الكتاب: جراب النورة بين اللغة والاصطلاح
المؤلف: السيد محمد رضا الجلالي
الجزء:
الوفاة: معاصر
المجموعة: أهم مصادر رجال الحديث عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

جراب النورة بين اللغة والاصطلاح
السيد محمد رضا الحسيني الجلالي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المصطفى، وعلى
الأئمة المعصومين من آله.
وبعد، فقد تتبعنا مصادر التراث الإسلامي، للوقوف على هذه العبارة،
ومفرداتها، لأجل التحقيق عن مؤداها، فوجدنا أن لكلمة " جراب " دورا في
مجالات من المعارف الإسلامية ومصادرها، ولعبارة " جراب النورة " دورا آخر في
المعارف والمصادر، كذلك.
فأفردنا لكل منهما مقاما للبحث:
المقام الأول: حول كلمة " جراب " لغة، واصطلاحا
1 - مدلولها اللغوي:
قال في لسان العرب: الجراب: الوعاء، معروف، وقيل: هو المزود والعامة
تفتحه فتقول الجراب - والجمع: أجربة، وجرب، وجرب.
9

والجراب: وعاء من إهاب (1) الشاء، لا يوعى فيه إلا يابس (2).
وقال في القاموس ممزوجا بشرحه تاج العروس (3)، ما نصهما:
(الجراب) بالكسر (ولا يفتح، أو) الفتح (لغية) إشارة إلى الضعف (في ما حكاه)
القاضي (عياض) بن موسى اليحصبي، في المشارق، عن القزاز (وغيره) كابن السكيت،
ونسبه الجوهري وابن منظور للعامة: (المزود، أو الوعاء) معروف، فهو أعم من المزود.
وقيل: هو وعاء من إهاب الشاء لا يوعى فيه إلا يابس، وقد يستعمل في قراب السيف مجازا.
(جمعه: جرب) ككتاب وكتب على القياس (وجرب) بضم فسكون، مخفف من الأولى، ذكره ابن منظور في
لسان العرب وغيره (وأجربة) قال الفيومي: إنه مسموع فيه، حكاه الجوهري وغيره (4).
2 - موارد الكلمة في الحديث الشريف:
استعملت كلمة " جراب " وما يتبعها من التثنية والجمع في موارد كثيرة من الأحاديث في التراث الإسلامي، نذكر بعضها:
1 - ما رواه الأئمة من أهل البيت عليهم السلام في " ما جمع من ألفاظ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
فأسندوه عنه " وهو الكتاب المعروف باسم " الجعفريات " الذي رواه الإمام الكاظم عن أبيه
جعفر بن محمد عن أبيه، عن جده علي بن الحسين، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب عليهم السلام، قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: القلوب أربعة: فقلب فيه إيمان وليس فيه قرآن، وقلب
.

(1) الإهاب هو الجلد.
(2) لسان العرب: (جرب) 5831 طبع مصر.
(3) الوارد داخل الأقواس هو متن القاموس، والخارج منها هو شرحه تاج العروس.
(4) تاج العروس (جرب) 1791 من طبعة مصر الأولى، و 1492 من الطبعة الحديثة المحققة
10

فيه قرآن وإيمان، وقلب فيه قرآن وليس فيه إيمان، وقلب لا قرآن فيه ولا إيمان.
فأما القلب الذي فيه إيمان وليس فيه قرآن: كالتمرة، طيب طعمها وليس
لها ريح.
وأما القلب الذي فيه قرآن وليس فيه إيمان: كالأشنة (1) طيب ريحها،
خبيث طعمها.
وأما القلب الذي فيه قرآن وإيمان: كجراب المسك: إن فتح فتح طيبا، وإن وعي وعي طيبا.
وأما القلب الذي لا قرآن فيه ولا إيمان: كالحنظلة: خبيث ريحها
خبيث طعمها (1).
2 - ومن مسند عثمان:
بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفدا إلى اليمن، فأمر عليهم أميرا منهم، وهو أصغرهم، فمكث
أياما لم يسر، فلقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجلا منهم،
فقال: يا فلان، أما انطلقت؟
فقال: يا رسول الله، أميرنا يشتكي رجله.
فأتاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ونفث عليه: " باسم الله وبالله أعوذ بالله وبعزة الله وقدرته
من شر ما فيها " سبع مرات، فبرأ الرجل.
فقال له رجل: يا رسول الله، أتؤمره علينا وهو أصغرنا؟
فذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأته للقرآن.
فقال الشيخ: يا رسول الله، لولا أني أخاف أن أتوسده فلا أقوم به، لتعلمته
فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تفعل، تعلم القران
فإنما مثل القرآن كجراب ملأته مسكا، ثم ربطت على فيه، فإن فتحته فاح

(1) في لسان العرب (أشن): الأشنة: شئ من الطيب أبيض كأنه مقشور قال ابن بري: الأشن: شئ من العطر أبيض
دقيق كأنه مقشور من عرق 861.
(2) الجعفريات ب 533، ص 230، المعنون (كتاب غير مترجم)، وعنه في مستدرك الوسائل 2314 تسلسل
4568 ورواه أبو الرضا الراوندي في نوادر الراوندي ص 4 رقم 26، وعنه في بحار الأنوار 70 / 60 رقم 40.
11

إليك ريح المسك، وإن تركته كان مسكا موضوعا، كذلك مثل القرآن إذا قرأته أو
كان في صدرك (1).
3 - ما رواه البخاري في تاريخه الكبير - بسنده - عن عطاء مولى أبي أحمد،
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: مثل القرآن كمثل " جراب " محشو مسكا تفوح ريحه (2).
4 - ووردت الكلمة في سيرة الإمام أبي عبد الله الحسين بن علي الشهيد عليه السلام.
ففي المناقب: شعيب بن عبد الرحمن الخزاعي، قال: وجد على ظهر الحسين بن
علي يوم الطف أثر، فسألوا زين العابدين عليه السلام عن ذلك؟ فقال: هذا مما كان ينقل
الجراب على ظهره إلى منازل الأرامل واليتامى والمساكين (3).
وفي سيرته عليه السلام كذلك: لما عزم على الخروج إلى العراق من مكة، قام خطيبا،
فقال: الحمد لله، وما شاء الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصلى الله على رسوله
وسلم، خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي
اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرع أنا لاقيه، كأني بأوصالي تتقطعها
عسلان الفلوات - بين النواويس وكربلا x - فيملأن مني أكراشا جوفا، وأجربة

(1) رواه في كنز العمال 2 / 287 رقم 4020، عن: قط [الدارقطني] في الأفراد، طس [الطبراني في الأوسط
7 / 150 ح 7126 ط الرياض] والبغوي في مسند عثمان أقول: ورواه الترمذي في نوادر الأصول 2 / 239
معنونا للأصل 253 بعنوان: القرآن كجراب المسك. ورواه في مجمع الزوائد 1617 باب فضل القرآن، عن
الطبراني في الأوسط.
(2) كذا في التاريخ الكبير 4626 ولم يجئ فيه ذكر (أبي هريرة) بين عطاء والنبي وقد صححه، لكن رواه
المزي في تهذيب الكمال 2 / 455 ضمن حديث طويل:... عن عطاء، عن أبي هريرة، وصدره: بعث النبي
بعثا فاستقرأهم... وفيه: فقال رسول الله تعلموا القرآن وعلموه، واقرئوه وقوموا به، فإن مثل القرآن...
الحديث.
وقال محقق تهذيب الكمال: هو في سنن النسائي في السير، وهو القسم الذي أسقطه ابن السني، وأخرجه
بطوله الترمذي في الجامع الصحيح برقم (2876) في فضائل القرآن...، وهو في سنن ابن ماجة مختصرا
في المقدمة، وحسنه الترمذي وصححه ابن حبان (1789) (ش).
وأورده المزي في تهذيب الكمال 30201 في ترجمة (عطاء) ونقله محققه في الهامش عن: السنن الكبرى
للنسائي وقال: كما في تحفة الأشراف (42421).
(3) بحار الأنوار 90441 - 1.
12

سغبا، لا محيص عن يوم خط بالقلم، رضا الله رضانا أهل البيت نصبر على بلائه
ويوفينا أجور الصابرين.
لن تشذ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لحمته، بل هي مجموعة له في حظيرة (1) القدس،
تقر بهم عينه، وينجز وعده.
من كان باذلا فينا مهجته، وموطنا على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا، فإني
راحل، مصبحا، إن شاء الله (2).
5 - وفي سيرة الإمام زين العابدين عليه السلام، جاء ذكر الجراب مكررا:
أ: فعن الإمام الباقر عليه السلام - عندما ذكر أباه -: كان عليه السلام ليخرج في الليلة الظلماء،
فيحمل الجراب على ظهره، وفيه الصرر من الدنانير والدراهم، وربما حمل على
ظهره الطعام أو الحطب، حتى يأتي بابا بابا، فيقرعه ثم يناول من يخرج إليه، وكان
يغطي وجهه إذا ناول فقيرا، لئلا يعرفه، فلما توفي عليه السلام فقدوا ذلك، فعلموا أنه كان
علي بن الحسين عليه السلام (3)
ب: وجاء في حديث آخر:... وكثيرا ما كانوا قياما على أبوابهم ينتظرونه
فإذا رأوه تباشروا به، وقالوا: جاء صاحب الجراب (4).
وفي حلية الأولياء: قال عمرو بن ثابت: لما مات علي بن الحسين، فغسلوه،
جعلوا ينظرون إلى آثار سواد في ظهره، وقالوا: ما هذا؟
فقيل: كان يحمل جرب الدقيق ليلا على ظهره يعطيه فقراء أهل المدينة (5).

(1) حظيرة القدس: الجنة. وفي حديث النبي: " الثابت على سنتي معي في حظيرة
القدس " و " لا يلج حظيرة القدس مدمن الخمر ". (الحيدري)
(2) بحار الأنوار 44 / 6 - 367 عن الملهوف لابن طاوس ص 126 باختلاف ورواه الإربلي في كشف الغمة 29 / 2
وانظر موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام 328.
(3) بحار الأنوار 42 / 62.
(4) بحار الأنوار 42 / 89.
(5) بحار الأنوار 42 / 90.
13

6 - وما رواه المحدث الأقدم أبو محمد الصفار - بسنده - إلى الإمام جعفر بن
محمد الصادق عليه السلام - لما قيل له عمن يقول: هذا في جفركم الذي تدعون؟
قال عليه السلام: أما قوله في الجفر، فإنما هو جلد ثور مذبوح، كالجراب، فيه كتب
وعلم ما يحتاج الناس إليه، إلى يوم القيامة، من حلال وحرام، إملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
وخط علي عليه السلام بيده، وفيه مصحف فاطمة عليها السلام، ما فيه آية من القرآن، وإن عندي
خاتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودرعه وسيفه ولوائه، وعندي الجفر، على رغم أنف
من رغم (1)
7 - ورووا عن أبي هريرة قوله: حفظت ثلاثة أجربة، بثثت منها جرابين (2).
وقيل عنه: إنه حفظ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خمس جرب أحاديث، وقال: إني
أخرجت منها جرابين، ولو أخرجت الثالث لرميتموني بالحجارة (3).
3 - وفي الحضارة العامة:
استعملت كلمة الجراب بمعناها اللغوي، أي الوعاء، في الحوار التالي: كان
الناس يتبعون ربيعة الرأي ويعملون بفقهه، وكان أبو الزناد أفقه منه
فقيل لأبي الزناد: أنت أفقه، والعمل على ربيعة؟
فقال: ويحك كف من حظ، خير من جراب من علم (4).
8 - واستعملت الكلمة في علم الرجال، بالأشكال التالية:

(1) بحار الأنوار 226 - 43 عن بصائر الدرجات ص 2 و 43 والبحار - أيضا - 26 / 49 عن البصائر ص 44.
(2) نقله ابن حجر في فتح الباري 1 / 192 عن المسند.
(3) نقله الرامهرمزي في المحدث الفاصل ص 556 رقم 749، وقال محققه: نحوه في طبقات ابن سعد 574 ق 2،
و 2 / 118، ق 2، وانظر فتح الباري 1 / 327 وحلية الأولياء 1 / 381 والبداية والنهاية 8 / 105 وتذكرة الحفاظ
1 / 34. أقول أما تذكرة الحفاظ فالمذكور فيه ص 35 حديث أبي هريرة عن الوعائين وقوله: لو بثثته لقطع هذا
البلعوم، وقد أخرجه البخاري في صحيحه 1 / 41 لاحظ تدوين السنة الشريفة ص 487.
(4) سير أعلام النبلاء ء 5 / 447 عن أبي حنيفة، وانظر تهذيب التهذيب 5 / 179، وبلفظ: " ما علمتم أن مثقالا من
دولة خير من حمل علم "، لاحظ تاريخ بغداد 8 / 424.
14

أولا: سمي بها:
فبنو جراب بن وشاح، يقال لهم " الجواربة " ذكرهم ابن خلدون في تاريخه (1).
ثانيا: ولقب بها:
فجراب، لقب يعقوب بن إبراهيم بن أحمد بن عيسى أبي بكر البزاز (2).
وجراب الدولة: لقب: أحمد بن محمد السجستاني صاحب النوادر، قاله ابن
حجر في النزهة عن ياقوت (3).
واستعملت " جراب الكذب " نبزا لبعض رواة العامة، كما سيأتي.
ثالثا: وكني بها:
فإسماعيل بن يعقوب يقال له ابن الجراب (4) لكون أبيه السابق ذكره يلقب
ب - " الجراب ".
وجاء عند ياقوت ذكر: سداد بن أبي جراب (5).
رابعا: واستعملت نسبة، فقيل: الجرابي:
فإسماعيل المذكور يقال له: " الجرابي " بياء النسبة (6).
خامسا: كما نسب إلى جمع الكلمة فقيل: " الجربي ":
والمنسوب إليه: محمد بن هارون الجربي، وأبو عبد الله الجربي (7).
سادسا: واستعملت في مقام المدح:
قال مالك بن أنس في عبد الرحمن بن القاسم - عالم الديار المصرية ومفتيها -

(1) تاريخ ابن خلدون 7 / 85.
(2) إكمال الإكمال، لابن ماكولا 2 / 441.
(3) هامش إكمال الإكمال 2 / 442.
(4) إكمال الإكمال لابن ماكولا 3 / 58.
(5) معجم البلدان 3 / 197.
(6) الأنساب للسمعاني (الجرابي) 2 / 36، وانظر إكمال الإكمال 583.
(7) لاحظ الأنساب للسمعاني 2 / 39، وإكمال الإكمال 3 / 108.
15

أبي عبد الله العتقي مولاهم، لما ذكر عنده: عافاه الله، مثله كمثل جراب مملوء مسكا (1).
سابعا: واستعملت في مقام الذم:
1 - قال ابن قيم الجوزية الدمشقي - وهو يتحدث عن ما ورد حول بيت
المقدس والصخرة والمسجد الأقصى والصلاة فيه، بعد أن ضعف بعضه وصحح
بعضه -: فهذا مجموع ما صح فيه من الأحاديث، ثم افتتح الكذاب الجراب وأكمل
الأحاديث المكذوبة فيه... (2).
2 - وقال سلمة بن الفضل: أتيت الحجاج بن أرطاة، فقلت: يا أبا أرطاة،
حدثني فحدثني خمسا - يعني خمسة أحاديث - فقلت: أعدهن علي فأعادهن.
قلت: زدني فقال: ما أراك وعيتهن
قلت: خذها إليك فما أخرجت حرفا، ثم قلت: زدني فزادني الكثير فقال:
أعدهن، فأعدتهن عليه من حفظي، فقال: من تسمى؟ قلت: سلمة. قال: جراب
أنت مفتاحه: سريع خرابه، يا سلمة (3)
ثامنا: وأطلق جرحا على رجلين:
أحدهما: محمد بن الحسن بن أحمد بن محمد بن موسى الأهوازي:
سماه أبو الوليد الدربندي: " جراب الكذب " (4).
والاخر: محمد بن عبد الله بن القاسم الرازي، النحوي:
قال ابن حجر في ترجمته، عن أبي حاتم الرازي: كان يقال له: " جراب
الكذب ".

(1) سير أعلام النبلاء 19 / 12.
(2) المنار المنيف ص 87 بعد رقم 165.
(3) تهذيب الكمال 113 / 308.
(4) ميزان الاعتدال 3 / 516، ولسانه 5 / 124.
16

روى الفلكي في (الألقاب): قيل لمحمد: إنك تلقب " جراب الكذب "؟ فقال:
بل أنا " جوالق الكذب " فإن شئت فاسمع، أو دع
وقال الشيرازي في (الألقاب): سمعت محمد بن عبد الواحد الخزاعي يقول:
سمعت منه، وكان شيخا راويا حصنا، وانتقل إلى طبرستان ثم رجع إلى الري.
وكان يكذب، وكان يقعد بالري في زاوية تعرف ب - " زاوية الكذب " فحدثنا
أبو حاتم، قال: ثنا شاذان وعفان وعارم، قالوا: ثنا شعيب، عن قتادة، عن أنس
رضي الله عنه - رفعه - قال: " يوزن مداد العلماء ودم الشهداء فيرجح مداد العلماء
على دم الشهداء " (1).
فعرضناه على شيخنا أبي علي بن عبد الرحيم، فقال: كذب، فلم يكن عند أبي
حاتم عن شاذان شئ.
لكن قولوا: " حدثنا جراب الكذب، في زاوية الكذب، بحديث كذب " (2).
المقام الثاني: حول عبارة " جراب النورة " لغة واصطلاحا
1 - معناها اللغوي:
قد عرفت معنى الجراب.
وأما النورة: فقد قال ابن منظور في لسان العرب: النورة: الهناء (التهذيب):
والنورة من الحجر الذي يحرق ويسوى منه الكلس، ويحلق به شعر العانة (3).
وقال الفيومي: النورة - بضم النون - حجر الكلس، ثم غلبت على أخلاط

(1) روي الحديث عن أبي هريرة في أدب الاملاء للسمعاني ص 163 ومختصرا عن عبادة بن الصامت في الكنى
للدولابي 1 / 103 كما خرجناه في تدوين السنة ص 100 وله تخريج واسع في موسوعة أطراف الحديث
11 / 438 منه: جامع بيان العلم 361 وشرح السنة للبغوي ص 313 والدر المنثور للسيوطي 3 / 72 وكشف
الخفا للعجلوني 1 / 561 و 2 / 280 وكنز العمال رقم 89012 و 89022 ولسان الميزان 5 / 491 - 594 وغيرها.
وأسنده الصدوق في الفقيه 4 / 284 رقم 849 وفي الأمالي ص 233 رقم 245 بلفظ آخر.
(2) لسان الميزان 5 / 226 وانظر ميزان الاعتدال 3 / 611.
(3) لسان العرب (نور) ج 6 ص 4573.
17

تضاف إلى الكلس من زرنيخ وغيره، وتستعمل لإزالة الشعر، و " تنور ": اطلى
بالنورة، و " نورته " طليته بها، قيل عربية، وقيل: معربة (33).
و " جراب النورة " - مركبة بالإضافة -: هو الوعاء الذي يحتوي على النورة.
وسيأتي تفسيرها الكنائي عند العلماء.
2 - مواردها في الحضارة العامة:
ألف - في الأمثال:
ومن الأمثال البغدادية: " فلان يفتي من جراب النورة " (34) يقال لمن يصدر
الأحكام الشرعية بغير علم ولا مستند ثابت.
وهذا المعنى يقرب من المعنى المصطلح عليه عند الفقهاء، كما سيأتي.
واشتهر المثل في العراق: " العمل للزرنيخ والصيت للنورة " يضرب لمن تعرف
المهمات باسمه، بينما ليس له دور فيها، وإنما الدور لغيره ممن لا يذكر اسمه.
ويظهر من هذا المثل أن عملية قلع الشعر إنما هي من أثر الزرنيخ وهو
كذلك علميا.
قال الدكتور خليل الجر: الزرنيخ: عنصر شبيه بالفلزات، له بريق الصلب
ولونه، ومركباته سامة، يستخدم في الطب، وفي قتل الحشرات (35).
وقد استخدمت النورة كمادة قاتلة كما ستقرأ في الفقرة التالية.
بأ - في الحوادث التاريخية:
ذكر المؤرخون: أن مروان الأموي طلب إبراهيم بن محمد العباسي، لما بلغه أن
دعوة أبي مسلم الخراساني له، وأنه الذي يؤهل لهذا الأمر، فلما اتي به إلى مروان أمر

(1) المصباح المنير (نور) ص 630.
(2) أخبرنا بهذا المثل فضيلة الأستاذ السيد كاظم الحيدري أبو وديع حفظه الله.
(3) لاروس - معجم عربي - ص 623.
18

به فغطي وجهه بقطيفة حتى مات وقيل: بل ادخل رأسه في " جراب نورة " حتى مات (1).
وذكروا في أحوال القرمطي - صاحب البحرين -: أنه قال لكاتبه: أكتب إلى
الخليفة... وكل من جراب النورة (2).
أقول: وهذا التعبير الأخير يشير إلى المعنى المستعمل في الاصطلاح، وهو
الإعطاء من جراب النورة، وكلمة " كل " أمر من " الكيل " بمعنى مل المكيال وهو
ما يستخرج به الشئ، فانتظر.
جيم - ومواردها في الحديث الشريف:
أولا: جاءت العبارة في مناظرة المتكلم العظيم هشام بن الحكم الكوفي مع
المعتزلة، في عصر هارون العباسي المعروف بالرشيد، عندما ذكر هشام أوصاف
الشخص المستحق للإمامة، وهي: أن يكون أعلم الناس،
ويكون معصوما، ويكون أشجع الناس، وأسخى الناس.
فقال له ضرار المعتزلي: فمن هذا؟ بهذه الصفة؟ في هذا الوقت؟
قال هشام: صاحب القصر، أمير المؤمنين
وكان هارون مختفيا، قد سمع الكلام كله، فقال - عند ذلك -: أعطانا - والله -
من جراب النورة (3).
ثانيا: روى الشيخ الطوسي، بإسناده إلى سلمة بن محرز، قال: قلت لأبي

(1) تاريخ اليعقوبي 2 / 342 وانظر أنساب الأشراف 3 / 387 والإمامة
والسياسة 2 / 159 وأخبار الدولة العباسية 3 / 387 و 393 و 396.
(2) سير أعلام النبلاء 24153.
(3) إكمال الدين للصدوق 2 / 367، ونقله في البحار 44 / 197 ح 7. و 13 / 371 ورواه صاحب الوسائل فيه 26 / 238 تسلسل 32915.
أقول: وقد ورد نحوه في نصوص أخرى من دون عبارة " جراب النورة " وإنما ورد فيها التصريح بالتقية،
وسننقلها تحت عنوان " المناسبة اللغوية بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي " فلاحظ.
19

عبد الله عليه السلام: رجل مات، وله عندي مال، وله ابنة، وله موال؟
فقال لي: إذهب، فأعط البنت النصف، وأمسك عن الباقي.
قال سلمة: فلما جئت، أخبرت بذلك أصحابنا، فقالوا: " أعطاك من
جراب النورة ".
قال سلمة: فرجعت إليه، وقلت: إن أصحابنا قالوا لي: " أعطاك من جراب
النورة "
قال: فقال: ما أعطيتك من جراب النورة.
قال: علم بها أحد؟ قلت: لا، قال: فاذهب فأعط البنت الباقي (1).
دال - تفسير العبارة عند المحدثين: قال الصدوق - في تعقيب له على حديث مناظرة هشام، وكلام هارون -:
إحدى العلل التي من أجلها وقعت التقية: الخوف، كما ذكر في هذا الحديث، وقد كان
موسى بن جعفر عليهما السلام في ظهوره كاتما لأمره، وكان شيعته لا تختلف إليه، ولا يجترئون
على الإشارة خوفا من طاغية زمانه.
حتى أن هشام بن الحكم، لما سئل في مجلس يحيى بن خالد عن الدلالة على
الإمام، أخبر بها، فلما قيل له: من هذا الموصوف؟ قال: صاحب القصر
أمير المؤمنين هارون الرشيد - وكان هو خلف الستر قد سمع الكلام فقال:
أعطانا - والله - من جراب النورة.
فلما علم هشام أنه قد اتي، هرب، وطلب، فلم يقدر عليه، وخرج إلى الكوفة،
ومات بها عند بعض الشيعة، فلم يكف الطلب عنه حتى وضع ميتا بالكناسة،

(1) رواه الشيخ في تهذيب الأحكام 9 / 332 ح 1951 / 16 من الباب 31: ميراث الموالي مع ذوي الأرحام، وفي
الاستبصار 4 / 4 - 175 ح 5657 / 12 من الباب 102: أنه لا يرث أحد من الموالي مع وجود واحد من ذوي
الأرحام، ونقله المجلسي في روضة المتقين.
20

وكتبت رقعة ووضعت معه: " هشام بن الحكم الذي يطلبه أمير المؤمنين "
حتى نظر إليه القاضي والعدول وصاحب العون والعامل، فحينئذ كف عن
الطلب عنه (1).
وقال المجلسي الأول - معلقا على حديث الإرث -:
قوله: " أعطاك من جراب النورة ": كناية عن التقية.
قوله: " ما أعطيتك من جراب النورة ": ما اتقيتك، ولكن اتقيت عليك (2).
وقال الفيض الكاشاني: كأن هذا مثل يضرب لمن غش ولم ينصح، وإنما
نفى عليه السلام ذلك عن نفسه لأن الأمر بإمساك البقية في مقام التقية، حتى يظهر كيف
ينبغي أن يفعل بها: كمال النصح، وليس فيه شوب غش (3).
قال الوحيد البهبهاني: ورد في الأخبار أن الشيعة كانوا
يقولون - في الحديث الذي وافق التقية -: " أعطاك من جراب النورة ".
قيل: مرادهم تشبيه المعصوم عليه السلام بالعطار، وكانوا يبيعون أجناس العطارين
من جربان، وكانت النورة - أيضا - تباع من جرابها.
فإذا أعطى التقية، قالوا: " أعطاك من جرابها " أي: مما لا يؤكل، ولو اكل لقتل،
والفائدة فيه دفع القاذورات وأمثالها.
وقيل: إن النقباء لما خرجوا في أواخر زمن بني أمية في خراسان، وأظهروا
الدعوة لبني العباس، بعثوا إلى إبراهيم الإمام منهم بقبول الخلافة، فقبل وهو في
المدينة، وكانت هي وسائر البلدان تحت سلطة بني أمية وحكمهم - سوى خراسان،
إذ ظهر فيها النقباء - وكانوا يقاتلون ويحاربون.
ولما اطلع بنو أمية بقبول إبراهيم الخلافة، أخذوه وحبسوه ونقلوه خفية،

(1) إكمال الدين ص 361.
(2) روضة المتقين 11 / 317.
(3) الوافي المجلد الثالث ج 13 / 132 من الطبعة الحجرية.
21

ووضعوا " جراب النورة " على حلقه، فخنقوه به، فصار مضرب المثل، إشارة إلى من ترك التقية.
وكان هذا الكلام من الشيعة إشارة إلى هذه الحكاية، ومثلا مأخوذا منها (1).
وقد تداول العبارة المذكورة الفقهاء المتأخرون:
فكررها صاحب الجواهر في موارد، أحصينا منها:
1 - قوله: قيل: إن الحمل على التقية، إذا تعذر غيرها من الاحتمالات
لاستبعاد خفائها على الخاصة والبطانة التي كانوا يعرفونها بمجرد نقل بعض الرواة
لهم خبرا، حتى قالوا له: " أعطاك من جراب النورة " (2).
2 - وقوله: من المعلوم عدم الالتجاء إلى التقية التي لا تخفى على الخواص
الذين كانوا من المعروف عندهم " الإعطاء من جراب النورة " إلا عند الضرورة (3).
3 - وقوله: التقية التي لم تكن لتخفى على خواص الأصحاب والبطانة، بل
كانوا يعرفون ذلك بمجرد سماعهم من بعض الرواة، ويقولون: " قد أعطاك من
جراب النورة " (4).
4 - وقوله: معروفية ما يقع منهم عليهم السلام تقية، بين خواصهم، حتى كان بعضهم
يقول لبعض: " قد أعطاك من جراب النورة ".
ودعوى حمل جميع ما دل على الجواز، على التقية.
يدفعها: أن جملة من رواة تلك النصوص ممن " لا يعطون من جراب النورة " (5).
5 - وقوله: الصحاح، التي يبعد خروجها مخرج التقية على أساطين الأصحاب

(1) فوائد الوحيد ص 314 - 318 من المطبوع من ملاحظات الفريد.
(1) جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام 7 / 164.
(2) المصدر 8 / 98.
(3) المصدر 9 / 362.
(4) المصدر 6 / 352 ولاحظ 30 / 38.
22

والرواة، الذين كانوا، إذا سمع أحدهم قولا منه للاخر، قال: " أعطاك من جراب النورة " (1).
وحاصل مرامه: أن فقهاء الرواة من أصحاب الأئمة عليهم السلام كانوا يعرفون موارد
التقية بدقة فائقة، ولم تكن تخفى عليهم، لشدة ارتباطهم بالأئمة عليهم السلام، ولسعة
اطلاعهم على الفقه والمذاهب الفقهية، ولو صدر حكم تقية عرفوه بمجرد نقله إليهم
وجبهوا راويه بأنه " أعطي من جراب النورة " اي أعطي الحكم المذكور تقية.
فلو كان في الروايات ما ورد للتقية، لم يخف على أصحاب الأئمة قطعا،
ولأفصحوا عن ذلك، ولم يسكتوا عنه، ولم يتناقلوه مجردا.
فحمل الروايات على التقية، بمجرد
اختلافها، بعيد.
والحاصل: ان الحمل على التقية بحاجة إلى تنصيص من الرواة، أو انحصار
الحل في ذلك، وتعذر أي محمل آخر للرواية.
وظهر من كلامه في المورد الرابع: أن من الرواة من يعطى من جراب النورة،
أي يعطى الأحكام تقية، ومنهم من لا يعطى من جراب النورة.
ومعرفة من يعطى، ومن لا يعطى، من الرواة، ذات أثر في إمكان حمل الرواية
على التقية وعدمها.
وبهذا يحصل لعبارة "... من جراب النورة " أثر رجالي مهم.
أقول: إن إعطاء الحكم موافقا للتقية، ليس دائما من أجل كون الراوي هو
المتقى منه، بل قد يكون لأجل التقية عليه، أي للحفاظ عليه من الأعداء، إذ لو رأوه
أو سمعوه يوافق الحق في الأحكام لعرضوه للأذى، فيؤمر بما يوافق التقية.
فليس كل من أعطي حكما موافقا للتقية، يطلق فيه أنه ممن يعطى من جراب
النورة، لورود أحكام التقية على يد رواة مأمونين قطعا.
والحاصل إن في عبارات صاحب الجواهر أمورا ثلاثة:

(1) المصدر 35 / 235
23

1 - إن ما قال فيه الأصحاب " إنه من جراب النورة " فهو حكم موافق للتقية،
ولم يوافق الواقع.
ولذا يصح أن يقال في كل حكم صدر تقية: " إنه من جراب النورة " أي: ليس
واقعيا، وإنما هو حكم ظاهري.
2 - إن أصحاب الأئمة وخواصهم وأساطينهم، كانوا يميزون ما يصدر للتقية،
وما يصدر لغيرها، ويعرفون الأحكام الواقعية والظاهرية من هذه الجهة.
وهذان الأمران متفق عليهما، ولا خلاف فيهما.
قال المحقق النائيني في خبر:... مطروح لإعراض الأصحاب، وموافق للتقية،
فهو مما أعطي من جراب النورة (1).
وقال السيد البجنوردي: جملة كثيرة من الأحكام أعطيت من جراب النورة،
حسب اصطلاحهم - وكان الرواة الفقهاء من أصحابهم عليهم السلام يعرفون هذا الذي قاله
الإمام عليه السلام، هل هو حكم واقعي أولي، أو صدر تقية؟ ولذلك كانوا يقولون - للراوي
بعدما يسمعون روايته -: " أعطيت من جراب النورة " (2).
3 - والأمر الثالث المفهوم من كلام الجواهر: إن من الرواة من لا يعطى من
جراب النورة، ومنهم من يعطى منه.
ويترتب على ذلك أن الناقل للرواية لو كان ممن لا يعطى، لم يمكن الحمل على
التقية، وهذا يستلزم أن معرفة من يعطى ومن لا يعطى، من البحوث الرجالية
المؤثرة في الفقه.
ولذا قال الفقيه الهمداني: مثل محمد بن مسلم، وزرارة بن أعين، وأبي بصير،
[هم] ممن لم يكن الإمام عليه السلام يعطيهم من جراب النورة (3). [هم]

(1) الصلاة، للنائيني 2 / 160.
(2) القواعد الفقهية 5 / 68.
(3) مصباح الفقيه 3 / 21.
24

أقول: ليس كل من أعطي حكم التقية، يجب أن يكون - هو - ممن اتقي منه، بل
قد يعطى لأجل التقية عليه من المخالفين - كما ذكر المجلسي الأول في تفسيره
للحديث - أو لأجل إيقافه على الأحكام الظاهرية ليستفيد منها في مواقعها،
خصوصا إذا كان من فقهاء الأصحاب وأساطينهم، فلابد لهم من معرفة الأحكام
التي تصدر للتقية، فما المانع من أن يعطيهم الإمام عليه السلام ذلك، لإيصالها إلى الطائفة، أو
يكون في وقوفهم عليها إمكان تحديدهم لمواردها وتمييزهم لقواعدها.
والحاصل: إنه ليس صدور أحكام التقية خاصا ببعض الرواة دون بعض،
حتى يقال: إن أولئك يعطون من جراب النورة، وهؤلاء لا يعطون.
بل نجد في موارد كثيرة صدور أحكام التقية، برواية كبار فقهاء الطائفة، مثل
قصة ابن يقطين وزير هارون، ونفس موردي مناظرة هشام، وحديث الإرث، فهما
لا يخلوان من إشارة إلى ما نقول، بل قد صرح في الروايات الأخرى - التي
سنتلوها - بهذا المعنى، كما سيأتي.
واو - عند اللغويين:
لم أجد - في ما يتداول من أمهات مصادر اللغة والأدب - من تعرض لهذه
العبارة المركبة، إلا العلامة الطريحي، حيث عنون لها في مادة (نور) فقال:
وقوله عليه السلام: " أعطاك من جراب النورة، لا من العين الصافية " (52) على
الاستعارة.
والأصل فيه: أنه سأل سائل محتاج من حاكم قسي القلب شيئا، فعلق على
رأسه " جراب نورة " عند فمه وأنفه، كلما تنفس دخل في أنفه منها شئ، فصار مثلا

(1) يظهر من الشيخ الطريحي وقوفه على نص يحتوي على هذه العبارة، ولم نقف نحن على ذلك. نعم، قال
الإمام الصادق عليه السلام للراوي عندما اعتمد على حديث مروي عن أمير المؤمنين عليه السلام ما نصه: " جئت بها من عين صافية "
في تهذيب الأحكام (9 / 326 ح 1172) وعبر الصحابي أبو ذر الغفاري رضي الله عنه، عن ال محمد: صلى الله عليه وآله وسلم ب - " العين
الصافية " كما نقله عن سليم بن قيس، في بحار الأنوار (28 / 275 ح 45).
25

يضرب لكل مكروه غير مرضي (1).
هذا مجموع ما عثرنا عليه من موارد استعمال عبارة "... من جراب النورة " في
التراث.
زاي - المناسبة اللغوية بين المعنى الحقيقي والمجازي:
وقد تلخص أن العبارة المذكورة استخدمت للدلالة على أن الحكم المنقول أو
الرأي المطروح مخالف للواقع، وإنما ذكر لغرض التخلص عندما يكون المتكلم في
مأزق يهدده بالخطر، وبنفس هذا المعنى استعمل في موارده من الحديث الشريف،
وفي لسان المحدثين والفقهاء واللغويين، كما فسروه ووجهوه وطبقوه، وقد أصبح
بهذا المعنى مثلا يضرب، ويقال.
ومن خلال ما ذكرنا في أصل استعمال هذا المثل يمكننا أن نرى المناسبة بين
المعنى الاصطلاحي في هذا وهو التقية، وبين المعنى الحقيقي الموضوعة له الكلمة.
وقد يقال: إن العلقة بينهما، هو اشتراكهما في معنى " التغطية ".
أما كون التقية للتغطية، فلأن الوارد للتقية، إنما يغطى به على المعنى الحق،
بغرض الإخفاء على الأعداء، وعدم معرفتهم لهوية الشخص.
وأما كون النورة للتغطية، فلأنها تغير ظاهر الشئ من حالة إلى أخرى،
وتصفي ظاهره، و " نوره " بمعنى طلاه بالنورة.
وهذا المعنى في (النورة) تسرب إلى الفعل " نور " على فلان " ينور " إذا شبه
عليه أمرا، ذكره الخليل في (العين) (2).
فيكون " أعطى من جراب النورة " بمعنى شبه عليه وطلى عليه ولبس، كما في
المطلى بالذهب، وهو ما يفعله صاحب التقية.

(1) مجمع البحرين 3 / 506 طبع النجف، و 4 / 391 طبعة قم الحديثة مادة (نور).
(2) العين (نور).
26

وتطبيق الحديثين على هذه المناسبة، واضح:
أما حديث هشام: فإنه كان يعتقد بإمامة الإمام موسى الكاظم عليه السلام، والصفات
التي ذكرها لمستحق الإمامة، لم توجد في عصره إلا في شخصه عليه السلام، وهارون
المستخلف كان يعلم ذلك، ويعرف من نفسه أنه فارغ من أية صفة من تلك
الصفات، ويعرف أن هشاما ممن يعتقد بالحق في الإمام الكاظم عليه السلام وأنه قاصد
له عليه السلام بتلك الصفات.
فلما سمع هارون بقول هشام في صاحب الصفات إنه " صاحب القصر أمير
المؤمنين " وظاهره أنه يرى وجود الصفات في هارون الرشيد، علم أنه يتقيه،
فقال:
" أعطانا - والله - من جراب النورة " أي شبه علينا وذكر هذا الكلام تقية.
وأما حديث الإرث: فحيث أن العامة يحكمون في تلك المسألة بكون نصف
المال للبنت، والنصف الآخر للمولى، وهذا مخالف لفقه أهل البيت عليهم السلام الذي يحكم
بكون المال كله للبنت وحدها، فإن الإمام لم يحكم ابتداء بإعطاء المال كله للبنت.
بل ذكر حكم نصف المال وأنه للبنت، وهذا موهم للتقية، وإن لم يكن موافقا
لها بالتمام.
وقد جاء التصريح بهذا المعنى الذي فهمناه، في عدة روايات منها، ما رواه
الكليني قدس سره، بسنده عن سلمة بن محرز، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إن رجلا أرمانيا
مات، وأوصى إلي.
فقال: وما الأرماني؟
قلت: نبطي من أنباط الجبال، مات وأوصى إلي بتركته، وترك ابنته؟
فقال لي: أعطها النصف.
قال: فأخبرت زرارة بذلك، فقال لي: " اتقاك " إنما لها المال كله.
قال: فدخلت عليه بعد، فقلت: أصلحك الله، إن أصحابنا زعموا أنك اتقيتني.
فقال: لا والله، ما اتقيتك، ولكن اتقيت عليك أن تضمن فهل علم بذلك أحد؟
27

قلت: لا.
قال: فأعطها ما بقي.
رواها الكليني في كتاب المواريث، باب ميراث الولد، الحديث الثالث (1).
وصراحتها في ما قلنا واضحة، كما لم يصرح فيها بحكم النصف الثاني، وإنما
اقتصر فيها على إعطاء النصف للبنت فلاحظ.
كما لا يخفى اتحاد هذه الرواية، مع المبحوث عنها، تلك التي نقلناها عن
التهذيب، والتي احتوت على " جراب النورة " من جهات:
أولا: في اسم الراوي، وهو سلمة بن محرز.
ثانيا: في الحكم، بإعطاء النصف للبنت أولا، ثم إعطاء النصف الثاني لها، بعد.
ثالثا: في المناسبة وسرد الواقعة، حيث حكم الإمام بما يوهم التقية، وقول
الأصحاب للراوي بأنه اتقاه، ومراجعة الراوي، وأخذه الحكم الصحيح.
فظهر أن قول الأصحاب له في الرواية الأولى " أعطاك من جراب النورة " هو
بمعنى " اتقاك " في الرواية الثانية.
وجاء مثل هذا أيضا في روايتين اخريين تتحدان مع ما سبق مضمونا، إلا
أنهما مرويتان عن " عبد الله بن محرز بياع القلانس ".
ففي الكافي عنه: أوصى إلي رجل، وترك خمسمائة درهم أو ستمائة درهم، وترك
ابنة، وقال: لي عصبة بالشام.
فسألت أبا عبد الله عليه السلام عن ذلك؟ فقال: أعط الابنة النصف، والعصبة النصف الآخر.
فلما قدمت الكوفة، أخبرت أصحابنا بقوله، فقالوا: " اتقاك ".
فأعطيت الابنة النصف الآخر، ثم حججت، فلقيت أبا عبد الله عليه السلام فأخبرته بما
قال أصحابنا، وأخبرته أني دفعت النصف الآخر إلى الابنة.

(1) الكافي 7 / 86 ح 3، ونقله في الوسائل 26 / 104 تسلسل 25883.
28

فقال: أحسنت، إنما أفتيتك مخافة العصبة عليك.
رواه الكليني في نفس الكتاب، والباب، الحديث (7) (1).
ورواه الطوسي مثله، في كتاب الفرائض والمواريث، باب ميراث الأولاد،
الحديث (18) (2)، إلا أنه سمى راويه " عبد الله بن محمد بياع القلانس " ولا شك في
كون " محمد " تصحيفا لكلمة " محرز ".
والفارق بين هذه الروايات، ورواية " جراب النورة ":
أن الوارث في هذه الروايات حسب وصية الميت: بنت وعصبة الميت الذين
هم أقارب نسبيون، وإن كانوا متأخرين طبقة.
أما رواية جراب النورة، فالوارث المفروض هم: بنت وموال، والموالي عند
الإطلاق هم " العبيد المملوكون " ولذا أوردها الشيخ الطوسي في باب " ميراث
الموالي مع ذوي الأرحام ".
والشيخ الكليني لم يوردها أصلا، وإنما أورد في باب " ميراث الولد " بسنده إلى
عبد الله بن محرز، قال:
سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل أوصى إلي وهلك وترك ابنته....
فقال: أعط الابنة النصف، واترك للموالي النصف.
فرجعت، فقال أصحابنا: لا والله، ما للموالي شئ.
فرجعت إليه من قابل، فقلت له: إن أصحابنا قالوا: " ليس للموالي شئ، وإنما
اتقاك ".
فقال: لا والله ما اتقيتك، ولكني اتقيت عليك أن تؤخذ بالنصف، فإن كنت لا
تخاف: فادفع النصف الآخر إلى الابنة، فإن الله سيؤدي عنك (3).

(1) الكافي 7 / 87 ح 7، ونقله في الوسائل 26 / 104.
(2) تهذيب الأحكام 9 / 278 رقم 1008، وعطفه في الوسائل 526 / 10 على
حديث الكافي المذكور قبله مباشرة، من دون إشارة إلى اختلاف اسم الراوي.
(58) الكافي 7 / 7 - 88 ح 9.
29

وكما قلنا، فإن الكليني لم يورد هذه الرواية في باب " ميراث ذوي الأرحام مع
الموالي " الذي عقده بعد ذلك وأورد فيه (9) روايات، غير هذه (1).
ولا يشك الناظر في اتحاد هذه الرواية مع رواية جراب النورة التي أوردها
الطوسي، في الحكم والمضمون، وإن اختلفا في اسم الراوي فهو عند الطوسي " سلمة
ابن محرز " وعند الكليني " عبد الله بن محرز ".
لكن اتحادهما - كليهما - مع الروايات الأخرى، أيضا واضح، وإن تفاوتت
عنهما في ذكر الموالي أو العصبة.
وإنما الاختلاف بينها - جميعا - قد جاء من جهة النقل بالمعنى من الرواة
المتأخرين عن الراوي الأول، فهي جميعا تتفق على:
1 - أن الحكم الشرعي في المسألة هو كون المال كله للبنت، لأنها ترث النصف
فرضا والنصف الباقي ردا، وعلى هذا فقه أهل البيت عليهم السلام الواضح المعلوم، وكل ما
خالفه فهو تقية.
2 - أن الإمام ذكر ابتداء إعطاء النصف للبنت، وهذا يوهم أن يكون النصف
الثاني لغيرها، ولم يأت حكم النصف الثاني في بعض الروايات بل جعله مسكوتا
عنه، وفي بعضها انه يعطى للعصبة أو للموالي.
وأظن أن الإمام إنما اكتفى بذكر حكم النصف الأول للبنت، وهو فريضتها ولا
خلاف بين المسلمين في كونه لها فرضا، وسكت الإمام عن النصف الآخر، ومجرد
السكوت عنه لا يعني موافقة العامة الذين يحكمون بكونه للموالي أو العصبة، فلذا
صح أن يقول الإمام " ما اتقيتك " أو " ما أعطيتك من جراب النورة "، وإن فهم
بعض الرواة ذلك، ونقله
وأما تأخير بيان حكم النصف الآخر، وكونه للبنت، إلى فترة أخرى وهو

(1) الكافي 1357 - 136.
30

وقت العمل والأداء، إما بالقول مباشرة من الإمام، أو اعتمادا على ما يفتيه علماء
الأصحاب، فهذا التأخير بما أنه ليس حكما شرعيا لم تتحقق به التقية المعهودة بل
هو إجراء عملي قام به الإمام عليه السلام تقية على الراوي، وحفظا له من أذى العصبة أو
الموالي، لئلا يضمن النصف الذي يدعونه فيما لو علموا بموت الوارث.
ومهما كان، فإن المتحصل من مجموع الروايات هو أن إظهار الإمام عليه السلام لحكم
النصف الأول فقط وعدم الحكم بكون النصف الثاني للبنت، اعتبره الأصحاب
" تقية " ولذا قالوا للراوي: " أعطاك من جراب النورة ".
فالأخبار كلها تدل على أن معنى " جراب النورة " في الحديث الأول، هو بمعنى
التقية.
ولكن الغريب أن الفقهاء حاولوا تفسير الكلمة، من دون اللجوء إلى البحث
عن كل هذه الروايات في محل واحد لتكون دلالتها على المعنى المذكور واضحة.
ومهما يكن فإن المجلسي الأول قد توصل إلى هذا المعنى، وأشار إليه المحقق
الوحيد في بعض كلماته.
رأينا في المناسبة:
لكني أستبعد أن تكون المناسبة بين المعنى الحقيقي لجراب النورة، والمعنى
المصطلح المذكور، اي " التقية " هي: التغطية والتلبيس، وذلك لوجهين:
الوجه الأول: أن التصدي للتغطية والتلبيس في العمل مما لا يتناسب فرضه
مع مقام الإمام عليه السلام، مع أن أحكام التقية يكون اتباعها والالتزام بها هي الوظيفة
الشرعية والواجب الإلهي الذي يجب اتباعه وهو حكم الله في حق من وقع في
مأزق التقية، ولذلك عبر عنها في أدلتها بمثل قولهم عليهم السلام: " التقية ديني ودين
آبائي " فالتعبير عن ذلك بالتشبيه والتلبيس غير مناسب، خصوصا على نظريتنا في
التقية من أنها إنما شرعت لغرض الحفاظ على أصل وجود الدين الإسلامي
31

وشريعته السامية وجماعة أمته الواحدة، وحفظ رموزه وأعيانه وأعلامه،
ليستمروا على أداء رسالته الكريمة، دون مجرد الخوف على الأموال والأعراض
وحتى الدماء، مع أهميتها ومزيد عناية الشارع بها، إلا أن أصل وجود الإسلام
وجماعة الأمة، أهم، لأنه يؤلف أصل وجود الدين وبيضته، ولذلك نجد التضحيات
العظيمة في كل شئ تكون رخيصة عندما يتعرض هذا الأصل للخطر، ويكون
حفظه من أهم الواجبات وأعز الأمور، حتى من شخص الإمام المعصوم عليه السلام وخيرة
الأصحاب والأتباع.
وقد استدللنا على هذه النظرية في بعض بحوثنا الفقهية.
الوجه الثاني: أن الإمام عليه السلام في مسألة الإرث، نفى أن يكون " أعطى من
جراب النورة " وقال: " ما أعطيتك من جراب النورة " وفي الروايات الأخرى: " ما
اتقيتك... " وهذا يقتضي أن يكون ما صدر من الإمام من الحكم الأول ليس " تقية "
أي: لم يكن موافقا لحكم العامة، وهو كذلك، إذ ما ذكره الإمام أولا إنما هو إعطاء
نصف المال للبنت، وهذا بمجرده ليس رأيا خاصا للعامة في المسألة، وإنما هم
يحكمون بإعطاء النصف الثاني لغير البنت من الموالي أو العصبة، وهذا ما سكت عنه
الإمام في البداية، ففهم الأصحاب منه أن النصف الثاني لابد أن يكون لغير البنت
من العصبة أو الموالي، لعدم إمكان خلوه من المالك.
لكن سكوت الإمام وإن كان يوهم ذلك ابتداء إلا أنه ليس صريحا في ذلك، بل
هو أعم منه، ومن كونه للبنت أيضا، إلا أن الإمام أخر بيان هذا، من جهة حفظ كرامة
الراوي من محاسبة العصبة أو الموالي، لو عرفوا الأمر، وطالبوه بالنصف الاخر
وهذا التأخير في البيان، لا يسمى تقية في المصطلح الفقهي، نعم هو تقية
عملية، وحفظ كيان الراوي السائل، فليس في الأمر تشبيه، ولا تلبيس شئ على
أحد، ولا من أحد.
وأما قول الأصحاب بأنه " أعطاه من جراب النورة " أو " اتقاه " فهو من جهة
32

إيهام الحكم بالنصف الأول للبنت، كون النصف الآخر لغيرها، كما ذكرنا.
وأرى أن المناسبة (1) بين التقية، وجراب النورة، هو: أن النورة تستعمل كمادة
قالعة للأذى الظاهري من الجسم، وهو الشعر من مواضع النتن والعطن كالإبط
والعانة في البدن، فإذا دفع الإنسان - باستعمال التقية - أذى الخصم، كان حكمه
الظاهري الوارد تقية، من جنس الدافع للأذى، فكأنه مأخوذ من جرابه، إذ هو - في
الغرض - من بابته وشاكلته.
وهذا المعنى يناسب مقام الإمام عليه السلام، وواقع الشريعة الواردة للامتنان
والتسهيل على الأمة، حيث ترتفع الأحكام الواقعية عند التعرض للحرج والعسر.
فتكون الأحكام الواردة للتقية، في مقام رفع الحرج عن المؤمن عندما
يتعرض للخوف من الظالمين، أو المداراة معهم من أجل حفظ بيضة الإسلام
ووحدة المسلمين واجتماعهم.
وفي كل ذلك هدف سام، وهو حفظ وجود المسلمين ورص صفوفهم، وحماية
جبهتهم الداخلية عن التفرق والشتات، ولا مسرح للتلبيس والتغطية في هذا
الهدف السامي.
دلالتها الرجالية:
والحاصل: إن الإعطاء من " جراب النورة " لم يستعمل في التراث الشيعي، إلا
للدلالة على معنى التقية في الحكم المعطى.
وليس للعبارة دلالة " رجالية " إطلاقا.
نعم، لو قيل في حق الراوي: " إنه ممن يعطى من جراب النورة " لدلت العبارة

(1) علق فضيلة السيد حسن الحسيني آل المجدد هنا ما نصه: ويخطر ببالي أن المناسبة عدم الخطورة والأهمية،
فكما أن النورة - هي في جراب عادة - لا قيمة لها، فكذلك الأحاديث التي تصدر تقية، مخالفة لما في اللوح
المحفوظ، لا قيمة لها إلا بالنسبة للسائل أو أقوام أو في بعض الأحيان، ثم لا تكون شيئا
بخلاف الأحاديث المطابقة للواقع، لأنه يجب العمل على طبقها دائما، وموارد الاستعمال
تشهد لما ذكرنا، والله أعلم.
33

على أنه ممن يتقى، أي كونه مخالفا في المذهب.
لكني لم أجد التعبير بمثل ذلك في أي مورد من تراثنا الشيعي، وسيأتي ما يفيد
ذلك في البحث عن تراث العامة، في الفقرة التالية.
وفي تراث العامة:
تسرب مصطلح " جراب النورة " إلى تراث العامة، مع التصريح بأنه مصطلح
شيعي.
قال سعد الهاشمي: " كال لك من جراب النورة " هذا التعبير مما تفرد به أحد
رواة الشيعة، وهو زرارة بن أعين الكوفي (ت 150 ه.) (1).
أقول: ومستندهم في ذلك قصة لفقها بعض الضعفاء، وتداولها كبار رجاليي
العامة في جرائدهم، وأولهم العقيلي في (ضعفائه) بسنده إلى ابن السماك، قال:
حججت، فلقيني زرارة بن أعين بالقادسية، فقال: إن لي إليك حاجة، وعظمها،
فقلت: ما هي؟
فقال: إذا لقيت جعفر بن محمد، فأقرئه مني السلام، وسله: أن يخبرني: أنا من
أهل النار، أم من أهل الجنة؟
[قال ابن السماك:] فأنكرت عليه
فقال لي: إنه يعلم ذلك.
ولم يزل بي حتى أجبته، فلما لقيت جعفر بن محمد، أخبرته بالذي كان منه،
فقال لي: هو من أهل النار
فوقع في نفسي مما قال جعفر فقلت: ومن أين علمت ذلك؟
(قال:) (2) من ادعى علي علم هذا، فهو من أهل النار.

(1) شرح ألفاظ التجريح ص 39.
(2) سقط ما بين القوسين من مطبوعة (لسان الميزان) الحديثة، المحققة
34

[قال ابن السماك:] فلما رجعت، لقيني زرارة، فأخبرته بأنه قال لي: إنه من أهل
النار
فقال: كال لك من جراب النورة
قلت: وما جراب النورة؟
قال: عمل معك بالتقية (1).
وهو مذكور في الضعفاء للعقيلي (2)، ونقله الذهبي في سير أعلامه في ترجمة ابن
السماك (65).
وأورده الفسوي المؤرخ بلفظ آخر، جاء فيه:
أردت الحج... فقلت له: يا بن رسول الله: أتعرف زرارة بن أعين؟
قال: نعم، رافضي خبيث... وتعلم من أين علمت أنه رافضي، إنه يزعم أني
أعلم الغيب، ومن زعم أن أحدا يعلم الغيب إلا الله عز وجل فهو كافر، والكافر في
النار
قال ابن السماك: فلما قدمت الكوفة، جاءني مع الناس يسلمون علي، فقال:
ما فعلت في حاجتي؟ فأخبرته بما قال، فقال: إن ابن رسول الله اتقى (4).
وقد نقل كل هذا سعد الهاشمي في كتابه (شرح ألفاظ التجريح النادرة أو قليلة
الاستعمال) وقال: وقد بين زرارة المراد من تشبيهه هذا حيث قال: عمل معك
بالتقية (5).
أقول: لكن الدكتور لم يبين وجه دلالة هذا التعبير على الجرح، ومن هو
المجروح بها في هذه القصة؟

(1) ميزان الاعتدال 2 / 69 - 70، ولسانه 2 / 474، والطبعة الحديثة 3 / 128 رقم 3454.
(2) الضعفاء الكبير للعقيلي 2 / 97.
(3) سير أعلام النبلاء 39152.
(4) المعرفة والتاريخ للفسوي 6712 - 672، وعنه في شرح ألفاظ ص 41.
(5) شرح ألفاظ التجريح ص 42.
35

فإذا كانت العبارة تعني " التقية " وقائلها زرارة نفسه مفسرا كلام الصادق عليه السلام،
فمعناها: أن الصادق اتقى ابن السماك، وعمل معه بالتقية.
فالعبارة تدل على جرح ابن السما - ك نفسه، لأنه الشخص الذي اتقى منه
الإمام عليه السلام لكونه مخالفا للحق الذي عليه أهل البيت عليهم السلام، حسب تفسير زرارة
لتعبير الإمام عليه السلام.
لتكون العبارة من ألفاظ التجريح النادرة جرح بها زرارة ابن السماك؟ كما
فرضه سعد الهاشمي في كتابه
وهذا أنسب بابن السماك الذي عده ابن حجر في الضعفاء كما سيأتي.
مع أن القصة ملفقة، غير قابلة للقبول، من وجوه:
فأولا: ناقلها ابن السماك، وهو محمد بن صبيح الواعظ البغدادي عدوه من
الضعفاء، وقال فيه ابن نمير - الراوي عنه -: حديثه ليس بشي (1)، وإن كان قد
نسبوا إليه قوله فيه: " صدوق " فإن مجرد كونه صدوقا، لا يعني اعتبار حديثه، بعد
أن لم يكن بشي، لأن الخلل حينئذ في حديثه من جهات أخرى، والصدق أعم من
صحة الحديث، فرب صادق لا يعتبر بحديثه، فالمدح يكون بالصدق من غير جهة
صحة الحديث، وهذا لا ينافي عدم صحة الحديث.
وثانيا: إن من البعيد جدا أن يلجأ زرارة إلى هذا الرجل لتحميله مثل تلك
المسؤولية الخطيرة، وهو يجد منه الإنكار والتقبيح لمثلها، ولا يعتقد في الإمام
الصادق عليه السلام ذلك، وإبائه عن تحملها؟ ومع ذلك يصر زرارة على تحميله إياها وهو
ليس أهلا لمثلها؟
ثم ما حاجة زرارة إلى تحميل هذا الشخص المنكر للاعتقاد، مع أن الحجاج
من الشيعة القادمين من الكوفة إلى المدينة في الموسم ليسوا قليلين؟

(1) لسان الميزان 6 / 191 الطبعة الحديثة.
36

إن صدور مثل هذا لا يليق بأي شخص، فضلا عن مثل زرارة في علمه
وعمره وعظمته.
وثالثا: بطلان ما احتواه كلام ابن السم - اك من الأمور، ومخالفتها للحق
والواقع، وهي:
1 - إنكاره علم أحد بأسماء أهل الجنة والنار، واعتباره ذلك أمرا مستنكرا.
2 - الاستدلال على الكفر، بنسبة علم الغيب إلى غير الله من دون تقييد أو
تفسير.
3 - الحكم على زرارة بالرفض، لأنه ينسب علم الغيب إلى غير الله.
وهذه الأمور من سخافات العامة، وتفاهات السلفية الجاهلين بحقائق العلم. الذين يؤمنون بالغيب
والدين لأنهم ليسوا من
وسنبين في ما يلي بطلان هذه المخالفات:
أما الأمر الأول: وهو استنكار العلم بأسماء أهل الجنة وأهل النار
فبطلانه من جهة الآثار النبوية الدالة على أن " أسماء أهل الجنة " و " أسماء
أهل النار " مسجلة في ديوان.
روى ذلك الفريقان: الخاصة والعامة، فهي من الأحاديث المشتركة بين
المسلمين كافة، فيقع عليها الإجماع والاتفاق، إليك بعضها:
فمن طرق الخاصة:
1 - ما رواه المحدث الأقدم الشيخ محمد بن الحسن الصفار (ت 290 ه) في
كتابه العظيم (بصائر الدرجات) في الباب (5): أن الأئمة عليهم السلام عندهم الصحيفة التي
فيها أسماء أهل الجنة، وأساء أهل النار، أورد فيه " ستة " أحاديث، نختار منها
حديثين:
1 - الحديث الثاني: حدثنا أحمد بن محمد بن إسماعيل، عن محمد بن الفضيل،
37

عن أبي الصباح الكناني، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: حدثني أبي، عمن ذكره، قال:
خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي يده اليمنى كتاب، وفي يده اليسرى كتاب، فنشر
الكتاب الذي في يده اليمنى، فقرأه:
" بسم الله الرحمن الرحيم، كتاب لأهل الجنة، بأسمائهم
وأسماء آبائهم، لا يزاد فيهم واحد، ولا ينقص منهم واحد ".
قال: ثم نشر الذي بيده اليسرى، فقرأ:
" كتاب من الله الرحمن الرحيم لأهل النار، بأسمائهم
وأسماء آبائهم وقبائلهم، لا يزاد فيهم واحد، ولا ينقص
منهم واحد " (69).
2 - الحديث الرابع: حدثنا إبراهيم بن هاشم، عن الحسين بن سيف، عن أبيه،
قال: حدثني أبو القاسم، عن محمد بن عبد الله، قال: سمعت جعفر بن محمد عليه السلام يقول:
خطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس، ثم رفع يده اليمنى قابضا على كفه، قال: أتدرون ما في
كفي؟
قالوا: الله ورسوله أعلم.
فقال: فيها أسماء أهل الجنة، وأسماء آبائهم وقبائلهم إلى يوم القيامة.
ثم رفع يده اليسرى فقال: أيها الناس، أتدرون ما في يدي؟
قالوا: الله ورسوله أعلم.
فقال: فيها أسماء أهل النار، وأسماء آبائهم وقبائلهم إلى يوم القيامة.
ثم قال: حكم الله وعدل، وحكم الله وعدل، وحكم الله وعدل: (فريق في
الجنة وفريق في السعير) (2). وروى المحدث الأقدم الشيخ أبو جعفر أحمد بن محمد بن خالد

(1) بصائر الدرجات، للصفار ص 191.
(2) بصائر الدرجات، للصفار ص 192.
38

البرقي (ت 281 ه) في كتابه القيم (المحاسن) ما يلي:
الحديث (409): عن النضر بن سويد، عن يحيى بن عمران الحلبي، عن معلى
أبي عثمان، عن علي بن حنظلة، عن أبي عبد الله عليه السلام
قال: اختصم رجلان بالمدينة، قدري، ورجل من أهل مكة، فجعلا
أبا عبد الله عليه السلام بينهما، فأتياه، فذكر كلامهما.
فقال: إن شئتما أخبرتكما بقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟
فقالا: قد شئنا.
فقال: قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
كتاب كتبه الله بيمينه، وكلتا يديه يمين، فيه أسماء أهل
الجنة بأسمائهم وأسماء آبائهم وعشائرهم، مجمل عليهم، لا
يزيد فيهم رجلا، ولا ينقص منهم أحدا أبدا.
وكتاب كتبه الله، فيه أسماء أهل النار بأسمائهم
وأسماء آبائهم وعشائرهم، مجمل عليهم، لا يزيد فيهم
رجلا، ولا ينقص منهم رجلا... الحديث (1).
وروى المحدث المتقدم عبد الله بن جعفر الحميري، في كتابه (قرب الإسناد)
ما نصه:
الحديث (81): عن عبد الله بن ميمون القداح، عن جعفر بن محمد، عن أبيه،
قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قابضا على شيئين في يده، ففتح يده اليمنى، ثم قال:
" بسم الله الرحمن الرحيم، كتاب من الرحمن الرحيم،
في أهل الجنة بأعدادهم وأحسابهم وأنسابهم، مجمل
عليهم، لا ينقص منهم أحد، ولا يزاد فيهم أحد ".

(1) المحاسن، للبرقي (1 / 280) رقم 409.
39

ثم فتح يده اليسرى، فقال: " بسم الله الرحمن الرحيم، كتاب من الرحمن الرحيم،
في أهل النار، بأعدادهم وأحسابهم وأنسابهم، مجمل
عليهم، إلى يوم القيامة، لا ينقص منهم أحد، ولا يزاد فيهم
أحد... " الحديث (1).
ومن طرق العامة:
فقد أورد المتقي الهندي في كنز العمال، أحاديث عديدة من المصادر المعروفة
عندهم، نختار منها ما يلي:
الحديث (599): إنكم قد أخذتم في شعبتين بعيدي الغور، فيهما هلك أهل
الكتاب من قبلكم.
هذا كتاب من الرحمن الرحيم، فيه " تسمية أهل النار "
بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم وعشائرهم، أجمل على فريق في الجنة وفريق في
آخرهم، لا ينقص منهم أحد.
السعير
وهذا كتاب من الرحمن الرحيم فيه " تسمية أهل
الجنة " بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم وعشائرهم، فريق في الجنة
مجمل على آخرهم، لا يبقى منهم أحد.
وفريق في السعير
قط [الدارقطني في الأفراد]، عن ابن عباس، قال: خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوما،
فسمع ناسا من أصحابه يذكرون القدر، قال:... فذكره (2)، ورواه برقم (1589)

(1) قرب الإسناد ص 24، حديث 81، ونقله عنه في البحار 5 / 154.
(2) كنز العمال 1271 ولاحظ مسند ابن عباس 3581.
40

أيضا عن ابن عباس بنقل ابن جرير.
الحديث [600] بنص كتاب أهل الجنة، باختلاف يسير، وقال:
طب [الطبراني في المعجم الكبير] عن عبد الله بن بسر (1) الحديث (601): هل تدرون ما هذا؟
" هذا كتاب من رب العالمين، فيه أسماء أهل الجنة
وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أجمل على آخرهم، فلا يزاد
فيهم، ولا ينقص منهم أبدا.... " الحديث.
ابن جرير، عن رجل من الصحابة (2). الحديث (619): مه، مه، يا أمة محمد، واديان عميقان، قعران مظلمان، لا
تهيجوا عليكم وهج النار:
" بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من الرحمن
الرحيم، بأسماء أهل الجنة وآبائهم وأمهاتهم وعشائرهم،
فرغ ربكم، فرغ ربكم.
" بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من الرحمن
الرحيم، بأسماء أهل النار، وآبائهم وأمهاتهم وعشائرهم ". فرغ ربكم،
فرغ ربكم، فرغ ربكم.
أعذرت، أنذرت، اللهم بلغت.
طب [الطبراني في المعجم الكبير] عن أبي الدرداء، وواثلة، وأبي امامة،
وأنس، قالوا: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونحن نتذاكر القدر، قال... فذكره (3).
الحديث (1553): عن علي، قال:

(1) كنز العمال 1 / 127.
(2) كنز العمال 1 / 127.
(3) كنز العمال 2 / 131.
41

صعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال:
كتاب كتب الله فيه أهل الجنة بأسمائهم وأنسابهم،
فيجمل عليهم، لا يزاد فيهم، ولا ينقص منهم إلى يوم
القيامة.
ثم قال:
كتاب كتب الله فيه أهل النار، بأسمائهم وأنسابهم،
فيجمل عليهم، لا يزاد ولا ينقص منهم، إلى يوم القيامة...
الحديث.
[الطبراني في الأوسط]
طس وأبو سهل الجند يسابوري في الخامس
من حديثه (1).
الحديث (1592): ومن مسند عمران بن حصين: قال: قال رجل:
يا رسول الله: أعلم أهل الجنة، من أهل النار؟
قال: نعم...
كر [ابن عساكر] كر ن، ابن جرير (2).
وأورد ابن عدي، في ترجمة عبد الوهاب بن همام الصنعاني أخي عبد الرزاق
صاحب المصنف، ما نصه:
حدثنا محمد بن حمدون بن خالد: ثنا محمد بن علي بن سفيان النجار: حدثنا
عبد الوهاب بن همام أخو عبد الرزاق، قال: ثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن
عمر، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم وفي يده كتاب فيه:
" تسمية أهل الجنة، وتسمية أهل النار، بأسمائهم وأسماء آبائهم
وأسماء قبائلهم "

(1) كنز العمال 1 / 342.
(2) كنز العمال 1 / 359
42

قال الشيخ: وهذا لا أعلم رواه عن عبيد الله غير عبد الوهاب بن همام،
وعبد الله بن ميمون القداح (1).
ونقله الذهبي في ميزانه، قال: تابعه عبد الله بن ميمون القداح عن عبيد الله (2).
وأضاف الذهبي: هو حديث منكر جدا، ويقتضي أن يكون زنة الكتابين
عدة قناطير.
لكن الحافظ، شيخ الإسلام، ابن حجر العسقلاني، نقل إنكار الذهبي هذا،
وعلق عليه بقوله: وليس ما قاله من مزنة الكتابين " بلازم.
بل هي " معجزة عظيمة ". وقد أخرج الترمذي لهذا المتن شاهدا (3).
أقول: بل للحديث من الشواهد والمتابعات، ما يبلغ به حد الشهرة بل
الاستفاضة.
وقال حافظ المغرب ابن الصديق الغماري:
قلت: والحديث تكلم عليه صاحب " الإبريز " بما أزال إشكاله، وأحسن منه
وأقرب ما يستفاد من كلام ابن العربي في " العارضة " فان من وقف عليه وتدبره
علم أن الحديث من قبيل العاديات وأنه ليس فيه إشكال أصلا (4).
أقول: وأما ما ذكره الذهبي، فهو كلام من يزن العلم بالأرطال، مع أن موضوع
الحديث وهو " تحديد أسماء أهل الجنة وأهل النار " ليس مما للعقل فيه مدخل،
حتى ينكر بمثل تلك الاستبعادات الواهية.
وإنما هو مما يبنى على التوقيف، ويؤخذ من لسان الشرع الشريف.

(79) الكامل في الضعفاء 25 - 1933.
(2) ميزان الاعتدال 2 / 684 ترجمة 5329.
(3) لسان الميزان لابن حجر 34 - 94 الطبعة القديمة، وفي الطبعة الحديثة 4 / 16 - 17 رقم 5419.
(4) فتح الملك العلي ص 96.
43

ومع ورود هذه العدة الكبيرة من الأحاديث، وبطرق عديدة، مما اتفق على
نقله المسلمون كافة، فليس على المؤمن إلا أن يسلم لها، وهو شأن المتقين كما
وصفهم الله بقوله. الذين يؤمنون بالغيب
مضافا إلى عشرات الروايات المؤيدة لمضمون تلك الأحاديث، مثل ما دل
على تحديد " صفوف أهل الجنة " (1).
وما ورد فيه تحديد نسبة أمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أهل الجنة بنسب معينة كالربع
والثلث والنصف، وهي أحاديث مذكورة في صحاحهم وغيرها.
وما ورد من أن العبد مكتوب أنه من أهل الجنة، أو من أهل النار (2).
فكيف يتجرء السلفية الأغمار على ضرب هذه الأحاديث النبوية الشريفة عرض
الحائط، وينكرون محتواها، مع اعتراف شيخ إسلامهم بأنها " معجزة عظيمة ".
وقد رد ابن حجر بهذا على الذهبي الذي أنكر الحديث، بعقله زاعما أنه
يقتضي أن يكون " زنة الكتابين عدة قناطير ". كما سمعت
لكن ابن حجر سكت عن محمد بن صبيح ابن السماك، لما أنكر مثل هذا
العلم؟ واستنكره، زاعما أنه " علم بالغيب " وراح يكفر القائل به
فسبحان الله، ما أجرأهم على الله ورسوله، حيث ينكرون الأحاديث النبوية
المتضافرة الثابتة، ثم يكفرون من يلتزم بمؤداها؟
أما نحن شيعة آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأتباع مذهب أهل البيت عليهم السلام:
فتكفينا ما بلغنا من النصوص المقدسة، لكي نؤمن بها، وبالغيب الذي جاءت
به، وان نتعبد بها، لأنا مسلمون بما جاء به ثقاتنا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا

(1) لاحظ سنن الدارمي 2 / 337، والمعجم الكبير للطبراني 10 / 227 رقم 10398، وخرجه المعلق عن أحمد
وأبي يعلى، والبزار، والمعجم الصغير والأوسط والمعجم الكبير أيضا رقم 10682، والمستدرك للحاكم 1 / 82،
ولاحظ مجمع الزوائد 10 / 403.
(2) لاحظ كنز العمال 1 / 125 رقم 594، ومصادره.
44

نحكم - بعد ثبوت شئ عنه - آراءنا في ما طريقه النقل.
والمحدث العظيم زرارة بن أعين الفقيه المتكلم، كبير رواة حديث أئمة أهل
البيت عليهم السلام لا ريب أنه يعتقد بالحق الذي جاءت به تلك الروايات، فلو صحت
رواية ابن السماك، فقد أحسن زرارة الرد عليه وإفحامه بعد أن حاول تنبيهه
وهدايته، ولما رأى إصراره وعناده على إنكار تلك المعجزة العظيمة، واستنكار
العلم بها، لأنه ليس من الذين يؤمنون بالغيب
وبالآخرة هم يوقنون أفصح عن أنه ممن يتقى منه، وإلا لما اتقاه الإمام جعفر بن محمد الصادق ابن رسول الله
والإمام سيد أهل البيت في عصره
ثم نقول: فإذا ثبت - بالأحاديث المتضافرة - وجود ذينك الكتابين، اللذين
فيهما " تسمية أهل الجنة " و " تسمية أهل النار ".
فأين هما؟ وعند من يوجدان؟
لم نجد بين الأمة من يدعي وجودهما عنده، ولكن أهل البيت أولى من يكون
الكتابان عندهم، لأنهم ورثوا ما كان عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الخاتم والسيف والدرع
والراية، وو....، إضافة إلى العلم والفهم و... كما نصت عليه الأحاديث المتواترة في
هذا المعنى (1).
والأمر الثاني من ترهات ابن السماك: وهو النبز بالكفر، لمن نسب علم
الغيب لغير الله جل وعلا.
فهو كلام يحتوي على الإرجاف ضد المؤمنين بالغيب، لأن أي مؤمن لا يقول
بأن أحدا يعلم بشكل مستقل الغيب، فهذا بالإجماع مخصوص بالله تعالى اسمه، لكن
المسلمين يعتقدون أن الله تعالى يطلع من ارتضى من عباده على غيبه، وهذا حسب
ما ذكره الله في كتابه صراحة لما قال: عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا

(1) لاحظ مقال: الثقلان ودعمهما لحجية السنة، مجلة علوم الحديث، السنة الأولى 1418، العدد الأول
(محرم) ص 22 - 23.
45

من ارتضى من رسول فإن الاستثناء يدل على ثبوته لغير الله. من ارتضى من رسول
ثم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد اطلع على كثير من الغيب، ومن ذلك الأحكام الشرعية
وأخبار القيامة والجنة والنار، وغير ذلك، مما لا طريق لمعرفته إلا الشرع الكريم.
وقد أخبر الرسول أمته بكل ذلك، وأوجب عليهم الإيمان بذلك فوصفهم.
بأنهم يؤمنون بالغيب
ولا شك أن الإيمان بالغيب، لا يكون إلا بعد العلم به؟ ومعرفته؟ (1)
فهل يفهم ابن السماك والذهبي، والسلفية الأوغاد؟ ما ينكرون على المؤمنين
من مثل هذه " المعجزة العظيمة "؟
وما أجدر أن يقال لابن السماك، في نبزه لزرارة:
ما ضر تغلب وائل، أهجوتها أم بلت حيث تناطح البحران؟
ومن هنا يظهر أن إنكار ابن السماك وجود العلم بأسماء أهل الجنة والنار،
واستنكاره علم ذلك على الإمام الصادق عليه السلام، جعله بمستوى محافظة الإمام منه.
لأن من ينكر هذا الأمر المتسالم عليه بين المسلمين، الذي حصل " الوفاق "
منهم على نقله وروايته وتثبيته، وروي عن أهل البيت عليهم السلام وعن عدة من كبار
الصحابة، وهو يتجرأ على تكفير من لا يقول برأيه، فهذا سلفي بغيض لابد أن يحذر
منه ويتقى من شره، ولا يكشف له الواقع.
وهذا ما صارحه به الفقيه العظيم زرارة بن أعين، لما قال له: إن ابن رسول الله
أعطاك من جراب النورة، أي عمل معك بالتقية.
لأن ابن السماك - وبعقليته السلفية الضحلة - لا يستبعد أن يكفر كل من
روى له الحق الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من معرفة أسماء أهل الجنة والنار، وأن
يواجهه بما واجه به زرارة بن أعين من التكفير والتفسيق والترفيض
فيا ويل من يلجي ابن رسول الله، إلى الحذر منه؟

(1) تحدثنا عن علم الأئمة: بالغيب في مقال ضاف نشر في مجلة تراثنا العدد (37).
46

هذا كله لو قلنا بصحة الرواية، وإلا فمن المحتمل - كما سبق - أن يكون من
خيالات ابن السماك، ووضعه واختلاقه، لتشويش سمعة شيعة أهل البيت عليهم السلام
بنسبته إلى الإمام عليه السلام كلاما لا يمكن أن يقال في حق زرارة.
والأمر الثالث من ترهات ابن السماك: هو نسبة زرارة إلى الرفض، لأنه
يقول بعلم الإمام عليه السلام بأسماء أهل الجنة والنار، الذي هو غيب.
فبطلانه واضح، لما عرفت من أن علم مثل هذا، لم يعد غيبا، بعد أن كان عند
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد ورثه منه من ورث سائر مواريثه.
مع أن الالتزام بعلم الغيب شئ، والرفض شئ آخر.
فكل الملتزمين بعلم الغيب لغير الله تعالى، بلطفه وإطلاعه لهم عليه، ليسوا
رافضة.
ففيهم أمثال: ابن حجر الهيثمي المكي صاحب الصواعق المحرقة، في فتاواه (1)
وابن أبي الحديد المعتزلي في شرحه (2) وغيرهما (3).
وليس كل الرافضة يلتزمون بعلم الغيب حتى بالمعنى المذكور، ففيهم في
عصرنا الحاضر من يجري على سنة ابن تيمية والسلفية، ويستلهم منهم العقيدة
والرأي، كما يتسلم منهم الريالات والدولارات كي يشوش على الشيعة، ويحدث
الافتراق في كيان الطائفة، فهو، والدعاة لفكره ورأيه، حثالات ناشزون، يودون أن
يسموا بالشيعة، وهي منهم برأ.
وأما خصوص العلم بأسماء أهل الجنة والنار، ووجود كتابين فيهما تلك
الأسماء فقد عرفت ورود الآثار الكثيرة بالطرق المتضافرة بذلك، فالاعتقاد بذلك
حق ولم يعد غيبا مجهولا بل صار عينا معلومة، ويقينا ثابتا في قلوب الذين آمنوا

(1) الفتاوى الحديثية، بواسطة مقتل الحسين للمقرم ص 53.
(2) شرح نهج البلاغة 1 / 427 طبعة مصر الأولى في (4) مجلدات.
(3) لاحظ مقالنا " علم الأئمة بالغيب " ص 24 - 28 ومقتل الحسين للمقرم ص 44 - 66.
47

بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم وآل الرسول عليهم السلام واتبعوا هديهم والتزموا بسنتهم، وتعبدوا
بحديثهم، وهم شيعتهم الأخيار الأبرار، والحمد لله رب العالمين.
خلاصة البحث
وقع البحث في مقامين:
المقام الأول: حول كلمة " جراب "
فهي لغة: بمعنى الوعاء، أو خصوص الذي من جلد الحيوان، تحفظ فيه عادة
المواد الجافة.
أطلقت في الحديث الشريف، على القرآن الكريم، وعلى الجفر المملو ء من
الكتب التي خلفها النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند أهل البيت عليهم السلام.
ووردت في سيرة الحسين عليه السلام وابنه السجاد عليهما السلام - مفردة وبالجمع - لأنهما عليهما السلام
كانا يحملان الجرب المملوءة بالطعام والدراهم، فيوصلانها إلى الفقراء، فأثرت على
جسميهما، وبقيت الآثار على ظهريهما عليهما السلام.
وعبر الإمام الحسين عليه السلام عن الظالمين الذين استهدفوا جسمه الشريف
بالسيوف والأسنة في كربلاء، بالأجربة السغب.
واستعملت الكلمة اسما، ولقبا، وكنية، لأشخاص معينين، كما استعملت في
بعض الأمثال المتداولة.
واطلقت عند العامة: كلمة تدل على المدح: " جراب مملو مسكا " أو على
الذم والقدح " جراب الكذب " على أشخاص معينين.
المقام الثاني: حول عبارة " جراب النورة "
فالنورة: هي حجر الكلس الذي يستخدم مسحوقه مضافا إلى أشياء اخر،
لإزالة شعر البدن.
وقد استعملت العبارة في موارد من الحديث استقصيناها، وأهمها: مناظرة
48

هشام، وحديث الإرث.
فتعرضنا لتفسيرهما عند المحدثين، والفقهاء واللغويين، وحاصل مفادها
عندهم جميعا أنها تدل على كون المعطى واردا للتقية.
وهكذا استعملها الفقهاء في كتبهم الفقهية.
وقد ذكرنا وجهين للمناسبة بين المعنى اللغوي، والمراد الاصطلاحي، واخترنا
الثاني، وهو: أن النورة إنما تستعمل لإزالة الأذى من الجسم، والتقية تستعمل لدفع
شر المخالفين، فالجامع بينهما دفع الأذى، فصح استعمال " جراب النورة " وإطلاقها
على الوارد للتقية.
أما دلالتها الرجالية: فقد نفينا أن تكون للعبارة دلالة رجالية، أو أي أثر في
علم الرجال، إلا على احتمال مردود.
وفي تراث العامة: نجد ورود العبارة عندهم، في ترجمة (زرارة بن أعين) في
قصة لفقها بعض رواتهم الضعفاء، وهو محمد بن صبيح بن السماك، تناقلها العقيلي
والفسوي المؤرخ، ثم تداولها الذهبي وابن حجر، وأوردها بعض المعاصرين كعبارة
نادرة من " ألفاظ التجريح ".
مصرحين بأن معناها استعمال التقية، كما هو عندنا.
لكن الكلمة - على هذا المعنى - لا تدل على تجريح، بل هي مجرد مصطلح فقهي
عندنا.
ولو صحت قصة ابن السماك، فهي تدل على أن زرارة أطلق العبارة على ابن
السماك نفسه، وأن الإمام عليه السلام قد اتقاه في كلامه، فهو تجريح لابن السماك.
لكنا ناقشنا صحة ما نقله ابن السماك، لوجوه:
الأول: لضعف ابن السماك حتى عند أهل نحلته، ولذا ذكروه في كتب
الضعفاء.
الثاني: أنه استنكر على زرارة والإمام عليه السلام العلم بأسماء أهل الجنة وأهل النار.
49

بينما الروايات المتفق عليها بين الخاصة والعامة قد تضافرت على وجود
كتابين يحتويان على أسماء أهل الجنة وأهل النار قد أظهرهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم للأمة.
فإنكار ذلك إنكار لحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
لكن ابن السماك والذهبي أنكرا ذلك، واستهزأ الذهبي بذلك: بأن وجود
الكتابين يقتضي أن يكون وزنهما عدة قناطير
وقد رد عليه ابن حجر، بأن ذلك ليس بلازم، بل ذلك " معجزة عظيمة ".
الثالث: أن ابن السماك حكم بأن ذلك من علم الغيب، والمعتقد بعلمه كافر.
وهذا باطل - أيضا - إذ بعد إظهار النبي صلى الله عليه وآله وسلم له، لم يعد غيبا، بل صار عينا، بل
كان الإيمان به من علامات المؤمنين وأوصافهم.
الرابع: حكمه بالرفض، على من اعتقد بعلم الغيب لغير الله تعالى. وهو
بإطلاقه باطل، إذ ليس في المسلمين من يعتقد بعلم الغيب لغير الله تعالى،
بالاستقلال، وإنما يعتقدون بأن العالم بالاستقلال بالغيب هو الله تعالى، ولكن قد
أظهر على غيبه من ارتضاه من الرسل، وأوحى من أنبأ الغيب إلى أنبيائه قال.
تعالى عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول.
وقال تعالى ذلك من أنبأ الغيب نوحيه إليك، ووصف المؤمنين بأنهم:
يؤمنون بالغيب والايمان فرع المعرفة والعلم.
مع أن كثيرا من العامة يشاركون الشيعة في اعتقاد العلم بالغيب للرسول
والأئمة والأولياء، وذلك بإخبار الله ووحيه وإلهامه، وبواسطة رسله
وملائكته وكتبه.
فإذا ثبت وجود الكتابين المحتويين على أسماء أهل الجنة وأهل النار عند
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلابد أنه قد ورثهما من بعده، والمفروض أنه لم يدع وجودهما أحد
عنده، سوى أهل بيته وورثة مواريثه من سيفه ودرعه وخاتمه ولوائه وقميصه
وسائر أدواته...
50

فقد كانت عند الأئمة عليهم السلام كما صرحت بذلك روايات عديدة مروية بطرق
متضافرة.
ونحن الشيعة يكفينا ما ورد بطرقنا من الأدلة على وجود علم الكتابين عند
أئمتنا عليهم السلام، وهكذا كان زرارة بن أعين، كبير رواة الحديث عند الشيعة، عارفا بذلك.
وأما المبتعدون عن أهل البيت عليهم السلام، والمبتدعون لطرق منفصلة عنهم،
والسلفية الذين لم يؤمنوا بهذا الغيب، بل لم يؤمنوا بالله إلا بعد أن جسموه، ووضعوا
له يدا ورجلا وعينا ووجها واعتقدوا برؤيته في الآخرة، وأضاف بعضهم رؤيته في
الدنيا تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
أما هؤلاء فقد استنكروا وجود الكتابين، وأنكروا علم أحد بهما، ومنهم ابن
السماك، فكان ممن يتقى في إظهار الحق له، فلذا قال له زرارة: " إنه أعطي من
جراب النورة ".
هذا ما سنحت لنا الفرصة في البحث عن عبارة "
جراب النورة ".
ونسأل الله أن يتقبل أعمالنا ويخلصها لوجهه الكريم
وان يوفقنا لخدمة دينه الحق آمين وصلى الله على رسوله
الكريم وآله المعصومين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب
العالمين
حرر في الخامس والعشرين من شهر محرم الحرام
عام 1418 في قم المقدسة.
وكتب
السيد محمد رضا الحسيني الجلالي
كان الله له
51