيصر وأخيه ثيادوس بن قيصر، فقتلوهما جميعا،
وملكوا عليهم رجلا من قومهم، يسمى كوكسان، وذكره بلاء أبيه وأخيه
عنده، فغضب أبرويز له، ووجه معه ثلاثة قواد: أحدهم شاهين في أربعة وعشرين
ألف رجل، فوغل في أرض الروم، وبث فيها الغارات حتى انتهى إلى خليج
القسطنطينية، فعسكر هناك، والقائد الآخر (بوبوذ) فسار نحو أرض مصر،
فأغار، وعاث، وأفسد حتى انتهى إلى الإسكندرية، فافتتحها عنوة، وسار إلى البيعة
العظمى التي بالإسكندرية، فأخذ أسقفها، فعذبه، حتى دله على الخشبة التي تزعم
النصارى أن المسيح صلب عليها، وكانت مدفونة في موضع قد زرع فوقها الرياحين،
والقائد الثالث (شهريار) فسار حتى أتى الشام، فقتل أهلها قتلا ذريعا، حتى
أخذها كلها عنوة.
فلما رأى عظماء الروم ما حل بهم من كسرى اجتمعوا، فقتلوا الرجل الذي كانوا
ملكوه، وقالوا (إن مثل هذا لا يصلح للملك) وملكوا عليهم ابن عم لقيصر
المقتول يسمى هرقل، وهو الذي بنى مدينة هرقلة (2)، فكانت هذه الغلبة التي
ذكرها الله تعالى في كتابه (3):
وأن هرقل الذي ملكته الروم استجاش أهل مملكته، وسار إلى القائد الذي
كان معسكرا على الخليج، فحاربه حتى أخرجه من أرض الروم، ثم صمد للذي كان
بأرض مصر، فطرده عنها، ثم عطف على شهريار، فأخرجه عن الشام، فوافت

(1) في إحدى النسخ الأوربية رمبوزان، ولقد كان استيلاء الفرس على مصر في عهد
ملكهم قمبيز بن كورش 525 ق. م وقد دخلت جيوش الفرس إلى مصر بقيادته.
(2) مدينة ببلاد الروم سميت باسم هرقلة بنت ملك الروم، وهي بالقرب من صفين من الجانب
الغربي.
(3) سورة الروم الآيات من 1 إلى 6.
106

العساكر كلها الجزيرة، وسار هرقل نحوهم، فواقعهم، فهزمهم حتى بلغ بهم
الموصل.
وذلك بلغ كسرى، فخرج في جنوده نحو الموصل، وانضم إليه قواده الثلاثة،
وسار نحو هرقل، فاقتتلوا، فانهزم الفرس، فلما رأى ذلك كسرى غضب
على عظماء جنوده ومرازبته (1)، فأمر بهم، فحبسوا ليقتلهم.
(تولية شيرويه بن أبرويز)
ولما رأى أهل المملكة ذلك تراسلوا، وعزموا على خلع كسرى، وتمليك ابنه
شيرويه بن كسرى، فخلعوه وملكوا شيرويه، وحبسوا كسرى في بيت
من بيوت القصر، ووكلوا به (حيلوس) رئيس المستميتة، وكان ذلك سنة
تسع (2) من هجرة النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وأن شيرويه أمر أن ينقل بأبيه من دار المملكة، فيحبس في دار رجل من
المرازبة، يسمى (هرسفته) (3)، فقنع رأسه، وحمل على برذون (4)،
فانطلق به إلى تلك الدار، فحبس فيها، ووكل أمره حيلوس في خمسمائة من الجند
المستميتة.
ثم إن عظماء أهل المملكة دخلوا على شيرويه، وقالوا: إنه لا يصلح أن
يكون علينا ملكان اثنان، فإما أن تأمر بقتل أبيك وتنفرد بالأمر، أو نخلعك
ونرد الأمر إليه كما كان.
فهدت شيرويه هذه المقالة، فقال: (أجلوني يومي هذا).
(بين الأب والابن)
ثم أمر يزدان جشنس رئيس كتاب الرسائل، فقال له: انطلق عن رسالتنا

(1) المرزبة كمرحلة = رياسة الفرس، والواحد مرزبان بضم الزاي.
(2) الموافقة سنة 630 م.
(3) في بعض النسخ الأوربية: مارسفند.
(4) مفرد براذاين وهي من الخيل ما كان من غير نتاج العرب
107

لأبينا، وقل له: (إن الذي حل بك عقوبة من الله للذي سلف من سوء أعمالك،
وأول ذلك ما كان منك إلى أبيك هرمزد، ومنها حظرك علينا معاشر أولادك،
ومنعك إيانا البراح، وحبسك إيانا في دار كهيئة المجلس بلا رقة ولا رحمة، ومنها
كفرانك إنعام قيصر عليك وأياديه عندك، فلم تحفظ فيه ابنه وأقاربه حين أتوك
يسألونك أن ترد عليهم خشبة الصليب التي بعث بها إليك شاهين من الإسكندرية،
فرددتهم عنها بلا حاجة منك إليها ولا درك لك في حبسها، ومنها ما أمرت به من
قتل الثلاثين الألف رجل من مرازبتك وعظماء أساورتك بزعمك انهم أول من انهزم
عن الروم، ومنها كثرة ما جمعت من الأموال، وكثرتها في خزائنك من جبايتكها
عن الخراج بأعنف العنف، وإنما ينبغي للملوك أن يملأوا خزائنهم مما يغنمون من
بلاد أعدائهم بنحور الخيل وصدور الرماح، لا مما يسألونه من رعيتهم، ومنها
قتلك النعمان بن المنذر، وصرفك ملك أرضه عن ولده وأهل بيته إلى غيرهم، يعني
إياس بن قبيصة الطائي، فلم تحفظ فيهم ما كان يحفظه آباؤك، من حضانته بهرام
جور جدك، ومعونته بعد أن خرج الملك عنه، حتى رده عليه، فكل هذه ذنوب
ارتكبتها، وآثام اقترفتها، لم يكن الله ليرضى منك فأخذك بها).
فانطلق يزدان جشنس فأبلغ كسرى رسالة شيرويه لم يخرم منها حرفا، فقال
له كسرى: قد أبلغت، فأد الجواب كما أديت الرسالة: (قل لشرويه القصير العمر، القليل الغمر، الناقص العقل، نحن مجيبوك عن جميع ما أرسلت به إلينا من غير
اعتذار لتزداد علما بجهلك، أما رضانا بما ارتكب من أبينا فإني ما اطلعت على
ما دبر القوم من الوثوب به، وقد علمت لما استوطد لي السلطان إني لم أدع أحدا
مالا على خلعة وأجلب عليه بارتكاب حقه إلا قتلته، وختمت ذلك بخالي بندوية
وبسطام مع ما كان من قيامهما بأمري، وأما حظري عليكم معاشر أبنائنا فإني
فرغتكم لتعلم الأدب، ومنعتكم من الانتشار فيما لا يعينكم، ولم أقصر في
مطاعمكم مع ذلك ومصارفكم وملابسكم وطيبكم ومراكبكم، وأما أنت خاصة
فإن المنجمين قضوا في مولدك بتثريب ملكنا، وفسخ سلطاننا على يدك، فلم نأمر
108

بقتلك، ومع ذلك كتاب قرميسيا ملك الهند إلينا يعلمنا أن في انقضاء سنة ثمان
وثلاثين من ملكنا يفضي إليك هذا الأمر، فكتمنا ذلك الكتاب عنك، مع علمنا
أنه لا يفضى إليك إلا بهلاكنا، وذلك الكتاب مع قضية مولدك عند شيرين صاحبتنا،
فإن أردت فدونك، فاقرأهما لتزداد حسرة وثبورا، وأما ما ذكرت من كفراني
نعمة قيصر بمنعى ولده وأهل بيته خشبة الصليب، فأيها المائق، إن أكثر من ذلك
الخشب ثلاثون ألف ألف درهم فرقتها في رجال الروم الذين قدموا معي، وألف ألف
درهم هدايا وجهتها إلى قيصر، ومثل ذلك وصلت ابنه ثيادوس عند رجوعه إلى
مملكته، أفكنت أجود لهم بخمسين ألف ألف درهم وأبخل بخشبة لا تساوي
شيئا؟ إنما احتبستها لأرتهن بها طاعتهم، ولينقادوا لي في جميع ما أريده منهم
لعظيم قدر الخشبة عندهم، وأما غضبي لقيصر وطلبي بثأره، فقد قتلت به من الروم
ما لم يحص عدده، وأما قولك في أولئك المرازبة ورؤساء الأساورة الذين هممت
بقتلهم فإن أولئك اصطنعتهم ثلاثين سنة، وأسنيت أعطياتهم وأعظمت حبوتهم (1)
فلم أحتج إليهم في طول دهري إلا ذلك اليوم الذي فشلوا فيه وخاموا (2)، فسل أيها
الأخرق فقهاء هذه الملة عمن قصر في نصرة ملكه، وخام عن محاربة عدوه،
فسيخبرونك انهم لا يستوجبون العفو ولا الرحمة، فأما ما عنفتني به من جمع
الأموال فإن هذا الخراج لم يكن مني بدعة، ولم يزل الملوك يجبونه قبلي ليكون قوة
للملك وظهرا للسلطان، فإن ملكا من ملوك الهند كتب إلى جدي أنوشروان:
أن مملكتك شبيهة بباغ عامر عليه حائط وثيق، وباب منيع، فإذا انهدم ذلك
الحائط أو تكسرت الأبواب لم يؤمن أن ترعى فيه الحمير والبقر. وإنما عنى بالحائط
الجنود، وبأبوابه الأموال. فاحتفظ أيها السخيف العقل بتلك الأموال، فإنها حصن
للملك، وقوام للسلطان، وظهير على الأعداء، ومفخرة عند الملوك، وأما
ما زعمت من قتلى النعمان بن المنذر، وإزالتي الملك عن آل عمرو بن عدي إلى إياس

(1) العطاء.
(2) خام عنه يخيم: نكص وجبن.
109

ابن قبيصة، فإن النعمان وأهل بيته واطئوا العرب، وأعلموهم توكفهم (1) خروج الملك عنا إليهم، وقد كانت وقعت إليهم في ذلك كتب، فقتلته، ووليت
الأمر أعرابيا لا يعقل من ذلك شيئا). انطلق إلى شيرويه، فأخبره بذلك كله،
فأبلغه يزدان جشنس، لم يخرم منه شيئا، فعلت شيرويه كآبة.
ولما كان من الغد اجتمع عظماء أهل المملكة، فدخلوا على شيرويه كما فعلوا
بالأمس، فخاف على نفسه، فجعل يرسل الرجل بعد الرجل من مرازبته لقتل
أبيه، فلا يقدم عليه أحد، حتى بعث بشاب منهم يسمى يزدك بن مردان شاه
مرزبان بابل وخطرنية، فلما دخل عليه، قال: من أنت؟ قال: أنا ابن
مردان شاه مرزبان بابل وخطرنية، قال له كسرى: أنت لعمري صاحبي،
وذلك إني قتلت أباك ظلما، فضربه الغلام حتى قتله، وانصرف إلى شيرويه
فأخبره، فلطم شيرويه وجهه، ونتف شعره، وحبسه، وانطلق في عظماء
أهل المملكة حتى استودعه الناووس، ثم انصرف، وأمر، فقتل الغلام الذي
قتل أباه. وفي ذلك العام الذي ملك فيه شيرويه توفي (2) رسول الله صلى الله عليه
وسلم، واستخلف أبو بكر رضي الله عنه.
ثم إن شيرويه لما ملك عمد إلى إخوته، وكانوا خمسة عشر رجلا، فضرب
أعناقهم، مخافة أن يفسدوا عليه ملكه، فسلطت عليه الأمراض والأسقام
حتى مات، وكان ملكه ثمانية أشهر.
(بعد موت شيرويه)
فملكت فارس عليها بعده ابنه شيرزاد بن شيرويه، وكان طفلا، ووكلوا به
رجلا يحضنه، ويقوم بتدبير الملك إلى أن أدرك.

(1) يتوكف الخبر: ينتظره ويتوقعه.
(2) كانت وفاة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في 13 من شهر ربيع الأول سنة 11 ه‍.
الموافق 20 يونيه سنة 632 م.
110

ولما بلغ شهريار وهو مقيم في وجه الروم مقتل كسرى أقبل في جنوده حتى
ورد المدائن، وقد مات شيرويه وملك ابنه شيرزاد، فاغتصب الأمر، ودخل المدائن،
فقتل كل من مالأ على قتل كسرى وخلعه، وقتل شيرزاد وحاضنه، وتولى
أمر الملك، ودعا نفسه ملكا، وذلك في العام الثاني عشر من التاريخ (الهجري).
فلما تم لملك شهريار حول أنف عظماء أهل المملكة من أن يلي ملكهم من
ليس من أهل بيت المملكة، فوثبوا عليه فقتلوه، وملكوا عليهم جوان شير
ابن كسرى، وكان طفلا، وأمه كردية أخت بهرام شوبين، فملك حولا،
ثم مات.
فملكوا عليهم بوران بنت كسرى، وذلك أن شيرويه لم يدع من إخوته
أحدا إلا قتله، خلا جوان شير فإنه كان طفلا، فعند ذلك وهى سلطان فارس
وضعف أمرهم، وفلت شوكتهم.
(حروب العرب مع العجم)
قالوا: فلما أفضى الملك إلى بوران بنت كسرى بن هرمز شاع في أطراف
الأرضين أنه لا ملك لأرض فارس، وإنما يلوذون بباب امرأة، فخرج رجلان من
بكر بن وائل، يقال لأحدهما المثنى بن حارثة الشيباني، والآخر سويد بن قطبة
العجلي، فأقبلا حتى نزلا فيمن جمعا بتخوم أرض العجم، فكانا يغيران على
الدهاقين، فيأخذان ما قدرا عليه، فإذا طلبا أمعنا في البر فلا يتبعهما أحد، وكان
المثنى يغير من ناحية الحيرة، وسويد من ناحية (الأبلة) (1) وذلك في خلافة
أبي بكر، فكتب المثنى بن حارثة إلى أبي بكر رضي الله عنه يعلمه ضراوته بفارس،
ويعرفه وهنهم، ويسأله أن يمده بجيش.
فلما انتهى كتابه إلى أبي بكر رضي الله عنه كتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد،

(1) الأبلة: بلد معروف قرب البصرة من جانبها البحري في زاوية الخليج، وهي أقدم من
البصرة، وكان فيها للفرس مسالح وقادة.
111

وقد كان فرغ من أهل الردة، أن يسير إلى الحيرة فيحارب فارس، ويضم إليه
المثنى ومن معه، وكره المثنى ورود خالد عليه، وكان ظن أن أبا بكر (سيوليه)
الأمر، فسار خالد والمثنى بأصحابهما، حتى أناخا على الحيرة، وتحصن أهلها في
القصور الثلاثة.
ثم نزل عمرو بن بقيلة، وحديثه مع خالد، وأنه وجد معه شيئا من البيش (1)
فاستفه (2) على اسم الله ولم يضره ذلك معروف، ثم صالحوه من القصور الثلاثة على
مائة ألف درهم يؤدونها في كل عام إلى المسلمين ثم ورد كتاب أبي بكر على خالد
مع عبد الرحمن جميل الجمحي، يأمره بالشخوص إلى الشام ليمد أبا عبيدة بن الجراح
بمن معه من المسلمين، فمضى، وخلف بالحيرة عمرو بن حزم الأنصاري مع المثنى،
وسار على الأنبار، وانحط على عين التمر (3)، وكان بها مسلحة لأهل فارس،
فرمى رجل منهم عمرو بن زياد بن حذيفة بن هشام بن المغيرة بنشابة، فقتله،
ودفن هناك.
وحاصر خالد أهل عين التمر حتى استنزلهم بغير أمان، فضرب أعناقهم،
وسبى ذراريهم، ومن ذلك السبي أبو محمد بن سيرين وحمران بن أبان مولى
عثمان بن عفان، وقتل فيها خالد خفيرا كان بها من العرب يسمى هلال بن عقبة،
وصلبه، وكان من النمر بن قاسط، ومر بحي من بني تغلب والنمر، فأغار عليهم،
فقتل وغنم حتى انتهى إلى الشام. ولم يزل عمرو بن حزم والمثنى بن حارثة
يتطرفان أرض السواد ويغيران فيها حتى توفي أبو بكر (4) رضي الله عنه.

(1) البيش بالكسر، نبات كالزنجبيل فيه سم قتال لكل حيوان.
(2) تناوله غير مسحوق
(3) بلد في طرف البادية غربي الفرات.
(4) كانت وفاة أبى بكر في 21 جمادى الثانية سنة 13 الموافق أغسطس سنة 634 م.
112

(الفتوحات الإسلامية في عهد عمر بن الخطاب)
وولي عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكانت ولاية عمر سنة ثلاث عشرة،
ثم إن عمر رضي الله عنه عزم على توجيه خيل إلى العراق، فدعا أبا عبيد بن مسعود،
وهو أبو المختار بن أبي عبيد الثقفي فعقد له على خمسة آلاف رجل، وأمره بالمسير
إلى العراق، وكتب إلى المثنى بن حارثة، أن ينضم بمن معه إليه، ووجه مع أبي
عبيد سليط بن قيس، من بني النجار الأنصاري، وقال لأبي عبيد: (قد بعثت
معك رجلا هو أفضل منك إسلاما، فاقبل مشورته) وقال لسليط: (لولا أنك
رجل عجل في الحرب لوليتك هذا الجيش، والحرب لا يصلح لها إلا الرجل المكيث)
فسار أبو عبيد نحو الحيرة، لا يمر بحي من أحياء العرب إلا استنفرهم، فتبعه
منهم طوائف، حتى انتهى إلى قس الناطف (1) فاستقبله المثنى فيمن معه.
وبلغ العجم إقبال أبي عبيد، فوجهوا مردان شاه الحاجب في أربعة آلاف
فارس، فأمر أبو عبيد بالجسر، فعقد ليعبر إليهم. فقال له المثنى: (أيها الأمير
لا تقطع هذه اللجة، فتجعل نفسك ومن معك غرضا لأهل فارس). فقال له أبو
عبيد (جبنت يا أخا بكر). وعبر إليهم بمن معه من الناس، وولي أبا محجن
الثقفي الخيل، وكان ابن عمه، ووقف هو في القلب، وزحف إليهم الفرس،
فاقتتلوا، فكان أبو عبيد أول قتيل، فأخذ الراية أخوه الحكم، فقتل، ثم أخذها
قيس بن حبيب أخو أبي محجن، فقتل، وقتل سليط بن قيس الأنصاري في نفر من
الأنصار كانوا معه، فأخذ المثنى الراية، وانهزم المسلمون.
فقال المثنى لعروة بن زيد الخيل الطائي (انطلق إلى الجسر، فقف عليه)،
وحل بين العجم وبينه). وجعل المثنى يقاتل من وراء الناس، ويحميهم حتى عبروا،
ويوم جسر أبي عبيد معروف، وسار المثنى بالمسلمين حتى بلغ الثعلبية (2)، فنزل،

(1) موضع قريب من الكوفة على شاطئ الفرات الشرقي.
(2) الثعلبية موضع بطريقة مكة، وفى الأصل (التغلبية).
113

وكتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع عروة بن زيد الخيل، فبكى عمر، وقال
لعروة: (ارجع إلى أصحابك، فمرهم أن يقيموا بمكانهم الذي هم فيه، فإن المدد
وارد عليهم سريعا)، وكانت هذه الوقعة في شهر رمضان يوم السبت سنة ثلاث عشرة
من التاريخ.
ثم إن عمر بن الخطاب استنفر الناس إلى العراق، فخفوا في الخروج، ووجه
في القبائل يستجيش، فقدم عليه مخنف بن سليم الأزدي في سبعمائة رجل
من قومه، وقدم عليه الحصين بن معبد بن زرارة في جمع من بني تميم زهاء
ألف رجل، وقدم عليه عدي بن حاتم في جمع من طيئ، وقدم عليه أنس بن
هلال في جمع من النمر بن قاسط، فلما كثر عند عمر الناس عقد لجرير بن عبد الله
البجلي عليهم، فسار جرير بالناس حتى وافى الثعلبية، فضم إليه المثنى فيمن كان
معه، وسار نحو الحيرة، فعسكر بدير هند (1)، ثم بث الخيل في أرض السواد، تغير.
وتحصن منه الدهاقين، واجتمع عظماء فارس إلى بوران، فأمرت أن يتخير
اثنا عشر ألف رجل من إبطال الأساورة (2)، وولت عليهم (مهران بن مهروية
الهمداني) فسار بالجيش حتى وافى الحيرة، وزحف الفريقان، بعضهم لبعض، ولهم
زجل (3) كزجل الرعد، وحمل المثنى في أول الناس، وكان في ميمنة جرير، وحملوا
معه. وثار العجاج، وحمل جرير بسائر الناس من الميسرة والقلب، وصدقتهم العجم
القتال، فجال المسلمون جولة، فقبض المثنى على لحيته، وجعل ينتف ما تبعه
منها من الأسف، ونادى (أيها الناس، إلي، إلي، أنا المثنى) فثاب
المسلمون، فحمل بالناس ثانية، وإلى جانبه مسعود بن حارثة أخوه، وكان من
فرسان العرب، فقتل مسعود، فنادى المثنى: (يا معشر المسلمين، هكذا
مصرع خياركم، ارفعوا راياتكم). وحض عدي بن حاتم أهل الميسرة،

(1) مكان بالحيرة، بنته أم عمرو بن هند، وهو على طريق النجف، ويسمى دير هند
الكبرى، وبالحيرة أيضا دير هند الصغرى الذي بنته هند بنت النعمان بن المنذر، وهو الآن
بالكوفة قرب خطة بنى دارم.
(2) الأساورة هم الفرسان المقاتلة، مفردة أسوار.
(3) الجلبة.
114

وحرض جرير أهل القلب، وذمرهم (1)، وقال لهم: (يا معشر بجيلة،
لا يكونن أحد أسرع إلى هذا العدو منكم، فإن لكم في هذه البلاد - إن فتحها الله
عليكم - حظوة ليست لأحد من العرب، فقاتلوهم التماس إحدى الحسنيين).
فتداعى المسلمون، وتحاضوا، وثاب من كان انهزم، ووقف الناس تحت
راياتهم، ثم زحفوا، فحمل المسلمون على العجم حملة صدقوا الله فيها، وباشر
مهران الحرب بنفسه، وقاتل قتالا شديدا، وكان من إبطال العجم، فقتل
مهران، وذكروا أن المثنى قتله، فانهزمت العجم لما رأوا مهران صريعا،
واتبعهم المسلمون، وعبد الله بن سليم الأزدي يقدمهم، واتبعه عروة بن
زيد الخيل، فصار المسلمون إلى الجسر، وقد جازه بعض العجم، وبقي بعض،
فصار من بقى منهم في أيدي المسلمين، ومضت العجم، حتى لحقوا بالمدائن،
وانصرف المسلمون إلى معسكرهم، فقال عروة بن زيد الخيل في ذلك:
هاجت لعروة دار الحي أحزانا * واستبدلت بعد عبد القيس همذانا
وقد أرانا بها، والشمل مجتمع * إذ بالنخيلة قتلى جند مهرانا
أيام سار المثنى بالجنود لهم * فقتل القوم من رجل وركبانا
سما لأجناد مهران وشيعته * حتى أبادهم مثنى ووحدانا
ما إن رأينا أميرا بالعراق مضى * مثل المثنى الذي من آل شيبانا
إن المثنى الأمير القرم لا كذب * في الحرب أشجع من ليث بخفانا (2)
قالوا: ولما أهلك الله مهران ومن كان معه من عظماء العجم استمكن
المسلمون من الغارة في السواد، وانتقضت مسالح (3) الفرس، وتشتت أمرهم،
واجترأ المسلمون عليهم، وشنوا الغارات ما بين سورا (4) وكسكر (5) والصراة (6)

(1) ذمرهم حضهم على القتال.
(2) القرم من الرجال: السيد المعظم، والخفان: رئال النعام، واحدته خفانة، وهو فرخان.
(3) جمع مسلحة بفتح الميم وهي الثغر فيه الجنود.
(4) كورة قريبة من الفرات.
(5) كورة واسعة، كانت قصبتها بين الكوفة والبصرة.
(6) الصراة بالفتح: نهر
قرب بغداد، أحدهما كبير والأخر صغير، وقد سميا باسم المحلة عند منبعهما.
115

إلى الفلاليج (1) والأستانات، فقال أهل الحيرة للمثنى: (إن بالقرب منا قرية
فيها سوق عظيم، تقوم في كل شهر مرة، فتأتيها تجار فارس والأهواز وسائر
البلاد، فإن قدرت على الغارة على تلك السوق أصبت أموالا رغيبة) يعنون سوق
بغداد، وكانت قرية تقوم بها سوق في كل شهر.
فأخذ المثنى على البر حتى أتى الأنبار (2)، فتحصن منه أهلها، فأرسل إلى
بسفروخ مرزبانها ليسير إليه، فيكلمه بما يريد، وجعل له الأمان، فأقبل المرزبان
حتى عبر إليه، فخلا به المثنى، وقال: (إني أريد أن أغير على سوق بغداد،
فأريد أن تبعث معي أدلاء، فيدلوني على الطريق، وتسوى لي الجسر، لأعبر
الفرات)، ففعل المرزبان ذلك، وقد كان قطع الجسر لئلا تعبر العرب إليه، فعبر
المثنى مع أصحابه، وبعث المرزبان معه الأدلاء، فسار حتى وافى السوق ضحوة،
فهرب الناس، وتركوا أموالهم، فملأوا أيديهم من الذهب والفضة، وسائر
الأمتعة، ثم رجع إلى الأنبار، ووافى معسكره.
ولما بلغ سويد بن قطبة العجلي أمر المثنى بن حارثة، وما نال من الظفر يوم
مهران كتب إلى عمر بن الخطاب، يعلمه وهن الناحية التي هو بها، ويسأله أن
يمده بجيش. فندب عمر بن الخطاب لذلك الوجه عتبة بن غزوان المازني، وكان
حليفا لبني نوفل بن عبد مناف، وكانت له صحبة من رسول الله ص، وضم إليه
ألفي رجل من المسلمين، وكتب إلى سويد بن قطبة يأمره بالانضمام إليه.
فلما سار عتبة شيعة عمر رضي الله عنه، فقال: (يا عتبة، إن إخوانك من
المسلمين قد غلبوا على الحيرة، وما يليها، وعبرت خيلهم الفرات حتى وطئت بابل،
مدينة هاروت وماروت ومنازل الجبارين، وإن خيلهم اليوم لتغير حتى تشارف
المدائن، وقد بعثتك في هذا الجيش، فاقصد قصد أهل الأهواز، فاشغل أهل
تلك الناحية، أن يمدوا أصحابهم بناحية السواد على إخوانكم الذين هناك، وقاتلهم
مما يلي الأبلة).

(1) الفلاليج: قرى السواد من أرض فارس واحد فلوج، وبالقرب من بغداد فلوجتان.
(2) مدينة على الفرات غربي بغداد، كانت الفرس تسميها فيروز سابور.
116

فسار عتبة بن غزوان حتى أتى مكان البصرة اليوم، ولم تكن هناك يومئذ
إلا الخريبة، وكانت منازل خربة، وبها مسالح لكسرى تمنع العرب من العبث
في تلك الناحية، فنزلها عتبة بن غزوان بأصحابه في الأخبية والقباب، ثم سار
حتى نزل موضع البصرة، وهي إذ ذاك حجارة سود وحصى، وبذلك سميت
البصرة، ثم سار حتى أتى الأبلة، فافتتحها عنوة، وكتب إلى عمر رضي الله
عنه: (أما بعد، فإن الله، وله الحمد، فتح علينا الأبلة، وهي مرقى سفن البحر من
عمان، والبحرين، وفارس، والهند، والصين، وأغنمنا ذهبهم وفضتهم وذراريهم،
وأنا كاتب إليك ببيان ذلك إن شاء الله).
وبعث بالكتاب مع نافع بن الحارث بن كلدة الثقفي، فلما قدم على عمر رضي
الله عنه تباشر المسلمون بذلك، فلما أراد نافع الانصراف، قال لعمر: (يا أمير
المؤمنين. إني قد افتليت (1) فلاء بالبصرة، واتخذت بها تجارة. فاكتب إلى عتبة
ابن غزوان أن يحسن جواري).
فكتب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى عتبة: (أما بعد، فإن نافع بن الحارث
ذكر أنه قد افتلى فلاء، وأحب أن يتخذ بالبصرة دارا، فأحسن جواره،
واعرف له حقه، والسلام). فخط له عتبة بالبصرة خطة، فكان نافع أول من خط خطة بالبصرة، وأول
من افتلى بها الأفلاء، وارتبط بها رباطا، ثم إن عتبة سار إلى المذار (2)، وأظهره الله
عليهم، ووقع مرزبانها في يده، فضرب عنقه، وأخذ بزته، وفي منطقته
الزمرد والياقوت، وأرسل بذلك إلى عمر رضي الله عنه، وكتب إليه بالفتح،
فتباشر الناس بذلك، وأكبوا على الرسول، يسألونه عن أمر البصرة، فقال إن
المسلمين يهيلون بها الذهب والفضة هيلا، فرغب الناس في الخروج، حتى كثروا
بها، وقوي أمرهم، فخرج عتبة بهم إلى فرات البصرة (3)، فافتتحها، ثم سار إلى

(1) اقتنيت قنية: وافتلى أي اتخذ.
(2) المذار بفتح الميم بلدة بين واسط والبصرة.
(3) البلاد قرب البصرة التي تسقى من نهر الفرات.
117

(دست ميسان) (1) فأفتحها بعد أن خرج إليه مرزبانها بجنوده، فالتقوا، فقتل
المرزبان، وانهزمت العجم، فدخل مدينتها لا يمنعه شئ، فخلف بها رجلا، وسار إلى
(أبرقباذ) فافتتحها، ثم انصرف إلى مكانه من البصرة، وكتب إلى عمر رضي الله عنه
بما فتح الله عليه من هذه المدن والبلدان، وبعث بالكتاب مع أنس بن الشيخ بن
النعمان، فاختلفت القبائل إليها حتى كثروا بها.
ثم إن عتبة استأذن عمر في القدوم عليه، فأذن له، فاستخلف المغيرة بن
شعبة، ثم خطب الناس حين أراد الخروج خطبة طويلة، قال فيها: (أعوذ بالله
أن أكون في نفسي عظيما، وفي أعين الناس صغيرا، وأنا سائر، ولا حول
ولا قوة إلا بالله، وستجربون الأمراء بعدي، فتعرفون). وكان الحسن
البصري يقول، إذا تحدث بهذا الحديث: قد جربنا الأمراء بعده، فوجدنا له
الفضل عليهم.
وأن عمر رضي الله عنه أقر المغيرة على ثغر البصرة، فسار بالناس نحو (ميسان)، فخرج إليه مرزبانها، فحاربه، فأظهر الله المسلمين، وافتتح البلاد عنوة، وكتب
إلى عمر بالفتح، ثم كان من أمر المغيرة والنفر الذين رموه ما كان.
وبلغ ذلك عمر رضي الله عنه، فأمر أبا موسى الأشعري بالخروج إليها، وأن
يصرف الخطط لمن هناك من العرب، ويجعل كل قبيلة في محلة، وأن يأمر الناس
بالبناء، وأن يبني لهم مسجدا جامعا، وأن يشخص إليه المغيرة بن شعبة، فقال
أبو موسى: (يا أمير المؤمنين، فوجه معي نفرا من الأنصار، فإن مثل الأنصار
في الناس كمثل الملح في الطعام، فوجه معه عشرة من الأنصار، فيهم أنس
ابن مالك، والبراء بن مالك، فقدم أبو موسى البصرة، وبعث إليه بالمغيرة بن شعبة،
والنفر الذين شهدوا عليه، فسألهم عمر رضي الله عنه، فلم يصرحوا، فجلدهم،
وأمر المغيرة أن يلحق بالبصرة، فيعاون أبا موسى على أمره، ونظر أبو موسى
إلى زياد بن عبيد، وكان عبدا مملوكا لثقيف، فأعجبه عقله وأدبه، فاتخذه كاتبا،
وأقام معه، وقد كان قبل ذلك مع المغيرة بن شعبة.

(1) كورة كبيرة بين واسط البصرة والأهواز.
118

قالوا: فلما نظرت الفرس إلى العرب قد حدقوا بهم، وبثوا الغارات في
أرضهم قالوا فيما بينهما: إنما أتينا من تملك النساء علينا، فاجتمعوا على
يزدجرد بن شهريار بن كسرى أبرويز، فملكوه عليهم، وهو يومئذ غلام
ابن ست عشرة سنة، وثبتت طائفة على آزرميدخت، فتحارب الفريقان
، فكان الظفر ليزدجرد، فخلعت آزرميدخت، وتملك يزدجرد، فجمع إليه
أطرافه، واستجاش أقطار أرضه، وولي عليهم رستم بن هرمز، وكان محنكا،
قد جربته الدهور، فسار رستم نحو القادسية.
(موقعة القادسية)
وبلغ ذلك جرير بن عبد الله والمثنى بن حارثة، فكتبا إلى عمر رضي الله عنه،
يخبرانه، فندب عمر الناس، فاجتمع له نحو من عشرين ألف رجل، فولى أمرهم
سعد بن أبي وقاص، فسار سعد بالجيوش حتى وافى القادسية، فضم إليه من
كان هناك، وتوفي المثنى بن حارثة رحمه الله، فلما انقضت عدة امرأة المثنى
تزوجها سعد بن أبي وقاص، وأقبل رستم بجنوده حتى نزل دير الأعور (1).
وإن سعدا بعث طليحة بن خويلد الأسدي، وكان من فرسان العرب في
جمع ليأتيه بخبر القوم، فلما عاينوا سوادهم، ورأوا كثرتهم قالوا لطليحة:
(انصرف بنا)، فقال: (لا، ولكني ماض حتى أدخل عسكرهم، وأعلم
علمهم). فاتهموه، وقالوا له: (ما نحسبك تريد إلا اللحاق بهم، وما كان
الله ليهديك بعد قتلك عكاشة بن محصن وثابت بن أقرم)، فقال لهم طليحة:
(ملأ الرعب قلوبكم)، وأقبل طليحة حتى دخل عسكر الفرس ليلا، فلم يزل
يجوسه ليلته كلها، حتى إذا كان وجه السحر مر بفارس منهم يعد بألف فارس،
وهو نائم، وفرسه مقيد، فنزل، ففك قيده، ثم شد مقوده بثغر (2) فرسه،

(1) مكان بظاهر الكوفة، بناه رجل من إياد، يقال له الأعور.
(2) ثغر الدابة بالتحريك السير الذي في مؤخر السرج.
119

وخرج من المعسكر، واستيقظ صاحب الفرس، فنادى في أصحابه، وركب
في أثره، فلحقوه، وقد أضاء الصبح، فبدر صاحب الفرس إليه، ووقف له
طليحة، فاطعنا، فقتله طليحة، ولحقه فارس آخر، فقتله طليحة، ولحقه
ثالث، فأسره طليحة، وحمله على دابته، وأقبل به نحو عسكر المسلمين،
فكبر الناس، ودخل على سعد، وأخبره الخبر.
وأقام رستم بدير الأعور معسكرا أربعة أشهر، وأرادوا (1) مطاولة العرب
ليضجروا، وكان المسلمون إذا فنيت أزوادهم وأعلافهم جردوا الخيل، فأخذت على
البر حتى تهبط على المكان الذي يريدون، ويغيرون، فينصرفون بالطعام والعلف
والمواشي.
ثم إن عمر رضي الله عنه كتب إلى أبي موس يأمره أن يمد سعدا بالخيل، فوجه
إليه أبو موسى المغيرة بن شعبة في ألف فارس، وكتب إلى أبي عبيدة بن الجراح،
وهو بالشام يحارب الروم أن يمد سعدا بخيل، فأمده بقيس بن هبيرة المرادي في
ألف فارس، وكان في القوم هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، وكانت عينه فقئت يوم
اليرموك، وفيهم الأشعث بن قيس، والأشتر النخعي، فساروا حتى قدموا على سعد
بالقادسية.
وأن يزدجرد الملك كتب إلى رستم يأمره بمناجزة العرب، فزحف رستم بجنوده
وعساكره حتى وافى القادسية، فعسكر على ميل من معسكر المسلمين، وجرت
الرسل فيما بينه وبين سعد شهرا، ثم أرسل إلى سعد: أن ابعث إلى من أصحابك رجلا،
له فهم وعقل وعلم، لأكلمه، فبعث إليه بالمغيرة بن شعبة، فلما دخل عليه قال له
رستم: (إن الله قد أعظم لنا السلطان، وأظهرنا على الأمم، وأخضع لنا الأقاليم،
وذلل لنا أهل الأرضين، ولم يكن في الأرض أمة أصغر قدرا عندنا منكم، لأنكم
أهل قلة وذلة وأرض جدبة، ومعيشة ضنك، فما حملكم على تخطيكم إلى

(1) في الأصل: وأراد.
120

بلادنا؟ فإن كان ذلك من قحط نزل بكم، فإنا نوسعكم ونفضل عليكم، فارجعوا
إلى بلادكم).
فقال له المغيرة: (أما ما ذكرت من عظيم سلطانكم، ورفاهة عيشكم، وظهوركم
على الأمم، وما أوتيتم من رفيع الشأن، فنحن كل ذلك عارفون، وسأخبرك عن
حالنا: إن الله وله الحمد، أنزلنا بقفار من الأرض، مع الماء النزر، والعيش القشف
يأكل قوينا ضعيفنا، ونقطع أرحامنا، ونقتل أولادنا خشية الإملاق، ونعبد
الأوثان، فبينا نحن كذلك بعث الله فينا نبيا، من صميمنا وأكرم أرومة (1) فينا،
وأمره أن يدعو الناس إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن نعمل بكتاب أنزله إلينا،
فآمنا به، وصدقناه، فأمرنا أن ندعو الناس إلى ما أمره الله به، فمن أجابنا كان
له ما لنا، وعليه ما علينا، ومن أبى ذلك سألناه الجزية (2) عن يد، فمن أبى جاهدناه،
وأنا أدعوك إلى مثل ذلك، فإن أبيت فالسيف). وضرب يده مشيرا بها إلى قائم
سيفه.
فلما سمع ذلك رستم تعاظمه ما استقبله به، واغتاظ منه، فقال: (والشمس، لا يرتفع
الضحى غدا حتى أقتلكم أجمعين) فانصرف المغيرة إلى سعد، فأخبره بما جرى بينهما،
وقال لسعد (استعد للحرب)، فأمر الناس بالتهيؤ والاستعداد، فبات الفريقان
يكتبون الكتائب، ويعبون الجنود، وأصبحوا وقد صفوا الصفوف، ووقفوا
تحت الرايات، وكانت بسعد علة من خراج (3) في فخذه قد منعه الركوب، فولى
أمر الناس خالد بن عرفطة، وولى القلب قيس بن هبيرة، وولى الميمنة شرحبيل
ابن السمط، وولى الميسرة هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، وولى الرجالة قيس بن خريم،
وأقام هو في قصر القادسية، مع الحرم والذرية، ومعه في القصر أبو محجن الثقفي محبوسا في شراب شربه.

الأرومة: الأصل والجمع أروم.
(2) الجزية هي عبارة عن المال الذي يعقد الكتابي
عليه الذمة.
(3) في الأصل: من جراح.
121

ثم إن سعدا تقدم إلى عمرو بن معدى كرب، وقيس بن هبيرة، وشرحبيل بن
السمط، وقال: إنكم شعراء وخطباء وفرسان العرب، فدوروا في القبائل والرايات،
وحرضوا الناس على القتال.
قال: ثم زحف الفريقان بعضهم إلى بعض، وقد صف العجم ثلاثة عشر
صفا، بعضها خلف بعض، وصفت العرب ثلاثة صفوف، فرشقتهم العجم
بالنشاب حتى فشت فيهم (1) الجراحات، فلما رأى قيس بن هبيرة ذلك، قال لخالد
ابن عرفطة، وكان أمير الأمراء: أيها الأمير، إنا قد صرنا لهؤلاء القوم غرضا،
فاحمل عليهم بالناس حملة واحدة، فتطاعن الناس بالرماح مليا، ثم أفيضوا
إلى السيوف.
وكان زيد بن عبد الله النخعي صاحب الحملة الأولى، فكان أول قتيل، فأخذ
الراية أخوه أرطأة، فقتل، ثم حملت بجيلة، وعليها جرير بن عبد الله، وحملت الأزد،
وثار القتام، واشتد القتال، فانهزمت العجم حتى لحقوا برستم، وترجل رستم،
وترجل معه الأساورة والمرازبة وعظماء الفرس، وحملوا، فجال المسلمون جولة.
وكلم أبو محجن أم ولد سعد، فقال: أطلقيني من قيدي، ولك على عهد الله إن
لم أقتل أن أرجع إلى محبسي هذا، وقيدي. ففعلت، وحملته على فرس لسعد
أبلق (2)، فانتهى إلى القوم مما يلي الأزد، وبجيلة، مما يلي الميمنة، فجعل يحمل، ويكشف
العجم، وقد كانوا كثروا على بجيلة، فجعل سعد يعجب، ولا يدري من هو،
ويعرف الفرس.
وبعث سعد إلى جرير بن عبد الله، وكان معه لواء بجيلة، وإلى الأشعث بن
قيس، ومعه لواء كندة، وإلى رؤساء القبائل: أن احملوا على القوم من ناحية الميمنة على
القلب، فحمل الناس عليهم من كل وجه، وانتقضت تعبية الفرس، وقتل رستم،
وولت العجم هاربة، وانصرف إلى محبسه أبو محجن، وطلب رستم في المعركة،

(1) في الأصل: بهم.
(2) في لونه سواد وبياض.
122

فأصيب بين القتلى، وبه مائة جراحة، ما بين طعنة وضربة، ولم يدر من قتله،
ويقال: بل ارتطم في نهر القادسية، فغرق، وانتهت هزيمة العجم إلى دير كعب،
فنزلوا هناك، فاستقبلهم النخارجان، وقد وجهه يزدجرد مددا، فوقف بدير
كعب، فكان لا يمر به أحد من الفل إلا حبسه قبله.
ثم عبى القوم، وكتبوا كتائبهم وأوقفوهم مواقفهم حتى وافتهم العرب،
وتواقف الفريقان، وبرز النخارجان، فنادى، مرد ومرد، أي رجل ورجل،
فخرج إليه زهير بن سليم أخو مخنف بن سليم الأزدي، وكان النخارجان سمينا
بدينا جسيما، وزهير رجلا مربوعا (1) شديد العضدين والساعدين، فرمى النخارجان
نفسه عن دابته عليه، فاعتركا، فصرعه النخارجان، وجلس على صدره، واستل
خنجره ليذبحه، فوقعت إبهام النخارجان في فم زهير، فمضغها، واسترخى
النخارجان، وانقلب عليه زهير، وأخذ خنجره وأدخل يده تحت ثيابه، فبعجه (2)،
وقتله.
وكان برذون النخارجان مدربا، فلم يبرح، فركبه زهير وقد سلبه سواريه
ودرعه وقباءه ومنطقته، فأتى به سعدا، فأغنمه إياه، وأمره سعد أن يتزيى بزيه،
ودخل على سعد، فكان زهير بن سليم أول من لبس من العرب السوارين، وحمل
قيس بن هبيرة على جيلوس رأس المستميتة، فقتله، وحمل المسلمون من كل جانب،
فانهزمت العجم، وبادر جرير بن عبد الله إلى القنطرة، فعطفوا عليه، فاحتملوه
برماحهم، فسقط إلى الأرض، ولحقه أصحابه، وهربت عنه العجم، ولم يصبه
شئ، وعار فرسه (3)، فلم يلحق، فأتي ببرذون من مراكب الفرس في عنقه قلادة
زمرد، فركبه، وذهبت العجم على وجوهها حتى لحقت بالمدائن.
وكتب سعد إلى عمر رضي الله عنه بالفتح. وكان عمر يخرج في كل يوم ماشيا
وحده، لا يدع أحدا يخرج معه، فيمشي على طريق العراق ميلين أو ثلاثة،

(1) لا هو بالقصير ولا بالطويل.
(2) شق بطنه.
(3) عار الفرس = خرج من يد صاحبه، وذهب.
123

فلا يطلع عليه راكب من جهة العراق إلا سأله عن الخبر، فبينا هو كذلك يوما طلع
عليه البشير بالفتح، فلما رآه عمر رضي الله عنه ناداه من بعيد: ما الخبر؟، قال:
فتح الله على المسلمين، وانهزمت العجم. وجعل الرسول يخب ناقته، وعمر
يعدو معه، ويسأله، ويستخبره، والرسول لا يعرفه، حتى دخل المدينة كذلك،
فاستقبل الناس عمر رضي الله عنه، يسلمون عليه بالخلافة وإمرة المؤمنين، فقال
الرسول، وقد تحير: سبحان الله يا أمير المؤمنين! أ لا أعلمتني؟ فقال عمر: لا عليك.
ثم أخذ الكتاب، فقرأه على الناس.
وأقام سعد في عسكره بالقادسية إلى أن أتاه كتاب عمر، يأمره أن يضع لمن معه
من العرب دار هجرة، وأن يجعل ذلك بمكان لا يكون بين عمر وبينهم بحر، فسار
إلى الأنبار (1) ليجعلها دار هجرة، فكرهها لكثرة الذباب بها، ثم ارتحل إلى
كويفة ابن عمر (2)، فلم يعجبه موضعها، فأقبل حتى نزل موضع الكوفة اليوم،
فخطها خططا بين من كان معه، وبنى لنفسه القصر والمسجد.
وبلغ عمر أن سعدا علق بابا على مدخل القصر، فأمر محمد بن مسلمة أن يسير
إلى الكوفة، فيدعو بنار، فيحرق ذلك الباب، وينصرف من ساعته، وأقبل محمد،
فسار حتى دخل الكوفة، وفعل ما أمر به، وانصرف من ساعته، وأخبر سعد،
فلم يحر جوابا، وعلم أن ذلك من أمر عمر، فقال بشر بن أبي ربيعة:
ألم خيال من أميمة موهنا * وقد جعلت إحدى النجوم تغور
ونحن بصحراء العذيب ودونها * حجازية إن المحل شطير
فزارت غريبا نازحا، جل ماله * جواد، ومفتوق الغرار طرير
وحلت بباب القادسية ناقتي * وسعد بن وقاص على أمير
تذكر، هداك الله، وقع سيوفنا * بباب قديس والمكر غرير

(1) مدينة قديمة في العراق على نهر الفرات فتحها خالد بن الوليد سنة 634 م، وكانت مقرا
للخلافة إلى أن تأسست مدينة بغداد.
(2) تصغير الكوفة، ومكانها قرب الكوفة المعروفة، وكل رملة يخالطها حصى تسمى كوفة.
124

عشية ود القوم لو أن بعضهم * يعار جناحي طائر فيطير
إذا برزت منهم إلينا كتيبة * أتونا بأخرى كالجبال تمور
فضاربتهم حتى تفرق جمعهم * وطاعنت، إني بالطعان بصير
وعمرو أبو ثور شهيد، وهاشم * وقيس، ونعمان الفتى، وجرير
وقال عروة بن الورد:
لقد علمت عمرو ونبهان أنني * أنا الفارس الحامي إذا القوم أدبروا
وإني إذا كروا شددت أمامهم * كأني أخو قصباء جهم غضنفر
صبرت لأهل القادسية معلما * ومثلي إذا لم يصبر القرن يصبر
فطاعنتهم بالرمح حتى تبددوا * وضاربتهم بالسيف حتى تكركروا
بذلك أوصاني أبي، وأبو أبي * بذلك أوصاه، فلست أقصر
حمدت إلهي إذ هداني لدينه * فلله أسعى ما حييت وأشكر
وقال قيس بن هبيرة:
جلبت الخيل من صنعاء تردى * بكل مدجج كالليث حامي
إلى وادي القرى فديار كلب * إلى اليرموك والبلد الشآمي
فلما أن زوينا الروم عنها * عطفناها ضوامر كالجلام
فابنا القادسية بعد شهر * مسومة دوابرها دوامي (1)
فناهضنا هناك جموع كسرى * وأبناء المرازبة العظام
فلما أن رأيت الخيل جالت * قصدت لموقف الملك الهمام
فأضرب رأسه فهوى صريعا * بسيف لا أفل ولا كهام
وقد أبلى الإله هناك خيرا * وفعل الخير عند الله نامي
نفلق هامهم بمهندات * كان فراشها قيض النعام (2)

(1) في الأصل: دوايرها.
(2) القيض: قشر البيض.
125

قالوا: ولما انهزمت العجم من القادسية وقتل صناديدهم مروا على وجوههم حتى
لحقوا بالمدائن، وأقبل المسلمون حتى نزلوا على شط دجلة بإزاء المدائن، فعسكروا
هناك، وأقاموا فيه ثمانية وعشرين شهرا، حتى أكلوا الرطب مرتين،
وضحوا أضحيتين، فلما طال ذلك على أهل السواد صالحه عامة الدهاقين بتلك
الناحية.
ولما رأى يزدجرد ذلك جمع إليه عظماء مرازبته، فقسم عليهم بيوت أمواله
وخزائنه، وكتب عليهم بها القبالات (1)، وقال: إن ذهب ملكنا، فأنتم أحق
به، وإن رجع رددتموه علينا، ثم تحمل في حرمه وحشمه، وخاصة أهل بيته،
حتى أتى حلوان (2)، فنزلها، وولى خرزاد بن هرمز أخا رستم المقتول بالقادسية
الحرب، وخلفه بالمدائن.
وبلغ ذلك سعدا، فتأهب، وأمر أصحابه أن يقتحموا دجلة، وابتدأ، فقال
باسم الله، ودفع فرسه فيها، ودفع الناس، فسلموا عن آخرهم إلا رجلا غرق،
وكان على فرس شقراء (3)، فخرجت الفرس تنفض عرفها، وغرق راكبها، وكان
من طيئ، يسمى سليك بن عبد الله، فقال سلمان، وكان حاضرا يومئذ: يا معشر
المسلمين، إن الله ذلل لكم البحر، كما ذلل لكم البر، أما والذي نفس سلمان
بيده، ليغيرن فيه، وليبدلن.
قالوا: ولما نظرت الفرس إلى العرب قد أقحموا دوابهم الماء وهم يعبرون،
تنادوا (ديوان آمدند، ديوان آمدند) (4)، فخرج خرزاد في الخيل حتى وقف على
الشريعة، ونادى: يا معشر العرب، البحر بحرنا، فليس لكم أن تقتحموه علينا.
وأقبلوا يرمون العرب بالنشاب، واقتحم منهم ناس كثير الماء، فقاتلوا ساعة،

(1) القابلات جمع قبالة بفتح القاف وهو أن يتقبل العامل بخراج أو جباية أكثر مما أعطى،
وفي حديث ابن عباس: إياكم والقبالات فإنها صغار وفضلها ربا.
(2) حلوان مدينة قديمة في العراق العجمي فتحها العرب سنة 640 وأحرقها السلجوقيون
سنة 1046.
(3) في الأصل أشقر.
(4) جملة فارسية معناها: جاء الشياطين.
126

وكاثرتهم العرب، فخرجت الفرس من الشريعة، وخرج المسلمون، وقاتلوهم مليا،
وانهزمت العجم حتى دخلت المدائن، فتحصنوا فيها، وأناخ المسلمون عليهم مما يلي
دجلة، فلما نظر خرزاد إلى ذلك خرج من الباب الشرقي ليلا في جنوده نحو جلولاء،
وأخلى المدائن، فدخلها المسلمون، فأصابوا فيها غنائم كثيرة، ووقعوا على كافور (1) كثير، فظنوه ملحا، فجعلوه في خبزهم، فأمر عليهم.
وقال مخنف بن سليم: لقد سمعت في ذلك اليوم رجلا ينادي: من يأخذ صحفة
حمراء بصحفة بيضاء. لصحفة من ذهب لا يعلم ما هي.
وكتب سعد إلى عمر رضي الله عنه بالفتح، وأقبل (2) علج من أهل المدائن إلى
سعد، فقال: أنا أدلكم على طريق، تدركون فيه القوم قبل أن يمعنوا في السير.
فقدمه سعد أمامه، واتبعته الخيل، فقطع بهم مخائض وصحاري.
(موقعه جلولاء)
ثم إن خرزاد لما انتهى إلى جلولاء أقام بها، وكتب إلى يزدجرد، وهو بحلوان،
يسأله المدد، فأمده، فخندق على نفسه، ووجهوا بالذراري والأثقال إلى خانقين (4)، ووجه سعد إليهم بخيل، وولى عليها عمرو بن مالك بن نجبة بن نوفل بن وهب بن
عبد مناف بن زهرة، فسار حتى وافى جلولاء، والعجم مجتمعون قد خندقوا على
أنفسهم. فنزل المسلمون قريبا من معسكرهم، وجعلت الأمداد تقدم على العجم من
الجبل، وأصبهان.
فلما رأى المسلمون ذلك قالوا لأميرهم عمرو بن مالك: (ما تنتظر بمناهضة القوم،

(5) الكافور: نبات له نور أبيض.
(6) العلج: الرجل من كفار العجم.
(2) جلولاء: مدينة في العراق على طريق خراسان، وعندها انتصر العرب على جيش ملك
ساسان.
(3) خانقين: بلدة في العراق على الطريق بين بغداد وخراسان على نهر خلوان تشاي
وفيها اعتقل ومات النعمان الخامس ملك الحيرة على عهد كسرى الثاني، وعندها حدثت وقعة بين
الفرس والعرب.
127

وهم كل يوم في زيادة؟). فكتب إلى سعد بن وقاص يعلمه ذلك، ويستأذنه في مناجزة
القوم، فأذن له سعد، ووجه إليه قيس بن هبيرة مددا في ألف رجل، أربعمائة
فارس، وستمائة راجل.
وبلغ العجم أن العرب قد أتاهم المدد، فتأهبوا للحرب، وخرجوا، ونهض
إليهم عمرو بن مالك في المسلمين، وعلى ميمنته حجر بن عدي، وعلى ميسرته زهير
ابن جوية، وعلى الخيل عمرو بن معدي كرب، وعلى الرجالة طليحة
ابن خويلد، فتزاحف الفريقان، وصبر بعضهم لبعض، فتراموا بالسهام حتى
أنفدوها، وتطاعنوا بالرماح حتى كسروها، ثم أفضوا إلى السيوف وعمد
الحديد، فاقتتلوا يومهم ذلك كله إلى الليل، ولم يكن للمسلمين فيه صلاة إلا إيماء
والتكبير، حتى إذا اصفرت الشمس أنزل الله على المسلمين نصره، وهزم عدوهم،
فقتلوهم إلى الليل، وأغنمهم الله عسكرهم بما فيه.
فقال محقن بن ثعلبة، فدخلت في معسكرهم إلى فسطاط، فإذا أنا بجارية على
سرير في جوف الفسطاط، كان وجهها داره القمر، فلما نظرت إلي فزعت
وبكت، فأخذتها، وأتيت الأمير عمرو بن مالك، فاستوهبته إياها، فوهبها لي،
فاتخذتها أم ولد.
وأصاب خارجة بن الصلت في فسطاط من فساطيطهم ناقة من ذهب موشحة
باللؤلؤ والدر الفارد (1)، والياقوت، عليها تمثال رجل من ذهب، وكانت على
كبر الظبية، فدفعها إلى المتولي لقبض الغنائم.
قال: ومرت الفرس على وجوهها، لا تلوي على شئ حتى انتهت إلى يزدجرد،
وهو بحلوان، فسقط في يديه، فتحمل بحرمه وحشمه وما كان معه من أمواله وخزائنه
حتى نزل (قم) (2) و (قاشان).

(1) منقطع النظير، لامثل له في جوديه.
(2) مدينة بين أصفهان وساوة، وتذكر دائما مع قاشان، وبينهما اثنا عشر فرسخا، وكل
أهلها حاليا إمامية، ويقال إن آبار قم ليس في ارض مثلها عذوبة وبردا.
128

وأصاب المسلمون يوم جلولاء غنيمة لم يغنموا مثلها قط، وسبوا سبيا كثيرا
من بنات أحرار فارس، فذكروا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول: اللهم
إني أعوذ بك من أولاد سبايا الجلوليات. فأدرك أبناؤهن قتال صفين، فخلف
عمرو بن مالك بجلولاء جرير بن عبد الله البجلي في أربعة آلاف فارس مسلحة بها،
ليردوا العجم عن نفوذها إلى ما يلي العراق، وسار ببقية المسلمين حتى وافى سعد بن
أبي وقاص، وهو مقيم بالمدائن، فارتحل سعد بالناس حتى ورد الكوفة، وكتب
إلى عمر رضي الله عنه بالفتح، وأقام سعدا أميرا على الكوفة وجميع السواد ثلاث
سنين ونصفا، ثم عزله عمر، وولى مكانه عمار بن ياسر على الحرب، وعبد الله بن
مسعود على القضاء، وعمرو بن حنيف على الخراج.
قالوا: ولما انتهت هزيمة العجم إلى حلوان، وخرج يزدجرد هاربا حتى نزل
(قم) و (قاشان) ومعه عظماء أهل بيته وأشرافهم، قال له رجل من خاصته
وأهل بيته، يسمى هرمزان، وكان خال شيرويه بن كسرى أبرويز: أيها الملك إن
العرب قد اقتحمت عليك من هذه الناحية، يعني حلوان، ولهم جمع بناحية الأهواز،
ليس في وجوههم أحد يردهم، ولا يمنعهم من العيث والفساد، يعني خيل أبي موسى
الأشعري ومن كان معه. قال يزدجرد: فما الرأي؟ قال الهرمزان: الرأي أن توجهني
إلى تلك الناحية، فأجمع إلي العجم، وأكون ردءا في ذلك الوجه، وأجمع لك
الأموال من فارس والأهواز، واحملها إليك، لتتقوى بها على حرب أعدائك، فأعجبه
ذلك من قوله، وعقد له على الأهواز وفارس، ووجه معه جيشا كثيفا.
129

(يوم مدينة تستر)
فأقبل الهرمزان حتى وافى مدينة تستر (1)، فنزلها، ورم حصنها، وجمع الميرة فيها
لحصار، إن رهقه (2)، وأرسل فيما يليه يستنجدهم، فوافاه بشر عظيم، فكتب أبو
موسى إلى عمر، يخبره الخبر، فكتب عمر رضي الله عنه إلى عمار بن ياسر، يأمره أن
يوجه النعمان بن مقرن في ألف رجل من المسلمين إلى أبي موسى، فكتب عمار إلى
جرير، وكان مقيما بجلولاء، يأمره باللحاق بأبي موسى، فخلف جرير بجلولاء عروة
ابن قيس البجلي في ألفي رجل من العرب، وسار ببقية الناس حتى لحق بأبي موسى،
فكتب أبو موسى إلى عمر يستزيده من المدد، فكتب عمر إلى عمار يأمره أن يستخلف
عبد الله بن مسعود على الكوفة في نصف الناس، ويسير بالنصف الآخر حتى يلحق
بأبي موسى، فسار عمار حتى ورد على أبي موسى، وقد وافاه جرير من ناحية
جلولاء.
فلما توافت العساكر عند أبي موسى ارتحل بالناس، وسار حتى أناخ على تستر،
وتحصن الهرمزان منه في المدينة، ثم تأهب للحرب، وخرج إلى أبي موسى، وعبى
أبو موسى المسلمين، فجعل على ميمنته البراء بن مالك أخا أنس بن مالك، وعلى ميسرته
مجزأة بن ثور البكري، وعلى جميع الناس أنس بن مالك، وعلى الرجالة سلمة بن
رجاء.
وتزاحف الفريقان فاقتتلوا قتالا شديدا، حتى كثرت القتلى بين الفريقين، ثم
أنزل الله نصره، فانهزمت الأعاجم حتى دخلوا مدينة تستر، فتحصنوا بها، وقتل
البراء بن مالك ومجزأة بن ثور، وقتل من الأعاجم في المعركة ألف رجل، وأسر
منهم ستمائة أسير، فقدمهم أبو موسى، فضرب أعناقهم.

أعظم مدينة بخوزستان، معرب شوشتر، ومعناه التفضيل في الطيب والنزهة، وهي مركز
تجاري هام، وسكانها شيعيون من العرب والإيرانيين، وقد سميت بلدهم (دار المؤمنين) لشدة
ورعهم. وإليها ينسب سهل التستري من علماء الصوفية.
(2) غشيه وأرهقه. -
130

وأقام المسلمون على باب مدينة تستر أياما كثيرة، وحاصروا العجم بها، فخرج
ذات ليلة رجل من أشراف أهل المدينة، فأتى أبا موسى مستسرا، فقال (تؤمنني
على نفسي وأهلي وولدي ومالي وضياعي حتى أعمل في أخذك المدينة عنوة؟ قال أبو
موسى: إن فعلت فلك ذلك. قال الرجل، وكان اسمه سينه: ابعث معي رجلا
من أصحابك. فقال أبو موسى: من رجل يشري نفسه، ويدخل مع هذا العجمي
مدخلا لا آمن عليه فيه الهلاك، ولعل الله أن يسلمه، فإن يهلك فإلى الجنة، وإن
يسلم عمت منفعته جميع الناس؟.
فقام رجل من بني شيبان، يقال له (الأشرس بن عوف)، فقال: أنا. فقال
أبو موسى (امض، كلاك الله). فمضى حتى خاض به دجيل (1)، ثم أخرجه من
سرب (2) حتى انتهى به إلى داره، ثم أخرجه من داره، وألقى عليه طيلسانا (3)، وقال:
امش ورائي كأنك من خدمي. ففعل، فجعل سينه يمر به في أقطار المدينة طولا وعرضا،
حتى انتهى به إلى الأحراس الذين يحرسون أبواب المدينة، ثم انطلق حتى مر به على
الهرمزان، وهو على باب قصره، ومعه ناس من مرازبته، وشمع أمامه، حتى
نظر الرجل إلى جميع ذلك، ثم انصرف إلى داره، وأخرجه من ذلك السرب، حتى
أتى به أبا موسى، فأخبره الأشرس بجميع ما رأى، وقال: وجه معي مائتي رجل
حتى أقصد بهم الحرس، فأقتلهم، وأفتح لك الباب، ووافنا أنت بجميع
الناس.
فقال أبو موسى: من يشتري نفسه لله، فيمضي مع الأشرس؟. فانتدب مائتا
رجل، فمضوا مع الأشرس وسينة حتى دخلوا من ذلك النقب، وخرجوا في دار
سينه، وتأهبوا للحرب، ثم خرجوا والأشرس أمامهم، حتى انتهوا إلى باب
المدينة، وأقبل أبو موسى في جميع الناس حتى وافوا الباب من خارج، وأقبل

(1) نهر صغير متشعب من دجلة.
(2) السرب حفير تحت الأرض أو القناة الجوفاء التي يدخل منها الماء.
(3) معرب من الفارسية، وهو نوع من الأكسية أسود اللون.
131

الأشرس وأصحابه حتى أتوا الأحراس، فوضعوا فيهم السيف، وتداعى الناس، وأسندوا
ظهورهم إلى حائط السور، وأبو موسى وأصحابه يكبرون لتشتد بذلك ظهورهم،
وأفضى أصحاب الأشرس إلى الباب، فضربوا القفل حتى كسروه، وفتحوا الباب،
ودخل أبو موسى والمسلمون، فوضعوا فيهم السيوف، وهرب الهرمزان في عظماء
مرازبته حتى دخلوا الحصن الذي في جوف المدينة، وأخذ أبو موسى المدينة بما فيها
وحاصروا الهرمزان حتى فنى ما كان أعد في الحصن من الميرة، ثم سأل الأمان،
فقال أبو موسى: أو منك على حكم أمير المؤمنين. فرضي بذلك، وخرج فيمن كان معه
من أهل بيته ومرازبته إلى أبي موسى، فوجه به وبهم أبو موسى إلى عمر رضي الله
عنه، ووجه معه ثلاثمائة رجل، وأمر عليهم أنس بن مالك، فساروا حتى انتهوا
إلى ماء يقال له (السمينة) (1)، فأقبل أهل الماء يمنعونهم من النزول خوفا من أن
يفنوا ماءهم، فلما علموا أن أنسا صاحب القوم جاءوهم، فنزلوا، فقال رجل من
أصحاب أنس لأنس: أخبر أمير المؤمنين بما صنع هؤلاء بنا، ليخرجوهم من هذا
الماء. قال الهرمزان: وإن أراد مريد أن يحولهم إلى مكان شر منه، هل كان
يجده؟.
ثم ساروا حتى وافوا المدينة، فأتوا دار عمر، وقد زينوا الهرمزان بقبائه (2)
ومنطقته وسيفه وسواريه وتوأمتيه (3)، وكذلك من كان معه، لينظر عمر رضي
الله عنه إلى زي الملوك والمرازبة وهيئتهم، فكان من خبره ما هو مشهور.
وانصرف عمار بن ياسر فيمن كان معه من أصحابه إلى أوطانهم بالكوفة،
وسار أبو موسى من تستر، حتى أتوا السوس (4)، فحاصرها، فسأله مرزبانها أن
يؤمنه في ثمانين رجلا من أهل بيته وخاصة أصحابه، فأجابه إلى ذلك، فخرج إليه،
فعد ثمانين رجلا، ولم يعد نفسه فيهم فأمر أبو موسى به، فضربت عنقه، وأطلق
الثمانين الذين عدهم، ثم دخل المدينة، فغنم ما فيها، ثم بعث منجوف بن ثور إلى

(1) ماء لبني الهجيم، تصغير سمنة: أول منزل من النباج لقاصد البصرة
(2) نوع من الثياب تجمع أطرافه.
(3) درتان للأذنين إحداهما توأمة للأخرى.
(4) بلدة بخوزستان.
132

مهرجان قذق (1)، فافتتحها، ومعه السائب بن الأقرع، فانتهى السائب إلى قصر
الهرمزان صاحب تستر، وكان موطنه الصيمرة، فدخل القصر، وكان من المدينة
على ميل، فنظر في بعض البيوت إلى تمثال في الحائط ماد إصبعه مصوبها إلى الأرض،
فقال السائب (ما صوبت إصبع هذا التمثال إلى هذا المكان إلا لأمر، احفروا
هاهنا) فحفروا، فأصابوا سفطا (2)، كان للهرمزان مملوءا جوهرا، فاحتبس منه
السائب فص خاتم، وسرح بالباقي إلى أبي موسى، وأعلمه أنه أخذ منه فصا، فسأله
أن يهبه له، ففعل أبو موسى، ووجه بالسفط إلى عمر رضي الله عنه، فأرسل عمر إلى
الهرمزان، وقال: (هل تعرف هذا السفط؟) فقال: (نعم، أفقد منه فصا) قال عمر: (إن صاحب المقسم استوهبه، فوهبه له أبو موسى)، فقال:
(إن صاحبكم لبصير بالجوهر).
ثم إن عمر ولى عثمان بن أبي العاص أرض البحرين، فلما بلغه فتح الأهواز سار
بمن كان معه حتى أوغل في أرض فارس، فنزل مكانا يسمى (توج) (3) فصيره دار
هجرة، وبنى مسجدا جامعا، فكان يحارب أهل أردشير، حتى غلب على طائفة
من أرضهم، وغلب على ناحية من بلاد سابور، وبلاد إصطخر، وأرجان، فمكث
بذلك حولا، ثم خلف أخاه الحكم بن أبي العاص على أصحابه ولحق بالمدينة.
وإن مرزبان فارس جمع جموعا عظيمة، وزحف إلى الحكم، فظفر به
الحكم، فقتله، و كان اسمه (سهرك).
(وقعة نهاوند)
ثم كانت وقعة نهاوند (4) سنة إحدى وعشرين (641 م)، وذلك أن العجم لما
قتلوا بجلولاء، وهرب يزدجرد، فصار بقم، ووجه رسله في البلدان
يستجيش، فغضب له أهل مملكته، فتحلبت (5) إليه الأعاجم من أقطار البلاد،

(1) كورة حسنة واسعة، ذات مدن وقرى، قرب الصيمرة من نواحي الجبال، عن يمين
القاصد من حلوان العراق إلى همذان.
(2) السفط كالجوالق، يعني فيه الطيب وما أشبه من أدوات النساء.
(3) مدينة بفارس، شديدة الحر، قريبة من كازرون.
(4) مدينة عظيمة من أقدام المدن في الجبل، وبها آثار حسنة للفرس، وفي وسطها حصن
عجيب البناء، عالي السمك، وبها قبور جماعة من الشهداء.
(5) جاءوا من كل أوب للنصرة.
133

فأتاه أهل قومس، وطبرستان، وجرجان، ودنباوند، والري، وأصبهان، وهمذان،
والماهين، واجتمعت عنده جموع عظيمة، فولى أمرهم مردان شاه بن هرمز،
ووجههم إلى نهاوند.
وكتب عمار بن ياسر إلى عمر بن الخطاب بذلك، فخرج عمر بن الخطاب
رضي الله عنه، وبيده الكتاب حتى صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
(يا معشر العرب، إن الله أيدكم بالإسلام، وألف بينكم بعد الفرقة،
وأغناكم بعد الفاقة، وأظفركم في كل موطن لقيتم فيه عدوكم، فلم تفلوا،
ولم تغلبوا، وإن الشيطان قد جمع جموعا ليطفئ نور الله، وهذا كتاب عمار
ابن ياسر، يذكر أن أهل قومس وطبرستان ودنباوند وجرجان والري وأصبهان
وقم وهمذان والماهين وماسبذان قد أجفلوا (1) إلى ملكهم، ليسيروا إلى إخوانكم
بالكوفة والبصرة حتى يطردوهم من أرضهم، ويغزوكم في بلادكم، فأشيروا علي)
. فتكلم طلحة بن عبيد الله، فقال: (يا أمير المؤمنين، إن الأمور) قد حنكتك، وإن الدهور قد جربتك، وأنت الوالي، فمرنا نطع،
واستنهضنا ننهض). ثم تكلم عثمان بن عفان، فقال: (يا أمير المؤمنين،
اكتب إلى أهل الشام، فيسيروا من شامهم، وإلى أهل اليمن، فيسيروا من
يمنهم، وإلى أهل البصرة، فيسيروا من بصرتهم، وسر أنت بأهل هذا الحرم حتى
توافي الكوفة، وقد وافاك المسلمون من أقطار أرضهم وآفاق بلادهم، فإنك إذا
فعلت ذلك كنت أكثر منهم جمعا وأعز نفرا).
فقال المسلمون من كل ناحية (صدق عثمان)، فقال عمر لعلي رضي الله عنهما:
ما تقول أنت يا أبا الحسن؟)، فقال علي رضي الله عنه: (إنك إن أشخصت
أهل الشام من شامهم سارت الروم إلى ذراريهم، وإن سيرت أهل اليمن من يمنهم
خلفت الحبشة على أرضهم، وإن شخصت أنت من هذا الحرم انتقضت عليك

(1) أسرعوا.
134

الأرض من أقطارها، حتى يكون ما تدع وراءك من العيالات أهم إليك مما
قدامك، وإن العجم إذا رأوك عيانا قالوا، هذا ملك العرب كلها، فكان
أشد لقتالهم، وأنا لم نقاتل الناس على عهد نبينا صلى الله عليه وسلم ولا بعده
بالكثرة، بل أكتب إلى أهل الشام أن يقيم منهم بشامهم الثلثان، ويشخص
الثلث، وكذلك إلى عمان، وكذلك سائر الأمصار والكور).
فقال عمر: الرأي الذي كنت رأيته، ولكني أحببت أن تتابعوني عليه،
فكتب بذلك إلى الأمصار، ثم قال: لأولين الحرب رجلا يكون غدا لأسنة القوم
جزرا (1). فولى الأمر النعمان بن مقرن المزني، وكان من خيار أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وكان على خراج كسكر، فدعا عمر السائب بن الأقرع، فدفع
إليه عهد النعمان بن مقرن، وقال له: إن قتل النعمان فولى الأمر حذيفة بن اليمان،
وإن قتل حذيفة فولى الأمر جرير بن عبد الله البجلي، وإن قتل جرير فالأمير المغيرة
ابن شعبة، وإن قتل المغيرة فالأمير الأشعث بن قيس.
وكتب إلى النعمان بن مقرن (أن قبلك رجلين هما فارسا العرب: عمرو بن
معدي كرب، وطليحة بن خويلد فشاورهما في الحرب، ولا تولهما شيئا من الأمر)،
ثم قال للسائب: إن أظفر الله المسلمين فتول أمر المغنم ولا ترفع إلي باطلا، وإن
يهلك ذلك الجيش فاذهب، فلا أرينك.
فسار السائب حتى ورد الكوفة ودفع إلى النعمان عهده، ووافت الأمداد،
وخلف أبو موسى بالبصرة ثلثي الناس، وسار بالثلث الآخر حتى وافى الكوفة،
فتجهز الناس، وساروا إلى نهاوند، فنزلوا بمكان يسمى (الإسفيذهان) (2) من
مدينة نهاوند على ثلاثة فراسخ، قرب قرية يقال لها (قديسجان)، وأقبلت الأعاجم
يقودها مردان شاه بن هرمزد، حتى عسكروا قريبا من عسكر المسلمين، وخندقوا
على أنفسهم، وأقام الفريقان بمكانهما، فقال النعمان لعمرو وطلحة: (ما تريان؟

(1) الجزر: القطع والاستئصال.
(2) كذا في الأصل، والصواب (أسفيزبان) واحد من قرى أصبهان.
135

فإن هؤلاء القوم قد أقاموا بمكانهم لا يخرجون منه، وأمدادهم تترى عليهم كل يوم)
فقال عمرو: (الرأي أن تشيع أن أمير المؤمنين توفي، ثم ترتحل بجميع من معك،
فإن القوم إذا بلغهم ذلك طلبونا فنقف لهم عند ذلك)، ففعل النعمان ذلك،
وتباشرت الأعاجم، وخرجوا في آثار المسلمين، حتى إذا قاربوهم وقفوا لهم،
ثم تزاحفوا، فاقتتلوا، فلم يسمع إلا وقع الحديد على الحديد، وكثرت القتلى
من الفريقين، وحال بينهما الليل، فانصرف كل فريق إلى معسكرهم، وبات
المسلمون لهم أنين من الجراح، ثم أصبحوا، وذلك يوم الأربعاء، فتزاحفوا،
واقتتلوا يومهم كله، وصبر الفريقان، ثم كان ذلك دأبهم يوم الخميس، وتزاحفوا
يوم الجمعة، وتواقفوا، وركب النعمان بن مقرن برذونا أشهب،
ولبس ثيابا بيضاء، وسار بين الصفوف، يذمر المسلمين، ويحضهم، وجعل ينتظر
الساعة التي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقاتل فيها، ويستنزل النصر،
وهي زوال النهار، ومهب الرياح، وسار في الرايات يقول لهم (إني هاز لكم
الراية ثلاثا، فإن هززتها أول مرة فليشد كل رجل منكم حزام فرسه، وليستلم
شكته، فإذا هززتها الثانية فصوبوا رماحكم، وهزوا سيوفكم، فإذا هززتها
الثالثة، فكبروا، واحملوا، فإني حامل).
فلما زالت الشمس بأدنى صلوا ركعتين ركعتين، ووقف، ونظر الناس إلى
الراية، فلما هزها الثالثة كبروا، وحملوا، فانتقضت صفوف الأعاجم، وكان
النعمان أول قتيل، فحمله أخوه سويد بن مقرن إلى فسطاطه، فخلع ثيابه،
فلبسها، وتقلد سيفه، وركب فرسه، فلم يشك أكثر الناس أنه النعمان،
وثبتوا، يقاتلون عدوهم، ثم أنزل الله نصره، وانهزمت الأعاجم، فذهبت على
وجوهها، حتى صاروا إلى قرية من نهاوند على فرسخين، تسمى (دزيزيد)
فنزلوها لأن حصن نهاوند لم يسعهم، وأقبل حذيفة بن اليمان، وقد كان تولى
الأمر بعد النعمان، حتى أناخ عليهم، فحاصرهم بها.
136

قال: وإنهم خرجوا ذات يوم مستعدين للحرب، فقاتلهم المسلمون،
فانهزمت الأعاجم، وانقطع عظيم من عظمائهم يسمى (دينار) فحال المسلمون بينه
وبين الدخول إلى الحصن، واتبعه رجل من عبس، يسمى (سماك بن عبيد)
فقتل قوما كانوا معه، واستسلم له الفارس، فاستأسره سماك، فقال لسماك:
(انطلق بي إلى أميركم، فإني صاحب هذه الكورة، لأصالحه على هذه الأرض،
وأفتح له باب الحصن)، فانطلق به إلى حذيفة، فصالحه حذيفة عليها،
وكتب له بذلك كتابا.
فأقبل دينار حتى وقف على باب حصن نهاوند، ونادى من فيه (افتحوا باب
الحصن، وانزلوا، فقد آمنكم الأمير، وصالحني على أرضكم). فنزلوا إليه، فبذلك
سميت (ماه دينار). وأقبل رجل من أشراف تلك البلاد إلى السائب بن الأقرع،
وكان على المغانم، فقال له (أتصالحني على ضياعي، وتؤمنني على أموالي، حتى أدلك
على كنز لا يدري ما قدره، فيكون خالصا لأميركم الأعظم، لأنه شئ لم يؤخذ في
الغنيمة).
وكان سبب هذا الكنز أن النخارجان الذي كان يوم القادسية أقبل بالمدد،
فألفى العجم قد انهزموا، فوقف، فقاتل حتى قتل، وكان من أعاظم الأعاجم،
وكان كريما على كسرى أبرويز، وكانت له امرأة من (أكمل) (1) النساء جمالا، وكانت
تختلف إلى كسرى، فبلغ النخارجان ذلك، فرفضها، فلم يقربها، وبلغ ذلك
كسرى، فقال يوما للنخارجان وقد دخل عليه مع العظماء والأشراف: (بلغني أن لك
عينا عذبة الماء، وأنك لا تشرب منها) فقال النخارجان أيها الملك، بلغني أن
الأسد ينتاب تلك العين، فاجتنبتها مخافة الأسد) فاستحلى كسرى جواب
النخارجان، وعجب من فطنته، فدخل دار نسائه، وكانت له ثلاثة آلاف امرأة
لفراشه، فجمعهن وأخذ ما كان عليهن من حلي، فجمعه، ودفعه إلى امرأة النخارجان،

(1) في الأصل أجمل.
137

ودعا بالصاغة، فاتخذوا للنخارجان تاجا من ذهب مكللا بالجوهر الثمين، فتوجه
به، فبقي ذلك التاج وتلك الحلي عند ولد بني المرأة، فلما وقعت الحرب بناحيتهم
ساروا به إلى قرية لأبيهم، سميت باسمه، يقال لها (الخوارجان) وفيها بيت نار،
فاقتلعوا الكانون (1) ودفنوا الحلي تحته، وأعادوا الكانون كهيئته.
فقال له السائب: إن كنت صادقا فأنت آمن على أولادك وضياعك وأهلك
وولدك، فانطلق به حتى استخرجه في سفطين: أحدهما التاج، والآخر الحلي.
فلما قسم السائب الغنائم بين من حضر القتال، وفرغ حمل السفطين في خرجين
على ناقته، وقدم بهما على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فكان من أمرهما الخبر
المشهور، اشتراهما عمرو بن الحارث بعطاء المقاتلة والذرية جميعا، ثم حملهما إلى الحيرة
فباع بفضل كثير، واعتقد بذلك أموالا بالعراق، وكان أول قرشي اعتقد
بالعراق، فقال عروة بن زيد الخيل يذكر أيامهم:
ألا طرقت رحلي وقد نام صحبتي * بإيوان سيرين المزخرف خلتي
ولو شهدت يومي جلولاء حربنا * ويوم نهاوند المهول استهلت
إذا لرأت ضرب أمري غير خامل * مجيد بطعن الرمح أروع مصلت
ولما دعوا يا عروة بن مهلهل * ضربت جموع الفرس حتى تولت
دفعت عليهم رحلتي وفوارسي * وجردت سيفي فيهم ثم التي
وكم من عدو أشوس متمرد * عليه بخيلي في الهياج أظلت
وكم كربة فرجتها وكريهة * شددت لها أزري إلى أن تجلت
وقد أضحت الدنيا لدي ذميمة * وسليت عنها النفس حتى تسلت
وأصبح همي في الجهاد ونيتي * فلله نفس أدبرت وتولت
فلا ثروة الدنيا نريد اكتسابها * إلا أنها عن وفرها قد تحلت
وما ذا أرجى من كنوز جمعتها * وهذى المنايا شرعا قد أظلت

(1) الكانون: الموقد.
138

(ولاية عثمان بن عفان)
وتوفي عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوم الجمعة لأربع ليال بقين من ذي الحجة
سنة ثلاث وعشرين، وكانت خلافته عشر سنين وستة أشهر، واستخلف عثمان
ابن عفان، فعزل عمار بن ياسر عن الكوفة، وولى الوليد بن عقبة بن أبي معيط،
وكان أخا عثمان لأمه، أمهما أروى بنت أم حكيم بن عبد المطلب بن هاشم، وعزل
أبا موسى الأشعري عن البصرة، وولاها عبد الله بن عامر بن كريز، وكان ابن
خال عثمان، وكان حدث السن، واستعمل عمرو بن العاص على حرب مصر،
واستعمل عبد الله بن أبي سرح على خراجها، وكان أخاه من الرضاعة، ثم عزل
عمرو بن العاص، وجمع الحرب والخراج لعبد الله بن أبي سرح.
(الفتوحات في عهد عثمان)
ثم كانت غزوة سابور من أرض فارس، وافتتاحها. وأميرها عثمان بن أبي
العاص، ثم كان فتح إفريقية سنة تسع وعشرين، وأميرها عبد الله بن أبي سرح،
ثم كان فتح قبرس، وأميرها معاوية بن أبي سفيان.
ثم إن أهل إصطخر نزعوا يدا من الطاعة، وقدمها يزدجرد الملك في جمع من
الأعاجم، فسار إليهم عثمان بن أبي العاص وعبد الله بن عامر، فكان الظفر
للمسلمين، وهرب يزدجرد نحو خراسان، فأتى مرو. فأخذ عامله بها، وكان
اسمه (ماهويه) بالأموال، وقد كان ماهويه صاهر خاقان ملك الأتراك، فلما
تشدد عليه أرسل إلى خاقان يعلمه ذلك، فأقبل خاقان في جنوده حتى عبر النهر
مما يلي آموية، ثم ركب المفازة حتى أتى مرو، ففتح له ماهويه أبوابها، وهرب
يزدجرد على رجليه وحده، فمشى مقدار فرسخين حتى انتهى في السحر إلى رحى
فيها سراج يتقد، فدخلها، وقال للطحان: (آوني عندك الليلة) قال الطحان:
أعطني أربعة دراهم، فإني أريد أن أدفعها إلى صاحب الرحا (1)، فناوله سيفه

(1) الرحا: الحجر العظيم، وتكتب بالياء والألف.
139

ومنطقته، وقال: (هذا لك،) ففرش له الطحان كساءه، فنام يزدجرد
لما ناله من شدة التعب، فلما استثقل نوما قام إليه الطحان بمنقار الرحا، فقتله،
وأخذ سلبه (1)، وألقاه في النهر.
ولما أصبح الناس تداعوا، فأجلبوا على الأتراك من كل وجه، فخرج خاقان
منهزما حتى أوغل في المفازة، فطلبوا الملك فلم يجدوه، فخرجوا يقفون أثره حتى
انتهوا إليه، فوجدوه قتيلا مطروحا في الماء، وأصابوا بزته عند الطحان.
وذلك في السنة السادسة من خلافة عثمان، وهي سنة ثلاثين من التاريخ (2)،
فعند ذلك انقضى ملك فارس، وأرخوا عليه تاريخهم الذي يكتبون به اليوم.
وهرب ماهويه حتى نزل أبرشهر مخافة أن يقتله أهل مرو، فمات بها.
وسار عبد الله بن خازم السلمي إلى سرخس (3)، فافتتحها أيضا، وسار عبد الله
ابن عامر إلى كرمان وسجستان، فافتتحهما.
(بيعة علي بن أبي طالب)
ثم قتل (4) عثمان رضي الله عنه، فلما قتل بقي الناس ثلاثة أيام بلا إمام، وكان
الذي يصلي بالناس الغافقي، ثم بايع الناس عليا رضي الله عنه، فقال: (أيها
الناس، بايعتموني على ما بويع عليه من كان قبلي، وإنما الخيار قبل أن تقع البيعة،
فإذا وقعت فلا خيار، وإنما على الإمام الاستقامة، وعلى الرعية التسليم، وإن هذه بيعة
عامة، من ردها رغب عن دين الإسلام، وإنها لم تكن فلتة).
ثم إن عليا رضي الله عنه أظهر أنه يريد السير إلى العراق، وكان على الشام يومئذ
معاوية بن أبي سفيان، وليها لعمر بن الخطاب سبعا، ووليها جميع ولاية عثمان

(1) السلب: كل ما على الإنسان من اللباس.
(2) سنة ثلاثين من التأريخ الهجري أي 650 م
(3) مدينة قديمة بين نيسابور ومرو، في وسط الطريق، وهي مدينة معطشة، ليس بها ماء.
(4) وكان قتله في 18 ذي الحجة سنة 35 (31 مايو 655 م).
140

رضي الله عنه اثنتي عشرة سنة، فواتاه الناس على السير إلا ثلاثة نفر: سعد بن أبي
وقاص، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، ومحمد بن مسلمة الأنصاري.
وبعث علي رضي الله عنه عماله إلى الأمصار، فاستعمل عثمان بن حنيف على
البصرة، وعمارة بن حسان على الكوفة، وكانت له هجرة، واستعمل عبد الله
ابن عباس على جميع أرض اليمن، واستعمل قيس بن سعد بن عبادة على مصر،
واستعمل سهل بن حنيف على الشام.
فأما سهل فإنه لما انتهى إلى تبوك، وهي تخوم أرض الشام استقبله خيل لمعاوية،
فردوه، فانصرف إلى علي، فعلم علي رضي الله عنه عند ذلك أن معاوية قد خالف،
وأن أهل الشام بايعوه.
وحضر الموسم، فاستأذن الزبير وطلحة عليا في الحج، فأذن لهما، وقد
كانت عائشة أم المؤمنين خرجت قبل ذلك معتمرة، وعثمان محصور، وذلك قبل
مقتله بعشرين يوما، فلما قضت عمرتها أقامت، فوافاها الزبير وطلحة.
وكتب علي بن أبي طالب إلى معاوية (أما بعد، فقد بلغك الذي كان من
مصاب عثمان رضي الله عنه، واجتماع الناس علي ومبايعتهم لي، فأدخل في السلم
أو ائذن بحرب). وبعث الكتاب مع الحجاج بن غزية الأنصاري، فلما قدم على
معاوية، وأوصل كتاب علي إليه، فقرأه، فقال: (انصرف إلى صاحبك، فإن
كتابي مع رسولي على أثرك)، فانصرف الحجاج، وأمر معاوية بطومارين (1)،
فوصل أحدهما بالآخر، ولفا، ولم يكتب فيهما شيئا إلا بسم الله الرحمن الرحيم، وكتب
على العنوان (من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب).
ثم بعث به مع رجل من عبس، له لسان وجسارة، فقدم العبسي على علي،
فناوله الكتاب، ففتحه، فلم ير فلم فيه شيئا، إلا بسم الله الرحمن الرحيم، وعند
علي وجوه الناس.

(1) الطامور والطوامير: الصحيفة.
141

فقام العبسي، فقال: (أيها الناس، هل فيكم أحد من عبس؟) قالوا:
نعم. قال: فاسمعوا مني، وافهموا عني، أني قد خلفت بالشام خمسين ألف شيخ
خاضبي لحاهم بدموع أعينهم تحت قميص عثمان، رافعيه على أطراف الرماح، قد
عاهدوا الله ألا يشيموا (1) سيوفهم حتى يقتلوا قتلته، أو تلحق أرواحهم بالله).
فقام إليه خالد بن زفر العبسي، فقال: بئس لعمر الله وافد الشام أنت، أتخوف
المهاجرين والأنصار بجنود أهل الشام وبكائهم على قميص عثمان، فوالله ما هو بقميص
يوسف ولا بحزن يعقوب، ولئن بكوا عليه بالشام، فقد خذلوه بالعراق).
ثم إن المغيرة بن شعبة دخل على علي رضي الله عنه، فقال: (يا أمير المؤمنين،
إن لك حق الصحبة، فأقر معاوية على ما هو عليه من أمرة الشام، وكذلك
جميع عمال عثمان، حتى إذا أتتك طاعتهم وبيعتهم استبدلت حينئذ أو تركت)،
فقال علي رضي الله: (أنا ناظر في ذلك).
وخرج عنه المغيرة ثم عاد إليه من غد، فقال: (يا أمير المؤمنين، إني أشرت
أمس عليك برأي، فلما تدبرته عرفت خطاه، والرأي أن تعاجل معاوية وسائر
عمال عثمان بالعزل، لتعرف السامع المطيع من العاصي، فتكافئ كلا بجزائه)
ثم قام، فتلقاه ابن عباس داخلا، فقال لعلي رضي الله عنه: (فيم أتاك المغيرة؟) فأخبره علي بما كان من مشورته بالأمس، وما أشار عليه بعد، فقال ابن عباس:
(أما أمس فإنه نصح لك، وأما اليوم فغشك.)
وبلغ المغيرة ذلك، فقال: (صدق ابن عباس، نصحت له، فلما رد
نصحي بدلت قولي)، ولما خاض الناس في ذلك سار المغيرة إلى مكة، فأقام بها
ثلاثة أشهر، ثم انصرف إلى المدينة.
ثم إن عليا رضي الله عنه نادى في الناس بالتأهب للمسير إلى العراق، فدخل
عليه سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، ومحمد بن مسلمة،

(1) شام السيف شيما: سله أو أغمده وهو من الأضداد.
142

فقال لهم: (قد بلغني عنكم هناة كرهتها لكم)، فقال سعد: (قد كان
ما بلغك، فأعطني سيفا يعرف المسلم من الكافر حتى أقاتل به معك).
وقال عبد الله بن عمر: (أنشدك الله أن تحملني على ما لا أعرف).
وقال محمد بن مسلمة: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أقاتل
بسيفي ما قوتل به المشركون، فإذا قوتل أهل الصلاة ضربت به صخر أحد حتى
ينكسر، وقد كسرته بالأمس). ثم خرجوا من عنده.
ثم إن أسامة بن زيد دخل، فقال: (أعفني من الخروج معك في هذا الوجه،
فإني عاهدت الله ألا أقاتل من يشهد أن لا إله إلا الله)
. وبلغ ذلك الأشتر، فدخل على علي، فقال: (يا أمير المؤمنين، إنا وإن لم نكن
من المهاجرين والأنصار، فإنا من التابعين بإحسان، وإن القوم وإن كانوا أولى بما
سبقونا إليه فليسوا بأولى مما شركناهم فيه، وهذه بيعة عامة، الخارج منها طاعن
مستعتب، فحض هؤلاء الذين يريدون التخلف عنك باللسان، فإن أبوا فأدبهم
بالحبس) فقال علي: (بل أدعهم ورأيهم الذي هم عليه).
ولما هم علي رضي الله عنه بالمسير إلى العراق، اجتمع أشراف الأنصار، فأقبلوا
حتى دخلوا على علي، فتكلم عقبة بن عامر، وكان بدريا (1) فقال: (يا أمير المؤمنين
إن الذي يفوتك من الصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسعي بين
قبره ومنبره أعظم مما ترجو من العراق، فإن كنت إنما تسير لحرب الشام، فقد أقام
عمر فينا، وكفاه سعد زحف القادسية، وأبو موسى زحف الأهواز، وليس من
هؤلاء رجل إلا ومثله معك، والرجال أشباه، والأيام دول)، فقال علي (إن
الأموال والرجال بالعراق، ولأهل الشام وثبة أحب أن أكون قريبا منها). ونادى
في الناس بالمسير، فخرج وخرج معه الناس.

(1) ممن شهدوا غزوة بدر.
143

(وقعة الجمل)
(1) قالوا: ولما قضى الزبير وطلحة وعائشة حجهم تآمروا في مقتل عثمان، فقال
الزبير وطلحة لعائشة: (إن أطعتنا طلبنا بدم عثمان). قالت: (وممن تطلبون
دمه؟)، قالا: (إنهم قوم معروفون، وإنهم بطانة علي ورؤساء أصحابه،
فاخرجي معنا حتى نأتي البصرة فيمن تبعنا من أهل الحجاز، وإن أهل البصرة
لو قد رأوك لكانوا جميعا يدا واحدة معك). فأجابتهم إلى الخروج، فسارت
والناس حولها يمينا وشمالا.
ولما فصل علي من المدينة نحو الكوفة بلغه خبر الزبير وطلحة وعائشة، فقال
لأصحابه: (إن هؤلاء القوم قد خرجوا يؤمون البصرة)، لما دبروه بينهم،
فسيروا بنا على أثرهم، لعلنا نلحقهم قبل موافاتهم، فإنهم لو قد وافوها لمال معهم
جميع أهلها)، قالوا: (سر بنا يا أمير المؤمنين). فسار حتى وافى ذا قار (2)،
فأتاه الخبر بموافاة القوم البصرة، ومبايعة أهل البصرة لهم إلا بني سعد، فإنهم
لم يدخلوا فيما دخل فيه الناس، وقالوا لأهل البصرة: (لا نكون معكم
ولا عليكم)، وقعد عنهم أيضا كعب بن سور في أهل بيته، حتى أتته عائشة
في منزله، فأجابها، وقال: (أكره ألا أجيب أمي)، وكان كعب على
قضاء البصرة.
ولما انتهى الخبر إلى علي وجه هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ليستنهض أهل
الكوفة، ثم أردفه بابنه الحسن وبعمار بن ياسر، فساروا حتى دخلوا الكوفة،
وأبو موسى يومئذ بالكوفة، وهو جالس في المسجد، والناس محتوشوه (3)

(1) وقعت في منتصف جمادي الآخر سنة 36 (نوفمبر 656 م).
(2) مكان قريب من البصرة، اشتهر بيوم لبني شيبان فيه، وكان أبرويز أغزاهم جيشا
فظفرت بنو شيبان، وهو أول يوم انتصرت فيه العرب على العجم.
(3) احتوش القوم ملأنا واحتوشوا عليه جعلوه وسطهم.
144

وهو يقول: (يا أهل الكوفة، أطيعوني تكونوا جرثومة (1) من جراثيم العرب،
يأوي إليكم المظلوم، ويأمن فيكم الخائف، أيها الناس، إن الفتنة إذا أقبلت شبهت،
وإذا أدبرت تبينت، وإن هذه الفتنة الباقرة (2) لا يدرى من أين تأتي، ولا من
أين تؤتى، شيموا سيوفكم، وانزعوا أسنة رماحكم، واقطعوا أوتار قسيكم،
والزموا قعور البيوت، أيها الناس، إن النائم في الفتنة خير من القائم، والقائم خير
من الساعي).
فانتهى الحسن بن علي وعمار رضي الله عنهما إلى المسجد الأعظم وقد اجتمع
عالم من الناس على أبي موسى، وهو يقول لهم هذا وأشباهه، فقال له الحسن:
(اخرج عن مسجدنا، وامض حيث شئت). ثم صعد الحسن المنبر، وعمار صعد
معه، فاستنفرا الناس، فقام حجر بن عدي الكندي، وكان من أفاضل أهل الكوفة
فقال: (انفروا خفافا وثقالا، رحمكم الله) فأجابه الناس من كل وجه: سمعا
وطاعة لأمير المؤمنين، نحن خارجون على اليسر العسر والشدة والرخاء.
فلما أصبحوا من الغد خرجوا مستعدين، فأحصاهم الحسن، فكانوا تسعة
آلاف وستمائة وخمسين رجلا، فوافوا عليا بذي قار قبل أن يرتحل. فلما هم بالمسير
غلس الصبح، ثم أمر مناديا، فنادى في الناس بالرحيل، فدنا منه الحسن، فقال:
(يا أبت أشرت عليك حين قتل عثمان وراح الناس إليك وغدوا، وسألوك أن تقوم
بهذا الأمر ألا تقبله حتى تأتيك طاعة جميع الناس في الآفاق، وأشرت عليك حين
بلغك خروج الزبير وطلحة بعائشة إلى البصرة أن ترجع إلى المدينة، فتقيم في بيتك،
وأشرت عليك حين حوصر عثمان أن تخرج من المدينة، فإن قتل قتل وأنت
غائب، فلم تقبل رأيي في شئ من ذلك).

(1) جرثومة كل شئ أصله ومجتمعه.
(2) يعني أنها مفسدة للدين ومفرقة بين الناس
ومشتتة أمورهم.
145

فقال له علي: (أما انتظاري طاعة جميع الناس من جميع الآفاق، فإن
البيعة لا تكون إلا لمن حضر الحرمين من المهاجرين والأنصار، فإذا رضوا
وسلموا وجب على جميع الناس الرضا والتسليم، وأما رجوعي إلى بيتي والجلوس
فيه، فإن رجوعي لو رجعت كان غدرا بالأمة، ولم آمن أن تقع الفرقة،
وتتصدع عصا هذه الأمة، وأما خروجي حين حوصر عثمان فكيف أمكنني ذلك؟!
وقد كان الناس أحاطوا بي كما أحاطوا بعثمان، فاكفف يا بني عما أنا أعلم به منك).
ثم سار بالناس، فلما دنا من البصرة كتب الكتائب، وعقد الألوية
والرايات، وجعلها سبع رايات، عقد لحمير وهمدان راية، وولى عليهم
سعيد بن قيس الهمداني، وعقد لمذحج والأشعريين راية، وولى عليهم زياد
ابن النضر الحارثي، ثم عقد لطيئ راية، وولى عليهم عدي بن حاتم، وعقد
لقيس وعبس وذبيان راية، وولى عليهم سعد بن مسعود الثقفي عم المختار بن
أبي عبيد، وعقد لكندة وحضرموت وقضاعة ومهرة راية، وولى عليهم حجر
ابن عدي الكندي، وعقد للأزد وبجيلة وخثعم وخزاعة راية، وولى عليهم
مخنف بن سليم الأزدي، وعقد لبكر وتغلب وأفناء ربيعة راية، وولى عليهم
محدوج الذهلي، وعقد لسائر قريش والأنصار وغيرهم من أهل الحجاز راية،
وولى عليهم عبد الله بن عباس، فشهد هؤلاء الجمل وصفين والنهر، وهم أسباع
كذلك، وكان على الرجالة جندب بن زهير الأزدي.
ولما بلغ طلحة والزبير ورود علي رضي الله عنه بالجيوش، وقد أقبل حتى نزل
(الخريبة) (1) فعباهم طلحة والزبير، وكتباهم كتائب، وعقدا الألوية،
فجعلا على الخيل محمد بن طلحة، وعلى الرجالة عبد الله بن الزبير، ودفعا اللواء
الأعظم إلى عبد الله بن حرام بن خويلد، ودفعا لواء الأزد إلى كعب بن سور،
وولياه الميمنة، ووليا قريشا وكنانة عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد، ووليا أمر

(1) محلة من محال البصرة ينسب إليها كثيرون، وقد كان مدينة للفرس خربت لتواتر
الغارات عليها، ولما مصرت البصرة ابتنيت إلى جانبها.
146

الميسرة عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وهو الذي قالت عائشة فيه: (وددت
لو قعدت في بيتي ولم أخرج في هذا الوجه لكان ذلك أحب إلي من عشرة أولاد،
لو رزقتهن من رسول الله صلى الله عليه على فضل عبد الرحمن بن الحارث
بن هشام وعقله وزهده). ووليا على قيس مجاشع بن مسعود، وعلى تيم الرباب
عمرو بن يثربي، وعلى قيس والأنصار وثقيف عبد الله بن عامر بن كريز، وعلى
خزاعة عبد الله بن خلف الخزاعي، وعلى قضاعة عبد الرحمن بن جابر الراسبي،
وعلى مذحج الربيع بن زياد الحارثي، وعلى ربيعة عبد الله بن مالك.
قالوا: وأقام علي رضي الله عنه ثلاثة أيام يبعث رسله إلى أهل البصرة،
فيدعوهم إلى الرجوع إلى الطاعة والدخول في الجماعة، فلم يجد عند القوم إجابة،
فزحف نحوهم يوم الخميس لعشر مضين من جمادى الآخرة، وعلى ميمنته الأشتر،
وعلى ميسرته عمار بن ياسر، والراية العظمى في يد ابنه محمد بن الحنفية،
ثم سار نحو القوم حتى دنا بصفوفه من صفوفهم، فواقفهم من صلاة الغداة إلى صلاة
الظهر، يدعوهم ويناشدهم، وأهل البصرة وقوف تحت رايتهم، وعائشة
في هودجها أمام القوم.
قالوا: وإن الزبير لما علم أن عمارا مع علي رضي الله عنه ارتاب بما كان فيه،
لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الحق مع عمار، وتقتلك الفئة الباغية).
قالوا: ثم إن عليا دنا من صفوف أهل البصرة، وأرسل إلى الزبير يسأله،
ليدنو، فيكلمه بما يريد، وأقبل الزبير حتى دنا من علي رضي الله عنه، فوقفا
جميعا بين الصفين حتى اختلفت أعناق فرسيهما، فقال له علي: (ناشدتك الله
يا أبا عبد الله، هل تذكر يوما مررنا أنا وأنت برسول الله صلى الله عليه وسلم
ويدي في يدك، فقال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتحبه؟، قلت: نعم،
يا رسول الله، فقال لك: أما إنك تقاتله، وأنت له ظالم...؟)، فقال الزبير:
(نعم، أنا ذاكر له).
147

ثم انصرف علي إلى قومه، وقال لأصحابه: (احملوا على القوم، فقد أعذرنا
إليهم)، فحمل بعضهم على بعض، فاقتتلوا. بالقنا والسيوف. وأقبل الزبير حتى دنا
من ابنه عبد الله وبيده الراية العظمى، فقال: (يا بني، أنا منصرف)،
قال: (وكيف يا أبت؟)، قال: (ما لي في هذا الأمر من بصيرة، وقد
اذكرني على أمرا، قد كنت غفلت عنه، فانصرف يا بني معي)، فقال
عبد الله: (والله لا أرجع أو يحكم الله بيننا). فتركه الزبير، ومضى نحو
البصرة ليتحمل منها، ويمضي نحو الحجاز. ويقال: إن طلحة لما علم بانصراف
الزبير هم أن ينصرف، فعلم مروان بن الحكم ما يريده، فرماه بسهم، فوقع
في ركبته، فنزف حتى مات.
وأقبل الزبير حتى دخل البصرة، وأمر غلمانه أن يتحملوا، فيلحقوا به،
وخرج من ناحية الخريبة، فمر بالأحنف بن قيس، وهو جالس بفناء داره،
وحوله قومه، وقد كانوا اعتزلوا الحرب، فقال الأحنف: (هذا الزبير،
ولقد انصرف لأمر، فهل فيكم من يأتينا بخبره؟)، فقال له عمرو بن جرموز:
(أنا آتيك بخبره). فركب فرسه، وتقلد سيفه، ومضى في أثره، وذلك
قبل صلاة الظهر، فلحقه، وقد خرج من دور البصرة، فقال له: (أبا عبد الله،
ما الذي تركت عليه القوم؟)، قال الزبير: (تركتهم، وبعضهم يضرب وجوه
بعض بالسيف)، قال: (فأين تريد؟)، قال: (انصرف لحال بالي، فما لي
في هذا الأمر من بصيرة). قال عمرو بن جرموز: (وأنا أيضا أريد الخريبة
، فسر بنا). فسارا حتى دنا وقت الصلاة، فقال الزبير: (إن هذا وقت الصلاة،
وأنا أريد أن أقضيها)، قال عمرو: (وأنا أريد أن أقضيها)، قال الزبير:
(أنت مني في أمان، فهل أنا منك كذلك)، قال: (نعم). فنزلا جميعا،
وقام الزبير في الصلاة، فلما سجد حمل عليه عمرو بالسيف، فضربه حتى قتله،
وأخذ درعه وسيفه وفرسه، وأقبل حتى أتى عليا، وهو واقف، والناس
148

يجتلدون بالسيوف، فألقى السلاح بين يديه، فلما نظر علي رضي الله عنه إلى
السيف، قال: (إن هذا السيف طالما فرج به صاحبه الكرب عن وجه
رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبشر يا قاتل ابن صفية بالنار)، فقال عمرو:
(نقتل أعداءكم، وتبشروننا بالنار؟!).
قالوا: ثم إن عليا أمر ابنه محمد بن الحنفية، فقال: تقدم برايتك. وكان معه
الراية العظمى، فتقدم بها وقد لاث (1) أهل البصرة بعبد الله بن الزبير، وقلدوه
الأمر، فتقدم محمد بالراية، فاستقبله أهل البصرة بالقنا والسيوف، فوقف بالراية،
فتناولها منه علي رضي الله عنه، وحمل وحمل معه الناس، ثم ناولها ابنه محمدا، واشتد
القتال وحميت الحرب، وانكشف الناس عن الجمل، وقتل كعب بن سور، وثبتت
الأزد وضبة، فقاتلوا قتالا شديدا.
فلما رأى علي شدة صبر أهل البصرة جمع إليه حماة أصحابه، فقال: إن هؤلاء
القوم قد محكوا (2)، فاصدقوهم القتال، فخرج الأشتر وعدي بن حاتم وعمرو بن
الحمق وعمار بن ياسر في عددهم من أصحابهم، فقال عمرو بن يثربي لقومه، وكانوا
في ميمنة أهل البصرة (إن هؤلاء القوم الذين قد برزوا إليكم من أهل العراق هم
قتلة عثمان، فعليكم بهم)، وتقدم أمام قومه بني ضبة، فقاتل قتالا شديدا، وكثرت
النبل في الهودج، حتى صار كالقنفذ، وكان الجمل مجففا (3)، والهودج مطبق بصفائح
الحديد
. وصبر الفريقان بعضهم لبعض حتى كثرت القتلى وثار القتام، وطلت الألوية
والرايات، وحمل على بنفسه، وقاتل حتى انثنى سيفه، وخرج فارس أهل البصرة
عمرو بن الأشرف، لا يخرج إليه أحد من أصحاب على إلا قتله، وهو يرتجز،
ويقول:

(1) اجتمعوا به، ولاث به يلوث كلاذ.
(2) المحك: التمادي في الغضب.
(3) أي عليه تجفاف، وهو ما يوضع على الخيل والإبل من حديد أو غيره في الحرب.
149

يا أمنا يا خير أم نعلم * والأم تغذو ولدها وترحم
ألا ترين كم جواد يكلم * وتختلي هامته والمعصم
فخرج إليه من أهل الكوفة الحارث بن زهير الأزدي، وكان من فرسان علي،
فاختلفا ضربتين، فأوهط (1) كل منهما صاحبه، فخرا جميعا صريعين،
يفحصان (2) بأرجلهما حتى ماتا.
قالوا: وانكشف أهل البصرة انكشافه، وانتهى الأشتر إلى الجمل،
وعبد الله بن الزبير آخذ بخطامه، فرمى الأشتر بنفسه على عبد الله بن الزبير،
فصار تحته، فصاح عبد الله بن الزبير: (اقتلوني ومالكا)، فثاب إلى ابن الزبير
أصحابه.
فلما خاف الأشتر على نفسه قام عن عبد الله بن الزبير، وقاتل حتى خلص إلى
أصحابه، قد عار فرسه، فقال لهم: (ما أنجاني إلا قول ابن الزبير: اقتلوني
ومالكا، فلم يدر القوم من مالك، ولو قال اقتلوني والأشتر لقتلوني).
وقاتل عدي بن حاتم حتى فقئت إحدى عينيه، وقاتل عمرو بن الحمق،
وكان من عباد أهل الكوفة، ومعه النساك قتالا شديدا، فضرب بسيفه حتى
انثنى، ثم انصرف إلى أخيه رياح، فقال له رياح: (يا أخي، ما أحسن ما نصنع
اليوم، أن كانت الغلبة لنا).
قالوا: ولما رأى علي لوث أهل البصرة بالجمل، وانهم كلما كشفوا عنه
عادوا، فلاثوا به، قال لعمار وسعيد بن قيس وقيس بن سعد بن عبادة والأشتر
وابن بديل ومحمد بن أبي بكر وأشباههم من حماة أصحابه: (إن هؤلاء لا يزالون
يقاتلون ما دام هذا الجمل نصب أعينهم، ولو قد عقر فسقط لم تثبت له ثابتة)،
فقصدوا بذوي الجد من أصحابه قصد الجمل حتى كشفوا أهل البصرة عنه، وأفضى

(1) الإيهاط: الإثخان ضربا، أو الرمي المهلك.
(2) يتمرغان في التراب كما تفحص الدجاجة لتتخذ لها أفحوصة تبيض فيها.
150

إليه رجل من مراد الكوفة، يقال له (أعين بن ضبيعة)، فكشف عرقوبه
بالسيف، فسقط وله رغاء، فغرق في القتلى، و مال الهودج بعائشة، فقال
علي لمحمد بن أبي بكر: (تقدم إلى أختك)، فدنا محمد، فأدخل يده في الهودج،
فنالت يده ثياب عائشة، فقالت: (أنا لله، من أنت، ثكلتك أمك)، فقال (أنا أخوك محمد).
ونادى علي رضي الله عنه في أصحابه: لا تتبعوا موليا، ولا تجهزوا على جريح
، ولا تنتهبوا مالا، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن). قال: فجعلوا يمرون بالذهب والفضة في معسكرهم والمتاع، فلا يعرض له أحد إلا
ما كان من السلاح الذي قاتلوا به، و الدواب التي حاربوا عليها، فقال له بعض
أصحابه: (يا أمير المؤمنين، كيف حل لنا قتالهم، ولم يحل لنا سبيهم وأموالهم)
فقال علي رضي الله عنه: (ليس على الموحدين سبي، ولا يغنم من أموالهم إلا ما قاتلوا
به وعليه، فدعوا مالا تعرفون، والزموا ما تؤمرون).
قال: وأمر علي محمد بن أبي بكر أن ينزل عائشة فأنزلها دار عبد الله بن
خلف الخزاعي، وكان عبد الله فيمن قتل ذلك اليوم، فنزلت عند امرأته
صفية.
وقال علي رضي الله عنه لمحمد: (انظر هل وصل إلى أختك شئ؟) قال: (أصاب
ساعدها خدش سهم، دخل بين صفائح الحديد).
ودخل علي رضي الله عنه البصرة، فأتى مسجدها الأعظم، واجتمع الناس
إليه، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه صلى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم
قال: (أما بعد، فإن الله ذو رحمة واسعة وعقاب أليم، فما ظنكم بي يا أهل البصرة
جند المرأة وأتباع البهيمة؟ رغا، فقاتلتم، وعقر، فانهزمتم، أخلاقكم دقاق،
وعهدكم شقاق، وماؤكم زعاق (1)، أرضكم قريبة من الماء، بعيدة من السماء،

(1) ماء زعاق، مر غليظ لا يطاق شربه.
151

وأيم الله ليأتين عليها زمان لا يرى منها إلا شرفات مسجدها في البحر، مثل
جؤجؤ (1) السفينة، انصرفوا إلى منازلكم). ثم نزل، وانصرف إلى معسكره،
وقال لمحمد بن أبي بكر: (سر مع أختك حتى توصلها إلى المدينة، وعجل اللحوق
بي بالكوفة)، فقال: (أعفني من ذلك يا أمير المؤمنين)، فقال علي: (لا أعفيك
منه، ومالك بد). فسار بها حتى أوردها المدينة.
وشخص علي عن البصرة، واستعمل عليها عبد الله بن عباس، فلما انتهى إلى
المربد (2) التفت إلى البصرة، ثم قال: (الحمد لله الذي أخرجني من شر البقاع
ترابا، وأسرعها خرابا، وأقربها من الماء، وأبعدها من السماء. ثم سار،
فلما أشرف على الكوفة، قال: (ويحك يا كوفان، ما أطيب هواءك،
وأغذى تربتك، الخارج منك بذنب، والداخل إليك برحمة، لا تذهب الأيام
والليالي، حتى يجئ إليك كل مؤمن، ويبغض المقام بك كل فاجر، وتعمرين،
حتى إن الرجل من أهلك ليبكر إلى الجمعة فلا يلحقها من بعد المسافة).
قالوا: وكان مقدمه الكوفة يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من رجب
سنة ست وثلاثين، فقيل له: (يا أمير المؤمنين، أتنزل القصر؟)، قال:
(لا حاجة لي في نزوله، لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يبغضه، ولكني
نازل الرحبة)، ثم أقبل حتى دخل المسجد الأعظم، فصلى ركعتين، ثم نزل
الرحبة، فقال الشني يحرض عليا على المسير إلى الشام:
قل لهذا الإمام قد خبت الحرب *، وتمت بذلك النعماء
وفرغنا من حرب من نكث العهد *، وبالشام حية صماء
تنفث السم، ما لمن نهشته * فارمها قبل أن تعض شفاء
قالوا: وإن أول جمعة صلى بالكوفة خطب، فقال: (الحمد لله أحمده،

(1) الجؤجؤ: الصدر.
(2) المربد: فضاء وراء البيوت يرتفق به، وبه سمى مربد البصرة.
152

وأستعينه وأستهديه، وأومن به وأتوكل عليه، وأعوذ بالله من الضلالة
والردى، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد
أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، انتخبه
لرسالته، واختصه لتبليغ أمره، أكرم خلقه عليه، وأحبهم إليه، فبلغ
رسالة ربه، ونصح لأمته، وأدى الذي عليه صلى الله عليه وسلم، أوصيكم
عباد الله بتقوى الله، فإن تقوى الله خير ما تواصى به عباد الله، وأقربه لرضوان
الله، وأفضله في عواقب الأمور عند الله، وبتقوى الله أمرتم، وللإحسان
خلقتم، فاحذروا من الله ما حذركم من نفسه، فإنه حذر بأسا شديدا،
واخشوا الله خشية ليست بتعذير، واعملوا من غير رياء ولا سمعة، فإنه من عمل
لغير الله وكله الله إلى ما عمل، ومن عمل مخلصا له تولاه الله، وأعطاه أفضل
نيته، وأشفقوا من عذاب الله، فإنه لم يخلقكم عبثا، ولم يترك شيئا من أمركم
سدى، قد سمي آثاركم، وعلم أسراركم، وأحصى أعمالكم، وكتب آجالكم،
فلا تغرنكم الدنيا، فإنها غرارة لأهلها، والمغرور من اغتر بها، وإلى
فناء ما هي، وأن الآخرة هي دار القرار، نسأل الله منازل الشهداء، ومرافقة
الأنبياء، ومعيشة السعداء، فإنما نحن به وله).
ثم وجه عماله إلى البلدان، فاستعمل على المدائن وجوخى (1) كلها يزيد بن قيس
الأرحبي، وعلى الجبل وأصبهان محمد بن سليم، وعلى البهقباذات قرط بن كعب،
وعلى كسكر وحيزها قدامة بن عجلان الأزدي، وعلى بهرسير وإستانها عدي
ابن الحارث، وعلى إستان العالي حسان بن عبد الله البكري، وعلى إستان الزوابي
سعد (2) بن مسعود الثقفي، وعلى سجستان وحيزها ربعي بن كأس، وعلى
خراسان كلها خليد بن كأس.

(1) كورة واسعة في سواد بغداد.
(2) في الأصل: سعيد.
153

فأما خليد بن كأس فإنه لما دنا من خراسان بلغه أن أهل نيسابور خلعوا يدا
من طاعة، وأنه قدمت عليهم بنت لكسرى من كابل، فمالوا معها، فقاتلهم
خليد، فهزمهم، وأخذ ابنة كسرى بأمان، وبعث بها إلى علي. فلما أدخلت
عليه، قال لها: (أتحبين أن أزوجك من ابني هذا؟) يعني الحسن،
قالت: (لا أتزوج أحدا على رأسه أحد، فإن أنت أحببت رضيت بك)،
قال: (إني شيخ، وابني هذا من فضله كذا وكذا)، قالت: (قد أعطيتك
الجملة). فقام رجل من عظماء دهاقين العراق، يسمى نرسى، فقال: (يا أمير المؤمنين، قد بلغك أني من سنخ (1) المملكة، وأنا قرابتها، فزوجنيها)
فقال: (هي أملك بنفسها)، ثم قال لها: (انطلقي حيث شئت، وانكحي
من أحببت، لا بأس عليك).
واستعمل على الموصل، ونصيبين، ودارا، وسنجار، وآمد، وميا فارقين، وهيت،
وعانات، وما غلب عليها من أرض الشام الأشتر، فسار إليها، فلقيه الضحاك بن
قيس الفهري، وكان عليها من قبل معاوية بن أبي سفيان، فاقتتلوا بين حران (2) والرقة (3) بموضع يقال له المرج إلى وقت المساء. وبلغ ذلك معاوية، فأمد
الضحاك بعبد الرحمن بن خالد بن الوليد في خيل عظيمة، وبلغ ذلك الأشتر،
فانصرف إلى الموصل، فأقام بها يقاتل من أتاه من أجناد معاوية، ثم كانت
وقعة صفين.

(1) السنخ: الأصل من كل شئ.
(2) حران: مدينة قديمة فيما بين النهرين، قاعدة بلاد مضر، فتحها العرب على يد عياض
ابن غنم سنة 639 م، وقد اشتهرت بالفلاسفة والعلماء أمثال ثابت بن قرة والبتاني
(3) الرقة: قاعدة ديار مضر في الجزيرة على الفرات، وعندما قطع علي بن أبي طالب نهر
الفرات في وقعة صفين سنة 656 م، وفيها آثار قديمة.
154

(وقعة صفين) (1)
قالوا: وضربت الركبان إلى الشام بنعي عثمان، وتحريض معاوية على
الطلب بدمه، فبينا معاوية ذات يوم جالس إذ دخل عليه رجل، فقال: (السلام
عليك يا أمير المؤمنين، فقال معاوية: وعليك، من أنت، لله أبوك؟
فقد روعتني بتسليمك علي بالخلافة قبل أن أنالها)، فقال: (أنا الحجاج بن
خزيمة بن الصمة)، قال: (ففيم قدمت؟)، قال: (قدمت قاصدا إليك
بنعي عثمان)، ثم أنشأ يقول:
إن بني عمك عبد المطلب * هم قتلوا شيخكم غير الكذب
وأنت أولى الناس بالوثب فثب * وسر مسير المحزئل (2) المتلئب
قال: ثم إني كنت فيمن خرج مع يزيد بن أسد لنصر عثمان، فلم نلحقه،
فلقيت رجلا، ومعي الحارث بن زفر، فسألناه عن الخبر، فأخبرنا بقتل عثمان،
وزعم أنه ممن شايع على قتله، فقتلناه، وإني أخبرك، أنك تقوى بدون ما
يقوى به علي، لأن معك قوما لا يقولون إذا سكت، ويسكتون إذا نطقت، ولا
يسألون إذا أمرت، ومع علي قوم يقولون إذا قال، ويسألون إذا سكت، فقليلك
خير من كثيرة، وعلي لا يرضيه إلا سخطك، ولا يرضى بالعراق دون الشام،
وأنت ترضى بالشام دون العراق، فضاق معاوية بما أتاه به الحجاج بن خزيمة ذرعا،
وقال:
أتاني أمر فيه للناس غمه * وفيه بكاء للعيون طويل
مصاب أمير المؤمنين، وهذه * تكاد لها صم الجبال تزول
فلله عينا من رأى مثل هالك * أصيب بلا ذحل وذاك جليل (3)

(1) كان مبدأ محاربات صفين في أول صفر سنة 37 ه‍ (يوليه سنة 657).
(2) المحزئل: المرتفع.
(3) الذحل: الثأر.
155

تداعت عليه بالمدينة عصبة * فريقان، منهم قاتل وخذول
دعاهم، فصموا عنه عند دعائه * وذاك على ما في النفوس دليل
سأنعى أبا عمرو بكل مثقف * وبيض لها في الدارعين صليل
تركتك للقوم الذين تظافروا * عليك، فماذا بعد ذاك أقول
فلست مقيما ما حييت ببلدة * أجر بها ذيلي وأنت قتيل
وأما التي فيها مودة بيننا * فليس إليها ما حييت سبيل
سألقحها حربا عوانا ملحة * وإني بها من عامنا لكفيل
وكتب علي إلى جرير بن عبد الله البجلي، وكان عامل عثمان بأرض الجبل مع
زحر بن قيس الجعفي، يدعوه إلى البيعة له، فبايع وأخذ بيعة من قبله، وسار
حتى قدم الكوفة.
وكتب إلى الأشعث بن قيس بمثل ذلك، وكان مقيما بآذربيجان طول ولاية
عثمان بن عفان، وكانت ولايته مما عتب الناس فيه على عثمان، لأنه ولاه عند
مصاهرته إياه، وتزويج ابنة الأشعث من ابنه، ويقال إن الأشعث هو الذي افتتح عامة
آذربيجان، وكان له بها أثر ونصح واجتهاد، وكان كتابه إليه مع زياد بن مرحب،
فبايع لعلي، وسار حتى قدم عليه الكوفة.
وإن عليا أرسل جرير بن عبد الله إلى معاوية يدعوه إلى الدخول في طاعته،
والبيعة له، أو الإيذان بالحرب، فقال الأشتر: (ابعث غيره فإني لا آمن مراهنته)
فلم يلتفت إلى قول الأشتر. فسار جرير إلى معاوية بكتاب علي، فقدم على معاوية،
فألفاه وعنده وجوه أهل الشام، فناوله كتاب علي، وقال: (هذا كتاب علي
إليك، وإلى أهل الشام يدعوكم إلى الدخول في طاعته، فقد اجتمع له الحرمان،
والمصران، والحجازان، واليمن، والبحران، وعمان، واليمامة، ومصر، وفارس،
والجبل، وخراسان، ولم يبق إلا بلادكم هذه، وإن سال عليها واد من أوديته
غرقها).
156

وفتح معاوية الكتاب فقرأه: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله علي أمير
المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان، أما بعد فقد لزمك ومن قبلك من المسلمين بيعتي،
وأنا بالمدينة، وأنتم بالشام، لأنه بايعني الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم.
فليس للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يرد، وإنما الأمر في ذلك للمهاجرين
والأنصار، فإذا اجتمعوا على رجل مسلم، فسموه إماما، كان ذلك لله رضى، فإن
خرج من أمرهم أحد بطعن فيه أو رغبة عنه رد إلى ما خرج منه، فإن أبي قاتلوه على
اتباعه غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى، ويصله جهنم وساءت مصيرا،
فادخل فيما دخل فيه المهاجرون والأنصار، فإن أحب الأمور فيك وفيمن قبلك
العافية، فإن قبلتها وإلا فائذن بحرب، وقد أكثرت في قتلة عثمان، فادخل فيما
دخل فيه الناس، ثم حاكم القوم إلي، أحملك وإياهم على ما في كتاب الله وسنة نبيه،
فأما تلك التي تريدها، فإنما هي خدعة الصبي عن الرضاع).
فجمع معاوية إليه أشراف أهل بيته، فاستشارهم في أمره، فقال أخوه عتبة بن
أبي سفيان: (استعن على أمرك بعمرو بن العاص) وكان مقيما في ضيعة له من حيز
فلسطين، قد اعتزل الفتنة. فكتب إليه معاوية (أنه قد كان من أمر علي في طلحة
والزبير وعائشة أم المؤمنين ما بلغك، وقد قدم علينا جرير بن عبد الله في أخذنا ببيعة
علي، فحبست نفسي عليك، فأقبل، أناظرك في ذلك، والسلام).
فسار ومعه ابناه عبد الله ومحمد حتى قدم على معاوية، وقد عرف حاجة معاوية
إليه، فقال له معاوية: (أبا عبد الله، طرقتنا في هذه الأيام ثلاثة أمور، ليس فيها
ورد ولا صدر)، قال: (وما هن؟) قال: (أما أولهن، فإن محمد بن
أبي حذيفة كسر السجن وهرب نحو مصر فيمن كان معه من أصحابه، وهو من
أعدى الناس لنا، وأما الثانية فإن قيصر الروم قد جمع الجنود ليخرج إلينا
فيحاربنا على الشام، وأما الثالثة فإن جريرا قدم رسولا لعلي بن أبي طالب يدعونا
إلى البيعة له أو إيذان بحرب).
157

قال عمرو: (أما ابن أبي حذيفة فما يغمك من خروجه من سجنه في أصحابه،
فأرسل في طلبه الخيل، فإن قدرت عليه قدرت، وإن لم تقدر عليه لم يضرك،
وأما قيصر، فاكتب إليه تعلمه، أنك ترد عليه جميع من في يديك من
أسارى الروم، وتسأله الموادعة والمصالحة تجده سريعا إلى ذلك، راضيا بالعفو منك،
وأما علي بن أبي طالب فإن المسلمين لا يساوون بينك وبينه).
قال معاوية: (إنه مالأ على قتل عثمان، وأظهر الفتنة، وفرق الجماعة).
قال عمرو: (إنه وإن كان كذلك، فليست لك مثل سابقته وقرابته،
ولكن ما لي أن شايعتك على أمرك حتى تنال ما تريد؟).
قال: (حكمك).
قال عمرو: (اجعل لي مصر طعمة ما دامت لك ولاية).
فتلكأ معاوية، وقال: (يا عبد الله، لو شئت أن أخدعك خدعتك).
قال عمرو: (ما مثلي يخدع).
قال له معاوية: (ادن مني أسارك).
فدنا عمرو منه، فقال: (هذه خدعة، هل ترى في البيت غيري وغيرك)
ثم قال: (يا عبد الله، أما تعلم أن مصر مثل العراق؟).
قال عمرو: (غير أنها إنما تكون لي إذا كانت لك الدنيا، وإنما تكون
لك إذا غلبت عليا).
فتلكأ عليه، وانصرف عمرو إلى رحله، فقال عتبة لمعاوية: (أما ترضى
أن تشتري عمرا بمصر إن صفت لك قليتك (1) لا تغلب على الشام).
وقال معاوية: (بت عندنا ليلتك هذه)، فبات عتبة عنده، فلما أخذ
معاوية مضجعه أنشأ عتبة:

(1) القلية: مرقة تتخذ من لحوم الجزور وأكبادها.
158

أيها المانع سيفا لم يهز * إنما ملت على خز وقز
إنما أنت خروف ناعم * بين ضرعين وصوف لم يجز
نالك الخير، فخذ من درة * شخبة الأول، واترك ما عزز
واترك الحرص عليها ضنة * وأشبب النار لمقرور يكز
إن مصرا لعلي أو لنا * يغلب اليوم عليها من عجز
وسمع معاوية ذلك، فلما أصبح بعث إلى عمرو، فأعطاه ما سأل، وكتبا بينهما
في ذلك كتابا، ثم إن معاوية استشار عمرا في أمره، وقال ما ترى؟
قال عمرو: إنه قد أتاك في هذه البيعة خبر أهل العراق من عند خير الناس،
ولست أرى لك أن تدعو أهل الشام إلى الخلافة، فإن ذلك خطر عظيم حتى تتقدم
قبل ذلك بالتوطين للأشراف منهم، وأشراب قلوبهم اليقين، بأن عليا مالأ على
قتل عثمان، واعلم أن رأس أهل الشام شرحبيل بن السمط الكندي، فأرسل إليه
ليأتيك، ثم وطن له الرجال على طريقه كله، يخبرونه بأن عليا قتل عثمان،
وليكونوا من أهل الرضا عنده، فإنها كلمة جامعة لك أهل الشام، وإن تعلق هذه
الكلمة بقلبه لم يخرجها شئ أبدا.
فدعا يزيد بن أسد، وبسر بن أبي أرطأة، وسفيان بن عمرو، ومخارق بن الحارث،
وحمزة بن مالك، وحابس بن سعد، وغير هؤلاء من أهل الرضا عند شرحبيل بن
السمط، فوطنهم له على طريقه، ثم كتب إليه يأمره بالقدوم عليه، فكان يلقى
الرجل بعد الرجل من هؤلاء في طريقه، فيخبرونه أن عليا مالأ على قتل عثمان،
ثم أشربوا قلبه ذلك.
فلما دنا من دمشق أمر معاوية أشراف الشام باستقباله، فاستقبلوه، وأظهروا
تعظيمه، فكان كلما خلا برجل منهم ألقى إليه هذه الكلمة، فأقبل حتى دخل على
معاوية مغضبا، فقال: (أبى الناس إلا أن ابن أبي طالب قتل عثمان، والله لئن
بايعته لنخرجنك من الشام)، فقال معاوية: (ما كنت لأخالف أمركم، وإنما أنا
159

واحد منكم. قال: فأردد هذا الرجل إلى صاحبه - يعني - جريرا - فعلم عند ذلك
معاوية أن أهل الشام مع شرحبيل، فقال لشرحبيل: إن هذا الذي تهم به لا يصلح
ألا برضى العامة، فسر في مدائن الشام، فأعلمهم ما نحن عليه من الطلب بثأر خليفتنا
وبايعهم على النصرة والمعونة.
فسار شرحبيل يستقري مدن الشام، مدينة بعد مدينة، ويقول: (أيها الناس،
إن عليا قتل عثمان، وإنه غضب له قوم فلقيهم، فقتلهم، وغلب على أرضهم، ولم
يبق إلا هذه البلاد، وهو واضع سيفه على عاتقه، وخائض به غمرات الموت حتى
يأتيكم، ولا يجد أحدا أقوى على قتله من معاوية، فانهضوا أيها الناس بثأر خليفتكم
المظلوم. فأجابه الناس كلهم إلا نفرا من أهل حمص نساكا، فإنهم قالوا (نلزم
بيوتنا ومساجدنا، وأنتم أعلم).
فلما ذاق معاوية أهل الشام، وعرف مبايعتهم له قال لجرير (إلحق بصاحبك،
وأعلمه أني وأهل الشام لا نجيبه إلى البيعة)، ثم كتب إليه بأبيات كعب بن جعيل:
أرى الشام تكره ملك العراق * وأهل العراق لهم كارهونا
وكل لصاحبه مبغض * يرى كل ما كان من ذاك دينا
وقالوا علي إمام لنا * فقلنا رضينا ابن هند رضينا
وقالوا نرى أن تدينوا لنا * فقلنا لهم لا نرى أن ندينا
وكل يسر بما عنده * يرى غث ما في يديه سمينا
وما في علي لمستعتب * مقال سوى ضمه المحدثينا
وليس براض ولا ساخط * ولا في النهاة ولا الآمرينا
ولا هو ساء ولا سره * ولا بد من بعد ذا أن يكونا
فلما قرأ علي رضي الله عنه قال للنجاشي أجب، فقال:
دعن معاوي ما لن يكونا * فقد حقق الله ما تحذرونا
أتاكم علي بأهل العراق * وأهل الحجاز فما تصنعونا
160

يرون الطعان خلال العجاج * وضرب القوانس في النقع دينا
هم هزموا الجمع جمع الزبير * وطلحة والمعشر الناكثينا
فإن يكره القوم ملك العراق * فقدما رضينا الذي تكرهونا
فقولوا لكعب أخي وائل * ومن جعل الغث يوما سمينا
جعلتم عليا وأشياعه * نظير ابن هند أما تستحونا
ولما رجع جرير إلى علي كثر قول الناس في التهمة له، واجتمع هو والأشتر
عند علي، فقال الأشتر: (أما والله يا أمير المؤمنين، لو أرسلتني فيما أرسلت
فيه هذا لما أرخيت من خناق معاوية، ولم أدع له بابا يرجو فتحه إلا سددته،
ولا عجلته عن الفكرة)، قال جرير: (فما يمنعك من إتيانهم؟!)، قال
الأشتر: (الآن وقد أفسدتهم، والله ما أحسبك أتيتهم إلا لتتخذ عندهم مودة،
والدليل على ذلك كثرة ذكرك مساعدتهم وتخويفنا بكثرة جموعهم، ولو أطاعني
أمير المؤمنين لحبسك وأشباهك من أهل الظنة محبسا لا يخرجون منه حتى يستتب
هذا الأمر). فغضب جرير مما استقبله به الأشتر، فخرج من الكوفة ليلا في أناس
من أهل بيته، فلحق بقر قيسيا، وهي كورة من كور الجزيرة، فأقام بها.
وغضب علي لخروجه عنه، فركب إلى داره، فأمر بمجلس له فأحرق،
فخرج أبو زرعة بن عمرو ابن عم جرير، فقال: (إن كان إنسان قد أجرم فإن
في هذه الدار أناسا كثيرا لم يجرموا إليك جرما، وقد روعتهم)، فقال علي:
(أستغفر الله). ثم خرج منها إلى دار لابن عم جرير، يقال له ثوير بن عامر،
وقد كان خرج معه، فشعث فيها شيئا، ثم انصرف.
قالوا: ولما فرغ علي رضي الله عنه من أصحاب الجمل خافه عبيد الله بن عمر
أن يقتله بالهرمزان، فخرج حتى لحق بمعاوية، فقال معاوية لعمرو: (قد أحيا
الله لنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقدوم عبيد الله ابنه علينا). قال:
161

فأراده معاوية على أن يقوم في الناس فيلزم عليا دم عثمان، فأبى، فاستخف به
معاوية، ثم أدناه بعد وقربه.
قالوا: ولما عزم أهل الشام على نصر معاوية، والقيام معه أقبل أبو مسلم
الخولاني، وكان من عباد أهل الشام، حتى قدم على معاوية، فدخل عليه في
أناس من العباد، فقال له: (يا معاوية قد بلغنا أنك تهم بمحاربة علي بن
أبي طالب، فكيف تناوئه (1) وليست لك سابقته؟)، فقال لهم معاوية: (لست
أدعي أني مثله في الفضل، ولكن تعلمون أن عثمان قتل مظلوما؟)، قالوا:
(نعم) (2)، قال: (فليدفع لنا قتلته حتى نسلم إليه هذا الأمر). قال أبو مسلم: (فاكتب إليه هذا الأمر،
حتى أنطلق أنا بكتابك)، فكتب:
(بسم الله الرحمن الرحيم، من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب،
سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فإن الخليفة
عثمان قتل معك في المحلة، وأنت تسمع من داره الهيعة (3)، فلا تدفع عنه بقول
ولا بفعل، وأقسم بالله لو قمت في أمره مقاما صادقا، فنهنهت (4) عنه ما عدل
بك من قبلنا من الناس أحدا، وأخرى أنت بها ظنين، إيواؤك قتلته، فهم
عضدك ويدك وأنصارك وبطانتك، وبلغنا أنك تبتهل (5) من دمه، فإن كنت
صادقا فأمكنا من قتلته، نقتلهم به، ونحن أسرع الناس إليك، وإلا فليس
لك ولا لأصحابك عندنا إلا السيف، فوالله الذي لا إله غيره لنطلبن قتلة عثمان
في البر والبحر حتى نقتلهم أو تلحق أرواحنا بالله والسلام).
فسار أبو مسلم بكتابه حتى ورد الكوفة، فدخل على علي، فناوله الكتاب،
فلما قرأه تكلم أبو مسلم، فقال (يا أبا الحسن، إنك قد قمت بأمر، ووليته،

(1) في الأصل: تناويه.
(2) في الأصل: بلى.
(3) الهيعة: صوت الصارخ للفزع.
(4) النهنهة: الزجر والكف.
(5) أي تتحلل.
162

ووالله ما نحب أنه لغيرك أن أعطيت الحق من نفسك، إن عثمان رضي الله عنه
قتل مظلوما، فادفع إلينا قتلته، وأنت أميرنا، فإن خالفك أحد من الناس
كانت أيدينا لك ناصرة، وألسنتنا لك شاهدة، وكنت ذا عذر ومحجة)، فقال له
علي: (أغد علي بالغداة). وأمر به، فأنزل، وأكرم.
فلما كان من الغد دخل إلى علي وهو في المسجد، فإذا هو بزهاء عشرة آلاف
رجل، قد لبسوا السلاح، وهم ينادون: (كلنا قتلة عثمان)، فقال أبو مسلم
لعلي: (إني لأرى قوما ما لك معهم أمر، وأحسب أنه بلغهم الذي قدمت له،
ففعلوا ذلك خوفا من أن تدفعهم إلي).
قال علي: (إني ضربت أنف هذا الأمر وعينه، فلم أر يستقيم دفعهم إليك
ولا إلى غيرك، فاجلس حتى أكتب جواب كتابك). ثم كتب:
(بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن
أبي سفيان، أما بعد، فإن أخا خولان قدم علي بكتاب منك، تذكر فيه قطعي
رحم عثمان، وتأليبي الناس عليه، وما فعلت ذلك، غير أنه رحمه الله عتب
الناس عليه، فمن بين قاتل وخاذل، فجلست في بيتي، واعتزلت أمره، إلا أن
تتجنى فتجن ما بدا لك، فأما ما سألت من دفعي إليك قتلته، فإني لا أرى
ذلك، لعلمي أنك إنما تطلب ذلك ذريعة إلى ما تأمل، ومرقاة إلى ما ترجو،
وما الطلب بدمه تريد، ولعمري لئن لم تنزع عن غيك وشقاقك لينزل بك ما ينزل
بالشاق العاصي الباغي، والسلام).
وكتب إلى عمرو بن العاص:
(بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عمرو بن العاص،
أما بعد، فإن الدنيا مشغلة عن غيرها، صاحبها منهوم فيها، لا يصيب منها
شيئا إلا ازداد عليها حرصا، ولم يستغن بما نال عما لا يبلغ، ومن وراء ذلك
فراق ما جمع، والسعيد من أتعظ بغيره، فلا تحبط عملك بمجاراة معاوية
في باطله، فإنه سفه الحق واختار الباطل والسلام.
163

فكتب إليه عمرو بن العاص:
(من عمرو بن العاص إلى علي بن أبي طالب، أما بعد، فإن الذي فيه صلاحنا
وألفة ذات بيننا أن تجيب إلى ما ندعوك إليه، من شورى تحملنا وإياك على الحق،
ويعذرنا الناس لها بالصدق والسلام).
قالوا: ولما أجمع علي على المسير إلى أهل الشام، وحضرت الجمعة صعد المنبر، فحمد
الله وأثنى عليه، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (أيها الناس، سيروا
إلى أعداء السنن والقرآن، سيروا إلى قتلة المهاجرين والأنصار، سيروا إلى الجفاة
الطغام الذين كان إسلامهم خوفا وكرها، سيروا إلى المؤلفة قلوبهم ليكفوا عن
المسلمين بأسهم).
فقام إليه رجل من فزارة، يسمى أربد، فقال: (أتريد أن تسير بنا إلى
إخواننا من أهل الشام فنقتلهم كما سرت بنا إلى إخواننا من أهل البصرة، فقتلناهم؟
كلا، ها الله، إذا لا نفعل ذلك).
فقام الأشتر، فقال: (أيها الناس، من لهذا؟) فهرب الفزاري وسعى
شؤبوب (1) من الناس في أثره، فلحقوه بالكناسة (2) فضربوه بنعالهم حتى سقط،
ثم وطئوه بأرجلهم حتى مات، فأخبر بذلك علي رضي الله عنه فقال: (قتيل
عمية، لا يدرى من قتله) فدفع ديته إلى أهله من بيت المال، وقال بعض شعراء
بني تميم:
أعوذ بربي أن تكون منيتي * كما مات في سوق البراذين أربد
تعاوره همدان خصف نعالهم * إذا رفعت عنه يد وقعت يد
وقام الأشتر، فقال: (يا أمير المؤمنين، لا يؤيسنك من نصرتنا ما سمعت
من هذا الخائن، إن جميع من ترى من الناس شيعتك، لا يرغبون بأنفسهم عنك،

(1) الشؤبوب: الدفعة من المطر، والمراد الجماعة.
(2) اسم موضع بالكوفة.
164

ولا يحبون البقاء بعدك، فسر بنا إلى أعدائك، فوالله ما ينجو من الموت من خافه،
ولا يعطي البقاء من أحبه، ولا يعيش بالأمل إلا المغرور).
فأجابه جل الناس إلى المسير، إلا أصحاب عبد الله بن مسعود، وعبيدة
السلماني، والربيع بن خثيم في نحو من أربعمائة رجل من القراء، فقالوا: (يا أمير المؤمنين، قد شككنا في هذا القتال، مع معرفتنا فضلك، ولا غنى بك
ولا بالمسلمين عمن يقاتل المشركين، فولنا بعض هذه الثغور لنقاتل عن أهله).
فولاهم ثغر قزوين والري، وولى عليهم الربيع بن خثيم، وعقد له لواء،
وكان أول لواء عقد في الكوفة.
قالوا: وبلغ عليا أن حجر بن عدي وعمرو بن الحمق يظهران شتم معاوية،
ولعن أهل الشام، فأرسل إليهما أن كفا عما يبلغني عنكما. فأتياه، فقالا:
(يا أمير المؤمنين، ألسنا على الحق، وهم على الباطل؟)، قال: (بلى، ورب
الكعبة المسدنة)، قالوا: (فلم تمنعنا من شتمهم ولعنهم؟)، قال:
(كرهت لكم أن تكونوا شتامين لعانين، ولكن قولوا: (اللهم أحقن دماءنا
ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحق
من جهله، ويرعوي عن الغي من لجج به).
قالوا: ولما عزم علي رضي الله عنه على الشخوص أمر مناديا، فنادى بالخروج
إلى المعسكر بالنخيلة (1)، فخرج الناس مستعدين، واستخلف علي على الكوفة
أبا مسعود الأنصاري، وهو من السبعين الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة. وخرج علي رضي الله عنه إلى النخيلة، وأمامه عمار بن ياسر،
فأقام بالنخيلة معسكرا، وكتب إلى عماله بالقدوم عليه.
ولما انتهى كتابه إلى ابن عباس ندب الناس، وخطبهم، وكان أول من
تكلم الأحنف بن قيس، ثم قام خالد بن المعمر السدوسي، ثم قام عمرو بن مرحوم

(1) موضع بالبادية قرب الكوفة على سمت الشام.
165

العبدي، وكلهم أجاب، فخلف علي البصرة أبا الأسود الديلي، وسار بالناس
حتى قدم علي على بالنخيلة.
فلما اجتمع إلى علي قواصيه، وانضمت إليه أطرافه تهيأ للمسير من النخيلة،
ودعا زياد بن النضر وشريح بن هانئ، فعقد لكل واحد منهما على ستة آلاف
فارس، وقال: (ليسر كل واحد منكما منفردا عن صاحبه، فإن جمعتكما حرب،
فأنت يا زياد الأمير، واعلما أن مقدمة القوم عيونهم، وعيون المقدمة طلائعهم،
فإياكما أن تسأما عن توجيه الطلائع، ولا تسيرا بالكتائب والقبائل من لدن
مسير كما إلى نزولكما إلا بتعبية وحذر، وإذا نزلتم بعدو أو نزل بكم، فليكن
معسكركم في أشرف المواضع ليكون ذلك لكم حصنا حصينا، وإذا غشيكم الليل
فحفوا عسكركم بالرماح والترسة، وليليهم الرماة، وما أقمتم فكذلك فكونوا،
لئلا يصاب منكم غرة، واحرسا عسكركما بأنفسكما، ولا تذوقا نوما إلا غرارا
ومضمضة، وليكن عندي خبركما، فإني ولا شئ إلا ما شاء الله حثيث السير
في إثركما، ولا تقاتلا حتى تبدأ أو يأتيكما أمري إن شاء الله).
فلما كان اليوم الثالث من مخرجهما قام في أصحابه خطيبا، فقال: (يا أيها
الناس، نحن سائرون غدا في آثار مقدمتنا، فإياكم والتخلف، فقد خلفت مالك بن
حبيب اليربوعي، وجعلته على الساقة، وأمرته ألا يدع أحدا إلا ألحقه بنا)
فلما أصبح نادى في الناس بالرحيل، وسار، فلما انتهى إلى رسوم مدينة
بابل، قال لمن كان يسايره من أصحابه: (إن هذه مدينة قد خسف بها مرارا،
فحركوا خيلكم، وأرخوا أعنتها، حتى تجوزوا موضع المدينة، لعلنا ندرك
العصر خارجا منها). فحرك، وحركوا دوابهم، فخرج من حد المدينة وقد
حضرت الصلاة، فنزل، فصلى بالناس، ثم ركب، وسار حتى انتهى إلى دير كعب
فجاوزه، وأتى ساباط المدائن، فنزل فيه بالناس، وقد هيئت له فيه الأنزال.
. فلما أصبح ركب وركب الناس معه، وإنهم لثمانون ألف رجل، أو يزيدون،
166

سوى الأتباع والخدم، ثم سار حتى أتى مدينة الأنبار، فلما وافى المدائن عقد
لمعقل بن قيس في ثلاثة آلاف رجل، وأمره أن يسير على الموصل ونصيبين حتى
يوافيه بالرقة (1)، فسار حتى وافى حديثة الموصل، وهي إذ ذاك المصر، وإنما بنى
الموصل بعد ذلك مروان بن محمد.
فلما انتهى معقل إليها إذا هو بكبشين يتناطحان، ومع معقل رجل من خثعم
يزجر، فجعل الخثعمي يقول: (إيه، إيه،) فأقبل رجلان، فأخذ كل منهما
كبشا، فقاده وانطلق به. فقال الخثعمي لمعقل (لا تغلبون ولا تغلبون) فقال
معقل: (يكون خيرا، إن شاء الله).
ثم مضى حتى وافى عليا وقد نزل (البليخ) (2) فأقام ثلاثا، ثم أمر بجسر، فعقد،
وعبر الناس، ولما قطع علي رضي الله عنه الفرات أمر زياد بن النضر وشريح
ابن هانئ أن يسيرا أمامه، فسارا حتى انتهيا إلى مكان يدعى (سور الروم) لقيهما
أبو الأعور السلمي في خيل عظيمة من أهل الشام، فأرسلا إلى علي يعلمانه ذلك.
فأمر علي الأشتر أن يسير إليهما، وجعله أميرا عليهما، فسار حتى وافى
القوم، فاقتتلوا، وصبر بعضهم لبعض حتى جن عليهم الليل، وانسل أبو الأعور
في جوف الليل حتى أتى معاوية.
وأقبل معاوية بالخيل نحو صفين، وعلى مقدمته سفيان بن عمرو، وعلى ساقته
بسر (3) بن أبي أرطأة العامري، فأقبل سفيان بن عمرو، ومعه أبو الأعور،
حتى وافيا صفين، وهي قرية خراب من بناء الروم، منها إلى الفرات غلوه (4)،
وعلى شط الفرات مما يليها غيضة (5) ملتفة، فيها نزور طولها نحو من فرسخين،
وليس في ذينك الفرسخين طريق إلى الفرات إلا طريق واحد مفروش بالحجارة،

(1) مدينة مشهورة على الفرات من الجانب الشرقي.
(2) نهر بالرقة يجتمع فيه الماء من عيون.
(3) في الأصل: بشر.
(4) الغلوة: قدر رمية بسهم وقد تستعمل في سباق الخيل.
(5) الغيضة بالفتح: الأجمة، ومجتمع الشجر في مغيض ماء.
167

وسائر ذلك خلاف وغرب ملتف لا يسلك، وجميع الغيضة نزور ووحل
إلا ذلك الطريق الذي يأخذ من القرية إلى الفرات.
فأقبل سفيان بن عمرو وأبو الأعور حتى سبقا إلى موضع القرية، فنزلا هناك
مع ذلك الطريق، ووافاهما معاوية بجميع الفيلق، حتى نزل معهما، وعسكر
مع القرية، وأمر معاوية أبا الأعور أن يقف في عشرة آلاف من أهل الشام على
طريق الشريعة، فيمنع من أراد السلوك إلى الماء من أهل العراق.
وأقبل علي رضي الله عنه حتى وافى المكان، فصادف أهل الشام قد احتووا على
القرية والطريق، فأمر الناس، فنزلوا بالقرب من عسكر معاوية، وانطلق السقاءون
والغلمان إلى طريق الماء، فحال أبو الأعور بينهم وبينه.
وأخبر علي رضي الله عنه بذلك، فقال لصعصعة بن صوحان (إيت معاوية،
فقل له، إنا سرنا إليكم لنعذر قبل القتال، فإن قبلتم كانت العافية أحب إلينا،
وأراك قد حلت بيننا وبين الماء، فإن كان أعجب إليك أن ندع ما جئنا له، ونذر الناس
يقتتلون على الماء حتى يكون الغالب هو الشارب فعلنا.
فقال الوليد: (أمنعهم الماء كما منعوه أمير المؤمنين عثمان، اقتلهم عطشا،
قتلهم الله).
فقال معاوية لعمرو بن العاص: ما ترى؟.
قال: (أرى أن تخلي عن الماء، فإن القوم لن يعطشوا وأنت ريان).
فقال عبد الله بن أبي سرح، وكان أخا عثمان لأمه: (أمنعهم الماء إلى الليل،
لعلهم أن ينصرفوا إلى طرف الغيضة، فيكون انصرافهم هزيمة).
فقال صعصعة لمعاوية: (ما الذي ترى؟).
قال معاوية: ارجع، فسيأتيكم رأيي). فانصرف صعصعة إلى علي، فأخبره
بذلك.
وظل أهل العراق يومهم ذلك وليلتهم بلا ماء إلا من كان ينصرف من الغلمان
إلى طرف الغيضة، فيمشي مقدار فرسخين، فيستقي، فغم عليا رضي الله عنه
168

أمر الناس غما شديدا، وضاق بما أصابهم من العطش ذرعا، فأتاه الأشعث بن قيس
فقال: يا (أمير المؤمنين، أيمنعنا القوم الماء وأنت فينا ومعنا سيوفنا؟ ولني الزحف
إليه، فوالله لا أرجع أو أموت، ومر الأشتر فلينضم إلي في خيله)، فقال له علي:
(إيت في ذلك ما رأيت). فلما أصبح زاحف أبا الأعور، فاقتتلوا، وصدقهم الأشتر والأشعث حتى نفيا
أبا الأعور وأصحابه عن الشريعة، وصارت في أيديهما، فقال عمرو بن العاص
لمعاوية: (ما ظنك بالقوم اليوم إن منعوك الماء كما منعتهم أمس؟، فقال
معاوية: (دع ما مضى، (ما ظنك بعلي؟)، قال: (ظني أنه لا يستحل
منك ما استحللت منه، لأنه أتاك في غير أمر الماء).
ثم توادع الناس، وكف بعضهم عن بعض، وأمر علي ألا يمنع أهل الشام
من الماء، فكانوا يسقون جميعا، ويختلط بعضهم ببعض، ويدخل بعضهم
في معسكر بعض، فلا يعرض أحد من الفريقين لصاحبه إلا بخير، ورجوا أن
يقع الصلح.
وأقبل عبيد الله بن عمر بن الخطاب حتى استأذن على علي، فأذن له، فدخل
عليه، فقال له علي: (أقتلت الهرمزان ظلما، وقد كان أسلم على يدي عمي العباس،
وفرض له أبوك في ألفين، وترجو أن تسلم مني؟).
فقال له عبيد الله: (الحمد لله الذي جعلك تطلبني بدم الهرمزان، وأنا أطلبك
بدم أمير المؤمنين عثمان).
فقال له علي: (ستجمعنا وإياك الحرب، فتعلم).
قال: فلم يزالوا يتراسلون شهري ربيع (1) وجمادى الأولى، ويفزعون فيما بين ذلك،
يزحف بعضهم إلى بعض، فيحجز بينهم القراء والصالحون، فيفترقون من غير

(1) ربيع الثاني من سنة 37 ه‍ = أغسطس 657 م.
169

حرب حتى فزعوا في هذه الثلاثة الأشهر خمسا وثمانين فزعة، كل ذلك يحجز بينهم
القراء.
فلما انقضت جمادى الأولى بات علي رضي الله عنه يعبي أصحابه، ويكتب
كتائبه، وبعث إلى معاوية يؤذنه بحرب، فعبى معاوية أيضا أصحابه، وكتب
كتائبه
. فلما أصبحوا تزاحفوا وتواقفوا تحت راياتهم في صفوفهم، ثم تحاجزوا، فلم
تكن حرب، وكانوا يكرهون أن يلتقوا بجميع الفيلقين مخافة الاستئصال، غير أنه
يخرج الجماعة من هؤلاء إلى الجماعة من أولئك، فيقتتلون بين العسكرين، فكانوا
كذلك حتى أهل هلال رجب، فأمسك الفريقان.
قالوا: وأقبل أبو الدرداء وأبو أمامة الباهلي حتى دخلا على معاوية، فقالا:
(علام تقاتل عليا، وهو أحق بهذا الأمر منك؟). قال: (أقاتله على دم عثمان).
قالا: (أو هو قتله؟).
قال: (آوى قتلته، فسلوه أن يسلم إلينا قتلته، وأنا أول من يبايعه من
أهل الشام).
فأقبلا إلى علي رضي الله عنه، فأخبراه بذلك. فاعتزل من عسكر علي زهاء عشرين
ألف رجل، فصاحوا: (نحن جميعا قتلنا عثمان).
فخرج أبو الدرداء وأبو أمامة فلحقا ببعض السواحل، ولم يشهدا شيئا من
تلك الحروب.
وإن معاوية بعث إلى شرحبيل بن السمط، وحبيب بن مسلمة، ومعن بن يزيد
ابن الأخنس، وقال: (انطلقوا إليه، وسلوه أن يسلم إلينا قتلة عثمان،
ويتخلى مما هو فيه حتى نجعلها شورى بين المسلمين، يختارون لأنفسهم من رضوا
وأحبوا).
فأقبلوا حتى دخلوا على علي رضي الله عنه، فبدأ حبيب بن مسلمة، فتكلم
170

بما حمله معاوية، فقال له علي: (وما أنت وذاك، لا أم لك، فلست هناك؟!)
فقام حبيب مغضبا، فقال: (والله لتريني بحيث تكره)، قال شرحبيل:
(أفلا تسلم إلينا قتلة عثمان؟)، (قال علي: (إني لا أستطيع ذلك، وهم زهاء
عشرين ألف رجل)، فقاما عنه، فخرجا، قالوا: فمكث الناس كذلك إلى
أن انسلخ المحرم (1).
وفي ذلك يقول حابس بن سعد الطائي، وكان صاحب لواء طيئ مع معاوية:
فما بين المنايا غير سبع * بقين من المحرم أو ثمان
ألم يعجبك أنا قد هجمنا * وإياهم على الموت العيان
أينهانا كتاب الله عنهم * ولا ينهاهم آي القرآن
فلما انسلخ المحرم بعث علي مناديا، فنادى في عسكر معاوية عند غروب
الشمس: (إنا أمسكنا لتنصرم الأشهر الحرم، وقد تصرمت، وإنا ننبذ إليكم
على سواء، إن الله لا يحب الخائنين).
فبات الفريقان يكتبون الكتائب، وقد أوقدوا النيران في العسكرين، فلما
أصبحوا تزاحفوا، وقد استعمل علي على الخيل عمار بن ياسر، وعلى الرجالة عبد
الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي، ودفع الراية العظمى إلى هاشم بن عتبة المرقال،
وجعل على الميمنة الأشعث بن قيس وعلى الميسرة عبد الله بن عباس، وعلى رجالة
الميمنة سليمان بن صرد، وعلى رجالة الميسرة الحارث بن مرة العبدي، وجعل في
القلب مضر، وفي الميمنة ربيعة، وفي الميسرة أهل اليمن، وضم قريشا وأسدا وكنانة
إلى عبد الله بن عباس، وضم كندة إلى الأشعث، وضم بكر البصرة إلى الحضين (3) ابن المنذر، وضم تميم البصرة إلى الأحنف بن قيس، وولى أمر خزاعة عمرو بن
الحمق، وولى بكر الكوفة نعيم بن هبيرة، وولى سعد رباب البصرة خارجة

(1) من سنة 38 ه‍.
(2) في الأصل: الحصين.
171

ابن قدامة، وولى بجيلة رفاعة بن شداد، وولى ذهل الكوفة رويما الشيباني،
وولى حنظلة البصرة أعين بن ضبيعة، وجعل على قضاعة كلها عدي بن حاتم، وجعل
على لهازم الكوفة عبد الله بن بديل، وعلى تميم الكوفة عمير بن عطارد، وعلى الأزد
جندب بن زهير، وعلى ذهل البصرة خالد بن المعمر، وعلى حنظلة الكوفة شبث
ابن ربعي، وعلى همدان سعد بن قيس، وعلى لهازم البصرة خزيمة بن خازم،
وعلى سعد رباب الكوفة أبا صرمة، واسمه الطفيل، وعلى مذحج الأشتر، وعلى
عبد قيس الكوفة عبد الله بن الطفيل، وعلى عبد قيس البصرة عمرو بن حنظلة، وعلى
قيس البصرة شدادا الهلالي، وعلى اللفيف من القواصي القاسم بن حنظلة
الجهني.
واستعمل معاوية على الخيل عبد الله بن عمرو بن العاص، وعلى الرجالة مسلم
ابن عقبة، لعنه الله، وعلى الميمنة عبيد الله بن عمر بن الخطاب، وعلى الميسرة حبيب
ابن مسلمة، ودفع اللواء الأعظم إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، واستعمل على
أهل دمشق الضحاك بن قيس، وعلى أهل حمص ذا الكلاع، وعلى أهل قنسرين
زفر بن الحارث، وعلى أهل الأردن سفيان بن عمرو، وعلى أهل فلسطين مسلمة
ابن خالد، وعلى رجالة دمشق بسر بن أبي أرطأة، وعلى رجالة حمص حوشبا
ذا ظليم، وعلى رجالة قنسرين طريف بن حابس، وعلى رجالة الأردن عبد الرحمن
القيني، وعلى رجالة فلسطين الحارث بن خالد الأزدي، وعلى قيس دمشق همام
ابن قبيصة، وعلى قيس حمص هلال بن أبي هبيرة، وعلى رجالة الميمنة حابس
ابن ربيعة، وعلى قضاعة دمشق حسان بن بجدل، وعلى قضاعة حمص عباد
ابن يزيد، وعلى كندة دمشق عبد الله بن جون السكسكي، وعلى كندة
حمص يزيد بن هبيرة، وعلى النمر بن قاسط يزيد بن أسد العجلي، وعلى حمير
هانئ بن عمير، وعلى قضاعة الأردن مخارق بن الحارث، وعلى لخم فلسطين نابل
ابن قيس، وعلى همدان الأردن حمزة بن مالك، وعلى غسان الأردن زيد بن الحارث،
172

وعلى أهل القواصي القعقاع بن أبرهة، وعلى الخيل كلها عمرو بن العاص، وعلى
الرجالة كلها الضحاك بن قيس.
واصطف كل فريق منهم سبعة صفوف، صفين في الميمنة وصفين في الميسرة،
وثلاثة صفوف في القلب، فكان الفريقان أربعة عشر صفا، فوقفوا تحت راياتهم،
لا ينطق أحد منهم بكلمة، فخرج رجل من أهل العراق يسمى حجل بن أثال، وكان
من فرسان العرب، فوقف بين صفوف أهل العراق وأهل الشام، ثم نادى (هل
من مبارز؟ وهو متقنع بالحديد، فخرج إليه أبوه أثال، وكان من معدودي فرسان
أهل الشام متقنعا بالحديد، ولم يعلم واحد منهما من صاحبه، فتطاردا، والناس قد
شخصت أبصارهم، ينظرون، فطعن كل واحد منهما صاحبه، فلم يصنعا شيئا،
لكمال لأمتيهما، (1) فحمل الأب على الابن، فاحتضنه حتى أشاله (2) عن سرجه،
فسقط وسقط الأب عليه، فانكشفت وجوههما، فعرف كل واحد منهما صاحبه،
فانصرفا إلى عسكريهما، ثم تفرق الناس يومئذ، ولم يكن بينهما غير هذا.
فلما أصبحوا عادوا إلى مواقفهم، كما كانوا بالأمس، فخرج عتبة بن أبي سفيان
حتى وقف على فرسه بين الصفين، فدعا جعدة بن هبيرة بن أبي وهب القرشي، ليخرج
إليه، فأقبل جعدة حتى دنا من عتبة، فتجاريا ما هم فيه، وتقاولا حتى أغضب
جعدة عقبة، فتناوله عتبة بلسانه، فانصرفا مغضبين، وعبى كل منهما لصاحبه
كتيبة، فاقتتلوا بين الصفين، وأعين الناس إليهم، وباشر جعدة القتال، فانهزم
عتبة، وانصرف الفريقان لم يكن بينهم يومئذ إلا ذاك، فقال النجاشي يذكر ما كان
بينهما:
إن شتم الكريم يا عتب خطب * فاعلمنه من الخطوب عظيم
أمه أم هانئ، وأبوه * من لؤي بن غالب لصميم
إنه للهبيرة بن أبي وهب *، أقرت بفضله مخزوم

(1) اللأمة: الدرع.
(2) رفعه.
173

وقال أيضا:
ما زلت تنظر في عطفيك أبهة * لا يرفع الطرف منك التيه والصلف
لما رأيتهم صبحا حسبتهم * أسد العرين حمى أشبالها الغرف (1)
ناديت خيلك إذ عض السيوف بها * عوجي إلي، فما عاجوا وما وقفوا
هلا عطفت إلى قتلى مصرعة * منها السكون ومنها الأزد والصدف
قد كنت في منظر عن ذا ومستمع * يا عتب لولا سفاه الرأي والترف
قالوا (وخرج الأشعث في يوم من الأيام في خيل من إبطال أهل العراق،
فخرج إليه حبيب بن مسلمة في مثل ذلك من أهل الشام، فاقتتلوا بين الصفين مليا
حتى مضى جل النهار، ثم انصرفوا وقد انتصف بعضهم من بعض.
وخرج يوما آخر المرقال هاشم بن عتبة بن أبي وقاص في خيل، فخرج إليه
أبو الأعور السلمي في مثل ذلك، فاقتتلوا بين الصفين جل النهار. فلم يفر أحد
عن أحد.
وخرج يوما آخر عمار بن ياسر في خيل من أهل العراق، فخرج إليه عمرو
بن العاص في ذلك، ومعه شقة سوداء على قناة، فقال الناس: (هذا لواء عقده
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال علي رضي الله عنه: (أنا مخبركم بقصة هذا اللواء:
هذا لواء عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: من يأخذه بحقه؟، فقال عمرو:
وما حقه يا رسول الله؟ فقال: لا تفر به من كافر، ولا تقاتل به مسلما). فقد فر به
من الكافرين في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قاتل به المسلمين اليوم. فاقتتل عمرو
وعمار ذلك اليوم كله، لم يول واحد منهما صاحبه الدبر.
وخرج في يوم آخر محمد بن الحنفية، فخرج إليه عبيد الله بن عمر في مثل
عدده من أهل الشام، فقال عبيد الله لابن الحنفية: (أبرز لي) فقال محمد:

(1) الغرف: الشجر الكثيف الملتف، أي شجر كان.
174

(نزال) قال: (وذاك). فنزلا جميعا عن فرسيهما، ونظر علي إليهما، فحرك
فرسه حتى دنا من محمد، ثم نزل، وقال لمحمد: (أمسك على فرسي) ففعل.
ومشى إلى عبيد الله، فولى عنه عبيد الله، وقال: (مالي في مبارزتك من حاجة،
إنما أردت ابنك) فقال محمد: (يا أبت (1)، لو تركتني أبارزه لرجوت أن أقتله)
قال: (لو بارزته لرجوت ذلك، وما كنت آمنا أن يقتلك). واقتتلت خيلاهما إلى
أنصاف النهار، ثم انصرفت، وكل غير غالب.
وخرج في يوم آخر عبد الله بن عباس في خيل من أهل العراق، فخرج إليه
الوليد بن عتبة في مثلها من أهل الشام، فقال الوليد: (يا ابن عباس، قطعتم
أرحامكم، وقتلتم إمامكم، ولم تدركوا ما أملتم)، فقال له ابن عباس: (دع
عنك الأساطير، وابرز إلي)، فأبى الوليد، وقاتل ابن عباس يومئذ بنفسه
قتالا شديد، ثم انصرفا منتصفين.
وخرج في يوم آخر عمرو بن العاص في خيل من أهل الشام، فخرج إليه سعد بن
قيس الهمداني في مثل ذلك من أهل العراق، وعمرو يرتجز:
لا تأمنن بعدها أبا حسن * طاحنة تدقكم دق الطحن
إنا نمر الحرب إمرار الرسن (2)
فبدر ممن كان مع عمرو فتى من أهل الشام، يسمى حجر الشر، فدعا للبراز،
فبرز إليه حجر بن عدي، فاطعنا، فطعنه حجر الشر طعنة أذراه عن فرسه، وحماة
أصحابه، فانصرفا وقد جرحه السنان، فخرج إليه الحكم بن أزهر، وكان من
أشراف الكوفة، فاختلفا ضربتين، فضربه حجر الشر فقتله، ثم نادى (هل من
مبارز؟)، فبرز إليه ابن عم للحكم يسمى رفاعة بن طليق، فضربه حجر الشر
فقتله، فقال علي: (الحمد لله الذي قتل هذا مقتل عبد الله بن بديل).
وخرج في يوم آخر عبد الله بن بديل الخزاعي، وكان من أفاضل أصحاب علي

(1) في الأصل يا أبة.
(2) الرسن: محركة الجبل وما كان من زمام على أنف.
175

في خيل من أهل العراق، فخرج إليه أبو الأعور السلمي في مثل ذلك من أهل الشام
فاقتتلوا (1) هويا من النهار، فترك عبد الله أصحابه يعتركون في مجالهم، وضرب
فرسه حتى أحماه، ثم أرسله على أهل الشام، فشق جموعهم، لا يدنو منه أحد إلا
ضربه بالسيف حتى انتهى إلى الرابية التي كان معاوية عليها، فقام أصحاب معاوية
دونه، فقال معاوية: (ويحكم، إن الحديد لم يؤذن له في هذا، فعليكم بالحجارة)
فرث بالصخر حتى مات، فأقبل معاوية حتى وقف عليه، فقال: (هذا كبش
القوم) هذا كما قال الشاعر:
أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها * وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا
كليث عرين بات يحمي عرينة * رمته المنايا قصدها فتقطرا
قالوا: وكان فارس معاوية الذي يبتهي به حريث مولاه، وكان يلبس بزة
معاوية، ويستلئم سلاحه، ويركب فرسه، ويحمل متشبها بمعاوية، فإذا حمل قال
الناس: (هذا معاوية وقد كان معاوية نهاه عن علي، وقال (اجتنبه، وضع
رمحك حيث شئت). فخلا به عمرو، وقال: (ما يمنعك من مبارزة علي
، وأنت له كفء؟)، قال: (نهاني مولاي عنه)، قال: (وإني والله لأرجو
إن بارزته أن تقتله، فتذهب بشرف ذلك). فلم يزل يزين له ذلك حتى وقع
في قلب حريث.
فلما أصبحوا خرج حريث حتى قام بين الصفين، وقال: (يا أبا الحسن،
أبرز إلي، أنا حريث)، فخرج إليه علي، فضربه، فقتله.
وبعث علي يوما من تلك الأيام إلى معاوية: (لم نقتل الناس بيني وبينك؟
أبرز إلي، فأينا قتل صاحبه تولى الأمر). فقال معاوية لعمرو: (ما ترى؟)
قال: (قد أنصفك الرجل، فأبرز إليه)، فقال معاوية: (أتخدعني عن
نفسي، ولم أبرز إليه، ودوني عك والأشعرون). ثم قال:

(1) هوى بالضم وكغنى ساعة من النهار أو من الليل.
176

ما للملوك وللبراز وإنما * حظ المبارز خطفه من باز
ووجد من ذلك على عمرو، فهجره أياما، فقال عمرو لمعاوية: (أنا خارج
إلى علي غدا).
فلما أصبحوا بدر عمرو حتى وقف بين الصفين، وهو يرتجز:
شدا على شكتي لا تنكشف * يوم لهمدان ويوم للصدف
ولتميم مثله أو تنحرف * والربعيون لهم يوم عصف
إذا مشيت مشية العود النطف * اطعنهم بكل خطي ثقف (1)
ثم نادى: (يا أبا الحسن، اخرج إلي، أنا عمرو بن العاص). فخرج إليه
علي، فتطاعنا، فلم يصنعا شيئا، فانتضى على سيفه، فحمل عليه، فلما أراد
أن يجلله رمى بنفسه عن فرسه، ورفع إحدى رجليه، فبدت عورته، فصرف
على وجهه، وتركه. وانصرف عمرو إلى معاوية، فقال له معاوية: (أحمد الله
وسوداء استك يا عمرو).
قالوا: وخرج عبيد الله بن عمر بن الخطاب يوما من تلك الأيام، وكان من
فرسان العرب وإبطالها في خيل من أهل الشام، وخرج الأشتر في مثلها، فاشتدت
بينهما الحرب، فالتقى عبيد الله والأشتر، فحمل عبيد الله على الأشتر، وبدره الأشتر
يطعنه، فأخطأه، وأسرع الأشتر في أصحاب عبيد الله، فانصرف الفريقان،
وللأشتر الفضل.
وخرج يوما آخر عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وكان من معدودي رجال
معاوية، فخرج إليه عدي بن حاتم في مثلها، فاقتتلوا يومهم كله، ثم انصرفوا،
وكل غير غالب.

(1) الخطى الثقف: الرمح المعتدل.
177

وخرج يوما ذو الكلاع في أربعة آلاف فارس من أهل الشام قد تبايعوا على
الموت، فحملوا على ربيعة، وكانوا في ميسرة علي، وعليهم عبد الله بن عباس،
فتصدعت جموع ربيعة، فناداهم خالد بن المعمر: (يا معشر ربيعة أسخطتم الله)
فثابوا إليه، فاشتد القتال حتى كثرت القتلى، ونادى عبيد الله بن عمر: (أنا
الطيب ابن الطيب، فسمعه عمار، فناداه: (بل أنت الخبيث ابن الطيب).
ثم حمل عبيد الله، وهو يرتجز:
أنا عبيد الله ينميني عمر * خير قريش من مضى ومن غبر
غير رسول الله والشيخ الأغر * أبطأ عن نصر ابن عفان مضر
والربعيون، فلا اسقوا المطر
فضرب شمر بن الريان العجلي، فقتله، وكان من فرسان ربيعة.
(مقتل عبيد الله بن عمر بن الخطاب) فلما أصبحوا خرج عبيد الله فيمن كان معه بالأمس، وخرجت إليهم ربيعة،
فاقتتلوا بين الصفين، وعبيد الله أمامهم يضرب بسيفه، فحمل عليه حريث بن جابر
الحنفي، فطعنه في لبته (1)، فقتله، وقد اختلفوا في قتله، فقالت (2) همدان:
قتله هانئ بن الخطاب، وقال (ت) حضرموت: قتله مالك بن عمرو الحضرمي، وقالت
ربيعة: حريث بن جابر الحنفي، وهو المجمع عليه، فقال كعب بن جعيل يرثيه:
ألا إنما تبكي العيون لفارس * بصفين أجلت خيله وهو واقف
فأضحى عبيد الله بالقاع مسلما * تمج دما منه والعروق النوازف
ينوء وتعلوه سبائب من دم * كما لاح في جيب القميص الكفائف (3)
وقد ضربت حول ابن عم نبينا * من الموت شهباء المناكب شارف (4)

(1) المنحر وموضع القلادة من الصدر.
(2) في الأصل: فقال.
(2) السبائب جمع سبيبة وهي الشقة الرقيقة من الثياب، والكفائف طرر القميص التي لا
أهداب لها.
(4) يعني أن الكتيبة قد صارت مناكبها شهباء لما يعلوها من الحديد.
178

تموج ترى الرايات حمرا كأنها * إذا صوبت للطعن طير عواكف
جزى الله قتلانا بصفين خير ما * جزى عبادا غادرتها المواقف
(مقتل ذي الكلاع)
قالوا: وخرج ذو الكلاع في يوم من تلك الأيام في كتيبة من أهل الشام من
عك ولخم، فخرج إليه عبد الله بن عباس في ربيعة، فالتقوا، ونادى رجل من
مذحج العراق (يا آل مذحج، خذموا (1)) فاعترضت مذحج عكا يضربون
سوقهم بالسيوف، فيبركون. فنادى ذو الكلاع.. يا آل عك، بروكا كبروك
الإبل.
وحمل رجل من بكر بن وائل يسمى خندفا على ذي الكلاع، فضربه بالسيف
على عاتقه، فقد الدرع، وفري عاتقه، فخر ميتا، فلما قتل ذو الكلاع تمحكت
عك، وصبروا لعض السيوف، فلم يزالوا كذلك حتى أمسوا.
وكان أهل العراق وأهل الشام أيام صفين إذا انصرفوا من الحرب يدخل كل
فريق منهم في الفريق الآخر، فلا يعرض أحد لصاحبه، وكانوا يطلبون قتلاهم،
فيخرجونهم من المعركة، ويدفنونهم.
قالوا: وإن عليا رضي الله عنه أشاع أنه يخرج إلى أهل الشام بجميع الناس،
فيقاتلهم حتى يحكم الله بينه وبينهم، ففزع الناس لذلك فزعا شديدا، وقالوا: (إنما
كنا إلى اليوم تخرج الكتيبة إلى مثلها، فيقتتلون بين الجمعين، فإن التقينا بجميع
الفيلقين فهو فناء العرب).
وقام (على) في الناس خطيبا، فقال: (ألا إنكم ملاقو القوم غدا بجميع
الناس، فأطيلوا الليلة القيام، وأكثروا تلاوة القرآن، وسلوا الله الصبر والعفو،
والقوهم بالجد).

(1) في الأصل: خدموا والصواب: خذموا أي أسرعوا في السير.
179

فقال كعب بن جعيل:
أصبحت الأمة في أمر عجب * والملك مجموع غدا لمن غلب
أقول قولا صادقا غير الكذب * أن غدا تهلك أعلام العرب
واجتمع أهل الشام إلى معاوية، فعرضهم، فنادى مناديه: (أين الجند المقدم؟)
فخرج أهل حمص تحت راياتهم، وعليهم أبو الأعور السلمي، ثم نادى: (أين
أهل الأردن؟)، فخرجوا تحت راياتهم، وعليهم زفر بن الحارث الكلابي،
ثم نادى: (أين جند الأمير؟) فجاء أهل دمشق تحت راياتهم، وعليهم الضحاك
ابن قيس، فأطافوا بمعاوية، فعقد لعمرو بن العاص على جميع الناس، وساروا
حتى وقفوا بإزاء أهل العراق.
وقعد معاوية على منبر ينظر منه فوق رابية إلى الفريقين إذا اقتتلوا، وأقبلت
عك الشام، وقد عصبوا أنفسهم بالعمائم، وطرحوا بين أيديهم حجرا، وقالوا:
لا نولي الدبر أو يولي معنا هذا الحجر)، فصفهم عمرو خمسة صفوف، ووقف
أمامهم يرتجز:
يا أيها الجيش الصليب الإيمان * قوموا قياما، فاستعينوا الرحمن (1)
إني أتاني خبر فأبكان * إن عليا قتل ابن عفان
ردوا علينا شيخنا كما كان
وأنشأ رجل من أهل الشام يقول:
تبكي الكتيبة يوم جر حديدها * يوم الوغى جزعا على عثمانا
يسلون حق الله لا يعدونه * وسألتم لعلي السلطانا
فأتوا ببينة بما تسلونه * هذا البيان، فأحضروا البرهانا
ولما أصبح علي رضي الله عنه غلس (2). بصلاة الفجر، ثم أمر أصحابه، فخرجوا

(1) في الأصل: الرحمان.
(2) صلى الفجر في أول وقته.
180

تحت راياتهم، ثم جعل يدور على رايات أهل الشام، فيقول: (من هؤلاء؟)
فيسمون له، حتى إذا عرفهم، وعرف مراكزهم، قال لأزد الكوفة:
(اكفوني أزد الشام)، وقال لخثعم: (اكفوني خثعم)، فأمر كل قبيلة
من أهل العراق أن تكفيه أختها من أهل الشام، ثم أمرهم أن يحملوا من كل ناحية
حملة رجل واحد، فحملوا، وحمل علي رضي الله عنه على الجمع الذي كان فيه معاوية
في أهل الحجاز من قريش والأنصار وغيرهم، وكانوا زهاء اثني عشر ألف فارس،
وعلى إمامهم، وكبروا وكبر الناس تكبيرة ارتجت لها الأرض، فانتقضت
صفوف أهل الشام، واختلفت راياتهم، وانتهوا إلى معاوية، وهو جالس على
منبره، معه عمرو بن العاص، ينظران إلى الناس، فدعا بفرس ليركبه.
ثم إن أهل الشام تداعوا بعد جولتهم، وثابوا، ورجعوا على أهل العراق،
وصبر القوم بعضهم لبعض إلى أن حجز بينهم الليل، فقتل في ذلك اليوم أناس
كثير من أعلام العرب وأشرافهم، فلما أصبحوا دخل الناس بعضهم في بعض،
يستخرجون قتلاهم، فيدفنونهم يومهم ذلك كله.
ثم إن عليا قام في عشية ذلك اليوم في أصحابه فقال: (أيها الناس، اغدوا
على مصافكم، وازحفوا إلى عدوكم، وغضوا الأبصار، واخفضوا الأصوات،
وأقلوا الكلام، وأثبتوا، واذكروا الله كثيرا، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب
ريحكم، واصبروا، إن الله مع الصابرين).
وقام معاوية في أهل الشام، فقال: (أيها الناس، اصبروا وصابروا،
ولا تتخاذلوا لا تتواكلوا، فإنكم على حق، ولكم حجة، وإنما تقاتلون
من سفك الدم الحرام، فليس له في السماء عاذر).
وقام عمرو، فقال: (أيها الناس، قدموا المستلئمة وأخروا الحسر (1)،
وأعيرونا جماجمكم اليوم، فقد بلغ الحق مقطعة، وإنما هو ظالم أو مظلوم).

(1) الحاسر خلاف الدارع، ويقال للرجال في الحرب الحسر لأنه لا درع عليهم ولا بيض
على رؤوسهم.
181

فبات الفريقان طول تلك الليلة يتعبون للحرب، ثم غدوا على مصافهم،
وحمل الفريقان بعضهم على بعض، وحمل حبيب بن مسلمة، وكان على ميسرة
معاوية، على ميمنة علي رضي الله عنه، فانكشفوا وجالوا جولة، ونظر علي
إلى ذلك، فقال لسهل بن حنيف: (انهض فيمن معك من أهل الحجاز حتى
تعين أهل الميمنة، فمضى سهل فيمن كان معه من أهل الحجاز نحو الميمنة،
فاستقبلهم جموع أهل الشام، فكشفوه ومن معه حتى انتهوا إلى علي، وهو
في القلب، فجال القلب وفيه على جولة، فلم يبق مع علي إلا أهل الحفاظ
والنجدة، فحث علي فرسه نحو ميسرته، وهم وقوف يقاتلون من بإزائهم من
أهل الشام، وكانوا ربيعة.
قال زيد بن وهب: فإني لأنظر إلى علي، وهو يمر نحو ربيعة، ومعه بنوه:
الحسن والحسين ومحمد، وإن النبل ليمر بين أذنيه وعاتقه، وبنوه يقونه بأنفسهم،
فلما دنا علي من الميسرة، وفيها الأشتر، وقد وقفوا في وجوه أهل الشام
يجالدونهم، فناداه علي، وقال: (إيت هؤلاء المنهزمين، فقل: أين فراركم
من الموت الذي لم تعجزوه إلى الحياة التي لا تبقى لكم).
فدفع الأشتر فرسه، فعارض المنهزمين، فناداهم: (أيها الناس، إلي إلي،
أنا مالك بن الحارث) فلم يلتفتوا إليه، فظن أنه بالاستعراف، فقال: (أيها الناس
أنا الأشتر) فثابوا إليه، فزحف بهم نحو ميسرة أهل الشام. فقاتل بهم قتالا شديدا
حتى انكشف أهل الشام، وعادوا إلى مواقفهم الأولى.
ورتب الأشتر ميمنة علي رضي الله عنه والقلب مراتبهما قبل الجولة، فلما عادوا
إلى مواقفهم جعل على يسير في الصفوف ويؤنبهم على ما كان من جولتهم، وذلك ما
بين صلاة العصر والمغرب.
قال: ثم إن أهل الشام حملوا على تميم، وكانوا في الميمنة، فكشفوهم، فناداهم
زحر (1) بن نهشل: يا بني تميم، إلى أين؟ قالوا: (ألا ترى إلى ما قد غشينا؟!)

(1) في الأصل: زجر.
182

فقال: (ويحكم، أ فرارا واعتذارا؟! إن لم تقاتلوا على الدين، فقاتلوا على
الأحساب، احملوا معي). فحمل وحملوا، فقاتل حتى قتل، وهو أمامهم، وحمل
الناس جميعا بعضهم على بعض، واقتتلوا حتى تكسرت الرماح وتقطعت السيوف،
ثم تكادموا (1) بالأفواه، وتحاثوا بالتراب، ثم تنادوا من كل جانب: (يا معشر
العرب، من للنساء والأولاد، الله الله في الحرمات).
وإن عليا رضي الله عنه لينغمس في القوم، فيضرب بسيفه حتى ينثني، ثم
يخرج متخضبا بالدم حتى يسوى له سيفه، ثم يرجع، فينغمس فيهم، وربيعة لا
تترك جهدا في القتال معه والصبر، وغابت الشمس، وقربوا من معاوية، فقال
لعمرو: (ما ترى؟) قال: (إن تخلي سرادقك).
فنزل معاوية عن المنبر الذي كان يكون عليه، وأخلى السرادق، وأقبلت
ربيعة، و إمامها علي رضي الله عنه حتى غشوا السرادق، فقطعوه، ثم انصرفوا،
وبات علي تلك الليلة في ربيعة.
(مقتل هاشم بن عتبة بن أبي وقاص المرقال) فلما أصبح علي غادى (2) أهل الشام القتال، ودفع رايته العظمى إلى هاشم بن
عتبة، فقاتل بها نهاره كله، فلما كان العشي انكشف أصحابه انكشافه، وثبت
هاشم في أهل الحفاظ منهم والنجدة، فحمل عليهم الحارث بن المنذر التنوخي،
فطعنه طعنة جائفة (3)، فلم ينته عن القتال، ووافاه رسول علي يأمره أن يقدم رايته،
فقال للرسول: (انظر إلى ما بي) فنظر إلى بطنه، فرآه منشقا، فرجع إلى علي،
فأخبره، ولم يلبث هاشم أن سقط، وجال أصحابه عنه، وتركوه بين القتلى، فلم يلبث
أن مات. وحال الليل بين الناس وبين القتال.

(1) عض بعضهم بعضا.
(2) باكرهم.
(3) قاتله، وجأفه أي صرعه، لغة في جعفه.
183

فلما أصبح علي غلس (1) بالصلاة، وزحف بجموعه نحو القوم على التعبية الأولى،
ودفع الراية إلى ابنه عبد الله بن هاشم بن عتبة، وتزاحف الفريقان فاقتتلوا. فروي
عن القعقاع الظفري أنه قال: (لقد سمعت في ذلك اليوم من أصوات السيوف ما
الرعد القاصف دونه) وعلي رضي الله عنه واقف ينظر إلى ذلك، ويقول: (لا حول
ولا قوة إلا بالله، والله المستعان، ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق، وأنت خير
الفاتحين).
ثم حمل علي بنفسه على أهل الشام حتى غاب فيهم، فانصرف مخضبا بالدماء، فلم
يزالوا كذلك يومهم كله والليل حتى مضى ثلثه، وجرح علي خمس جراحات، ثلاث
في رأسه واثنتان في وجهه، ثم تفرقوا وغدوا على مصافهم، وعمرو بن العاص يقدم
أهل الشام، فحمل عبد الله بن جعفر ذو الجناحين في قريش والأنصار في وجه عمرو
فاقتتلوا، وحمل غلامان أخوان من الأنصار على جموع أهل الشام حتى انتهيا إلى
سرادق معاوية، فقتلا على باب السرادق، ودارت رحى الحرب إلى أن ذهب ثلث
الليل، ثم تحاجزوا، ولما أصبح الناس اختلط بعضهم ببعض، يستخرجون قتلاهم،
فيدفنونهم.
وكتب معاوية إلى علي: (أما بعد، فإني إنما أقاتلك على دم عثمان، ولم أر
المداهنة في أمره وإسلام حقه، فإن أدرك بثأري فيه فذاك، وإلا فالموت على
الحق أجمل من الحياة على الضيم، وإنما مثلي ومثل عثمان، كما قال المخارق:
فمهما تسل عن نصرتي السيد لا تجد * لدى الحرب بيت السيد عندي مذمما
فكتب إليه علي: (أما بعد، فإني عارض عليك ما عرض مخارق على
بني فالج، حيث قال:

(1) الغلس: ظلمة آخر الليل إذا اختلطت بضوء الصباح، والمراد أنه صلى الصبح في
أول وقته.
184

يا راكبا إما عرضت فبلغا * بني فالج حيث استقر قرارها
هلموا إلينا لا تكونوا كأنكم * بلاقع أرض طار عنها غبارها
سليم بن منصور أناس أعزة وأرضهم أرض كثير وبارها (1)
فكتب إليه معاوية: إنا لم نزل للحرب قادة، وإنما مثلي ومثلك ما قال
أوس بن حجر:
إذا الحرب حلت ساحة الحي أظهرت * عيوب رجال يعجبونك في الأمن
وللحرب أقوام يحامون دونها * وكم قد ترى من ذي رواء ولا يغني
ثم غدوا على الحرب، وراية أهل الشام العظمى مع عبد الرحمن بن خالد
ابن الوليد، وكان يحمل بها فلا يلقاه شئ إلا هده، وكان من فرسان العرب،
وكانت من أهل العراق جولة شديدة، فنادى الناس الأشتر، وقالوا: (أما ترى
اللواء أين قد بلغ؟)، فتناول الأشتر لواء أهل العراق، فتقدم به، وهو يرتجز:
إني أنا الأشتر معروف الشتر * إني أنا الأفعى العراقي الذكر (2)
فقاتل أهل الشام حتى رد اللواء، وردهم على أعقابهم، ففي ذلك يقول النجاشي:
رأيت اللواء كظل العقاب * يقحمه الشامي الأخزر (3)
دعونا له الكبش كبش العراق * وقد خالط العسكر العسكر
فرد اللواء على عقبه * وفاز بحظوتها الأشتر
(مقتل حوشب ذي ظليم) قالوا: وأخذ الراية جندب بن زهير، فخرج إليه حوشب ذو ظليم، وكان
من عظماء أهل الشام، وفرسانهم، فأخذ الراية وجعل يمضي بها قدما، ويتكأ

(1) أي شجرها.
(2) الشتر بالتحريك انقلاب جفن العين من أعلى وأسفل، أو استرخاء
أسفله، والأشتر لقب اشتهر به إبراهيم بن مالك بن الحارث (3) العقاب طائر عظيم، والخزر بالتحريك انكسار بصر العين خلقة، أو ضيقها وصغرها.
185

في أهل العراق، فخرج إليه سليمان بن صرد، وكان من فرسان علي، فاقتتلوا،
فقتل حوشب، وجال أهل العراق جولة انتقضت صفوفهم، وانحاز أهل الحفاظ
منهم مع علي رضي الله عنه إلى ناحية أخرى يقاتلون، وأقبل عدي بن حاتم يطلب
عليا في موضعه الذي خلفه فيه، فلم يجده، فسأل عنه، فدل عليه، فأقبل إليه،
فقال:
(يا أمير المؤمنين، أما إذ كنت حيا فالأمر أمم (1)، واعلم أني ما مشيت
إليك إلا على أشلاء القتلى، وما أبقى هذا اليوم لنا ولا لهم عميدا).
وكان أكثر من صبر في تلك الساعة مع علي وقاتل ربيعة، فقال علي رضي الله
عنه: (يا معشر ربيعة، أنتم درعي وسيفي) ثم ركب الفرس (2) الذي كان لرسول الله
صلى الله عليه وسلم - يسمى الريح - وجنب بين يديه بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم الشهباء، وتعمم بعمامته
صلى الله عليه وسلم السوداء، ثم أمر مناديه، فنادى: (أيها الناس، من يشري نفسه لله؟)
فانتدب له الناس، وانضموا إليه، فأقبل بهم على أهل الشام حتى أزال راياتهم،
وجالوا جولة قبيحة حتى دعا معاوية بفرسه ليركبها، ثم نادى مناديه في أهل الشام:
(إلى أين أيها الناس؟ أثيبوا، فإن الحرب سجال فثاب إليه الناس، وكروا
على أهل العراق.
وقال معاوية لعمرو: قدم عك والأشعرين، فإنهم كانوا أول من انهزم في هذه
الجولة. فأتاهم عمرو، فبلغهم قول معاوية، فقال رئيسهم مسروق العكي: (انتظروني
حتى آتي معاوية) فأتاه، فقال: (افرض لقومي في ألفين ألفين، ومن هلك منهم،
فابن عمه مكانه)، قال: (ذلك لك)، فانصرف إلى قومه، فأعلمهم ذلك،
فتقدموا، فاضطربوا هم وهمدان بالسيوف اضطرابا شديدا، فأقسمت عك لا ترجع
حتى ترجع همدان، وأقسمت همدان على مثل ذلك.
فقال عمرو لمعاوية: (لقيت أسد أسدا، لم أر كاليوم قط.) فقال معاوية: (لو أن معك حيا آخر كعك، ومع علي كهمدان لكان الفناء).

(1) أي يسير وهين.
(2) الفرس للذكر والأنثى من الخيل.
186

وكتب معاوية إلى علي:
(بسم الله الرحمن الرحيم، من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب،
أما بعد، فإني أحسبك أن لو علمت وعلمنا، أن الحرب تبلغ بك وبنا ما بلغت لم نجنها
على أنفسنا، فإنا وإن كنا قد غلبنا على عقولنا، فقد بقي لنا منها ما ينبغي أن نندم على
ما مضى ونصلح ما بقي، فإنك لا ترجو من البقاء إلا ما أرجو، ولا أخاف من القتل
إلا ما تخاف، وقد والله رقت الأجناد، وتفانى الرجال، ونحن بنو عبد مناف
ليس لبعضنا على بعض فضل إلا ما يستذل به العزيز، ولا يسترق به الحر، والسلام.) فكتب إليه علي رضي الله عنه:
(بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فقد أتاني كتابك، تذكر أنك لو علمت
وعلمنا أن الحرب تبلغ بك وبنا ما بلغت لم نجنها على أنفسنا، فاعلم أنك وإيانا منها
إلى غاية لم نبلغها بعد، وأما استواؤنا في الخوف والرجاء، فإنك لست أمضى على
الشك مني على اليقين، وليس أهل الشام بأحرص على الدنيا من أهل العراق على
الآخرة، وأما قولك أنا بنو عبد مناف، وليس لبعضنا على بعض فضل، فليس
كذلك، لأن أمية ليس كهاشم، ولا حربا كعبد المطلب، ولا أبا سفيان كأبي طالب،
ولا المهاجر كالطليق، وفي أيدينا فضل النبوة التي بها قتلنا العزيز، ودان لنا بها الذليل). ثم إن عليا رضي الله عنه غلس بالصلاة صلاة الفجر، وزحف بجموعه نحو
أهل الشام، فوقف الفريقان تحت راياتهم، وخرج الأشتر على فرس كميت ذنوب (1).
مقنعا بالحديد، وبيده الرمح، فحمل على أهل الشام، فاتبعه الناس، وكسر فيهم
ثلاثة أرماح، واضطرب الناس بالسيوف وعمد الحديد، وبرز رجل من أهل
الشام مقنعا بالحديد، ونادى: (يا أبا الحسن، ادن مني، أكلمك) فدنا منه علي

(1) طويل الذنب.
187

حتى اختلفت أعناق فرسيهما بين الصفين، فقال: (إن لك قدما في الإسلام
ليس لأحد، وهجرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجهادا، فهل لك
أن تحقن هذه الدماء، وتؤخر هذه الحرب برجوعك إلى عراقك، ونرجع إلى
شامنا الان تنظر وننظر في أمرنا؟).
فقال علي: (يا هذا، إني قد ضربت أنف هذا الأمر وعينيه، فلم أجده
يسعني إلا القتال أو الكفر بما أنزل الله على محمد، إن الله لا يرضى من أوليائه
أن يعصى في الأرض، وهم سكوت، لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر،
فوجدت القتال أهون من معالجة الأغلال في جهنم).
قال: فانصرف الشامي، وهو يسترجع، ثم اقتتلوا حتى تكسرت الرماح،
وتقطعت السيوف، وأظلمت الأرض من القتام (1)، وأصابهم البهر (2)، وبقي
بعضهم ينظر إلى بعض بهيرا. فتحاجزوا بالليل، وهو ليلة الهرير. ثم أصبحوا
غداة هذه الليلة، واختلط بعضهم ببعض يستخرجون قتلاهم ويدفنونهم.
ثم إن عليا قام من صبيحة ليلة الهرير في الناس خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه،
ثم قال: (أيها الناس، إنه قد بلغ بكم وبعدوكم الأمر إلى ما ترون، ولم يبق
من القوم إلا آخر نفس، فتأهبوا رحمكم الله لمناجزة عدوكم غدا، حتى يحكم الله
بيننا وبينهم، وهو خير الحاكمين).
وبلغ ذلك معاوية، فقال لعمرو: (ما ترى، فإنما هو يومنا هذا وليلتنا هذه؟)، فقال
عمرو: (إني قد أعددت بحيلتي أمرا أخرته إلى هذا اليوم، فإن قبلوه اختلفوا، وإن
ردوه تفرقوا، قال معاوية: (وما هو؟) قال عمرو: (تدعوهم إلى كتاب الله حكما بينك وبينهم، فإنك بالغ به حاجتك). فعلم معاوية أن الأمر كما قال.
قالوا: وأن الأشعث بن قيس قال لقومه، وقد اجتمعوا إليه: (قد رأيتم ما كان
في اليوم الماضي من الحرب المبيرة (3). وأنا والله إن التقينا غدا، إنه لبوار العرب
وضيعة الحرمات).

(1) الغبار. (2) البهر: انقطاع النفس أو تتابعه من الإعياء وهو وهو مبهور وبهير. (3) المسرفة في إهلاك الناس.
188

قالوا: (فانطلقت العيون إلى معاوية بكلام الأشعث، فقال: صدق الأشعث،
لئن التقينا غدا ليميلن الروم على ذراري أهل الشام، وليميلن دهاقين فارس على
ذراري أهل العراق، وما يبصر هذا الأمر إلا ذوو الأحلام، اربطوا المصاحف على
أطراف القنا (1)).
قالوا: فربطت المصاحف، فأول ما ربط مصحف دمشق الأعظم، ربط على
خمسة أرماح، يحملها خمسة رجال، ثم ربط سائر المصاحف، جميع ما كان معهم،
وأقبلوا في الغلس، ونظر أهل العراق إلى أهل الشام قد أقبلوا، وأمامهم شبيه
بالرايات، فلم يدروا ما هو، حتى أضاء الصبح، فنظروا، فإذا هي المصاحف.
ثم قام الفضل بن أدهم أمام القلب، وشريح الجذامي أمام الميمنة، وورقاء
ابن المعمر أمام الميسرة، فنادوا: (يا معشر العرب، الله. الله في نسائكم وأولادكم
من فارس والروم غدا، فقد فنيتم، هذا كتاب الله بيننا وبينكم). فقال علي رضي
الله عنه: (ما الكتاب تريدون، ولكن المكر تحاولون).
ثم أقبل أبو الأعور السلمي على برذون أشهب، وعلى رأسه مصحف، وهو
ينادي: (يا أهل العراق، هذا كتاب الله حكما فيما بيننا وبينكم).
فلما سمع أهل العراق ذلك قام كردوس بن هانئ البكري، فقال: (يا أهل
العراق، لا يهدئكم ما ترون من رفع هذه المصاحف، فإنها مكيدة). ثم تكلم
سفيان بن ثور النكري (2)، فقال: (أيها الناس، أنا قد كنا بدأنا بدعاء أهل الشام
إلى كتاب الله، فردوا علينا، فاستحللنا قتالهم، فإن رددناه عليهم حل لهم قتالنا،
ولسنا نخاف أن يحيف الله علينا ولا رسوله). ثم قام خالد بن المعمر، فقال لعلي: (يا أمير المؤمنين، ما البقاء إلا فيما دعا
القوم إليه إن رأيته، وإن لم تره فرأيك أفضل). ثم تكلم الحضين بن المنذر،
فقال: أيها الناس، إن لنا داعيا قد حمدنا ورده وصدره، وهو المأمون على ما فعل،
فإن قال: لا، قلنا: لا، وإن قال: نعم، قلنا: نعم).

(1) جمع قناة وهي الرمح.
(2) في الأصل: البكري.
189

فتكلم علي، وقال: (عباد الله، أنا أحرى من أجاب إلى كتاب الله،
وكذلك أنتم، غير أن القوم ليس يريدون بذلك إلا المكر، وقد عضتهم الحرب،
والله، لقد رفعوها وما رأيهم العمل بها، وليس يسعني مع ذلك أن ادعى إلى كتاب
الله فأبى، وكيف وإنما قاتلناهم ليدينوا بحكمه).
فقال الأشعث: (يا أمير المؤمنين نحن لك اليوم على ما كنا عليه لك أمس، غير
أن الرأي ما رأيت من أجابه القوم إلى كتاب الله حكما). فأما عدي بن حاتم وعمرو
بن الحمق فلم يهويا ذلك، ولم يشيروا على علي به.
ولما أجاب علي رضي الله عنه، قالوا له: (فابعث إلى الأشتر ليمسك عن الحرب
ويأتيك). وكان يقاتل في ناحية الميمنة، فقال علي ليزيد بن هانئ: (انطلق إلى
الأشتر، فمره أن يدع ما هو فيه، ويقبل)، فأتاه، فأبلغه، فقال: (ارجع إلى
أمير المؤمنين، فقل له إن الحرب قد اشتجرت بيني وبين أهل الناحية، فليس يجوز أن
انصرف).
فانصرف يزيد إلى علي، فأخبره بذلك، وعلت الأصوات من ناحية الأشتر،
وثار النقع (1)، فقال القوم لعلي، (والله ما نحسبك أمرته إلا بالقتال). فقال: (كيف أمرته بذلك، ولم أساره سرا؟!) ثم قال ليزيد: (عد إلى
الأشتر، فقل له. أقبل، فإن الفتنة قد وقعت). فأتاه، فأخبره بذلك.
فقال الأشتر: (الرفع هذا المصاحف؟)، قال: (نعم). قال: (أما والله
لقد ظننت بها حين رفعت، أنها ستوقع اختلافا وفرقة).
فأقبل الأشتر حتى انتهى إليهم، فقال: (يا أهل الوهن الذل، أ حين علوتم
القوم تنكلون لرفع هذه المصاحف؟ أمهلوني فواقا (2))، قالوا: (لا ندخل معك
في خطيئتك)، قال: (ويحكم، كيف بكم وقد قتل خياركم وبقي أراذلكم، فمتى
كنتم محقين؟ أحين كنتم تقاتلون أم الآن حين أمسكتم؟ فما حال قتلاكم الذين

(1) الغبار الساطع.
(2) الفواق بضم الفاء ويفتحها ما بين الحلبتين من الوقت، فالناقة تحلب ثم تترك سويعة يرضعها
الفصيل لتدر، ثم تحلب.
190

لا ننكرون فضلهم، أ في الجنة أم في النار؟). قالوا (: قاتلناهم في الله، وندع
قتالهم في الله). فقال: (يا أصحاب الجباة السود، كنا نظن أن صلاتكم عبادة
وشوق إلى الجنة، فنراكم قد فررتم إلى الدنيا، فقبحا لكم). فسبوه، وسبهم،
وضربوا وجه دابته بسياطهم، وضرب هو وجوه دوابهم بسوطه. وكان مسعر بن
فدكي وابن الكواء وطبقتهم من القراء الذين صاروا بعد خوارج كانوا من أشد
الناس في الإجابة إلى حكم المصحف.
وإن معاوية قام في أهل الشام، فقال: (أيها الناس، إن الحرب قد طالت بيننا
وبين هؤلاء القوم، وإن كل واحد منا يظن أنه على الحق وصاحبه على
الباطل، وإنا قد دعوناهم إلى كتاب الله والحكم به، فإن قبلوه، وإلا كنا قد
أعذرنا إليهم).
ثم كتب إلى علي: (أن أول من يحاسب على هذا القتال أنا وأنت، وأنا
أدعوك إلى حقن هذه الدماء وألفة الدين واطراح الضغائن، وأن يحكم بيني وبينك
حكمان، أحدهما من قبلي والآخر من قبلك، ما يجدانه مكتوبا مبينا في القرآن
يحكمان به، فأرض بحكم القرآن إن كنت من أهله).
فكتب إليه علي: (دعوت إلى حكم القرآن، وإني لأعلم أنك ليس حكمه
تحاول، وقد أجبنا القرآن إلى حكمه لا إياك، ومن لم يرض بحكم القرآن فقد
ضل ضلالا بعيدا).
وكتب إلى عمرو بن العاص: (أما بعد، فإن الدنيا مشغلة عن غيرها،
ولم يصب صاحبها منها شيئا إلا انفتح له بذلك حرص يزيده فيها رغبة، ولن
يستغني صاحبها بما نال منها عما لم ينله، ومن وراء ذلك فراق ما جمع، فلا تحبط
عملك بمجاراة معاوية على باطله، وإن لم تنته لم تضر بذلك إلا نفسك، والسلام).
فأجابه عمرو: (أما بعد، فإن الذي فيه صلاحنا وألفة ما بيننا الإنابة إلى الحق،
وقد جعلنا القرآن حكما بيننا وبينك لنرضى بحكمه، ويعذرنا الناس عند المناجزة،
والسلام).
191

فكتب إليه علي: (أما بعد، فإن الذي أعجبك مما نازعتك نفسك إليه
من طلب الدنيا منقلب عنك، فلا تطمئن إليها، فإنها غرارة، ولو اعتبرت
بما مضى انتفعت بما بقي، والسلام).
فكتب إليه عمرو: (أما بعد، فقد أنصف من جعل القرآن حكما،
فاصبر يا أبا الحسن، فإنا غير منيليك إلا ما أنا لك القرآن، والسلام).
فاجتمع قراء أهل العراق وقراء أهل الشام، فقعدوا بين الصفين، ومعهم
المصحف يتدارسونه، فاجتمعوا على أن يحكموا حكمين، وانصرفوا.
فقال أهل الشام: (قد رضينا بعمرو). وقال الأشعث ومن كان معه من قراء أهل العراق: (قد رضينا نحن
بأبي موسى).
فقال لهم علي: (لست أثق برأي أبي موسى، ولا بحزمه، ولكن أجعل
ذلك لعبد الله بن عباس).
قالوا: (والله ما نفرق بينك وبين ابن عباس، وكأنك تريد أن تكون أنت
الحاكم، بل اجعله رجلا هو منك ومن معاوية سواء، ليس إلى أحد منكما بأدنى
منه إلى الآخر).
قال علي رضي الله عنه: (فلم ترضون لأهل الشام بابن العاص، وليس
كذلك؟). قالوا: (أولئك أعلم، إنما علينا أنفسنا).
قال: (فإني أجعل ذلك إلى الأشتر).
قال الأشعث: (وهل سعر هذه الحرب إلا الأشتر، وهل نحن إلا في حكم
الأشتر؟).
قال علي: (وما حكمه؟).
قال: (يضرب بعض وجوه بعض حتى يكون ما يريد الله).
192

قال: (فقد أبيتم إلا أن تجعلوا أبا موسى). قالوا: (نعم).
قال: (فاصنعوا ما أحببتم).
قالوا: فأرسلوا رسولا إلى أبي موسى، وقد كان اعتزل الحرب، وأقام
بعرض (1) من أعراض الشام، فدخل عليه مولى له، فقال: (قد اصطلح
الناس)، قال: (الحمد لله رب العالمين). قال: (وقد جعلوك حكما).
قال: (إنا لله وإنا إليه راجعون).
فأقبل أبو موسى حتى دخل عسكر علي، فولوه الأمر، ورضوا به، فقبله.
فقال الأحنف بن قيس لعلي: (إنك قد منيت بحجر الأرض، وداهية
العرب، وقد عجمت أبا موسى، فوجدته كليل الشفرة، قريب العقر، وإنه
لا يصلح لهذا الأمر إلا رجل يدنو من صاحبه حتى يكون في كفه، ويبعد منه
حتى يكون مكان النجم، فإن شئت أن تجعلني حكما فافعل، وإلا فثانيا أو ثالثا،
فإن قلت: إني لست من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فابعث رجلا
من صحابته، واجعلني وزيرا له ومشيرا).
فقال علي: (إن القوم قد أبوا أن يرضوا بغير أبي موسى، والله بالغ أمره).
قالوا: فقال أيمن بن خريم الأسدي من أهل الشام، وكان معتزلا للقوم:
لو كان للقوم رأي يهتدون به * بعد القضاء رموكم بابن عباس
لكن رموكم بشيخ من ذوي يمن * لم يدر ما ضرب أخماس لأسداس (2)

(1) العرض: الجانب من كل شئ.
(2) تقول العرب لمن خاتل، ضرب أخماسا لأسداس، وهو مثل، أصله أن شيخا كان في
إبله ومعه أولاده رجالا يرعونها، قد طالت غربتهم عن أهلهم، فقال لهم ذات يوم: ارعوا إبلكم
بربعا، فرعوا ربعا نحو طريق أهلهم، فقالوا له، لو رعيناها خمسا، فزادوا يوما قبل أهلهم،
فقالوا لو رعيناها سدسا، ففطن الشيخ لما يريدون، فقال: ما أنتم إلا ضرب أخماس لأسداس،
ما همتكم رعيها، إنما همتكم أهلكم.
193

قالوا: وقد كان معاوية جعل لأيمن بن خريم ناحية من فلسطين على أن يبايعه،
فأبى، وقال:
لست بقاتل رجلا يصلي * على سلطان آخر من قريش
له سلطانه وعلى إثمي * معاذ الله من سفه وطيش
أأقتل مسلما في غير حق * فليس بنافعي ما عشت عيشي
(وثيقة التحكيم)
قالوا: فاجتمع أهل العراق وأهل الشام وأتوا بكاتب، وقالوا: (اكتب
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما تقاضى عليه أمير المؤمنين). فقال معاوية (بئس
الرجل أنا إن أقررت بأنه أمير المؤمنين ثم أقاتله. قال عمرو (بل اكتب اسمه واسم
أبيه). فقال الأحنف بن قيس: (يا أمير المؤمنين، لا تمح اسم أمره المؤمنين،
فإني أخاف إن محوتها لم ترجع إليك أبدا، ولا تجبهم إلى ذلك).
فقال علي: الله أكبر، سنة بسنة، أما والله لقد جرى على يدي نظير هذا -
يعني القضية يوم الحديبية (1)، وامتناع قريش أن يكتب محمد رسول الله،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم للكاتب، اكتب محمد بن عبد الله، فكتبوا.
(هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان وشيعتهما فيما تراضيا
به من الحكم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، قضية علي على أهل العراق
شاهدهم وغائبهم، وقضية معاوية على أهل الشام شاهدهم وغائبهم، إنا تراضينا أن
نقف عند حكم القرآن فيما يحكم من فاتحته إلى خاتمته، نحيي ما أحيا، ونميت ما أمات،
على ذلك تقاضيا وبه تراضيا، وإن عليا وشيعته رضوا بعبد الله بن قيس ناظرا
وحاكما، ورضي معاوية وشيعته بعمرو بن العاص ناظرا وحاكما، على أن عليا
ومعاوية أخذا على عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص عهد الله وميثاقه، وذمته وذمة

(1) قرية قريبة من مكة، سميت ببئر فيها، وقد ورد ذكرها في الحديث كثيرا.
194

رسوله أن يتخذا القرآن إماما، ولا يعدوا به إلى غيره في الحكم بما وجداه فيه
مسطورا، وما لم يجدا في الكتاب رداه إلى سنة رسول الله الجامعة، لا يتعمدان لها
خلافا، ولا يبغيان فيها بشبهة).
(وأخذ عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص على علي ومعاوية عهد الله وميثاقه
بالرضى بما حكما به مما في كتاب الله وسنة نبيه، وليس لهما أن ينقضا ذلك،
ولا يخالفاه إلى غيره، وهما آمنان في حكومتهما على دمائهما وأموالهما وأشعارهما
وأبشارهما وأهاليهما وأولادهما ما لم يعدوا الحق، رضي به راض أو سخطه ساخط،
وإن الأمة أنصارهما على ما قضيا به من الحق مما هو في كتاب الله، فإن توفي أحد
الحكمين قبل انقضاء الحكومة، فلشيعته وأصحابه أن يختاروا مكانه رجلا من
أهل المعدلة والصلاح على ما كان عليه صاحبه من العهد والميثاق، وإن مات أحد
الأميرين قبل انقضاء الأجل المحدد في هذه القضية فلشيعته أن يولوا مكانه رجلا يرضون
عدله، وقد وقعت القضية بين الفريقين والمفاوضة، ورفع السلاح، وقد وجبت
القضية على ما سمينا في هذا الكتاب من موقع الشرط على الأميرين والحكمين
والفريقين، والله أقرب شهيد، وكفى به شهيدا، فإن خالفا وتعديا فالأمة بريئة من
حكمهما ولا عهد لهما ولا ذمة، والناس آمنون على أنفسهم وأهاليهم وأولادهم إلى
انقضاء الأجل، والسلاح موضوعة والسبل آمنة، والغائب من الفريقين مثل
الشاهد في الأمر، وللحكمين أن ينزلا منزلا متوسطا عدلا بين أهل العراق وأهل
الشام، ولا يحضرهما فيه إلا من أحبا عن تراض منهما، والأجل إلى انقضاء شهر رمضان، فإن رأى الحكمان تعجيل الحكومة عجلاها، وإن رأيا تأخيرها إلى
آخر الأجل أخراها، فإن هما لم يحكما بما في كتاب الله وسنة نبيه إلى انقضاء الأجل،
فالفريقان على أمرهم الأول في الحرب، وعلى الأمة عهد الله وميثاقه في هذا الأمر،
وهم جميعا يد واحدة على من أراد في هذا الأمر إلحادا أو ظلما أو خلافا).
(شهد على ما في هذا الكتاب الحسن والحسين ابنا علي بن أبي طالب، وعبد الله
ابن عباس، وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب، والأشعث بن قيس، والأشتر)
195

ابن الحارث، وسعيد بن قيس، والحصين والطفيل ابنا الحارث بن عبد المطلب،
وأبو سعيد بن ربيعة الأنصاري، وعبد الله بن خباب بن الأرت، وسهل بن حنيف،
وأبو بشر بن عمر الأنصاري، وعوف بن الحارث بن عبد المطلب، ويزيد بن
عبد الله الأسلمي، وعقبة بن عامر الجهني، ورافع بن خديج الأنصاري،
وعمرو بن الحمق الخزاعي، والنعمان بن العجلان الأنصاري، وحجر بن عدي
الكندي، ويزيد بن حجية النكري، ومالك بن كعب الهمداني، وربيعة بن
شرحبيل، والحارث بن مالك، وحجر بن يزيد، وعلبة بن حجية.
ومن أهل الشام: حبيب بن مسلمة الفهري، وأبو الأعور السلمي، وبسر
ابن أرطأة القرشي، ومعاوية بن خديج الكندي، والمخارق بن الحارث، ومسلم
ابن عمرو السكسكي، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وحمزة بن مالك، وسبيع
ابن يزيد الحضرمي، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعلقمة بن يزيد الكلبي،
وخالد بن الحصين السكسكي، وعلقمة بن يزيد الحضرمي، ويزيد بن أبجر
العبسي، ومسروق بن جبلة العكي، وبسر بن يزيد الحميري، وعبد الله بن
عامر القرشي، وعتبة بن أبي سفيان، ومحمد بن أبي سفيان، ومحمد بن عمرو بن
العاص، وعمار بن الأحوص الكلبي، ومسعدة بن عمرو العتبي، والصباح
بن جلهمة الحميري، وعبد الرحمن بن ذي الكلاع، وثمامة بن حوشب،
وعلقمة بن حكم).
وكتب يوم الأربعاء لثلاث عشرة ليلة بقيت من صفر سنة سبع وثلاثين).
(الخلاف بعد التحكيم)
وإن الأشعث أخذ الكتاب فقرأه على الفريقين، يمر به على كل، راية راية،
وقبيلة قبيلة، فيقرؤه عليهم، فمر برايات عنزة، وكان مع علي منهم أربعة آلاف
رجل، فلما قرأه عليهم قال أخوان منهم، اسمهما جعد ومعدان: (لا حكم إلا
لله) ثم شدا على أهل الشام، فقاتلا حتى قتلا، وهما أول من حكم.
196

ثم مر على رايات مراد، فقرأه عليهم، فقال صالح بن شقيق، وكان من أفاضلهم
(لا حكم إلا لله، وإن كره المشركون، ثم مر به على رايات بني راسب،
فتنادوا (لا يحكم الرجال في دين الله)، ثم مر به على رايات بني تميم، فقالوا مثل
ذلك، فقال عروة بن أدية: (أتحكمون في دين الله الرجال، فأين قتلانا
يا أشعث؟) ثم حمل بسيفه على الأشعث، فأخطأه، وأصاب السيف عجز دابته،
فانصرف الأشعث إلى قومه، فمشى إليه سادات تميم، فاعتذروا إليه، فقبل
وصفح.
وأقبل سليمان بن صرد إلى على مضروبا في وجهه بالسيف، فقال: (يا أمير
المؤمنين، أما لو وجدت أعوانا ما كتبت هذه الصحيفة). وقام محرز بن خنيس بن
ضليع إلى علي، فقال: (يا أمير المؤمنين، أما إلى الرجوع عن هذا الكتاب سبيل،
فوالله إني لخائف أن يورثك ذلا؟). قال علي: (أبعد أن كتبناه ننقضه؟ هذا
لا يجوز)
ثم إن عليا ومعاوية اتفقا على أن يكون مجتمع الحكمين بدومة الجندل، وهو
المنصف بين العراق والشام. ووجه علي مع أبي موسى شريح بن هانئ في أربعة آلاف
من خاصته، وصير عبد الله بن عباس على صلاتهم، وبعث معاوية مع عمرو بن العاص
أبا الأعور السلمي في مثل ذلك من أهل الشام.
فساروا من صفين حتى وافوا دومة الجندل، وانصرف علي بأصحابه حتى
وافى الكوفة، وانصرف معاوية بأصحابه حتى وافى دمشق، ينتظران ما يكون
من أمر الحكمين.
وكان علي إذا كتب إلى ابن عباس في أمر اجتمع إليه أصحابه، فقالوا:
(ما كتب إليك أمير المؤمنين؟) فيكتمهم، فيقولون: (لم كتمتنا؟ وإنما
كتب إليك في كذا وكذا)، فلا يزالون يزكنون (1) حتى يقفوا على ما كتب.

(1) زكن الخبر زكنا بالتحريك علمه، وقبل الزكن: التفرس والظن الذي هو كاليقين.
197

وتأتي كتب معاوية إلى عمرو بن العاص، فلا يأتيه أحد من أصحابه، يسأله عن شئ
من أمره.
قالوا: وكتب معاوية إلى عبد الله بن عمر بن الخطاب، وإلى عبد الله بن الزبير،
وإلى أبي الجهم بن حذيفة، وإلى عبد الرحمن بن عبد يغوث: (أما بعد، فإن
الحرب قد وضعت أوزارها، وصار هذان الرجلان إلى دومة الجندل، فاقدموا
عليهما إن كنتم قد اعتزلتم الحرب، فلم تدخلوا فيما دخل فيه الناس، لتشهدوا
ما يكون منهما، والسلام). فلما أتاهم كتابه ساروا جميعا إلى دومة الجندل، فأقاموا ينتظرون ما يكون
من الرجلين، وحضر معهم سعد بن أبي وقاص، وسار المغيرة بن شعبة، وكان
مقيما بالطائف لم يشهد شيئا من تلك الحروب حتى أتى دومة الجندل، فأقام ينتظر
ما يكون منهما، فلما طال مقامه سار من هناك حتى أتى معاوية بدمشق، فقال له
معاوية: (أشر على بما ترى)، فقال له المغيرة: (لو أشرت عليك لقاتلت
معك، ولكني قد أتيتك بخبر الرجلين).
قال: (وما خبرهما؟).
قال: (إني خلوت بأبي موسى لأبلو ما عنده، فقلت: (ما تقول فيمن
اعتزل عن هذا الأمر، وجلس في بيته كراهية للدماء؟)، فقال: (أولئك
خيار الناس، خفت ظهورهم من دماء إخوانهم، وبطونهم من أموالهم).
قال: (فخرجت من عنده، وأتيت عمرو بن العاص، فقلت: (يا أبا عبد الله،
ما تقول فيمن اعتزل هذه الحروب؟)، فقال: (أولئك شرار الناس، لم يعرفوا
حقا، ولم ينكروا باطلا). (وأنا أحسب أبا موسى خالعا صاحبه، وجاعلها) لرجل لم يشهد، وأحسب هواه في عبد الله بن عمر بن الخطاب. وأما عمرو بن العاص
فهو صاحبك الذي عرفته، وأحسب سيطلبها لنفسه أو لابنه عبد الله، ولا أراه
يظن أنك أحق بهذا الأمر منه). فأقلق ذلك معاوية).
198

(مداولة الحكمين) قالوا: ثم إن عمرو بن العاص جعل يظهر تبجيل أبي موسى وإجلاله، وتقديمه
في الكلام وتوقيره، ويقول: (صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلي،
وأنت أكبر سنا مني). ثم اجتمعا ليتناظرا في الحكومة، فقال أبو موسى:
(يا عمرو، هل لك فيما فيه صلاح الأمة ورضي الله؟).
قال: (وما هو؟).
قال: (نولي عبد الله بن عمر، فإنه لم يدخل نفسه في شئ من هذه الحروب).
قال له عمرو: (أين أنت من معاوية؟).
قال أبو موسى: (ما معاوية موضعا لها، ولا يستحقها بشئ من الأمور).
قال عمرو: (ألست تعلم أن عثمان قتل مظلوما؟).
قال: (بلى).
قال: (فإن معاوية ولى عثمان، وبيته بعد في قريش ما قد علمت، فإن قال
الناس: لم ولي الأمر وليست له سابقة؟ فإن لك في ذلك عذرا، تقول: إني وجدته
ولى عثمان، والله تعالى يقول: (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا)
وهو مع هذا أخو أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أحد أصحابه).
قال أبو موسى: (اتق الله يا عمرو، أما ما ذكرت من شرف معاوية)،
فلو كان يستوجب بالشرف الخلافة، لكان أحق الناس بها أبرهة بن الصباح،
فإنه من أبناء ملوك اليمن التبابعة الذين ملكوا شرق الأرض وغربها، ثم
أي شرف لمعاوية مع علي بن أبي طالب؟، وأما قولك إن معاوية ولي عثمان،
فأولى منه ابنه عمرو بن عثمان، ولكن إن طاوعتني أحيينا سنة عمر بن الخطاب
وذكره بتوليتنا ابنه عبد الله الحبر (1)).

(1) الرجل العالم الصالح، وجمعه أحبار.
199

قال عمرو: (فما يمنعك من ابني عبد الله مع فضله وصلاحه وقديم هجرته
وصحبته؟).
فقال أبو موسى: (إن ابنك رجل صدق، ولكنك قد غمسته في هذه
الحروب غمسا، ولكن هلم نجعلها للطيب ابن الطيب عبد الله بن عمر).
قال عمرو: (يا أبا موسى، إنه لا يصلح لهذا الأمر إلا رجل له ضرسان،
يأكل بأحدهما، ويطعم بالآخر).
قال أبو موسى: (ويحك يا عمرو، إن المسلمين قد أسندوا إلينا أمرا بعد
أن تقارعوا بالسيوف وتشاكوا بالرماح، فلا نردهم في فتنة).
قال: (فما ترى؟).
قال: (أرى أن نخلع هذين الرجلين، عليا ومعاوية، ثم نجعلها شورى
بين المسلمين، يختارون لأنفسهم من أحبوا).
قال عمرو: (فقد رضيت بذلك، وهو الرأي الذي فيه صلاح الناس).
* * *
قال: فافترقا على ذلك، وأقبل ابن عباس إلى أبي موسى، فخلا به، وقال:
(ويحك يا أبا موسى، أحسب والله عمرا قد اختدعك، فإن كنتما قد اتفقتما على
شئ فقدمه قبلك ليتكلم، ثم تكلم بعده، فإن عمرا رجل غدار، ولست آمن أن
يكون قد أعطاك الرضى فيما بينك وبينه، فإذا قمت به في الناس خالفك)،
قال أبو موسى: (قد اتفقنا على أمر لا يكون لأحدنا على صاحبه فيه خلاف إن
شاء الله)
(إعلان الحكم)
فلما أصبحوا من غد خرجوا إلى الناس، وهم مجتمعون في المسجد الجامع، فقال
أبو موسى لعمرو:
(أصعد المنبر، فتكلم).
200

فقال عمرو: (ما كنت أتقدمك وأنت أفضل مني فضلا، وأقدم هجرة
وسنا).
فبدأ أبو موسى، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
(أيها الناس، إنا قد نظرنا فيما يجمع الله به ألفة هذه الأمة ويصلح أمرها،
فلم نر شيئا هو أبلغ في ذلك من خلع هذين الرجلين، علي ومعاوية، وتصييرها
شورى ليختار الناس لأنفسهم من رأوه لها أهلا، وإني قد خلعت عليا ومعاوية،
فاستقبلوا أمركم، وولوا عليكم من أحببتم) ثم نزل.
وصعد عمرو، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
(إن هذا قد قال ما سمعتم، وخلع صاحبه، ألا وإني قد خلعت صاحبه كما
خلعه، وأثبت صاحبي معاوية، فإنه ولي أمير المؤمنين عثمان، والطالب بدمه،
وأحق الناس بمقامه).
فقال له أبو موسى: (مالك، لا وفقك الله، غدرت وفجرت، وإنما
مثلك مثل الكلب، إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث).
فقال له
عمرو: (ومثلك كمثل الحمار يحمل أسفارا).
* * *
وحمل شريح بن هانئ على عمرو فقنعه (1) بالسوط، وحجز الناس بينهما،
وكان شريح يقول: (ما ندمت على شئ قط كندامتي ألا أكون ضربته
مكان السوط بالسيف، أتى الدهر في ذلك بما أتى).
وانسل أبو موسى، فركب راحلته، وهرب، حتى لحق بمكة، فكان ابن
عباس يقول: (لحي الله أبا موسى، لقد نبهته فما انتبه، وحذرته بما صار إليه فما
انحاش (2). وكان أبو موسى يقول: (لقد حذرني ابن عباس غدر عمرو،
فاطمأننت إليه، ولم أظن أنه يؤثر شيئا على نصيحة المسلمين).

(1) علاه به.
(2) ما ينحاش لشئ أي ما يكترث له.
201

(مبايعة معاوية)
ثم انصرف عمرو وأهل الشام إلى معاوية، فسلموا عليه بالخلافة.
وأقبل ابن عباس وشريح بن هانئ ومن كان معهما من أهل العراق إلى علي،
فأخبروه الخبر، فقام سعيد بن قيس الهمداني، فقال: (والله لو اجتمعنا على الهدى
ما زادنا على ما نحن عليه بصيرة). ثم تكلم عامة الناس بنحو من هذا.
(فتنة الخوارج)
قالوا: (ولما بلغ أهل العراق ما كان من أمر الحكمين لقيت الخوارج بعضها
بعضا، واتعدوا أن يجتمعوا عند عبد الله بن وهب الراسبي، فاجتمع عنده عظماؤهم
وعبادهم، فكان أول من تكلم منهم عبد الله بن وهب، فحمد الله وأثنى عليه، ثم
قال: (معاشر إخواني، إن متاع الدنيا قليل، وإن فراقها وشيك، فاخرجوا بنا
منكرين لهذه الحكومة، فإنه لا حكم إلا لله، وإن الله مع الذين اتقوا والذين هم
محسنون).
ثم تكلم حمزة بن سيار، فقال: (الرأي ما رأيتم، ومنهج الحق فيما قلتم، فولوا
أمركم رجلا منكم، فإنه لا بد لكم من قائد وسائس وراية تحفون بها، وترجعون
إليها).
فعرضوا الأمر على يزيد بن الحصين، وكان من عبادهم، فأبى أن يقبلها، ثم
عرضوها على ابن أبي أوفى العبسي، فأبى أن يقبلها، ثم عرضوها على عبد الله
ابن وهب الراسبي، فقال: (هاتوها، فوالله ما أقبلها رغبة في الدنيا، ولا
فرارا من الموت، ولكن أقبلها لما أرجو فيها من عظيم الأجر). ثم مد يده،
فقاموا إليه، فبايعوه، فقام فيهم خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على
النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (أما بعد، فإن الله أخذ عهودنا ومواثيقنا
على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقول بالحق والجهاد في سبيله (إن الذين
202

يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد)، وقال الله عز وجل: (ومن لم
يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون)، وأشهد على أن أهل دعوتنا
من أهل ديننا أن قد اتبعوا الهوى ونبذوا حكم الكتاب وجاروا في الحكم،
وأن جهادهم لحق، فأقسم بمن تعنو له الوجوه وتخشع له الأبصار، لو لم أجد
على قتالهم مساعدا لقاتلتهم وحدي حتى ألقى ربي شهيدا).
فلما سمع ذلك عبد الله بن السخبر، وكان من أصحاب البرانس (1) استعبر باكيا،
ثم قال: (لحي الله امرء لا يكون تشريح ما بين عظمه ولحمه وعصبه أيسر عنده
من سخط الله عليه في لحظة يسعى بها على مقته، فكيف وإنما تريدون بذلك
وجه الله، يا إخوتي، تقربوا إلى الله ببغض من عصاه، واخرجوا إليهم،
فاضربوا وجوههم بالسيوف حتى يطاع الله يثبكم ثواب المطيعين العاملين بمرضاته،
القائمين بحقوقه، فإن تظفروا فالغنيمة والفتح، وأن تغلبوا فأي شئ أفضل من
المصير إلى رضوان الله وجنته) ثم افترقوا يومهم ذلك.
فلما كان من الغد أقبل عبد الله بن وهب الراسبي في نفر من أصحابه حتى دخل
على شريح بن أبي أوفى العبسي، وكان من عظمائهم، فحمد الله وأثنى عليه،
ثم قال: (أما بعد، فإن هذين الحكمين قد حكما بغير ما أنزل الله،
وقد كفر إخواننا حين رضوا بهما، وحكموا الرجال في دينهم، ونحن على
الشخوص من بين أظهرهم، وقد أصبحنا والحمد لله ونحن على الحق من بين هذا
الخلق).
فقال شريح: (أنذر أصحابك. وأعلمهم خروجك، ثم اخرج بنا على بركة الله
حتى نأتي المدائن، فننزلها، ونرسل إلى إخواننا الذين بالبصرة، فيقدموا علينا،
فتكون أيديهم مع أيدينا).

(1) البرنس كل ثوب رأسه منه ملتزق به، دراعة كان أو ممطرا أو جبة، وقال الجوهري،
البرنس: قلنسوة كبيرة، وكان النساك يلبسونها في صدر الإسلام.
203

فقال يزيد بن حصين الطائي: (إنكم إن خرجتم بجماعتكم طلبتم، ولكن
اخرجوا فرادى مستخفين، فأما المدائن فإن بها من يمنع منها، ولكن توعدوا أن
توافوا جسر النهروان، فتقيموا هناك، وتكتبوا إلى إخوانكم من أهل البصرة
أن يوافوكم بها). قالوا: (هذا الرأي). فاتفقوا على ذلك، وأنذروا جميعا
أصحابهم، فاستعدوا للخروج فرادى، وكتبوا إلى من كان منهم بالبصرة (بسم الله
الرحمن الرحيم، من عبد الله بن وهب، ويزيد بن الحصين، وحر قوص بن زهير، وشريح
ابن أبي أوفى إلى من بلغه كتابنا بالبصرة من المؤمنين المسلمين، سلام عليكم، فإنا
نحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو، الذي جعل أحب عباده إليه أعملهم بكتابه، وأقومهم
بالحق في طاعته، وأشدهم اجتهادا في مرضاته، وأن أهل دعوتنا حكموا الرجال في
أمر الله، فحكموا بغير ما في كتاب الله ولا في سنة نبي الله، فكفروا لذلك،
وصدوا عن سواء السبيل، وقد نابذناهم على سواء، إن الله لا يحب الخائنين،
أما بعد، فقد اجتمعنا بجسر النهروان، فسيروا إلينا رحمكم الله لتأخذوا نصيبكم
من الأجر والثواب، وتأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر، وكتابنا هذا إليكم مع
رجل من إخوانكم ذي أمانة ودين، فسلوه عما أحببتم، واكتبوا إلينا بما رأيتم،
والسلام). ثم وجهوا كتابهم مع عبد الله بن سعد العبسي، فسار حتى البصرة،
وأوصل الكتاب إلى أصحابه، فاجتمعوا فقرأوه، ثم كتبوا إليهم بوشك
موافاتهم.
ثم إن القوم خرجوا من الكوفة عباديد، الرجل والرجلين والثلاثة، وخرج
يزيد بن الحصين على بغلة يقود فرسا، وهو يتلو هذه الآية (1): (فخرج منها خائفا
يترقب، قال رب نجني من القوم الظالمين، ولما توجه تلقاء مدين، قال
عسى ربي أيهديني سواء السبيل). وسار حتى انتهى إلى السيب (2)، فاجتمع

(1) سورة القصص الآية العشرون
(2) السيب: مجرى الماء ويطلق لفظ السيبة الآن على ناحية في العراق على الضفة اليسرى من
شط العرب قبالة مدينة عبادان الإيرانية.
204

إليه جمع كثير من أصحابه، وفيهم زيد بن عدي بن حاتم، فخرج عدي في طلب
ابنه حتى انتهى إلى المدائن، فلم يلحقه، فأتى سعد بن مسعود الثقفي، وكان سعد
عامل علي على المدائن، فأخذ حذره، وتحاماه القوم.
وخرج عبد الله بن وهب الراسبي في جوف الليل، والتأم إليه جميع أصحابه،
فصاروا جمعا كبيرا منهم، فأخذوا على الأنبار، وتبطنوا شط الفرات حتى عبروا
من قبل (دير العاقول) فاستقبله عدي بن حاتم، وهو منصرف إلى الكوفة،
فأراد عبد الله أخذه، فمنعه منه عمرو بن مالك النبهاني وبشير بن يزيد البولاني،
وكانا من رؤساء الخوارج، فاستخلف سعد بن مسعود على المدائن ابن أخيه، المختار
ابن أبي عبيد، وخرج في طلب عبد الله بن وهب وأصحابه، فلقيهم بكرخ بغداد مع
مغيب الشمس، وسعد في خمسمائة فارسي، والخوارج ثلاثون رجلا، فتناوشوا
ساعة، فقال أصحاب سعد لسعد: (أيها الأمير، ما تريد إلى قتال هؤلاء، ولم يأتك
فيهم أمر؟ خل سبيلهم، واكتب إلى أمير المؤمنين تعلمه أمرهم)، فمضى
وتركهم.
وسار عبد الله بن وهب، فمر ببغداد، وأخذ دهاقينها بالمعابر، وذلك قبل أن
تبنى بغداد، فأتاه الدهقان بها، فعبر إلى أرض (جوخى) ثم مضى من هناك حتى
انضم إلى أصحابه، وهم بنهروان، ووافاهم من كان على رأيهم من أهل البصرة،
وكانوا خمسمائة رجل.
(قتال الخوارج (2))
وكان على البصرة يومئذ عبد الله بن العباس، فلما بلغه خروجهم وجه في طلبهم
أبا الأسود الديلي في ألف فارس، فلحقهم بجسر تستر، وحال بينهم الليل، ففاتوه

(1) بلد في العراق واقعة بين بغداد وواسط، وقد حدثت فيها الوقعة بين علي بن أبي طالب
والخوارج سنة 658 م. (2) كان في سنة 39 ه‍ (659).
205

وكانوا في جميع مسيرهم لا يلقون أحدا إلا قالوا له: (ما تقول في الحكمين؟) فإن
تبرأ منهما تركوه، وإن أبى قتلوه
ثم أقبلوا حتى انتهوا إلى دجلة، فعبروها من ناحية صريفين (1) حتى وافوا نهروان،
فكتب إليهم علي رضي الله عنه: (بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله علي أمير
المؤمنين إلى عبد الله بن وهب الراسبي ويزيد بن الحصين ومن قبلهما، سلام
عليكم، فإن الرجلين اللذين ارتضيناهما للحكومة خالفا كتاب الله، واتبعا هواهما بغير
هدى من الله، فلما لم يعملا بالسنة ولم يحكما بالقرآن تبرأنا من حكمهما، ونحن على
أمرنا الأول، فأقبلوا إلي رحمكم الله، فإنا سائرون إلى عدونا وعدوكم، لنعود لمحاربتهم
حتى يحكم الله بيننا وبينهم، وهو خير الحاكمين).
فلما وصل إليهم كتابه، كتبوا إليه: (أما بعد، فإنك لم تغضب لربك،
ولكن غضبت لنفسك، فإن شهدت على نفسك أنك كفرت فيما كان من
تحكيمك الحكمين، واستأنفت التوبة والإيمان نظرنا فيما سألتنا من الرجوع
إليك، وإن تكن الأخرى، فإننا ننابذك على سواء، إن الله لا يهدي كيد
الخائنين).
فلما قرأ علي كتابهم، يئس منهم، ورأى أن يدعهم على حالهم، ويسير إلى
الشام، ليعاود معاوية الحرب، فسار بالناس حتى عسكر بالنخيلة، وقال لأصحابه:
(تأهبوا للمسير إلى أهل الشام، فإني كاتب إلى جميع إخوانكم ليقدموا عليكم، فإذا
وافوا شخصنا إن شاء الله). ثم كتب كتابه إلى جميع عماله أن يخلفوا خلفاءهم على أعمالهم، ويقدموا عليه،
وكتب إلى عبد الله بن عباس، وكان على البصرة: (أما بعد، فإنا قد عسكرنا
بالنخيلة، وقد أزمعنا على المسير إلى عدونا، إلى أهل الشام، فأشخص إلي فيمن قبلك
حين يأتيك كتابي والسلام). فقدم عليه عبد الله بن عباس في فرسان البصرة، وكانوا زهاء سبعة آلاف رجل

(1) قرية من قرى الكوفة.
206

فلما تهيأ للمسير أتاه عن الخوارج أخبار فظيعة، من قتلهم عبد الله بن خباب وامرأته.
وذلك انهم لقوهما، فقالوا لهما: (أرضيتما بالحكمين؟) قالا: (نعم). فقتلوهما،
وقتلوا أم سنان الصيداوية، واعتراضهم الناس يقتلونهم. فلما بلغه ذلك بعث إليهم
الحارث بن مرة الفقعسي ليأتيه بخبرهم، فأخذوه، فقتلوه.
فلما بلغ الناس ذلك اجتمعوا إلى علي، فقالوا: (يا أمير المؤمنين، أتدع هؤلاء
على ضلالتهم وتسير، فيفسدوا في الأرض، ويعترضوا الناس بالسيف؟ سر إليهم
بالناس، وأدعهم إلى الرجوع إلى الطاعة والجماعة، فإن تابوا وقبلوا فإن الله
يحب التوابين، وإن أبوا فإذنهم بالحرب، فإذا أرحت الأمة منهم سرت إلى
الشام).
فنادى في الناس بالرحيل، وسار حتى ورد عليهم نهروان، فعسكر على فرسخ
منهم، وأرسل إليهم قيس بن سعد بن عبادة، وأبا أيوب الأنصاري، فأتياهم،
فقالا: (عباد الله، إنكم قد ارتكبتم أمرا عظيما باستعراضكم الناس تقتلونهم،
وشهادتكم علينا بالشرك، والشرك ظلم عظيم).
فأجابهما عبد الله بن السخبر، فقال: (إليكما عنا، فإن الحق قد أضاء لنا كالصبح،
ولسنا بمتابعيكم ولا راجعين إليكم، أو تأتوا بمثل عمر بن الخطاب). فقال قيس بن
سعد (ما نعرفه فينا إلا علي بن أبي طالب فهل تعرفونه فيكم)؟. قالا: (لا). قال:
(فأنشدكم الله في أنفسكم أن تهلكوها، فإني أرى الفتنة قد دخلت قلوبكم).
ثم تكلم أبو أيوب بنحو هذا، فقالوا: (يا أبا أيوب، إنا إن بايعناكم
اليوم حكمتم غدا آخر).
قال: (فإنا ننشدكم الله أن تعجلوا فتنة العام مخافة ما نأتي به في قابل). قالوا: (إليكما عنا، فقد نابذناكم على سواء.
فانصرفا إلى علي، فأخبراه حتى وقف عليهم بحيث يسمعون كلامه، فنادى:
(أيتها العصابة التي أخرجتها اللجاجة، وصدها عن الحق الهوى، فأصبحت
207

في لبس وخطأ، إني نذير لكم أن تتمادوا في ضلالتكم فتلفوا مصرعين من غير
بينة من ربكم ولا برهان، ألم تعلموا أني شرطت على الحكمين أن يحكما بما
في كتاب الله؟ وأخبرتكم أن طلب القوم الحكومة مكيدة، فلما أبيتم إلا الحكومة
شرطت عليهم أن يحييا ما أحيا القرآن، ويميتا ما أمات القرآن، فخالفا الكتاب
والسنة، وعملا بالهوى، فنبذنا أمرهما، ونحن على أمرنا الأول، فأين يتاه بكم،
ومن أين أتيتم؟).
فقالوا: (إنا كفرنا حين رضينا بالحكمين، وقد تبنا إلى الله من ذلك،
فإن تبت كما تبنا فنحن معك، وإلا فائذن بحرب، فإنا منابذوك على سواء).
فقال لهم علي: (أشهد على نفسي بالكفر..؟! لقد ضللت إذن وما أنا من
المهتدين). ثم قال: (ليخرج إلى رجل منكم ترضون به حتى أقول ويقول،
فإن وجبت على الحجة أقررت لكم وتبت إلى الله، وإن وجبت عليكم فاتقوا
الذي مردكم إليه).
فقالوا لعبد الله بن الكواء، وكان من كبرائهم: (أخرج إليه حتى تحاجه)،
فخرج إليه.
فقال علي: (هل رضيتم؟).
قالوا: (نعم).
قال: (اللهم اشهد، فكفى بك شهيدا).
فقال علي رضي الله عنه: (يا ابن الكواء، ما الذي نقمتم علي بعد رضاكم
بولايتي وجهادكم معي وطاعتكم لي؟ فهلا برئتم مني يوم الجمل؟).
قال ابن الكواء: (لم يكن هناك تحكيم).
فقال علي: يا ابن الكواء، أنا أهدى أم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟).
قال ابن الكواء: (بل رسول الله صلى الله عليه وسلم).
قال: (فما سمعت قول الله عز وجل: (فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم،
ونساءنا ونساءكم، وأنفسنا وأنفسكم).
أكان الله يشك انهم هم الكاذبون؟).
208

قال: (إن ذلك احتجاج عليهم، وأنت شككت في نفسك حين رضيت
بالحكمين، فنحن أحرى أن نشك فيك).
قال: (وإن الله تعالى يقول: فائتوا بكتاب من عند الله، هو أهدى منهما،
اتبعه).
قال ابن الكواء: (ذلك أيضا احتجاج منه عليهم).
فلم يزل علي عليه السلام يحاج ابن الكواء بهذا وشبهه، فقال ابن الكواء:
أنت صادق في جميع ما تقول، غير أنك كفرت حين حكمت الحكمين)
قال علي: (ويحك يا ابن الكواء، إني إنما حكمت أبا موسى وحده وحكم
معاوية عمرا).
قال ابن الكواء: (فإن أبا موسى كان كافرا).
فقال علي: (ويحك، متى كفر، أحين بعثته أم حين حكم؟).
قال: (لا، بل حين حكم).
قال: (أفلا ترى أني إنما بعثته مسلما، فكفر في قولك بعد أن بعثته؟
أرأيت لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلا من المسلمين إلى أناس من
الكافرين، ليدعوهم إلى الله، فدعاهم إلى غيره، هل كان على رسول الله صلى الله
عليه وسلم من ذلك شئ؟).
قال: (لا).
قال: (ويحك، فما كان علي أن ضل أبو موسى؟ أفيحل لكم بضلالة
أبي موسى أن تضعوا سيوفكم على عواتقكم فتعترضوا بها الناس؟).
فلما سمع عظماء الخوارج ذلك قالوا لابن الكواء: (انصرف ودع مخاطبة
الرجل).
فانصرف إلى أصحابه، وأبى القوم إلا التمادي في الغي.
209

وأمر على بالنداء في الناس أن يأخذوا أهبة الحرب، ثم عبى جنوده، فولى
الميمنة حجر بن عدي، وولى الميسرة شبث بن ربعي، وولى الخيل أبا أيوب
الأنصاري، وولى الرجالة أبا قتادة.
واستعد الخوارج فجعلوا على ميمنتهم يزيد بن حصين، وعلى ميسرتهم شريح
ابن أبي أوفى العبسي - وكان من نساكهم - وعلى الرجالة حرقوص بن زهير،
وعلى الخيل كلها عبد الله بن وهب.
ورفع علي راية، وضم إليها ألفي رجل، ونادى: (من التجأ إلى هذه الراية
فهو آمن).
ثم تواقف الفريقان، فقال فروة بن نوفل الأشجعي - وكان من رؤساء
الخوارج - لأصحابه: (يا قوم، والله ما ندري، علام نقاتل عليا، وليست لنا في
قتله حجة ولا بيان، يا قوم، انصرفوا بنا حتى تنفذ لنا البصيرة في قتاله أو اتباعه).
فترك أصحابه في مواقفهم، ومضى في خمسمائة رجل حتى أتى إلى البندنيجين (1)،
وخرجت طائفة أخرى حتى لحقوا بالكوفة، واستأمن إلى الراية منهم ألف رجل،
فلم يبق مع عبد الله بن وهب إلا أقل من أربعة آلاف رجل.
فقال علي لأصحابه: (لا تبدؤوهم بالقتال حتى يبدؤوكم)، فتنادت الخوارج:
(لاحكم إلا الله، وإن كره المشركون). ثم شدوا على أصحاب علي شدة
رجل واحد، فلم تثبت خيل علي لشدتهم، وافترقت الخوارج فرقتين، فرقة
أخذت نحو الميمنة، وفرقة أخرى نحو الميسرة.
وعطف عليهم أصحاب علي، وحمل قيس بن معاوية البرجمي من أصحاب علي
على شريح بن أبي أوفى، فضربه بالسيف على ساقه، فأبانها، فجعل يقاتل برجل
واحدة وهو يقول: (الفحل يحمي شوله معقولا) (2)، فحمل عليه قيس
ابن سعد فقتله، وقتلت الخوارج كلها ربضة (3) واحدة.

(1) بلدة مشهورة في طرف النهروان من ناحية الجبل، وهي من أعمال بغداد.
(2) عقل الفحل: ثنى وظيفه مع زراع وشدهما في وسط الذراع والشول: جمع شائل وهو
الناقة اللاقح التي تشول بذنبها آية لقاحها.
(3) مقتل كل قوم قتلوا في بقعة واحدة.
210

قال: وأمر علي بمن كان منهم ذا رمق أن يدفعوا إلى عشائرهم، وأمر
بأخذ ما كان في معسكرهم من سلاح ودواب، فقسمه في أصحابه، وأمر بما سوى
ذلك، فدفع إلى وراثهم.
فلما أراد علي الانصراف من النهروان قام في أصحابه، فقال: (أيها الناس،
إن الله قد نصركم على المارقين، فتوجهوا من فوركم هذا إلى القاسطين) يعني
أهل الشام، فقام إليه رجال من أصحابه، فيهم الأشعث بن قيس، فقالوا:
(يا أمير المؤمنين، نفدت نبالنا، وكلت سيوفنا، ونصلت أسنة رماحنا،
فارجع بنا إلى مصرنا، لنستعد بأحسن عدتنا).
فرحل بالناس حتى نزل النخيلة، فعسكر بها، فأقاموا أياما، فجعلوا يتسللون
إلى الكوفة، فلم يبق معه في المعسكر إلا زهاء ألف رجل من الوجوه.
فلما رأى ذلك دخل الكوفة، فأقام بها، وسار فروة بن نوفل بمن كان
معه إلى حلوان، فجعل يجبي خراجها ويقسمه في أصحابه.
(نهاية علي بن أبي طالب)
قالوا ولما رأى علي رضي الله عنه تثاقل أصحابه أهل الكوفة عن المسير معه إلى
قتال أهل الشام، وانتهى إليه ورود خيل معاوية الأنبار، وقتلهم مسلحة علي بها
والغارة عليها، كتب كتابا، ودفعه إلى رجل، وأمره أن يقرأه على الناس يوم الجمعة
إذا فرغوا من الصلاة، وكانت نسخته:
(بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى شيعته من أهل الكوفة،
سلام عليكم، أما بعد، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة، من تركه ألبسه الله الذلة
وشمله بالصغار، وسيم الخسف وسيل (1) الضيم، وإني قد دعوتكم إلى جهاد هؤلاء القوم
ليلا ونهارا وسرا وجهارا، وقلت لكم، اغزوهم قبل أن يغزوكم، فما غزي قوم في
عقر دارهم إلا ذلوا واجترأ عليهم عدوهم، هذا أخو بني عامر قد ورد الأنبار، وقتل

(1) كذا في الأصل، وفي روايات أخرى (ومنع النصف).
211

ابن حسان البكري، وأزال مسالحكم عن مواضعها، وقتل منكم رجالا صالحين، وقد
بلغني انهم كانوا يدخلون بيت المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة (1) فينزع حجلها (2) من
رجلها، وقلائدها من عنقها، وقد انصرفوا موفورين، ما كلم رجل منهم كلما،
فلو أن أحدا مات من هذا أسفا ما كان عندي ملوما، بل كان جديرا، يا عجبا من
أمر يميت القلوب، ويجتلب الهم ويسعر الأحزان من اجتماع القوم على باطلهم، وتفرقكم
عن حقكم، فبعدا لكم وسحقا، قد صرتم غرضا، ترمون ولا ترمون، ويغار
عليكم ولا تغيرون، ويعصى الله فترضون، إذا قلت لكم سيروا في الشتاء قلتم
كيف نغزو في هذا القر والصر (3) وإن قلت لكم سيروا في الصيف قلتم حتى ينصرم
عنا حمارة القيظ، وكل هذا فرار من الموت، فإذا كنتم من الحر والقر تفرون
فأنتم والله من السيف أفر، والذي نفسي بيده، ما من ذلك تهربون، ولكن من
السيف تحيدون، يا أشباه الرجال ولا رجال، ويا أحلام الأطفال وعقول ربات الحجال،
أما والله لوددت أن الله أخرجني من بين أظهركم وقبضني إلى رحمته من بينكم،
ووددت أن لم أركم ولم أعرفكم، فقد والله ملأتم صدري غيظا، وجرعتموني
الأمرين أنفاسا، وأفسدتم على رأيي بالعصيان والخذلان، حتى قالت قريش:
إن ابن أبي طالب رجل شجاع، ولكن لا علم له بالحرب. لله أبوهم، هل كان
فيهم رجل أشد لها مراسا وأطول مقاساة مني؟ ولقد نهضت فيها وما بلغت
العشرين، وها أنا (ذا) اليوم قد جنفت الستين. لا، ولكن لا رأي لمن
لا يطاع).
فقام إليه الناس من كل ناحية، فقالوا: (سر بنا، فوالله لا يتخلف عنك إلا ظنين).
فأمر الحارث الهمذاني بالنداء في الناس أن يصبحوا غدا في الرحبة (4)،
ولا يأتينا إلا صادق النية.
فلما أصبح صلى الغداة، وأقبل إلى الرحبة، فلم ير فيها إلا نحو من ثلاثمائة
212

رجل، فقال: (لو كانوا الوفا لكان لي فيهم رأي).
فمكث بعد ذلك يومين، باد حزنه، شديد كأبته.
فقام إليه حجر بن عدي، وسعيد بن قيس الهمداني، فقالا: (أجبر
الناس على المسير، وناد فيهم، فمن تخلف، فمر بمعاقبته). فأمر مناديا،
فنادى في الناس: (لا يتخلفن أحد)، وأمر معقل بن قيس أن يسير في الرساتيق (1)
فلا يدع أحدا من جنوده فيها إلا حشره. فلم ينصرف معقل بن قيس إلا بعد ما
قتل علي رضي الله عنه.
(مقتل علي بن أبي طالب)
قالوا: واجتمع في العام (2) الذي قتل فيه علي رضي الله عنه بالموسم عبد الرحمن
ابن ملجم المرادي، والنزال بن عامر، وعبد الله بن مالك الصيداوي، وذلك
بعد وقعة النهر بأشهر، فتذكروا ما فيه الناس من تلك الحروب، فقال بعضهم
لبعض: (ما الراحة إلا في قتل هؤلاء النفر الثلاثة: علي بن أبي طالب، ومعاوية
ابن أبي سفيان، وعمرو بن العاص).
فقال ابن ملجم: (على قتل علي).
وقال النزال: (وعلى قتل معاوية). وقال عبد الله: (وعلى قتل عمرو).
فاتعدوا لليلة واحدة، يقتلونهم فيها.
وأقبل عبد الرحمن حتى قدم الكوفة، فخطب إلى قطام ابنتها الرباب،
وكانت قطام ترى رأي الخوارج، وقد كان علي قتل أباها وأخاها وعمها يوم النهر،
فقالت لابن ملجم:
(لا أزوجك إلا على ثلاثة آلاف درهم، وعبد، وقينة، وقتل علي
ابن أبي طالب).
فأعطاها ذلك وأملكها).

(1) كلمة فارسية معروبة جمع رستاق وهو السواد من الأرض.
(2) سنة 40 ه‍ (660).
213

وكان ابن ملجم يجلس في مجلس تيم الرباب من صلاة الغداة إلى ارتفاع النهار،
والقوم يفيضون في الكلام، وهو ساكت، لا يتكلم بكلمة، للذي أجمع عليه
من قتل علي.
فخرج ذات يوم إلى السوق متقلدا سيفه، فمرت به جنازة يشيعها أشراف
العرب، ومعها القسيسون يقرءون الإنجيل، فقال: (ويحكم، ما هذا؟) فقالوا:
(هذا أبجر بن جابر العجلي مات نصرانيا، وابنه حجار بن أبجر سيد بكر
ابن وائل، فاتبعها أشراف الناس لسؤدد ابنه، واتبعها النصارى لدينه).
فقال: (والله لولا أني أبقى نفسي لأمر هو أعظم عند الله من هذا لاستعرضتهم بسيفي)
فلما كانت تلك الليلة تقلد سيفه، وقد كان سمه، وقعد مغلسا ينتظر أن يمر به
علي رضي الله عنه مقبلا إلى المسجد لصلاة الغداة.
فبينا هو في ذلك إذ أقبل علي، وهو ينادي: (الصلاة أيها الناس) فقام إليه
ابن ملجم، فضربه بالسيف على رأسه، وأصاب طرف السيف الحائط، فثلم فيه،
ودهش ابن ملجم، فانكب لوجهه، وبدر السيف من يده، فاجتمع الناس،
فأخذوه، فقال الشاعر في ذلك:
ولم أر مهرا ساقه ذو سماحة * كمهر قطام من فصيح وأعجم
ثلاثة آلاف وعبدا وقينة * وضرب علي بالحسام المصمم
فلا مهر أغلى من علي وإن غلا * ولا فتك إلا دون فتك ابن ملجم
وحمل علي رضي الله عنه إلى منزله، وأدخل عليه ابن ملجم.
فقالت له أم كلثوم ابنة علي: (يا عدو الله، أقتلت أمير المؤمنين؟.)
قال: (لم أقتل أمير المؤمنين، ولكني قتلت أباك).
قالت: (أما والله إني لأرجو ألا يكون عليه بأس).
قال: (فعلام تبكين إذن؟ أما والله لقد سممت السيف شهرا، فإن اخلفني
أبعده الله).
فلم يمس علي رضي الله عنه يومه ذلك حتى مات رحمه الله ورضي عنه.
214

(القصاص)
فدعا عبد الله بن جعفر بابن ملجم، فقطع يديه ورجليه وسمل عينيه،
فجعل يقول:
(إنك يا ابن جعفر لتكحل عيني بملمول مض (1)).
ثم أمر بلسانه أن يخرج ليقطع، فجزع من ذلك.
فقال له ابن جعفر:
(قطعنا يديك ورجليك، وسملنا عينيك، فلم تجزع، فكيف تجزع من
قطع لسانك؟).
قال: (إني ما جزعت من ذلك خوفا من الموت، ولكني جزعت أن أكون
حيا في الدنيا ساعة لا أذكر الله فيها)، ثم قطع لسانه، فمات.
(محاولة قتل معاوية)
وأقبل النزال بن عامر في تلك الليلة حتى قام خلف معاوية وهو يصلي بالناس
الغداة، ومعه خنجر، فوجأه به في إليته، وكان معاوية عظيم الأليتين،
فأخذ، فقال لمعاوية: (أهل قتلتك يا عدو الله؟).
فقال معاوية: (كلا، يا ابن أخي).
فأمر به معاوية، فقطعت يداه ورجلاه، ونزع لسانه، فمات.
ودعا بطبيب فأمره أن يقطع ما حول الوجأة من اللحم، خوفا من أن يكون
الخنجر مسموما.
فمن يومئذ اتخذت المقاصير في الجوامع، فكان لا يدخلها إلا ثقاته
وأحراسه، واتخذ أيضا من يومئذ حراس الليل، وكان إذا سجد بالناس جعل
على رأسه عشرة من ثقات أحراسه، يقومون من خلفه بالسيوف والعمد.
(محاولة قتل عمرو بن العاص)
وأما عبد الله بن مالك الصيداوي فإنه أتى مصر، فلما كان في تلك الليلة قام

(1) أي بمكحال حار محرق.
(3) ضربة.
215

حيال المحراب، ومعه مشمل (1) قد اشتمل عليه بثيابه، فأصاب عمرا في تلك الليلة
مغس (2) في بطنه فأمر رجلا من بني عامر بن لؤي أن يخرج فيصلى بالناس.
فتقدم مغلسا، فلم يشك عبد الله أنه عمرو، فلما سجد ضربه بالسيف من ورائه
فقتله، فقيل له: (إنك لم تقتل الأمير)، قال: (فما ذنبي، والله ما أردت
غيره). فأمر به عمرو فقتل.
(مبايعة الحسن بن علي)
قال: ودفن علي رضي الله عنه، وصلى عليه الحسن، وكبر خمسا،
فلا يعلم أحد أين دفن.
قالوا: ولما توفي علي رضي الله عنه خرج الحسن إلى المسجد الأعظم، فاجتمع
الناس إليه، فبايعوه، ثم خطب الناس، فقال: (أفعلتموها؟ قتلتم
أمير المؤمنين، أما والله لقد قتل في الليلة التي نزل فيها القرآن، ورفع فيها
الكتاب، وجف القلم، وفي الليلة التي قبض فيها موسى بن عمران، وعرج فيها
بعيسى).
(زحف جيوش معاوية)
قالوا: ولما بلغ معاوية قتل علي تجهز، وقد أمامه عبد الله بن عامر بن كريز،
فأخذ على عين التمر (3)، ونزل الأنبار يريد المدائن، وبلغ ذلك الحسن بن علي،
وهو بالكوفة، فسار نحو المدائن لمحاربة عبد الله بن عامر بن كريز، فلما انتهى
إلى ساباط رأى من أصحابه فشلا وتواكلا عن الحرب، فنزل ساباط، وقام فيهم
خطيبا، ثم قال: (أيها الناس، إني قد أصبحت غير محتمل على مسلم ضغينة،

(1) المشمل: السيف القصير، يشتمل عليه الرجل فيغطيه بثوبه.
(2) المغس: لغة في المغص، وهو وجع وتقطيع يأخذ في البطن.
(3) ناحية في العراق من أعمال قضاء كربلاء.
216

وإني ناظر لكم كنظري لنفسي، وأرى رأيا فلا تردوا على رأيي، إن الذي
تكرهون من الجماعة أفضل مما تحبون من الفرقة، وأرى أكثركم قد نكل عن
الحرب، وفشل عن القتال، ولست أرى أن أحملكم على ما تكرهون).
فلما سمع أصحابه ذلك نظر بعضهم إلى بعض، فقال من كان معه ممن يرى رأي
الخوارج: (كفر الحسن كما كفر أبوه من قبله)، فشد عليه نفر منهم، فانتزعوا
مصلاه من تحته، وانتهبوا ثيابه حتى انتزعوا مطرفه (1) عن عاتقه، فدعا بفرسه،
فركبها، ونادى: (أين ربيعة وهمدان؟) فتبادروا إليه، ودفعوا عنه القوم.
ثم ارتحل يريد المدائن، فكمن له رجل ممن يرى رأي الخوارج، يسمى الجراح بن
قبيصة من بني أسد بمظلم ساباط، فلما حاذاه الحسن قام إليه بمغول (2) فطعنه في فخذه.
وحمل على الأسدي عبد الله بن خطل وعبد الله بن ظبيان، فقتلاه.
ومضى الحسن رضي الله عنه مثخنا حتى دخل المدائن، ونزل القصر الأبيض،
وعولج حتى برأ، واستعد للقاء ابن عامر.
وأقبل معاوية حتى وافى الأنبار، وبها قيس بن سعد بن عبادة من قبل الحسن،
فحاصره معاوية، وخرج الحسن فواقف عبد الله بن عامر، فنادى عبد الله بن عامر:
(يا أهل العراق، إني لم أر القتال، وإنما أنا مقدمة معاوية، وقد وافى
الأنبار في جموع أهل الشام فاقرؤوا أبا محمد - يعني الحسن - مني السلام،
وقولوا له: أنشدك الله في نفسك وأنفس هذه الجماعة التي معك).
فلما سمع ذلك الناس انخذلوا وكرهوا القتال، وترك الحسن الحرب، وانصرف إلى
المدائن، وحاصره عبد الله بن عامر بها.

(1) المطرف واحد المطارف واحد المطارف وهي أردية من خز مربعة لها أعلام.
(2) المغول: سوط في جوفة سيف دقيق يشده الفاتك على وسطه ليغتال به الناس.
217

(مبايعة معاوية بالخلافة) ولما رأى الحسن من أصحابه الفشل أرسل إلى عبد الله بن عامر بشرائط اشترطها
على معاوية على أن يسلم له الخلافة، وكانت الشرائط: ألا يأخذ أحدا من أهل العراق
بإحنة، وأن يؤمن الأسود والأحمر، ويحتمل ما يكون من هفواتهم، ويجعل له خراج
الأهواز مسلما في كل عام، ويحمل إلى أخيه الحسين بن علي في كل عام ألفي ألف،
ويفضل بني هاشم في العطاء والصلات على بني عبد شمس.
فكتب عبد الله بن عامر بذلك إلى معاوية، فكتب معاوية جميع ذلك بخطه،
وختمه بخاتمه، وبذل عليه له العهود المركبة والأيمان المغلظة، وأشهد على ذلك
جميع رؤساء الشام، ووجه به إلى عبد الله بن عامر، فأوصله إلى الحسن رضي الله
عنه، فرضي به، وكتب إلى قيس بن سعد بالصلح، ويأمره بتسليم الأمر إلى
معاوية، والانصراف إلى المدائن.
فلما وصل الكتاب بذلك إلى قيس بن سعد قام في الناس، فقال: (أيها
الناس، اختاروا أحد الأمرين، القتال بلا إمام، أو الدخول في طاعة معاوية).
فاختاروا الدخول في طاعته معاوية.
فسار حتى وافى المدائن، وسار الحسن بالناس من المدائن حتى وافى الكوفة،
ووافاه معاوية بها، فالتقيا، فوكد عليه الحسن رضي الله عنه تلك الشروط
والأيمان. ثم سار الحسن بأهل بيته حتى وافى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأخذ معاوية أهل الكوفة بالبيعة، فبايعوا، واستعمل عليهم المغيرة بن شعبة،
وسار منصرفا في جموعه إلى الشام، فمكث المغيرة بن شعبة على الكوفة من قبل
معاوية تسع سنين حتى مات بها.
218

(زياد بن أبيه)
وكان زياد بن أبيه إنما يعرف بزياد بن عبيد، وكان عبيد مملوكا لرجل من ثقيف،
فتزوج سمية، وكانت أمه للحارث بن كلدة، فأعتقها، فولدت له زيادا، فصار
حرا، ونشأ غلاما لقنا ذهنا، عاقلا أديبا، فأخرجه المغيرة بن شعبة معه إلى البصرة
حين وليها من قبل عمر بن الخطاب، فاستكتبه المغيرة.
فلما ولي علي بن أبي طالب ولى زيادا أرض فارس، فلما توجه إلى صفين كتب
معاوية إلى زياد يتوعده، فقام زياد في الناس، فقال: (إن ابن آكلة الأكباد
ورأس النفاق كتب إلي يتوعدني، وبيني وبينه ابن عم رسول الله صلى الله عليه
وسلم في تسعين ألف مدجج من شيعته، أما والله لئن رامني ليجدني ضرابا
بالسيف).
فلما قتل علي، واستدف الأمر لمعاوية تحصن زياد بقلعة مدينة إصطخر،
وكتب معاوية له أمانا على أن يأتيه، فإن رضي ما يعطيه، وإلا رده إلى متحصنه
بتلك القلعة.
فسار إلى معاوية، وترقت به الأمور إلى أن ادعاه معاوية، وزعم للناس
أنه ابن أبي سفيان، وشهد له أبو مريم السلولي - وكان في الجاهلية خمارا بالطائف -
أن أبا سفيان وقع على سمية بعد ما كان الحارث أعتقها، وشهد رجل من
بني المصطلق، اسمه يزيد، أنه سمع أبا سفيان يقول: (إن زيادا من نطفة أقرها
في رحم أمه سمية، فتم ادعاؤه إياه. وكان في ذلك ما كان.
وأمر معاوية زيادا أن يسير إلى الكوفة إلى أن يرد عليه أمره، فسار زياد حتى
قدم الكوفة، وعليها المغيرة بن شعبة، فنزل دار سلمان بن ربيعة الباهلي، ووافاه كتاب معاوية بولاية البصرة، فسار إليها.
فلما وافاها قصد المسجد الجامع، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (إنه
قد كانت بيني وبين قوم أحقاد، وقد جعلتها تحت قدمي، ولست أؤاخذ أحدا
219

بعداوة، ولا أهتك له قناعا حتى يبدي لي صفحته، فإذا أبداها لم أنظره، فمن
كان منكم محسنا فليزدد إحسانا، ومن كان منكم مسيئا فليقلع عن إساءته،
وأعينونا رحمكم الله بالسمع والطاعة). ثم نزل.
فلبث على البصرة حولين حتى مات المغيرة، فكتب إليه معاوية بولاية الكوفة
مع البصرة، فسار إليها.
* * *
قالوا: وكان أول من لقي الحسن بن علي رضي الله عنه، فندمه على ما صنع،
ودعاه إلى رد الحرب حجر بن عدي، فقال له يا بن رسول الله، لوددت أني
مت قبل ما رأيت، أخرجتنا من العدل إلى الجور، فتركنا الحق الذي كنا عليه،
ودخلنا في الباطل الذي كنا نهرب منه، وأعطينا الدنية من أنفسنا، وقبلنا
الخسيسة التي لم تلق بنا).
فاشتد على الحسن رضي الله عنه كلام حجر، فقال له (إني رأيت هوى عظم
الناس في الصلح، وكرهوا الحرب، فلم أحب أن أحملهم على ما يكرهون، فصالحت
بقيا على شيعتنا خاصة من القتل، فرأيت دفع هذه الحروب إلى يوم ما، فإن الله
كل يوم هو في شأن).
قال: فخرج من عنده، ودخل على الحسين رضي الله عنه مع عبيدة بن عمرو،
فقالا: (أبا عبد الله، شريتم الذل بالعز، وقبلتم القليل، وتركتم الكثير،
أطعنا اليوم، واعصنا الدهر، دع الحسن وما رأى من هذا الصلح، واجمع إليك
شيعتك من أهل الكوفة وغيرها، وولني وصاحبي هذه المقدمة، فلا يشعر
ابن هند إلا ونحن نقارعه بالسيوف).
فقال الحسين: (أنا قد بايعنا وعاهدنا، ولا سبيل إلى نقض بيعتنا).
وروي عن علي بن محمد بن بشير الهمداني، قال: خرجت أنا وسفيان
ابن ليلى حتى قدمنا على الحسن المدينة، فدخلنا عليه، وعنده المسيب بن نجبة
220

وعبد الله بن الوداك التميمي، وسراج بن مالك الخثعمي، فقلت: (السلام
عليك يا مذل المؤمنين)، قال: (وعليك السلام، اجلس، لست مذل المؤمنين،
ولكني معزهم، ما أردت بمصالحتي معاوية إلا أن أدفع عنكم القتل عند ما رأيت
من تباطؤ أصحابي عن الحرب، ونكولهم عن القتال، ووالله لئن سرنا إليه
بالجبال والشجر ما كان بد من إفضاء هذا الأمر إليه).
قال: ثم خرجنا من عنده، ودخلنا على الحسين، فأخبرناه بما رد علينا، فقال:
(صدق أبو محمد، فليكن كل رجل منكم حلسا (1) من إحلاس بيته، ما دام هذا
الإنسان حيا).
(موت الحسن بن علي) ثم إن الحسن رضي الله عنه اشتكى بالمدينة، فثقل، وكان أخوه محمد بن الحنفية
في ضيعة له، فأرسل إليه، فوافى، فدخل عليه، فجلس عن يساره، والحسين عن
يمينه، ففتح الحسن عينه، فرأهما، فقال للحسين: يا أخي، أوصيك بمحمد أخيك خيرا،
فإنه جلدة ما بين العينين) ثم قال: (يا محمد، وأنا أوصيك بالحسين، كانفه ووازره).
ثم قال (ادفنوني مع جدي صلى الله عليك وسلم، فإن منعتم فالبقيع) (2)
ثم توفي، فمنع مروان أن يدفن مع النبي صلى الله عليه وسلم، فدفن في البقيع.
وبلغ أهل الكوفة وفاة الحسن، فاجتمع عظماؤهم فكتبوا إلى الحسين رضي الله
عنه يعزونه.
وكتب إليه جعدة بن هبيرة بن أبي وهب، وكان أمحضهم (3) حبا
ومودة: (أما بعد، فإن من قبلنا من شيعتك متطلعة أنفسهم إليك، لا يعدلون
بك أحدا، وقد كانوا عرفوا رأي الحسن أخيك في دفع الحرب، وعرفوك باللين
لأوليائك، والغلظة على أعدائك، والشدة في أمر الله، فإن كنت تحب أن تطلب
هذا الأمر فاقدم علينا، فقد وطنا أنفسنا على الموت معك)

(1) الرجال الحلوس هو الحريص الملازم، ويقال فلان حلس من أحلاس البيت للذي لا يبرح
البيت.
(2) موضع فيه أروم شجر من ضروب شتى، وهو مقبرة بالمدينة.
(3) في نسخة محضهم، وأمحضه الود ومحضه له أخلصه وصدقه.
221

فكتب إليهم: (أما أخي فأرجو أن يكون الله قد وفقه، وسدده فيما يأتي،
وأما أنا فليس رأيي اليوم ذلك، فالصقوا رحمكم الله بالأرض، واكمنوا في البيوت،
واحترسوا من الظنة ما دام معاوية حيا، فلن يحدث الله به حدثا وأنا حي، كتبت
إليكم برأيي والسلام).
وانتهى خبر وفاة الحسن إلى معاوية - كتب به إليه عامله على المدينة مروان -
فأرسل إلى ابن عباس، وكان عنده بالشام - قدم عليه وافدا - فدخل عليه، فعزاه،
وأظهر الشماتة بموته، فقال له ابن عباس: (لا تشمتن بموته، فوالله لا تلبث
بعده إلا قليلا).
(بين معاوية وعمرو بن العاص)
قالوا: وكتب معاوية إلى عمرو بن العاص، وهو على مصر، قد قبضها
بالشرط الذي اشترطه على معاوية: (أما بعد، فإن سؤال أهل الحجاز، وزوار
أهل العراق قد كثروا على، وليس عندي فضل من أعطيات الجنود، فأعني
بخراج مصر هذه السنة).
فكتب إليه عمرو:
معاوي إن تدركك نفس شحيحة * فما ورثتني مصر أمي ولا أبي
وما نلتها عفوا ولكن شرطتها * وقد دارت الحرب العوان على قطب
ولولا دفاعي الأشعري وصحبه * لألفيتها ترغو كراغية السقب (1)
فلما رجع الجواب إلى معاوية تذمم، فلم يعاوده في شئ من أمرها.
* * *

(1) السقب: ولد الناقة الذكر ساعة تضعه أمه
222

قالوا: وقد كان معاوية خلف على الكوفة حين شخص منها المغيرة بن شعبة،
فصعد المنبر يوم الجمعة ليخطب فحصبه حجر بن عدي، وكان من شيعة علي، في
نفر من أصحابه، فنزل مسرعا من المنبر، ودخل قصر الإمارة، وبعث إلى حجر بخمسة آلاف درهم ترضاه بها. فقيل للمغيرة: (لم فعلت هذا، وفيه عليك وهن
وغضاضة؟) فقال: (قد قتلته بها).
فلما مات المغيرة وجمع معاوية لزياد الكوفة إلى البصرة، كان يقيم بالبصرة ستة
أشهر، وبالكوفة مثل ذلك، فخرج في بعض خرجاته إلى البصرة، وخلف على
الكوفة عمرو بن حريث العدوي، فصعد عمرو بن حريث ذات جمعة المنبر
ليخطب، وقعد له حجر بن عدي وأصحابه فحصبوه (1)، فنزل من المنبر، فدخل
القصر، وأغلق بابه.
وكتب إلى زياد يخبره بما صنع حجر وأصحابه، فركب زياد البريد حتى وافى
الكوفة، ودخل المسجد، وأخرج له سريره من القصر، فجلس عليه، فكان أول
من دخل عليه من أشراف الكوفة محمد بن الأشعث بن قيس، فسلم عليه بالإمرة.
فقال زياد: (لأسلم الله عليك، انطلق فأتني بابن عمك الساعة).
قال محمد بن الأشعث: (ما لي ولحجر، إنك لتعلم التباعد بيننا).
فقال له جرير بن عبد الله: (أنا آتيك بحجر أيها الأمير، على أن تجعل له الأمان،
وألا تعرض له حتى يلقى معاوية، فيرى فيه رأيه). قال: (قد فعلت).
فأقبل به إلى زياد، فأمر بحبسه، وأمر بطلب أصحابه الذين كانوا معه، فأتي
بهم، فوجههم جميعا إلى معاوية مع مائة رجل من الجند، فأنشأت أم (2) حجر
تقول: ترفع أيها القمر المنير * ترفع هل ترى حجرا يسير
ألا يا حجر حجر بني عدي * تلقتك البشارة والسرور
وإن تهلك فكل عميد قوم * من الدنيا إلى هلك يصير

(1) رموه بالحصباء، الحجارة والحصى.
(2) وقيل: ابنته هي التي قالت الأبيات (في نسخة أخرى).
223

وبعث زياد بثلاثة نفر من الشهود، ليشهدوا عنده بما فعل حجر وأصحابه،
منهم أبو بردة بن أبي موسى، وشريح بن هاني الحارثي، وأبو هنيدة (1) القيني.
فأتوا معاوية، وشهدوا عليهم بحصبهم عمرو بن حريث، فأمر معاوية بهم،
فقتلوا، فدخل مالك بن هبيرة على معاوية فقال: (يا أمير المؤمنين، أسأت في قتلك
هؤلاء النفر، ولم يكونوا أحدثوا ما استوجبوا به القتل). فقال معاوية: (قد كنت
هممت بالعفو عنهم إلا أن كتاب زياد ورد علي يعلمني انهم رؤساء الفتنة، وأني متى
قتلتهم اجتثثت الفتنة من أصلها)
ولما قتل حجر بن عدي وأصحابه استفظع أهل الكوفة ذلك استفظاعا شديدا،
وكان حجر من عظماء أصحاب علي، وقد كان علي أراد أن يوليه رياسة كندة، ويعزل
الأشعث بن قيس، وكلاهما من ولد الحارث بن عمروا آكل المرار (2)، فأبى حجر بن
عدي أن يتولى الأمر والأشعث حي.
فخرج نفر من أشراف أهل الكوفة إلى الحسين بن علي، فأخبروه الخبر،
فاسترجع وشق عليه، فأقام أولئك النفر يختلفون إلى الحسين بن علي، وعلى المدينة
يومئذ مروان بن الحكم، فترقى الخبر إليه، فكتب إلى معاوية يعلمه
أن رجالا من أهل العراق قدموا على الحسين بن علي رضي الله عنهما، وهم مقيمون
عنده يختلفون إليه، فاكتب إلي بالذي ترى.
فكتب إليه معاوية: (لا تعرض للحسين في شئ، فقد بايعنا، وليس بناقض
بيعتنا ولا مخفر ذمتنا).
وكتب إلى الحسين: (أما بعد، فقد انتهت إلى أمور عنك لست بها حريا،

(1) في نسخة: هبيذة.
(2) المرار: شجر مر، وآكل المرار كان في نفر من أصحابه في سفر، فأصابهم الجوع،
فأما هو فأكل من المرار حتى شبع ونجا، وأما أصحابه فلم يطيقوا ذلك حتى هلك أكثرهم.
224

لأن من أعطى صفقة يمينه جدير بالوفاء، فاعلم رحمك الله إني متى أنكرك
تستنكرني، ومتى تكدني أكدك، فلا يستفزنك السفهاء الذين يحبون الفتنة
والسلام).
فكتب إليه الحسين رضي الله عنه: (ما أريد حربك، ولا الخلاف عليك).
قالوا: ولم ير الحسن ولا الحسين طول حياة معاوية منه سوءا في أنفسهما
ولا مكروها، ولا قطع عنهما شيئا مما كان شرط لهما، ولا تغير لهما عن بر.
قالوا: ومكث زياد على المصرين أربع سنين، فحضرته الوفاة عند ما مضى
من خلافة معاوية ثلاث عشرة سنة، وذلك سنة ثلاث وخمسين.
فكتب إلى معاوية: (أما بعد، فإني كتبت إليك وأنا في آخر يوم من الدنيا
وأول يوم من الآخرة، وقد وليت الكوفة عبد الله بن خالد بن أسيد، ووليت
البصرة سمرة بن جندب الفزاري، والسلام)
فقيل له: (لم تولي ابنك عبيد الله أحد المصرين؟ وليس بدون واحد
من هذين).
فقال: (إن يك فيه خير فسيسبق إلى ذلك عمه معاوية)، ثم مات،
وصلى عليه ابنه عبيد الله بن زياد، ودفن في مقابر قريش.
فتولى عبد الله بن خالد بن أسيد الكوفة ثمانية أشهر، وكتب معاوية إلى عبيد
الله بن زياد بولاية البصرة، وعزل عبد الله بن خالد عن الكوفة، واستعمل عليها
النعمان بن بشير الأنصاري.
(موت معاوية)
قالوا: ولما دخلت سنة ستين مرض معاوية مرضه الذي مات فيه، فأرسل
إلى ابنه يزيد، وكان غائبا عن مدينة دمشق، فلما أبطأ عليه دعا الضحاك بن قيس
225

الفهري، وكان على شرطه، ومسلم بن عقبة، وكان على حرسه، فقال لهما:
(أبلغا يزيد وصيتي، وأعلماه أني آمره في أهل الحجاز أن يكرم من قدم عليه
منهم، ويتعهد من غاب عنه من أشرافهم، فإنهم أصله، وإني آمره في أهل العراق
أن يرفق بهم ويداريهم ويتجاوز عن زلاتهم، وإني آمره في أهل الشام أن يجعلهم
عينيه وبطانته، وإلا يطيل حبسهم في غير شامهم، لئلا يجروا (1) على أخلاق غيرهم.
وأعلماه أني لست أخاف عليه إلا أربعة رجال: الحسين بن علي،
وعبد الله بن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وعبد الله بن الزبير. فأما الحسين
ابن علي فاحسب أهل العراق غير تاركيه حتى يخرجوه، فإن فعل، فظفرت به،
فاصفح عنه، وأما عبد الله بن عمر فإنه رجل قد وقذته العبادة، وليس بطالب
للخلافة إلا أن تأتيه عفوا، وأما عبد الرحمن بن أبي بكر فإنه ليس له في نفسه
من النباهة والذكر عند الناس ما يمكنه طلبها، ويحاول التماسها إلا أن تأتيه عفوا،
وأما الذي يجثم لك جثوم الأسد، ويراوغك روغان الثعلب، فإن أمكنته فرصة
وثب فذاك عبد الله بن الزبير، فإن فعل وظفرت به، فقطعه إربا إربا إلا أن
يلتمس منك صلحا، فإن فعل فاقبل منه، وأحقن دماء قومك بجهدك، وكف
عاديتهم بنوالك، وتغمدهم بحلمك).
ثم قدم عليه يزيد، فأعاد عليه هذه الوصية، ثم قضى.
فأقبل الضحاك بن قيس حتى أتى المسجد الأعظم، فصعد المنبر، ومعه
أكفان معاوية، فقال: (أيها الناس، إن معاوية بن أبي سفيان كان عبدا
من عباد الله، ملكه على عباده، فعاش بقدر ومات بأجل، وهذه أكفانه
كما ترون، نحن مدرجوه فيها ومدخلوه قبره، ومخلون بينه وبين ربه، فمن
أحب منكم أن يشهد جنازته فليحضر بعد صلاة الظهر. ثم نزل.
وتفرق الناس حتى إذا صلوا الظهر اجتمعوا وأصلحوا جهازه، وحملوه حتى
واروه.

(1) في الأصل يجسروا.
226

(مبايعة يزيد)
وانصرف يزيد فدخل الجامع، ودعا الناس إلى البيعة، فبايعوه، ثم انصرف
إلى منزله.
ومات معاوية وعلى المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وعلى مكة
يحيى بن حكيم بن صفوان بن أمية، وعلى الكوفة النعمان بن بشير الأنصاري،
وعلى البصرة عبيد الله بن زياد.
فلم تكن ليزيد همة إلا بيعة هؤلاء الأربعة نفر، فكتب إلى الوليد بن عتبة
يأمره أن يأخذهم بالبيعة أخذا شديدا لا رخصة فيه، فلما ورد ذلك على الوليد قطع
به وخاف الفتنة، فبعث إلى مروان، وكان الذي بينهما متباعدا، فأتاه، فأقرأه
الوليد الكتاب واستشاره.
فقال له مروان: (أما عبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر فلا تخافن ناحيتهما،
فليسا بطالبين شيئا من هذا الأمر، ولكن عليك بالحسين بن علي وعبد الله بن
الزبير، فابعث إليهما الساعة، فإن بايعا وإلا فاضرب أعناقهما قبل أن يعلن الخبر،
فيثب كل واحد منهما ناحية، ويظهر الخلاف).
فقال الوليد لعبد الله بن عمرو بن عثمان، وكان حاضرا - وهو حينئذ غلام
حين راهق -: (انطلق يا بني إلى الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير، فادعهما).
فانطلق الغلام حتى أتى المسجد، فإذا هو بهما جالسين، فقال: (أجيبا الأمير).
فقالا للغلام: (انطلق، فإنا صائران إليه على أثرك). فانطلق الغلام.
فقال ابن الزبير للحسين رضي الله عنه: (فيم تراه بعث إلينا في هذه الساعة؟).
فقال الحسين: (أحسب معاوية قد مات، فبعث إلينا للبيعة). قال ابن الزبير:
(ما أظن غيره). وانصرفا إلى منازلهما.
* * *
فأما الحسين فجمع نفرا من مواليه وغلمانه، ثم مشى نحو دار الإمارة، وأمر
فتيانه أن يجلسوا بالباب، فإن سمعوا صوته اقتحموا الدار.
227

ودخل الحسين على الوليد، وعنده مروان، فجلس إلى جانب الوليد، فأقرأه
الوليد الكتاب، فقال الحسين: (إن مثلي لا يعطي بيعته سرا، وأنا طوع
يديك، فإذا جمعت الناس لذلك حضرت، وكنت واحدا منهم).
وكان الوليد رجلا يحب العافية، فقال للحسين: (فانصرف إذن حتى تأتينا
مع الناس)، فانصرف.
فقال مروان للوليد: (عصيتني، ووالله لا يمكنك من مثله أبدا).
قال الوليد: (ويحك، أتشير علي بقتل الحسين بن فاطمة بنت رسول الله
صلى الله عليه وسلم وعليهما السلام؟ والله إن الذي يحاسب بدم الحسين يوم القيامة
لخفيف الميزان عند الله).
وتحرز ابن الزبير في منزله، وراوغ الوليد حتى إذا جن عليه الليل سار نحو
مكة، وتنكب الطريق الأعظم فأخذ على طريق الفرع.
ولما أصبح الوليد بلغه خبره، فوجه في أثره حبيب بن كوين في ثلاثين فارسا،
فلم يقعوا له على أثر، وشغلوا يومهم ذلك كله بطلب ابن الزبير.
فلما أمسوا، وأظلم الليل مضى الحسين رضي الله عنه أيضا نحو مكة، ومعه
أختاه: أم كلثوم، وزينب وولد أخيه، وإخوته أبو بكر، وجعفر، والعباس،
وعامة من كان بالمدينة من أهل بيته إلا أخاه محمد بن الحنفية، فإنه أقام.
وأما عبد الله بن عباس فقد كان خرج قبل ذلك بأيام إلى مكة.
وجعل الحسين رضي الله عنه يطوي المنازل، فاستقبله عبد الله بن مطيع، وهو
منصرف من مكة يريد المدينة، فقال له: (أين تريد؟).
قال الحسين: (أما الآن فمكة). قال (خار (1) الله لك، غير أني أحب أن أشير عليك برأي).
قال الحسين (وما هو؟).
قال: إذا أتيت مكة فأردت الخروج منها إلى بلد من البلدان، فإياك والكوفة،
فإنها بلدة مشؤومة، بها قتل أبوك، وبها خذل أخوك، واغتيل بطعنة كادت

(1) جعل لك الخير.
228

تأتي على نفسه، بل الزم الحرم، فإن أهل الحجاز لا يعدلون بك أحدا، ثم ادع
إليك شيعتك من كل أرض، فسيأتونك جميعا.
قال له الحسين: (يقضي الله ما أحب).
ثم أطلق عنانه، ومضى حتى وافى مكة، فنزل شعب علي، واختلف
الناس إليه، فكانوا يجتمعون عنده حلقا حلقا، وتركوا عبد الله بن الزبير،
وكانوا قبل ذلك يتحفلون إليه، فساء ذلك ابن الزبير، وعلم أن الناس لا يحفلون به
والحسين مقيم بالبلد، فكان يختلف إلى الحسين رضي الله عنه صباحا ومساء.
ثم إن يزيد عزل يحيى بن حكيم بن صفوان بن أمية.
(أهل الكوفة والحسين)
قالوا: ولما بلغ أهل الكوفة وفاة معاوية وخروج الحسين بن علي إلى مكة
اجتمع جماعة من الشيعة في منزل سليمان بن صرد، واتفقوا على أن يكتبوا إلى الحسين
يسألونه القدوم عليهم، ليسلموا الأمر إليه، ويطردوا النعمان بن بشير، فكتبوا
إليه بذلك، ثم وجهوا بالكتاب مع عبيد الله بن سبيع الهمداني وعبد الله بن وداك
السلمي، فوافوا الحسين رضي الله عنه بمكة لعشر خلون من شهر رمضان، فأوصلوا
الكتاب إليه.
ثم لم يمس الحسين يومه ذلك حتى ورد عليه بشر بن مسهر الصيداوي، وعبد
الرحمن بن عبيد الأرحبي، ومعهما خمسون كتابا من أشراف أهل الكوفة ورؤسائها،
كل كتاب منها من الرجلين والثلاثة والأربعة بمثل ذلك.
فلما أصبح وافاه هاني بن هاني السبيعي وسعيد بن عبد الله الخثعمي،
ومعهما أيضا نحو من خمسين كتابا.
فلما أمسى أيضا ذلك اليوم ورد عليه سعيد بن عبد الله الثقفي ومعه كتاب واحد
من شبث بن ربعي، وحجار بن أبجر، ويزيد بن الحارث، وعروة بن قيس، وعمرو
ابن الحجاج، ومحمد بن عمير بن عطارد وكان (1) هؤلاء الرؤساء من أهل الكوفة -
فتتابعت عليه في أيام رسل أهل الكوفة (و) من الكتب ما ملأ منه خرجين (2).

(1) في الأصل: وكانوا.
(2) الخرج بالضم وعاء ذو شقين، يوضع على ظهر الدابة،
ويتخذه المسافر ليضع فيه أحماله، والجمع أخراج.
229

فكتب الحسين إليهم جميعا كتابا واحدا، ودفعه إلى هانئ بن هانئ، وسعيد
ابن عبد الله، نسخته:
(بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن علي إلى من بلغه كتابي هذا، من
أوليائه وشيعته بالكوفة، سلام عليكم، أما بعد، فقد أتتني كتبكم، وفهمت ما
ذكرتم من محبتكم لقدومي عليكم، وإني باعث إليكم بأخي وابن عمي وثقتي من
أهلي (مسلم بن عقيل) ليعلم لي كنه أمركم، ويكتب إلي بما يتبين له من اجتماعكم،
فإن كان أمركم على ما أتتني به كتبكم، وأخبرتني به رسلكم أسرعت القدوم عليكم
إن شاء الله، والسلام).
وقد كان مسلم بن عقيل خرج معه من المدينة إلى مكة، فقال له الحسين عليه
السلام: (يا ابن عم، قد رأيت أن تسير إلى الكوفة، فتنظر ما اجتمع عليه رأي
أهلها، فإن كانوا على ما أتتني به كتبهم، فعجل علي بكتابك لأسرع القدوم
عليك، وإن تكن الأخرى، فعجل الانصراف).
فخرج مسلم على طريق المدينة ليلم بأهله، ثم استأجر دليلين من قيس، وسار،
فضلا ذات ليلة، فأصبحا، وقد تاها، واشتد عليهما العطش والحر، فانقطعا، فلم
يستطيعا المشي، فقالا لمسلم: (عليك بهذا السمت، فالزمه لعلك أن تنجو).
فتركهما مسلم ومن معه من خدمه بحشاشة الأنفس حتى أفضوا إلى طريق فلزموه،
حتى وردوا الماء، فأقام مسلم بذلك الماء.
وكتب إلى الحسين مع رسول استأجره من أهل ذلك الماء، يخبره خبره، وخبر
الدليلين، وما من الجهد، ويعلمه أنه قد تطير من الوجه الذي توجه له، ويسأله أن
يعفيه ويوجه غيره، ويخبره أنه مقيم بمنزله ذلك من بطن الحربث (1).
فسار الرسول حتى وافى مكة، وأوصل الكتاب إلى الحسين، فقرأه وكتب في
جوابه: (أما بعد، فقد ظننت أن الجبن قد قصر بك عما وجهتك به، فامض لما
أمرتك فإني غير معفيك، والسلام).

(1) البطن: الموضع الغامض من الوادي، والبطون كثيرة، والحربث نبت أسود وزهرته
بيضاء وهو من أطيب المراعي.
230

(مسلم في الكوفة)
فسار مسلم حتى وافى الكوفة، ونزل في الدار التي تعرف بدار المختار بن أبي
عبيدة، ثم عرفت اليوم بدار المسيب.
فكانت الشيعة تختلف إليه، فيقرأ عليهم كتاب الحسين، ففشا أمره بالكوفة
حتى بلغ ذلك النعمان بن بشير أميرها، فقال: (لا أقاتل إلا من قاتلني، ولا أثب
إلا على من وثب علي، ولا آخذ بالقرفة (1) والظنة، فمن أبدى صفحته ونكث
بيعته ضربته بسيفي ما ثبت قائمه في يدي، ولو لم أكن إلا وحدي). وكان يحب
العافية ويغتنم السلامة.
فكتب مسلم بن سعيد الحضرمي وعمارة بن عقبة - وكانا عيني يزيد بن معاوية
إلى يزيد يعلمانه قدوم مسلم بن عقيل الكوفة داعيا للحسين بن علي، وأنه قد أفسد
قلوب أهلها عليه، فإن يكن لك في سلطانك حاجة فبادر إليه من يقوم بأمرك،
ويعمل مثل عملك في عدوك، فإن النعمان رجل ضعيف أو متضاعف، والسلام.
فلما ورد الكتاب على يزيد أمر بعهد، فكتب لعبيد الله بن زياد على الكوفة،
وأمره أن يبادر إلى الكوفة، فيطلب مسلم بن عقيل طلب الحرزة حتى يظفر به، فيقتله،
أو ينفيه عنهما، ودفع الكتاب إلى مسلم بن عمرو الباهلي أبي قتيبة بن مسلم، وأمره
بإغذاذ السير. فسار مسلم حتى وافى البصرة، وأوصل الكتاب إلى عبيد الله بن زياد.
وقد كان الحسين بن علي رضي الله عنه كتب كتابا إلى شيعته من أهل البصرة
مع مولى له يسمى (سلمان) نسخته:
(بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن علي إلى مالك بن مسمع، والأحنف
ابن قيس، والمنذر بن الجارود، ومسعود بن عمرو، وقيس بن الهيثم، سلام
عليكم، أما بعد، فإني أدعوكم إلى إحياء معالم الحق وإماتة البدع، فإن تجيبوا
تهتدوا سبل الرشاد، والسلام).
فلما أتاهم هذا الكتاب كتموه جميعا إلا المنذر بن الجارود، فإنه أفشاه،
لتزويجه ابنته هندا من عبيد الله بن زياد، فأقبل حتى دخل عليه، فأخبره

(1) التهمة.
231

بالكتاب، وحكى له ما فيه، فأمر عبيد الله بن زياد بطلب الرسول، فطلبوه، فأتوه
به، فضربت عنقه.
ثم أقبل حتى دخل المسجد الأعظم، فاجتمع له الناس، فقام، فقال:
(أنصف القارة (1) من راماها، يا أهل البصرة إن أمير المؤمنين قد ولاني مع
البصرة الكوفة، وأنا سائر إليها، وقد خلفت عليكم أخي عثمان بن زياد، فإياكم
والخلاف والإرجاف، فوالله الذي إله غيره، لئن بلغني عن رجل منكم خالف أو
أرجف لأقتلنه ووليه، ولآخذن الأدنى بالأقصى، والبرئ بالسقيم حتى تستقيموا،
وقد أعذر من أنذر). ثم نزل، وسار.
وخرج معه من أشراف أهل البصرة شريك بن الأعور والمنذر بن الجارود،
فسار حتى وافى الكوفة، فدخلها، وهو متلثم.
وقد كان الناس بالكوفة يتوقعون الحسين بن علي عليه السلام، وقدومه،
فكان لا يمر ابن زياد بجماعة إلا ظنوا أنه الحسين فيقومون له، ويدعون ويقولون:
(مرحبا بابن رسول الله قدمت خير مقدم).
فنظر ابن زياد من تباشيرهم بالحسين إلى ما ساءه، وأقبل حتى دخل المسجد
الأعظم، ونودي في الناس، فاجتمعوا، وصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه،
ثم قال:
(يا أهل الكوفة، إن أمير المؤمنين قد ولاني مصركم، وقسم فيئكم فيكم،
وأمرني بإنصاف مظلومكم، والإحسان إلى سامعكم ومطيعكم، والشدة على

(1) القارة: قوم رماة من العرب، وفي المثل: قد أنصف القارة من راماها، وقد زعموا
أن رجلين التقيا، أحدهما قاري والآخر أسدي، فقال القاري: إن شئت صارعتك، وإن شئت
سابقتك، وإن شئت راميتك، فقال اخترت المراماة، فقال القاري: قد أنصفتني وأنشد:
قد أنصف القارة من راماها
إنا إذا ما فئة نلقاها
نرد أولاها على أخراها
ثم انتزع سهما فشك فؤاده.
232

عاصيكم ومريبكم، وأنا منته في ذلك إلى أمره، وأنا لمطيعكم كالوالد الشفيق،
ولمخالفكم كالسم النقيع، فلا يبقين أحد منكم إلا على نفسه).
ثم نزل، فأتى القصر، فنزله، وارتحل النعمان بن بشير نحو وطنه بالشام.
وبلغ مسلم بن عقيل قدوم عبيد الله بن زياد وانصراف النعمان، وما كان من
خطبة ابن زياد ووعيده، فخاف على نفسه.
فخرج من الدار التي كان فيها بعد عتمة حتى أتى دار هانئ بن ورقة المذحجي،
وكان من أشراف أهل الكوفة، فدخل داره الخارجة، فأرسل إليه وكان في دار
نسائه، يسأله الخروج إليه، فخرج إليه.
وقام مسلم، فسلم عليه، وقال:
(إني أتيتك لتجيرني وتضيفني).
فقال له هانئ:
(لقد كلفتني شططا بهذا الأمر، ولولا دخولك منزلي لأحببت أن تنصرف
عني، غير أنه قد لزمني ذمام لذلك).
فأدخله دار نسائه، وأفرد له ناحية منها.
وجعلت الشيعة تختلف إليه في دار هانئ.
وكان هانئ بن عروة مواصلا لشريك بن الأعور البصري الذي قام مع
ابن زياد، وكان ذا شرف بالبصرة وخطر، فانطلق هانئ إليه حتى أتى به منزله،
وأنزله مع مسلم بن عقيل في الحجرة التي كان فيها.
وكان شريك من كبار الشيعة بالبصرة، فكان يحث هانئا على القيام بأمر مسلم، وجعل مسلم يبايع من أتاه من أهل الكوفة، ويأخذ عليهم العهود والمواثيق
المؤكدة بالوفاء.
* * *
233

ومرض شريك بن الأعور في منزل هانئ بن عروة مرضا شديدا، وبلغ ذلك
عبيد الله بن زياد، فأرسل إليه يعلمه أنه يأتيه عائدا.
فقال شريك لمسلم بن عقيل: (إنما غايتك وغاية شيعتك هلاك هذا الطاغية،
وقد أمكنك الله منه، هو صائر إلى ليعودني، فقم، فادخل الخزانة حتى إذا
اطمأن عندي، فاخرج إليه، فقاتله، ثم صر إلى قصر الإمارة، فاجلس فيه،
فإنه لا ينازعك فيه أحد من الناس، وإن رزقني الله العافية صرت إلى البصرة،
فكفيتك أمرها، وبايع لك أهلها).
فقال هانئ بن عروة: (ما أحب أن يقتل في داري ابن زياد).
فقال له شريك: (ولم؟ فوالله إن قتله لقربان إلى الله).
ثم قال شريك لمسلم: (لا تقصر في ذلك).
فبينما هم على ذلك إذ قيل لهم: (الأمير بالباب).
فدخل مسلم بن عقيل الخزانة، ودخل عبيد الله بن زياد على شريك، فسلم
عليه، وقال:
(ما الذي تجد وتشكو؟).
فلما طال سؤاله إياه استبطأ شريك خروج مسلم، وجعل يقول، ويسمع
مسلما:
ما تنظرون بسلمى عند فرصتها * فقد وفى ودها، واستوسق الصرم (1)
وجعل يردد ذلك.
فقال ابن زياد لهانئ: (أيهجر؟) - يعني يهذي -. قال هانئ: (نعم، أصلح الله الأمير، لم يزل هكذا منذ أصبح).
ثم قام عبيد الله وخرج، فخرج مسلم بن عقيل من الخزانة، فقال شريك:
(ما الذي منعك منه إلا الجبن والفشل؟).

(1) استوسق الأمر إذا أمكن، والصرم: الطائفة المجتمعة من القوم.
234

قال مسلم: (منعني منه خلتان: إحداهما كراهية هانئ لققله في منزله،
والأخرى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الإيمان قيد الفتك، لا يفتك
مؤمن).
فقال شريك: (أما والله لو قتلته لاستقام لك أمرك، واستوسق لك
سلطانك).
ولم يعش شريك بعد ذلك إلا أياما، حتى توفي، وشيع ابن زياد جنازته،
وتقدم فصلى عليه.
ولم يزل مسلم بن عقيل يأخذ البيعة من أهل الكوفة حتى بايعه منهم ثمانية عشر
ألف رجل في ستر ورفق.
* * *
وخفي على عبيد الله بن زياد موضع مسلم بن عقيل، فقال لمولى له من أهل الشام
يسمى معقلا، وناوله ثلاثة آلاف درهم في كيس، وقال: (خذ هذا المال، وانطلق،
فالتمس مسلم بن عقيل، وتأت له بغاية التأتي).
فانطلق الرجل حتى دخل المسجد الأعظم، وجعل لا يدري كيف يتأتى الأمر
ثم إنه نظر إلى رجل يكثر الصلاة إلى سارية من سواري المسجد، فقال في
نفسه: (إن هؤلاء الشيعة يكثرون الصلاة، وأحسب هذا منهم).
فجلس الرجل حتى إذا انفتل من صلاته قام، فدنا منه، وجلس، فقال:
(جعلت فداك، إني رجل من أهل الشام، مولى لذي الكلاع، وقد أنعم الله
على بحب أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحب من أحبهم، ومعي هذه
الثلاثة الآلاف (1) درهم، أحب إيصالها إلى رجل منهم، بلغني أنه قدم هذا المصر
داعية للحسين بن علي عليه السلام، فهل تدلني عليه لأوصل هذا المال إليه؟
ليستعين به على بعض أموره، ويضعه حيث أحب من شيعته).
قال له الرجل: وكيف قصدتني بالسؤال عن ذلك دون غيري ممن هو
في المسجد؟).

(1) في الأصل: آلاف.
235

قال: (لأني رأيت عليك سيما الخير، فرجوت أن تكون ممن يتولى أهل
بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم).
قال له الرجل: (ويحك، قد وقعت على بعينك، أنا رجل من إخوانك،
واسمي مسلم بن عوسجة، وقد سررت بك، وساءني ما كان من حسي قبلك،
فإني رجل من شيعة أهل هذا البيت، خوفا من هذا الطاغية ابن زياد، فأعطني
ذمة الله وعهده أن تكتم هذا عن جميع الناس).
فأعطاه من ذلك ما أراد.
فقال له مسلم بن عوسجة: (انصرف يومك هذا، فإن كان غد فائتني في منزلي
حتى أنطلق معك إلى صاحبنا - يعني مسلم بن عقيل - فأوصلك إليه).
فمضى الشامي، فبات ليلته، فلما أصبح غدا إلى مسلم بن عوسجة في منزله،
فانطلق به حتى أدخله إلى مسلم بن عقيل، فأخبره بأمره، ودفع إليه الشامي
ذلك المال، وبايعه.
فكان الشامي يغدو إلى مسلم بن عقيل، فلا يحجب عنه، فيكون نهاره
كله عند، فيتعرف جميع أخبارهم، فإذا أمسى وأظلم عليه الليل دخل على عبيد الله
ابن زياد، فأخبره بجميع قصصهم، وما قالوا وفعلوا في ذلك، وأعلمه
نزول مسلم في دار هانئ بن عروة.
* * *
ثم إن محمد بن الأشعث وأسماء بن خارجة دخلا على ابن زياد مسلمين،
فقال لهما:
(ما فعل هانئ بن عروة؟).
فقالا: (أيها الأمير، إنه عليل منذ أيام).
فقال ابن زياد: (وكيف؟ وقد بلغني أنه يجلس على باب داره عامة نهاره، فما
يمنعه من إتياننا، وما يجب عليه من حق التسليم؟).
قالا: (سنعلمه ذلك، ونخبره باستبطائك إياه).
236

فخرجا من عنده، وأقبلا حتى دخلا على هانئ بن عروة، فأخبراه بما قال لهما
ابن زياد، وما قالا له، ثم قالا له:
(أقسمنا عليك إلا قمت معنا إليه الساعة لتسل سخيمة (1) قلبه).
فدعا ببغلته، فركبها، ومضى معهما، حتى إذا دنا من قصر الإمارة خبثت
نفسه.
فقال لهما:
(إن قلبي قد أوجس من هذا الرجل خيفة).
قالا: (ولم تحدث نفسك بالخوف وأنت برئ الساحة؟).
فمضى معهما حتى دخلوا على ابن زياد، فأنشأ ابن زياد يقول متمثلا:
أريد حياته ويريد قتلي
عذيرك من خليلك من مراد
قال هانئ: (وما ذاك أيها الأمير؟)
. قال ابن زياد: (وما يكون أعظم من مجيئك بمسلم بن عقيل، وإدخالك إياه
منزلك، وجمعك له الرجال ليبايعوه؟).
فقال هانئ: (ما فعلت، وما أعرف من هذا شيئا).
فدعا ابن زياد بالشامي، وقال: (يا غلام، ادع لي معقلا).
فدخل عليهم.
فقال ابن زياد لهانئ بن عروة: (أتعرف هذا؟).
فلما رآه علم أنه إنما كان عينا عليهم.
فقال هانئ: (أصدقك والله أيها الأمير، إني والله ما دعوت مسلم بن عقيل،
وما شعرت به). ثم قص عليه قصته على وجهها.
ثم قال: (فأما الآن فأنا مخرجة من داري لينطلق حيث يشاء، وأعطيك
عهدا وثيقا أن أرجع إليك).

(1) السخيمة: الحقد والضغينة والموجدة في النفس.
237

قال ابن زياد: (لا والله، لا تفارقني حتى تأتيني به).
فقال هانئ: (أو يجمل بي أن أسلم ضيفي وجاري للقتل؟ والله لا أفعل
ذلك أبدا).
فاعترضه ابن زياد بالخيزرانة، فضرب وجهه، وهشم أنفه، وكسر حاجبه،
وأمر به، فأدخل بيتا.
وبلغ مذحجا أن ابن زياد قد قتل هانئا، فاجتمعوا بباب القصر، وصاحوا.
فقال ابن زياد لشريح القاضي - وكان عنده -: (ادخل إلى صاحبهم، فانظر
إليه، ثم اخرج إليهم، فأعلمهم أنه حي). ففعل.
فقال لهم سيدهم عمرو بن الحجاج: (أما إذ كان صاحبكم حيا فما يعجلكم
الفتنة؟ انصرفوا). فانصرفوا.
فلما علم ابن زياد انهم قد انصرفوا أمر بهانئ، فأتي به السوق، فضربت
عنقه هناك.
* * *
ولما بلغ مسلم بن عقيل قتل هانئ بن عروة نادى فيمن كان بايعه، فاجتمعوا،
فعقد لعبد الرحمن بن كريز الكندي على كندة وربيعة، وعقد لمسلم بن
عوسجة على مذحج وأسد، وعقد لأبي ثمامة الصيداوي على تميم وهمدان، وعقد
للعباس بن جعدة بن هبيرة على قريش والأنصار، فتقدموا جميعا حتى أحاطوا بالقصر،
واتبعهم هو في بقية الناس.
وتحصن عبيد الله بن زياد في القصر مع من حضر مجلسه في ذلك اليوم من
أشراف أهل الكوفة والأعوان والشرط، وكانوا مقدار مائتي رجل، فقاموا
على سور القصر يرمون القوم بالمدر (1) والنشاب، ويمنعونهم من الدنو من القصر،
فلم يزالوا بذلك حتى أمسوا.

(1) رماح كانت تركب فيها القرون المحددة مكان الأسنة.
238

وقال عبيد الله بن زياد لمن كان عنده من أشراف أهل الكوفة: ليشرف كل
رجل منكم في ناحية من السور، فخوفوا القوم.
فأشرف كثير بن شهاب، ومحمد بن الأشعث، والقمقاع بن شور، وشبث
ابن ربعي، وحجار بن أبجر، وشمر بن ذي الجوشن، فتنادوا: (يا أهل
الكوفة، اتقوا الله ولا تستعجلوا الفتنة، ولا تشقوا عصا هذه الأمة، ولا توردوا
على أنفسكم خيول الشام، فقد ذقتموهم، وجربتم شوكتهم).
فلما سمع أصحاب مسلم مقالتهم فتروا بعض الفتور.
وكان الرجل من أهل الكوفة يأتي ابنه، وأخاه، وابن عمه فيقول: انصرف،
فإن الناس يكفونك. وتجئ المرأة إلى ابنها وزوجها وأخيها فتتعلق به حتى يرجع.
فصلى مسلم العشاء في المسجد، وما معه إلا زهاء ثلاثين رجلا.
فلما رأى ذلك مضى منصرفا ماشيا، ومشوا معه، فأخذ نحو كندة، فلما
مضى قليلا التفت فلم ير منهم أحدا، ولم يصب إنسانا يدله على الطريق، فمضى
هائما على وجهه في ظلمة الليل حتى دخل على كندة.
فإذا امرأة قائمة على باب دارها تنتظر ابنها - وكانت ممن خف مع مسلم - فآوته
وأدخلته بيتها، وجاء ابنها، فقال: من هذا في الدار؟
فأعلمته، وأمرته بالكتمان.
* * *
ثم إن ابن زياد لما فقد الأصوات ظن أن القوم دخلوا المسجد، فقال: انظروا،
هل ترون في المسجد أحدا؟ - وكان المسجد مع القصر -.
فنظروا فلم يروا أحدا، وجعلوا يشعلون (أطناب) القصب (1)، ثم يقذفون بها في
رحبة المسجد ليضئ لهم، فتبينوا، فلم يروا أحدا.
فقال ابن زياد: إن القوم قد خذلوا، وأسلموا مسلما.
وانصرفوا.

(1) أطناب القصب: عروقه التي تتشعب من أرومته. وفي الأصل أطناب والصواب ما ذكر.
239

فخرج فيمن كان معه، وجلس في المسجد، ووضعت الشموع والقناديل، وأمر
مناديا فنادى بالكوفة (ألا برئت الذمة من رجل من العرفاء والشرط والحرس لم
يحضر المسجد).
فاجتمع الناس، ثم قال: (يا حصين بن نمير - وكان على الشرطة - ثكلتك
أمك إن ضاع باب سكة من سكك الكوفة، فإذا أصبحت فاستقر الدور، دارا،
دارا، حتى تقع عليه.
وصلى ابن زياد العشاء في المسجد، ثم دخل القصر.
فلما أصبح جلس للناس، فدخلوا عليه، ودخل في أوائلهم محمد بن الأشعث،
فأقعده معه على سريره.
وأقبل ابن تلك المرأة التي مسلم في بيتها إلى عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث -
وهو حينئذ غلام حين راهق - فأخبره بمكان مسلم عنده.
فأقبل عبد الرحمن إلى أبيه محمد بن الأشعث، وهو جالس مع ابن زياد، فأسر
إليه الخبر.
فقال ابن زياد: (ما سار به ابنك؟
قال: (أخبرني أن مسلم بن عقيل في بعض دورنا).
فقال: (انطلق، فأتني به الساعة).
وقال لعبيد بن حريث: (ابعث مائة رجل من قريش) وكره أن يبعث إليه غير قريش من العصبية أن تقع.
فأقبلوا حتى أتوا الدار التي فيها مسلم بن عقيل، ففتحوها، فقاتلهم، فرمى،
فكسر فوه، وأخذ، فأتي ببغلة فركبها، وصاروا به إلى ابن زياد.
(قتل مسلم بن عقيل)
فلما أدخل عليه، وقد اكتنفه الجلاوزة قالوا له: (سلم على الأمير).
قال: (إن كان الأمير يريد قتلي، فما أنتفع بسلام عليه، وإن كان لم يرد
فسيكثر عليه سلامي).
240

قال ابن زياد: كأنك ترجو البقاء.
فقال له مسلم: فإن كنت مزمعا على قتلي، فدعني أوص إلى بعض من هاهنا
من قومي.
قال له: أوص بما شئت.
فنظر إلى عمر بن سعد بن أبي وقاص، فقال له: أخل معي في طرف هذا البيت
حتى أوصي إليك، فليس في القوم أقرب إلي ولا أولى بي منك.
فتنحى معه ناحية، فقال له: (أتقبل وصيتي؟
قال: نعم.
قال مسلم: إن على هاهنا دينا، مقدار ألف درهم، فاقض عني، وإذا أنا
قتلت فاستوهب من ابن زياد جثتي لئلا يمثل بها، وابعث إلى الحسين بن علي
رسولا قاصدا من قبلك، يعلمه حالي، وما صرت إليه من غدر هؤلاء الذين
يزعمون أنهم شيعته، وأخبره بما كان من نكثهم بعد أن بايعني منهم ثمانية عشر
ألف رجل، لينصرف إلى حرم الله، فيقيم به، ولا يغتر بأهل الكوفة.
وقد كان مسلم كتب إلى الحسين أن يقدم ولا يلبث.
فقال له عمر بن سعد: لك على ذلك كله، وأنا به زعيم.
فانصرف إلى ابن زياد، فأخبره بكل ما أوصى به إليه مسلم.
فقال له ابن زياد: قد أسأت في أفشائك ما أسره إليك، وقد قيل (إنه
لا يخونك إلا الأمين، وربما ائتمنك الخائن).
وأمر ابن زياد بمسلم فرقى به إلى ظهر القصر، فأشرف به على الناس، وهم
على باب القصر مما يلي الرحبة، حتى إذا رأوه ضربت عنقه هناك، فسقط رأسه
إلى الرحبة، ثم أتبع الرأس بالجسد.
وكان الذي تولى ضرب عنقه أحمر بن بكير.
241

وفي ذلك يقول عبد الرحمن بن الزبير الأسدي:
فإن كنت لا تدرين ما الموت فانظري * إلى هانئ في السوق وابن عقيل
إلى بطل قد هشم السيف أنفه * وآخر، يهوي من طمار، قتيل (1)
أصابهما ريب الزمان، فأصبحا * أحاديث من يسعى بكل سبيل
ترى جسدا قد غير الموت لونه * ونضح دم قد سال كل مسيل
ثم بعث عبيد الله برؤوسهما إلى يزيد، وكتب إليه بالنبأ فيهما.
فكتب إليه يزيد: لم نعد الظن بك، وقد فعلت فعل الحازم الجليد،
وقد سألت رسوليك عن الأمر، ففرشاه لي، وهما كما ذكرت في النصح،
وفضل الرأي، فاستوص بهما.
وقد بلغني أن الحسين بن علي قد فصل من مكة متوجها إلى ما قبلك، فأدرك
العيون عليه، وضع الأرصاد على الطرق، وقم أفضل القيام، غير ألا تقاتل
إلا من قاتلك، واكتب إلي بالخبر في كل يوم.
وكان أنفذ الرأسين إليه مع هانئ بن أبي حية الهمداني، والزبير بن الأروج
التميمي.
وكان قتل مسلم بن عقيل يوم الثلاثاء لثلاث خلون من ذي الحجة سنة ستين (2)،
وهي السنة التي مات فيها معاوية.

(1) الطمار المكان العالي.
(2) سبتمبر 679.
242

(خروج الحسين إلى الكوفة) وخرج الحسين بن علي عليه السلام من مكة في ذلك اليوم.
ثم إن ابن زياد وجه بالحصين بن نمير - وكان على شرطه - في أربعة آلاف
فارس من أهل الكوفة، وأمره أن يقيم بالقادسية (1) إلى القطقطانة (2)، فيمنع
من أراد النفوذ من ناحية الكوفة إلى الحجاز ألا من كان حاجا أو معتمرا
ومن لا يتهم بممالاة الحسين.
قالوا: ولما ورد كتاب مسلم بن عقيل على الحسين عليه السلام:
(أن الرائد لا يكذب أهله، وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألف
رجل، فاقدم، فإن جميع الناس معك، ولا رأي لهم في آل أبي سفيان).
فلما عزم على الخروج، وأخذ في الجهاز بلغ ذلك عبد الله بن عباس، فأقبل
حتى دخل على الحسين، رضي الله عنه، فقال:
يا ابن عم، قد بلغني أنك تريد المسير إلى العراق.
قال الحسين: أنا على ذلك.
قال عبد الله: أعيذك بالله يا بن عم من ذلك.
قال الحسين: قد عزمت، ولا بد من المسير.
قال له عبد الله: أتسير إلى قوم طردوا أميرهم عنهم، وضبطوا بلادهم؟ فإن كانوا
فعلوا ذلك فسر إليهم، وإن كانوا إنما يدعونك إليهم، وأميرهم عليهم، وعماله
يجبونهم، فإنهم إنما يدعونك إلى الحرب، ولا آمنهم أن يخذلوك كما خذلوا أباك
وأخاك.
قال الحسين: يا بن عم، سأنظر فيما قلت.

(1) قرية بين الكوفة وعذيب في قضاء الديوانية.
(2) موضع بقرب الكوفة.
(3) الرائد هو الذي يتقد القوم يبصر لهم الكلأ ومساقط الغيث.
243

وبلغ عبد الله بن الزبير ما يهم به الحسين، فأقبل حتى دخل عليه، فقال له:
لو أقمت بهذا الحرم، وبثثت رسلك في البلدان، وكتبت إلى شيعتك بالعراق أن
يقدموا عليك، فإذا قوي أمرك نفيت عمال يزيد عن هذا البلد، وعلي لك المكانفة
والمؤازرة، وإن عملت بمشورتي طلبت هذا الأمر بهذا الحرم، فإنه مجمع أهل
الآفاق، ومورد أهل الأقطار لم يعدمك بإذن الله إدراك ما تريد، ورجوت أن تناله.
قالوا: ولما كان في اليوم الثالث عاد عبد الله بن عباس إلى الحسين، فقال له:
- يا بن عم لا تقرب أهل الكوفة، فإنهم قوم غدرة، وأقم بهذه البلدة،
فإنك سيد أهلها، فإن أبيت فسر إلى أرض اليمن، فإن بها حصونا وشعابا، وهي
أرض طويلة عريضة، ولأبيك فيها شيعة، فتكون عن الناس في عزلة، وتبث
دعاتك في الآفاق، فإني أرجو إن فعلت ذلك أتاك الذي تحب في عافية.
قال الحسين عليه السلام: يا بن عم، والله إني لأعلم أنك ناصح مشفق، غير
أني قد عزمت على الخروج.
قال ابن عباس: فإن كنت لا محالة سائرا، فلا تخرج النساء والصبيان، فإني
لا آمن أن تقتل كما قتل ابن عفان، وصبيته ينظرون إليه.
قال الحسين: عم، ما أرى إلا الخروج بالأهل والولد.
فخرج ابن عباس من عند الحسين فمر بابن الزبير، وهو جالس، فقال له:
قرت عينك يا بن الزبير بخروج الحسين.
ثم تمثل:
خلالك الجو، فبيضي واصفري * ونقري، ما شئت أن تنقري
قالوا: ولما خرج الحسين من مكة اعترضه صاحب شرطة أميرها، عمرو بن سعيد
ابن العاص في جماعة من الجند، فقال: إن الأمير يأمرك بالانصراف، فانصرف،
وإلا منعتك.
فامتنع عليه الحسين، وتدافع الفريقان، واضطربوا بالسياط.
وبلغ ذلك عمرو بن سعيد، فخاف أن يتفاقم الأمر، فأرسل إلى صاحب شرطه،
يأمره بالانصراف.
244

قالوا (ولما فصل الحسين بن علي من مكة سائرا، وقد وصل إلى التنعيم (1) لحق
عيرا مقبلة من اليمن، عليهما ورس (2). وحناء، ينطلق به إلى يزيد بن معاوية،
فأخذها وما عليها.
وقال لأصحاب الإبل: من أحب منكم أن يسير معنا إلى العراق أوفيناه كراه،
وأحسنا صحبته، ومن أحب أن يفارقنا من هاهنا أعطيناه من الكرى (3) بقدر
ما قطع من الأرض).
ففارقه قوم، ومضى معه آخرون.
ثم سار حتى إذا انتهى إلى الصفاح (4) لقيه هناك الفرزدق الشاعر مقبلا من العراق، يريد مكة، فسلم على الحسين.
فقال له الحسين: كيف خلفت الناس بالعراق؟
قال: خلفتهم، وقلوبهم معك، وسيوفهم عليك.
ثم ودعه.
ومضى الحسين عليه السلام حتى إذا صار ببطن الرمة (5) كتب إلى أهل الكوفة.
(بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن علي إلى إخوانه من المؤمنين بالكوفة)،
سلام عليكم، أما بعد، فإن كتاب مسلم بن عقيل ورد على باجتماعكم لي، وتشوفكم
إلى قدومي، وما أنتم عليه منطوون من نصرنا، والطلب بحقنا، فأحسن الله لنا
ولكم الصنيع، وأثابكم على ذلك بأفضل الذخر، وكتابي إليكم من بطن الرمة،
وأنا قادم عليكم، وحثيث السير إليكم، والسلام).

(1) مكان بين مكة والمدينة بالقرب من مكة.
(3) الورس: نبت أصفر يكون باليمن تتخذ منه الغمرة للوجه.
(3) الأجر
(4) موضع بين حنين وأنصاب الحرم يسره الداخل إلى مكة، وصفاح نعمان جبال بين مكة
والطائف.
(5) قاع عظيم بنجد تصب فيه جماعة أودية.
245

ثم بعث بالكتاب مع قيس بن مسهر، فسار حتى وافى القادسية (1).
فأخذه حصين بن نمير، وبعث به إلى ابن زياد، فلما أدخل عليه أغلظ لعبيد
الله، فأمر به أن يطرح من أعلى سور القصر إلى الرحبة، فطرح، فمات.
وسار الحسين عليه السلام من بطن الرمة (2)، فلقيه عبد الله بن مطيع،
وهو منصرف من العراق، فسلم على الحسين، وقال له:
بأبي أنت وأمي يا بن رسول الله، ما أخرجك من حرم الله وحرم جدك؟
فقال: إن أهل الكوفة كتبوا إلي يسألونني أن أقدم عليهم لما رجوا من إحياء
معالم الحق، وإماتة البدع.
قال له ابن مطيع: أنشدك الله أن (لا) تأتي الكوفة، فوالله لئن أتيتها
لتقتلن.
فقال الحسين عليه السلام: (لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا).
ثم ودعه ومضى.
ثم سار حتى انتهى إلى زرود (3)، فنظر إلى فسطاط (4) مضروب، فسأل عنه،
فقيل له: هو لزهير بن القين.
وكان حاجا أقبل من مكة يريد الكوفة.
فأرسل إليه الحسين، أن القني أكلمك.
فأبى أن يلقاه.
وكانت مع زهير زوجته، فقالت له: سبحان الله، يبعث إليك ابن رسول الله
صلى الله عليه وسلم فلا تجيبه.
فقام يمشي إلى الحسين عليه السلام، فلم يلبث أن انصرف، وقد أشرق وجهه،

(1) القادسية، قرية قرب الكوفة من جهة البرية، بينها وبين العذيب أربعة أميال،
وعندها كانت الواقعة الكبرى بين المسلمين والفرس، وقد فتحت بلادهم على المسلمين.
(2) بطن الرمة: منزل لأهل البصرة إذا أرادوا المدينة، بها يجتمع أهل البصرة والكوفة.
(3) موضع بطريق مكة بعد الرمل.
(4) الفسطاط: بيت من الشعر.
246

فأمر بفسطاطه فقلع، وضرب إلى لزق فسطاط الحسين.
ثم قال لامرأته: أنت طالق، فتقدمي مع أخيك حتى تصلي إلى منزلك،
فإني قد وطنت نفسي على الموت مع الحسين عليه السلام.
ثم قال لمن كان معه من أصحابه: من أحب منكم الشهادة فليقم، ومن كرهها
فليتقدم.
فلم يقم معه منهم أحد، وخرجوا مع المرأة وأخيها حتى لحقوا بالكوفة.
* * *
قالوا: ولما رحل الحسين من زرود تلقاه رجل من بني أسد، فسأله عن الخبر.
فقال: لم أخرج من الكوفة حتى قتل مسلم بن عقيل، وهانئ بن عروة،
ورأيت الصبيان يجرون بأرجلهما.
فقال: إنا لله، وإنا إليه راجعون، عند الله نحتسب أنفسنا.
فقال له: أنشدك الله يا بن رسول الله في نفسك، وأنفس أهل بيتك،
هؤلاء الذين نراهم معك، انصرف إلى موضعك، ودع المسير إلى الكوفة،
فوالله ما لك بها ناصر.
فقال بنو عقيل - وكانوا معه -: ما لنا في العيش بعد أخينا مسلم حاجة،
ولسنا براجعين حتى نموت.
فقال الحسين: (فما خير في العيش بعد هؤلاء)، وسار.
فلما وافى زبالة (1) وافاه بها رسول محمد بن الأشعث، وعمر بن سعد بما كان
سأله مسلم أن يكتب به إليه من أمره، وخذلان أهل الكوفة إياه، بعد أن بايعوه،
وقد كان مسلم سأل محمد بن الأشعث ذلك.

(1) موضع بطريق مكة، وبها بركتان، قال الشماخ:
وراحت رواحا من زرود فنازعت
زبالة جلبابا من الليل أخضرا
247

فلما قرأ الكتاب استيقن بصحة الخبر، وأفظعه مسلم بن عقيل، وهانئ
ابن عروة.
ثم أخبره الرسول بقتل قيس بن مسهر رسوله الذي وجهه من بطن
الرمة.
وقد كان صحبه قوم من منازل الطريق، فلما سمعوا خبر مسلم، وقد كانوا ظنوا
أنه يقدم على أنصار وعضد تفرقوا عنه، ولم يبق معه إلا خاصته.
فسار حتى انتهى إلى بطن العقيق (1)، فلقيه رجل من بني عكرمة، فسلم
عليه، وأخبره بتوطيد ابن زياد الخيل ما بين القادسية إلى العذيب (2) رصدا له.
ثم قال له: (انصرف بنفسي أنت، فوالله ما تسير إلا إلى الأسنة والسيوف،
ولا تتكلن على الذين كتبوا لك، فإن أولئك أول الناس مبادرة إلى حربك).
فقال له الحسين: (قد ناصحت وبالغت، فجزيت خيرا).
ثم سلم عليه، ومضى حتى نزل بشراة (3) بات بها، ثم ارتحل وسار.
فلما انتصف النهار، واشتدت الحر، وكان ذلك في القيظ، تراءت لهم
الخيل.
فقال الحسين لزهير بن القين:
أما هاهنا مكان يلجأ إليه، أو شرف، نجعله خلف ظهورنا، ونستقبل القوم
من وجه واحد؟)).
قال له زهير: بلى، هذا جبل ذي جشم، يسره عنك، فمل بنا إليه، فإن سبقت
إليه فهو كما تحب.
فسار حتى سبق إليه، وجعل ذلك الجبل وراء ظهره.

(1) موضع بالقرب من ذات عرق قبلها بمرحلة، وذات عرق منزل معروف من منازل الحاج،
ويحرم أهل العراق بالحج منه.
(2) ماء لبني تميم على مرحلة من الكوفة، سمى بذلك لأنه طرف أرض العرب.
(3) مرتفع من الأرض بالقرب من عسفان.
248

وأقبلت الخيل، وكانوا ألف فارس مع الحر بن يزيد التميمي، ثم اليربوعي،
حتى إذا دنوا أمر الحسين عليه السلام فتيانه أن يستقبلوهم بالماء، فشربوا،
وتغمرت خيلهم، ثم جلسوا جميعا في ظل خيولهم، وأعنتها في أيديهم حتى إذا
حضرت الظهر قال الحسين عليه السلام للحر: أتصلي معنا، أم تصلي بأصحابك وأصلي
بأصحابي؟
قال الحر: (بل نصلي جميعا بصلاتك).
فتقدم الحسين عليه السلام، فصلى بهم جميعا.
فلما انفتل من صلاته حول وجهه إلى القوم، ثم قال:
(أيها الناس، معذرة إلى الله، ثم إليكم، إني لم آتكم حتى أتتني كتبكم،
وقدمت على رسلكم، فإن أعطيتموني ما أطمئن إليه من عهودكم ومواثيقكم
دخلنا معكم مصركم، وإن تكن الأخرى انصرفت من حيث جئت).
فأسكت القوم، فلم يردوا عليه، حتى إذا جاء وقت العصر نادى مؤذن
الحسين، ثم أقام، وتقدم الحسين عليه السلام، فصلى بالفريقين، ثم انفتل
إليهم، فأعاد مثل القول الأول.
فقال الحر بن يزيد: (والله ما ندري ما هذه الكتب التي تذكر).
فقال الحسين عليه السلام: (ايتني بالخرجين (1) اللذين فيهما كتبهم).
فأتي بخرجين مملوءين كتبا، فنثرت بين يدي الحر وأصحابه، فقال له الحر:
(يا هذا، لسنا ممن كتب إليك شيئا من هذه الكتب، وقد أمرنا ألا نفارقك
إذا لقيناك أو نقدم بك الكوفة على الأمير عبيد الله بن زياد).
فقال الحسين عليه السلام: (الموت دون ذلك).

(1) وعاء معروف ذو جانبين.)
249

ثم أمر بأثقاله، فحملت، وأمر أصحابه، فركبوا، ثم ولى وجهه منصرفا
نحو الحجاز، فحال القوم بينه وبين ذلك.
فقال الحسين للحر: ما الذي تريد؟
قال: أريد والله إن أنطلق بك إلى الأمير عبيد الله بن زياد.
قال الحسين: إذن والله أنابذك الحرب.
فلما كثر الجدال بينهما قال الحر: (إني لم أومر بقتالك، وإنما أمرت ألا
أفارقك، وقد رأيت رأيا فيه السلامة من حربك، وهو أن تجعل بيني وبينك
طريقا، لا تدخلك الكوفة، ولا تردك إلى الحجاز، تكون نصفا بيني وبينك حتى
يأتينا رأي الأمير).
قال الحسين: (فخذ هاهنا، فأخذ متياسرا من طريق العذيب (1)، ومن ذلك المكان إلى العذيب ثمانية وثلاثون ميلا).
فسارا جميعا حتى انتهوا إلى عذيب الحمامات، فنزلوا جميعا، وكل فريق منهما
على غلوة (2) من الآخر.
* * *
ثم ارتحل الحسين من موضعه ذلك متيامنا عن طريق الكوفة حتى انتهى إلى
قصر بني مقاتل، فنزلوا جميعا هناك، فنظر الحسين إلى فسطاط مضروب،
فسأل عنه، فأخبر أنه لعبيد الله بن الحر الجعفي، وكان من أشراف أهل
الكوفة، وفرسانهم.
فأرسل الحسين إليه بعض مواليه يأمره بالمصير إليه، فأتاه الرسول، فقال:
- هذا الحسين بن علي يسألك أن تصير إليه.
فقال عبيد الله: والله ما خرجت من الكوفة إلا لكثرة من رأيته خرج لمحاربته

(1) العذيب: تصغير العذب، ماء على يمين القادسية، بينه وبين القادسية أربعة أميال، منه إلى مفازة القرون في طريق مكة.
(2) الغلوة قدر رمية بسهم.
250

وخذلان شيعته، فعلمت أنه مقتول ولا أقدر على نصره، فلست أحب أن يراني
ولا أراه).
فانتعل الحسين حتى مشى، ودخل عليه قبته، ودعاه إلى نصرته.
فقال عبيد الله: (والله إني لأعلم أن من شايعك كان السعيد في الآخرة، ولكن
ما عسى أن أغنى عنك، ولم أخلف لك بالكوفة ناصرا، فأنشدك الله أن تحملني
علي هذه الخطة، فإن نفسي لم تسمح بعد بالموت، ولكن فرسي هذه الملحقة،
والله ما طلبت عليها شيئا قط إلا لحقته، و لا طلبني وأنا عليها أحد قط إلا سبقته،
فخذها، فهي لك). قال الحسين: (أما إذا رغبت بنفسك عنا فلا حاجة لنا إلى فرسك).
(نهاية الحسين)
وسار الحسين عليه السلام من قصر بني مقاتل، ومعه الحر بن يزيد، كلما أراد
أن يميل نحو البادية منعه، حتى انتهى إلى المكان الذي يسمى (كربلاء) (1) فمال
قليلا متيامنا حتى انتهى إلى (نينوى) (2)، فإذا هو براكب على نجيب، مقبل من
القوم، فوقفوا جميعا ينتظرونه.
فلما انتهى إليهم سلم على الحر، ولم يسلم على الحسين.
ثم ناول الحر كتابا من عبيد الله بن زياد، فقرأه، فإذا فيه:
(أما بعد، فجعجع (3) بالحسين بن علي وأصحابه بالمكان الذي يوافيك كتابي،
ولا تحله إلا بالعراء على غير خمر (4) ولا ماء، وقد أمرت حامل كتابي هذا أن
يخبرني بما كان منك في ذلك، والسلام.

(1) موضع في طرف البرية بالقرب من الكوفة.
(2) قرية قديمة لا تزال آثارها باقية قبالة مدينة الموصل، ويروي بعض المؤرخين أنها قرية
النبي يوسف عليه السلام.
(3) جعجع القوم أي أناخوا بالجعجاع وهو ما غلظ من الأرض.
(4) أي شجر.
251

فقرأ الحر الكتاب ثم ناوله الحسين، وقال:
لا بد من إنفاذ الأمير عبيد الله بن زياد، فأنزل بهذا المكان، ولا تجعل
للأمير علي علة.
فقال الحسين عليه السلام (تقدم بنا قليلا إلى هذه القرية التي هي منا على غلوة،
وهي الغاضرية (1)) أو هذه الأخرى التي تسمى (السقبة) فنزل في إحداهما.
قال الحر (إن الأمير كتب إلى أن أحلك على غير ماء، ولا بد من الانتهاء
إلى أمره.
فقال زهير بن القين للحسين: (بأبي وأمي يا ابن رسول الله، والله لو لم يأتنا
غير هؤلاء لكان لنا فيهم كفاية، فكيف بمن سيأتينا من غيرهم؟ فهلم بنا
نناجز هؤلاء، فإن قتال هؤلاء أيسر علينا من قتال من يأتينا من غيرهم).
قال الحسين عليه السلام: فإني أكره أن أبدأهم بقتال حتى يبدأوا.
فقال له زهير: فهاهنا قرية بالقرب منا على شط الفرات، وهي في عاقول (2) حصينة، الفرات يحدق بها إلا من وجه واحد.
قال الحسين: وما اسم تلك القرية؟
قال: العقر (3).
قال الحسين: نعوذ بالله من العقر.
فقال الحسين للحر: سر بنا قليلا، ثم ننزل.
فسار معه حتى أتوا كربلاء، فوقف الحر وأصحابه أمام الحسين ومنعوهم من
المسير، وقال: انزل بهذا المكان، فالفرات منك قريب.
قال الحسين: وما اسم هذا المكان؟

(1) الغاضرية: قرية من نواحي الكوفة، قريبة من كربلاء.
(2) عاقول الوادي ما أعوج منه، والأرض العاقول التي لا يهتدي إليها.
(3) مكان قرب كربلاء من نواحي الكوفة.
252

قالوا له: كربلاء.
قال: ذات كرب وبلاء، ولقد مر أبي بهذا المكان عند مسيرة إلى صفين،
وأنا معه، فوقف، فسأل عنه، فأخبر باسمه، فقال: (هاهنا محط ركابهم،
وهاهنا مهراق دمائهم)، فسئل عن ذلك، فقال: (ثقل لآل بيت محمد،
ينزلون هاهنا).
ثم أمر الحسين بأثقاله، فحطت بذلك المكان يوم الأربعاء غرة المحرم من سنة
إحدى وستين (1)، وقتل بعد ذلك بعشرة أيام، وكان قتله يوم عاشوراء.
فلما كان اليوم الثاني من نزوله كربلاء وافاه عمر بن سعد في أربعة آلاف فارس.
وكانت قصة خروج عمر بن سعد، أن عبيد الله بن زياد ولاه الري وثغر دستبي (2)
والديلم، وكتب له عهدا عليها، فعسكر للمسير إليها، فحدث أمر الحسين، فأمره
ابن زياد أن يسير إلى محاربة الحسين، فإذا فرغ منه سار إلى ولايته.
فتلكأ عمر بن سعد على ابن زياد، وكره محاربة الحسين.
فقال له ابن زياد: (فأردد علينا عهدنا).
قال: (فأسير إذن).
فسار في أصحابه أولئك الذين ندبوا معه إلى الري ودستبي، حتى وافى الحسين،
وانضم إليه الحر بن يزيد فيمن معه.
ثم قال عمر بن سعد لقره بن سفيان الحنظلي (انطلق إلى الحسين، فسله
ما أقدمك). فأتاه، فأبلغه.
فقال الحسين: (أبلغه عني أن أهل هذا المصر كتبوا إلي يذكرون أن لا إمام لهم،
ويسألونني القدوم عليهم، فوثقت بهم، فغدروا بي، بعد أن بايعني منهم ثمانية عشر
ألف رجل، فلما دنوت، فعلمت غرور ما كتبوا به إلي أردت الانصراف إلى حيث

(1) اكتوبر 685
(2) كورة كبيرة، كانت مشتركة بين الري وهمذان، فقسمت كورتين، وتشتمل على قريب
تسعين قرية.
253

منه أقبلت، فمنعني الحر بن يزيد، وسار حتى جعجع بي في هذا المكان، ولي
بك قرابة قريبة، ورحم ماسة، فأطلقني حتى انصرف.
فرجع قرة إلى عمر بن سعد بجواب الحسين بن علي.
فقال عمر: (الحمد لله، والله إني لأرجو أن أعفى من محاربة الحسين).
ثم كتب إلى ابن زياد يخبره بذلك.
فلما وصل كتابه إلى ابن زياد كتب إليه في جوابه:
(قد فهمت كتابك، فأعرض على الحسين البيعة ليزيد، فإذا بايع في جميع من
معه، فأعلمني ذلك ليأتيك رأيي).
فلما انتهى كتابه إلى عمر بن سعد قال: ما أحسب ابن زياد يريد العافية.
فأرسل عمر بن سعد بكتاب ابن زياد إلى الحسين، فقال الحسين للرسول:
(لا أجيب ابن زياد إلى ذلك أبدا، فهل هو إلا الموت، فمرحبا به).
فكتب عمر بن سعد إلى ابن زياد بذلك، فغضب، فخرج بجميع أصحابه إلى
النخيلة (1).
ثم وجه الحصين بن نمير، وحجار بن أبجر، وشبث بن ربعي، وشمر
ابن ذي الجوشن، ليعاونوا عمر بن سعد على أمره.
فأما شمر فنفذ لما وجهه له، وأما شبث فاعتل بمرض.
فقال له ابن زياد: أتتمارض؟ إن كنت في طاعتنا فاخرج إلى قتال عدونا.
فلما سمع شبث ذلك خرج، ووجه أيضا الحارث بن يزيد بن رويم.
قالوا: (وكان ابن زياد إذا وجه الرجل إلى قتال الحسين في الجمع الكثير، يصلون
إلى كربلاء، ولم يبق منهم إلا القليل، كانوا يكرهون قتال الحسين، فيرتدعون،
ويتخلفون.
فبعث ابن زياد سويد بن عبد الرحمن المنقري في خيل إلى الكوفة، وأمره أن
يطوف بها، فمن وجده قد تخلف أتاه به.

(1) موضع قرب الكوفة على سمت الشام.
254

فبنيا هو يطوف في أحياء الكوفة إذ وجد رجلا من أهل الشام قد كان قدم
الكوفة في طلب ميراث له، فأرسل به إلى ابن زياد، فأمر به، فضربت عنقه.
فلما رأى الناس ذلك خرجوا.
قالوا: وورد كتاب ابن زياد على عمر بن سعد، أن أمنع الحسين وأصحابه الماء،
فلا يذوقوا منه حسوة (1) كما فعلوا بالتقي عثمان بن عفان.
فلما ورد على عمر بن سعد ذلك أمر عمرو بن الحجاج أن يسير في خمسمائة
راكب، فينيخ على الشريعة، ويحولوا بين الحسين وأصحابه، وبين الماء، وذلك قبل
مقتله بثلاثة أيام، فمكث أصحاب الحسين عطاشى.
قالوا: ولما اشتد بالحسين وأصحابه العطش أمر أخاه العباس بن علي - وكانت أمه
من بني عامر بن صعصعة - أن يمضي في ثلاثين فارسا وعشرين راجلا، مع كل رجل
قربة حتى يأتوا الماء، فيحاربوا من حال بينهم وبينه.
فمضى العباس نحو الماء وأمامهم نافع بن هلال حتى دنوا من الشريعة، فمنعهم
عمرو بن الحجاج، فجالدهم العباس على الشريعة بمن معه حتى أزالوهم عنها، واقتحم
رجالة الحسين الماء، فملأوا قربهم، ووقف العباس في أصحابه يذبون عنهم حتى
أوصلوا الماء إلى عسكر الحسين.
* * *
ثم إن ابن زياد كتب إلى عمر بن سعد:
أما بعد، فإني لم أبعثك إلى الحسين لتطاوله الأيام، ولا لتمنيه السلامة والبقاء،
ولا لتكون شفيعه إلي، فاعرض عليه، وعلى أصحابه النزول على حكمي، فإن أجابوك
فابعث به وبأصحابه إلي، وإن أبوا فازحف إليه، فإنه عاق شاق، فإن لم تفعل فاعتزل
جندنا، وخل بين شمر بن ذي الجوشن وبين العسكر، فإنا قد أمرناك بأمرنا.
فنادى عمر بن سعد في أصحابه أن انهدوا إلى القوم.

(1) الحسوة بالضم الجرعة بقدر ما يحس مرة واحدة.
255

فنهض إليهم عشية الخميس وليلة الجمعة لتسع ليال خلون من المحرم، فسألهم
الحسين تأخير الحرب إلى غد، فأجابوه.
قالوا: وأمر الحسين أصحابه أن يضموا مضاربهم بعضهم من بعض، ويكونوا
أمام البيوت، وأن يحفروا من وراء البيوت أخدودا، وأن يضرموا فيه حطبا وقصبا
كثيرا، لئلا يؤتوا من إدبار البيوت، فيدخلوها.
قالوا: ولما صلى عمر بن سعد الغداة نهد بأصحابه، وعلى ميمنته عمرو بن الحجاج،
وعلى ميسرته شمر بن ذي الجوشن - واسم شمر شرحبيل بن عمرو بن معاوية، من آل
الوحيد، من بني عامر بن صعصعة وعلى الخيل عروة بن قيس، وعلى الرجالة شبث
ابن ربعي، والراية بيد زيد مولى عمر بن سعد.
* * *
وعبى الحسين عليه السلام أيضا أصحابه، وكانوا اثنين وثلاثين فارسا وأربعين
راجلا، فجعل زهير بن القين على ميمنته، وحبيب بن مظهر على ميسرته، ودفع
الراية إلى أخيه العباس بن علي، ثم وقف، ووقفوا معه أمام البيوت.
وانحاز الحر بن يزيد الذي كان جعجع بالحسين إلى الحسين، فقال له: (قد كان
مني الذي كان، وقد أتيتك مواسيا لك بنفسي، أفترى ذلك لي توبة مما كان مني؟.
قال الحسين: نعم، إنها لك توبة، فأبشر، فأنت الحر في الدنيا، وأنت الحر
في الآخرة، إن شاء الله.
قالوا: ونادى عمر بن سعد مولاه زيدا أن قدم الراية، فتقدم بها، وشبت
الحرب.
فلم يزل أصحاب الحسين يقاتلون ويقتلون، حتى لم يبق معه غير أهل بيته.
فكان أول من تقدم منهم، فقاتل علي بن الحسين، وهو علي الأكبر،
فلم يزل يقاتل حتى قتل، طعنه مرة بن منقذ العبدي، فصرعه، وأخذته
السيوف فقتل.
256

ثم قتل عبد الله بن مسلم بن عقيل، رماه عمرو بن صبح الصيداوي، فصرعه.
ثم قتل عدي بن عبد الله بن جعفر الطيار، قتله عمرو بن نهشل التميمي.
ثم قتل عبد الرحمن بن عقيل بن أبي طالب، رماه عبد الله بن عروة الخثعمي
بسهم، فقتله.
ثم قتل محمد بن عقيل بن أبي طالب، رماه لقيط بن ناشر الجهني بسهم، فقتله.
ثم قتل القاسم بن الحسن بن علي بن أبي طالب، ضربه عمرو بن سعد بن مقبل
الأسدي.
ثم قتل أبو بكر بن الحسن بن علي، رماه عبد الله بن عقبة الغنوي بسهم،
فقتله.
قالوا: ولما رأى ذلك العباس بن علي قال لإخوته عبد الله، وجعفر، وعثمان،
بني علي، عليه وعليهم السلام، وأمهم جميعا أم البنين العامرية من آل الوحيد:
(تقدموا، بنفسي أنتم، فحاموا عن سيدكم حتى تموتوا دونه).
فتقدموا جميعا.
فصاروا أمام الحسين عليه السلام، يقونه بوجوههم ونحورهم.
فحمل هانئ بن ثويب الحضرمي على عبد الله بن علي، فقتله.
ثم حمل على أخيه جعفر بن علي، فقتله أيضا.
ورمى يزيد الأصبحي عثمان بن علي بسهم، فقتله، ثم خرج إليه، فاحتز رأسه،
فأتى عمر بن سعد، فقال له: (أثبني).
فقال عمر:
عليك بأميرك - يعني عبيد الله بن زياد - فسله أن يثيبك
. وبقي العباس بن علي قائما أمام الحسين يقاتل دونه، ويميل معه حيث مال،
حتى قتل، رحمة الله عليه.
257

وبقي الحسين وحده، فحمل عليه مالك بن بشر الكندي، فضربه بالسيف على
رأسه، وعليه برنس خز، فقطعه، وأفضى السيف إلى رأسه، فجرحه.
فألقى الحسين البرنس، ودعا بقلنسوة، فلبسها، ثم اعتم بعمامة، وجلس،
فدعا بصبي له صغير، فأجلسه في حجره، فرماه رجل من بني أسد، وهو في
حجر الحسين بمشقص (1)، فقتله.
وبقي الحسين عليه السلام مليا جالسا، ولو شاءوا إن يقتلوه قتلوه، غير أن
كل قبيلة كانت تتكل على غيرها، وتكره الإقدام على قتله.
وعطش الحسين، فدعا بقدح من ماء.
فلما وضعه في فيه رماه الحصين بن نمير بسهم، فدخل فمه، وحال بينه وبين
شرب الماء، فوضع القدح من يده.
ولما رأى القوم قد أحجموا عنه قام يتمشى على المسناة (2) نحو الفرات، فحالوا
بينه وبين الماء، فانصرف إلى موضعه الذي كان فيه.
فانتزع له رجل من القوم بسهم، فأثبته في عاتقه، فنزع عليه السلام السهم.
وضربه زرعة بن شريك التميمي بالسيف، اتقاه الحسين بيده، فأسرع
السيف في يده.
وحمل عليه سنان بن أوس النخعي، فطعنه، فسقط.
ونزل إليه حولي بن يزيد الأصبحي ليحز رأسه، فأرعدت يداه.
فنزل أخوه شبل بن يزيد، فاحتز رأسه، فدفعه إلى أخيه حولي.
ثم مال الناس على ذلك الورس الذي كان أخذه من العير، وإلى ما في المضارب،
فانتهبوه.
* * *

(1) المشقص نصل السهم إذا كان طويلا غير عريض.
(2) ضفيرة تبنى للسيل لترد الماء.
258

ولم ينج من أصحاب الحسين عليه السلام وولده وولد أخيه إلا ابناه، على
الأصغر، وكان قد راهق، وإلا عمر، وقد كان بلغ أربع سنين.
ولم يسلم من أصحابه إلا رجلان، أحدهما المرقع بن ثمامة الأسدي، بعث به
عمر بن سعد إلى ابن زياد فسيره إلى الربذة (1)، فلم يزل بها حتى هلك يزيد، وهرب
عبيد الله إلى الشام، فانصرف المرقع إلى الكوفة، والآخر مولى لرباب،
أم سكينة، أخذوه بعد قتل الحسين، فأرادوا ضرب عنقه، فقال لهم: (إني عبد
مملوك). فخلوا سبيله.
* * *
وبعث عمر بن سعد برأس الحسين من ساعته إلى عبيد الله بن زياد مع حولي
ابن يزيد الأصبحي.
وأقام عمر بن سعد بكربلاء بعد مقتل الحسين يومين، ثم آذن في الناس بالرحيل،
وحملت الرؤوس على أطراف الرماح، وكانت اثنين وسبعين رأسا، جاءت هوازن
منها باثنين وعشرين رأسا، وجاءت تميم بسبعة عشر رأسا مع الحصين بن نمير،
وجاءت كندة بثلاثة عشر رأسا مع قيس بن الأشعث، وجاءت بنو أسد بستة
رؤوس مع هلال الأعور، وجاءت الأزد بخمس رؤوس مع عيهمة بن زهير، وجاءت
ثقيف باثني عشر رأسا مع الوليد بن عمرو.
وأمر عمر بن سعد بحمل نساء الحسين وأخواته وبناته وجواريه وحشمه في
المحامل المستورة على الإبل. وكانت بين وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قتل
الحسين خمسون عاما.
قالوا: ولما أدخل رأس الحسين عليه السلام على ابن زياد فوضع بين يديه جعل
ابن زياد ينكت الخيزرانة ثنايا (2) الحسين، وعنده زيد بن أرقم، صاحب رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فقال له:

(1) من قرى المدينة على ثلاثة أميال منها. وهي قريبة من ذات عرق.
(2) ثنايا الإنسان في فمه الأربع التي في مقدم فيه، ثنتان من فوق وثنتان من أسفل.
259

(مه، ارفع قضيبك عن هذه الثنايا، فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يلثمها).
ثم خنقته العبرة، فبكى.
فقال له ابن زياد: (مم تبكي؟ أبكى الله عينيك، والله لولا أنك شيخ قد خرفت
لضربت عنقك).
قالوا: وكانت الرؤوس قد تقدم بها شمر بن ذي الجوشن أمام عمر بن سعد.
قالوا: واجتمع أهل الغاضرية فدفنوا أجساد القوم.
وروي عن حميد بن مسلم قال: كان عمر بن سعد لي صديقا، فأتيته عند منصرفه
من قتال الحسين، فسألته عن حاله، فقال: (لا تسأل عن حالي، فإنه ما رجع غائب
إلى منزله بشر مما رجعت به، قطعت القرابة القريبة، وارتكبت الأمر العظيم).
* * *
قالوا: ثم إن ابن زياد جهز علي بن الحسين ومن كان معه من الحرم، ووجه
بهم إلى يزيد بن معاوية مع زحر بن قيس ومحقن بن ثعلبة، وشمر بن ذي الجوشن.
فساروا حتى قدموا الشام، ودخلوا على يزيد بن معاوية بمدينة دمشق، وأدخل
معهم رأس الحسين، فرمى بين يديه.
ثم تكلم شمر بن ذي الجوشن، فقال:
(يا أمير المؤمنين، ورد علينا هذا في ثمانية عشر رجلا من أهل بيته، وستين
رجلا من شيعته، فصرنا إليهم، فسألناهم النزول على حكم أميرنا عبيد الله بن زياد، أو
القتال، فغدونا عليهم عند شروق الشمس، فأحطنا بهم من كل جانب، فلما أخذت
السيوف منهم مأخذها جعلوا يلوذون إلى غير وزر (1)، لوذان الحمام من الصقور، فما
كان إلا مقدار جزر (2) جزوز، أو نوم قائل (3) حتى أتينا على آخرهم، فهاتيك

(1) ملجأ.
(2) ذبح ناقة.
(3) القيلولة: النوم في الظهيرة والقائلة نصف النهار.
260

أجسادهم مجردة، وثيابهم مرملة، وخدودهم معفرة، تسفي عليهم الرياح، زوارهم
العقبان (1)، ووفودهم الرخم (2).
فلما سمع ذلك يزيد دمعت عينه وقال:
(ويحكم، قد كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين، لعن الله ابن مرجان،
أما والله لو كنت صاحبه لعفوت عنه، رحم الله أبا عبد الله).
ثم تمثل:
نفلق هاما من رجال أعزة علينا، وهم كانوا أعق وأظلما
* * *
ثم أمر بالذرية فأدخلوا دار نسائه.
وكان يزيد إذا حضر غذاؤه دعا علي بن الحسين وأخاه عمر فيأكلان معه، فقال
ذات يوم لعمر بن الحسين:
(هل تصارع ابني هذا؟) يعني خالدا، وكان من أقرانه.
فقال عمر: بل أعطني سيفا، وأعطه سيفا حتى أقاتله، فتنظر أينا أصبر.
فضمه يزيد إليه، وقال: (شنشنة أعرفها من أخزم (3)، هل تلد الحية
إلا حية).
قال: ثم أمر بتجهيزهم بأحسن جهاز، وقال لعلي بن الحسين: (انطلق مع
نسائك حتى تبلغهن وطنهن).
ووجه معه رجلا في ثلاثين فارسا، يسير أمامهم، وينزل حجرة عنهم، حتى
انتهى بهم إلى المدينة.
* * *

(1) العقبان: عتاق الطير وسباعه التي لا تصيد الخشاش.
(2) نوع من الطير موصوف بالغدر.
(3) الشنشنة: الطبيعة والسجية، وأخرم كان ولدا عاقا لأبيه، فمات وترك بنين عشرا جدهم وضربوه وأدموه، فقال إنما هو شنشنة أعرفها من أخزم، فصار مثلا.
261

قالوا: وإن عبيد الله بن الحر ندم على تركه إجابة الحسين حين دعاه بقصر
بني مقاتل إلى نصرته، وقال:
فيالك حسرة ما دمت حيا * تردد بين حلقي والتراقي
حسين حين يطلب بذل نصري * على أهل العداوة والشقاق
فما أنسى غداة يقول حزنا * أتتركني وتزمع لانطلاق؟
فلو فلق التلهف قلب حي * لهم القلب مني بانفلاق
ثم مضى نحو أرض الجبل مغاضبا لابن زياد، واتبعه أناس من صعاليك
الكوفة.
(عبد الله بن الزبير) قالوا: وإن ابن الزبير لما سار إلى مكة وخرج الحسين عنها سائرا إلى الكوفة
كان يقول: (إني في الطاعة، غير إني لا أبايع أحدا، وأنا مستجير بالبيت الحرام).
فبعث إليه يزيد بن معاوية رجلا في عشرة نفر من حرسه، وقال:
(انطلق، فانظر ما عنده، فإن كان في الطاعة فخذه بالبيعة، وإن أبي فضع في
عنقه جامعة (1) وائتني به).
فلما قدم الحرسي عليه، وأخبره بما أتاه فيه تمثل ابن الزبير:
ما أن ألين لغير الحق أسأله
حتى يلين لضرس الماضغ الحجر
وقال للحرسي: (انصرف إلى صاحبك، فأعلمه أنني لا أجيبه إلى شئ مما
يسألني).
قال الحرسي: ألست في الطاعة؟
قال: بلى، غير إني لا أمكنك من نفسي، ولا أكاد.
فانصرف الحرسي إلى يزيد، فأخبره بذلك.

(1) الجامعة: الغل لأنها تجمع اليدين إلى العنق.
262

فوجه يزيد بعشرة نفر من أشراف أهل الشام، فيهم النعمان بن بشير،
وعبد الله بن عضاة الأشعري - وكان له صلاح -، ومسلم بن عقبة - لعنه الله -
فقال لهم:
(انطلقوا، فأعيدوه إلى الطاعة والجماعة وأعلموه، أن أحب الأمور إلى ما فيه
السلامة).
فساروا حتى وافوا مكة، ودخلوا على ابن الزبير في المسجد، فدعوه إلى الطاعة
وسألوه البيعة.
فقال ابن الزبير لابن عضاة:
أتستحل قتالي في هذا الحرم؟
قال: نعم، إن أنت لم تجب إلى طاعة أمير المؤمنين.
قال ابن الزبير: وتستحل قتل هذه الحمامة؟ وأشار إلى حمامة من حمام المسجد.
فأخذ ابن عضاة قوسه، وفوق فيها سهما، فبوأه (1) نحو الحمامة، ثم قال:
يا حمامة، أتعصين أمير المؤمنين؟
والتفت إلى ابن الزبير، وقال: (أما لو أنها قالت نعم لقتلتها).
وإن ابن الزبير خلا بنعمان بن بشير، فقال: أنشدك الله، أنا أفضل عندك
أم يزيد؟
فقال: بل أنت.
فقال: فوالدي خير أم والده؟
قال: بل والدك.
قال: فأمي خير أم أمه؟
قال: بل أمك.
قال: فخالتي خير أم خالته؟
قال: بل خالتك.

(1) سدده نحو الحمامة.
263

قال: فعمتي خير أم عمته؟
قال: بل عمتك، أبوك الزبير، وأمك أسماء ابنة أبي بكر، وخالتك عائشة،
وعمتك خديجة بنت خويلد.
قال: أفتشير علي بمبايعة يزيد؟
قال النعمان: (أما إذا استشرتني فلا أرى لك ذلك، ولست بعائد إليك بعد
هذا أبدا).
ثم إن القوم انصرفوا إلى الشام، فأعلموا يزيد أن ابن الزبير لم يجب إلى شئ.
قال مسلم بن عقبة المري ليزيد: (يا أمير المؤمنين، إن ابن الزبير خلا بالنعمان
ابن بشير، فكلمه بشئ، لم ندر ما هو، وقد انصرف إليك بغير رأيه الذي خرج
من عندك).
ولما انصرف القوم من عند ابن الزبير جمع ابن الزبير إليه وجوه أهل تهامة
والحجاز، فدعاهم إلى بيعته، فبايعوه جميعا، وامتنع عليه عبد الله بن عباس،
ومحمد بن الحنفية.
وإن ابن الزبير أمر بطرد عمال يزيد من مكة والمدينة، وارتحل مروان من المدينة
بولده وأهل بيته حتى لحق بالشام.
* * *
ولما انتهى إلى يزيد بن معاوية مبايعة أهل تهامة والحجاز لعبد الله بن الزبير ندب
له الحصين بن نمير السكوني، وحبيش بن دلجة القيني، وروح بن زنباع
الجذامي، وضم إلى كل واحد منهما جيشا، واستعمل عليهم جميعا مسلم بن عقبة المري،
وجعله أمير الأمراء، وشيعهم حتى بلغ ماء، يقال له (وبرة)، وهي أقرب مياه الشام
إلى الحجاز.
فلما ودعهم قال يا مسلم:
(لا تردن أهل الشام عن شئ يريدونه بعدوهم، واجعل طريقك إلى المدينة،
فإن حاربوك فحاربهم، فإن ظفرت بهم، فانهبها ثلاثة أيام).
ثم أنشأ يقول:
264

أبلغ أبا بكر إذا الخيل انبرى * وسارت الخيل إلى وادي القرى (1)
أجمع سكران من الخمر ترى
وذلك أن ابن الزبير كان يسمي يزيد (السكران).
ولما بلغ أهل المدينة وصول الجيش تأهبوا للحرب، فولت قريش عليها عبد الله
ابن مطيع العدوي، وولت الأنصار عليها عبد الله بن حنظلة الراهب - وهو غسيل
الملائكة - ثم خرجوا إلى الحرة، فعسكروا بها.
ففي ذلك يقول شاعرهم:
إن في الخندق المكلل بالمجد * لضربا يفور بالسنوات
لست منا، وليس خالك منا * يا مضيع الصلاة للشهوات
ووافاهم الجيش، فقاتلوهم حتى كثرت القتلى.
وأقبلت طائفة من أهل الشام، فدخلوا المدينة من قبل بني حارثة، وهم الذين
قالوا إن (بيوتنا عورة) (2)، فلم يشعر القوم، وهم يقاتلون من يليهم، إلا وأهل الشام
يضربونهم من أدبارهم، فقتل عبد الله بن حنظلة أمير الأنصار، وقتل عمرو بن حزم
الأنصاري قاضي المدينة، واستباح أهل الشام المدينة ثلاثة أيام بلياليها.
فلما كان اليوم الرابع جلس مسلم بن عقبة، فدعاهم إلى البيعة، فكان أول من
أتاه يزيد بن عبد الله بن ربيعة بن الأسود، وجدته أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم.
فقال له مسلم: (بايعني).
قال: (أبايعك على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم)
فقال مسلم (بل بايع على أنكم فئ لأمير المؤمنين، يفعل في أموالكم
وذراريكم ما يشاء).
فأبى أن يبايع على ذلك، فأمر به، فضربت عنقه.

(1) وادي مكة.
(2) سورة الأحزاب الآية رقم 13.
265

ثم تقدم محمد بن أبي الجهم بن حذيفة العدوي، فقال له مسلم:
(أنت الذي وفدت على أمير المؤمنين، فأكرمك وحباك، فرجعت إلى المدينة
تشهد عليه بشرب الخمر، والله لا تشهد بشهادة زور أبدا، اضربوا عنقه).
فضربت عنقه.
ثم تقدم معقل بن سنان الأشجعي، وكان حليفا لبني هاشم، فقال له مسلم:
(أتذكر يوما مررت بي بطبرية (1)، فقلت لك، من أين أقبلت؟ فقلت، سرنا
شهرا، وأنضينا ظهرا، ورجعنا صفرا، وسنأتي المدينة فنخلع الفاسق يزيد بن معاوية،
ونبايع رجلا من أولاد المهاجرين؟
فاعلم أني كنت آليت ذلك اليوم ألا أقدر عليك في موطن يمكنني فيه قتلك إلا قتلتك،
وقد أمكنني الله منك يا أحمق، ما أشجع والخلافة؟! فتعزل وتولي، اضربوا عنقه).
ثم تقدم عمرو بن عثمان، فقال له:
(أنت الخبيث ابن الطيب، الذي إذا ظهر أهل الشام قلت أنا ابن عثمان بن عفان،
وإذا ظهر أهل الحجاز قلت أنا واحد منكم، وأنت في ذلك تبغي أمير المؤمنين
الغوائل، انتفوه).
فنتفت لحيته، حتى ما تركت فيها شعرة.
فقام إليه عبد الملك بن مروان، فاستوهبه، فوهبه له.
ثم أتاه علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، فأجلسه معه على ثيابه وفراشه،
وقال:
- إن أمير المؤمنين قد أوصاني بك.
فقال علي: (إني كنت لما فعل أهل المدينة كارها).
قال: (أجل).
ثم حمله على بغلة، وصرفه إلى منزله.

(1) بلد مطل على البحيرة المعروفة بها، في الإقليم الشمالي من الجمهورية العربية المتحدة، وهي
مستطيلة، تنتهي إلى جبل صغير، عنده آخر العمارة، وفيها عيون ملحة حارة، قد بنيت عليها حمامات.
266

وبعث إلى علي بن عبد الله بن عباس ليؤتى به للبيعة، فأخرج من منزله،
فأقبلوا به.
فلقيه الحصين بن نمير، فانتزعه من يد الجلاوزة (1).
وكان الحصين من أخوال علي بن عبد الله.
فقال مسلم: (إني إنما بعثت إليه للبيعة، فائتني به).
فأرسل إليه الحصين، فجاء حتى بايع.
وأرسلت بنت الأشعث بن قيس، وكانت امرأة الحسين بن علي، إلى مسلم
ابن عقبة تعلمه أن منزلها انتهب، فأمر برد جميع ما أخذ لها.
ثم شخص بالجيش إلى مكة، وكتب إلى يزيد بما صنع بالمدينة، فتمثل يزيد.
ليت أشياخي ببدر شهدوا * جزع الخزرج من وقع الأسل
حين حكت بقباء بركها * واستحر القتل في عبد الأشل
فلما بلغ ابن عقبة هرشى (3) اعتل، واشتدت علته، ونزل به الموت، فقال:
أسندوني. فأسند، فقال:
(إن أمير المؤمنين أمرني إن حدث بي في وجهي هذا حدث أن أستخلف الحصين
ابن نمير على الجيش، ولو كان الأمر إلى ما استخلفته، لأن من شأن اليمانية الرقة،
غير أني لا أعصي أمير المؤمنين).
ثم قال: (يا حصين، إذا وافيت مكة فناجز ابن الزبير الحرب من يومك، ولا
ترد أهل الشام عن شئ يريدونه بعدوهم، ولا تجعل إذنك وعاء لقريش فيخدعوك).
ثم مات، وكانت به الذبحة.
فتولى أمر الجيش الحصين بن نمير، فسار حتى وافى مكة.
وتحصن منه ابن الزبير في المسجد الحرام في جميع من كان معه، ونصب

(1) جمع جلواز بالكسر، وهم الشرطة.
(2) الرماح.
(3) هرشي: ثنية في طريق مكة قريبة من الجحفة.
267

الحصين المجانيق على جبل أبي قبيس (1)، وكانوا يرمون أهل المسجد.
* * *
فبينا هم كذلك إذ ورد على الحصين بن نمير موت يزيد بن معاوية، فأرسل
إلى عبد الله بن الزبير: (أن الذي وجهنا لمحاربتك قد هلك، فهل لك في الموادعة؟
وتفتح لنا الأبواب، فنطوف بالبيت، ويختلط الناس بعضهم ببعض).
فقبل ذلك ابن الزبير، وأمر بأبواب المسجد، ففتحت، فجعل الحصين
وأصحابه يطوفون بالبيت.
فبينا الحصين يطوف بعد العشاء إذ استقبله ابن الزبير، فأخذ الحصين بيده،
فقال له سرا:
- هل لك في الخروج معي إلى الشام؟ فأدعو الناس إلى بيعتك، فإن أمرهم
قد مرج (2)، ولا أرى أحدا أحق بها اليوم منك، ولست أعصي هناك.
فاجتذب عبد الله بن الزبير يده من يده، وقال، وهو يجهر بقوله: (دون
أن أقتل بكل رجل من أهل الحجاز عشرة من أهل الشام).
فقال الحصين: لقد كذب من زعم أنك من دهاة العرب، أكلمك سرا،
وتكلمني علانية، وأدعوك إلى الخلافة وتدعوني إلى الحرب.
ثم انصرف في أصحابه إلى الشام، ومر بالمدينة، فبلغه انهم على محاربته ثانيا.
فجمع إليه أهلها، وقال: (ما هذا الذي بلغني عنكم؟) فاعتذروا إليه، وقالوا:
(ما هممنا بذلك).
وذكر أبو هارون العبدي، قال: رأيت أبا سعيد الخدري، ولحيته بيضاء،
وقد خف جانباها، وبقي وسطها، فقلت: (يا أبا سعيد، ما حال لحيتك؟)

(1) الجبل المشرف على مكة من غربيها، وكان يسمى في الجاهلية (الأمين) لأنه استودع
فيه الحجر الأسود.
(2) اختلط وفسد.
268

فقال: (هذا فعل ظلمة أهل الشام يوم الحرة، دخلوا على بيتي، فانتهبوا
ما فيه حتى أخذوا قد حي الذي كنت أشرب فيه الماء، ثم خرجوا، ودخل على
بعدهم عشرة نفر، وأنا قائم أصلي، فطلبوا البيت، فلم يجدوا فيه شيئا،
فأسفوا لذلك، فاحتملوني من مصلاي، وضربوا بي الأرض، وأقبل كل رجل
منهم على ما يليه من لحيتي، فنتفه، فما ترى منها خفيفا فهو موضع النتف،
وما تراه عافيا فهو ما وقع في التراب، فلم يصلوا إليها، وسأدعها كما ترى حتى
أوافي بها ربي).
(الخوارج)
قالوا: وفي سنة ثمانين تفاقم أمر الأزارقة الخوارج، وإنما سموا أزارقة برئيسهم
نافع بن الأزرق.
وكان أول خروجهم في أربعين رجلا، وفيهم من عظمائهم نافع بن الأزرق،
وعطية بن الأسود، وعبد الله بن صبار، وعبد الله بن إباض، وحنظلة بن بيهس،
وعبيد الله بن ماحوز، وذلك في سلطان يزيد.
وعلى البصرة يومئذ عبيد الله بن زياد، فوجه إليهم عبيد الله أسلم بن ربيعة
في ألفي فارس، فلحقهم بقرية من الأهواز تدعى (آسك) (1) مما يلي فارس، فواقعهم،
فقتلت الخوارج من أصحاب ابن ربيعة خمسين رجلا، فانهزم أسلم، فأنشأ رجل من
الخوارج يقول:
أألفا مؤمن منكم زعمتم * ويهزمكم بأسك أربعونا؟
كذبتم، ليس ذاك كما زعمتم * ولكن الخوارج مؤمنونا
هم الفئة القليلة قد علمتم * على الفئة الكثيرة ينصرونا
أطعتم أمر جبار عنيد * وما من طاعة للظالمينا

(2) بلد من نواحي الأهواز، قرب أرجان.
269

فاغتاظ ابن زياد من ذلك، فكان لا يدع بالبصرة أحدا ممن يتهم برأي الخوارج
إلا قتله، حتى قتل بالتهمة والظنة تسعمائة رجل.
ولم يزل يتفاقم أمر الخوارج، ويتحلب إليهم من كان على رأيهم وهواهم من
أهل البصرة حتى كثروا بعد موت يزيد، وهرب عبيد الله بن زياد من العراق.
وخاف أهل البصرة الخوارج على أنفسهم، ولم يكن يومئذ عليهم سلطان،
فاجتمعوا على مسلم بن عبيس القرشي، ووجهوا معه خمسة آلاف فارس من إبطال
البصرة، فسار إليهم، فلحقهم بمكان يسمى (الدولاب) (1) فالتقوا واقتتلوا،
وصبر بعضهم لبعض، حتى تكسرت الرماح وتقطعت السيوف، وصاروا إلى
المكادمة، فقتل مسلم بن عبيس، وانهزم أصحابه.
فقال رجل من الأزد:
قد رمينا العدو إذ عظم الخطب * بذي الجود مسلم بن عبيس
فانظروا غير مسلم بن عبيس * فاطلبوه من حيث أين وليس (2)
لو رموا بالمهلب بن أبي صفرة * كانوا له كأكلة حيس (3)
وكان المهلب يومئذ بخراسان على ولايتها.
فخاف أهل البصرة حين قتل مسلم بن عبيس خوفا شديدا من الخوارج،
فاختاروا عثمان بن معمر القرشي، وانتدب معه زهاء عشرة آلاف رجل من إبطالهم،
فسار بهم عثمان في طلب الخوارج، فلحقهم بفارس، فاقتتلوا، فقتل عثمان،
وانهزم أصحابه.
* * *
فكتب أهل البصرة إلى عبد الله بن الزبير يعلمونه أنه لا إمام لهم، ويسألونه
أن يوجه إليهم رجلا من قبله يتولى الأمر.

(1) من قرى الري.
(2) أي من حيث هو ولا هو.
(3) الحيس تمر يخلط بسمن ومخيض غنم، فيعجن شديدا، ثم يندر منه نواه.
270

فوجه إليهم الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي، فقدم البصرة، وتولى
الأمر بها، فدعا وجوه أهل البصرة، فاستشارهم في رجل يوليه حرب الخوارج،
فكلهم قالوا: (عليك بالمهلب بن أبي صفرة).
وقام رجل من أهل البصرة يعرف بابن عرادة، فأنشده:
مضى ابن عبيس مسلم لسبيله * فقام لها الشيخ الحجازي عثمان
فأرعد من قبل اللقاء ابن معمر * وأبرق، والبرق الحجازي خوان
ولم ينك عثمان جناح بعوضة * وأضحى عدو الدين مثل الذي كانوا
وليس لها إلا المهلب إنه * ملئ بأمر الحرب، شيخ له شأن
إذا قيل من يحمي العراقين أومأت * إليه معد بالأكف، وقحطان
فذاك امرؤ إن يلقهم يطف نارهم * وليس لها إلا المهلب إنسان
(حرب المهلب مع الخوارج) فقال الأحنف بن قيس للحارث بن عبد الله: أيها الأمير، اكتب إلى
أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير، وسله أن يكتب إلى المهلب بأن يخلف على خراسان
رجلا، ويسير إلى الخوارج، فيتولى محاربتهم. فكتب.
فلما انتهى كتابه إلى عبد الله بن الزبير كتب إلى المهلب:
(بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عبد الله أمير المؤمنين إلى المهلب بن
أبي صفرة، أما بعد، فإن الحارث بن عبد الله كتب إلي يخبرني أن الأزارقة
المارقة قد سعرت نارها، وتفاقم أمرها، فرأيت أن أوليك قتالهم لما رجوت
من قيامك، فتكفي أهل مصرك شرهم، وتؤمن روعتهم، فخلف بخراسان
من يقوم مقامك من أهل بيتك، وسر حتى توافي البصرة، فتستعد منها بأفضل
عدتك، وتخرج إليهم، فإني أرجو أن ينصرك الله عليهم، والسلام).
فلما وصل كتابه إلى المهلب خلف على خراسان.
271

وأقبل حتى وافى البصرة، فصعد على المنبر، وكان نزر الكلام وجيزة،
فقال:
(أيها الناس، إنه قد غشيكم عدو جاحد، يسفك دماءكم، وينتهب أموالكم،
فإن أعطيتموني خصالا أسألكموها قمت لكم بحربهم، واستعنت بالله عليهم،
وإلا كنت كواحد منكم لمن تجتمعون عليه في أمركم).
قالوا: وما الذي تريد؟
قال: انتخب منكم أوساطكم، لا الغني المثقل، ولا السبروت (1)
المخف، وعلى أن لي ما غلبت عليه من الأرض، وألا أخالف فيما أدبر من رأيي
في حربهم، وأترك ورأيي الذي أراه، وتدبيري الذي أدبره.
فناداه الناس: لك ذلك، وقد رضينا به.
فنزل من المنبر، وأتى منزله، وأمر بديوان الجند، فأحضر، فانتخب
من أبطال أهل البصرة عشرين ألف رجل، فيهم من الأزد ثمانية آلاف رجل،
وبقيتهم من سائر العرب، وولى ابنه المغيرة مقدمته في ثلاثة آلاف رجل.
وسار حتى أتى الخوارج، وهم (بنهر تستر) (2)، فواقعهم، فهزمهم،
حتى بلغوا الأهواز، فقال زياد الأعجم في ذلك:
جزى الله خيرا، والجزاء بكفه * أخا الأزد عنا ما أذب وأحربا
ولما رأينا الأمر قد جد جده * وإلا توارى دوننا الشمس كوكبا
دعونا أبا غسان، فاستك سمعه * وأحنف طأطأ رأسه، وتهيبا
وكان ابن منجوف لكل عظيمة * فقصر عنها حبله وتذبذبا
فلما رأينا القوم قد كل حدهم * لدى حربهم فيها دعونا المهلبا

(1) الفقير.
(2) أعظم أنهار خوزستان، بنى عليه سابور الملك شاذروان بباب تستر، حتى ارتفع ماؤه
إلى المدينة، لأن تستر على مكان مرتفع من الأرض، وهذا الشاذروان كان من عجائب الأبنية،
طوله ميل، مبني بالحجارة المحكمة، والصخر وأعمدة الحديد.
272

وأقام المهلب بالجسر بعد أن هزم الخوارج أربعين يوما، ثم ارتحل سائرا
في آثارهم.
فبلغ ذلك نافع بن الأزرق، فأقام بالأهواز حتى وافاه المهلب، فواقعهم بمكان
يسمى (بسلى) (1)، فقاتلهم يوما إلى الليل، وأصابته ضربة في وجهه، أغمي
عليه منها، فقال الناس (قتل الأمير)، فازدادوا لذلك حنقا وجدا، وقتلوا
من الخوارج بشرا كثيرا، وقتل رئيسهم نافع بن الأزرق، وانهزمت الخوارج
نحو فارس.
وبلغ أهل البصرة أن المهلب قتل، فرج المصر بأهله، وهم أميرهم الحارث
ابن أبي ربيعة أن يهرب، فكتب إليه رجل من بني يشكر:
أيا حار، يا ابن السادة الصيد، هب لنا * مقامك، لا ترحل ولم يأتك الخبر
فإن كان أودي بالمهلب يومه * فقد كسفت في أرضنا الشمس والقمر
وما لك من بعد المهلب عرجه * وما لك بالمصرين سمع ولا بصر
فدونك، فالحق بالحجاز، ولا تقم * ببلدتنا، إن المقام بها خطر
وإن كان حيا كنت بالمصر آمنا * وكان بقاء المرء فينا هو الظفر
وقال رجل من بني سعد:
ألا كل ما يأتي من الأمر هين * علينا يسير عند فقد المهلب
فإن يك قد أودي فما نحن بعده * بأمنع من شاء عجاف لأذؤب (2)
نعوذ بمن أرسى ثبيرا مكانه * ومرسي حراء والقديد وكبكب (3)
من الخبر الملقى على الحور خدرها * ويشجي به ما بين بصرى ويثرب

(1) موضع بالأهواز قرب مناذر.
(2) جمع ذئب.
(3) الكبكب كجعفر جبل بعرفات خلف ظهر الإمام إذا وقف.
273

فأقبل البشير إلى أهل البصرة بسلامة المهلب، فاستبشروا بذلك، واطمأنوا،
وأقام أميرها بعد أن هم بالهرب.
فقال رجل من بني ضبة:
إن ربا أنجى المهلب ذا الطول * لأهل أن تحمدوه كثيرا
لا يزال المهلب بن أبي صفرة * ما عاش بالعراق أميرا
فإذا مات فالرجال نساء * ما يساوي من بعده قطميرا (1)
قد أمنا بك العدو على المصر * ووقرت منبرا وسريرا
وقال رجل من الخوارج في قتل نافع بن الأزرق:
شمت المهلب، والحوادث جمة * والشامتون بنافع بن الأزرق
إن مات غير مداهن في دينه * ومتى يمر بذكر نار يصعق
والموت أمر لا محالة واقع * من لا يصبحه نهارا يطرق
فلئن منينا بالمهلب إنه * لأخو الحروب وليث أهل المشرق
ولعله يشجي بنا ولعلنا * نشجى به في كل ما قد نلتقي
بالسمر نختطف النفوس ذوابلا * وبكل أبيض صارم ذي رونق
فيذيقنا في حربنا، ونذيقه * كل مقالته لصاحبه ذق
وبلغ عبد الله بن الزبير ما كان من عزم عامله بالبصرة على الهرب، فعزله،
وولى أخاه مصعبا، فسار مصعب حتى قدمها، وتولى أمر جميع العراقين، وفارس
والأهواز.
* * *

(1) القطمير شق النواة أو القشرة التي فيها، أو القشرة الرقيقة بين النواة والتمرة.
274

ولما قتل نافع بن الأزرق اجتمعت الخوارج، فولوا على أنفسهم عبد الله
ابن ماحور، وكان من نساكهم.
وبلغ ذلك المهلب، فسار من الأهواز في طلبهم حتى وافاهم بمدينة (سابور)
من أرض فارس، فالتقوا، فاقتتلوا، وانهزمت الخوارج في آخر النهار حتى انتهوا
إلى مكان يدعى (كركان) (2).
اتبعهم المهلب، فوافاهم، فالتقوا به في يوم شديد المطر، فقاتلهم، فهزمهم
، فأخذوا نحو كرمان (3).
فلم يزل المهلب يسير في طلبهم من بلد إلى بلد، ويواقعهم وقعة بعد وقعة طول
ما ملك عبد الله بن الزبير إلى مقتله، وخلوص الأمر لعبد الملك بن مروان.
فلما استدف الأمر لعبد الملك، وولي الحجاج العراقين استبطأ المهلب في استئصال
الخوارج، وظن أنه يهوى مطاولتهم، فبعث إليه عبد الأعلى بن عبد الله العامري،
وعبد الرحمن بن سبرة، وقال لهما احملاه على مناجرة القوم وترك مطاولتهم).
فقدما عليه، فأخبراه بما بعثا له، فقال لهما:
(أقيما حتى تعاينا ما نحن فيه، فإن الحجاج أتاه السماع فقبله، وأتاه العيان
فرده، وقد حملني على خلاف الرأي، وزعم أنه الشاهد وأنا الغائب)
ثم سار نحو الخوارج فلحقهم بأداني أرض كرمان، فواقعهم، وأمامه ابنه
المفضل، فقتل رئيس الخوارج عبد الله بن ماحور، وانهزموا حتى توسطوا أرض
كرمان، وولوا على أنفسهم رجلا من نساكهم، يسمى (قطري بن الفجاءة).
ثم إن المهلب انصرف إلى بلد سابور، فوافاهم يوم النحر، فخرج بالناس
إلى المصلى.

(1) في الأصل: ماحوز.
(2) مدينة مشهورة بين طبرستان وخراسان.
(3) ولاية مشهورة، وناحية مهمورة، ذات بلاد وقرى، ومدن واسعة، وهي بلاد كثيرة
النخل والزرع، ومن مدنها المشهورة جيرفت.
275

فبينا هو يخطب الناس على المنبر، وقد صلى بهم إذ أقبلت الخوارج، فقال:
سبحان الله، أ في مثل هذا اليوم يأتوننا؟ ما أبغض إلى المحاربة فيه، ولكن
الله تعالى يقول: الشهر الحرام بالشهر الحرام، والحرمات قصاص،
فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه) (1).
ثم نزل عن المنبر، ونادى في أصحابه، فركبوا واستلاموا، واستقبلوا الخوارج،
فحملت عليهم الخوارج، وإمامهم عظيم منهم يسمى (عمرو القنا) وكان من فرسانهم،
وهو يرتجز:
نحن صبحناكم غداة النحر * بالخيل أمثال الوشيج تسرى (2)
يقدمها عمرو القنا في الفجر * إلى أناس لهجوا بالكفر
اليوم أقضي في العدو نذري
ثم اقتتلوا، وصبر بعضهم لبعض وكثرت بينهم القتلى، فلم يزل كل فريق
منهما على مكانه حتى حال بينهم الليل، وانحازت الخوارج إلى كازرون (3).
وسار إليهم المهلب فواقعهم بكازرون، فأسرع المهلب في الخوارج،
(فتفرقوا) (4) في تلك الوقعة، وصاروا سيارة، وخرجوا إلى تخوم إصطخر،
واتبعهم المهلب.
فتواقف الفريقان، وحمل بعضهم على بعض، وأمام الخوارج رجل يرتجز:
حتى متى يتبعنا المهلب * ليس لنا في الأرض منه مهرب
لا السماء، أين أين المذهب؟

(1) سورة البقرة الآية: 194.
(2) الوشيج: شجرة الرماح.
(3) مدينة بفارس بين البحر وشيراز، ويقال إنها هي دمياط الأعاجم، وكلها قصور وبساتين
ممتدة عن يمين وشمال.
(4) في الأصل: فرقوا.
276

فلما سمع قطري ذلك بكى، ووطن نفسه على الموت، وباشر الحرب بنفسه،
وهو يرتجز:
حتى متى تخطئني الشهادة * والموت في أعناقنا قلادة
ليس الفرار في الوغى بعادة * يا رب زدني في التقى عبادة
وفي الحياة بعدها زهادة
فاقتتلوا يومهم حتى حال بينهم الليل.
ومضى قطري في أصحابه نحو (جيرفت) (1)، وهم بالهرب إلى كرمان،
فقال رجل من أصحابه:
أيا قطري الخير إن كنت هاربا * ستلبسنا عارا وأنت مهاجر
إذا قيل قد جاء المهلب أسلمت * له شفتاك الفم، والقلب طائر
فحتى متى هذا الفرار مخافة * وأنت ولي، والمهلب كافر
ولما رأت الخوارج نكول قطري عن الحرب، وما هم به من الفرار خلعوه
عنهم، وولوا عبد ربه وكان من نساكهم، فسار بهم إلى قومس (2)،
فأقام بها.
(المهلب والحجاج) وإن الحجاج كتب إلى المهلب:
(أما بعد، فقد طاولت القوم وطاولوك، حتى ضروا بك ومرنوا على حربك،
ولعمري لو لم تطاولهم لا نحسم الداء وانفصم القرن، وما أنت والقوم سواء، إن

مدينة بكرمان، من أعيان مدنها وأنزهها، بها نخل وفواكه، قال سهيل بن عدي:
ولم تر عيني مثل يوم رأيته
بجيرفت من كرمان أوهى وأحقرا
(2) تعريب كومس: كورة كبيرة واسعة، بها مدن وقرى ومزارع في ذيل جبل طبرستان،
قصبتها دامغان، بين الري ونيسابور، ومن مدنها بسطام.
277

خلفك رجالا وأموالا، والقوم لا رجال عندهم ولا أموال، ولن يدركك
الوجيف (1) بالدبيب، ولا الجد بالتعذير، وقد بعثت إليك عبيد الله بن موهب،
ليأخذك بمناجزة القوم وترك مطاولتهم، والسلام).
فلما قدم عبيد الله بن موهب على المهلب بكتاب الحجاج كتب إليه في جوابه:
(أما بعد، فإنه أتاني من قبلك رجلان، لم أعطهما على الصدق ثمنا، ولم أحتج
مع العيان إلى التقدير، ولم يكذبا فيما أنبأك به من أمري وأمر عدوي، والحرب لا
يدركها إلا المكيث، ولا بد لها من فرجة يستريح فيها الغالب، ويحتال فيها المغالب،
ويحتال فيها المغلوب، فأما أن أنساهم وينسوني فهيهات من ذلك، والقوم سدى، فإن طمعوا أقاموا، وإن
يئسوا هربوا، فعلي في مقامهم القتال والحرب، وفي هربهم الجد والطلب، وأنا
إذا طاولتهم شاركتهم في رأيهم، وإذا عاجلتهم شركوني في رأيي، فإن خليتني
ورأيي فذاك داء محسوم وقرن مفصوم، وإن عجلتني لم أطعك ولم أعصك،
وكان وجهي إليك بإذن منك، وأنا أعوذ بالله من سخط الأمراء ومقت الأئمة،
والسلام.
فلما قرأ الحجاج كتابه كتب إلى المهلب: أني قد رددت الرأي إليك، فدبر
ما ترى، واعمل ما تريد).
فلما أتاه كتاب الحجاج بذلك نشط لطلب الخوارج.
وسار في طلبهم إلى أرض قومس فهربوا منه، فأتوا (جيرفت) وتحصنوا
في مدينة هناك، فخرج خلفهم، وحاصرهم في تلك المدينة حتى أكلوا خيلهم.
وأمر المهلب ابنه يزيد أن يقيم عليهم أياما، ثم يخلي لهم عن الباب، فإذا
خرجوا وأصحروا اتبعهم.
وتنحى المهلب فعسك على خمسة فراسخ، وأقام عليهم يزيد أياما، ثم خلى لهم
عن الباب، فخرجوا، واتبعهم المهلب.

(1) الوجيف: ضرب من سير الإبل والخيل.
278

فسار في طلبهم يومين حتى لحقهم، فوقفوا له، فاقتتلوا يوما كله، ثم غدوا
في اليوم الثاني على الحرب، فناداهم عبد ربه: (يا معشر المهاجرين، روحوا
بنا إلى الجنة، فإن القوم رائحون إلى النار).
فاطعنوا بالرماح حتى تكسرت، واضطربوا بالسيوف حتى تقطعت، ثم
صاروا إلى المعانقة، فترجل المهلب في حماته، وحمل عليهم، وهو يتلو قول الله
عز وجل: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين لله) (1).
فلم يزالوا يقتتلون حتى حال بينهم الليل، ثم غدوا على الحرب، وقد كسرت
الخوارج جفون سيوفهم، وحلقوا رؤوسهم، فاقتتلوا، فقتل عبد ربه، وجميع
إبطاله، ولم يبق إلا ضعفاؤهم، فدخلوا في عسكر المهلب، وانضم كل رجل إلى
عشيرته من أصحاب المهلب.
فنزل المهلب عن فرسه، وقال (الحمد لله الذي ردنا إلى الأمن، وكفانا مئونة
الحرب، وكفى أمر هذا العدو).
ووجه بشر بن مالك الحرسي إلى الحجاج يبشره بالفتح، وكتب معه
كتاب الظفر.
فلما وصل الكتاب إلى الحجاج وجه به إلى عبد الملك، وقام بشر بن مالك،
فأنشأ يقول:
قد حسمنا داء الأزارقة الدهر *، فأضحوا طرا، كال ثمود
بطعان الكماة في ثغر القوم * وضرب يشيب رأس الوليد
كلما شئت راعني قطري * فوق عبل الشوى أقب عنود (2)
معلما يضرب الكتيبة بالسيف *، وعمرو كالنار ذات الوقود

(1) سورة البقرة الآية: 193.
(2) عبل الشورى أي قوى اليدين والرجلين والفرس الأقب هو الضامر الضامر البطن والعنود من
الإبل والدواب المتقدمة في السير.
279

وكتب الحجاج إلى المهلب يأمره بالقدوم عليه.
فسار حتى قدم على الحجاج، فاستقبله الحجاج، وأظهر بره وإكرامه، وأمر
له بالجوائز والصلات، وأمر لولده - وكانوا سبعة - المغيرة، وحبيب، ويزيد،
والمفضل، ومدرك، ومحمد، وعبد الملك، وعبد الله، وأكرم أصحاب المهلب.
(قتل قطري بن الفجاءة)
ولحق قطري بالري، فوجه الحجاج سفيان بن الأبرد حتى أتى الري، وعليها
إسحاق بن محمد بن الأشعث، فركب معه في مائة فارس من جنده، وسارا حتى
لحقاه، وهو في مائة فارس بتخوم طبرستان، فنزل عن دابته، ونام متوسدا يده،
ثم استيقظ، وقال لعلج (1) من أهلها: ايتني بشربة من ماء. فأتاه بالماء، ولحقه القوم،
فقتلوه قبل أن يشرب ذلك الماء، واحتز رأسه، وأخذه سفيان بن الأبرد، وانصرف
إلى الحجاج، فرمى بالرأس بين يديه، فوجه الحجاج بالرأس إلى عبد الملك).
(ولاية خراسان)
وأقام المهلب بعد انصرافه بالبصرة في منزله حتى وافاه عهده من عند عبد الملك
على خراسان، فسار إليها فمكث عليها خمس سنين، ثم مات.
فجعل عبد الملك أمر خراسان إلى الحجاج، فأقر الحجاج عليها يزيد
ابن المهلب.
وكان يزيد أجمل ولد المهلب جمالا وأكملهم عقلا، وأفضلهم رأيا، وأذربهم
لسانا، وكان المهلب استخلفه عليها عند وفاته، فمكث عليها أعواما، ثم عزله الحجاج،
واستعمل عليها قتيبة بن مسلم، فافتتح كل ما وراء النهر، ولم يزل هناك إلى أن
هاج به أصحابه، فقتلوه.
* * *
280

وأفضى الملك بعد ذلك إلى الوليد بن عبد الملك، ثم إلى سليمان بن عبد الملك،
فولى سليمان على العراق خالد بن عبد الله القسري، فولى خالد أخاه أسد بن عبد الله
خراسان، فلم يزل بها حتى ظهر فيها دعاة الإمام محمد بن علي بن عبد الله بن عباس.
(العراق بعد موت يزيد)
قالوا، ومات يزيد بن معاوية، وعبيد الله بن زياد بالبصرة، فكتب إليه
الحارث بن عباد بن زياد بهذه الأبيات:
ألا يا عبيد الله قد مات من به * ملكت رقاب العالمين يزيد
أتثبت للقوم الذين وترتهم؟ * وذاك من الرأي الزنيق بعيد (1)
ومالك غير الأزد جار فإنهم * أجاروا أباك، والبلاد تميد
فتعجب عبيد الله من رأي ابن أخيه، وكان ذا رأي.
ثم إن عبيد الله دعا بمولى له يسمى مهران، وكان يعدل في الدهاء والأدب والعقل
بوردان غلام عمرو بن العاص، وهو الذي ينسب إليه البراذين المهرانية، فقال
يا مهران:
- إن أمير المؤمنين يزيد قد هلك، فما الرأي عندك؟
- فقال مهران: أيها الأمير، إن الناس إن ملكوا أنفسهم لم يولوا عليهم أحدا
من ولد زياد، وإنما ملكتم الناس بمعاوية، ثم بيزيد، وقد هلكا، وإنك
قد وترت الناس، ولست آمن أن يثبوا بك، والرأي لك أن تستجير هذا الحي من
الأزد، فإنهم إن أجاروك منعوك، حتى يبلغوا بك مأمنك، والرأي أن تبعث إلى
الحارث بن قيس، فإنه سيد القوم، وهو لك محب، ولك عنده يد، فتخبره
بموت يزيد، وتسأله أن يجيرك.

(1) الزنق بضمتين: العقول التامة.
281

فقال عبيد الله: أصبت الرأي يا مهران.
ثم بعث من ساعته إلى الحارث بن قيس، فأتاه فأخبره بموت يزيد، واستشاره،
فقال:
المستشار مؤتمن، فإن أردت المقام منعناك معاشر الأزد، وإن أردت الاستخفاء
اشتملنا عليك حتى يسكن عنك الطلب، ويخفى على الناس موضعك، ثم نوجه معك
من يبلغك مأمنك.
فقال عبيد الله: هذا أريد.
فقال له الحارث: فأنا أقيم عندك، إلى أن تمسي ويختلط الظلام، ثم أنطلق
بك إلى الحي.
فأقام الحارث عند عبيد الله.
فلما أمسى واختلط الظلام أمر عبيد الله أن توقد السرج في منزله ليلته كلها،
ليظن من يطلبه أنه في منزله، ثم قام فلبس ثيابه، واعتم بعمامته وتلثم.
فقال له الحارث: (التلثم بالنهار ذل، وبالليل ريبة، فاحسر عن وجهك،
وسر خلفي، فإن المقدم وقاية للمؤخر)، فسار.
فقال للحارث: تخلل بنا فداك - أبي وأمي - الطرق، ولا تأخذ بنا طريقا
واحدا، فإني لا آمن أن يطلب أثري.
فقال الحارث: لا بأس عليك، إن شاء الله، فاطمأن.
ثم سارا هويا.
فقال للحارث: أين نحن؟.
قال: في بني مسلم.
قال: سلمنا إن شاء الله.
ثم سارا جميعا ساعة، فقال: أين نحن؟.
قال الحارث في بني ناجية.
قال: نجونا إن شاء الله.
ثم سارا حتى انتهيا إلى الأزد، وأقحم الحارث بعبيد الله دار مسعود بن عمرو،
282

وكان رئيس الأزد كلها بعد المهلب بن أبي صفرة، وكان المهلب في هذا الوقت
بخراسان بعد.
فقال الحارث لمسعود: يا ابن عم، هذا عبيد الله بن زياد، قد أجرته عليك
وعلى قومك.
قال مسعود: أهلكت قومك يا بن قيس، وعرضتنا لحرب جميع أهل
البصرة، وقد كنا أجرنا أباه من قبله فما كانت عنده مكافأة.
وكان سبب إجارتهم زيادا، أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، في خلافته ولى زيادا
البصرة عند خروجه إلى صفين، وإنما كان يعرف بزياد بن عبيد، فوجه معاوية إلى
البصرة عامر بن الحضرمي في جمع، فغلب على البصرة، وهرب منه زياد، فلجأ إلى
الأزد، فأجاروه، ومنعوه حتى ثاب الناس إلى زياد، واجتمعوا، فطرد عامر بن
الحضرمي عن البصرة، وأقام على عمله فيها.
* * *
ثم إن مسعود بن عمرو أدخل عبيد الله دار نسائه، وأفرده في بيت من بيوته،
ووكل به امرأتين من خدمه، وجمع إليه قومه، فأعلمهم ذلك.
ولما أصبح الناس، واستحق عندهم الخبر أتوا داره، فاقتحموها ليقتلوه، فلم
يصادفوا فيها أحدا، فانطلقوا إلى الحبس، فكسروه، وأخرجوا من كان فيه، وبقي
أهل البصرة تسعة أيام بغير وال.
فاتفقوا على عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم،
فولوه أمرهم لصلاحه، وقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتولى الأمر، وقام
بالتدبير.
ولما أتى على عبيد الله أيام، وأمن الطلب، قال لمسعود بن عمرو، والحارث بن
قيس: إن الناس قد سكنوا، ويئسوا مني، فاعملا في إخراجي من البصرة لألحق
بالشام.
283

فاكتريا له رجلا من بني يشكر أمينا هاديا بالطريق، وحملاه على ناقة
مهرية (1)، وقالا لليشكري: عليك به لا تفارقه حتى توصله إلى مأمنه بالشام.
فخرج، وخرجا معه مشيعين له في نفر من قومهما ثلاثة أيام، ثم ودعاه
وانصرفا.
قال اليشكري: فبينا نحن نسير ذات ليلة إذا استقبلنا عير وحاد يحدو فيها،
ويقول:
يا رب، رب الأرض والعباد
العن زيادا، وبني زياد
كم قتلوا من مسلم عباد
جم الصلاة خاشع الفؤاد
يكابد الليل من السهاد
فلما سمع عبيد الله ذلك فزع، وقال: عرف مكاني.
فقلت: لا تخف، فليس كل من ذكرك يعلم موضعك.
ثم سرنا فأطرق طويلا، وهو على ناقته، فظننت أنه نائم، فناديته: يا نومان.
فقال: ما أنا بنائم، ولكني مفكر في أمر.
قلت: إني لأعلم الذي كنت مفكرا فيه.
فقال: هاته إذن.
قلت: ندمت على قتلك الحسين بن علي، وفكرت في بنائك القصر الأبيض
بالبصرة، وما أنفقت عليه من الأموال، ثم لم يقض لك التمتع به، وندمت
على ما كان من قتلك الخوارج من أهل البصرة بالظنة والتوهم.
قال عبيد: ما أصبت يا أخا بني يشكر شيئا مما كنت مفكرا فيه،
أما قتلي الحسين فإنه خرج على إمام وأمه مجتمعة، وكتب إلى الإمام يأمرني بقتله،
فإن كان ذلك خطأ كان لازما ليزيد، وأما بنائي القصر الأبيض، فما فكرتي
284

في قصر بنيته للإمام بأمره وماله، وأما قتلي من قتلت من الخوارج فقد قتلهم قبلي
من هو خير مني، علي بن أبي طالب رضي الله عنه. غير أني فكرت في بني أبي،
وأولادهم، فندمت على تركي إخراجهم من البصرة قبل وقوع ما وقع، وفكرت
في بيوت الأموال بالكوفة والبصرة ألا أكون فرقتها وبددتها في الناس عندما
ورد على من وفاه الخليفة، فكنت أكتسب بذلك حمدا في الناس وذكرا.
قلت: فما تريد أن تصنع الآن؟
قال: إن وافيت دمشق، وقد اجتمع الناس على إمام دخلت فيما دخلوا فيه، وإن
لم يكونوا اجتمعوا على أحد كانوا غنما، قلبتها كيف شئت.
(خلافة مروان بن الحكم)
قال: فسرنا حتى دخلنا دمشق، والناس مختلفون، لم يملكوا عليهم أحدا، وقد
كان مروان بن الحكم هم باللحاق بعبد الله بن الزبير ليبايعه، ويكون معه.
فدخل عبيد الله، وعنفه في ذلك، وقال:
- أنت سيد قومك، وأحق الناس بهذا الأمر، فمد يدك أبايعك.
فقال مروان: وما تبلغ بيعتك وحدك؟ اخرج إلى الناس وناظرهم في ذلك.
فخرج من عنده، ولقي جماعة بني أمية، فعنفهم في ذلك، وفي تخاذلهم، وحملهم
على بيعة مروان، فاجتمعوا، وبايعوه.
وتزوج مروان أم خالد بنت هاشم بن عتبة، التي كانت امرأة يزيد بن معاوية،
فلما تم لملك مروان بن الحكم تسعة أشهر قتلته امرأته أم خالد.
وذلك أن مروان نظر يوما إلى ابنها خالد بن يزيد بن معاوية، وهو غلام من أبناء
سبع سنين، يمشي مشية أنكرها، فقال له: ما هذه المشية يا بن الرطبة؟.
فشكا الغلام ذلك إلى أمه، فقالت له: إنه لا يقول بعد هذا.
فسقته السم، فلما أحس بالموت جمع بني أمية وأشراف أهل الشام، فبايع لابنه
عبد الملك.
285

(خلافة عبد الملك بن مروان) وامتنع عمرو بن سعيد من البيعة، ومات مروان، وله ثلاث وستون سنة،
ثم ملك عبد الملك بن مروان سنة ست وستين، فخرج عمرو بن سعيد بن العاص
عليه، فصار أهل الشام فرقتين: فرقة مع عبد الملك، وفرقة مع عمرو بن سعيد.
فدخلت بنو أمية وأشراف أهل الشام بينهما حتى اصطلحا، على أن يكونا
مشتركين في الملك، وأن يكون مع كل عامل لعبد الملك شريك لعمرو بن سعيد،
وعلى أن اسم الخلافة لعبد الملك، فإن مات عبد الملك فالخليفة من بعده عمرو بن
سعيد، وكتبا فيما بينهما كتابا، وأشهدا عليه أشراف أهل الشام.
وكان روح بن زنباع من أخص الناس بعبد الملك بن مروان، فقال له،
وقد خلا به يوما: يا أمير المؤمنين، هل من رأيك الوفاء لعمرو؟
قال: ويحك يا ابن زنباع، وهل اجتمع فحلان في هجمة قط إلا قتل أحدهما
صاحبه؟
وكان عمرو بن سعيد رجلا معجبا بنفسه، متهاونا في أمره، مغترا بأعدائه.
(قتل عمرو بن سعيد بن العاص)
ثم إن عمرا دخل على عبد الملك يوما، وقد استعد عبد الملك للغدر به، فأمر به،
فأخذ، فأضجع، وذبح ذبحا، ولف في بساط.
وأحس أصحاب عمرو بذلك، وهم بالباب، فتنادوا، فأخذ عبد الملك خمسمائة
صرة، قد هيئت، وجعل في كل صرة ألفا درهم، فأمر بها، فأصعدت إلى أعلى
القصر، فألقيت إلى أصحاب عمرو بن سعيد مع رأس عمرو، فترك أصحابه الرأس
ملقى، وأخذوا المال، وتفرقوا.
فلما أصبح عبد الملك أخذ من أصحاب عمرو ومواليه خمسين رجلا، فضرب
أعناقهم، وهرب الباقون، فلحقوا بعبد الله بن الزبير.
286

وفي ذلك يقول قائلهم:
غدرتم بعمرو يال مروان ضلة * ومثلكم يبني البيوت على الغدر
فرحنا، وراح الشامتون بقتله * كان على أكتافنا فلق الصخر
وما كان عمرو عاجزا، غير أنه * أتته المنايا بغتة، وهو لا يدري
كان بني مروان إذ يقتلونه * بغاث من الطير اجتمعن على صقر (1)
قالوا: ولما خرج عبيد الله من البصرة شاع بها أن عبيد الله كان عند الأزد،
فأقبل رجل من الخوارج ليلا، فجلس لمسعود بن عمرو، فلما خرج لصلاة الفجر،
وثب عليه بسكين فقتله.
فاجتمعت الأزد، وقالوا: والله ما قتله إلا بنو تميم، ولنقتلن سيدهم
الأحنف بن قيس.
فقال الأحنف لقومه: إن الأزد قد اتهموكم في قتل صاحبهم، وقد استغنوا
بالظن عن اليقين، ولا بد من غرم عقله (2).
فجمعوا ألف ناقة، ووجهوا بها إلى الأزد - وكانت دية الملوك - فرضيت
الأزد، وكفوا.
وقوى أمر عبد الله بن الزبير، وأعطاه أهل الكوفة الطاعة.
فولى الكوفة عبد الله بن مطيع العدوي.
ووجه أخاه مصعب بن الزبير إلى البصرة، وأمر عبد الله بن مطيع بمكاتبته.
ووجه عماله إلى اليمن، والبحرين، وعمان، وسائر الحجاز.
ودانت لابن الزبير البلدان إلا الشام ومصر. فإن مروان بن الحكم كان حماهما.
وانحلبت على ابن الزبير الأموال، فهدم الكعبة وجدد بناءها، وذلك في

(1) البغاث مثلثة: طائر ضعيف من شرار الطير، لونه أغبر. ومن أمثلة العرب، إن البغاث
بأرضنا يستنسر، أي من جاورنا عز بنا.
(2) العقل الدية.
287

سنة خمس وستين، ولف الحجر الأسود في حرير وجعله في تابوت وختم عليه،
واستودعه الحجبة مع جميع ما كان معلقا في الكعبة من ذهب وجوهر، ولما بناها
أدخل الحجر في البيت.
فلما قتل ابن الزبير نقضها الحجاج، وأعاد بناءها على ما كان، فهي على ذلك
إلى اليوم.
(الدعوة إلى العلويين) قالوا: وإن المختار (1) بن أبي عبيد الثقفي جعل يختلف بالكوفة إلى شيعة
بني هاشم، ويختلفون إليه، فيدعوهم إلى الخروج معه والطلب بدم الحسين،
فاستجاب له بشر كثير، وكان أكثر من استجاب له همدان، وقوم كثير من
أبناء العجم الذين كانوا بالكوفة، ففرض لهم معاوية - وكانوا يسمون الحمراء -
وكان منهم بالكوفة زهاء عشرين ألف رجل.
وكان على الكوفة يومئذ من قبل عبد الله بن الزبير عبد الله بن مطيع،
فأرسل ابن مطيع إلى المختار: ما هذه الجماعات التي تغدو وتروح إليك؟
فقال المختار: مريض، يعاد.
فلم يزل كذلك حتى قال له نصحاؤه: عليك بإبراهيم بن الأشتر، فاستمله
إليك، فإنه متى شايعك على أمر ظفرت به، وقضيت حاجتك.
فأرسل المختار إلى جماعة من أصحابه، فدخلوا عليه، وبيده صحيفة مختومة
بالرصاص.
فقال الشعبي: وكنت فيمن دخل عليه، فرأيت الرصاص أبيض يلوح،
فظننت أنه إنما ختم من الليل، فقال لنا: انطلقوا بنا حتى نأتي إبراهيم
ابن الأشتر.

(1) كان خروج المختار في صفر سنة 66 (سبتمبر 685).
288

قال: فمضينا معه، وكنت أنا ويزيد بن أنس الأسدي، وأحمر بن سليط،
وعبد الله بن كامل، وأبو عمرة كيسان، مولى بجيلة، الذي يقول الناس: قد جاوره
أبو عمرة، وكان من بعد ذلك على شرط المختار.
قال الشعبي: فأتينا إبراهيم بن الأشتر، وهو جالس في صحن داره، فسلمنا
عليه، فتناول يد المختار، وأجلسه معه على مقعدة كان عليها.
وتكلم المختار وكان مفوها، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي صلى الله
عليه وسلم، ثم قال:
إن الله قد أكرمك، وأكرم أباك من قبلك بموالاة بني هاشم ونصرتهم،
ومعرفة فضلهم، وما أوجب الله من حقهم، وقد كتب إليك محمد بن علي بن أبي
طالب - يعني ابن الحنفية - هذا الكتاب بحضرة هؤلاء النفر الذين معي.
فقال القوم جميعا: نشهد أن هذا كتابه، رأيناه حين كتبه.
ثم ناوله، ففتحه وقرأه، فإذا فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن علي إلى إبراهيم الأشتر، أما بعد فإن
المختار بن أبي عبيد على الطلب بدم الحسين، فساعده في ذلك، وآزره يثبك الله ثواب
الدنيا، وحسن ثواب الآخرة.
فلما قرأ إبراهيم بن الأشتر الكتاب قال للمختار:
سمعا وطاعة لمحمد بن علي، فقل ما بدا لك، وادع إلى ما شئت.
فقال المختار: أ تأتينا، أو نأتيك في أمرنا؟
فقال إبراهيم: بل أنا آتيك كل يوم إلى منزلك.
قال الشعبي: فكان إبراهيم بن الأشتر يركب إلى المختار في كل يوم في نفر من
مواليه وخدمه.
قال الشعبي: ودخلتني وحشة من شهادة النفر الذين كانوا معي، على أنهم رأوا
289

محمد بن الحنفية حين كتب ذلك الكتاب إلى إبراهيم بن الأشتر، فأتيتهم في منزلهم
رجلا رجلا، فقلت:
هل رأيت محمد بن الحنفية حين كتب ذلك الكتاب؟
فكل يقول: نعم، وما أنكرت من ذلك؟
فقلت في نفسي: إن لم استعملها من العجمي، يعني أبا عمرة، لم أطمع فيها
من غيره.
فأتيته في منزله، فقلت:
ما أخوفني من عاقبة أمرنا هذا أن ينصب الناس جميعا لنا، فهل شهدت
محمد بن الحنفية حين كتب ذلك الكتاب؟
فقال: والله ما شهدته حين كتبه، غير أن أبا إسحاق - يعني المختار -
عندنا ثقة، وقد أتانا بعلامات من ابن الحنفية، فصدقناه.
قال الشعبي: فعرفت عند ذلك كذب المختار، وتمويهه، فخرجت من
الكوفة حتى لحقت بالحجاز، فلم أشهد من تلك المشاهد شيئا.
* * *
قالوا: وكان على شرطة عبد الله بن مطيع بالكوفة إياس بن نضار العجلي، وكان
طريق إبراهيم بن الأشتر إذا ركب إلى المختار على باب داره، فأرسل إلى إبراهيم:
أنه قد كثر اختلافك في هذا الطريق، فأقصر عن ذلك.
فأخبر إبراهيم المختار بما أرسل إليه إياس، فقال له المختار: (تجنب ذلك الطريق،
وخذ في غيره). ففعل.
وبلغ أياسا أن إبراهيم بن الأشتر لا يقلع عن إتيان المختار كل يوم، فأرسل إليه: أن أمرك يريبني، فلا أرينك راكبا، ولا تبرحن منزلك، فأضرب عنقك.
فأخبر إبراهيم المختار بذلك. واستأذنه في قتله، فأذن له.
وإن إبراهيم ركب في جماعة من أهل بيته وما يليه، وجعل طريقه على مجلس
إياس، فقال له إياس:
290

يا ابن الأشتر، أ لم آمرك ألا تبرح من منزلك؟
فقال له إبراهيم: أنت والله - ما علمت - أحمق.
فقال للجلاوزة: نكسوه.
فانتضى إبراهيم سيفه، وشد على إياس، فضربه حتى قتله. ثم حمل على
الجلاوزة، فانحرفوا عنه، ومضى إبراهيم.
وبلغ عبد الله بن مطيع الخبر، فأمر بطلب إبراهيم، ووجه إلى منزله.
وبلغ ذلك المختار، فوجه إلى إبراهيم بمائة فارس، فلما وافوه حمل على أصحاب
ابن مطيع، فانهزموا عنه، فأقبل إبراهيم نحو دار الإمارة، ووافاه المختار في
سبعة آلاف فارس.
فتحصن ابن مطيع في القصر، وبعث إلى الحرس والجند.
فوافاه منهم نحو ثلاثة آلاف رجل، فنادى (يا لثارات الحسين) فوافاه زهاء عشرة آلاف رجل ممن بايعه على الطلب بدم الحسين.
وفي ذلك يقول عبد الله بن همام:
وفي ليلة المختار ما يذهل الفتى * ويزويه عن رود الشباب شموع
دعا، يا لثارات الحسين فأقبلت * كتائب من همدان بعد هزيع
ومن مذحج جاء الرئيس ابن مالك * يقود جموعا أردفت بجموع
ومن أسد وافى يزيد لنصره * بكل فتى ماضي الجنان منيع
وخرج ابن مطيع من القصر، واجتمع إليه الجنود، ونهد (2) إليه المختار في
أصحابه، وعلى مقدمته ابن الأشتر، فالتقوا، فاقتتلوا، فقتل من أصحاب ابن مطيع
بشر كثير، فانهزموا.
وبادر ابن مطيع إلى القصر، فتحصن فيه في طائفة من أصحابه، وأقبلت همدان
حتى تسلقوا القصر بالحبال من ناحية دار عمارة بن عقبة بن أبي معيط.

(1) نهض.
291

فلما رأى ابن مطيع ضعفه عن القوم سأل الأمان على نفسه ومن معه من أصحابه،
فأجابه المختار إلى ذلك، فأمنه.
فخرج ابن مطيع، وأظهر المختار إكرامه، وأمر له من بيت المال بمائة ألف ألف درهم،
وحفظ فيه قرابته من عمر بن الخطاب، وقال له: (ارحل إذا شئت).
* * *
ثم إن المختار غلب على الكوفة ودانت له العراق وسائر البلاد إلا الجزيرة والشام
ومصر، فإن عبد الملك قد كان حماها، ووجه عماله في الآفاق.
فاستعمل عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني على الموصل، ومحمد بن عثمان
التميمي على آذربيجان، وعبد الله بن الحارث أخا الأشتر على الماهين وهمذان، ويزيد
ابن معاوية البجلي على أصبهان وقم وأعمالها، وابن مالك البكراوي على حلوان (1)
وماسبذان، ويزيد بن أبي نجبة الفزاري على الري ودستبي، وزحر بن قيس
على جوخى. وفرق سائر البلدان على خاصته.
وولى الشرطة كيسان أبا عمرة، وأمره أن يجمع ألف رجل من الفعلة
بالمعاول، وتتتبع دور من خرج إلى قتال الحسين بن علي، فيهدمها.
وكان أبو عمرة بذلك عارفا، فجعل يدور بالكوفة على دورهم، فيهدم الدار في
لحظة، فمن خرج إليه منهم قتلة، حتى هدم دورا كثيرة، وقتل أناسا كثيرا،
وجعل يطلب ويستقصي، فمن ظفر به قتله، وجعل ماله وعطاءه لرجل من أبناء
العجم الذين كانوا معه.
ثم إن المختار عقد ليزيد بن أنس الأسدي في عشرين ألف رجل، وقواهم
بالسلاح والعدة، وولاه الجزيرة وما غلب عليه من أرض الشام.
فسار يزيد حتى نزل نصيبين.

(1) بلد في العراق، آخر حدود السواد مما يلي الجبال، سميت باسم حلوان بن عمران بن
قضاعة، وكان أقطعه إياها بعض الملوك، وكانت مدينة عامرة، لم يكن بالعراق بعد البصرة
والكوفة وواسط أكبر منها، وحواليها عيون كبريتية ينتفع بها ينتفع بها من عدة أدواء.
292

وبلغ ذلك عبد الملك بن مروان، فخرج بأهل الشام فوافى نصيبين، وقاتل يزيد
ابن أنس، فهزمه، وقتل من أصحابه مقتلة عظيمة.
وبلغ المختار ذلك، فقال لإبراهيم بن الأشتر:
أيها الرجل، إنما هو أنا وأنت، فسر إليهم، فوالله لتقتلن الفاسق عبيد الله
ابن زياد، أو لتقتلن الحصين بن نمير، وليهزمن الله بك ذلك الجيش، أخبرني بذلك
من قرأ الكتاب، وعرف الملاحم.
قال إبراهيم:
ما أحسبك أيها الأمير بأحرص على قتال أهل الشام، ولا أحسن بصيرة في ذلك
مني، وأنا سائر.
فانتخب له المختار عشرين ألف رجل، وكان جلهم أبناء الفرس الذين كانوا
بالكوفة، ويسمون الحمراء.
وسار نحو الجزيرة، ورد من كان انهزم من أصحاب يزيد بن أنس، فصار في
نحو من ثلاثين ألف رجل.
وبلغ ذلك عبد الملك، فعقد للحصين بن نمير في فرسان أهل الشام، وكانوا نحوا
من أربعين ألفا، وفيهم عبيد الله بن زياد، وفيهم من قتلة الحسين: عمير بن الحباب،
وفرات بن سالم، ويزيد بن الحضين، وأناس سوى هؤلاء كثير.
فقال فرات لعمير: قد عرفت سوء ولاية بني مروان، وسوء رأيهم في قومنا من
قيس، ولئن خلص الأمر، وصفا لعبد الملك ليستأصلن قيسا، أو ليقصينهم،
ونحن منهم، فانصرف بنا لننظر ما حال إبراهيم بن الأشتر.
فلما جنهما الليل ركبا فرسيهما، وبينهما وبين عسكر إبراهيم أربعة فراسخ،
وكانا يمران بمسالح أهل الشام، فيقولون لهما: (من) (1) أنتما؟ فيقولان: طليعة للأمير
الحصين بن نمير.
فأقبلا حتى أتيا عسكر إبراهيم بن الأشتر، وقد أوقد النيران، وهو قائم يعبي

(1) في الأصل: ما أنتما.
293

أصحابه، وعليه قميص أصفر هروي (1)، وملاءة موردة متوشحا بها،
متقلدا سيفه.
فدنا منه عمير بن الحباب، فصار خلفه، وإبراهيم لا يأبه له، فاحتضنه من
ورائه، فما تحلحل (2) إبراهيم عن موضعه، غير أنه أمال رأسه، وقال:
من هذا؟
قال: أنا عمير بن الحباب.
فأقبل بوجهه إليه، وقال:
- اجلس حتى أفرغ لك.
فتنحى عنه، وقعدا ممسكين بأعنة فرسيهما.
فقال عمير لصاحبه: هل رأيت رجلا أربط جأشا، وأشد قلبا من هذا؟ تراه
تحلحل من مكانه، أو اكترث لي، وأنا محتضنة من خلف.
فقال له صاحبه: ما رأيت مثله.
* * *
فلما فرغ إبراهيم من تعبية أصحابه أتاهما، فجلس إليهما، ثم قال لعمير:
ما أعملك إلى يا أبا المغلس؟
قال عمير: لقد اشتد غمي مذ دخلت عسكرك، وذلك أني لم أسمع فيه كلاما
عربيا حتى انتهيت إليك، وإنما معك هؤلاء الأعاجم، وقد جاءك صناديد (3)
أهل الشام وإبطالهم، وهم زهاء أربعين ألف رجل، فكيف تلقاهم بمن معك؟
فقال إبراهيم:
والله لو لم أجد إلا النمل لقاتلتهم بها، فكيف وما قوم أشد بصيرة في قتال
أهل الشام من هؤلاء الناس الذين تراهم معي؟ وإنما هم أولاد الأساورة من أهل

(1) من صنع هراة، بلدة بفارس.
(2) أي ما تحرك عن موضعه، وفي نسخة تخلخل.
(3) السادة الشجعان، وجماعات العسكر.
294

فارس، والمرازبة، وأنا ضارب الخيل بالخيل، والرجال بالرجال، والنصر من
عند الله.
قال عمير: إن قومي قيسا. إذا التقى الجبلان غدا في ميسرة أهل الشام فلا تحفل بنا،
فإنا منهزمون لنكسر الجيش بذلك، فإنا لا نحب ظهور بني مروان لسوء صنيعهم
إلينا معاشر قيس، وأنا إليك لأميل.
قال إبراهيم: وذاك.
ثم انصرفا إلى معسكرهما.
ولما أصبح الفريقان زحف بعضهم إلى بعض، فتواقفوا بمكان يدعى خازر (1)
فنادى إبراهيم بن الأشتر حماة عسكره (عليكم بالميسرة)، وفيها قيس.
فقال عمير بن الحباب لصاحبه: هذا وأبيك الحزم، لم يثق بقولنا وخاف مكرنا.
وصاح عمير بن الحباب في قيس، يا لثارات مرج راهط (2)، فنكسوا أعلامهم،
وانهزموا، فانكسر أهل الشام.
وحمل عليهم إبراهيم بن الأشتر، فأكثر فيهم القتل، وانهزم أهل الشام،
فأتبعهم إبراهيم يقتلهم إلى الليل، وقتل أميرهم الحصين بن نمير - وكان من قتلة
الحسين - وشرحبيل بن ذي الكلاع، وعظماء أهل الشام.
فلما وضعت الحرب أوزارها قال إبراهيم بن الأشتر: إني قتلت في الوقعة رجلا
من أهل الشام، كان يقاتل في أوائلهم قتالا شديدا، وهو يقول: (أنا الغلام
القرشي). فلما سقط شممت منه ريح المسك، فاطلبوه بين القتلى.
فطلب حتى أصابوه، فإذا هو عبيد الله بن زياد، فأمر به إبراهيم، فخر رأسه،
فوجه به إلى المختار، فوجه به المختار إلى محمد بن الحنفية.
واحتوى إبراهيم بن الأشتر على عسكر الشام، فغنم ما كان فيه.

(1) كورة بين الموصل وإربل، على نهير سمي به.
(2) المرج الموضع ترعي فيه الدواب، ومرج راهط: ناحية من نواحي دمشق.
295

فأتته هند ابنة أسماء بن خارجة الفزاري، امرأة عبيد الله بن زياد، فأخبرته
بانتهاب ما كان معها من مالها، فقال لها:
- كم ذهب لك؟
قالت: قيمة خمسين ألف درهم.
فأمر لها بمائة ألف درهم، ووجه معها مائة فارس حتى أتوا بها أباها البصرة.
ودخل عبيد الله بن عمرو الساعدي، وكان شاعرا على إبراهيم بن الأشتر،
فأنشده:
الله أعطاك المهابة والتقى * وأحل بيتك في العديد الأكثر
وأقر عينك يوم وقعة خازر * والخيل تعثر بالقنا المتكسر
من ظالمين كفتهم آثامهم * تركوا لعافية وطير حسر
ما كان أجرأهم، جزاهم ربهم * شر الجزاء على ارتكاب المنكر
إني أتيتك إذ تناءى منزلي * وذممت إخوان الغنى من معشري
وعلمت أنك لا تضيع مدحتي * ومتى أكن بسبيل خير أشكر
فهلم نحوي، من يمينك نفحة * إن الزمان ألح يا ابن الأشتر
فأعطاه عشرة آلاف درهم.
* * *
وإن إبراهيم بن الأشتر أقام بالموصل، ووجه عماله إلى مدن الجزيرة، فاستعمل
إسماعيل بن زفر على قرقيسياء (1)، وحاتم بن النعمان الباهلي على حران (2) والرها (3)

(1) في الأصل قرقيسيا، وهي بلد على نهر الخابور عند مصبه، ومنها جانب على نهر الفرات،
فوق رحبة مالك بن طوق.
(2) مدينة قديمة، قصبة ديار مضر، قيل إنها أول مدينة بنيت بعد الطوفان، وكانت منزل
الصابئة وهي مهاجر الخليل إبراهيم عليه السلام.
(3) مدينة بأرض الجزيرة في فوق حران.
296

وسميساط (1)، وعمير بن الحباب السلمي على (كفرتوثا) (2)، والسفاح
ابن كردوس على سنجار (3)، وعبد الله بن مسلم على ميافارقين (4)، ومسلم
ابن ربيعة العقيلي علي آمد (5)، وسار هو إلى نصيبين، فأقام بها.
وأن المختار كتب إلى عبيد الله بن الحر الجعفي، وكان بناحية الجبل يتطرف
ويغير: (إنما خرجت غضبا للحسين، ونحن أيضا ممن غضب له، وقد تجردنا
لنطلب بثأره، فأعنا على ذلك). فلم يجبه عبيد الله إلى ذلك.
فركب المختار إلى داره بالكوفة فهدمها، وأمر بامرأته أم سلمة، ابنة عمر
الجعفي، فحبست في السجن، وانتهب جميع ما كان في منزله، وكان الذي تولى ذلك
عمرو بن سعيد بن قيس الهمداني.
وبلغ ذلك عبيد الله بن الحر، فقصد إلى ضيعة لعمرو بن سعيد بالماهين، فأغار عليها، واستاق مواشيها، وأحرق زرعها، وقال:
وما ترك الكذاب من جل مالنا * ولا المرء من همدان غير شريد
أ في الحق أن يجتاح مالي كله * وتأمن عندي ضيعة ابن سعيد؟
ثم اختار من إبطال أصحابه مائة فارس، فيهم محشر التميمي، ودلهم بن زياد
المرادي، وأحمر طئ، وخلف بقية أصحابه بالماهين.
وسار نحو الكوفة حتى انتهى إلى جسرها ليلا، فأمر بقوام الجسر،
فكتفوا، ووكل بهم رجلا من أصحابه، ثم عبر.

(1) مدينة على شاطئ الفرات في طرف بلاد الروم، وكان بها قلعة، يسكن في شق منها
الأرمن.
(2) في الأصل (كفرثونا) والصحيح ما ذكر، وهي قرية كبيرة، من أعمال الجزيرة
بالعراق.
(3) مدينة مشهورة من نواحي الجزيرة. (4) أشهر مدينة بديار بكر، وقد بناها الروم. (5) لفظة رومية، وهي بلد قديم حصين، يحيط بأكثره نهر دجلة.
297

ودخل الكوفة، فلقيه أبو عمرة كيسان، وهو يعس بالكوفة، فقال: من أنتم؟
قالوا: نحن أصحاب عبد الله بن كامل، أقبلنا إلى الأمير المختار. قال: امضوا في حفظ الله.
فمضوا حتى انتهوا إلى السجن، فكسروه، فخرج كل من فيه، وحمل أم سلمة
على فرس، ووكل بها أربعين رجلا، وقدمها، ثم مضى.
وبلغ الخبر المختار، فأرسل راشدا مولى بجيلة في ثلاثة آلاف رجل، وعطف
عليهم أبو عمرة من ناحية بجيلة في ألف رجل.
وخرج عليهم عبد الله بن كامل من ناحية النخع في ألف رجل، فأحاطوا بهم.
فلم يزل عبيد الله يكشفهم، ويسير والحجارة تأخذه (هو) وأصحابه من سطوح
الكوفة حتى عبر الجسر، وقد قتل من أصحاب المختار مائة رجل، ولم يقتل من
أصحابه إلا أربعة نفر.
وسار عبيد الله حتى انتهى إلى (بانقيا) (1) فنزلوا، وداووا جروحهم،
وعلفوا دوابهم، وسقوها، ثم ركبوا، فلم يحلوا عقدها حتى انتهوا إلى (سورا) (2)
فأراحوا بها، ثم ساروا حتى أتوا المدائن، ثم لحق بأصحابه بالماهين.
ولما تجرد المختار لطلب قتلة الحسين هرب منه عمر بن سعد ومحمد بن الأشعث،
وهما كانا المتوليين للحرب يوم الحسين، وأتي بعبد الرحمن بن أبزى الخزاعي،
وكان ممن حضر قتال الحسين، فقال له:
- يا عدو الله، أكنت ممن قاتل الحسين؟
قال: لا، بل كنت ممن حضر، ولم يقاتل.
قال: كذبت، اضربوا عنقه.
فقال عبد الرحمن: ما يمكنك قتلي اليوم حتى تعطي الظفر على بني أمية،

(1) ناحية من نواحي الكوفة، كانت على شاطئ الفرات.
(2) مدينة تحت الحلة، لها نهر ينسب إليها.
298

ويصفو لك الشام، وتهدم مدينة دمشق حجرا حجرا، فتأخذني عند ذلك،
فتصلبني على شجرة بشاطئ نهر، كأني أنظر إليها الساعة.
فالتفت المختار إلى أصحابه (وقال): أما إن هذا الرجل عالم بالملاحم. ثم أمر به
إلى السجن.
فلما جن عليه الليل بعث إليه من أتاه به، فقال له:
- يا أخا خزاعة، أظرفا عند الموت؟
فقال عبد الرحمن بن أبزى: أنشدك الله أيها الأمير أن أموت هاهنا ضيعة.
قال: فما جاء بك من الشام؟
قال: بأربعة آلاف درهم لي على رجل من أهل الكوفة، أتيته متقاضيا.
فأمر له المختار بأربعة آلاف درهم، وقال له: إن أصبحت بالكوفة قتلتك.
فخرج من ليلته حتى لحق بالشام.
* * *
ومكث المختار بذلك يطلب قتلة الحسين، وتجبى إليه الأموال من السواد،
والجبل، وأصبهان، والري، وآذربيجان، والجزيرة ثمانية عشر شهرا،
وقرب أبناء العجم، وفرض لهم ولأولادهم الأعطيات، وقرب مجالسهم،
وباعد العرب وأقصاهم، وحرمهم. فغضبوا من ذلك.
واجتمع أشرافهم فدخلوا عليه، فعاتبوه، فقال: لا يبعد الله غيركم،
أكرمتكم فشمختم بآنافكم، ووليتكم فكسرتم الخراج، وهؤلاء العجم
أطوع لي منكم، وأوفى، وأسرع إلى ما أريد.
قالوا: فدنت العرب، بعضها إلى بعض، وقالوا: هذا كذاب، يزعم
أنه يوالي بني هاشم، وإنما هو طالب دنيا.
فاجتمعت القبائل على محاربته، وصاروا في ثلاثة أمكنة، وولوا أمرهم رفاعة
ابن سوار، فاجتمعت كندة، والأزد، وبجيلة، والنخع، وخثعم، وقيس،
299

وتيم الرباب في جبانة مراد (1)، واجتمعت ربيعة وتميم، فصاروا في جبانة
الحشاشين (2).
وأرسل المختار إلى همدان - وكانوا خاصته - واجتمع إليه أبناء العجم.
فقال لهم: ألا ترون ما يصنع هؤلاء؟
قالوا: بلى.
قال: فإنهم لم يفعلوا ذلك إلا لتقديمي إياكم، فكونوا أحرارا كراما.
فحرضهم بذلك، وأخرجهم إلى ظهر الكوفة، فأحصاهم، فبلغوا أربعين
ألف رجل.
وإن شمر بن ذي الجوشن، وعمر بن سعد، ومحمد بن الأشعث، وأخاه
قيس بن الأشعث قدموا الكوفة عند ما بلغهم خروج الناس على المختار وخلعهم
طاعته، وكانوا هرابا من المختار طول سلطانه، لأنهم كانوا الرؤساء في قتال
الحسين، فصاروا مع أهل الكوفة، وتولوا أمر الناس.
وتأهب الفريقان للحرب، واجتمع أهل الكوفة جميعا في جبانة الحشاشين،
وزحف المختار نحوهم، فاقتتلوا، فقتل بينهم بشر كثير، فنادى المختار:
يا معشر ربيعة، أ لم تبايعوني؟ فلم خرجتم علي؟
قالت ربيعة: قد صدق المختار، فقد بايعناه وأعطيناه صفقة أيماننا،
فاعتزلوا، وقالوا: لا نكون على واحد من الفريقين. وثبت سائر القبائل،
فقاتلوا.
وإن أهل الكوفة انهزموا، وقد قتل منهم نحو خمسمائة رجل، وأسر منهم

(1) محلة بالكوفة، وأهل الكوفة يسمون المقبرة جبانة.
(2) يطلق لفظ الحشاشين على فريق من طائفة الإسماعيلية مبدأ خاص بقدر ما يميزهم
تحول نظامهم السياسي إلى جماعة سرية يطيع أفرادها أئمتهم طاعة عمياء، وقد اتخذوا القتل وسيلة
للتخلص من أعدائهم. (دائرة المعارف الإسلامية المجلد السابع، ص 343).
300

مائتا رجل، فهرب أشراف الكوفة، فلحقوا بالبصرة، وبها مصعب بن الزبير،
فانضموا إليه.
* * *
وبلغ المختار أن شبث بن ربعي، وعمرو بن الحجاج، ومحمد بن الأشعث مع عمر بن سعد
قد أخذوا طريق البصرة في أناس معهم من أشراف أهل الكوفة، فأرسل في طلبهم
رجلا من خاصته يسمى (أبا القلوص الشبامي) في جريدة خيل، فلحقهم بناحية
المذار، فواقعوه، وقاتلوه ساعة، ثم انهزموا، ووقع في يده عمر بن سعد
ونجا الباقون.
فأتي به المختار، فقال: الحمد لله الذي أمكن منك، والله لأشفين قلوب
آل محمد بسفك دمك، يا كيسان، اضرب عنقه.
فضرب عنقه.
وأخذ رأسه، فبعث به إلى المدينة، إلى محمد بن الحنفية.
وقال أعشى همدان، وكان من أهل الكوفة:
ولم أنس همدانا غداة تجوسنا * بأسيافها، لا أسقيت صوب هاضب (1)
فقتل من أشرافنا في محالهم * عصائب منهم أردفت بعصائب
فكم من كمي قد أبارت سيوفهم * إلى الله أشكو رزء تلك المصائب
يقتلنا المختار في كل غائط * فيا لك دهر مرصد بالعجائب
وبلغ المختار أن شمر بن ذي الجوشن مقيم (بد ستميسان) (2) في أناس من بني
عامر بن صعصعة، يكرهون دخول البصرة لشماتة أهل البصرة بهم، فأرسل المختار
إليهم زربيا، مولى بجيلة، في مائة فارس على الخيل العتاق (3)، فسار بهم بالحث

(1) الهاضب: المطرة.
(2) في الأصل: دست ميسان، وهي كورة بين واسط البصرة والأهواز، وقيل إنها الأبلة، فتكون البصرة منها.
(3) نجائب الحيل.
301

الشديد، فقطع أصحابه عنه إلا عشرة فوارس، فلحقهم وقد استعدوا له، فطعنه
شمر، فقتله، وانهزم أصحابه العشرة حتى لحق بهم الباقون، فطلبوا شمرا وأصحابه،
فلم يلحقوهم.
ومضى شمر حتى نزل قريبا من البصرة بمكان يدعى (سادماه) فأقام به
. وأن قيس بن الأشعث أنف من أن يأتي البصرة فيشمت به أهلها، فانصرف
إلى الكوفة مستجيرا بعبد الله بن كامل، وكان من أخص الناس عند المختار.
فأقبل عبد الله إلى المختار، فقال: أيها الأمير، إن قيس بن الأشعث قد استجار
بي وأجرته، فأنفذ جواري إياه.
فسكت عنه المختار مليا، وشغله بالحديث، ثم قال: أرني خاتمك، فناوله إياه،
فجعله في إصبعه طويلا.
ثم دعا أبا عمرة، فدفع إليه الخاتم، وقال له سرا: انطلق إلى امرأة عبد الله بن كامل،
فقل لها: هذا خاتم بعلك علامة، لتدخليني إلى قيس بن الأشعث، فإني أريد مناظرته
في بعض الأمور التي فيها خلاصه من المختار، فأدخلته إليه.
فانتضى سيفه، فضرب عنقه، وأخذ رأسه، فأتى به المختار، فألقاه بين
يديه.
فقال المختار: هذا بقطيفة الحسين.
وذلك أن قيس بن الأشعث أخذ قطيفة كانت للحسين حين قتل، فكان يسمى
قيس قطيفة).
فاسترجع عبد الله بن كامل، وقال للمختار: قتلت جاري وضيفي وصديقي
في الدهر؟
قال له المختار: لله أبوك، اسكت، أ تستحل أن تجير قتله ابن بنت
نبيك؟
* * *
302

ثم إن المختار دعا بالأسرى الذين أسرهم من أهل الكوفة في الوقعة التي كانت
بينه وبين أهل الكوفة، فجعل يضرب أعناقهم حتى انتهى إلى سراقة البارقي،
وكان فيهم، فقام بين يديه، وأنشأ يقول:
إلا من مبلغ المختار إنا * نزونا نزوة كانت علينا
خرجنا لا نرى الإشراك دينا * وكان خروجنا بطرا وحينا (1)
ثم قال للمختار: أيها الأمير، لو أنكم أنتم الذين قاتلتمونا لم تطمعوا فينا.
فقال له المختار: فمن قاتلكم؟
قال سراقة: قاتلنا قوم بيض الوجوه على خيل شهب.
قال له المختار: تلك الملائكة، ويلك، أما إذ رأيتهم فقد وهبتك لهم.
ثم خلى سبيله، فهرب، فلحق بالبصرة، وأنشأ يقول:
ألا أبلغ أبا إسحاق أني * رأيت الشهب كمتا مصمتات (2)
أرى عيني ما لم ترأياه * كلانا عالم بالترهات
كفرت بدينكم وبرئت منكم * ومن قتلاكم حتى الممات
وهرب أسماء بن خارجة الفزاري، وكان شيخ أهل الكوفة وسيدهم من المختار
خوفا على نفسه، فنزل على ماء لبني أسد يسمى ذروة: في نفر من مواليه وأهل بيته
فأقام به.
وهرب عمرو بن الحجاج، وكان من رؤساء قتلة الحسين، يريد البصرة، فخاف
الشماتة فعدل إلى سراف.
فقال له أهل الماء: ارحل عنا، فإنا لأنا من المختار، فارتجل عنهم، فتلاوموا،
وقالوا: قد أسأنا.
فركبت جماعة منهم في طلبه ليردوه، فلما رآهم من بعيد ظن أنهم من أصحاب

(1) الحين: الهلاك.
(2) الكمتة: لون بين السواد والحمرة.
303

المختار، فسلك الرمل في مكان يدعى (البيضة) (1) وذلك في حمارة القيظ، وهي
فيما بين بلاد كلب وبلاد طيئ، فقال (2) فيها، فقتله ومن معه العطش.
ولم يزل أسماء مقيما بذروه (3) إلى أن قتل المختار، ودخل مصعب بن الزبير الكوفة، فانصرف أسماء إلى منزله بالكوفة.
ولما تتبع المختار أهل الكوفة جعل عظماؤهم يتسللون هرابا إلى البصرة حتى
وافاها منهم مقدار عشرة آلاف رجل، وفيهم محمد بن الأشعث، فاجتمعوا، ودخلوا
على مصعب بن الزبير.
فتكلم محمد بن الأشعث، وقال: أيها الأمير، ما يمنعك من المسير لمحاربة هذا
الكذاب الذي قتل خيارنا، وهدم دورنا، وفرق جماعتنا، وحمل أبناء العجم على
رقابنا، وأباحهم أموالنا؟ سر إليه، فإنا جميعا معك، وكذلك من خلفنا بالكوفة
من العرب، هم أعوانك.
قال مصعب: يا ابن الأشعث، أنا عارف بكل ما ارتكبكم به، وليس يمنعني
من المسير إليه إلا غيبة فرسان أهل البصرة أشرافهم، فإنهم مع ابن عمك المهلب
ابن أبي صفرة في وجوه الأزارقة بناحية كرمان، غير أني قد رأيت رأيا.
قال: وما رأيت أيها الأمير؟
قال: رأيت أن أكتب إلى المهلب، آمره أن يوادع الأزارقة، ويقبل إلي
فيمن معه، فإذا وافى تجهزنا لمحاربة المختار.
قال ابن الأشعث: نعم ما رأيت، فاكتب إليه، واجعلني الرسول.
فكتب مصعب بن الزبير إلى المهلب كتابا، يذكر له ما فيه أهل الكوفة من
القتل والحرب، ويفسر فيه أمر المختار.
فسار محمد بن الأشعث بكتابه حتى ورد كرمان، وأوصل الكتاب إلى المهلب،

(1) أيم ماءة في بادية حلب، بينها وبين تدمر.
(2) القائلة: نصف النهار.
(3) أرض ببادية الشام.
304

وقال له: يا ابن عم، قد بلغك ما لقي أهل الكوفة من المختار، وقد كتب إليك
الأمير مصعب بما قد قرأته.
فكتب المهلب إلى قطري، وكان رئيس الأزارقة يومئذ، يسأله الموادعة إلى أجل سماه، ويكتب بينهما كتابا في ذلك، ويضعان الحرب إلى ذلك الأجل.
فأجابه قطري إلى ذلك، وكتبا بينهما كتابا وجعلا الأجل ثمانية عشر شهرا.
وسار المهلب بمن معه حتى وافى البصرة، فوضع مصعب لأهل البصرة العطاء
وتهيأ للمسير.
وبلغ المختار ذلك فعقد لأحمر بن سليط في ستين ألف رجل من أصحابه، وأمره
أن يستقبل القوم، فيناجزهم الحرب.
فسار أحمر بن سليط في الجيوش حتى وافى المذار، وقد انصرف إليها شمر
ابن ذي الجوشن أنفه من أن يأتي البصرة هاربا، فيشمتوا به، فوجه أحمر بن
سليط إلى المكان الذي كان متحصنا فيه خمسين فارسا، وأمامهم نبطي (1) يدلهم
على الطريق، وذلك في ليلة مقمرة.
فلما أحس بهم دعا بفرسه فركبه، ركب من كان معه ليهربوا، فأدركهم القوم،
فقاتلوهم، فقتل شمر وجميع من كان معه، واحتزوا رؤوسهم، فأتوا بها أحمر
ابن سليط، فوجهها إلى المختار، فوجه المختار برأس شمر إلى محمد بن الحنفية
بالمدينة.
وسار مصعب بن الزبير بجماعة أهل البصرة نحو المذار، وتخلف عنه المنذر
ابن الجارود، وهرب منه نحو كرمان في جماعة من أهل بيته، ودعا لعبد الملك
ابن مروان.

(1) من الأنباط وهم أهل البطائح بين العراقين.
305

وأقبل مصعب حتى وافى المذار (1)، وأمامه الأحنف بن قيس في تميم.
وزحف الفريقان، بعضهم إلى بعض، فاقتتلوا، فانهزم أصحاب المختار،
واستحر القتال فيهم، ومضوا نحو الكوفة، واتبعهم مصعب يقتلهم في جميع طريقه،
فلم يفلت منهم إلا القليل.
فقال أعشى همدان في ذلك:
ألم يبلغك ما لقيت شبام (2) * وما لاقت عرينة بالمذار
أتيح لهم بها ضرب طلحق * وطعن بالمثقفة الحرار
كان سحابة صعقت عليهم * فعمتهم هنالك بالدمار
وما أن ساءني ما كان منهم * لدى الإعسار مني واليسار
ولكني فرحت وطاب نومي * وقر لقتلهم مني قراري
وإن مصعبا سار بالجيوش نحو الكوفة، فعبر دجلة، وخرج إلى أرض
كسكرة، ثم أخذ على حديثة الفجار، ثم أخذ على النجرانية حتى قارب
الكوفة.
(قتل المختار)
وبلغ المختار مقتل أصحابه، فنادى في بقية من كان معه من جنوده، فقواهم
بالأموال والسلاح، وسار بهم من الكوفة مستقبلا لمصعب بن الزبير، فالتقوا
بنهر البصريين، فاقتتلوا، فقتل من أصحاب المختار مقتلة عظيمة، وقتل محمد بن
الأشعث، وقتل عمر بن علي بن أبي طالب، عليهما السلام.
وذلك أنه قدم من الحجاز على المختار، فقال له المختار:
- هل معك كتاب محمد بن الحنفية؟

بلدة في ميسان بين واسط والبصرة، بها مشهد عظيم، به قبر عبد الله بن علي بن أبي
طالب
(2) شبام حي من همدان.
306

فقال عمر: لا، ما معي كتابه.
فقال له: انطلق حيث شئت فلا خير لك عندي.
فخرج من عنده، وسار إلى مصعب، فاستقبله في بعض الطريق، فوصله
بمائة ألف درهم، وأقبل مع مصعب حتى حضر الوقعة، فقتل فيمن قتل من الناس.
وانهزم المختار حتى دخل الكوفة، وتبعه مصعب، فدخل في أثره،
وتحصن المختار في قصر الإمارة، فأقبل مصعب حتى أناخ عليه، وحاصره
أربعين يوما.
ثم إن المختار قلق (بالحصار قلقا عظيما، فقال) (1) للسائب بن مالك الأشعري، وكان من خاصته:
- أيها الشيخ، اخرج بنا نقاتل على أحسابنا لا على الدين.
فاسترجع السائب، وقال: يا أبا إسحاق، لقد ظن الناس أن قيامك بهذا
الأمر دينونة.
فقال المختار: لا، لعمري ما كان إلا لطلب دنيا، فإني رأيت عبد الملك
ابن مروان قد غلب على الشام، وعبد الله بن الزبير على الحجاز، ومصعبا على
البصرة، ونجدة الحروري على العروض (2)، وعبد الله بن خازم على خراسان،
ولست بدون واحد منهم، ولكن ما كنت أقدر على ما أردت إلا بالدعاء إلى
الطلب بثأر الحسين.
ثم قال: - يا غلام، علي بفرسي ولأمتي.
فأتي بدرعه، فتدرعها، وركب فرسه.
ثم قال: قبح الله العيش بعد ما أرى، يا بواب، افتح.
ففتح له الباب.

(1) محو في الأصل.
(2) العروض: المدينة ومكة واليمن، وقال ابن الكلبي: بلاد
اليمان والبحرين وما والاها العروض.
307

وخرج ومعه حماة أصحابه، فقاتل القوم قتالا شديدا، وانهزم أصحابه، ومضى
هو نحو القصر، وهو في حامية أصحابه، فدخل القصر من أصحابه ستة آلاف
رجل، وبقي مع المختار نحو من ثلاثمائة رجل، فأخذ أصحاب مصعب عليه
باب القصر، فلجأ المختار فيمن معه إلى حائط القصر، وأقبل يذمر أصحابه،
ويحمل.
فلم يزل يقاتل حتى قتل أكثر من كان معه.
فحمل عليه أخوان من بني حنيفة من أصحاب المهلب، فضرباه بالسيف حتى
سقط، وبادرا إليه، فاحتزا رأسه، فأتيا به مصعبا، فأعطاهما ثلاثين ألف درهم.
فقال سويد بن أبي كاهل يذكر قتل المختار:
يا ليت شعري متى تغدو مخيسة (1) * منا فتبلغ أهل الموسم الخبرا
أنا جزرنا عن الكذاب هامته * من بعد طعن وضرب يكشف الخمرا
ووجه مصعب برأس المختار إلى عبد الله بن الزبير مع عبد الله بن عبد الرحمن.
قال عبد الله: فوافيت مكة بعد العشاء الآخرة، فأتيت المسجد، وعبد الله
ابن الزبير يصلي، قال: فجلست أنتظره، فلم يزل يصلي إلى وقت السحر، ثم
انفتل من صلاته، فدنوت منه، فناولته كتاب الفتح، فقرأه، وناوله غلامه،
وقال:
- أمسكه معك.
فقلت: يا أمير المؤمنين، هذا الرأس معي.
قال: فما تريد؟.
قلت: جائزتي.
قال: خذ الرأس الذي جئت به بجائزتك.
فتركته، وانصرفت.
308

(سلطان عبد الله بن الزبير)
قالوا: ولما قتل المختار، واستتب الأمر لعبد الله بن الزبير، أرسل إلى عبد الله
ابن عباس ومحمد بن الحنفية: (أما أن تبايعاني أو تخرجا من جواري).
فخرجا من مكة، فنزلا الطائف، وأقاما هناك.
وتوفي عبد الله بن عباس بالطائف، وصلى عليه محمد بن الحنفية.
وخرج محمد بن الحنفية حتى أتى أيلة (1)، وكتب إلى عبد الملك بن مروان،
يستأذنه في القدوم عليه، والنزول في جواره، فكتب إليه: وراءك أوسع لك،
ولا حاجة لي فيك.
فأقام محمد بن الحنفية عامه ذلك بأيلة، ثم توفي بها.
وقتل المختار، وإبراهيم بن الأشتر عامله على كورة الجزيرة، فكتب إلى مصعب
يسأله الأمان، وكتب إليه يأمره بالقدوم عليه، فقدم وبايعه، وفوض مصعب
إليه جميع أمره، وأظهر بره وألطافه، ولم تزل الستة الآلاف (2) الذين دخلوا القصر
متحصنين فيه شهرين، حتى نفد جميع ما كان المختار أعده فيه من الطعام،
فسألوا الأمان، فأبى مصعب أن يعطيهم الأمان إلا على حكمه.
فأرسلوا إليه: أنا ننزل على حكمك.
فنزلوا عند ما بلغ إليهم الجوع.
فضرب أعناقهم كلها، وكانوا ستة آلاف: ألفين من العرب، وأربعة آلاف
من العجم.
ودعا مصعب بامرأتي المختار، أم ثابت ابنة سمرة بن جندب، وعمرة بنت
النعمان بن بشير، فدعاهما إلى البراءة من المختار، فأما أم ثابت فإنها تبرأت منه،
وأبت عمرة أن تتبرأ منه.
فأمر بها مصعب، فأخرجت إلى الجبانة، فضربت عنقها.

(1) مدينة كانت على ساحل البحر الأحمر مما يلي الشام، وهي مدينة اليهود الذين يبتسوا في
السبت وكان حجاج مصر يجتازونها.
(2) في الأصل: آلاف.
309

فقال بعض الشعراء في ذلك:
أن من أعجب العجائب عندي * قتل بيضاء حرة عطبول (1)
قتلوها بغير ذنب سفاها * إن لله درها من قتيل
كتب القتل والقتال علينا * وعلى المحصنات جر الذيول
وقال سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت في ذلك:
ألم تعجب الأقوام من قتل حرة * من المخلصات الدين محمودة الأدب؟
من الغافلات المؤمنات بريئة * من الزور والبهتان والشك والريب
علينا كتاب الله في القتل واجب * وهن الضعاف في الحجال وفي الحجب
فقلت ولم أظلم، أعمرو بن مالك * يقتل ظلما، لم يخالف ولم يرب
ويسبقنا آل الزبير بوترنا * ونحن حماة الناس في البارق الأشب (2)
فإن تعقب الأيام منهم نجازهم * على حنق بالقتل والأسر والحنب (3)
ثم إن مصعب بن الزبير نزل القصر بالكوفة، واستعمل العمال، وجبى الخراج،
فولى البصرة عبيد الله بن معمر التيمي، ورد المهلب إلى قتال الأزارقة.
قالوا: ولما صفا الأمر لعبد الله بن الزبير ودانت له البلدان إلا أرض الشام،
جمع عبد الملك بن مروان إخوته، وعظماء أهل بيته، فقال لهم: إن مصعب بن الزبير
قد قتل المختار، ودانت له أرض العراق، وسائر البلدان، ولست آمنه أن
يغزوكم في عقر بلادكم، وما من قوم غزوا في عقر دارهم إلا ذلوا، فما ترون؟.
فتكلم بشر بن مروان، فقال:
يا أمير المؤمنين، أرى أن تجمع إليك أطرافك، وتستجيش جنودك،
وتضم إليك قواصيك، وتسير إليه، وتلف الخيل بالخيل، والرجال بالرجال،
والنصر من عند الله.

(1) المرأة العطبول هي الفتية الجميلة الممتلئة الطويلة العنق.
(2) البارق: موضع قرب الكوفة، والأشب: كثير الشجرة.
(3) الحنب والتحنيب: اعوجاج في الضلوع.
310

فقال القوم: هذا الرأي، فاعمل به، فإن بنا قوة ونهوضا.
فوجه رسله إلى كور الشام ليجتمع إليه، فاجتمع له جميع أجناد الشام، ثم
سار وقد احتشد، ولم ينزل.
(خضوع العراق لجند الشام)
وبلغ مصعب بن الزبير خروجه، فضم إليه أطرافه، وجمع إليه قواصيه،
واستعد، ثم خرج لمحاربته، فتوافى العسكران بدير الحانات، فقال عدي بن
زيد بن عدي، وكان مع عبد الملك:
لعمري لقد أصحرت خيلنا * بأكناف دجلة للمصعب (1)
يجرون كل طويل الكعوب * معتدل النصل والثعلب (2)
بكل فتى واضح وجهه * كريم الضرائب (3) والمنصب
ولما نظر أصحاب مصعب إلى كثرة جموع عبد الملك تواكلوا، وشملهم الرعب،
فقال مصعب لعروة بن المغيرة، وهو يسايره:
ادن يا عرو أكلمك.
فدنا منه.
فقال: أخبرني عن الحسين، كيف صنع حين نزل به الأمر؟
قال عروة: فجعلت أحدثه بحديث الحسين، وما عرض عليه ابن زياد من
النزول على حكمه، فأبى ذلك، وصبر للموت.
فضرب مصعب معرفة (4) دابته بالسوط، ثم قال:
فإن الألى بالطف (5) من آل هاشم * تأسوا فسنوا للكرام التأسيا
وإن عبد الملك كتب إلى رؤساء أصحاب مصعب يستميلهم إليه، ويعرض
عليهم الدخول في طاعته، ويبذل لهم على ذلك الأموال.

(1) أصرحت الخيل: برزت في الصحراء، والأكناف جمع كنف (بفتحتين) وهو الجانب
(2) المقصود بالثعلب طرف الرمح الداخل في جبة السنان.
(3) الضرائب: جمع ضريبة، وهي الطبيعة والسجية، أو السيف وحده، كالمضرب.
(4) المعرفة موضع العرف من الفرس.
(5) الطف: موضع قرب الكوفة.
311

وكتب إلى إبراهيم بن الأشتر فيمن كتب.
فأقبل إبراهيم بالكتاب مختوما فناوله مصعبا، وقال:
- أيها الأمير، هذا كتاب الفاسق عبد الملك بن مروان.
قال له مصعب: فهلا قرأته.
قال: ما كنت لأفضه، ولا أقرأه إلا بعد قراءتك له.
ففضه مصعب، وإذا فيه:
(بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عبد الملك أمير المؤمنين إلى إبراهيم
ابن الأشتر، أما بعد، فإني أعلم أن تركك الدخول في طاعتي ليس إلا عن معتبة،
فلك الفرات وما سقى، فأنجز إلي فيمن أطاعك من قومك، والسلام).
فقال مصعب: فما يمنعك يا ابن النعمان؟
قال: لو جعل لي ما بين المشرق إلى المغرب ما أعنت بني أمية على ولد صفية.
فقال مصعب: جزيت خيرا أبا النعمان.
فقال إبراهيم لمصعب: أيها الأمير، لست أشك أن عبد الملك قد كتب إلى
عظماء أصحابك بنحو مما كتب إلي، وانهم قد مالوا إليه، فائذن لي في حبسهم
إلى فراغك، فإن ظفرت مننت بهم على عشائرهم، وإن تكن الأخرى كنت
قد أخذت بالحزم.
قال مصعب: إذن يحتجوا علي عند أمير المؤمنين.
فقال إبراهيم: أيها الأمير، لا أمير المؤمنين والله لك اليوم، وما هو إلا
الموت، فمت كريما.
فقال مصعب: يا أبا النعمان، إنما هو أنا وأنت فنقدم للموت.
قال إبراهيم: إذن، والله أفعل.
قال: ولما نزلوا بدير الجاثليق (1) باتوا ليلتهم.

(1) الجاثليق رئيس للنصارى في بلاد الإسلام بمدينة السلام، ويكون تحت يد بطريق أنطاكية،
ثم المطران تحت يده، ثم الأسقف يكون في كل بلد من تحت المطران، ثم القسيس، ثم الشماس.
312

فلما أصبحوا نظر إبراهيم بن الأشتر، فإذا القوم الذين اتهمهم قد ساروا تلك
الليلة، فلحقوا بعبد الملك بن مروان، فقال لمصعب:
- كيف رأيت رأيي؟.
ثم زحف بعضهم إلى بعض، فاقتتلوا، فاعتزلت ربيعة، وكانوا في ميمنة مصعب،
وقالوا لمصعب: لا نكون معك ولا عليك.
وثبت مع مصعب أهل الحفاظ، فقاتلوا، وإمامهم إبراهيم بن الأشتر،
فقتل إبراهيم.
فلما رأى مصعب ذلك، استمات، فترجل، وترجل معه حماة أصحابه،
فقاتلوا حتى قتل عامتهم، وانكشف الباقون عن مصعب.
فحمل عليه عبد الله بن ظبيان، فضربه من ورائه بالسيف، ولا يشعر به
مصعب، فخر صريعا، فنزل وأجهز عليه، واحتز رأسه.
فأتي به عبد الملك، فحزن عليه حزنا شديدا، وقال: متى تغدو قريش
مثل مصعب؟ وددت لو أنه قبل الصلح، وإني قاسمته مالي.
ولما قتل مصعب بن الزبير استأمن من بقي من أصحابه إلى عبد الملك، فآمنهم.
فقال عبد الله بن قيس الرقيات:
لقد ورد المصرين خزي وذلة * قتيل بدير الجاثليق مقيم
فما صبرت في الحرب بكر بن وائل * ولا ثبتت عند اللقاء تميم
ولكنه ضاع الذمار فلم يكن * بها عربي عند ذاك كريم
وكان قتل مصعب يوم الخميس للنصف من جمادى الأولى سنة اثنتين وسبعين (1).
فارتحل عبد الملك بالناس حتى دخل الكوفة، فدعاهم إلى البيعة، فبايعوه.
ثم جهز الجيوش إلى تهامة لمحاربة عبد الله بن الزبير، وولى الحرب قدامة
ابن مطعون، وأمره بالمسير.
. انصرف عبد الملك إلى الشام.

(1) سنة 691 م.
313

(مقتل عبد الله بن الزبير)
ثم وجه الحجاج بن يوسف لمحاربة عبد الله بن الزبير، وعزل قدامة بن مظعون،
فسار الحجاج حتى نزل الطائف، وأقام شهرا.
ثم كتب إلى عبد الملك: (إنك يا أمير المؤمنين متى تدع ابن الزبير يعمل فكره،
ويستجيش ويجمع أنصاره، وتثوب إليه فلالة كان في ذلك قوة له، فائذن في
معاجلته لي).
فأذن له.
فقال الحجاج لأصحابه: تجهزوا للحج.
وكان ذلك في أيام الموسم.
ثم سار من الطائف حتى دخل مكة، ونصب المنجنيق على أبي قبيس (1).
فقال الأقيشر الأسدي:
لم أر جيشا غر بالحج مثلنا * ولم أر جيشا مثلنا غير ما خرس
دلفنا لبيت الله نرمي ستوره * بأحجارنا زفن الولائد في العرس (2)
دلفنا له يوم الثلاثاء من منى * بجيش كصدر الفيل ليس بذي رأس
فإلا ترحنا من ثقيف وملكها * نصل لأيام السباسب والنحس (3)
فطلبه الحاج، فهرب، وأناخ الحاج بابن الزبير.
وتحصن منه ابن الزبير في المسجد.
واستعمل الحجاج على المنجنيق ابن خزيمة الخثعمي، فجعل يرمي أهل المسجد ويقول:
خطاره مثل الفنيق الملبد
نرمي بها عواذ أهل المسجد (4)

(1) أبو قبيس جبل بمكة سمى باسم رجل من مذحج حداد، لأنه أول من بنى فيه.
(2) زفن كضرب: رقص.
(3) السباسب هي أيام السعانين، والسعانين، أو الشعانين: عيد للنصارى قبل عيد الفصح بأسبوع، يخرجون فيه بصلبانهم.
(4) الخطارة: المقلاع والمنجنيق، والفنيق الفحل المكرم.
314

فلما اشتد على ابن الزبير وأصحابه الحصار، خرجت بنو سهم من بابهم، فقال
ابن الزبير:
فرت سلامان، وفرت النمر * وقد تكون معهم فلا تفر
وجعل أهل الشام يدخلون عليه المسجد، فيشد عليهم، فيخرجهم من المسجد حتى
رمي بحجر، فأصاب جبهته، فسقط لوجهه، ثم تحامل، فقام، وهو يقول:
فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا
ولكن على أقدامنا تقطر الدما
ثم قال لأصحابه: (أخرجوا إلي من بالباب، واحملوا، ولا يلهينكم طلبي،
والسؤال عني، فإني في الرعيل الأول).
فخرج، وخرجوا معه، فقاتل قتالا شديدا حتى قتل عامة من كانوا معه، وأحدقوا
به من كل جانب، فضربوه بأسيافهم حتى قتلوه.
فأمر به الحجاج، فصلب.
فمر به عبد الله بن عمر، فقال:
(رحمك الله أبا بكر، أما والله لقد كنت صواما قواما، غير أنك رفعت الدنيا
فوق قدرها، وليست لذلك بأهل، وإن أمة أنت شرها لأمة صدق).
وكان مقتل ابن الزبير يوم الثلاثاء لسبع عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة،
سنة ثلاث وسبعين. (1).
* * *
ولما قتل عبد الله بن الزبير خرج أخوه عروة بن الزبير هاربا من الحجاج
حتى أتى الشام، فاستجار بعبد الملك بن مروان، فأجاره، وأظهر إكرامه،
وأقام عنده.
فكتب الحجاج إلى عبد الملك به أن أموال عبد الله بن الزبير عند أخيه عروة،
فرده إلي لأستخرجها منه.
فقال عبد الملك لبعض أحراسه:
- انطلق بعروة إلى الحجاج.

(1) سنة 692 م.
315

فقال عروة:
- يا بني مروان، ما ذل من قتلتموه، بل ذل من ملكتموه.
فتذمم عبد الملك، وخلى سبيل عروة.
وكتب إلى الحجاج: (إله عن عروة، فلن أسلطك عليه).
فأقام الحجاج بمكة حتى أقام للناس الحج.
وأمر بالكعبة فنقضت، وأعاد بناءها، وهو هذا البناء القائم اليوم.
وفي ذلك العام توفي عبد الله بن عمر، وله أربع وسبعون سنة. فدفن
(بذي طوى) (1) في مقبرة المهاجرين.
وكان يكنى (أبا عبد الرحمن).
وفيها مات أبو سعيد الخدري، واسمه سعد بن مالك.
وفيها مات رافع بن حديج، وله ست وثمانون سنة، وكان يكنى (أبا عبد الله).
(سك النقود العربية)
قالوا: وأمر عبد الملك بضرب الدراهم سنة ست وسبعين، ثم أمر بعد ذلك
بضرب الدنانير، وهو أول من ضربها في الإسلام.
وإنما كانت الدراهم والدنانير قبل ذلك مما ضربت العجم.
وفي تلك السنة مات جابر بن عبد الله، وله سبع وتسعون سنة.
(ابن الأشعث وفتنته)
ثم خرج عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس على الحجاج.
وكان سبب خروجه أنه دخل على الحجاج يوما، فقال له الحجاج:
- إنك لمنظراني.
قال عبد الرحمن: إي والله، ومخبراني.
وقام عبد الرحمن، فخرج.

(1) ذو طوى، مثلث الطاء موضع قرب مكة.
316

فقال الحجاج لمن كان عنده:
- ما نظرت إلى هذا قط، إلا أشهيت أن أضرب عنقه.
وكان عامر الشعبي حاضرا.
وأن عبد الرحمن لما خرج قعد بالباب حتى خرج الشعبي، فقام عبد الرحمن إليه.
فقال له: هل ذكرني الأمير بعد خروجي من عنده بشئ؟
فقال الشعبي: أعطني عهدا وثيقا ألا يسمعه منك أحد.
فأعطاه ذلك.
فأخبره بما كان الحجاج قال فيه.
فقال عبد الرحمن:
- والله لأجهدن في قطع خيط رقبته.
ثم إن عبد الرحمن دب في عباد أهل الكوفة وقرائهم، فقال:
(أيها الناس، ألا ترون هذا الجبار - يعني الحجاج - وما يصنع بالناس؟
ألا تغضبون لله؟ ألا ترون أن السنة قد أميتت، والأحكام قد عطلت، والمنكر
قد أعلن، والقتل قد فشا؟ أغضبوا لله، واخرجوا معي، فما يحل لكم السكوت).
فلم يزل يدب في الناس بهذا وشبهه حتى استجاب له القراء والعباد، وواعدهم
يوما يخرجون فيه.
فخرجوا على بكرة أبيهم، واتبعهم الناس، فساروا حتى نزلوا الأهواز،
ثم كتبوا إلى الحجاج:
خلع الملوك وسار تحت لوائه * شجر العرى وعراعر الأقوام (1)
فأرسل الحجاج كتابه إلى عبد الملك بن مروان
. فكتب عبد الملك في جوابه:
وإني وإياهم كمن نبه القطا * ولو لم ينبه باتت الطير لا تسرى (2)
إخال صروف الدهر للحين منهم * ستحملهم مني على مركب وعر

(1) جمع عرور بضم الأول والثاني وهو الأجرب.
(2) القطا: طائر ومفرده قطاة.
317

قالوا: وأهديت لعبد الملك في ذلك اليوم جارية إفريقية، أهداها إليه موسى
ابن نصير، عامله على أرض المغرب، وكانت من أجمل نساء دهرها، فباتت
عنده تلك الليلة، فلم ينل منها شيئا أكثر من أن غمز كفها، وقال لها: إن
دونك أمنية المتمني.
قالت: فما يمنعك؟
قال: يمنعني بيت مدحنا به، وهو:
قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم * دون النساء ولو باتت بأطهار
فزعموا أنه مكث سبعة أشهر لا يقرب امرأة حتى أتاه قتل عبد الرحمن بن محمد.
ثم إن الحجاج بعث أيوب بن القرية إلى عبد الرحمن بن محمد، وقال:
انطلق، فادفعه إلى الطاعة، وله الأمان على ما سلف من ذنبه.
فانطلق إليه ابن القرية، فدعاه، فأبلغ في الدعاء، فقال له عبد الرحمن:
- ويحك يا ابن القرية، أيحل لك طاعته مع ارتكابه العظائم، واستحلاله
المحارم؟ اتق الله يا ابن القرية، ووال عباد الله في البرية.
ولم يزل عبد الرحمن بابن القرية يختدعه حتى ترك ما أرسل فيه، وأقام مع
عبد الرحمن، فقال له عبد الرحمن:
إني أريد أن أكتب إلى الحجاج كتابا مسجعا، اعرفه فيه سوء فعاله،
وأبصره قبح سريرته، فأمله علي.
فقال أيوب: إن الحجاج يعرف ألفاظي.
قال: وما عليك، إني لأرجو أن نقتله عن قريب.
فأملى عليه، فكتب:
(بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الرحمن بن محمد، إلى الحجاج بن يوسف،
سلام على أهل طاعة الله، الذين يحكمون بما أنزل الله، ولا يسفكون دما حراما،
ولا يعطلون لله أحكاما، فإني أحمد الله الذي بعثني لمنازلتك، وقواني على محاربتك
318

حين تهتكت ستورك، وتحيرت أمورك، فأصبحت حيران تائها، لهفان
لا تعرف حقا، ولا تلائم صدقا، ولا ترتق فتقا، ولا تفتق رتقا، وطالما تطاولت
فيما تناولت، فصرت في الغي مذبذبا، وعلى الشرارة مركبا، فتدبر
أمرك، وقس شبرك بفترك (1)، فإنك مراق عراق (2)، ومعك عصابة فساق،
جعلوك مثالهم، كحذوهم نعالهم، فاستعد للأبطال بالسيوف والعوال (3)، فستذوق
وبال أمرك، ويرجع عليك غيك، والسلام).
فلما قرأ الحجاج الكتاب عرف ألفاظ ابن القرية، وعلم أنه من إملائه.
فكتب إلى عبد الرحمن في جوابه.
(بسم الله الرحمن الرحيم، من الحجاج بن يوسف إلى عبد الرحمن بن الأشعث،
سلام على أهل التورع لا التبدع، فإني أحمد الله الذي حيرك بعد البصيرة، فمرقت
عن الطاعة، وخرجت عن الجماعة، فعسكرت في الكفر، وذهلت عن الشكر،
فلا تحمد الله في سراء، ولا تصبر لأمره في ضراء، قد أتاني كتابك بلفظات فاجر،
فاسق غادر، وسيمكن الله منه، ويهتك ستوره، أما بعد فهلم إلى فعل وفعال،
ومعانقة الأبطال بالبيض والعوال، فإن ذلك أحرى بك من قيل وقال، والسلام على
من اتبع الهدى، وخشي الله، واتقى).
وإن عبد الملك وجه إلى الحجاج عشرة آلاف رجل من فرسان أهل الشام لمحاربة
عبد الرحمن بن محمد.
فلما قدموا عليه تجهز، وسار نحو عبد الرحمن، فالتقوا بالأهواز، فاقتتلوا،
فانهزم عبد الرحمن، ومضى على وجهه، فمر على رجل من أصحابه مسلوب حاف،
يمشي ويعثر.

(1) السبر: ما بين أعلى الإبهام وأعلى الخنصر، والفتر بالكسر ما بين طرف الابهام وطرف
المشيرة.
(2) المرق إكثار مرقة القدر والعرق العظم بلحمه.
(3) الرماح.
319

فأنشأ عبد الرحمن يقول:
منخرق الخفين يشكو الوجى * تنكئه أطراف مرو حداد (1)
أخرجه الخذلان عن أرضه * كذلك من يكره حر الجلاد
إن كان في الموت له راحة * فالموت حتم في رقاب العباد
فقال الرجل:
- فهلا ثبت، فنقاتل معك.
فقال له عبد الرحمن:
- أو بمثلك تسد الثغور؟!.
ومضى عبد الرحمن حتى استجار بملك الأتراك، فأقام عنده.
فكتب عبد الملك إلى ملك الأتراك، يخبره بشقاق عبد الرحمن، وخلعه
الطاعة، وخروجه عليه، و يسأله أن يرده عليه.
فقال ملك الأتراك لطراخنته (2):
- إن ابن الأشعث هذا رجل مخالف للملوك، فلا ينبغي لي أن آويه، بل أبعث
به إلى ملكه، فيتولى من أمره ما أحب.
فوجه به مع مائة رجل من ثقاته، فأنزلوه في طريقه قصرا في قرية، فرقى
إلى ظهر القصر، ورمى بنفسه من السور، فمات.
وإن أيوب بن القرية أسر فيمن أسر من أصحاب عبد الرحمن، فأدخل به
على الحجاج.
فلما أدخل عليه، قال له:
- يا عدو الله، بعثتك رسولا إلى عبد الرحمن، فتركت ما بعثت له، وصرت
وزيرا ومشيرا، تصدر له الكتب، وتسجع له الكلام، وتدبر له الأمور.

(1) الوجى: الحفا، أو أشد منه، ونكى: جرح، والمرو: حجارة بيض تورى النار.
(2) جمع طرخان بالفتح وهو اسم للرئيس الشريف.
320

فقال ابن القرية
أصلح الله الأمير، كان شيطانا في مسك إنسان، استمالني بسحره، وخلبني
بلفظه، فكان اللسان ينطق بغير ما في القلب.
قال الحجاج:
كذبت يا ابن اللخناء (1)، بل كان قلبك منافقا، ولسانك مدامجا،
، فكتمت أمرا أظهره الله، وأطعت فاسقا خذله الله، فما بقي من نعتك؟
قال ابن القرية: ذهني جديد، وجوابي عتيد.
قال: كيف علمك بالأرض؟
قال: ليسألني الأمير عما أحب.
قال: أخبرني عن الهند.
قال: بحرها در، وجبلها ياقوت، وشجرها عطر.
قال: فأخبرني عن مكران.
قال: ماؤها وشل (2)، وتمرها دقل (3)، وسهلها جبل، ولصها بطل،
إن كثر الجيش بها جاعوا، وإن قلوا ضاعوا.
قال: فخراسان.
قال: ماؤها جامد، وعدوها جاهد، بأسهم شديد، وشرهم عتيد،
وخيرهم بعيد.
قال: فاليمن.
قال: أرض العرب، ومعدن الذهب.
قال: فعمان.
قال: حرها شديد،
وصيدها موجود، وأهلها عبيد.

(1) اللخن محرك: قبح ريح الفرج، المرأة اللخناء التي لم تختن.
(2) الوشل محركة: الماء القليل.
(3) الدقل: أردأ التمر.
321

قال: فالبحرين.
قال: كناسة (1) بين مصرين، وجنة بين بحرين.
قال: فمكة.
قال: قوم ذوو جفاء،
ومن سجيتهم الوفاء.
قال: فالمدينة.
قال: ذوو لطف وبر، وخير وشر.
قال: فالبصرة.
قال: حرها فادح، وماؤها مالح، وفيضها سائح.
قال: فالكوفة.
قال: جنة بين حماة وكنة (2)، العراق تحشد لها، والشام يدر عليها،
سفلت عن برد الشام، وارتفعت عن حر الحجاز.
قال: فالشام. قال: تلك عروس بين نسوة جلوس،
تجلب إليها الأموال، وفيها
الضراغمة الأبطال.
قال له الحجاج: ثكلتك أمك، أنت المصدر الكتب لابن الأشعث،
ألم تعلم أني لا أصاحب على الشقاق، ولا أجامع على النفاق؟
قال ابن القرية: استبقني أيها الأمير.
قال: لماذا؟
قال: لنبوة بعد هفوة.
قال الحجاج: لا، بل لغدرة بعد نكثه، يا غلام، ناولني الحربة.
وقد أمسك ابن القرية أربعة رجال فلا يستطيع تحريكا، وهز الحجاج
الحربة ثلاثا.

(1) الكانسة: المرأة الحسناء.
(2) موضعان أولهما بالشام والثاني بفارس.
322

فقال ابن القرية: اسمع مني ثلاث كلمات، تكن بعدي مثلا.
قال: هات.
قال: لكل جواد كبوة، ولكل حليم هفوة، ولكل شجاع نبوة.
فوضع الحجاج الحربة في ثندوة ابن القرية، ودفعها حتى خالطت جوفه،
ثم خضخضها (1)، وأخرجها، فاتبعها دم أسود.
فقال الحجاج:
هكذا تشخب أوداج الإبل.
وفحص ابن القرية برجليه وشخص بصره، وجعل الحجاج ينظر إليه
حتى قضى.
فحمل في النطع (2).
فقال الحجاج:
لله درك يا ابن القرية، أي أدب فقدنا منك، وأي كلام رصين سمعنا منك.
* * *
ودخل بعد ذلك أنس بن مالك.
فقال له الحجاج:
هيه يا أنس، يوما مع المختار، ويوما مع ابن الأشعث، جوال في الفتن،
والله لقد هممت أن أطحنك طحن الرحى بالثفال (3)، وأجعلك غرضا للنبال.
قال أنس: من يعني الأمير؟ أصلحه الله.
قال: إياك أعني، أسك الله سمعك.
فانصرف أنس إلى منزله، وكتب من ساعته إلى عبد الملك بن مروان:
(بسم الله الرحمن الرحيم، لعبد الله عبد الملك أمير المؤمنين من أنس بن مالك،

(1) الخضخضة: تحريك الماء.
(2) النطع: بساط من الأديم.
(3) التفال ككتاب الحجر الأسفل من الرحى.
323

أما بعد، فإن الحجاج قال لي نكرا، وأسمعني هجرا، ولم أكن لذلك أهلا،
فخذ على يديه، وأعدني عليه، والسلام). فلما قرأ عبد الملك كتاب أنس استشاط غضبا، ثم كتب إليه
. (هيه يا ابن يوسف، أردت أن تعلم رأي أمير المؤمنين في أنس، فإن سوغك
مضيت قدما، وإن لم يسوغك رجعت القهقرى، يا ابن المستفرمة بعجم
الزبيب (1)، أنسيت مكاسب آبائك بالطائف في حفر الآبار وسد السكور (2)، وحمل الصخور على الظهور؟ أبلغ من جرأتك على أمير المؤمنين أن تعنت بأنس
ابن مالك، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم ست سنين، يطلعه على سره،
ويفشي إليه الأخبار التي كانت تأتيه عن ربه؟ فإذا أتاك كتابي هذا فامش إليه
على قدميك حتى تأخذ كتابه إلي بالرضى، والسلام).
فلما وصل كتاب عبد الملك إلى الحجاج قال لمن حوله من أصحابه: قوموا بنا إلى
أبي حمزة. فقام ماشيا.
ومضى معه أصحابه حتى أتى أنسا، فأقرأه كتاب عبد الملك إليه.
فقال أنس: جزى الله أمير المؤمنين خيرا، كذلك كان رجائي فيه.
قال له الحجاج: فإن لك العتبي، وأنا صائر إلى مسرتك، فاكتب إلى أمير
المؤمنين بالرضى.
فكتب إليه أنس بالرضى عنه.
ودفعه إلى الحجاج، فأنفذه الحجاج على البريد إلى عبد الملك.
[نهاية عبد الملك بن مروان]
قالوا: ولما حضرت عبد الملك الوفاة، وذلك في سنة ست وثمانين أخذ البيعة

(1) العجم كل ما كان في جوف مأكول كالزبيب، واستفرمت المرأة بعجم الزبيب يعني أنها
عالجت به فرجها ليضيق
(2) الكور جمع سكر وهو ما يسد به النهر.
324

لابنه الوليد، وكان ولده: الوليد، وسليمان، ويزيد، وهشام، ومسلمة، ومحمد.
ثم قال للوليد: يا وليد، لا ألفينك إذا وضعتني في حفرتي أن تعصر عينيك
كالأمة الورهاء (1) بل ائتزر وشمر، والبس جلد النمر، وادع الناس إلى البيعة
ثانيا، فمن قال برأسه كذا، فقل بالسيف كذا. ووعك وعكا شديدا.
فلما أصبح جاء الوليد، فقام بباب المجلس، وهو غاص بالنساء، فقال:
كيف أصبح أمير المؤمنين؟
قيل له: يرجى له العافية.
وسمع عبد الملك ذلك، فقال:
وكم سائل عنا يريد لنا الردى * وكم سائلات والدموع ذوارف
ثم أمر بالنساء، فخرجن.
وأذن لبني أمية فدخلوا عليه وفيهم خالد وعبد الله ابنا يزيد بن معاوية فقال لهما:
يا بني يزيد، أتحبان أن أقيلكما بيعة الوليد؟
قالا: معاذ الله، يا أمير المؤمنين.
قال: لو قلتما غير ذلك لأمرت بقتلكما على حالتي هذه.
ثم خرجوا عنه، واشتد وجعه، فتمثل ببيت أمية بن أبي الصلت:
ليتني كنت قبل ما قد بدا لي * في قلال الجبال أرعي الوعولا
فلم يمس يومه ذلك حتى قضى.
وكان سلطانه إحدى وعشرين سنة وستة أشهر، وكان له يوم مات ثمان
وخمسون سنة، من ذلك سبع سنين، كان فيها محاربا لعبد الله بن الزبير، ثم صفا له
الملك بعد قتله ابن الزبير ثلاثة عشر سنة ونصفا.

(1) الجارية الحمقاء.
325

[الوليد بن عبد الملك]
ولما انصرف الوليد من قبل أبيه قصد المسجد الأعظم، واجتمع إليه الناس،
فبايعوه.
وعقد لعمر بن عبد العزيز بن مروان على الحرمين.
فنزل المدينة، فدعا بعشرة نفر من أفاضل أهلها، منهم عروة بن الزبير،
وعبيد الله بن عتبة، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وأبو بكر
ابن سليمان بن أبي حثمة، وسليمان بن يسار، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله،
فاجتمعوا، فدخلوا عليه، فقال:
اعلموا أنني لست أقطع أمرا إلا برأيكم ومشورتكم، فأشيروا علي.
قالوا: نفعل أيها الأمير، جزيت على ما تنوي خير ما جزى مؤثر لمرضاة ربه.
ثم خرجوا.
[إصلاح الحرم النبوي]
ثم كتب الوليد إلى عمر بن عبد العزيز، أن يشتري الدور التي حول مسجد
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيزيدها في المسجد، ويجدد بناء المسجد.
وكتب إلى ملك الروم يعلمه ما هم به من ذلك، ويسأله أن يبعث إليه ما استطاع
من الفسيفساء (1)
فوجه إليه منها أربعين وسقا (2).
فبعث به إلى عمر بن عبد العزيز، فهدم عمر المسجد، وزاد فيه، وبناه، وزينه
بالفسيفساء.

(1) الفسيفساء: ألوان من الخرز تركب في حيطان البيوت من داخل.
(2) الوسق: ستون صاعا أو حمل بعير.
326

[فتح بخارى وسمرقند]
وكان على خراسان من قبل الحجاج قتيبة بن مسلم الباهلي.
فكتب إليه الحجاج يأمره بعبور النهر - نهر بلخ -، وأن يفتح تلك البلاد.
فاستعد قتيبة، وسار في المفازة التي بين مدينة مرو وبين مدينة آموية، وهي
ذات رمال وغضي (1)، فصار إلى آموية، ثم عبر النهر وسار إلى بخاري.
وكان ملك تلك الأرضين يسمى (صول) وكان ملكه على جميع ما وراء النهر،
فلقيه الملك، فحاربه قتيبة، فهزمه، وهرب صول نحو الصغانيان.
فاحتوى قتيبة على بخارى وحيزها، فولى عليها رجلا.
وسار حتى وافى بلاد السغد (2)، فأناخ على مدينتها العظمى، وهي سمرقند،
فحاصرها أشهرا.
فوجه إليه دهقانها (3): إنك لو أقمت على مدينتي هذه عمرك لم تصل إليها، لأنا نجد في
كتب آبائنا، أنه لا يقدر عليها إلا رجل اسمه (بالان)، لست إياه، فامض لشأنك.
فزعموا أن قتيبة احتال لما يئس من مكابرتها، فهيأ صناديق، وجعل لها أبوابا
من أسافلها، تغلق من داخل، وتفتح، وجعل في كل صندوق رجلا مستلئما،
معه سيفه، وأقفل أبوابها العليا.
ثم أرسل إلى الدهقان: (أما إذا كان هذا هكذا، فإني راحل عنك إلى
الصغانيان، وناحيتها، ومعي فضول أموال وسلاح، فوادعني، وأحرز هذه
الصناديق عندك إلى عودي إن سلمت.
فأجابه إلى ذلك، وتقدم قتيبة إلى الرجال أن يفتحوا أبواب الصناديق في جوف
الليل، فيخرجوا، ثم يصيروا إلى باب المدينة فيفتحوه.
وأمر الدهقان بالصناديق، فأدخلت المدينة.

(1) مفردة غضاة وهي الشجرة، والأرض الغضياء كثيرة الشجر.
(2) السغد بالضم: بساتين نزهة وأماكن مثمرة، حول سمر قند، ومنها علي بن الحسين وكامل
ابن مكرم وأحمد بن حاجب المحدثون.
(3) الدهقان بالضم وبالكسر لغة، القوى على
التصرف مع حدة، وهو زعيم فلاحى العجم، ورئيس الإقليم، لفظ معرب.
327

فلما جن الليل، وهدأ الناس خرج الرجال مستلئمين، معهم السيوف، لا يستقبلهم
أحد إلا قتلوه، حتى أتوا باب المدينة، فقتلوا الحرس، وفتحوا الباب.
ودخل قتيبة بالجيش، ووقعت الواعية، وهرب الدهقان في سرب (1)، فلحق بالملك،
وصارت سمرقند في قبضة قتيبة، فخلف عليها رجلا.
وسار حتى أتى الصغانيان، فهرب الملك منهم حتى صار في بلاد الترك، ووغل
فيها، وخلى المملكة لقتيبة.
فدخل قتيبة الصغانيان، ووجه عماله إلى كش (2) ونسف (3)، وافتتح جميع
ما وراء النهر، وجميع تخارستان، ولم يبق من خراسان شئ إلا افتتحه.
ولم يزل قتيبة بخراسان سنين حتى شغب عليه أجناده فقتلوه.
فاستعمل الوليد بن عبد الملك عليها الجراح بن عبد الله الحكمي.
وحج الوليد بن عبد الملك في سنة إحدى وتسعين، وقد فرغ عمر بن عبد العزيز
من بناء مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، فدخله، وطاف به، ونظر إلى بنائه.
ولم يكن بقي في زمن الوليد من الصحابة إلا نفر يسير، منهم بالمدينة، سهل
ابن سعد الساعدي، وكان يكنى أبا العباس، توفي في آخر خلافة الوليد، وكان يوم
مات ابن مائة سنة، ومنهم جابر بن عبد الله.
وبالبصرة أنس بن مالك.
وبالكوفة عبد الله بن أبي أوفى.
وبالشام أبو أمامة الباهلي.
[موت الحجاج]
وفي السنة الخامسة من خلافة الوليد مات الحجاج بواسط، وله أربع وخمسون
سنة، وكانت إمرته على العراق عشرين سنة.

(1) السرب: الحفير تحت الأرض، والقناة يدخل منها الماء الحائط.
(2) مدينة في بخارى بين سمر قند وبلخ، وتسمى اليوم شهري سبز، اي المدينة الخضراء، لخصب
ريفها، ومنها خرج تيمورلنك الذي زينها بالبنايات الفخمة.
(3) مدينة بفارس، فيها نشأ الفقيه المحدث النسفي، صاحب التفسير المشهور.
328

منها في خلافة عبد الملك خمس عشرة سنة، وفي خلافة الوليد خمس سنين.
وقد كان قتل سعيد بن جبير قبل موته بأربعين يوما.
قالوا: وكان يقول في طول مرضه إذا هجر: ما لي ولك يا ابن جبير؟
وقتل ابن جبير وهو ابن تسع وأربعين سنة، وكان يكنى أبا عبد الله، وكان
ولاؤه لبني أمية.
[سليمان بن عبد الملك]
ولما تم للوليد بن عبد الملك تسع سنين وستة أشهر حضرته الوفاة، فأسند الملك
إلى أخيه سليمان بن عبد الملك.
فبويع سليمان في جمادي الآخرة سنة ست وتسعين، وسليمان يومئذ من أبناء
سبع وثلاثين سنة.
فملك سليمان سنتين وثمانية أشهر، ثم مرض مرضته التي مات فيها.
فلما ثقل كتب كتابا، وختمه، ولم يدر أحد ما كتب فيه، ثم قال
لصاحب شرطه:
(أجمع إليك إخوتي، وعمومتي، وجميع أهل بيتي، وعظماء أجناد الشام، وأحملهم
على البيعة لمن سميت في هذا الكتاب، فمن أبى منهم أن يبايع، فاضرب عنقه)،
ففعل.
فلما اجتمعوا في المسجد أمرهم بما أمر به سليمان.
فقالوا: أخبرنا من هو؟ لنبايعه على بصيرة.
فقال: والله ما أدري من هو، وقد أمرني أن أضرب عنق من أبى.
قال رجاء بن حياة: فدخلت على سليمان، فأكببت عليه، وقلت:
يا أمير المؤمنين، من صاحب الكتاب الذي أمرتنا بمبايعته؟
فقال: إن أخوي يزيد وهشاما لم يبلغا أن يؤتمنا على الأمة، فجعلتها للرجل
الصالح، عمر بن عبد العزيز، فإذا توفي عمر رجع الأمر إليهما.
329

فخرج رجاء بن حياة، فأخبر يزيد وهشاما بذلك، فرضيا، وسلما، وبايعا،
ثم بايع بعدهما جميع الناس.
وكان أكبر ولده يومئذ محمد بن سليمان، فكانت له اثنتا عشرة سنة.
وجعل يقول، وهو يجود بنفسه:
إن بني صبية صيفيون * أفلح من كان له ربعيون
وذكر عن الكلبي أنه قال: بعث إلى سليمان بن عبد الملك، فدخلت عليه،
وقد انتفخ سحري (1)، فسلمت عليه بالخلافة، فرد علي السلام.
ثم أومأ إلي، فجلست، فسكت عني حتى إذا سكن جأشي، قال لي:
يا كلبي، إن ابني محمدا قرة عيني وثمرة قلبي، وقد رجوت أن يبلغ الله به
أفضل ما بلغ رجلا من أهل بيته، وقد وليتك تأديبه، فعلمه القرآن، وروه
الأشعار، فإن الشعر ديوان العرب، وفهمه أيام الناس، وخذه بعلم الفرائض،
وفهمه السنن، ولا تفتر عنه ليلا ونهارا، فإذا أخطأ بكلمة، أو زل بحرف،
أو هفا بقول، فلا تؤنبه بين يدي جلسائه، ولكن إذا خلا لك مجلسك،
لئلا تمحكه، (2) وإذا دخل عليه الناس للتسليم، فخذه بألطافهم وإظهار برهم،
وإذا حياة فليحيهم بأحسن منها، وأطيبا لمن حضر بمائدتكما الطعام، وأحمله
على طلاقة الوجه، وحسن البشر، وكظم الغيظ، وقلة القذر، والتثبت في المنطق،
والوفاء بالعهد، وتنكب الكذب، ولا يركبن فرسا مخذوفا (3)، ولا مهلوبا (4) ولا يركبن بسرج صغير، فتبدو أليتاه منه).
قال: فلم يلبث سليمان بعد ذلك إلا قليلا حتى مات.

(1) السحر: الرئة، ونتفخ سحره عدا طوره وجاوز تدره.
(2) حتى لا تغضبه، والمحك: اللجج.
(3) الفرس المخذوفة التي تحرك جنبيها في مشيها.
(4) الفرس المهلوب التي تتابع الجري.
330

[عمر بن عبد العزيز]
وأسند الأمر إلى عمر بن عبد العزيز.
قالوا: فلما استخلف قعد للناس على الأرض.
فقيل له: لو أمرت ببساط يبسط لك، فتجلس، ويجلس الناس عليه كان
ذلك أهيب لك في قلوب الناس
فتمثل:
قضى ما قضى فيما مضى، ثم لا ترى * له صبوة إحدى الليالي الغوابر
ولولا التقى من خشية الموت والردى * لعاصيت في حب الصبا كل زاجر
وكان إذا جلس للناس قال (بسم الله، وبالله، وصلى الله على رسول الله،
أفرأيت إن متعناهم سنين، ثم جاءهم ما كانوا يوعدون، ما أغنى عنهم
ما كانوا يمتعون) (1).
ثم تمثل بهذه الأبيات:
نسر بما يبلى، ونشغل بالمنى * كما سر بالأحلام في النوم حالم
نهارك يا مغرور سهو وغفلة * وليلك نوم، والردى لك لازم
وسعيك فيما سوف تكره غبة * كذلك في الدنيا تعيش البهائم
ثم نصب نفسه لرد المظالم.
وبدأ ببني أمية، وأخذ ما كان في أيديهم من الغصوب (2)، فردها على أهلها.
ودخل عليه أناس من خاصته، فقالوا:
يا أمير المؤمنين، ألا تخاف غوائل قومك؟.
فقال: أبيوم سوى يوم القيامة تخوفونني؟ فكل خوف أتقيه قبل يوم القيامة
لا وقيته.
فلما تم لخلافته سنتان وخمسة أشهر مات.

(1) الآية رقم 205 من سورة الشعراء.
(2) المال والعقار والضياع مما اخذوه من أصحابه غضبا وقهرا.
331

[يزيد بن عبد الملك]
وأفضى الأمر إلى يزيد بن عبد الملك في أول سنة مائة وإحدى.
فولى المصرين أخاه مسلمة بن عبد الملك.
وكان مسلمة ذا عقل كامل وأدب فاضل، فاستعمل مسلمة على خراسان سعيد
ابن عبد العزيز بن الحكم بن أبي العاص بن أمية.
[ظهور الدعوة إلى العباسيين]
قالوا: وفي ذلك العام (1) توافدت الشيعة على الإمام محمد بن علي بن عبد الله
ابن عباس بن عبد المطلب بن هاشم، وكان مستقره بأرض الشام، بمكان يسمى
(الحميمة) وكان أول من قدم من الشيعة ميسرة العبدي، وأبو عكرمة
السراج، ومحمد بن خنيس، وحيان العطار.
فقدم هؤلاء عليه، فأرادوه على البيعة، وقالوا له:
(ابسط يدك لنبايعك على طلب هذا السلطان، لعل الله أن يحيي بك العدل،
ويميت بك الجور، فإن هذا وقت ذلك، وأوانه، والذي وجدناه مأثورا عن
علمائكم).
فقال لهم محمد بن علي: (هذا أوان ما نأمل ونرجو من ذلك، لانقضاء مائة من
التاريخ، فإنه لم تنقض مائة سنة على أمه قط إلا أظهر الله حق المحقين، وأبطل
باطل المبطلين، لقول الله جل اسمه (أو كالذي مر على قرية وهي خاوية [على
عروشها، قال، إني يحيي هذه] (2) الله بعد موتها فأماته الله مائة عام،
ثم بعثه (3) فانطلقوا أيها النفر، فادعوا الناس في رفق وستر، فإني أرجو أن
يتمم الله أمركم، ويظهر دعوتكم، ولا قوة إلا بالله).

(1) في سنة 720 م.
(2) في الأصل اثر رطوبة مكان ما بين الحاصرتين.
(3) الآية رقم 259 من سورة البقرة.
332

ثم وجه ميسرة العبدي، ومحمد بن خنيس إلى أرض العراق، ووجه أبا عكرمة
، و حيان العطار إلى خراسان، وعلى خراسان يومئذ سعيد بن عبد العزيز بن الحكم
ابن أبي العاص.
فجعلا يسيران في أرض خراسان من كورة إلى أخرى، فيدعوان الناس إلى
بيعة محمد بن علي، ويزهدانهم في سلطان بني أمية لخبث سيرتهم، وعظيم جورهم
، فاستجاب لهما بخراسان أناس كثير، وفشا بعض أمرهم وعلن.
فبلغ أمرهما سعيدا، فأرسل إليهم، فأتي بهم، فقال:
- من أنتم؟
قالوا: نحن قوم تجار.
قال: فما هذا الذي يذكر عنكم؟
قالوا: وما هو؟
قال: أخبرنا أنكم جئتم دعاة لبني العباس.
قالوا: أيها الأمير، لنا في أنفسنا وتجارتنا شغل عن مثل هذا.
فأطلقهما.
فخرجا من عنده، يدوران كور خراسان ورساتيقها في عداد التجار،
فيدعوان الناس إلى الإمام محمد بن علي، فمكثا بذلك عامين.
ثم قدما على الإمام محمد بن علي بأرض الشام، فأخبراه أنهما قد غرسا بخراسان
غرسا يرجوان أن يثمر في أوانه، وألفياه قد ولد له أبو العباس ابنه.
فأمر بإخراجه إليهم، وقال: هذا صاحبكم.
فقبلوا أطرافه كلها.
وكان مع الجنيد بن عبد الرحمن عامل السند رجل من الشيعة، يسمى بكير
ابن ماهان، فانصرف إلى موطنه من الكوفة، وقد أصاب بأرض السند مالا
كثيرا، فلقيه ميسرة العبدي وابن خنيس، وأخبراه بأمرهما، وسألاه أن
يدخل في الأمر معهما، فأجابهما إليه، وقام معهما، وأنفق جميع ما استفاد
بأرض السند من الأموال بذلك السبب.
333

ومات ميسرة بأرض العراق.
وكتب الإمام محمد بن علي إلى بكير بن ماهان، أن يقوم مقام ميسرة، وكان
بكير يكنى بأبي هاشم، وبها كان يعرف في الناس.
وكان رجلا مفوها، فقام بالدعاء، وتولى الدعوة بالعراقين، وكانت كتب
الإمام تأتيه، فيغسلها بالماء ويعجن بغسالتها الدقيق، ويأمر، فيختبز منه قرص،
فلا يبقى أحد من أهله وولده إلا أطعمه منه.
ثم إنه مرض مرضه الذي مات فيه، فأوصى إلى أبي سلمة الخلال، وكان
أيضا من كبار الشيعة.
وكتب إلى يعلمه ذلك.
فكتب محمد بن علي إلى أبي سلمة، فولاه الأمر، وأمره بالقيام بما كان
يقوم به أبو هاشم.
ثم كتب إلى أبي عكرمة وحيان، وكانا صاحبي الأمر بخراسان، يأمرهما أن
يكاتبا أبا سلمة، فدعاهما إلى الدخول معه في أمره، فأجاباه، ودخلا معه، وكانفاه.
ثم إن يزيد بن عبد الملك عزل أخاه مسلمة عن العراق وخراسان، واستعمل
مكانه خالد بن عبد الله القسري، واستعمل خالد أسد بن عبد الله على خراسان،
فانتهى خبر أبي عكرمة، وحيان إلى أسد بن عبد الله، فأمر بطلبهما، فأخذا،
وأتي بهما، فضربت أعناقهما، وصلبا.
وبلغ ذلك محمد بن علي، فقال: الحمد لله الذي صحح هذه العلامة، وقد بقي من شيعتي
رجال سوف يفوزون بالشهادة.
فلما تم لملك يزيد بن عبد الملك أربع سنين وأشهر توفي بالبلقاء من أرض
دمشق.
وكانت وفاته سنة خمس ومائة، وله يوم مات ثمان وثلاثون سنة.
334

[هشام بن عبد الملك]
ثم استخلف هشام بن عبد الملك، وهو ابن أربع وثلاثين سنة.
فعزل أسد بن عبد الله عن خراسان، وولاها الجنيد بن عبد الرحمن، وكان
رجلا من اليمانية، ذا فضل وسخاء.
وهو الذي يقول فيه الشاعر:
ذهب الجود والجنيد جميعا * فعلى الجود والجنيد السلام
* * *
ولما قتل أبو عكرمة وحيان وجه الإمام محمد بن علي إلى خراسان خمسة نفر من
شيعته: سليمان بن كثير، ومالك بن الهيثم، وموسى بن كعب، وخالد بن الهيثم،
وطلحة بن زريق، وأمرهم بكتمان أمرهم، وألا يفشوه إلى أحد إلا بعد أن يأخذوا
عليه العهود المؤكدة بالكتمان.
فساروا حتى أتوا خراسان، فكانوا يأتون كورة بعد كورة، فيدعون الناس
سرا إلى أهل بيت نبيهم، ويبغضون إليهم بني أمية، لما يظهر من جورهم واعتدائهم،
وركوبهم القبائح، حتى استجاب لهم بشر كثير في جميع كور خراسان.
وبلغ الجنيد أمرهم، فأمر بطلبهم، وأخذوا، وأتي بهم الجنيد.
فقال: يا فسقة، قد قدمتم هذه البلاد، فأفسدتم قلوب الناس على بني أمية،
ودعوتم إلى بني العباس.
فتكلم سليمان بن كثير، وقال: أيها الأمير، أتأذن لي في الكلام؟
قال: تكلم
قال: أنا وإياك كما قال الشاعر:
لو بغير الماء حلقي شرق * لاستغثت اليوم بالماء القراح
نعلمك أيها الأمير، إنا أناس من قومك اليمانية، وإن هؤلاء المضرية تعصبوا
علينا، فرقوا إليك فينا الزور والبهتان، لأنا كنا أشد الناس على قتيبة، فهم الآن
يطلبون بثأره بكل علة.
335

فقال الجنيد لمن كان حوله من أصحابه: (ما ترون)؟.
فتكلم عبد الرحمن بن نعيم رئيس ربيعة، وكان من خاصته:
- نرى أن تمن بهم على قومك، فلعل الأمر كما يقولون.
فأمر بإطلاقهم.
فخرجوا، وكتبوا بقصتهم إلى الإمام.
فكتب إليهم: (أن هذا أقل ما لكم، فاكتموا أمركم، وترفقوا في
دعوتكم).
فساروا من مدينة مرو إلى بخارى، ومن بخارى إلى سمرقند، ومن سمرقند إلى
كش ونسف، ثم عطفوا على الصغانيان، وجازوا منها إلى ختلان (1)، وانصرفوا
إلى مرو الروذ (2)، والطالقان (3)، وعطفوا إلى هراة (4)، وبوشنج، (5)،
وجازوا إلى سجستان.
فغرسوا في هذه البلدان غرسا كثيرا، وفشا أمرهم في جميع أقطار خراسان.
وبلغ ذلك الجنيد، فأسف على تركهم، ووجه في طلبهم، فلم يقدر عليهم.
فكتب إلى خالد بن عبد الله القسري، وكان على العراق، يعلمه انتشار
خراسان وما حدث فيها من الدعاة إلى محمد بن علي.
فكتب خالد بن عبد الله إلى هشام يعلمه بذلك.
فكتب إليه هشام، يأمره بالكتاب إلى الجنيد، ألا يرغب في الدماء،
وأن يكف عمن كف عنه، ويسكن الناس بجهده، وأن يطلب النفر الذين يدعون
الناس حتى يجدهم، فينفيهم.

(1) في نسخة أخرى (جيلان) والصواب ما ذكر، وهي بلاد مجتمعة وراء النهر قرب
سمر قند.
(2) في الأصل: مرووذ، وهي مدينة من مدن خراسان.
(3) قال الإصطخري في كتابه: ان طالقان أكبر مدن خراسان.
(4) مدينة من أمهات المدن في خراسان، وقد خربها التتار.
(5) بليدة حصينة من نواحي هراة.
336

فلما انتهى ذلك إلى الجنيد بعث رسله في أقطار خراسان.
وكتب إلى عماله في الكور يطلب القوم، فطلبوا، فلم يدرك لهم أثر.
[أبو مسلم الخراساني]
قالوا: وكان بدء أمر أبي مسلم أنه كان مملوكا لعيسى، ومعقل، ابني إدريس،
ابن عيسى العجليين، وكان مسكنهما بماه البصرة، مما يلي أصبهان.
وكان أبو مسلم ولد عندهما، فنشأ غلاما، فهما، أديبا، ذهنا، فأحباه حتى نزل
منهما منزلة الولد.
وكانا يتوليان بني هاشم، ويكاتبان الإمام محمد بن علي، فمكثا بذلك
ما شاء الله.
ثم إن هشاما عزل خالد بن عبد الله القسري من العراق، وولى مكانه يوسف
ابن عمر الثقفي، فكان يوسف بن عمر لا يدع أحدا يعرف بموالاة بني هاشم، ومودة
أهل بيت رسول الله إلا بعث إليه، فحبسه عنده بواسط.
فبلغه أمر عيسى، ومعقل ابني إدريس، فأشخصهما، وحبسهما بواسط
فيمن حبس من الشيعة.
وكانا أخرجا معهما أبا مسلم فكان يخدمهما في الحبس.
وإن سليمان بن كثير، ومالك بن الهيثم، ولاهز بن قرط، وهم كانوا الدعاة
بخراسان قدموا للحج، وقدم معهم قحطبة بن شبيب، وكان ممن بايعهم، وشايعهم
على أمرهم، فجعلوا طريقهم على مدينة واسط، ودخلوا الحبس، فلقوا من كان فيه
من الشيعة، فرأوا أبا مسلم، فأعجبهم ما رأوا من هيئته، وفهمه، واستبصاره في
حب بني هاشم.
ونزل هؤلاء النفر بعض الفنادق بواسط، فكان أبو مسلم يختلف إليهم طول
مقامهم حتى أنس بهم، وأنسوا به، فسألوه عن أمره.
337

فقال: إن أمي كانت أمه لعمير بن بطين العجلي، فوقع عليها، فحملت بي،
فباعها، وهي حامل، فاشتراها عيسى، ومعقل، ابنا إدريس، فولدت عندهما،
فأنا كهيئة المملوك لهما.
ثم إن النفر شخصوا من واسط، وأخذوا نحو مكة على طريق البصرة، فوصلوا
إلى مكة، وقد وافاها الإمام محمد بن علي حاجا، فلقوه، وسلموا عليه، وأخبروه بما غرسوا
به في جميع خراسان من الغرس، ثم أخبروه بممرهم بواسط، ودخولهم على إخوانهم
المحبسين بها.
ووصفوا له صفة أبي مسلم، وما رأوا من ذكاء عقله وفهمه، وحسن بصره،
وجودة ذهنه، وحسن منطقه.
فسألهم: أحر هو أم مملوك؟
فقالوا: أما هو، فيزعم أنه ابن عمير بن بطين العجلي، وكانت قصته كيت
وكيت، ثم فسروا له ما حكي لهم من أمره.
فقال: إن الولد [تبع للأم، فإذا انصرفتم فاجعلوا] (1)
ممركم بواسط،
فاشتروه، وابعثوا به إلى الحميمة (2) من أرض الشام، لأجعله الرسول فيما بيني
وبينكم، على أني أحسبكم لا تلقوني بعد عامي هذا، فإن حدث بي حدث فصاحبكم
ابني هذا - يعني إبراهيم - فاستوصوا به خيرا، فإني سأوصيه بكم خيرا.
فانصرف القوم نحو خراسان، ومروا بواسط، ولقوا عيسى، ومعقل
ابني إدريس، فأخبروهما بحاجة الإمام إلى أبي مسلم، وسألوهما بيعة منهم.
فزعموا، أنهما وهباه له.
فوجه به القوم إلى الإمام، فلما رآه تفرس فيه الخير، ورجا أن يكون هو القيم
بالأمر، لعلامات رآها فيه، قد كانت بلغته.
فجعله الرسول فيما بينه وبينهم، فاختلف إليهم مرارا كثيرة.

(1) مكان ما بين الحاصرتين أثر أرضة في الأصل.
(2) بلد في أطراف الشام، كان منزل
بني العباس.
338

[وفاة الإمام]
ثم توفي الإمام محمد بن علي، فقام بالأمر بعده ابنه إبراهيم بن محمد، وكان
أكبر ولده، فأمر أبا مسلم أن يسير إلى الدعاة بالعراق، وخراسان، فيعلمهم وفاة
الإمام، وقيامه بالأمر من بعده.
فسار حتى وافى العراق، ولقي أبا سلمة، ومن كان معه من الشيعة،
فأخبرهم بما أمره به.
ثم سار إلى خراسان ولقي الدعاة بها، فأخبرهم بذلك.
وبلغ وفاة الإمام جميع من بايع في أقطار خراسان، فسودوا ثيابهم حزنا
لمصابه، وتسلبا عليه.
وكان أول من سود منهم ثيابه حريش مولى خزاعة، وكان عظيم أهل نسا (1)،
ثم سودها من بعده قحطبة بن شبيب، ثم سود القوم جميعا، وكثرت الشيعة
بخراسان كلها، وعلن أمرهم.
وكتب يوسف بن عمر، وكان على العراقين، إلى هشام، يخبره بذلك،
فكتب هشام إلى يوسف، يأمره أن يبعث إليه رجلا، له علم بخراسان، ومعرفة
بمن فيها من قوادها، وجنودها.
وقد كان يوسف بن عمر عزل عنها الجنيد بن عبد الرحمن، واستعمل عليها
جعفر بن حنظلة البهراني.
فكتب جعفر إلى يوسف بن عمر مع عبد الكريم بن سليط بن عطية الحنفي،
يخبره بتفاقم أمر المسودة بخراسان، وكثرة من أجاب الدعاة بها.
فلما أتاه كتاب هشام يأمره أن يوجه إليه رجلا، له علم بخراسان، حمل
عبد الكريم بن سليط إليه على البريد.

(1) بلد بخراسان تقع بين مرو ونيسابور وقد عرفت بجودة خيلها، وفيها قبور الأولياء
من الشيوخ والأعلام، وإليها ينسب الشيخ أحمد النسائي المحدث صاحب كتاب السنن أحد الكتب
الستة المشهورة في علم الحديث.
339

قال عبد الكريم: فسرت حتى وافيت دمشق، فدخلت على هشام، فسلمت
عليه بالخلافة.
فقال لي: من أنت؟
قلت: أنا عبد الكريم بن سليط بن عطية الحنفي.
قال: كيف علمك بخراسان وأهلها؟
قلت: أنا بها جد عالم.
ثم أخبرته أن وجهي كان منها بكتاب أميرها جعفر بن حنظلة البهراني إلى
يوسف بن عمر يخبره بما حدث فيها.
قال: إني أريد أن أولي أمرها رجلا من القواد، الذين هم مرتبون بها،
فمن ترى أن أولي أمرها منهم، وأيهم أقوم بها؟
قال عبد الكريم: - وكان هواي في اليمانية - فقلت:
يا أمير المؤمنين، أين أنت من رجل من قوادها ذي حزم، وبأس،
ومكيدة، وقوة، ومكانفة من قومه؟
قال: ومن هو؟
قلت: جديع بن علي الأزدي المعروف بالكرماني.
قال: وكيف يسمى الكرماني؟
قلت: ولد بكرمان، كان أبوه مع المهلب عند محاربته الأزارقة، فولد
هذا هناك.
قال: لا حاجة لي في اليمانية - وكان هشام يبغض اليمانية، وكذلك سائر
بني أمية -.
قلت: يا أمير المؤمنين، فأين أنت من المجرب البطل النافذ اللسن؟
قال: ومن هو؟
قلت: يحيى بن نعيم، المعروف بأبي الميلاء، وهو ابن أخي مصقلة بن هبيرة.
قال: لا حاجة لي فيه، لأن ربيعة لا تسد بها الثغور.
340

فقلت: يا أمير المؤمنين، فعليك بالماجد اللبيب الأريب، الكامل الحسيب،
عقيل بن معقل الليثي.
قال، فكأنه هوية.
فقلت: إن اغتفرت منه هنه فيه.
قال: وما هي؟
قلت: ليس بعفيف البطن والفرج.
قال: لا حاجة لي فيه.
قلت: فالكامل النافذ، الفارس المجرب، محسن بن مزاحم السلمي.
قال، فكأنه هوية، للمضرية.
قلت: إن اغتفرت هنه فيه.
قال: وما هي؟
قلت: أكذب، ذي لهجة.
قال: لا حاجة لي فيه.
قلت: فذو الطاعة لكم، المتمسك بعهدكم، المقتدي بقدوتكم، يحيى بن
الحضين بن المنذر بن الحارث بن وعلة.
قال: ألم أخبرك أن ربيعة لا تسد بها الثغور؟
قلت: فالكامل النافذ الشجاع البطل، قطن بن قتيبة بن مسلم.
قال: فمال إليه بالمضرية.
قلت: إن اغتفرت منه هنه.
قال: وما هي؟
قلت: لا آمنه أن أفضى إليه السلطان أن يطلب جنود خراسان بدم أبيه قتيبة،
فإنهم جميعا تظافروا عليه.
قال: لا حاجة لي فيه.
قلت: فأين أنت من العفيف المجرب، الباسل المحنك، نصر بن سيار الليثي؟
341

قال: فكأنه تفاءل به، ومال إليه، بالمضرية.
قلت: إن اغتفرت منه خصلة.
قال: وما هي؟
قلت: ليست له بخراسان عشيرة من جنودها، وإنما يقوى على ولاية
خراسان من كانت له بها عشيرة من جنودها.
قال: فأي عشيرة أكثر مني، لا أبا لك، يا غلام؟ انطلق إلى الكتاب،
فمرهم بإنشاء عهده، وائتوني به.
فكتب له عهده، وأتى به.
فناولنيه، وقال: انطلق حتى توصله إليه.
ثم أمر أن أحمل على البريد.
فسرت حتى وافيت خراسان، فأتيته في منزله، فناولته العهد، فأمر لي
بعشرة آلاف درهم.
ثم تناول العهد، فانطلق إلى جعفر بن حنظلة، الأمير كان بها، فدخل
عليه، وهو جالس على سريره، فناوله العهد.
فلما قرأه أخذ بيد نصر، فرفعه حتى أجلسه معه على سريره، وقال:
سمعا وطاعة لأمير المؤمنين.
فقال له نصر: أبا خلف، السلطان سلطانك، فمر بأمرك.
ودعا له جعفر بن حنظلة، وسلم الأمر إليه.
وإن سليمان بن كثير، ولاهز بن قرط، ومالك بن الهيثم، وقحطبة
ابن شبيب أرادوا الحج، فخرجوا مع الحاج متنكرين حتى أتوا مكة، وقد وافاها
في ذلك العام إبراهيم بن محمد الإمام، فأخبروه بما اجتمع له الناس بخراسان.
وقد كانوا حملوا إليه ما بعثت به إليه الشيعة.
فقالوا: قد حملنا إليك مالا.
قال: وكم هو؟
342

قالوا: عشرة آلاف دينار، ومائتا ألف درهم.
فقال: سلموه إلى مولاي عروة، فدفعوه إليه.
فقال لهم إبراهيم: إني قد رأيت أن أولي الأمر هناك أبا مسلم، لما جربت
من عقله، وبلوت من أمانته، وأنا موجهة معكم، فاسمعوا له، وأطيعوا أمره، فإن
والدي - رحمة الله عليه - قد كان وصف لنا صفته، وقد رجوت أن يكون
هو الذي يسوق إلينا الملك، فعاونوه، وكانفوه، وانتهوا إلى رأيه، وأمره.
قالوا: سمعا وطاعة لك أيها الإمام.
فانصرفوا، وأبو مسلم معهم، حتى صاروا إلى خراسان، فتشمر أبو مسلم
للدعاء، وأخذ القوم بالبيعة، ووجه كل رجل من أصحابه إلى ناحية من خراسان،
فكانوا يدورون بها كورة كورة، وبلدا بلدا، في زي التجار.
فاتبعه عالم من الناس عظيم، فواعدهم لظهوره يوما سماه لهم، وولي على
من بايعه في كل كورة رجلا من أهلها، وتقدم إليهم بالاستعداد للخروج من ذلك
اليوم الذي سماه لهم حتى أجاب جميع أرض خراسان، سهلها وجبلها، وأقصاها
وأدناها.
وبلغ في ذلك ما لم يبلغه أصحابه من قبله، واستتب له الأمر على محبته، وصار
من أعظم الناس منزلا عند شيعته، حتى كانوا يتحالفون به، فلا يحنثون،
ويذكرونه، فلا يملون.
* * *
وقد كان خالد بن عبد الله ولي العراقين عشر سنين، أربعا في خلافة يزيد
ابن عبد الملك، وستا في خلافة هشام.
فلما عزله هشام، وولى مكانه يوسف بن عمر حاسبه يوسف، فخرج عليه عشرة
آلاف درهم، قد كان وهبها للناس، وبذرها - وكان من أسخى العرب - فحبسه
يوسف بن عمر عنده في العراق.
343

وكتب إلى هشام يتقاعد خالد بالمال الذي خرج عليه
فكتب إليه هشام بالبسط عليه (1).
فدعا به يوسف بن عمر وقال:
ما هذا التقاعد بمال السلطان يا ابن الكاهن؟ - يعني شق ابن صعب المعروف
بالكهانة وكان خالد بن عبد الله من ولده.
فقال له خالد بن عبد الله.
أتعيرني بشر في يا ابن الخمار؟ وإنما كان أبوك وجدك بالطائف أصحاب حانة.
وبلغ هشاما أن خالدا بذر ذلك المال في الناس، فكتب إلى يوسف يأمره
بإطلاقه، والكف عنه.
فلم يزل خالد مقيما بالكوفة حتى خرج زيد بن علي، بن الحسين، بن علي بن أبي
طالب عليهم السلام بالكوفة.
وكان خروجه في صفر سنة ثماني عشرة ومائة.
فسار إليه يوسف بن عمر، فالتقوا بالكناسة (2).
فانهزم أصحاب زيد، وخذلوه.
فأخذه يوسف بن عمر، فضرب عنقه.
وبعث برأسه إلى هشام، وصلب جسده بالكناسة.
وأن خالدا كتب إلى هشام يستأذنه في الخروج إلى طرسوس (3) غازيا متطوعا،
فأذن له هشام في ذلك، فسار حتى وافى طرسوس فأقام بها مرابطا.

(1) كذا في الأصل، وفي اللغة بسط فلان من فلان، أزال منه الاحتشام، ويقال بسطت
يده عليه أي سلط عليه.
(2) محالة مشهورة بالكوفة.
(3) مدينة بثغور الشام، يشقها نهر البردان، وبها قبر المأمون.
344

[وقيعة بين خالد وهشام]
وإن رجلا من أهل العراق كان يتلصص، ويكنى أبا المعرس، قدم من الكوفة
نحو أرض الشام، في جماعة من لصوص الكوفة، حتى وافوا مدينة دمشق،
فكان إذا جنه الليل أشعل في ناحية من السوق النار، فإذا تصايح الناس، واشتغلوا
بإطفاء الحريق، أقبل في أصحابه إلى ناحية أخرى من السوق، فكسر الأقفال،
وأخذ ما قدر عليه، ثم هرب.
فدخل كلثوم بن عياض القسري على هشام، وكان معاديا لخالد بن عبد الله،
وهو ابن عمه، فقال لهشام:
يا أمير المؤمنين، إن هذا الحريق لم يكن بدمشق، وقد حدث، وما هو إلا
عمل محمد بن خالد بن عبد الله القسري وغلمانه.
فأمر هشام بطلب محمد بن خالد، فأتوه به، وبغلمان له، فأمر بحبسه، وحبس
غلمانه.
وبلغ ذلك خالدا، وهو بطرسوس، فسار حتى وافى دمشق، فنزل في داره
بها، وغدا عليه الناس مسلمين، حتى إذا اجتمعوا عنده قال:
(أيها الناس، خرجت غازيا بإذن هشام وأمره، فحبس ابني وغلماني، أيها
الناس، مالي ولهشام؟ والله ليكفن عني هشام - يسميه في كل مرة باسمه ولا يقول
أمير المؤمنين - أو لأدعون إلى عراقي الهوى، شامي الدار، حجازي الأصل،
إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، ألا وإني قد أذنت لكم أن تبلغوا
هشاما).
وبلغ هشاما ذلك فقال: خرف أبو الهيثم، وأنا حري باحتماله، لقديم حرمته،
وعظيم حقه.
فأقام خالد بن عبد الله بمدينة دمشق عاتبا لهشام، مصارما له، لا يركب إليه،
ولا يعبأ به، وهشام في كل ذلك يحتمله، ويحلم عنه.
345

وإن رجلا يسمى عبد الرحمن بن ثويب الكلبي دخل على خالد بن عبد الله،
فسلم عليه، وعنده نفر من أشراف أهل الشام، فقال له:
(يا أبا الهيثم، إني أحبك [لعشر خصال فيك يحبها (1) الله منك: كرمك،
وعفوك، ودينك، وعدلك، ورأفتك، ووقارك في مجلسك، ونجدتك، ووفاؤك،
وصلتك ذوي رحمك، وأدبك).
فأثنى عليه خالد، وقال له خيرا.
وبلغ هشاما ذلك فقال:
أبلغ من أمر الفاسق عبد الرحمن بن ثويب أن يصف خالدا بمحاسن لم تجتمع
في أحد من الخلفاء المؤتمنين على عباد الله وبلاده؟
ثم أمر به، فأحسن أدبه، ونفى عن دمشق.
وبلغ ذلك خالدا، وعنده أناس من وجوه أهل الشام، فقال لهم:
(ألا تعجبون من صنيع هشام برجل ذكر مني خصالا؟ زعم أنه يحبني لها،
فضربه وطرده، وإن أعظم مما قال في عبد الرحمن بن ثويب قول عبد الله بن صيفي
حين قال له: يا أمير المؤمنين، أخليفتك في أهلك أحب إليك وآثر عندك أم
رسولك؟).
قال هشام: بل خليفتي في أهلي.
قال: فأنت خليفة الله في أرضه وخلقه، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم
إليهم، فأنت أكرم على الله منه، فلم ينكر هذه المقالة من عبد الله بن صيفي، وهي
تضارع الكفر، ويغضب على عبد الرحمن بن ثويب، وينكر عليه ما وصفني به
من خصال، يحبها الله، فأحبني لها.
فلم يحفل هشام حين بلغه ذلك من قول خالد، ولم يؤاخذه بشئ من مقالته،
فلما تم لخلافة هشام تسع عشرة سنة وسبعة أشهر مرض مرضته التي مات، فأسند
الخلافة إلى ابن أخيه الوليد بن يزيد بن عبد الملك.

(1) محو في الأصل.
346

[الوليد بن يزيد]
فلما استخلف الوليد بن يزيد أمر صاحب شرطة سعيد بن غيلان بأخذ خالد
بالمال الذي عليه من بقايا خراج العراقين والبسط عليه، وقال: (أسمعني
صياحه).
فأقبل سعيد بن غيلان إلى خالد وهو في منزله، فأخرجه، فانطلق به إلى
السجن، فعذبه يومه ذلك بألوان العذاب، فلم يكلمه خالد بحرف.
وقال الأشعث بن القيني فيما نال خالدا:
ألا أن خيرا الناس نفسا ووالدا * أسير قريش عندها في السلاسل
لعمري، لقد أعمرتم السجن خالدا * وأوطأتموه وطأة المتثاقل
فإن تحبسوا القسري لا تحبسوا اسمه * ولا تحبسوا معروفه في القبائل
وقدم يوسف بن عمر الثقفي بمال العراقين على الوليد، فجلس الوليد للناس،
وأذن لهم إذنا عاما.
فتكلم زياد بن عبد الرحمن الضمري، وكان معاندا لخالد، فقال: يا أمير
المؤمنين، على محاسبة خالد بخمسة آلاف ألف درهم، فسلمه إلي.
فأرسل الوليد إلى خالد - وهو في السجن - أن زياد بن عبد الرحمن قد أعطى
بمحاسبتك خمسة آلاف ألف درهم، فإن صححتها لنا، وإلا دفعناك إليه.
فأرسل له خالد: أن عهدي بالعرب لاتباع، وبالله لو سألتني أن أضمن لك
هذا، ورفع عود من الأرض، ما فعلت.
فلما رأى الوليد بن زيد تقاعد خالد بما عليه من المال أمر به، فسلم إلى يوسف
ابن عمر، وقال: انطلق به إلى العراق، وأستاذه جميع ما عليه من المال).
347

فحمله يوسف بن عمر معه إلى واسط (1)، فكان يخرجه كل يوم ويعذبه،
ثم يرده إلى الحبس، فأخرجه ذات يوم، وقال: ما هذا التقاعد يا ابن المائقة (2).
فقال له خالد: ما ذكرك الأمهات، لعنك الله؟ والله لا أكلمك بكلمة أبدا.
فغضب يوسف بن عمر من ذلك، فوضع على خالد المضرسة (3)، وجعل يعذبه
بها حتى قتله، فدفنه ليلا في عباءة كانت عليه.
فأنشأ الوليد بن يزيد:
ألم تهتج فتذكر الوصالا * وحبلا كان متصلا فزالا
بلى، فالدمع منك له سجال * كماء الغرب ينهمل انهمالا
فدع عنك ادكارك آل سعدي * فنحن الأكثرون حصى ومالا
ونحن المالكون الناس قسرا * نسومهم المذلة والنكالا
ونوردهم حياض الخسف ذلا * وما نألوهم إلا خبالا (4)
وطئنا الأشعرين بكل أرض * ولم يك وطؤنا أن يستقالا
وكندة والسكون قد استعاذوا * نسومهم المذلة والخبالا
شددنا ملكنا ببني نزار * وقومنا بهم من كان مالا
وهذا خالد فينا قتيلا * ألا منعوه إن كانوا رجالا
ولو كانت بنو قحطان عربا * لما ذهبت صنائعه ضلالا
ولا تركوه مسلوبا أسيرا * نحمله سلاسلنا الثقالا
ولكن المذلة ضعضعتهم * فلم يجدوا لذلتهم مقالا
فلما سمع من كان بأقطار الشام من اليمانية هذا الشعر أنفوا أنفا شديدا،
فاجتمعوا من مدن الشام، وساروا نحو الوليد بن يزيد.

(1) موضع بين البصرة والكوفة.
(2) الموق هو الحمق في غباوة.
(3) حجر غليظ جدا خشن الوطء.
(4) الخبار هو الهلال والعناء.
348

وبلغ الوليد مسيرهم، فأمر بمحمد بن خالد بن عبد الله فحبس بدمشق.
وأقبلت اليمانية، وخرج إليهم الوليد بمضر مستعدا للحرب، فالتقوا، واقتتلوا،
وأثخنت اليمانية القتل في مضر، فانهزمت مضر، وأخذوا نحو دمشق، ودخل
الوليد قصره، فتحصن فيه.
وأقبلت اليمانية حتى دخلت دمشق، وأخرجوا محمد بن خالد من محبسه،
ورأسوه عليهم.
فأرسل محمد بن خالد إلى ابن عم الوليد بن يزيد، وهو يزيد بن الوليد بن
عبد الملك، فجاء به، فبايعوه جميعا، وأرسل إلى أشراف المضريين، فبايعوه
طوعا وكرها.
وخلعوا الوليد بن يزيد، فلبث مخلوعا أياما كثيرة، وهو خليع بني أمية.
[يزيد بن الوليد]
فقام يزيد بن الوليد بالخلافة، ووضع للناس العطاء، وفرق في اليمانية
الصلات والجوائز.
وأقبل محمد بن خالد إلى قصر الوليد بن يزيد، وأمر بالأوهاق (1)، فألقيت
في شرف القصر، وتسلقوا، فعلوه، ونادوا: (يا وليد، يا لوطي،
يا شارب الخمر)، ثم نزلوا إليه، فقتلوه.
واستدف (2) الملك ليزيد بن الوليد.
وإن محمد بن خالد وجه منصور بن جمهور في خيل إلى العراق، وأمره أن يقصد إلى
مدينة واسط، فيأخذ الناس بالبيعة ليزيد بن الوليد، فإذا بايعوا دعا بيوسف بن عمر،
فضرب عنقه.

(1) الحبال جمع وهق.
(2) استتب واستقام.
349

فسار منصور بن جمهور، فبدأ بالكوفة وأخذهم بالبيعة ليزيد بن الوليد، فلما
بايعوا سار منها إلى واسط، فاجتمع إليه الناس، فبايعوا ليزيد، فلما فرغ دعا بيوسف
ابن عمر، فقال له:
أنت القاتل سيد العرب خالد بن عبد الله؟
قال يوسف: كنت مأمورا، وما لي في ذلك من ذنب، فهل لك أن تعفيني من القتل،
وأعطيك ديتي عشرة آلاف درهم،
فضحك منه، ثم حمله حتى أتى به محمد بن خالد بالشام، فقال له محمد:
أما زعمك أني كنت مأمورا فقد صدقت، وقد قتلت قاتل أبي، وإنما أقتلك
بعبده غزوان، ثم قدمه، فضرب عنقه.
فملك يزيد بن الوليد ستة أشهر، ثم مات.
[إبراهيم بن الوليد]
وقام بالملك من بعده أخوه إبراهيم بن الوليد، فبايعه الناس بالشام، وجميع
الآفاق، وجعل ولي العهد من بعده عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك بن مروان
واستعمل على العراق يزيد بن عمر بن هبيرة، فسار ابن هبيرة حتى نزل المكان الذي
إلى اليوم يسمى (قصر ابن هبيرة) وبنى فيه قصرا، واتخذ ذلك المكان منزلا له
ولجنوده.
قالوا: وإن المضرية تلاومت فيما كان من غلبة اليمانية عليها، وقتلهم الخليفة
الوليد بن يزيد، فدب بعضهم إلى بعض، واجتمعوا من أقطار الأرض وساروا
حتى وافوا مدينة حمص (1)، وبها مروان بن محمد بن مروان بن الحكم، وكان
يومئذ شيخ بني أمية وكبيرهم، وكان ذا أدب كامل ورأى فاضل، فاستخرجوه

(1) بلد مشهور في الإقليم الشمالي من الجمهورية العربية المتحدة، في طرفه القبلي قلعة حصينة
على تل عال كبير، بين دمشق وحلب، في نصف الطريق، وقد سمي باسم من أحدثه، وهو حمص
ابن مكنف العمليقي، وبه قبر خالد بن الوليد.
350

من داره، وبايعوه، وقالوا له: (أنت شيخ قومك وسيدهم، فاطلب بثأر
ابن عمك الوليد بن يزيد).
فاستعد مروان بجنوده في تميم، وقيس، وكنانة، وسائر قبائل مضر،
وسار نحو مدينة دمشق.
وبلغ ذلك إبراهيم بن الوليد، فتحصن في قصره.
ودخل مروان بن محمد دمشق، فأخذ إبراهيم بن الوليد وولي عهده عبد العزيز
ابن الحجاج فقتلهما، وهرب محمد بن خالد بن عبد الله القسري نحو العراق حتى أتى
الكوفة، فنزل في دار عمرو بن عامر البجلي، فاستخفى فيها، وعلى الكوفة
يومئذ زياد بن صالح الحارثي، عاملا ليزيد بن عمر بن هبيرة.
[مروان بن محمد]
واستدف الملك لمروان بن محمد، وأعطاه أهل البلدان الطاعة، ثم إن العصبية
وقعت بخراسان بين المضرية واليمانية.
وكان سبب ذلك، أن جديع بن علي المعروف بالكرماني كان سيد من بأرض
خراسان من اليمانية، وكان نصر بن سيار متعصبا على اليمانية، مبغضا لهم،
فكان لا يستعين بأحد منهم، وعادى أيضا ربيعة لميلها إلى اليمانية، فعاتبه
الكرماني في ذلك.
فقال له نصر: ما أنت وذاك؟
قال الكرماني: إنما أريد
بذلك صلاح أمرك، فإني أخاف أن تفسد عليك
سلطانك، وتحمل عليك عدوك هذا المطل، يعني المسودة (1).
قال له نصر: أنت شيخ قد خرفت.
فأسمعه الكرماني كلاما غليظا، فغضب نصر، وأمر بالكرماني إلى الحبس،
فحبس في القهندز، وهي القلعة العتيقة.

(1) المسودة هم العباسيون، لسواد أغطية رؤوسهم.
351

فغضب أحياء العرب للكرماني، فاعتزلوا نصر بن سيار، واجتمع إلى نصر
المضرية، فطابقوه وشايعوه.
وكان للكرماني مولى من أبناء العجم، ذو دهاء وتجربة، وكان يخدمه
في محبسه، وكان الكرماني رجلا ضخما عظيم الجثة، عريض ما بين المنكبين،
فقال له مولاه:
- أتوطن نفسك على الشدة والمخاطرة حتى أخرجك من الحبس؟
قال له الكرماني: وكيف تخرجني؟
قال: إني قد عينت على ثقب ضيق، يخرج منه ماء المطر إلى الفارقين، فوطن
نفسك على سلخ جلدك لضيق الثقب.
قال الكرماني: لا بد من الصبر، فاعمل ما أردت.
فخرج مولاه إلى اليمانية، فواطأهم، ووطنهم في طريقه، فلما جن الليل،
ونام الأحراس أقبل مولاه من خارج السور، فوقف له على باب الثقب، وأقبل
الكرماني حتى أدخل رأسه في الثقب، وبسط فيه يديه حتى نالت يداه كفى
مولاه، فاجتذبه اجتذابه شديدة، سلخ بها بعض جلده، ثم اجتذبه ثانية حتى
انتهى به إلى النصف، فإذا هو بحية في الثقب، فنادى الكرماني مولاه:
(بذبخت، مارمار) أي (حية قد عرضت)،، فقال لمولاه: (أمهلني ساعة،
حتى أفيق، ويسكن ما بي من وجع الانسلاخ).
فلما رجعت إلى الكرماني نفسه نزل من ذلك التل، وأتي بدابة ركبها حتى
انتهى إلى منزله، واجتمعت إليه الأزد، وسائر من بخراسان من اليمانية،
وانحازت ربيعة معهم.
وبلغ نصر بن سيار الخبر، فدعا بصاحب الحبس فضرب عنقه، وظن أن
ذلك كان بمواطاة منه.
352

ثم قال لسلم بن أحوز المازني، وكان على شرطه: (انطلق إلى الكرماني)،
فأعلمه: أني لم أرد به مكروها، وإنما أردت تأديبه لما استقبلني به، ومرة أن يصير
إلي آمنا، لأناظره في بعض الأمر.
فصار سلم إليه، فإذا هو بمحمد بن المثنى الربعي جالسا على الباب في سبعمائة
رجل من ربيعة، فدخل عليه، فأبلغه الرسالة، فقال الكرماني: لا، ولا كرامة،
ما له عندي إلا السيف.
فأبلغ ذلك نصرا.
فأرسل نصر بعصمة بن عبد الله الأزدي، وكان من خاصته، فقال له: انطلق
إلى ابن عمك، فأمنه، ومرة أن يصير إلى آمنا، لأناظره في بعض ما قد دهمنا
من هذا العدو.
فقال الكرماني لعصمة، حين أبلغه رسالة نصر: (يا ابن الخبيثة، وما أنت وذاك؟
وقد ذكر لي عمك، إنك لغير أبيك الذي تنسب إليه، إنما تريد أن تتقرب إلى
ابن الأقطع - يعني نصرا - أما لو كنت صحيح النسب لم تفارق قومك، وتميل إلى من
لا رحم بينه وبينك).
فانصرف عصمة إلى نصر، وأبلغه قوله.
ثم إن الكرماني كتب إلى عمر بن إبراهيم، من ولد أبرهة بن الصباح، ملك
حمير، وكان آخر ملوكهم، وكان مستوطنا الكوفة، يسأله أن يوجه إليه بنسخة
حلف اليمن وربيعة، الذي كان بينهم في الجاهلية، ليحييه، ويجدده، وإنما
أراد بذلك أن يستدعي ربيعة إلى مكانفته.
فأرسل به إليه.
فجمع الكرماني إليه أشراف اليمن وعظماء ربيعة، وقرأ عليهم نسخة الحلف.
وكانت النسخة:
(بسم الله العلي الأعظم، الماجد المنعم، هذا ما احتلف عليه آل قحطان وربيعة
353

الإخوان، احتلفوا على السواء السوا، والأواصر والإخا، ما احتذى رجل
حذا، وما راح راكب واغتدى، يحمله الصغار عن الكبار، والأشرار عن
الأخيار. آخر الدهر والأبد، إلى انقضاء مدة الأمد، وانقراض الآباء والولد،
حلف يوطأ ويثب، ما طلع نجم وغرب، خلطوا عليه دماهم، عند ملك أرضاهم،
خلطها بخمر وسقاهم، جز من نوصيهم أشعارهم، وقلم عن أناملهم أظفارهم،
فجمع ذلك في صر، ودفنه تحت ماء غمر، في جوف قعر بحر آخر الدهر،
لا سهو فيه ولا نسيان، ولا غدر ولا خذلان، بعقد موكد شديد، إلى آخر الدهر
الأبيد، ما دعا صبي أباه، وما حلب عبد في أناة، تحمل عليه الحوامل، وتقبل عليه
القوابل، ماحل بعد عام قابل، عليه المحيا والممات، حتى ييبس الفرات، وكتب
في الشهر الأصم (1) عند ملك أخي ذمم، تبع بن ملكيكرب، معدن الفضل
والحسب، عليهم جميعا كفل، وشهد الله الأجل، الذي ما شاء فعل، عقله من عقل،
وجهله من جهل).
فلما قرئ عليهم هذا الكتاب تواقفوا على أن ينصر بعضهم بعضا، ويكون
أمرهم واحدا.
فأرسل الكرماني إلى نصر: إن كنت تريد المحاربة فأبرز إلى خارج المدينة).
فنادى نصر في جنوده من مضر.
وخرج، فعسكر ناحية من الصحراء، وفعل الكرماني مثل ذلك. وخندق
كل واحد منهما في عسكره، ويسمى ذلك المكان إلى اليوم (الخندقين).
ووجه الكرماني محمد بن المثنى، وأبا الميلاء الربعيين، في ألف فارس،
من ربيعة، وأمرهما أن يتقدما إلى عسكر نصر بن سيار.
فأقبلا، حتى إذا قاربا عسكره قال نصر لابنه تميم:
- اخرج إلى القوم في ألف فارس من قيس وتميم.

(1) الشهر الأصم: هو رجب، وسمي بذلك في الجاهلية لعدم سماع السلاح فيه.
354

فانتخب ألف فارس، ثم خرج، فالتقوا، واقتتلوا، وحمل محمد بن المثنى
الربعي على تميم بن نصر، فتضاربا بسيفيهما، فلم يصنع السيفان شيئا، لكمال
لأمتيهما، فلما رأى محمد بن المثنى ذلك حمل بنفسه على تميم، فعانقه، فسقطا
جميعا إلى الأرض، وصار محمد فوق تميم، فانحنى على حلقه بالسيف، فذبحه.
وقال نصر بن سيار يرثي ابنه تميما:
نفى عني العزاء وكنت جلدا * غداة جلي الفوارس عن تميم
وما قصرت يداه عن الأعادي * ولا أضحى بمنزلة اللئيم
وفاء للخليفة وابتذالا * لمهجته يدافع عن حريم
فمن يك سائلا عني فإني * أنا الشيخ الغضنفر ذو الكليم
نمتني من خزيمة باذخات * بواسق ينتمين إلى صميم
قالوا: فمكثوا بذلك عشرين شهرا، ينهض بعضهم إلى بعض كل أيام،
فيقتتلون هويا، ثم ينصرفون، وقد انتصف بعضهم من بعض.
* * *
وشغلهم ذلك عن طلب أبي مسلم وأصحابه حتى قوي أمره، واشتد ركنه،
وعلن شأنه في جميع كور خراسان.
فقال عقيل بن معقل الليثي لنصر بن سيار: إن هذه العصبية قد تمادت بيننا
وبين هؤلاء القوم، وقد شغلتك عن جميع أعمالك، وضبط سلطانك، وقد أظلك
هذا العدو الكلب، فأنشدك الله أن تشأم (1) نفسك وعشيرتك، قارب
هذا الشيخ - يعني الكرماني - بعض المقاربة، فقد انتقض الأمر على الإمام
مروان بن محمد.
فقال نصر: يا ابن عم، قد فهمت ما ذكرت، ولكن هذا الملاح قد ساعدته

(1) يعني أن تأخذ بهم نحو الشام.
355

عشيرته، وظافرتهم على أمرهم ربيعة، فقد عدا من أجل ذلك طوره، فلا ينوي
صلحا، ولا ينيب إلى أمان، فانطلق يا ابن عم إن شئت، فسله ذلك، وأعطه
عني ما أراد.
فمضى عقيل بن معقل حتى استأذن على الكرماني، فدخل فسلم.
ثم قال له:
- إنك شيخ العرب وسيدها بهذه الأرض، فأبق عليها، قد تمادت هذه
العصبية بيننا وبينكم، وقد قتل منا ومنكم ما لا يحصيه أحد، وقد أرسلني نصر
إليك، وجعل لك حكم الصبي على أبويه، على أن ترجع إلى طاعته، لتتآزرا
على إطفاء هذه النار المضطرمة في جميع كور خراسان، قبل أن يكاشفوا - يعني
المسودة -.
قال الكرماني: قد فهمت ما ذكرت، وكنت كارها لهذا الأمر، فأبى
ابن عمك - يعني نصرا - إلا البذخ والتطاول حتى حبسني في سجنه، وبعثني
على نفسه وقومه.
قال له عقيل: فما الذي عندك في إطفاء هذه النائرة (1)، وحقن هذه الدماء؟
قال الكرماني: عندي من ذلك أن نعتزل أنا وهو الأمر، ونولي جميعا
أمرنا رجلا من ربيعة، فيقوم بالتدبير، ونساعده جميعا، ونتشمر لطلب هؤلاء
المسودة قبل أن يجتمعوا، فلا نقوى بهم، ولو أحلب عليهم معنا جميع العرب.
قال عقيل: إن هذا ما لا يرضى به الإمام مروان بن محمد، ولكن الأمير
نصرا يجعل الأمر لك، تولي من شئت، وتعزل من شئت، وتدبر في هؤلاء
المسودة ما شئت، ويتزوج إليك، وتتزوج إليه.
قال الكرماني: كيف يتزوج إلي. وليس لي بكفء؟
قال عقيل: أتقول هذا لرجل له بيت كنانة؟

(1) النائرة: الحقد والعداوة، تقع بين القوم.
356

قال الكرماني: لو كان من مصاص (1) كنانة ما فعلت، فكيف وهو
ملصق فيهم؟ فأما قولك، إنه يجعل الأمر إلى، أولى، وأعزل من أريد،
فلا، ولا كرامة، أن أكون تبعا له، أو أقاره على السلطان.
فانصرف عقيل إلى نصر، فقال: (إنك كنت بهذا الملاح أبصر مني).
ثم أخبره بما دار بينهما كله.
فكتب نصر بن سيار، إلى الإمام مروان بن محمد، يخبره بخروج الكرماني عليه،
ومحاربته إياه، واشتغاله بذلك عن طلب أبي مسلم وأصحابه، حتى قد عظم أمرهم،
وإن المحصي المقلل لهم يزعم، أنه قد بايعه مائتا ألف رجل، من أقطار خراسان،
فتدارك يا أمير المؤمنين أمرك، وابعث إلي بجنود من قبلك يقو بهم ركني،
واستعن بهم على محاربة من خالفني.
ثم كتب في أسفل كتابه:
أرى تحت الرماد وميض جمر * ويوشك أن يكون له ضرام
فإن النار بالعودين تذكى * وأن الشر مبدؤه كلام
وقلت من التعجب، ليت شعري * أأيقاظ أمية أم نيام؟
فإن يقظت، فذاك بقاء ملك * وإن رقدت، فإني لا ألام
فإن يك أصبحوا، وثووا نياما * فقل قوموا، فقد حان القيام
فلما وصل كتابه إلى مروان كتب إلى معاوية بن الوليد، بن عبد الملك، وكان
عامله على دمشق، ومروان حينئذ بمدينة حمص، يأمره أن يكتب إلى عامله
بالبلقاء (2)، أن يسير إلى الحميمة (3)، فيأخذ إبراهيم بن محمد بن علي، فيشده
وثاقا، ويرسل به إليه.

(1) مصاص القوم: أصل منبتهم. (2) أرض بالشام.
(3) بلد من أعمال في أطراف الشام كانت منزل بني العباس.
357

فأتى إبراهيم، وهو جالس في مسجده، فلف رأسه، وحمل إلى مروان،
واتبعه من أهل بيته عبد الله بن علي، وعيسى بن موسى بن علي، ونفر
من مواليه.
فلما دخل على مروان قال له: ما هذه الجموع التي خرجت بخراسان تطلب لك
الخلافة؟
قال له إبراهيم: ما لي بشئ من ذلك علم، فإن كنت إنما تريد التجني علينا
فدونك وما تريد.
ثم بسط لسانه على مروان، فأمر به، فحبس.
قال الهيثم: (فأخبرني أبو عبيدة، قال: كنت آتي إبراهيم في محبسه،
ومعه فيه عبد الله بن عمر بن عبد العزيز، فأسلم عليه، وأظل عامة نهاري عنده،
وربما جنني الليل عنده، فأبيت معه، فبينا أنا ذات ليلة عنده، وقد بت معه
في الحبس، فأنا نائم في سقيفة فيه، إذ قيل، مولى لمروان، فاستفتح الباب،
ففتح له، فدخل ومعه نحو من عشرين رجلا من موالي مروان، فلبثوا ساعة،
ثم خرجوا، ولم أسمع لأحد صوتا.
فلما أصبحت دخلت البيت لأسلم عليها، فإذا هما قتيلان، فظننت أنهما
خنقا).
ولما قتل إبراهيم بن محمد خاف أخواه: أبو جعفر، وأبو العباس على أنفسهما،
فخرجا من الحميمة هاربين من العراق، ومعهما عبد الله، وإسماعيل، وعيسى، وداود
بنو علي بن عبد الله بن عباس، حتى قدموا الكوفة، ونزلوا على أبي سلمة الداعي،
الذي كان داعية أبيهما، محمد بن علي بأرض العراق.
فأنزلهم جميعا دار الوليد بن سعد، التي في بني أود، وألزمهم مساورا
القصاب، ويقطينا الأبزاري، وكانا من كبار الشيعة، وقد كانا لقيا محمد بن علي
في حياته، فأمرهما أن يعينا أبا سلمة على أمره.
358

وكان أبو سلمة خلالا (1)، فكان إذا أمسوا أقبل مساور بشقة لحم، وأقبل
أبو سلمة بخل، وأقبل يقطين بالأبزار، فيطبخون، ويأكلون.
وفي ذلك يقول أبو جعفر:
لحم مساور، وخل أبي سلمة
وأبزار يقطين، وطابت المرقة
فلم يزل أبو العباس، وأبو جعفر مستخفين بالكوفة إلى أن قدم قحطبة
بن شبيب العراق.
* * *
قالوا: وبلغ أبا مسلم قتل الإمام إبراهيم بن محمد، وهرب أبي العباس، وأبي جعفر
من الشام، واستخفاؤهما بالكوفة عند أبي سلمة.
فسار من خراسان حتى قدم الكوفة، ودخل عليهما، فعزاهما بأخيهما،
إبراهيم الإمام.
ثم قال لأبي العباس: مد يدك أبايعك.
فمد يده، فبايعه.
ثم سار إلى مكة.
ثم انصرف إليهما.
فتقدم إليه أبو العباس، ألا يدع بخراسان عربيا لا يدخل في أمره إلا ضرب
عنقه.
ثم انصرف أبو مسلم إلى خراسان، فجعل يدورها، كورة كورة، ورستاقا
رستاقا، فيواعدهم اليوم الذي يظهرون فيه، ويأمرهم بتهيئة السلاح والدواب
لمن قدر.
قالوا: ولما أعيت نصر بن سيار الحيل في أمر الكرماني، وخاف أزوف
أبي مسلم كتب إلى مروان:

(1) يمتهن بيع الخل.
359

يا أيها الملك الواني بنصرته * قد آن للأمر أن يأتيك من كثب
أضحت خراسان، قد باضت صقورتها * وفرخت في نواحيها بلا رهب
فإن يطرن، ولم يحتل لهن بها * يلهبن نيران حرب أيما لهب
فلما وصلت هذه الأبيات إلى مروان كتب إلى يزيد [بن عمر بن هبيرة عامله] (1)
على العراقين، يأمره أن ينتخب من جنوده اثنا عشر رجلا، مع فرض يفرضه
بالعراق من عرب الكوفة والبصرة، ويولي عليهم رجلا حازما، يرضى عقله
وإقدامه، ويوجه بهم إلى نصر بن سيار.
فكتب يزيد بن عمر بن هبيرة إلى مروان: (أن من معه من الجنود لا يفون
باثني عشر ألفا، ويعلمه أن فرض الشام أفضل من فرض العراق، لأن عرب
العراق ليست لهم نصيحة للخلفاء من بني أمية، وفي قلوبهم إحن).
ولما أبطأ عن نصر الغوث أعاد إلى مروان:
من مبلغ عني الإمام الذي * قام بأمر بين ساطع
إني نذير لك من دولة * قام بها ذو رحم قاطع
والثوب أن أنهج فيه البلى * أعيى على ذي الحيلة الصانع
كنا نداريها، فقد مزقت * واتسع الخرق على الراقع
فلم يجد عند مروان شيئا.
[ظهور دعوة أبي مسلم]
وحان الوقت الذي واعد فيه أبو مسلم مستجيبية، فخرجوا جميعا في يوم واحد
من جميع كور خراسان حتى وافوه، وقد سودوا ثيابهم، تسليا على إبراهيم
بن محمد بن علي بن عباس الذي قتله مروان، فكان أول من ورد عليه من القواد،

(1) في الأصل محو مكان ما بين الحاصرتين.
360

وقد لبس السواد، أسيد بن عبد الله، ومقاتل بن حكيم، ومحقن بن غزوان،
والحريش مولى خزاعة، وتنادوا: محمد، يا منصور. يعنون محمد بن علي بن عبد الله
ابن عباس. وهو أول من قام بالأمر، وبث دعاته في الآفاق.
وانجفل الناس على أبي مسلم من هراة، وبوشنج، ومرو الروذ، والطالقان،
ومرو، ونسا، وأبيورد (1)، وطوس (2)، ونيسابور، وسرخس، وبلخ،
والصغانيان، والطخارستان، وختلان، وكش (3)، ونسف، فتوافوا جميعا
مسودي الثيابا، وقد سودوا أيضا أنصاف الخشب التي كانت معهم، وسموها
(كافر كوبات) (4).
وأقبلوا فرسانا، وحمارة، ورجالة، يسوقون حميرهم ويزجرونها، هر مروان،
يسمونها مروان، ترغيما لمروان بن محمد، وكانوا زهاء مائة ألف رجل.
فلما بلغ نصر بن سيار ظهور أبي مسلم سقط في يديه، وخاف على نفسه، ولم
يأمن أن ينحاز الكرماني في اليمانية، والربعية إليهم، فيكون في ذلك اصطلامه،
فأراد أن يستعطف من كان مع الكرماني من ربيعة.
فكتب إليهم، وكانوا جميعا بمرو:
أبلغ ربيعة فكتب إليهم جميعا بمرو وإخوتها * أن يغضبوا قبل أن لا ينفع الغضب
ما بالكم تلحقون الحرب بينكم * كان أهل الحجا عن فعلكم غيب
وتتركون عدوا قد أظلكم * ممن تأشب، لا دين ولا حسب
ليسوا إلى عرب منا، فنعرفهم * ولا صميم الموالي، إن هم نسبوا
قوما يدينون دينا ما سمعت به * عن الرسول، ولا جاءت به الكتب

(1) مدينة بخراسان تقع بين سرخس ونسا.
(2) مدينة تشتمل على بلدتين بالقرب من نيسابور، بها قبر هارون الرشيد، وعلي بن موسى
الرضا في بستان كان له بها، وكان بينهما وبين نيسابور قصر عظيم بناه بعض التابعين لما قصد الصين،
ورأى أن حرمه وكنوزه وذخائره.
(3) قرية من قرى أصفهان.
(4) كذا في الأصل، وصوابه (كافر كوباد) أي مضرب الكافر.
361

فمن يكن سائلي عن أصل دينهم * فإن دينهم أن تقتل العرب
فلم تحفل ربيعة بهذه الأبيات.
* * *
وبلغ أبا العباس الإمام، وهو مستخف بالكوفة أن أبا مسلم لو أراد أن
يصطلم عسكر نصر والكرماني لفعل، غير أنه يدافع الحرب، فكتب إليه يؤنبه
في ذلك.
وكان أبو مسلم يحب أن يستميل أحد الرجلين، ليفصم به شوكة الآخر،
فأرسل إلى الكرماني، يسأله أن ينضم إليه، لينتقم له من نصر بن سيار، فعزم
على المسير إليه، وأقبل أبو مسلم في عساكره إلى أرض مرو، فعسكر على ستة
فراسخ من المدينة.
وخرج إليه الكرماني ليلا في نفر من قومه، فاستأمن لجميع أصحابه، فأمنهم
أبو مسلم، وأكرم الكرماني، فأقام معه، وشق ذلك على نصر بن سيار،
وأيقن بالهلكة.
فكتب إلى الكرماني يسأله الرجوع إليه، على أن يعتزلا، ويوليا الأمر رجلا
من ربيعة، يرضيانه، وهو الأمر الذي كان سأله إياه.
فأصغى الكرماني إلى ذلك، وتحمل ليلا من معسكر أبي مسلم، حتى انصرف إلى
معسكره، واسترسل الكرماني إلى نصر، فلما أصاب منه غرة دس عليه من
قتله.
ويقال: بل وجه إليه نصر رجلا من قواده في ثلاثمائة فارس، فكمنوا له ليلا
عند منصرفه من معسكر أبي مسلم، فلما حاذاهم، وهو غافل عنهم، حملوا عليه،
فقتلوه.
وبلغ ذلك أبا مسلم فقال (لا يبعد الله غيره، لو صبر معنا لقمنا معه، ونصرناه
على عدوه).
362

وقال نصر في ظفره بالكرماني:
لعمري، لقد كانت ربيعة ظافرت * عدوي بغدر حين خابت جدودها
وقد غمزوا مني قناة صليبه * شديدا على من رامها الكسر عودها
وكنت لها حصنا، وكهفا، وجنة * يؤول إلى، كهلها، ووليدها
فمالوا إلى السوءات، ثم تعذروا * وهل يفعل السوءات إلا مريدها؟
فأوردت كرمانيها الموت عنوة * كذاك منايا الناس يدنو بعيدها
قالوا: ولما قتل الكرماني مضى ابنه على من خندقه إلى أبي مسلم، فسأله أن
يطلب له بثأر أبيه.
فأمر قحطبة بن شبيب أن يستعد، ويسير حتى ينيخ على نصر في خندقه، فينابذه
الحرب، أو ينيب إلى الطاعة.
فسار قحطبة، فبدأ بالمدينة، فدخلها، واستولى عليها، وأرسل إلى نصر
يؤذنه بالحرب.
فكتب نصر إلى أبي مسلم، يسأله الأمان، على أن يدخل معه في أمره،
فأجابه إلى ذلك، وأمر قحطبة أن يمسك عنه.
فلما أصاب نصر من قحطبة غفلة تحمل في حشمه وولده، وحاشيته ليلا،
فخرج من معسكره من غير أن يعلم أصحابه، وسار نحو العراق، وجعل طريقه
على جرجان، فأقام بها، فمرض فيها، فسار منها إلى ساوة (1)، فأقام بها أياما
ثم توفي بها.
فاستأمن جميع أصحابه وأصحاب الكرماني إلى أبي مسلم إلا أناسا كرهوا أمر
أبي مسلم، فساروا من مدينة مرو هرابا، حتى أتوا طوس، فأقاموا بها.

(1) وهي ساوي، مدينة في بلاد فارس الوسطى، واقعة على طريق بين قزوين والقرم،
وقد ضربها المغول سنة 1220، وكأن سكانها سنيين على مذهب أبي حنيفة، والآن كلهم شيعيون.
363

وإن أبا مسلم استولى على خراسان، واستعمل عماله عليها.
فكان أول من عقد له منهم زنباع بن النعمان، على سمرقند، وولى خالد بن إبراهيم،
على طخارستان، وولى محمد بن الأشعث، الطبسين (1)، ثم وجه أصحابه إلى سائر
تلك البلاد، وضم إلى قحطبة بن شبيب أبا عون، مقاتل بن حكيم العكي،
وخالد بن برمك، وحارثة بن خزيمة، وعبد الجبار بن نهيك، وجهور بن مراد
العجلي، والفضل بن سليمان، وعبد الله بن النعمان الطائي، وضم إلى كل واحد
من هؤلاء القواد صناديد الجنود وإبطالهم.
وأمر قحطبة أن يسير إلى طوس، فيلقى من قد اجتمع بها من جنود نصر
بن سيار، والكرماني، فيحاربهم حتى يطردهم عنها، ثم يتقدم، قدما قدما،
حتى يرد العراق.
فسار قحطبة حتى إذا دنا من طوس هرب أولئك الذين قد كانوا تجمعوا بها،
فتفرقوا، وسار قحطبة من طوس إلى جرجان، فافتتحها.
وسار منها إلى الري، فواقع عامل مروان عليها، فهزمه، ثم سار من الري
إلى أصبهان حتى وافاها، وبها عامر بن ضبارة، من قبل يزيد بن عمر، فهرب منه،
ودخلها قحطبة، واستولى عليها.
ثم سار حتى أتى نهاوند، وبها مالك بن أدهم الباهلي، فتحصن أياما،
ثم استأمن إلى قحطبة، فأمنه، فخرج إليه، وسار قحطبة حتى نزل حلوان،
فأقام بها.
وكتب إلى أبي مسلم يعلمه خبره، وأن مروان بن محمد قد أقبل من الشام
حتى وافى الزابين فأقام بها في ثلاثين ألفا، وأن يزيد بن عمر بن هبيرة
قد استعد بواسط.

(1) كورتان بخراسان.
(2) كورة على نهر بقرب واسط.
364

فأتاه كتاب أبي مسلم، يأمره أن يوجه أبا عون العكي في ثلاثين ألف فارس
من إبطال جنوده إلى مروان بن محمد بالزابين، فيحاربه، ويسير هو في بقية
الجنود إلى واسط، فيحارب يزيد بن عمر، ليشغله عن توجيه المدد إلى مروان.
ففعل قحطبة ذلك.
* * *
وبلغ مروان فصول أبي عون إليه بالجيوش من حلوان فاستقبله، فالتقيا
بشهرزور، فاقتتلوا، فانهزم أهل الشام حتى صاروا إلى مدينة حران.
قال الهيثم: فحدثني إسماعيل بن عبد الله القسري، أخو خالد بن عبد الله قال:
(دعاني مروان عند وصوله إلى حران، وكنت أخص الناس عنده، فقال لي:
(يا أبا هاشم) - وما كناني قبل ذلك -. فقلت: (لبيك يا أمير المؤمنين).
قال: (ترى ما قد نزل من الأمر، وأنت الموثوق برأيه، فما ترى؟).
قلت: (وعلام أجمعت يا أمير المؤمنين؟).
قال: (أجمعت على أن ارتحل بأهلي، وولدي، وخاصة أهل بيتي، ومن
اتبعني من أصحابي حتى أقطع الدرب، وأصير إلى ملك الروم، فاستوثق منه بالأمان،
ولا يزال يأتيني الخائف من أهل بيتي وجنودي حتى يكثف أمري، وأصيب قوة
على محاربة عدوي).
قال إسماعيل: وذلك، والله، كان الرأي له عندي، غير أني ذكرت سوء أثره في
قومي، ومعاداته إياهم، وتحامله عليهم، فصرفت الرأي عنه.
وقلت له: (يا أمير المؤمنين، أعيذك بالله، أن تحكم أهل الشرك في نفسك
وحرمك، لأن الروم لا وفاء لهم).
قال: فما الرأي عندك؟
قلت: الرأي أن تقطع الفرات، وتستقري مدن الشام، مدينة مدينة، فإن
لك بكل مدينة صنائع ونصحاء، وتضمهم جميعا إليك، وتسير حتى تنزل
ببلاد مصر، فهي أكثر أهل الأرض مالا، وخيلا، ورجالا، فتجعل الشام أمامك،
365

وإفريقية (1) خلفك، فإن رأيت ما تحب انصرفت إلى الشام، وإن تكن الأخرى
اتسع لك المهرب نحو إفريقية، فإنها أرض واسعة، نائية منفردة.
قال: صدقت، لعمري، وهو الرأي.
فسار من حران حتى قطع الفرات، وجعل يستقري مدن الشام، فيستنهضهم،
فيروغون عنه، ويهابون الحرب، فلم يسر معه منهم إلى قليل.
و سار أبو عون صاحب قحطبة في أثر مروان حتى انتهى إلى الشام، وقصد
دمشق، فقتل من أهلها مقتلة عظيمة، فيهم ثمانون رجلا من ولد مروان
ابن الحكم.
[نهاية بني أمية]
ثم عبر الشام سائرا نحو مصر حتى وافاها، واستعد مروان فيمن كان معه، من
أهل الوفاء له، وكانوا نحوا من عشرين ألف رجل، وسار مستقبلا أبا عون حتى
التقى الفريقان، فاقتتلوا.
فلم يكن لأصحاب مروان ثبات، فقتل منهم خلق، وانهزم الباقون، فتبددوا،
وهرب مروان على طريق إفريقية، وطلبته الخيل، فحال بينها وبينه الليل، فعبر
مروان النيل في سفينة، فصار في الجانب الغربي، وكان منجما (2)، فقال
لغلامه:
- إني إن سلمت هذه الليلة رددت خيل خراسان على أعقابها حتى أبلغ خراسان.
ثم نزل، ودفع دابته إلى غلامه، وخلع درعه، فتوسدها، ونام لشدة ما قد
كان مر به من التعب، ولم يكن معه دليل يدله على الطريق، وخاف أن يوغل في تلك
المفاوز، فيضل.

(1) تذكر إفريقية في كتب التاريخ العربي، ويقصد بها بلاد شمال إفريقية.
(2) له دراية: علم النجوم والفلك.
366

وأقبل رجل من أصحاب أبي عون، يسمى (عامر بن إسماعيل) في طلب مروان،
حتى أتى المكان الذي عبر فيه مروان، فدعا بسفينة، فجلس فيها، وعبر، فانتهى
به السير إلى مروان، وهو مستثقل نوما، فضربه بالسيف حتى قتله.
قالوا: ولما بلغ محمد بن خالد بن عبد الله القسري، وكان مستترا بالكوفة في
بجيلة، موافاة قحطبة بن شبيب حلوان بجموع أهل خراسان جمع إليه نفرا من
أشراف قومه، ثم ظهر، ودعا لأبي العباس الإمام، فطلبه زياد بن صالح، عامل
يزيد بن عمر، فاجتمع إليه قومه، فمنعوه، وقاموا دونه.
وبلغ ذلك يزيد بن عمر بن هبيرة، فأمد زياد بن صالح بالرجال، واجتمع إلى
محمد جميع من كان بالكوفة من اليمانية والربعية، فهرب زياد بن صالح حتى لحق
بيزيد بن عمر بواسط.
وكتب محمد بن خالد إلى قحطبة، وهو بحلوان، يسأله أن يوليه أمر الكوفة،
ويبعث إليه عهده عليها، ففعل.
فأتى المسجد الأعظم في جمع كثير من اليمانية، وقد أظهروا السواد، وذلك
يوم عاشوراء من المحرم سنة اثنتين وثلاثين ومائة (1).
وقال محمد بن خالد فيما كان من قتلة الوليد بن يزيد بن عبد الملك:
قتلنا الفاسق المختال لما * أضاع الحق، واتبع الضلالا
يقول لخالد ألا حمته * بنو قحطان إن كانوا رجالا
فكيف رأى غداة غدت عليه * كراديس يشبهها الجبالا (2)
ألا أبلغ بني مروان عني * بأن الملك قد أودي، فزالا
وسار يزيد بن عمر بن هبيرة إلى الكوفة يريد محمد بن خالد، فدخل محمد على

(1) الموافق أغسطس من سنة 749 م.
(2) الكردسة بالضم عظيمة من الخيل، وكل عظمين التقيا في مفصل، والكردوسان
قيس ومعاوية، ابنا مالك بن حنظلة.
367

أبي سلمة الداعي، فأخبره بفصول ابن هبيرة نحوه، وتخوفه أن لا يقوى بكثرة
جموعه.
فقال له أبو سلمة: إنه قد كان منك من الدعاء إلى الإمام أبي العباس
ما لا ينساه لك، فلا تفسد ذلك بقتلك نفسك، ومن معك، ودع الكوفة،
فإنها في يديك، وسر بمن معك حتى تنضم إلى قحطبة.
قال محمد: لست بخارج من الكوفة حتى أبلي عذرا في محاربة ابن هبيرة.
فاستعد بمن كان معه بالكوفة من اليمن وربيعة، وسار مستقبلا لابن هبيرة
حتى التقى.
فنادى محمد بن خالد من كان مع ابن هبيرة من قومه: (تبا لكم، أنسيتم
قتل أبي خالد، وتحامل بني أمية عليكم، ومنعهم إياكم أعطياتكم؟ يا بني عم،
قد أزال الله ملك بني أمية، وأدال منهم، فانضموا إلى ابن عمكم، فإن هذا
قحطبة بحلوان في جموع أهل خراسان، وقد قتل مروان، فلم تقتلون أنفسكم؟
وإن الأمير قحطبة قد ولاني الكوفة، وهذا عهدي عليها، فليكن لكم أثر
في هذه الدولة).
فلما سمعوا ذلك مالوا إليه جميعا، ولم يلق مع ابن هبيرة إلا قيس وتميم.
فلما رأى ذلك ولى منهزما بمن معه حتى وافى واسط، ووجه في نقل الميرة (1) إليها
، واستعد للحصار.
وانصرف محمد بن خالد إلى الكوفة، فخطب الناس، ودعا لأبي العباس، وأخذ
بيعة أهل الكوفة.
وأقبل قحطبة من حلوان حتى وافى العراق، فنزل (دمما) (2) - وهي فيما
بين بغداد والأنبار - وذلك قبل أن تبنى بغداد، وإنما كانت قرية، يقوم بها سوق
في كل شهر مرة، فأقام معسكرا بها.

(1) الطعام.
(2) كان قرية كبيرة على فم نهر عيسى قرب الفرات.
368

فقال علي بن سليمان الأزدي يذكر محمد بن خالد وسبقه إلى الدعاء إلى بني هاشم:
يا حاديينا بالطريق قوما * بيعملات كالقسي رسما (1)
تنجو بأحواز الفلاة مقدما * إلى امرئ أكرم من تكرما
محمد لما سما وأقدما * ثار بكوفان بها معلما
في عصبة تطلب أمرا مبرما * حتى علا منبرها معمما
أكرم بما فاز به وأعظما * إذ كان عنها الناس كلا نوما
* * *
وإن قحطبة عند مسيرة إلى العراق استخلف على أرض الجبل يوسف بن عقيل
الطائي، وأقبل ابن هبيرة حتى صار على شاطئ الفرات الغربي، وهو في نحو من
ثلاثين ألف رجل.
وأقبل قحطبة حتى نزل في الجانب الشرقي، فأقام ثلاثا، ثم نادى في جنوده،
أن أقحموا خيلكم الماء، فاقتحموها، وقحطبة أمام أصحابه.
ولما عبر أصحاب قحطبة قاتلهم ابن هبيرة، فلم يقم لهم، فانهزم حتى أتى
واسطا، فتحصن فيها، وفقد قحطبة بن شبيب فلم يدر أين ذهب.
ويزعم بعض الناس أن فرسه غاص به فغرق، وتولى أمر الناس ابنه الحسن
ابن قحطبة.
ولما تحصن ابن هبيرة بواسط خلف الحسن بن قحطبة عليه بعض قواده
في عشرين ألف رجل، وسار نحو الكوفة، وقد أخذها محمد بن خالد، فوافاها
الحسن بن قحطبة، وبها الإمام أبو العباس.

(1) اليعملة الناقة النجيبة المعتملة المطبوعة، والجمل يعمل، وناقة عملة بينة العمالة فارهة.
369

[مبايعة أبي العباس]
فأظهر أبا العباس، وأقبل به حتى دخل المسجد الأعظم، واجتمع له الناس،
فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على نبيه، عليه السلام، ثم ذكر انتهاك
بني أمية المحارم، وهدمهم الكعبة، ونصبهم عليها المجانيق، وما أبدعوا من خبيث
السير، ثم نزل.
فأكثر الناس له من الدعاء، وأقبل نحو دار الإمارة، فنزلها.
وأمر الحسن بن قحطبة بالانصراف إلى واسط، والإناخة بيزيد بن عمر
ابن هبيرة.
فسار الحسن وحاصر يزيد أشهرا كثيرة.
قال الهيثم بن عدي: بويع لأبي العباس بالخلافة، و لأبي جعفر بولاية العهد
من بعده، في رجب، من سنة اثنتين وثلاثين ومائة (1).
فلما استدف لأبي العباس الإمرة ولى أبا سلمة الداعي جميع ما وراء بابه،
وجعله وزيره، وأسند إليه جميع أموره، فكان يسمى وزير آل محمد، فكان
ينفذ الأمور من غير مؤامرة.
وبلغ ذلك أبا مسلم وهو بخراسان، فدعا مروان الضبي، وكان أحد قواده،
وقال له: (انطلق إلى الكوفة، فأخرج أبا سلمة من عند الإمام أبي العباس،
فاضرب عنقه، وانصرف من ساعتك)، ففعل الضبي ذلك.
فقال الشاعر يرثي أبا سلمة:
إن الوزير وزير آل محمد
أودي فمن يشناك كان وزيرا (2).
ثم إن الإمام أبا العباس رأى أن يوجه أخاه أبا جعفر المنصور إلى واسط، ليتولى

(1) الموافق فبراير سنة 750 م.
(2) شنأه أي أبغضه.
370

محاربة ابن هبيرة، فوجهه، وكتب إلى الحسن بن قحطبة يعلمه أن العسكر عسكره،
و [أنه] أحب أن يكون أخوه المتولي للأمر.
فلما وافى أبو جعفر واسطا تحول الحسن بن قحطبة عن سرداقه، وخلاه بما فيه
له، فنزله أبو جعفر بحريمه وحشمه.
وكتب أبو جعفر إلى قواد يزيد بن عمر وأشراف من العرب، يستميلهم
بالأطماع، وينبههم على حظوظهم، ويعرفهم انصرام دولة بني أمية، فأجابوه جميعا.
وكان أول من أجابه وانحرف إليه زياد بن صالح الحارثي، وكان عامل ابن هبيرة
على الكوفة، وأخص أصحابه عنده، وقد كان ابن هبيرة ولاه حراسة مدينته
بالليل، ودفع إليه مفاتيح أبوابها.
* * *
قال الهيثم: فحدثني أبي، قال: لما هم زياد باللحوق بأبي جعفر أرسل إلى،
وكان وصي أبي، فكنت أدعوه أبا وعما، وقد كان رسوله أتاني عند اختلاط
الظلام، يأمرني بالمصير إليه، فأتيته، فخلا بي، وقال:
(يا ابن أخي، إنك لست ممن أكتمه شيئا، وقد أتاني كتاب أبي جعفر،
يدعوني إلى اللحوق به، ويبذل لي على ذلك منزلة سنية، وأعلم في كتابه أنه راع
للخئولة وكانت أم أبي العباس حارثيه -.
قال والدي: (فقلت له، يا عم، إن لابن هبيرة أيادي جميلة، و أكره لك
الغدر به).
فقال: (يا ابن أخي، أنا من أشكر الناس له، غير أني لا أرى أن أقيم على
ملك، قد انقضت قواه، ووهت عراه، وأنا لابن هبيرة اليوم عند أبي جعفر أنفع
مني له هاهنا، وأرجو أن يصلح الله أمره بي وعلى يدي، فأقم عندي إلى وقت
خروجي لأسلم لك المفاتيح).
فأقمت عنده.
فلما مضى ثلث الليل أمر غلمانه، فحملوا أثقاله، وأسرجوا دوابه، ثم ركب،
371

وخرج من منزله، وأنا أمشي معه، حتى انتهى إلى باب المدينة الذي يلي دجلة،
وكانت المفاتيح معه، وأمر الأحراس أن يفتحوا الباب، وقال لهم: (أريد الخروج
لاستطلاع بعض الأمور، وأنا منصرف بعد ساعة).
ثم خرج، وأمرني بإغلاق الباب وأخذ المفاتيح.
فقال لي فيما بيني وبينه إذا أصبحت فانطلق بالمفاتيح حتى تدفعها إلى ابن هبيرة
من يدك إلى يده، أعلمه أني له هناك أفضل مني له هاهنا، ثم ودعني، ومضى،
وانصرفت إلى منزلي.
فلما أصبحت أتيت باب قصر الإمارة، فاستأذنت على ابن هبيرة.
فقال لي الحاجب: هو قاعد في مصلاه، لم يقم عنه.
قلت: أعلمه أني أتيته في مهم.
فأذن لي.
فدخلت، وهو قاعد في محرابه، وعليه كساء بركاني (1) معلم، فسلمت عليه
بالإمرة.
فرد السلام.
وقال: مهم.
فحدثته بأمر زياد بن صالح، فدمعت عيناه.
وقال: بمن تثق اليوم بعد زياد، وتوليتي إياه الكوفة، ووبري به؟
فقلت: أيها الأمير: إن الله ربما جعل في الكره خيرا، وأرجو أن ينفعك الله
بمكانه هناك.
فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله.
ثم قال: يا غلام، علي بطارق بن قدامة القسري.
فدخل عليه، وأنا جالس عنده، فدفع إليه تلك المفاتيح.

(1) الكساء البركاني هو ذو اللون الأسود.
372

وقال: يا طارق، إني قد اخترتك لحراسة هذه المدينة على جميع أصحابك
من خاصتنا، فكن كنحو ثقتي بك.
* * *
ولما طال على ابن هبيرة الحصار بعث إلى المنصور يسأله الأمان، فأرسل إليه:
(إن أردت أن أؤمنك على حكم أمير المؤمنين أبي العباس فعلت).
فشاور ابن هبيرة نصحاءه، فأشاروا عليه أن يفعل.
فأرسل إلى أبي جعفر يعلمه: أني راض بذلك.
فكتب إليه أبو جعفر ذلك بخطه، وأشهد على نفسه بذلك القواد.
فخرج ابن هبيرة إلى أبي جعفر في نفر من بطانته، فدخل عليه، وهو في
سرادقه، وحول السرادق عشرة آلاف نفر من أهل خراسان مستلئمين في السلاح،
فأمر أبو جعفر بوسادة، فجلس عليها قليلا، ثم نهض، ودعي له بدابته، فركب،
وانصرف إلى منزله، وفتحت أبواب المدينة، ودخل الناس بعضهم في بعض.
قالوا: وأحصى ما في الخزائن من الأموال والسلاح، وما بقي من الطعام
والعلف الذي كان ابن هبيرة قد ادخر، وأعد للحصار، فكان المال ثلاثة آلاف
ألف درهم، ومن السلاح شئ كثير، وطعام ثلاثين ألف رجل، وعلف عشرين
ألف رأس من الدواب سنة.
وإن أبا جعفر كتب إلى أبي العباس يخبره بخروج ابن هبيرة على حكمه،
ويسأله أن يعلمه الذي يرى فيه.
فكتب أبو العباس: لا حكم لابن هبيرة عندي إلا السيف.
فلما انتهى الكتاب بذلك إلى أبي جعفر كتمه عن جميع الناس.
وقال لحاجبه: مر ابن هبيرة إذا ركب إلينا ألا يركب إلا في غلام واحد،
ويدع عنه هذه الجماعات.
فلما كان من غد ركب ابن هبيرة إلى أبي جعفر في موكب عظيم.
373

فقال له سلام الحاجب: (أبا خالد، كأنك إنما تأتي ولي العهد مباهيا،
ولا تأتيه مسلما).
قال ابن هبيرة: إن كنتم كرهتم ذلك لم آتكم إلا في غلام واحد.
قال: فلا تأتنا إلا في [غلام] واحد، فإني لم أقل ذلك استخفافا بحقك،
إلا أن أهل خراسان ينكرون كثرة من يركب معك.
فكان ابن هبيرة بعد ذلك لا يأتيهم إلا في غلام واحد، فيدخل، ويسلم،
وينصرف.
* * *
ثم إن أبا جعفر قال للحسن بن قحطبة: (أجمع إليك أبا بكر العقيلي،
والحوثرة بن سهل، ومحمد بن بنانة، وعبد الله بن بشر، وطارق بن قدامة،
وسويد بن الحارث المزني، وهؤلاء كانوا قواد يزيد بن عمر، فإذا اجتمعوا
عندك فاضرب أعناقهم، وائتني بخواتيمهم، ووجه حرسا يحرسون ابن هبيرة،
لأنفذ فيه أمر الإمام أبي العباس.
فانطلق الحسن بن قحطبة، فأنفذ أمره في أولئك، وأتاه بخواتيمهم.
قال: (فما نطق منهم أحد عند قتله، وما كان منه جزع ولا امتناع).
فلما كان في اليوم الثاني دعا أبو جعفر خازم بن خزيمة، وإبراهيم بن عقيل، فقال
لهما: (انطلقا في عشرة نفر من الحرس حتى تدخلا على ابن هبيرة فتقتلاه).
فأقبلا حتى دخلا عليه عند طلوع الشمس، وهو جالس في مسجده في القصر
مسند ظهره إلى المحراب، ووجهه إلى رحبة القصر.
فلما نظر إليهم قال لحاجبه: (يا أبا عثمان، أحلف بالله أن في وجوه القوم لشرا.
فمضى أبو عثمان مستقبلا لهم، وقال لهم: (ما تريدون؟).
فبعجه إبراهيم بن عقيل بالسيف، فقتله، وقام إبراهيم ابنه في وجوه القوم، فقتل،
ثم قام ابنه داود في وجوههم، فقتل، ثم قام كاتبه عمرو، فقتل.
374

وأقبلوا نحو ابن هبيرة، فلما دنوا منه حول وجهه إلى القبلة، وسجد،
فضربوه بأسيافهم حتى خمد.
ثم انصرفا إلى أبي جعفر، فأخبراه بذلك، فأمر أبو جعفر مناديا، فنادى (أيها
الناس، أنتم آمنون إلا الحكم بن عبد الملك بن بشر، ومحمد بن ذر، وخالد
ابن سلمة المخزومي.
قال الهيثم: فحدثني أبي قال: قال محمد بن ذر، فضاقت على الأرض برحبها،
فخرجت ليلا من مدينة واسط على قدمي، وأنا أقرأ آية الكرسي، فما عرض لي
أحد من الناس حتى نجوت، فلم أزل خائفا حتى استأمن لي زياد بن عبد الله من
الإمام أبي العباس، فآمنني.
قال وهرب الحكم بن عبد الملك إلى كسكر، فاستخفى بها).
وضاقت بخالد بن سلمة المخزومي الأرض، فأتى باب أبي جعفر المنصور ليلا،
فاستأمن له، فآمنه.
ثم نودي (أيها الناس، أنتم جميعا آمنون، يا أهل الشام، ألحقوا بشامكم،
ويا أهل الحجاز، ألحقوا بحجازكم، فسكن الناس، وآمنوا، واطمأنوا.
* * *
واستعمل المنصور على واسط الهيثم بن زياد الخزاعي في خمسة آلاف من أهل
خراسان، ثم انصرف بسائر الناس حتى قدم على الإمام أبي العباس، وهو
بالحيرة.
ثم إن الإمام سار من الحيرة في جموعه حتى أتى الأنبار، فاستطابها، فابتنى بها
مدينة بأعلى المدينة عظيمة لنفسه وجموعه، وقسمها خططا بين أصحابه من أهل
خراسان، وبنى لنفسه في وسطها قصرا عاليا منيفا، فسكنه، وأقام بتلك المدينة
طول خلافته، وتسمى إلى اليوم مدينة أبي العباس.
ثم إن أبا العباس وجه أخاه أبا جعفر المنصور إلى خراسان، وأمره أن يأتي
375

أبا مسلم، فيناظره في بعض الأمور، ووجه معه ثلاثين رجلا من وجوه القواد،
وفيهم الحجاج بن أرطأة الفقيه، وإسحق بن الفضل الهاشمي.
* * *
فلما قدم المنصور على أبي مسلم لم يبالغ أبو مسلم في بره وإكرامه، ولم يظهر
السرور التام بقدومه.
فانصرف إلى أبي العباس، وقال: (لست بخليفة ما دام أبو مسلم حيا، فاحتل
لقتله قبل أن يفسد عليك أمرك، فلقد رأيته وكأنه لا أحد فوقه، ومثله لا يؤمن
غدره ونكثه).
فقال أبو العباس: وكيف يمكن ذلك، ومعه أهل خراسان؟ وقد أشربت
قلوبهم حبه، واتباع أمره، وإيثار طاعته.
فقال أبو جعفر: فذاك والله أحرى أن لا تأمنه، فاحتل له.
فقال أبو العباس: يا أخي، اضرب عن هذا، ولا تعلمن رأيك في ذلك
أحدا. وإن
أبا العباس قال ذات يوم للحجاج بن أرطأة، وقد خلا معه: ما تقول
في أبي مسلم؟
فقال: يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى يقول في كتابه: (لو كان فيهما
آلهة إلا الله لفسدتا).
قال أبو العباس: أمسك، فقد فهمت ما أردت.
ثم إن أبا مسلم وجه محمد بن الأشعث بن عبد الرحمن أميرا على فارس.
ورأى أبو العباس أن يستعمل عليها عمه عيسى بن علي، فعقد له عليها، وأمره
بالمسير إليها.
فلما قدم عيسى على محمد بن الأشعث أبى أن يسلم إليه.
فقال له عيسى: يا ابن الأشعث، أ لست في طاعة الإمام أبي العباس؟
قال: بلى، غير أن أبا مسلم أمرني ألا أسلم العمل إلى أحد من الناس.
376

قال عيسى: فإنما أبو مسلم عبد الإمام، وإن الإمام لا يرضى أن يرد أمره
. قال محمد: دع عنك هذا، لست أسلم العمل إليك إلا بكتاب أبي مسلم.
فانصرف عيسى إلى أبي العباس، فأخبره ذلك، فكظم، وأمر عمه بالمقام
عنده، فأقام.
وإن أبا مسلم عقد للمغلس بن السري على أرض طخارستان حتى وافاها، فخرج
إليه منصور مستعدا للحرب، فالتقوا، فاقتتلوا، فكان الظفر للمغلس، وهرب
منصور في نفر من أصحابه حتى وقعوا في الرمال، فماتوا عطشا.
وأقام المغلس على باب بلاد السند.
* * *
وإن أبا مسلم كتب إلى الإمام أبي العباس يستأذنه في القدوم عليه، والمقام
عنده إلى أوان الحج ليحج، فأذن له أبو العباس في ذلك، فسار أبو مسلم حتى
إذا قارب الإمام أمر أبو العباس جميع من كان معه بالحضرة من القواد والأشراف
أن يستقبلوه، فاستقبل بالكرامة، وترجل له الأشراف والقواد.
وأقبل حتى وافى مدينة أبي العباس، فأنزله معه في قصره، ولم يال جهده
في بره وإكرامه، حتى إذا حان وقت الحج استأذنه في الحج.
فقال له أبو العباس: لولا أن أخي أبا جعفر قد عزم على الحج لوليتك الموسم،
فكونا جميعا.
قال أبو مسلم: وذاك أحب إلي.
ثم خرجا.
فكان يرتحل أبو جعفر، وينزل أبو مسلم حتى وافيا مكة، فقضيا حجهما،
وانصرفا.
377

[أبو جعفر المنصور]
فلما وصل أبو جعفر إلى (ذات عرق) في منصرفه أتاه نعي الإمام
[أبي العباس] (1)، فأقام بمكانه حتى وافاه أبو مسلم، فأخبره بوفاة أبي العباس.
فخنقت أبا مسلم [العبرة] (1)، وقال: (رحم الله أمير المؤمنين، إنا لله
وإنا إليه راجعون).
فقال أبو جعفر: إني قد رأيت أن تخلف أثقالك ومن معك من جنودك على،
فيكونوا معي، وتركب أنت في عشرة نفر البريد حتى ترد الأنبار، فتضبط
العسكر، وتسكن الناس.
قال أبو مسلم: أفعل.
فركب في عشرة نفر من خاصته، وسار بالحث الشديد حتى وافى العراق،
وانتهى إلى مدينة أبي العباس بالأنبار، فوجد عيسى بن علي بن عبد الله بن عباس
قد دعا الناس إلى بيعته، وخلع ولاية العهد عن أبي جعفر.
فلما رأوا أبا مسلم مالوا معه، وتركوا عيسى. فلما وافى أبو جعفر اعتذر إليه عيسى،
وأعلمه أنه إنما أراد بذلك ضبط العسكر،
وحفظ الخزائن، وبيوت الأموال.
فقبل أبو جعفر منه ذلك، ولم يؤاخذه بما كان منه.
واجتمع الناس، وبايعوا المنصور أبا جعفر.
ثم أتاه انتقاض الشام، وقد كان أبو العباس استعمل عليها عمه عبد الله بن علي،
فلما بلغه وفاة أبي العباس دعا لنفسه، واستمال من كان معه من جنود خراسان،
فمالوا معه.
فلما بلغ أبا جعفر ذلك قال لأبي مسلم (أيها الرجل، إنما هو أنا أو أنت، فإما
أن تسير إلى الشام فتصلح أمرها، أو أسير أنا).

(1) رطوبة مؤثرة في الأصل مكان ما بين الحاصرتين.
378

قال أبو مسلم، بل أسير أنا.
فاستعد، وسار في اثني عشر ألفا من إبطال جنود خراسان حتى إذا وافى الشام
انحاز إليه من كان بها من الجنود جميعهم، وبقي عبد الله بن علي وحده.
فعفا أبو مسلم عنه، ولم يؤاخذه بما كان منه.
وكانت خلافة أبي العباس أربع سنين وستة أشهر.
* * *
وإن أبا جعفر عند مسير أبي مسلم نحو الشام وجه يقطين بن موسى في أثر
أبي مسلم، وقال: (إن تكن هناك غنائم فتول قبضها).
وبلغ ذلك أبا مسلم، فشق عليه، وقال: (إن أمير المؤمنين لم يأتمني على ما هاهنا
حتى استظهر على بأمين). ودخلته من ذلك وحشة شديدة.
ولما بلغ المنصور إصلاح الشام كره المقام بمدينة أبي العباس التي بالأنبار، فسار
بعسكره إلى المدائن، فنزل إلى المدينة التي تدعى (الرومية) وهي من المدائن على
فرسخ، وهي المدينة التي بناها كسرى أنوشروان، وأنزلها السبي الذي سباه من
بلاد الروم، فأقام المنصور بتلك المدينة.
وإن أبا مسلم انصرف فأخذ على الفرات حتى وافى العراق على الأنبار، وجاز
حتى وافى كرخ بغداد (1)، وهي إذ ذاك قرية، ثم عبر دجلة من بغداد، وأخذ
طريق خراسان، وترك طريق المدائن.
وبلغ ذلك أبا جعفر.
فكتب إلى أبي مسلم: أريد مناظرتك في أمور لم يحتملها الكتاب، فخلف
عسكرك حيث ينتهي إليك كتابي، فاقدم على.
فلم يلتفت أبو مسلم إلى كتاب المنصور، ولم يعبأ به.
وكان مع المنصور رجل من ولد جرير بن عبد الله البجلي، واسمه (جرير بن يزيد
بن عبد الله)، وكانت له خلابة، وتأت في الأمور، ومكيدة.
فقال له أبو جعفر: (اركب البريد حتى تلحق أبا مسلم، فتحاول رده إلي،

(1) مكان بين المصراة ونهر عيسى، اتخذ سوقا، ورتب فيه كل صنف موضعه، وذلك أن أبا جعفر المنصور لما بني مدينة بغداد أمر أن
تجعل الأسواق في طاقات المدينة بإزاء كل باب سوقا،
ثم أشير على المنصور بإخراج الأسواق من المدينة حتى لا يوافي الجواسيس من الأطراف بعلة التجارة
فيتجسسون الأخبار، فأمر ببناء السوق خارج المدينة، وسمى الكرخ لذلك.
379

فإنه قد مضى مغاضبا، ولا آمن إفساده على، وتأت في رده بأفضل التأتي).
فسار الرجل حتى لحقه في بعض الطريق، وقد نزل بعض المنازل بعسكره،
فدخل عليه مضربه.
فقال:
(أيها الأمير، أجهدت نفسك، وأسهرت ليلك، وأتعبت نهارك
في نصرة مواليك، وأهل بيت نبيك حتى إذا استحكم لهم الأمر، وتوطد لهم
السلطان، ونلت أمنيتك فيهم تنصرف على هذه الحال، فما تقول الناس؟ ألا تعلم
أن ذلك مطعنة عليك، ومسبة، في حياتك، وبعد وفاتك؟).
فلم يزل به حتى عزم على الانصراف معه إلى المنصور، وخلف عسكره بمكانه
ذلك.
وسار منصرفا في ألف فارس من أفاضل من كان معه من جنود خراسان
والقواد، وقد كان أبو مسلم يقول: إن المنجمين أخبروني أن لا أقتل إلا بالروم.
[قتل أبي مسلم الخراساني]
حتى وافى أبا جعفر بالرومية، فدخل عليه، فقام إليه أبو جعفر، وعانقه،
وأظهر السرور بانصرافه.
وقال له: (كدت تمضي من قبل أن أراك، وأفضي إليك بما أريد، فقم، فضع
عنك ثيابك، وانزل حتى يذهب كلال السير عنك.
فخرج أبو مسلم إلى قصر قد أعد له.
ونزل أصحابه حوله.
فمكث ثلاثة أيام، يغدو كل يوم إلى أبي جعفر، فيدخل على دابته، حتى
ينتهي إلى باب المجلس الذي فيه الإمام، فينزل، ويدخل إليه، فيجلس عنده مليا،
فيتناظران في الأمور.
فلما كان في اليوم الرابع وطن له أبو جعفر عثمان بن نهيك، وكان على حرسه،
380

وشبث بن روح، وكان على شرطته، وأبا فلان بن عبد الله، وكان على الخيل،
وأمرهم أن يكمنوا في بيت إلى جنب المجلس الذي كان فيه.
وقال لهم: إذا أنا صفقت يدي ثلاثا فاخرجوا إلى أبي مسلم، فبضعوه.
وأمر الحاجب إذا دخل أبو مسلم أن يأخذ عنه سيفه.
وأقبل أبو مسلم، فدخل، وأخذ الحاجب سيفه.
فدخل مغضبا، وقال:
- يا أمير المؤمنين، فعل بي ما لم يفعل بي مثله قط، أخذ السيف من عاتقي.
قال أبو جعفر: ومن أخذه لعنه الله؟ اجلس، لا عليك.
فجلس، وعليه قباء أسود خز، ووضع له متكئا، ولم يكن في البيت غيرهما.
فقال أبو جعفر:
(ما أردت بمضيك نحو خراسان قبل لقائي؟)
قال أبو مسلم:
(لأنك وجهت في أثري إلى الشام أمينا في إحصاء الغنائم، أما وثقت بي فيها؟).
فأغلظ له أبو جعفر الكلام.
فقال:
(يا (أمير المؤمنين، أنسيت حسن بلائي، وفضل قيامي، وإتعابي نفسي
ليلي ونهاري؟ حتى سقت هذا السلطان إليكم).
قال أبو جعفر:
(يا ابن الخبيثة، والله لو قامت مقامك أمة سوداء لأغنت غناك، إنما تأتي لك
الأمور في ذلك بما أحب الله، من إظهار دعوتنا أهل البيت، ورد حقنا إلينا، ولو
كان ذلك بحولك وحيلتك وقوتك ما قطعت فتيلا، ألست يا ابن اللخناء الذي
كتبت إلي تخطب عمتي آمنة بنت علي بن عبد الله؟ وتزعم في كتابك أنك ابن سليط
ابن عبد الله بن عباس، لقد ارتقيت مرتقى صعبا).
381

فقال أبو مسلم:
يا أمير المؤمنين، لا تدخل على نفسك الغم والغيظ بسببي، فإني أصغر قدرا من
أن أبلغ منك هذا.
فصفق أبو جعفر بكفيه ثلاثا، وخرج عليه القوم بالسيوف.
فلما رآهم أبو مسلم أيقن بالأمر، فقام إلى أبي جعفر، فتناول رجله ليقبلها،
فرفسه أبو جعفر برجله، فوقع ناحية، فأخذته السيوف.
فقال أبو مسلم. أما من سلاح يحامي به المرء عن نفسه.
فضربوه حتى خمد.
وأمر به أبو جعفر، فلف في بساط، ووضع ناحية من البيت.
* * *
وقد كان أبو مسلم قبل دخوله على أبي جعفر قال لعيسى بن علي: (ادخل معي
إلى أمير المؤمنين، فإني أريد معاتبته في بعض الأمور).
فقال له عيسى: (تقدم فإني على أثرك).
فأقبل عيسى حتى دخل على أبي جعفر، فقال:
يا أمير المؤمنين، أين أبو مسلم؟
قال أبو جعفر: (هاهو ذاك ملفوف في ذلك البساط).
قال عيسى: (أقتلته؟ أنا لله، فكيف تصنع بجنوده؟ وهؤلاء قد جعلوه
ربا).
فأمر أبو جعفر فهيئت ألف صرة، في كل صرة ثلاثة آلاف درهم.
وأحس أصحاب أبي مسلم بالأمر، فصاحوا، وسلوا السيوف، فأمر أبو جعفر
بتلك الصرر، فقذفت إليهم مع رأس أبي مسلم.
وصعد عيسى بن علي إلى أعلى القصر، وقال:
يا أهل خراسان، إنما كان أبو مسلم عبدا من عبيد أمير المؤمنين، وجد عليه،
فقتله، فليفرخ روعكم، فإن أمير المؤمنين بالغ آمالكم).
382

فترجل القوم وتناولوا تلك الصرر، كل واحد صرة، وترك الرأس
مقذوفا.
ثم إن أبا جعفر وضع لأصحاب أبي مسلم العطاء، ووجه الأموال إلى عسكر
أبي مسلم حيت خلفه، فأسنى لهم العطاء، وكتب كتابا، فقرئ عليهم، يبسط
فيه آمالهم، وأجزل صلات القواد والأشراف منهم، فأرضاهم ذلك.
واستدفت الخلافة لأبي جعفر المنصور سنة ثمان وثلاثين ومائة (1)، فوجه عماله
إلى أقطار الأرض.
[مدينة بغداد] وأن أبا جعفر أحب أن يبني لنفسه جنوده مدينة ليتخذها دار المملكة.
فسار بنفسه يرتاد الأماكن حتى انتهى إلى بغداد، وهي إذ ذاك قرية يقوم بها
سوق في كل شهر، فأعجبه المكان، فخط لنفسه وحشمه ومواليه وولده وأهل
بيته المدينة، وسماها (مدينة السلام)، وبنى قصره وسطها إلى المسجد الأعظم.
ثم خط لجنوده حول المدينة، وجعل أهل كل بلد من خراسان في ناحية منها
منفردة، وأمر الناس بالبناء، ووسع عليهم في النفقات، وأمر، فحفر نهر الفرات
من ثمانية فراسخ، وفوهه النهر من دمما (2)، فأجرى إلى بغداد ليأتي فيه مواد الشام
والجزيرة، كما تأتي مواد الموصل وما اتصل بالموصل في دجلة، وكان بناؤه إياها في
سنة تسع وثلاثين ومائة (3).
ثم إن أبا جعفر حج بالناس سنة أربعين ومائة، وجعل منصرفه على مدينة
الرسول، فوضع لأهلها العطاء، فأسنى لهم في الرزق وفرق فيهم الجوائز.
ومضى نحو الشام قاصدا لبيت المقدس حتى وافاها، فأقام بها شهرا، ثم سار
إلى الرقة، فأقام بها بقية عامة ذلك، ثم سار من الرقة حتى وافى مدينة السلام،
فأقام بها حولا كاملا.

(1) سنة 755 م.
(2) قرية كبيرة على فم نهر عيسى، قرب الفرات، وقد خربت.
(3) سنة 756 م.
383

[الراوندية] ثم سار منها سنة اثنتين وأربعين ومائة نحو البصرة حتى وافاها، فبلغه أن
الراوندية (1) تداعوا، وخرجوا يطلبون بثأر أبي مسلم، وخلعوا الطاعة، فوجه
إليهم خازم بن خزيمة، فقتلهم، وبددهم في الأرض، ثم عقد لمعن بن زائدة من البصرة
على اليمن، وأقام عامة ذلك بالبصرة.
وزعموا أن عمرو بن عبيد دخل إليه، فلما رآه أبو جعفر صافحه، وأجلسه إلى
جانبه، فتكلم عمرو، فقال:
يا أمير المؤمنين، إن الله قد أعطاك الدنيا بأسرها، فاشتر نفسك من الله
ببعضها، واعلم أن الله لا يرضى منك إلا بما ترضاه منه، فإنك لا ترضى من الله إلا
بأن يعدل عليك، وإن الله لا يرضى منك إلا بالعدل في رعيتك، يا أمير المؤمنين،
إن من وراء بابك نيرانا تأجح من الجور، وما يعمل من وراء بابك بكتاب الله
ولا بسنة رسول الله، يا أمير المؤمنين: ألم تر كيف فعل ربك بعاد، إرم
ذات العماد، حتى أتى على آخر السورة (2)، ثم قال: ولمن عمل والله بمثل عملهم.
قالوا: فبكى أبو جعفر. فقال ابن مجالد: مه يا عمرو، قد شققت على أمير المؤمنين منذ اليوم.
قال عمرو: من هذا يا أمير المؤمنين؟
قال: هذا أخوك ابن مجالد.
قال عمرو: يا أمير المؤمنين ما أحد أعدى لك من ابن مجالد، أيطوي عنك
النصيحة، ويمنعك من ينصحك؟ وإنك لمبعوث وموقوف ومسئول عن
مثاقيل الذر من الخير والشر.

(1) الراوندية فئة تنسب إلى أحمد بن يحي بن إسحاق الرواندي المتوفى سنة 303 ه‍ وقد كان
معتزليا، صار شيعيا، ثم تغير إلى الزيغ والإلحاد، وله مؤلفات تمثل ذلك الاضطراب الذي تقلب فيه
(تاريخ الإلحاد في الإسلام للدكتور عبد الرحمن بدوي).
(2) الآية رقم 6 من سورة الفجر.
384

قال: فرمى أبو جعفر بخاتمه، وقال:
- قد وليتك ما وراء بابي، فادع أصحابك، فولهم.
قال: إن أصحابي لن يأتوك حتى يروك قد عملت بالعدل، كما قلت بالعدل.
ثم انصرف.
وسار أبو جعفر من البصرة سنة ثلاث وأربعين نحو الجبل حتى وافى مدينة
نهاوند، وقد كان بلغه طيبها، فأقام بها شهرا.
ثم انصرف حتى أتى المدائن، فأقام بها بقية عامة ذلك، وعقد منها لخزيمة
ابن خازم على جميع طبرستان، حتى إذا آن أوان الحج خرج منها حاجا سنة أربع
وأربعين ومائة، ونزل الربذة (1)، فلما قضى حجه انصرف، ولم يدخل المدينة.
وفي ذلك العام خرج عليه محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن
أبي طالب عليه السلام، الملقب بالنفس الزكية، فوجه إليه أبو جعفر عيسى بن
موسى بن علي في خيل، فقتل رحمه الله، وخرج أخوه إبراهيم بن عبد الله بن الحسن
ابن الحسن، فقتل رضوان الله عليهم.
[موت أبي جعفر المنصور]
وفي سنة ثمان وخمسين ومائة حج أبو جعفر، فنزل الأبطح على بئر ميمون،
فمرض بها، وتوفي غداة السبت، لست خلون من ذي الحجة.
فأقام الحج للناس في ذلك العام إبراهيم بن محمد بن يحيى بن محمد بن علي بن عبد الله
ابن عباس، وصلى على أبي جعفر عيسى بن موسى، فكانت خلافته عشرين سنة،
وتوفي وله ثلاث وستون سنة، ودفن بأعلى مكة.

(1) الربذة قرية قرب المدينة المنورة، وبها قبر أبي ذر الغفاري، وقد خربها القرامطة
سنة 319 ه‍.
385

[تولية محمد المهدي] ثم بويع للمهدي بن المنصور يوم السبت لسبع عشرة ليلة خلت من
ذي الحجة (1)، وفي ذلك العام أمر المهدي باتخاذ المقاصير في جميع مساجد الجماعات،
ثم حج المهدي سنة ستين ومائة، فانصرف على المدينة، فأمر أن يشتري ما حول
المسجد من المنازل والدور، فيوسع به المسجد.
وفي سنة اثنتين وستين ومائة خرجت المحمرة بجرجان، فسار إليهم عمر بن
العلاء، ففرقهم.
وفي ذلك العام عقد المهدي ولاية العهد لابنه موسى الهادي، ومن بعده لابنه
الرشيد.
وفي سنة تسع وستين خرج موسى بن المهدي إلى جرجان، وخرج المهدي إلى
(ماسبذان) (2) فأقام بها متنزها.
ومات بها وهو ابن ثلاث وأربعين سنة، وكانت خلافته عشر سنين وشهرا
ونصفا.
[ولاية موسى الهادي] وأتت الخلافة موسى الهادي، وهو بجرجان، وبويع بمدينة السلام لثمان
بقين من المحرم.
وفي ذلك العام خرج الحسين بن علي بن الحسن بالمدينة، وسار نحو مكة،
فلقيه عيسى بن موسى والعباس بن علي، فقتلاه.
وفي سنة سبعين ومائة توفي الإمام موسى بن المهدي بعيسياباذ (3) في النصف من شهر ربيع الأول، وكان له يوم توفي أربع وعشرون سنة، وكانت خلافته سنة
وشهرا وأربعة وعشرين يوما.

(1) الموافق 19 أكتوبر سنة 774 م.
(2) أصله ماه، سبذان، وهي مدن عدة وبها قبر المهدي، ولا أثر بها إلا بناء قد تغصت
رسومه ولم يبق منه إلا الآثار
(3) كذا في الأصل، وهي عيساباز محلة كانت بشرقي بغداد،
وقد بني بها المهدي قصره الذي سماه قصر السلام، وقد خربت.
386

[خلافة هارون الرشيد]
وفي ذلك العام استخلف هارون الرشيد، وحج، وانصرف إلى المدينة،
فوضع لأهلها العطاء، وأجزل لهم.
وأقبل إلى العراق فوافى الكوفة، وعقد لأبي العباس الطوسي على خراسان،
فلبث عليها عامين، ثم عزله.
واستعمل عليها محمد بن الأشعث.
وفي سنة أربع وسبعين ومائة وقعت العصبية بأرض الشام بين المضرية واليمانية،
فتحاربوا حتى قتل من الفريقين بشر كثير.
وحج الرشيد في ذلك العام بالناس ومعه ابناه محمد، وعبد الله، وكتب بينهما
كتابا بولاية العهد لمحمد، ومن بعده لعبد الله المأمون، وعلق الكتاب في جوف
الكعبة، ثم انصرف إلى مدينة السلام.
واستعمل على خراسان الغطريف بن عطاء.
* * *
قال علي بن حمزة الكسائي: ولأني الرشيد تأديب محمد وعبد الله، فكنت
أشدد عليهما في الأدب، وآخذهما به أخذا شديدا، وبخاصة محمدا، فاتتني ذات يوم
خالصة جارية أم جعفر.
فقالت: يا كسائي، إن السيدة تقرأ عليك السلام، وتقول لك، حاجتي
إليك أن ترفق بابني محمد، فإنه ثمرة فؤادي وقرة عيني، وأنا أرق عليه رقة شديدة.
فقلت لخالصة: إن محمدا مرشح للخلافة بعد أبيه، ولا يجوز التقصير في تأديبه.
فقالت خالصة: إن لرقة السيدة سببا، أنا مخبرتك به.
أنها في الليلة التي ولدته أريت في منامها كان أربع نسوة أقبلن إليه، فاكتنفنه
عن يمينه وشماله، وأمامه وورائه، فقالت التي بين يديه: (ملك قليل العمر،
ضيق الصدر، عظيم الكبر، واهي الأمر، كثير الوزر، شديد الغدر)،
387

وقالت التي من ورائه: (ملك قصاف، مبذر متلاف، قليل الإنصاف،
كثير الإسراف)، وقالت التي عن يمينه: (ملك ضخم، قليل الحلم، كثير
الإثم، قطوع للرحم)، وقالت التي عن يساره: (ملك غدار، كثير العثار
، سريع الدمار). ثم بكت خالصة، وقالت: (يا كسائي، وهل يغني الحذر؟).
وذكر عن الأصمعي قال: دخلت على الرشيد، وكنت غبت عنه حولين
بالبصرة، فأومأ إلي بالجلوس قريبا منه، فجلست قليلا، ثم نهضت، فأومأ إلي
أن اجلس، فجلست، حتى خف الناس.
ثم قال لي:
- يا أصمعي، ألا تحب أن ترى محمدا وعبد الله؟
قلت: بلى يا أمير المؤمنين، إني لأحب ذلك، وما أردت القيام إلا إليهما،
لأسلم عليهما.
قال: تكفي.
ثم قال: علي بمحمد وعبد الله.
فانطلق الرسول.
وقال: أجيبا أمير المؤمنين.
فأقبلا، كأنهما قمرا أفق، قد قاربا خطأهما، وضربا ببصرهما الأرض حتى
وقفا على أبيهما، فسلما عليه بالخلافة، وأومأ إليهما، فدنيا منه، فأجلس محمدا
عن يمينه، وعبد الله عن شماله.
ثم أمرني بمطارحتهما، فكنت لا ألقي عليهما شيئا من فنون الأدب إلا أجابا
فيه وأصابا. فقال: كيف ترى أدبهما؟
قلت: يا أمير المؤمنين، ما رأيت مثلهما في ذكائهما وجودة ذهنهما، فأطال
الله بقاءهما، ورزق الأمة من رأفتهما ومعطفتهما.
فضمهما إلى صدره، وسبقته عبرته حتى تحدرت دموعه.
388

ثم أذن لهما، حتى إذا نهضا وخرجا، قال:
- كيف بكم إذا ظهر تعاديهما وبدا تباغضهما، ووقع بأسهما بينهما حتى
تسفك الدماء، ويود كثير من الأحياء انهم كانوا موتى؟
فقلت: يا أمير المؤمنين، هذا شئ قضى به المنجمون عند مولدهما، أو شئ
أثرته العلماء في أمرهما؟
قال: بل شئ أثرته العلماء عن الأوصياء عن الأنبياء في أمرهما.
قالوا: فكان المأمون يقول في خلافته: (قد كان الرشيد سمع جميع ما جرى
بيننا من موسى بن جعفر بن محمد، فلذلك قال ما قال.
قال الأصمعي: وكان الرشيد يحب السمر، ويشتهي (أحاديث) (1) الناس،
فكان يرسل إلى إذا نشط لذلك، وجن عليه الليل، فأسامره، فأتيت ذات ليلة،
ولم يكن عنده أحد، فسامرته ساعة، ثم أطرق، وفكر، ثم قال:
يا غلام، علي بالعباسي - يعني الفضل بن الربيع -.
فحضر، ودخل، فأذن له بالجلوس.
فقال: يا عباسي، إني عنيت بتولية العهد، ومثبت الأمر في محمد وعبد الله،
وقد علمت أني إن وليت محمدا مع ركوبه هواه، وانهماكه في اللهو واللذات
خلط على الرعية، وضيع الأمر، حتى يطمع فيه الأقاصي من أهل البغي والمعاصي،
وإن صرفت الأمر إلى عبد الله ليسلكن بهم المحجة، وليصلحن المملكة، وإن فيه
لحزم المنصور وشجاعة المهدي، فما ترى؟
قال الفضل: يا أمير المؤمنين، إن هذا أمر خطير عظيم، والزلة فيه لا تستقال،
وللكلام فيه مكان غير هذا.
فعلمت أنهما يحبان الخلوة، فقمت عنهما، وجلست ناحية من صحن الدار،
فما زالا يتناظران إلى أن أصبحا.

(1) بياض في الأصل مكان ما بين الحاصرتين.
389

واتفق رأيهما على تولية محمد العهد، وتصيير عبد الله من بعده، وقسمه الأموال
والجنود بينهما، وأن يقيم محمد بدار الخلافة، ويتولى المأمون خراسان.
فلما أصبح أمر بجميع القواد، فاجتمعوا إليه، فدعاهم إلى بيعة محمد، ومن
بعده إلى بيعة المأمون، فأجابوا إلى ذلك، وبايعوا.
وفي سنة ثمانين ومائة (1) عقد الرشيد لعلي بن عيسى بن ماهان على خراسان، وفي
ذلك العام خرج الرشيد إلى أرض الشام، وأخذ على الموصل، فلما وافاها أمر بهدم
مدينتها، وقد كانوا وثبوا بعاملة.
* * *
وفي ذلك العام وثب أهل خراسان بعاملهم، فقتلوه، فأقام بالشام عامه ذلك،
ثم خرج حاجا، فلما انصرف قصد الأنبار، فنزل به بمدينة أبي العباس، وهي من
الأنبار على نصف فرسخ، وقد كان بقي بها جمع عظيم من أبناء أهل خراسان،
توالدوا بها حتى كثروا، فهم إلى الآن، فأقام بها شهرا، ثم توجه منها إلى الرقة (2)
فأقام بها شهرا.
وخرج منها غازيا إلى أرض الروم، فافتتح مدينة من مدنهم، تسمى
(معصوف). ثم انصرف إلى الرقة، فأقام بها بقية عامه ذلك.
فلما كان أوان الحج، حج، فقضى نسكه، وجعل منصرفه على الرقة، فأقام
بها، وولى يزيد بن مزيد أرمينية، ثم قدم من الرقة سنة أربع وثمانين ومائة حتى
وافى مدينة السلام، ونزل قصره بالرصافة (3)، وأخذ عماله بالبقايا، ثم سار من
مدينة السلام في سنة خمس وثمانين ومائة عائدا إلى الرقة، وقد كان استطابها
. فلما كان أوان الحج حج، فمر بالمدينة، فأعطاهم ثلاث أعطيات، وأعطى أهل مكة
عطاءين، ثم انصرف، فقصد الأنبار، فأقام بها شهرا، ثم انصرف إلى مدينة السلام.

(1) سنة 796 م.
(2) مدينة على نهر الفرات كان بها قصران لهشام بن عبد الملك.
(3) محلة بالجانب الشرقي من بغداد، كان المهدي قد عسكر بها، فأمره المنصور أن يبني فيها
دورا، فالتحق بها الناس وعمروها، وفيها قبور جماعة من الخلفاء العباسيين.
390

ثم عقد البيعة لابنه القاسم بعد محمد وعبد الله، وولاه الشام، فوجه القاسم
عليها عماله.
وحج الرشيد سنة ثمان وثمانين ومائة، وانصرف فنزل الحيرة (1)، فأقام بها أياما،
ثم دخل مدينة السلام.
وفي سنة تسع وثمانين سار إلى الري فأقام بها شهرا، ثم انصرف نحو مدينة
السلام، فضحى بقصر اللصوص (2)، ثم دخل بغداد، ولم ينزلها، ومضى حتى
انتهى إلى السالحين (3)، وهي من مدينة السلام على ثلاثة فراسخ، فبات بها ثم سار عامدا للرقة حتى
وافاها، وأمر عند ممره ببغداد بخشبة جعفر بن يحيى أن تحرق، وأقام
بالرقة بقية ذلك العام.
فلما دخلت سنة تسعين ومائة خرج غازيا لأرض الروم حتى أوغل فيها وانتهى إلى
هرقلة (4)، فافتتحها.
* * *
وفي ذلك العام خرج رافع بن نصر بن سيار مغاضبا بأرض خراسان، وكان
سبب خروجه أن علي بن عيسى بن ماهان لما ولى خراسان أساء السيرة، وتحامل على من
كان بها من العرب، وأظهر الجور، فخرج عليه رافع، فواقعه وقعات، ثم انحاز فيمن
اتبعه من أهل خراسان، وكانوا زهاء ثلاثين ألف رجل في سمرقند، وأقام بمدينتها.
وبلغ ذلك الرشيد، فعزل علي بن عيسى عنها، واستعمل عليها هرثمة
بن أعين.
ثم انصرف الرشيد قافلا من الروم حتى نزل بمدينة السلام عامه ذلك، واستخلف
ابنه محمدا على دار المملكة، وخرج عامدا لأرض خراسان ليتولى حرب رافع بنفسه.
ودخلت سنة اثنتين وتسعين ومائة وفيها خرجت (الخرمية) (5) بأرض الجبل

(1) مدينة كانت على ثلاثة أميال من الكوفة على النجف، وكانت مسكن ملوك العرب في
الجاهلية، النعمان وآباؤه، وسموها بالحيرة البيضاء لحسنها.
(2) سمى بذلك لأن جيشا من المسلمين نزلوا به، فسرقت دوابهم.
(3) قرية من نهر عيسى ببغداد، وهي السيلحين التي بات بها المثنى بن حارثة وصبح،
فأغار على سوق بغداد.
(4) مدينة ببلاد الروم، قرب صفين فتحها الرشيد وسبى أهلها وقد خربت، ولم يبق منها آثار عمارة.
(5) طائفة تنسب إلى بابك الخرمي، وتدين بما
تدين الباطنية أولاد المجوس الذين تأولوا آيات القرآن وسنن النبي على موافقة أصواتهم.
391

في المرة الأولى، فوجه إليهم محمد الأمين بعبد الله بن مالك الخزاعي، فقتل منهم مقتلة
عظيمة، وشرد بقيتهم في البلدان.
وسار الرشيد حتى وافى مدينة طوس (1)، فنزل في دار حميد الطوسي، ومرض
بها مرضا شديدا، فجمع له الأطباء يعالجونه، فقال:
إن الطبيب بطبه ودوائه * لا يستطيع دفاع محذور جرى
ما للطبيب يموت بالداء الذي * قد كان يشفي مثله فيما مضى
فلما اشتد به الوجع قال للفضل بن الربيع:
يا عباسي، ما تقول الناس؟
قال:
يقولون، إن شاني أمير المؤمنين قد مات.
فأمر أن يسرج له حمار ليركبه، ويخرج، فأسرج له، وحمل حتى وضع على
السرج، فاسترخت فخذاه ولم يستطع الثبوت.
فقال: أرى الناس قد صدقوا.
ثم توفي.
وذلك في سنة ثلاث وتسعين ومائة يوم السبت، لخمس ليال خلون من جمادى
الآخرة (2)، وكانت خلافته ثلاثا وعشرين سنة، وشهرا ونصفا.
[تولية محمد الأمين]
فأتت الخلافة محمدا الأمين ببغداد، يوم الخميس للنصف من جمادى الآخرة، ونعاه
للناس يوم الجمعة، ودعاهم إلى تجديد البيعة، فبايعوا.
ووصل الخبر بوفاة الرشيد إلى المأمون، وهو بمدينة مرو، يوم الجمعة لثمان خلون
من الشهر، فركب إلى المسجد الأعظم، ونودي في الجنود وسائر الوجوه،
فاجتمعوا، وصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي وآله، ثم قال:

(1) مدينة بالقرب من نيسابور، بها آثار إسلامية جلية، وكان بها دار حميد قحطبة.
(2) الموافق 27 مارس سنة 808 م.
392

أيها الناس، أحسن الله عزاءنا وعزاءكم في الخليفة الماضي، صلوات الله عليه،
وبارك لنا ولكم في خليفتكم الحادث، مد الله في عمره.
ثم خنقته العبرة، فمسح عينه بسواده.
ثم قال:
- يا أهل خراسان، جددوا البيعة لإمامكم الأمين.
فبايعه الناس جميعا.
ولما أتت الخلافة محمدا، وبايعه الناس دخل عليه الشعراء، وفيهم الحسن
ابن هانئ (1)، فأنشدوه، وقام الحسن في آخرهم، فأنشده قوله:
إلا دارها بالماء حتى تلينها * فلن تكرم الصهباء حتى تهينها
وحمراء قبل المزج صفراء بعده * كان شعاع الشمس يلقاك دونها
كان يواقيتا رواكد حولها * وزرق سنانير تدير عيونها (2)
لقد جلل الله الكرامة أمة * يكون أمير المؤمنين أمينها
حميت حماها بالقنابل والقنا * ووفرت دنياها عليها ودينها
يراك بنو المنصور أولاهم بها * وإن أظهروا غير الذي يكتمونها
فوصلهم جميعا، وفضله.
* * *
ثم إن محمد الأمين دعا إسماعيل بن صبيح كاتب السر، فقال:
- ما الذي ترى يا ابن صبيح؟
قال: أرى دولة مباركة، وخلافة مستقيمة، وأمرا مقبلا، فتمم الله
ذلك لأمير المؤمنين بأفضله وأجزله.

(1) وهو المشهور بأبي نواس.
(2) السنانير جمع سنور وهو القط.
393

قال له محمد: إني لم أبغك قاصا، إنما أردت منك الرأي.
قال إسماعيل: إن رأى أمير المؤمنين أن يوضح لي الأمر لأشير عليه بمبلغ رأيي
ونصحي فعل.
قال: إني قد رأيت أن أعزل أخي عبد الله من خراسان، واستعمل عليها
موسى ابن أمير المؤمنين.
قال إسماعيل: أعيذك بالله يا أمير المؤمنين أن تنقض ما أسسه الرشيد، ومهده،
وشيد أركانه.
قال محمد: إن الرشيد موه عليه في أمر عبد الله بالزخرفة، ويحك يا بن صبيح،
إن عبد الملك بن مروان كان أحزم رأيا منك، حيث قال: (لا يجتمع فحلان
في هجمة إلا قتل أحدهما صاحبه).
قال إسماعيل: أما إذ كان هذا رأيك، فلا تجاهره، بل اكتب إليه،
وأعلمه حاجتك إليه بالحضرة، ليعينك على ما قلدك الله من أمر عباده وبلاده، فإذا
قدم عليك، وفرقت بينه وبين جنوده كسرت حده، وظفرت به، وصار رهنا
في يديك، فائت في أمره ما أردت.
قال محمد: أجدت يا ابن صبيح، وأصبت، هذا لعمري الرأي.
ثم كتب إليه يعلمه أن الذي قلده الله من أمر الخلافة والسياسة قد أثقله،
ويسأله أن يقدم عليه ليعينه على أموره، ويشير عليه بما فيه مصلحته، فإن ذلك
أعود على أمير المؤمنين من مقامه بخراسان، وأعمر للبلاد، وأدر للفئ، وأكبت
للعدو، وآمن للبيضة.
ثم وجه الكتاب مع العباس بن موسى، ومحمد بن عيسى، وصالح صاحب المصلى.
فساروا نحو خراسان، فاستقبلهم طاهر بن الحسين مقبلا من عند المأمون
على ولاية الري، حتى انتهوا إلى المأمون وهو بمدينة مرو، فدخلوا عليه، وأوصلوا
الكتاب إليه، وتكلموا.
394

فذكروا حاجة أمير المؤمنين الأمين إليه، وما يرجو في قربه من بسط المملكة،
والقوة على العدو، فأبلغوا في مقالتهم.
وأمر المأمون بإنزالهم وإكرامهم.
ولما جن عليه الليل بعث إلى الفضل بن سهل، وكان أخص وزرائه عنده،
وأوثقهم في نفسه، وقد كان جرب منه وثاقة رأي وفضل حزم، فلما أتاه
خلا به، وأقرأه كتاب محمد، وأخبره بما تكلم به الوفد من أمر التحضيض
على المسير إلى أخيه ومعاونته على أمره.
قال الفضل: ما يريد بك خيرا، وما أرى لك إلا الامتناع عليه.
قال المأمون: فكيف يمكنني الامتناع عليه، والرجال والأموال معه،
والناس مع المال؟
قال الفضل: أجلني ليلتي هذه لآتيك غدا بما أرى
. قال له المأمون: امض في حفظ الله
. فانصرف الفضل بن سهل إلى منزله، وكان منجما، فنظر ليلته كلها في حسابه
ونجومه، وكان بها ماهرا.
فلما أصبح غدا على المأمون، فأخبره أنه يظهر على محمد ويغلبه، ويستولي
على الأمر.
فلما قال له ذلك، بعث إلى الوفد، فأحسن صلاتهم وجوائزهم، وسألهم أن
يحسنوا أمره عند الأمين، ويبسطوا من عذره.
وكتب معهم إليه:
(أما بعد، فإن الإمام الرشيد ولاني هذه الأرض على حين كلب من عدوها،
ووهى من سدها، وضعف من جنودها، ومتى أخللت بها، أو زلت عنها
لم آمن انتقاض الأمور فيها، وغلبة أعدائها عليها، بما يصل ضرره إلى أمير المؤمنين
حيث هو، فرأى أمير المؤمنين في أن لا ينقض ما أبرمه الإمام الرشيد).
وسار القوم بالكتاب حتى وافوا به الأمين، وأوصلوا الكتاب إليه.
395

فلما قرأه جمع القواد إليه، فقال لهم:
إني قد رأيت صرف أخي عبد الله عن خراسان، وتصييره معي ليعاونني،
فلا غنى بي عنه، فما ترون؟
فأسكت القوم.
فتكلم خازم بن خزيمة، فقال: يا أمير المؤمنين، لا تحمل قوادك وجنودك
على الغدر فيغدروا بك، ولا يرون منك نقض العهد فينقضوا عهدك.
قال محمد: ولكن شيخ هذه الدولة علي بن عيسى بن ماهان لا يرى ما رأيت،
بل يرى أن يكون عبد الله معي ليؤازرني ويحمل عني ثقل ما أنا فيه بصدده.
ثم قال لعلي بن عيسى: إني قد رأيت أن تسير بالجيوش إلى خراسان، فتلي أمرها
من تحت يدي موسى بن أمير المؤمنين، فانتخب من الجنود والجيوش على عينك.
ثم أمر بديوان الجند، فدفع إليه، فانتخب ستين ألف رجل من إبطال
الجنود وفرسانهم، ووضع لهم العطاء، وفرق فيهم السلاح، وأمره بالمسير.
فخرج بالجيوش، وركب معه محمد، فجعل يوصيه، ويقول: أكرم من هناك من
قواد خراسان، وضع عن أهل خراسان نصف الخراج، ولا تبق على أحد يشهر
عليك سيفا، أو يرمي عسكرك بسهم، ولا تدع عبد الله يقيم إلا ثلاثا من يوم تصل
إليه، حتى تشخصه إلى ما قبلي).
وقد كانت زبيدة تقدمت إلى علي بن عيسى، وكان إناها مودعا، فقالت له:
إن محمدا، وإن كان ابني وثمرة فؤادي، فإن لعبد الله من قلبي نصيبا وافرا من
المحبة، وأنا التي ربيته، وأنا أحنو عليه، فإياك أن يبدأه منك مكروه، أو تسير أمامه،
بل سر إذا سرت معه من ورائه، وإن دعاك فلبه، ولا تركب حتى يركب قبلك،
وخذ بركابه إذا ركب، وأظهر له الإجلال والإكرام).
ثم دفعت إليه قيدا من فضة وقالت:
إن استعصى عليك في الشخوص فقيده بهذا القيد).
وإن محمد انصرف عنه بعد أن أوعز إليه، و أوصاه بكل ما أراد.
396

وسار علي بن عيسى بن ماهان حتى صار إلى حلوان، فاستقبله عير مقبلة من
الري، فسألهم عن خبر طاهر، فأخبروه أنه يستعد للحرب، فقال: وما طاهر؟
ومن طاهر؟ ليس بينه وبين أخلاء الري إلا أن يبلغه أني جاوزت عتبة همذان.
ثم سار حتى خلف عتبة همذان وراءه، فاستقبله عير أخرى، فسألهم عن الخبر.
فقالوا: إن طاهرا قد وضع العطاء لأصحابه، وفرق فيهم السلاح، واستعد للحرب.
فقال: في كم هو؟
فقالوا: في زهاء عشرة آلاف رجل.
فأقبل الحسن بن علي بن عيسى على أبيه فقال:
- يا أبت، إن طاهرا لو أراد الهرب لم يقم بالري يوما واحدا.
فقال: يا بني، إنما تستعد الرجال لأقرانها، وإن طاهرا ليس عندي من الرجال
الذين يستعدون لمثلي، ويستعد له مثلي.
و ذكروا أن مشايخ بغداد قالوا: لم نر جيشا كان أظهر سلاحا، ولا أكمل عدة،
ولا أفره خيلا، ولا أنبل رجالا من جيش علي بن عيسى يوم خرج، إنما كانوا نخبا.
وإن طاهر بن الحسين جمع إليه رؤساء أصحابه فاستشارهم في أمره، فأشاروا
عليه، أن يتحصن بمدينة الري، ويحارب القوم من فوق السور إلى أن يأتيه مدد
من المأمون.
فقال لهم: ويحكم، إني أبصر بالحرب منكم، إني متى تحصنت استضعفت
نفسي، ومال أهل المدينة إليه لقوته، وصاروا أشد على من عدوي، لخوفهم من علي
ابن عيسى، ولعله أن يستميل بعض من معي بالأطماع، والرأي إن ألف الخيل
بالخيل، والرجال بالرجال، والنصر من عند الله.
ثم نادى في جنوده بالخروج عن المدينة، وأن يعسكروا بموضع يقال له (القلوصة).
فلما خرجوا عمد أهل الري إلى أبواب مدينتهم، فأغلقوها.
397

فقال طاهر لأصحابه: يا قوم، اشتغلوا بمن أمامكم، ولا تلتفتوا إلى من وراءكم،
واعلموا أنه لا وزر لكم ولا ملجأ إلا سيوفكم ورماحكم، فاجعلوها
حصونكم.
وأقبل علي بن عيسى نحو القلوصة، فتواقف العسكران للحرب، والتقوا،
فصدقهم أصحاب طاهر الحملة.
فانتقضت تعبية علي بن عيسى، وكانت منهم جولة شديدة، فناداهم علي
ابن عيسى، وقال:
- أيها الناس، ثوبوا، واحملوا معي.
فرماه رجل من أصحاب طاهر، فأثبته، وبعد أن دنا منه، وتمكن رماه بنشابة
وقعت في صدره، فنفذت الدرع والسلاح حتى أفضت إلى جوفه، وخر مغشيا عليه ميتا.
واستوت الهزيمة بأصحابه.
فما زال أصحاب طاهر يقتلونهم، وهم مولون حتى حال الليل بينهم، وغنموا
ما كان في معسكرهم من السلاح والأموال.
وبلغ ذلك محمدا، فعقد لعبد الرحمن الأبناوي في ثلاثين ألف رجل من الأبناء،
وتقدم إليهم، ألا يغتروا كاغترار علي بن عيسى، ولا يتهاونوا كتهاونه.
فسار عبد الرحمن حتى وافى همذان.
وبلغ ذلك طاهرا، فتقدم، وسار نحوه، فالتقوا جميعا، فاقتتلوا شيئا من
قتال، فلم يكن لأصحاب عبد الرحمن ثبات، فانهزم، واتبعه أصحابه، فدخلوا
مدينة همذان، فتحصنوا فيها شهرا حتى نفد ما كان معهم من الزاد.
قال: فطلب عبد الرحمن الأبناوي الأمان له ولجميع أصحابه، فأعطاه
طاهر ذلك.
ففتح أبواب المدينة، ودخل الفريقان بعضهم في بعض.
وسار طاهر حتى هبط العقبة، فعسكر بناحية (أسد اباذ) (1).

(1) مدينة بهذان إلى ناحية العراق.
398

ففكر عبد الرحمن، وقال:
كيف أعتذر إلى أمير المؤمنين؟
فعبأ أصحابه.
فلما طلع الفجر زحف بأصحابه إلى طاهر، وهو غار، فوضع فيهم السيوف،
فوقفت طائفة من أصحاب طاهر رجالة، يذبون عن أصحابهم حتى ركبوا، واستعدوا،
ثم حملوا على عبد الرحمن وأصحابه، فأكثروا فيهم القتل.
فلما رأى ذلك عبد الرحمن ترجل في حماة أصحابه فقاتلوا حتى قتل عبد الرحمن،
وقتلوا معه.
* * *
وبلغ ذلك محمدا، فسقط في يده، وبرز جنوده، فعقد لعبد الله الحرشي، في
خمسة آلاف رجل، وليحيى بن علي بن عيسى، في مثل ذلك، فسارا حتى وافيا
(قرميسين) (1).
وبلغ طاهرا ذلك، فسار نحوهما، فانهزما من غير قتال حتى رجعا إلى حلوان،
فأقاما هناك.
فزحف طاهر نحو حلوان، فانهزما حتى لحق ببغداد، وأقام طاهر بحلوان حتى وافاه
هرثمة بن أعين من عند المأمون، في ثلاثين ألف رجل من جنود خراسان، فأخذ
طاهر من حلوان نحو البصرة والأهواز.
وتقدم هرثمة إلى بغداد، فلم تقم لمحمد قائمة حتى قتل، وكان من أمره
ما كان.
وإن طاهر بن الحسين صعد من البصرة، وتقدم هرثمة حتى أحدقا ببغداد،
وأحاطا بمحمد الأمين، ونصبا المنجنيق على داره حتى ضاق محمد بذلك ذرعا.
وكان هرثمة بن أعين يحب صلاح حال محمد، والإبقاء على حشاشة نفسه، فأرسل

(1) بلد قرب الدينور بين همذان وحلوان على جادة العراق.
399

إليه محمد يسأله القيام بأمره، وإصلاح ما بينه وبين المأمون، على أن يخلع نفسه عن
الخلافة، ويسلم الأمر لأخيه.
فكتب إليه هرثمة: (قد كان ينبغي لك أن تدعو إلى ذلك قبل تفاقم الأمر،
فأما الآن فقد بلغ السيل الزبى، وشغل الحلي أهله أن يعار، ومع ذلك فإني مجتهد
في إصلاح أمرك، فصر إلي ليلا، لأكتب بصورة أمرك إلى أمير المؤمنين،
وآخذ لك عهدا وثيقا، ولست آلو جهدا ولا اجتهادا في كل ما عاد بصلاح حالك،
وقربك إلى أمير المؤمنين).
فلما سمع ذلك محمدا استشار نصحاءه ووزراءه، فأشاروا بذلك عليه، وطمعوا
في بقاء مهجته.
فلما جنه الليل ركب في جماعة من خاصته وثقاته وجواريه، يريد العبور إلى
هرثمة.
فأحس طاهر بن الحسين بالمراسلة التي جرت بينهما والموافقة التي اتفقا عليها.
فلما أقبل محمد، وركب بمن معه الماء شد عليه طاهر، فأخذه ومن معه، ثم دعا به
في منزله، فاحتز رأسه، وأنفذه من ساعته إلى المأمون. وأقبل المأمون
حتى دخل مدينة السلام، وصفت له المملكة واستوسقت
له الأمور.
وكان قتل محمد الأمين ليلة الأحد لخمس خلون من المحرم، سنة ثمان وتسعين
ومائة (2)، وقتل، وله ثمان وعشرون سنة، وكانت ولايته أربع سنين
وثمانية أشهر.
[الخليفة عبد الله المأمون]
وبويع المأمون، وهو عبد الله بن الرشيد، يوم الاثنين لخمس بقين من المحرم
سنة ثمان وتسعين ومائة.

(2) مثل عربي، يضربه المسؤول شيئا هو أحوج إليه من السائل - مجمع الأمثال ج 2 ص 330
(3) أي سنة 903 م.
400

وكان شهما، بعيد الهمة، أبي النفس، وكان نجم ولد العباس في العلم
والحكمة، وقد كان أخذ من جميع العلوم بقسط، وضرب فيها بسهم، وهو الذي
استخرج كتاب إقليدس من الروم، وأمر بترجمته وتفصيله، وعقد المجالس
في خلافته للمناظرة في الأديان والمقالات، وكان أستاذه فيها أبا الهذيل محمد بن
الهذيل العلاف.
ودخل بلاد الجزيرة والشام، فأقام بها مدة طويلة، ثم غزا الروم، وفتح فتوحا
كثيرة، وأبلى بلاء حسنا.
ثم توفى على نهر (البذندون) (1)، ودفن بطرسوس يوم الأربعاء لثمان خلون
من رجب سنة ثمان عشرة ومائتين (2).
وكانت ولايته عشرين سنة وخمسة أشهر وثلاثة عشر يوما، وقد كان بلغ من
السن تسعا وثلاثين سنة.
وقد كان بايع لابنه العباس بن المأمون بولاية العهد من بعده. وخلفه بالعراق.
[ولاية محمد المعتصم]
فلما مات هو على نهر البذندون جمع أخوه أبو إسحاق محمد بن هارون المعتصم بالله
إليه وجوه القواد والأجناد، فدعاهم إلى بيعته، فبايعوه.
فسار من طرسوس حتى وافى مدينة السلام، فدخلها، وخلع العباس بن
المأمون عنها، وغلبه عليها، وبايعه الناس بها.
وكان قدومه بغداد مستهل شهر رمضان سنة ثمان عشرة ومائتين، فأقام بها
سنتين، ثم مر بأتراكه إلى (سر من رأى) فابتناها، واتخذها دارا ومعسكرا.

(1) في الأصل نهر البدندون والصحيح ما ذكر، وهو نهر سمي باسم البلد بذندون، وهي
قرية من طرسوس.
(2) الموافقة سنة 209 م.
401

وكانت في خلافته فتوحات لم تكن لأحد من الخلفاء الذين مضوا مثلها قبله.
فمنها فتح بابك، وأسره وقتله إياه، وصلبه، ومنها (مازيار) صاحب
قلعة طبرستان، فإنه تحصن في القلاع والجبال، فما زال به حتى أخذه، فقتله، وصلبه
إلى جنب بابك، ومنها جعفر الكردي، وقد كان أخرب البلاد وسبى الذراري،
فوجه الخيول في طلبه، ولم يزل به حتى أخذه وقتله، وصلبه إلى جنب بابك ومازيار،
ومن ذلك فتح (عمورية) وهي القسطنطينية الصغرى، والأخرى فتحها الله
على يديه.
* * *
وكان ابتداء أمر بابك، أنه تحرك في آخر أيام المأمون وقد اختلف الناس
في نسبه ومذهبه، والذي صح عندنا، وثبت، أنه كان من ولد مطهر بن فاطمة
بنت أبي مسلم، هذه التي ينتسب إليها الفاطمية من الخرمية، لا إلى فاطمة بنت
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنشأ بابك، والحبل مضطرب، والفتن متصلة،
فاستفتح أمره بقتل من حوله بالبذ، (1) وإخراب تك الأمصار والقرى التي حواليه،
لتصفو له البلاد، ويصعب مطلبه، وتشتد المئونة في التوصل إليه، واشتدت
شوكته، واستفحل أمره.
وقد كان المأمون وجه إليه حين اتصل به خبره عبد الله بن طاهر بن الحسين
في جيش عظيم.
فسار إليه، ونزل في طريقه الدينور (2)، في ظاهرها، في مكان يعرف إلى يومنا
هذا بقصر عبد الله بن طاهر، وهو كرم مشهور، ومكان مذكور.
ثم سار منها حتى وافى البذ، وقد عظم أمر بابك، وتهيبه الناس، فحاربوه،
فلم يقدروا عليه، ففض جمعهم، وقتل صناديدهم.

(1) البز كورة بين إيران وأذربيجان.
(2) بلد أبي حنيفة مؤلف الكتاب، وإليها ينسب.
402

وكان ممن قتل في تلك الوقعة محمد بن حميد الطوسي.
وهو الذي رثاه أبو تمام بقصيدته التي يقول فيها:
كأن بني نبهان يوم وفاته * نجوم سماء خر من بينها البدر
وفيها يقول:
فأثبت في مستنقع الموت رجله
وقال لها من تحت أخمصك الحشر
فلما أفضى الأمر إلى أبي إسحاق المعتصم بالله لم تكن همته غيره، فأعد له الأموال
والرجال، وأخرج مولاه الأفشين حيدر بن كاوس، فسار الأفشين بالعساكر
والجيوش حتى وافى برزند (1)، فأقام بها حتى طاب الزمان، وانحسرت الثلوج عن
الطرقات، ثم قدم خليفته [يوباره] (2) وجعفر بن دينار، وهو المعروف بجعفر
الخياط في جمع كثير من الفرسان إلى الموضع الذي كان فيه معسكر، وأمرهما أن
يحفرا خندقا حصينا، فسارا حتى نزلا هناك، واحتفرا الخندق
. فلما فرغا من حفر الخندق استخلف الأفشين ببرزند المرزبان، مولى المعتصم في جماعة
من القواد، وسار هو حتى نزل الخندق، ووجه يوباره، وجعفر الخياط في جمع كثيف
إلى رأس نهر كبير، وأمرهما بحفر خندق آخر هناك فسارا حتى احتفراه.
فلما فرغا وافاهما الأفشين، ثم خلف في موضعه محمد بن خالد بخاراخذاه،
وشخص إلى درود (3)، في خمسة آلاف فارس وألفي راجل، ومعه ألف رجل من الفعلة
حتى نزل درود، واحتفر بها خندقا عظيما وبنى عليها سورا شاهقا، فكان بابك
وأصحابه يقفون على جبال شاهقة، فيشرفون منها على العسكر، ويولولون.
ثم ركب الأفشين يوم الثلاثاء لثلاث بقين من شعبان في تعبية، وحمل المجانيق،
وأمر بابك آذين أن يحصن تلا مشرفا على المدينة، ومعه ثلاثة آلاف رجل، وقد
كان احتفر حوله الآبار ليمنع الخيل منهم.
فانصرف الأفشين يوما إلى خندقه، ثم غدا عليه يوم الجمعة في غرة شهر رمضان،

(1) بلد من بلاد إرمينية.
(2) في الأصل يوناره.
(3) كذا في الأصل، والصواب (دروذ) مكان في ثغر أذربيجان.
403

فنصب المجانيق والعرادات (1) على المدينة، وأحدقت القواد والرؤساء.
وأقبل بابك في أنجاد أصحابه، وعباهم، فقاتله (2) القواد قتالا شديدا إلى العصر،
ثم انصرفوا، وقد نكوا في أصحابه.
وأقام الأفشين ستة أيام، ثم ناهضه يوم الخميس لسبع ليال خلون من
شهر رمضان، واستعد له بابك، فوضع على البذ عجلا عظيما ليرسله إلى أصحاب
الأفشين.
ثم أرسل بابك رجلا يقال له (موسى الأقطع) إلى الأفشين، يسأله أن يخرج إليه
ليشافهه بما نفسه، فإن صار إلى مراده وإلا حاربه، فأجابه الأفشين إلى ذلك، فخرج
بابك حتى صار بالقرب من الأفشين في موضع بينهما واد.
فلما رأى الأفشين كفر له، فبسطه الأفشين، وأعلمه ما في الطاعة من السلامة
في الدنيا والآخرة، فلم يقبل ذلك.
فانصرف إلى موضعه، وأمر أصحابه بالحرب، فتسرعوا إلى ذلك، ودهدهوا (3)
العجل الذي كانوا أعدوه، فانكسر العجل، وثاب أصحاب الأفشين، فدفعوهم إلى
رأس الجبل.
وقد كان يوباره وجعفر الخياط وقفا بحذاء عبد الله أخي بابك، فحملا، وحمل
عليهم القواد من جميع النواحي، فقتلوهم قتلا ذريعا، وانهزموا حتى دخلوا المدينة،
فدخلوا خلفهم في طلبهم، وصارت الحرب في ميدان وسط المدينة.
وكانت حربا لم ير مثلها شدة، وقتلوا في الدور والبساتين، وهرب عبد الله
أخو بابك.
فلما رأى بابك أن العساكر قد أحدقت به، والمذاهب قد ضاقت عليه، وأن
أصحابه قد قتلوا وفلوا توجه إلى أرمينية، وسار حتى عبر نهر الرس متوجها إلى الروم.
فلما عبر نهر الرس قصد نحوه سهل بن سنباط صاحب الناحية، وقد كان

(1) جمع عرادة وهي آلة للحرب أصغر من المنجنيق.
(2) في الأصل فقاتلوه القواد.
(3) دهده: دحرج.
404

الأفشين كتب إلى أصحاب تلك النواحي، وإلى الأكراد بأرمينية، والبطارقة بأخذ
الطرق عليه.
فوافاه سهل بن سنباط، وقد كان بابك غير لباسه، وبدل زيه، وشد الخرق
على رجليه، وركب بغلة بإكاف (1)، فأوقع به سهل بن سنباط، فأخذه أسيرا.
ووجه به إلى الأفشين، فاستوثق منه الأفشين، وكتب إلى المعتصم بالفتح،
واستأذنه في القدوم عليه، فأذن له، فسار حتى قدم عليه، ومعه بابك وأخوه،
فكان من قتل المعتصم لبابك وقطع يديه ورجليه وصلبه ما هو مشهور.
قالوا: ولما قدم الأفشين ومعه بابك أجلسه المعتصم على سرير أمامه، وعقد التاج
على رأسه.
وفي ذلك يقول إسحاق بن خلف الشاعر في قصيدته التي مدح فيها المعتصم بالله:
ما غبت عن حرب تحرق نارها * بالبذ كنت هنا وأنت هناكا
عزت بأفشين حسامك أمة * والدين ممتسك به استمساكا
لما أتاك ببابك توجته * وأحق من أضحى له تاجاكا
ثم إن أحمد بن أبي داود وجد على الأفشين لكلام بلغه عنه، فأشار على المعتصم
أن يجعل الجيش نصفين نصفا مع الأفشين، ونصفا مع أشناس، ففعل
المعتصم ذلك.
فوجد الأفشين منه، وطال حزنه، واشتد حقده.
فقال أحمد بن أبي داود للمعتصم: يا أمير المؤمنين إن أبا جعفر المنصور استشار
أنصح الناس عنده في أمر أبي مسلم، فكان من جوابه أن قال (يا أمير المؤمنين إن
الله تعالى يقول (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) فقال له المنصور:
(حسبك)، ثم قتل أبا مسلم).

(1) الإكناف: بردعة الحمار.
405

فقال له المعتصم: (أنت أيضا حسبك يا أبا عبد الله)، ثم وجه إلى الأفشين،
فقتله.
وزعموا، انهم كشفوا عنه فوجدوه غير مختون.
ومات المعتصم بالله يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول
سنة سبع وعشرين ومائتين (1)، وصلى عليه أبو عبد الله أحمد بن أبي داود، وكان
المعتصم أوصى إليه بالصلاة عليه، وكانت ولايته ثماني سنين وثمانية أشهر وسبعة
عشر يوما، وكان قد بلغ من السن تسعا وثلاثين سنة.
* * *
وهذا آخر كتاب الأخبار الطوال على ما جمعه أبو حنيفة أحمد بن داود
الدينوري رحمه الله تعالى ورضي عنه.

(1) الموافق 9 يناير 842 م.
406